آراء بصرية حول نشأة اللغة

الاستاذ حسين مزهر حمادي السعد

مقدمة :

  لقد اجتمعت في البصرة عوامل عديدة أسهمت في جعلها مناراً للعلم ، لعل من أهمها جامعها الكبير الذي تشرف بزيارة باب مدينة علم رسول الله أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) الذي شعت أنوار علمه لتنير كل ركن من أركانه ، فأثمرت في العديد من العلماء بدءاً من أبي الأسـود الدؤلي وإنتهاءً بالخليل بـن أحمد الفراهيدي حتى أضحى ذلك الجامع جـامعة لشتّى ميادين العلوم : ثم سوق المربد ذلك الملتقى الأدبي الكبير الذي يجتمع فيه فطاحل الشعراء والأدباء ومـن مختلف البقاع الاسلامية يتـبادرون الشـعر ويتناشدونه ويتدارسونه بالنقد والاجادة ، هذا فضلاً عن الموقع الجغرافي الذي تتمتع به البصرة الذي أتاح لها الانفتاح على العالم فأدى إلى التلاقح الحضاري والفكري والثقافي والاجتماعي مع شعوب العالم الأخرى .
  ومن بين العلوم التي زخرت بها البـصرة علم اللغة ، ذلك العلم الذي كان فـي بادئ أمره ممتزجاً مع باقي علوم العربية لأننا نعرف أن الحركة العلمية التي نشطت في البصرة بدءاً من أبي الأسود الدؤلي إلى ما قبل الخليل كان محورها القرآن الكريم وكل ما يـمتّ له بصلة فكان معظم العلماء يبدعون في أكثر من علم إذ لم يكن عهد التخصّص قد بـدأ فكان جلّ همهم خدمة كتاب الله العزيز ، ولا يخفى أن القرآن الكريم هو مصدر معظم علوم العربية ، فكان لابدّ لدارس القرآن إتقان معظم علوم العربية بما فيها علم اللغة لأن الدرس اللغوي لم يكن مستقلاً عن باقي العلوم بل كان مشتركاً معها في خـدمة القرآن الكـريم ، وبقي هذا الأمر حتى عهد الخليل بن أحمد الفراهيدي إذ على يديه أخذ الدرس اللغوي استقلاليته عـن باقي العلوم وأصبح علماً قائماً بذاته حينـما تخصص به الخليل وخصّه بمـؤلّفٍ عُـدّ من أعظم مؤلفات العربية وهو ( العين ) وهو أيضا أول معجم عرفته العربية يضم بـين طياته مـعظم الكلام العربي ، وفيه يبين الخليل فضل اللغة حروفاً ومقاطع ومفـردات ، وأهمـية دراستـها للاطلاع على سرّ العربيـة وبراعة المستوى الأدائي فيها ، وهـو بهذا يفتـح أفقـاً جـديداً من آفاق العربيـة ودرسـاً جديداً من دروسها وهو الدرس اللغوي ، فضلاً عما حواه الكتاب مـن تنـظيرات عديدة للخليل فـي مجال اللغة كانت البذرات الأولى لهذا العلم ، ثم توالت من بعـده الدراسات المتخصصة في الجانب اللغوي حتى بلـغت أوجّ ذروتها وازدهارها في هذا المجال .
  وسنستعرض في هذا البحث المتواضع بعضاً من هذه الجهود التنظيـرية في مجال اللغة التي بحثها علماء اللغة البصريون في مؤلفاتهم لنستجلي الدور الذي أدّوه في خـدمة العربية والإسهامات التي أسهموا بها في دراسة اللغة الإنسانية عموماً وآثارهم التي أثبتـوها للإنسانية وأناروا بها العلم للعالم أجمع ، ولم يكن اختيارنا لعلماء البصرة مقتـصراً علـى كونهم قد وُلدوا في البصرة وعاشوا فيها وإنما أيضاً على أساس المذهب أوالمدرسة التـي انتمى إليها العالم ، فابن جني ـ مثلا ) ـ كان موصلّي المنشأ لكنه بصـريّ المذهب فكـان أحد مـن اخترناهم ، لأن عنوان البحث آراءٌ بصرية حـول نشأة اللغة أي آراء المدرسة البصرية فـي نشأة اللغة ، لذا أنّ أغلب علماء اللغة المتأخرين ممن ينتمي لمدرسة البصـرة كان ينتهج نهـج أساتذته ويرى رأيهم وإن أراد أن يحيد عـن رأيهم بدأ متحيـراً ـ كما سنجد ذلك عند ابن جني ـ .
  ومن خلال عرض الآراء نعرّج قليلاً على بعض وجهات النظر الحديثة المساندة أو المعارضة لهذه الآراء لمعرفة الصدى الذي أحدثته في الأوساط العلمية الحديثة.

أولاً : القول بالتوقيف :
  ويعدّ هذا الرأي من أقدم الآراء التي قيلت في نشأة اللغة فلقد قال به أكثر علماء المسلمين ، إذ يذكر السيوطي أن معظم الصحابة والتابعين يذهبون لهذا الرأي (1) ، أمّا معنى التوقيف فهو أن منشأ اللغة إنما هو سماويّ وليـس أرضياً ، أي أن الله سبحانه وتعالى قد علّم آدم ( ع ) اللغة قبل أن يُنزله الأرض ثم أنزله ، فعلّم آدم ذريته ، وهكذا حتى انتشرت في الأرض، فمنشأ اللغة إذن من الله تعالى ، وهي بهذا وقف على بني البشر ، وقد استنـد معظم أصحاب هذا الرأي للتدليل على صحة رأيهم بالآية القرآنية المباركة وهي قوله تعالى ( وعلّم آدم الأسماء كلّها ) (البقرة/31).
  أمّا القائلون بهـذا الرأي من علماء البصـرة اللغويين ، فهما الاخفش الأوسط ( سعيد بن مسعدة ) وأبوعلي الفارسي ( وهما من اشهر علماء البصرة في اللغة والنحو ) ، إذ كانا يقولان بالتوقيف ويجوّزان الرأي الآخر المقابل له وهو الاصطلاح ، بمعنى أنهما لم يقولا بالتوقيف وحده أو الاصطلاح وحده بل جوّزا كلا الأمرين ، فهما ـ كما يذكر ابن جني ـ يعوّلان أولاً على التوقيف مستدلّين بقوله تعالى ( وعلّم آدم الأسماء كلها ) ، ثم يجوّزان الاصطلاح عن طريق تأويل معنى الآية المباركة بأن يكون هذا التعليم إلهاماً من الله تعالى لآدم بتمكينه من وضع اللغة (2) .
  ويرى الدكتور كَاصد الزيدي أن ما قام به الاخفش الأوسط وأبوعلي الفارسي إنماهو الجمع بين الرأيين والتوفيق بينهما (3) ، ولكننا نرى أنهما جوّزا ولم يجمعا ، وفرق كبير بين الجواز والجمع ، لأن الجمع رأي قال به بعض أئمة الأصول كـ( أبي إسحق الاسفراييني ) ومفاده : ان بداية اللغة كان توقيفيا ، ثمّ انتشرت وتنوعت بالاصطلاح (4) ، أما رأي الاخفش الأوسط وأبي علي الفارسي فكان تجويزاً للأمرين ، إذ أنهما يرجّحان التوقيف ولكنّهما يحتملان في الآية معنى آخر يبعد فكرة التوقيف ويقوّي فكرة الاصطلاح ، فالآية عندهما تحتمل الوجهين ، بمعنى انه إذا ثبت أحدهما بطل الآخر ، وبهذا يتضح الفرق بين الجمع والجواز .
  وقد حاول بعض العلماء ممن لا يؤمن بالتوقيف أو تخالجه بعض الشكوك حيال القول به أو تبنيه أن يؤول الدليل الذي أجمع عليه أصحاب التوقيف وهو الآية المباركة من قوله تعالى ( وعلّّّم آدم الأسماء كلها ) ليسقط حجيتها في الاستـدلال ومن هؤلاء ابن جني الذي يقول : ( قد يجوز أن يكون تأويله : اقدر آدم على أن واضع عليها ، وهذا المعنى من عند الله لا محالة ، فإذا كان ذلك محتملاً غير مستنكر سقط الاستدلال به ) (5) ، وأوّلها الغزالي بقوله : ( ان الاسماء ربما كانت موضوعة باصطلاح من خلق الله تعالى قبل آدم من الجن او من الملائكة فعلمه الله تعالى ما تواضع عليه غيره ) (6) ، وتابعه الرازي على تأويله هذا (7) .
  ولم تكن فكرة التوقيف مقتصرة على العرب والمسلمين فقط بل نجدها عند الشعوب الأخرى أيضا ، فبعض فلاسفة الهند من الذين يطلق عليهم بـ (Naiyakes) يرون أن المعنى الأساس للفظ إنما جاء من الإله وليس عن طريق الاصطلاح (8) .
  أما عند الغرب ففي أواخر القرن السابع عشر كاد يجزم اغلب علماء اللغة الغربيين بان اللغة العبرية لغة توقيفية من الله تعالى وأنها لغة الوحي ، وعلى غرار مافعل المسلمون في الاستدلال بالقرآن الكريم ، استدل هؤلاء بالكتاب المقدس في تدعيم رأيهم في الآية (19) من الإصحاح الثاني في سفر التكوين والتي تقول ( والله خلق من الطين جميع حيوانات الحقول وجميع طيور السماء ، ثم عرضها على آدم ليرى كيف يسميها ، وليحمل كل منها الاسم الذي يضعه الإنسان ، فوضع آدم أسماء جميع الحيوانات المستأنسة ولطيور السماء ودواب الحقول ) (9) .
  ولكنّ الملاحظ على ما ورد في سفر التكوين أن آدم ( ع ) هو الذي سمّى ، لأن معنى قوله ( ليرى كيف يسميها وليحمل كل منها الاسم الذي يضعه له الإنسان ، فوضع آدم .... ) مشعر بان الاختيار في وضع الأسماء كان لآدم، وانه هو الذي وضعها وليس لله تعالى أي تدخل في الأمر ، على العكس مما استدل به المسلمون من قوله تعالى ( وعلم آدم الأسماء كلها ) الذي يعني أن الله تعالى وضع الأسماء لا أنّ آدم قد وضع من عنده ، وممن ذهب إلى القول بالتوقيف من علماء الغرب المحدثين ( الأب لامي ) في كتابه ( فن الكلام ) والفيلسوف ( دوبونالد ) في كتابه (التشريع القديم) (10) .
  ويبدو أن أصحاب هذا الرأي كانوا يؤمنون بان اللغة ثابتة لا تتغير أو تتبدل ، لأنها جاءت وقفاً من الله تعالى ، ولم يلحظوا ذلك التطور والتغير والتبدل الحاصل في اللغة ، ثم التنوع في اللغات ، والموت والحياة الذي يصيب اللغة الواحدة نفسها ، وهذه أمور تتعارض مع ما ذهبوا إليه ، على أننا لا ننكر العناية الإلهية لبني البشر وان الله تعالى يرعى عباده ويهديهم سبل التعايش والتعارف والتفاهم ، ولكن ليس بالإجبار وسلب الاختيار بل كما علّمهم مالم يعلموا بملء أرادتهم ، فالباري عز وجل خلق القدرة في الإنسان وألهمه الاستعداد وترك له استعمالها واستثمارها كيف يشاء ، وحتّى الآية المباركة من قوله تعالى ( وعلّم آدم الأسماء كلها ) غير جازمة بالتوقيف
  منه سبحانه لأنه يبدو من السياق العام الذي وردت فيه الآية المباركة ـ والله سبحانه اعلم ـ أنها بصدد إثبات القدرة الإلهية والأعلمية الربانية إذ قد جرى حوار بين الخالق (جلّ وعلا) وبين الملائكة المقرّبين حول خلق آدم والهدف منه ، فاعترض الملائكة لااعتراض معصية لأمره تعالى بل كأنهم تنبّؤا بما سيفعله آدم في الأرض وحكموا بما لم يحيطوا بعلمه فبيّن سبحانه قصور إدراكهم ومحدودية علمهم حينما علّم آدم أسماء أشخاص معلومين لديه سبحانه وعرّفه إياهم وقال له ( يا آدم أنبئهم بأسمائهم ) (البقرة/33) بعد أن عرض تلك الأسماء على الملائكة فلم يعرفوهم ، فأنبأهم آدم بأسماء هؤلاء الأشخاص فأيقنوا واعترفوا بقصورهم وسبّحوا الله ( قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ّما علّمتنا ) ( البقرة/32 ) فأبان لهم الخالق جلّ وعلا أنّه وحده سبحانه المطلع والمحيط والعالم بكل شيء ومنه يستمد العلم يعلّمه لمن يشاء من عباده ( ولا يحيطون بشيء من علمه إلاّ بما شاء ) ( البقرة/255 ) ، وهذا ـ كما هو واضح ـ بعيد عمّا احتجّ به أصحاب التوقيف .
  إن التمايز بين اللغات أمرٌ واقع لا ينكر إذ قد تتصف لغةٌ من اللغات بصفات لا توجد في غيـرها مما يؤهّلها لأن تكون لغة عالمية لبني البشر ، ومن هنا وانطلاقاً من إيماننا بلطف الله سبحانه وعنايته لخلقه ، وإيماناً منّا بدين الله الخالد الإسلام يمكننا أن نظهر ونؤكد عالمية اللغة العربية بناءً على ما اتصفت به من صفات من خلال العناية الإلهية لعباده الذيـن اصطفى وخاتمهـم المصطفى (ص) فارتقت وتطورت حتى تأهّلت لتكون وعاءً لشريعة الله الخالدة في الأرض ـ وهي الإسلام ـ ولغته الرسمية التي يُتعبّد بها ، وهذا الاختيار لم يأت اعتباطاً ، لأنه لمّا كان الإسلام آخر الأديان السماوية على الأرض كان لزاماً على بني البشر إتباع تعاليمه والتعبّد به ومن ثَمّ تعلّم لغته فلابدّ إذن من وجود لغة فيها من الاتساع والشمول والبساطة ما يصلح لكل البشر ويدوم بدوامهم ويتطوّر بتطوّر حاجاتهم ، فاختيرت اللغة العربية لذلك .
  ولمّا قال تعالى ( لا يكلّف الله نفساً إلا وسعها ) (البقرة/286) علمنا أن في هذه اللغة من البساطة وعدم التعقيد ما يبعد المرء عن التكلف في النطق بها أو تعلّمها لأن فيها من الاستيعاب والانفتـاح والاحتواء لكلّ اللغات ما يؤهّلها لأن تكون لغةً لكلّ البشر كما أضحت لغة الإسلام الخالد ، ومن هنا فلا عجب أن تكون العربية لغة أهل الجنة ، لأنها أصبحت محل التقاءٍ وتفاهمٍ بين الألسنة المختلفة من بني البشر واللغة المشتركة فيما بينهم بعد أن اظهر الله سبحانه الإسلام على الدين كله .

ثانياً : القول بالاصطلاح
  لقد كان في قبال الرأي القائل بان اللغة توقيفية رأي يقول إن اللغة عرفية اصطلاحية ، أي انه في الوقت الذي جعل فيه أصحاب التوقيف اللغة سماوية هبطت من السماء ، جعل أصحاب الاصطلاح اللغة أرضية قد ولدت على الأرض ولا دخل للسماء في نشأتها ، وخلاصة هذا الرأي هو أن اللغة إنما نشأت في الأرض وذلك حينما أراد بنو البشر التفاهم فيما بينهم والتعبير عن حاجاتهم فاصطلحوا ألفاظ وتعارفوا عليها فيما بينهم وكلّما كثرت حاجاتهم ازدادت ألفاظهم وتطوّرت تعبيراتهم شيئاً فشيئا ًحتّى تكونت اللغة (11) ، ويبدو أنّ فكرة الاصطلاح هذه نشأت متزامنة مع فكرة التوقيف عند العرب ، لأننا نجد اغلب علماء العرب من القائلين بالتوقيف كانوا يثبتون رأيهم بالردّ على فكرة الاصطلاح وتفنيدها ، وبالمقابل نجد المنكرين للتوقيف يثبتون الاصطلاح بالردّ على التوقيف وتفنيده .
  مع إننا لم نجد من علماء العربية من تبنّى فكرة الاصطلاح صراحةً ودافع عنها وأثبتها ، فبعضهم يشير إليها ويستحسنها ، ولكنه لا يتبناها ويصرّح بذلك ، فعلى سبيل المثال ينقل ابن جني أن القول بالاصطلاح قال به أكثر علماء العرب فيقول : ( أكثر أهل النظر على أن أصل اللغة إنما هو تواضع واصطلاح لا وحي وتوقيف ) (12) ، ولم يبيّن لنا من هم أهل النظر أو بعض أسمائهم ، ولم يكتفِ بذلك بل حاول أن يفسّر معنى المواضعة والاصطلاح وكأنّه أحد أصحاب هذا المذهب فقال : ( وذلك كأن يجتمع حكيمان أو ثلاثة فصاعداً فيحتاجون إلى الإبانة عن الأشياء المعلومات فيضعوا لكل واحد منها سمةً أو لفظاً إذا ذُكر عُرف به ما مسمّاه ، ليمتاز من غيره ، وليُغنى بذكره عن إحضاره إلى مرآة العين فيكون ذلك اقرب واخفّ وأسهل من تكلّف إحضاره لبلوغ الغرض في إبانة حاله ... فكأنّهم جاءوا إلى واحدٍ من بني آدم فأومؤا إليه وقالوا : إنسان إنسان إنسان ، فأيّ وقتٍ سُمع هذا اللفظ عُلم أنّه المراد به هذا الضرب من المخلوق ) (13) ، وعلى الرغم من هذا كلّه لم يعلن ابن جني تبنّيه لهذا الرأي وإن أبدى ميله إليه.
  أما لغويو البصرة فلم نجد ـ على حد علمنا ـ أنّ أحداً منهم قد قال بالاصطلاح وتبنّاه رأياً خالصاً ، إلاّ ما ذكره ابن جني عن الاخفش الأوسط (سعيد بن مسعدة) وأبي علي الفارسي اللذين كانا يجوّزان الاصطلاح في قبال التوقيف (14) .
  وقد لقيت فكرة الاصطلاح رواجاً واسعاً في الأوساط العلمية الحديثة ، فقد تبنّاها رائد علم اللغة الحديث السويسري فرديناند دي سوسير وصاغها نظرية جديدة ترتكز على الدالّ والمدلول مفسراً العلاقة بينهما على أنها علاقة اعتباطية عشوائية (15) ، فانتشرت تلك النظرية في العالم الغربي ، أما في عالمنا العربي فقد تبنّى تلك الفكرة وهذا الرأي العديد من الباحثين في علم اللغة منهم الدكتور تمام حسان الذي يقول ( العلاقة بين الرمز ( وهو الكلمة المفردة ) وبين معناها علاقة عرفية اصطلح عليها المجتمع الذي تعارف على الأنماط في النظام ومعاني المفردات في المعجم ، وليس هناك من سند طبيعيٍ أو ذهنيٍ منطقيٍ للعلاقة بين الكلمة ومعناها ، فهي علاقة اعتباطية ) (16) ، وفي المقابل هناك باحثون رفضوا نظرية الاصطلاح أمثال : الدكتور علي عبد الواحد وافي والدكتور رمضان عبد التواب والدكتور إميل بديع بدعوى انه ( ليس لهذه النظرية أيّ سندٍ عقليٍ أو نقليٍ أو تاريخي ، بل إن ما تقرره ليتعارض مع النواميس العامة التي تسير عليها النظم الاجتماعية ، فعهدنا بهذه النظم أنها لا تُرتجل ارتجالاً ولا تُخلق خلقاً بل تتكون بالتدريج من تلقاء نفسها ) (17) .

ثالثاً : القول بالمناسبة الطبيعية ( المحاكاة لأصوات الطبيعة )
  يرى أصحاب هذا القول أن اللغة نشأت من التأثير والمحاكاة لأصوات الطبيعة من حيوانٍ ( كالصهيل والعواء والنزيب ) ، ومن نباتٍ ( كالحفيف ) ، ومن أشياء أخرى في الطبيعة ، ثم توسّعت وتطورت شيئا فشيئا نحو التكامل والرقي .
  وأوّل من نبّه إلى هذه الفكرة هو الخليل بن احمد الفراهيديّ البصريّ ـ المؤسس الأول للدرس اللغوي في البصرة وأستاذ العربية فيها ـ ، يقول الدكتور مهدي المخزومي : ( واستطيع أن أقول مطمئناً انه هو صاحب هذا الرأي بين علماء العربية ، لأني لم أقف لغيره ممن سبقه على كلام فيه ولست أزعم أن للخليل في هذا نظريةً تامة التكوين لكني أزعم أنها كانت ماثلةً في ذهنه فكرةً لم يتمّ لها النضج بعد ) (18) .
  إذن فالخليل يرى أن اللفظ إنما اكتسب معناه في بادئ الأمر من الأصوات التي تركّب منها ذلك اللفظ ، وأن هذه الأصوات لم تأتِ بتدخّل الإنسان وإنما سمعها ممّا حوله من مظاهر الطبيعة ، فسماع الصوت أنبأ عن اللفظ ، وهذا اللفظ أشار إلى المعنى أو الفعل الذي أحدثه.
  ولقد أشار الخليل إلى هذه الفكرة من خلال بعض الأمثلة التي أوردها في مؤلّفه الكبير معجم ( العين ) إذ يقول : ( ألا ترى الحكاية أن الحاكي يحكي صلصة اللجام فيقول : صلصل اللجام ، وان شاء قال صل ، يخفف مرة اكتفاءً بها وان شاء أعادها مرتين أو أكثر من ذلك فيقول صل ، صل ، يتكلّف من ذلك ما بدا له ) (19) ، ويقول أيضا : ( صرّ الجندب صريراً وصرصر الاخطب صرصرةً كأنهم توهّموا في صوت الجندب مدّاً وتوهّموا في صوت الاخطب ترجيعاً ) (20) .
  إذن فالاختلاف بين اللفظين ( يرجع إلى الاختلاف في طبيعة الصوتين ، وليس هذا الصوت الممتدّ في ( صر ) إلا استشعاراً لما في صوت الجندب من امتداد ولذلك حين لاحظوا التقطيع في صوت البازي ( أي الاخطب ) جاؤا باللفظ الدالّ عليه وفيه تقطيع ، وهذا التقطيع متمثّل في هذا اللفظ المرجّع المكوّن من مقطعين وهما صرصر ) (21) .
  ويذكر ابن جني أن سيبويه ( تلميذ الخليل ومؤسس مدرسة النحو البصري) كان قد تبنّى فكرة أستاذه تلك ، ذكر ذلك في باب ( امساس الألفاظ أشباه المعاني ) فقال : ( اعلم أن هذا موضع شريف لطيف ، وقد نبّه عليه الخليل وسيبويه وتلقّته الجماعة بالقبول له والاعتراف بصحته ) (22) ، أما في العصر الحديث فإنّ الفكرة التي أشار إليها الخليل وتلقتها الجماعة بالقبول والاعتراف ـ كما يقول ابن جني ـ قد تطورت وتمنهجت وأصبحت إحدى أهمّ نظريات نشأة اللغة وتعرف بنظرية ( محاكاة اللغة لأصوات الطبيعة ) ، أو ما يطلق عليه بنظرية ( البو ـ وو ) ( waw Bow ) وهو ( صوت يحاكي نباح الكلب ) (23) أو (Cukoo) وهو اسم طائر سمّي بإسم صوته (24) .
  نقل الدكتور علي عبد الواحد وافي ـ الذي كان من اشدّ المتحمسين لهذه النظرية ـ أن معظم المحدثين من علماء اللغة كانوا يذهبون إلى هذه النظرية وعلى رأسهم العلامة ( وتني ) ( 25 ) ثمّ يعقّب فيقول : ( وهذه النظرية هي أدنى نظريات هذا البحث إلى الصحة وأقربها إلى المعقول وأكثرها اتفاقا ًمع طبيعة الأمور وسنن النشوء والارتقاء الخاضعة لها الكائنات وظواهر الطبيعة الاجتماعية .... ومن أهمّ أدلتها ان المراحل التي تقررها بصدد اللغة الإنسانية تتّفق في كثير من وجوهها مع مراحل الارتقاء اللغوي عند الطفل ، فقد ثبت أن الطفل في المرحلة السابقة لمرحلة الكلام يلجأ في تعبيره الإرادي إلى محاكاة الأصوات الطبيعية ( أصوات التعبير الطبيعي عن الانفعالات ، أصوات الحيوان ، أصوات مظاهر الطبيعة والأشياء ) فيحاكي الصوت قاصداً التعبير عن مصدره أو عن أمرٍ يتّصل به ) (26) .
  ويرى الدكتور رمضان عبد التواب أن ( أوّل من دافع عن هذا المذهب من علماء الغرب بالتفصيل العالم الألماني ( هردر ) ... في كتابه ( بحوث في نشأة اللغة ) الذي نشره سنة 1772 م ) (27) ، ثم يذكر بعض ما يؤيّد هذه النظرية وهو اشتراك بعض الأصوات في كلمات واحدة وفي لغات متعددة تحاكي الطبيعة ، فدلالة الهمس ـ مثلاً ـ تجدها في العربية والانكليزية والألمانية والعبرية والحبشية والتركية يُعبَّر عنها بصوتٍ واحدٍ اشتركت به هذه اللغات جميعها وهو صوت السين الصفيري الذي يتلاءم مع الهمس (28) ، ولكنه مع هذا لم يكن متحمساً لقبول النظرية لأنها ـ على حدّ رأيه ـ لا تفسّر الظاهرة اللغوية برمّتها ، إذ لو كانت كذلك لاشتركت جميع اللغات في الكلمات التي تحاكي الطبيعة .
  وقد سُجّلَت بعض المآخذ على هذه النظرية منها :
  * إنها ( لا تكاد تثبت للحجة والدليل ولا تصدُق إلاّ في القليل النادر من ألفاظ كلّ لغة ) (29) .
  * إنها حصرت نشأة اللغة بالتأثّر بالبيئة وتجاهلت الإنسان نفسه وما يعتريه من رغبةٍ ذاتيةٍ في التعبير والحاجة الماسّة إلى التفاهم والتخاطب (30) .
  وهذا واضح من خلال تعليلها لنشأة اللغة عند الإنسان الذي ربطته بالطبيعة وكأنّ الإنسان لم يكن قادراً على إنتاج الأصوات حتى سمع أصوات الطبيعة فقلّدها وحاكاها فتولّدت عنده آلة الصوت ونمت حتّى أنتجت اللغة .
  * لم تفسّر النظرية كيفية نشوء آلاف الكلمات الموجودة في اللغات المختلفة مع عدم وجود أية علاقة بين أصواتها ومعانيها (31) .

رابعاً : القول بالدلالة الذاتية :
  ذهب أحد علماء المعتزلة البصريين ويدعى ( عبّاد بن سليمان الصيمري ) إلى أن بين اللفظ ومعناه علاقةٌ ذاتيةٌ ، أي أن اللفظ يحمل في ذاته معناه : فذات اللفظ يدلّ على المعنى ، ومن هناٍ فسّر نشأة اللغة على أنها طبيعية ذاتية لا دخل للإنسان بها ، وقد نقل السيوطي ذلك عنه بقوله : ( ذهب إلى أن بين اللفظ ومدلوله مناسبةً طبيعيةً حاملةً للواضع أن يضع ، قال : وإلاّ لكان تخصيص الاسم المعيّن بالمسمّى المعيّن ترجيحاً من غير مرجّح ، وكان بعض من يرى رأيه يقول : إنه يعرف مناسبة الألفاظ لمعانيه ، فسُئل ما معنى ( إذغاغ ) وهو بالفارسية الحجر فقال : أجد فيه يبساً شديداً وأراه الحجر ) (32) ، ولم يلاقِ مذهب الصيمري القبول من الأوساط العلمية آنذاك فاتفقت على رفضه وإنكاره بدليل ( أن اللفظ لو دلّ بالذات لفهم كلّ واحدٍ منهم كل اللغات لعدم اختلاف الدلالات الذاتية واللازم باطلٌ فاللزوم كذلك ) (33) .
  بمعنى انه لو كان الأمر كما يذهب الصيمري من أن هناك علاقة ذاتية وان اللفظ يحمل معناه في ذاته لما وجد المرء صعوبةً في فهم اللغات الأخرى ولَتوحّدت المعاني في كل اللغات وتمكّن كلّ شخصٍ أن يفهم كلّ اللغات من دون عناء أو تعلّم ، ولمّا كان هذا غير متحقّق بان فساد رأي الصيمري .
  وعلى الرغم من أن الصيمري لا ينتمي لعلماء اللغة ( مع انه بصري ) إلاّ إن رأيه كان مثار جدل ونقاش عند أئمة اللغة ، فأشرنا إليه وذكرناه وجعلنا رأيه في ضمن آراء نشأة اللغة .

خامساً : القول بجواز التوقيف والاصطلاح والمناسبة الطبيعية :
  وقد تبنّى هذا القول أبو الفتح عثمان بن جني ، إذ كان كثير التوقّف دائم التفكّر والتأمّل في هذه الآراء متحيّراً بينهما فلم يستطع الجزم بقبول رأيٍ واحدٍ بكلّ اطمئنان حتى عبّر عن تلك الحيرة بقوله : ( فأجد الدواعي والخوالج قوية التجاذب لي مختلفة جهات التغوّل على فكري ) (34) ، فإذا تأمّل في اللغة انقاد إلى القول بالتوقيف الذي قال به أصحابه وأساتذته فحذا حذوهم حتى يقول : ( فعرفت بتتابعه وانقياده وبعد مراميه وآماده ، صحّة ما وُفّقوا لتقديمه منه .... وانضاف إلى ذلك وارد الأخبار المأثورة بأنها من عند الله جلّ وعزّ ، فقوى في نفسي اعتقاد كونها توقيفاً من الله سبحانه وأنها وحي ) (35) ، ففي هذا النص يبيّن ابن جني ميله وقوّة اعتقاده بمذهب التوقيف ، ولكنه بعد هذا النص مباشرة يهدم اعتقاده بالشكّ والميل لرأي آخر فيقول : ( ثم أقول في ضدّ هذا ) (36) ، ويعني بالضدّ القول بالمواضعة والاصطلاح الذي جعله أوّل رأيٍ تصدّر باب ( القول على أصل اللغة ) قال فيه : ( إن أكثر أهل النظر على أن أصل اللغة إنما هو تواضع واصطلاح لا وحيٌ وتوقيف ) (37) ، وهو في هذا النصّ وما بعده من كلامٍ يبيّن ميله لهذا المذهب ويحاول أن ينتصر له حينما يضعّف أدلّة القائلين بالتوقيف فيجيز تأويل الآية الكريمة ( وعلّم آدم الأسماء كلها ) على غير معناها الظاهر إلى معنى يقوّي مذهب الاصطلاح ، حتّى إذا فرغ من عرضه لهذين الرأيين ومناقشته لهما أبدى ميله وتقبُّله لمذهبٍ ثالثٍ غير هذين وهو مذهب المناسبة الطبيعية أو ( محاكاة أصوات الطبيعة ) الذي أشار إليه الخليل وسيبويه فيقول : ( وذهب بعضهم إلى أن أصل اللغات كلّها إنما هو من الأصوات المسموعات كدويّ الريح وحنين الرعد وخرير الماء وشحيج الحمار ونعيق الغراب وصهيل الفرس ونزيب الظبي ونحو ذلك ثم ولدت تلك اللغات عن ذلك فيما بعد وهذا عندي وجهٌ صالحٌ ومذهبٌ متقبل ) (38) ، يتّضح لنا من هذا أن ابن جني أجاز هذه الآراء الثلاثة ولم يرفض أو ينكر احدها ، فهو قد قلّب هذه الآراء وعرضها فلم يثبت عنده أيٌّ منها ثبوتاً قطعياً جازماً فيتبناه وينادي به ويدافع عنه ، كما لم يثبت عنده فسادها فيرفضها ، فالقول بالتوقيف مدعومٌ بأدلّةٍ نقليةٍ ولكنّها تحتمل التأويل فلا يمكن الجزم به بل يبقى وجهة نظرٍ واحتمالاً وارداً وجائزاً .
  أمّا القول بالمواضعة والاصطلاح فرأيٌ مقبولٌ ومحتَملٌ وعليه أكثر أهل النظر ، ولكن لم يقم دليلٌ جازمٌ بثبوته ، فهو أيضاً وجهة نظرٍ جائزة ، وأمّا المناسبة الطبيعية فرأيٌ مقبولٌ ووجهٌ صالحٌ لا يرفضه العقل أو ينكره ، ولكنه يبقى وجهة نظرٍ محترمةً وجائزة ، وعلى هذا الأساس يرسم ابن جني منهجه في دراسة اللغة على احترام الآراء وقبولها وتجويزها في تفسير الظاهرة اللغوية وعدّها وجهات نظرٍ وفرضياتٍ جائزةً ومقبولةً حتّى يقوم دليلٌ قطعيٌ على احدها ، فلا مجال عندئذٍ إلاّ التسليم له والقول به دون غيره ، وقد عبّر عن هذا بقوله : ( وإن خطر خاطرٌ فيما بعد يعلّق الكفّ بإحدى الجهتين ، ويكفيها عن صاحبتها ، قلنا به وبالله التوفيق ) (39) .
  وهو بهذا يضع المنهج العلمي الصحيح للباحثين في مجال اللغة ، ذلك المنهج المبنيّ على الموضوعية في معالجة الآراء والتجرّد من التعصب والذاتية في قبول الآراء وتجويزها ، ثم ترك باب الاجتهاد والبحث في هذا المجال مفتوحاً ، حتى يثبت احدها بالدليل القطعي والحجّة العلمية الدامغة ، وعندها لابدّ من الإذعان له والقول به دون سواه .

الخاتمــة
  بعد هذا العرض لأهم الآراء والنظريات التي قيلت في نشأة اللغة نودّ أن نسجّل بعض التعليقات حول تلك الآراء لنختم بها بحثنا المتواضع هذا .
  *ـ لابدّ لنا أولاً أن نعترف بالفضل والريادة لعلماء اللغة البصريين الذين كان لهم الدور البارز في التنظير لموضوع نشأة اللغة والبحث فيه من خلال تأصيلهم لأغلب النظريات في هذا المجال حتى بدت أصداؤهم واضحةً في علم اللغة الحديث ، إذ أن اغلب الآراء التي نادوا بها وأصّلوا لها وقالوا بها أصبحت اليوم من أهم نظريات نشأة اللغة ، وأسهمت بشكل واضح وفاعل في تفسير الظاهرة اللغوية برمّتها .
  *ـ وقد تبيّن من خلال عرضنا لتلك الآراء أن أصحابها البصريين قد اختطّوا لهم مناهج متعددة في عرض وجهات نظرهم ، فقد أبدى بعضهم شيئاً من المرونة حينما أجاز الاصطلاح في مقابل التوقيف ـ كما فعل الاخفش وأبو علي الفارسي ـ مبتعدين عن التزمت في الرأي الذي اظهره بعض الكوفيين حيال مذهب التوقيف ( أمثال ابن فارس ) ، أمّا ابن جني فقد اختطّ منهجاً أكثر مرونة : منهج الانفتاح وتقبُّل الآراء واحترامها دون رفض أيّ رأي ، بل عنده أن هذه الآراء الثلاث ـ التي تمثّل أهم نظريات نشأة اللغة ـ إنما هي وجهات نظرٍ مقبولةٌ لا يمكن رفضها كما لا يمكن التسليم لها والإذعان بصحّتها مالم يقم دليلٌ قطعيٌ على ذلك ، لذا هو يجوزها ولا ينكر أيّ رأيٍ منها ، ثم يثبت مسألةً مهمةً يستند اليها البحث العلمي وهي عدم البتّ بصحة الرأي ما لم يقم دليلٌ قطعيٌ على ثبوته ، فإن ثبت وجب الإذعان له وترك التعصّب لغيره .
  * أمّا تعليقنا حول آراء نشأة اللغة فنبدأ به من القول بالتوقيف فنقول : إن مما لا شكّ فيه أن آدم (ع) تعلّم اللغة من عند الله عزّوجل لأنّ حياته الأولى قبل أن ينزل الأرض تُنبئ عن ذلك ، وقد ذُكِرت إشارات كثيرة في القرآن الكربم تدلّل على امتلاكه اللغة فقد كلّمه الله تعالى ، وكلّم هو الملائكة بأمر من الله سبحانه ، وكلّمه إبليس فأغواه ، وهذا يعني ان هناك لغة تفاهم بين الباثّ والمتلقي ، أما وقد أُنزل الأرض فكان لابدّ من امتلاكه اللغة ، لأنه نزل يحمل رسالة السماء ، أمّا كيف اخذ اللغة فأمر آخر لسنا بصدد بحثه .
  ومع ذلك فقد يرد تساؤل مفاده أن هذه اللغة التي تعلّمها آدم (ع) هل هي لغةٌ كاملةٌ شاملةٌ تغطي زمانه وزمان أولاده، ثم ذريته من بعده إلى يوم القيامة ؟ أو أنها لغةٌ محدودةٌ لزمانه ؟ وإذا كانت كذلك فماذا بعد زمانه ؟ وللإجابة مالنا إلاّ التسليم بمحدودية اللغة لديه وعلى وفق احتياجات المرحلةالتي عاشها وأولاده ـ إذا كنا نعني باللغة ( المفردات ) ـ ، أمّا إذا كانت اللغة التي تعلّمها آدم (ع) تعني ( العلم بالأساسيات ) التي تتكوّن منها اللغة وتعلّمها ليتسنّى له بعد ذلك إنشاء ما شاء من التراكيب والمفردات التي يعبّر بهاعن حاجاته ، فحينها تكون أوسع وأشمل وفي تطوّر ٍونموّ دائمين بدوام الإنسان وحاجاته ، وهذا ما نحتمله ونرجّحه ، فنرى أن آدم (ع) تعلّم أساسيات اللغة ، ثم نقلها الى أولاده وهؤلاء الى أولادهم حتى تناقلتها الأجيال ، هذا التعلّم مثله كمثل طالب اللغة الذي يريد تعلّم لغةٍ ما ، فأوّل شيء يتعلّمه هو الحروف التي تتكوّن منها تلك اللغة ، ثم كيفية صياغة الكلمات : وأخيراً تعلّم قواعد الربط بين الكلمات لتكوين الجمل ، فإذا تعلّم ذلك أصبح بإمكانه تكوين ما لا يحصى من المفردات والجمل حسب تمكّنه واستعداده ، وهنا تصبح اللغة في أساسياتها وأصول تكوّنها واحدةً ولكن استعمالاتها متعددة بتعدد أنماط الشعوب وحاجاتهم ، وهي في توسّعً وتطوّرً مع كلّ مرحلةٍ من مراحل الإنسانية ، لذا نجد أن أغلب لغات البشر تتفق في أكثر حروفها وأصواتها وقواعد بناء جُمَلها ، وفي هذا دلالة على ان أساس اللغة البشرية واحد ، ولكن الاختلاف في الاستعمال الذي يتبع الحاجة وتطورها .
  * أما القول بالمواضعة والاصطلاح فأمرٌ لا يُطمأَنّ إليه ، لأنّه لو كان الحال أن يتفق إثنان أو ثلاثة ليضعوا لفظاً أو يصطلحوا عليه لإحتاجوا إلى لغةٍ سابقةٍ على اصطلاحهم يستعينوا بها للاجتماع والاتفاق على ذلك الوضع أو المصطلح ، ومن ثمّ يحتاج هذا الأمر إلى إفتراض لغةٍ سابقةٍ عليه ، ولكن يمكن أن يكون القول بالاصطلاح والمواضعة مقبولاً إذا صاحبته دواعٍ وأسباب تقوّي صلة الترابط بين اللفظ المصطلَح والمعنى المصطلَح عليه وذلك كأن يتكرر إطلاق اللفظ على المعنى المعيّن أكثر من مرةٍ حتى تصبح بينهما ألفةً وعلاقة تلازمٍ مما يجعل التعارف والاصطلاح ممكنا ـ وقد اشار الى ذلك ابن جني حينما ذكر الاصطلاح وبيّن كيفيته ـ ومع ذلك تبقى عملية المواضعة والاصطلاح من الآليات المهمة التي أسهمت في تطوّر اللغة وثرائها حتى يومنا هذا ، وسيبقى أهل اللغة يستحدثون مفرداتٍ ويصطلحون مسمياتٍ على وفق حاجاتهم وتطورها .
  * أمّا القول بالمناسبة الطبيعية ومسألة محاكاة الطبيعة ، فهو أمرٌ معقول ولا يمكن رفضه ، وقد كان له أثره في اللغة من خلال الأمثلة التي ذكرها علماء اللغة ، وإن لم تكن من الكثرة بالحدّ الذي يدعم تلك الفكرة ويقوّي من إحتمال كونها السبب الرئيس في نشأة اللغة ، ولهذا فلا يمكننا الجزم بأنّها كانت النواة الأولى لنشأة اللغة عند الإنسان ، لأننا ـ كما نعلم ـ أن استعمال آلة اللسان في الكلام أمرٌ فطريٌّ لدا الإنسان لا يحتاج معه إلى إكتسابها من المحيط وخير مثالٍ ما فعله السابقون من تجارب على الأطفال حينما عزلوهم منذ الولادة فنطقوا باللسان ولم تكن هناك وقتئذٍ عوامل البيئة والطبيعة محيطةً بهم ، بل انعزلوا عن أيّ تأثيرٍ خارجيٍ ، وهذا له دلالةٌ واضحةٌ على أن الكلام جزءٌ من فطرة الإنسان يستعمله استعماله لباقي الحواس ، وشبّه أصحاب هذا الرأي نشأة اللغة عند الانسان نتيجة محاكاته للطبيعة بنشأة اللغة عند الطفل التي تعتمد ايضا مبدأ المحاكاة للمحيط الذي يولَد فيه ، ونرى أن هذا التشبيه غير دقيق ، لأن هناك فرقاً كبيراً في جهاز النطق ـ من الناحية الفسلجية ـ بين الانسان الناضج وبين الطفل الصغير ، فالطفل يلجأ للمحكاة لأنه غير قادر بعد على تمثيل الأصوات تمثيلاً صحيحاً ، فجهازه النطقي مازال في طور النمو والاكتمال ناهيك عن ضعف أدراكه العقلي وإحساسه الوجداني ، أما الانسان الناضج فله القدرة على اختراع الاصوات وابتكارها فضلاً عن تقليدها ومحاكاتها .
  ومع هذا فلايمكننا أن ننكر دور الطبيعة وأثرها في إنماء لغة الإنسان ، فلقد أثّرت في صياغة بعض مفرداته حينما كان في تماسّ مباشرٍ معها يومذاك ولم توجد أية مؤثراتٍ أخرى يوم كان التعارف بينه وبين المحيط ، والامثله خير شاهد على ذلك ، فالطبيعة أذن أسهمت في تطوّر اللغة وإنمائها ولكنّها لم تكن السبب الرئيس في إنشائها .

الهوامــش
1 ـ ينظر : المزهر : 1/27 .
2 ـ ينظر : الخصائص : 1/40 ـ 41 .
3 ـ ينظر : فقه اللغة العربية : 42 .
4 ـ ينظر : المحصول : 1/182 ، 199 .
5 ـ الخصائص : 1/41 ـ 42 .
6 ـ المستصفى : 181 ، وينظر : المنخول : 132 .
7 ـ ينظر : المحصول : 1/190 .
8 ـ ينظر : البحث اللغوي عند الهنود، أحمد مختار عمر : 99 وما بعدها ، عوامل التطور اللغوي ، أحمد عبدالرحمن : 149 .
9 ـ ينظر : دراسات في فقه اللغة ، صبحي الصالح: 33 ، المدخل الى علم اللغة ومناهج البحث اللغوي ، رمضان عبدالتواب : 110 ، فقه اللغة العربية ، إميل بديع : 15 .
10 ـ ينظر : علم اللغة العام ، علي عبدالواحد وافي : 97 .
11 ـ ينظر : اللغة اصطلاح لا توقيف ، زياّن احمد ابراهيم : 167 ومابعدها ـ المجلة العربية للعلوم الانسانية /ع 18 ـ مج 5 ـ 1985 ، فقه اللغة ، عبدالحسين المبارك : 14.
12 ـ الخصائص : 1/41 .
13 ـ المصدر نفسه : 1/45 .
14 ـ ينظر : المصدر نفسه : 1/40 ـ 41 .
15 ـ ينظر : دروس في الالسنية العامة : 109 ـ 112 ، محاضرات في الالسنية العامة لـ ( دي سوسير) ، أحمد محمد قدور : 181 ـ 182 ـ المجلة العربية للعلوم الانسانية/الجامعة الكويتية ـ ع 16 ـ مج 4 ـ س 1984 .
16 ـ الأصول ( دراسة ابستمولوجية للفكر اللغوي عند العرب ) : 325 .
17 ـ علم اللغة العام ، علي عبدالواحد وافي: 98 ، وينظر : نشأة اللغة عند الإنسان والطفل للمؤلف نفسه : 25 ، المدخل إلى علم اللغة ومناهج البحث اللغوي ، رمضان عبدالتواب : 111 ( وفيها نجد النص نفسه الموجود عند الدكتور وافي ولا ندري لمن أصل النص ؟ إذ لا توجد أية اشارةٍ لذلك ، أما الدكتور إميل بديع فقد نقل النص وأشار إلى مصدره في كتابه فقه اللغة العربية وخصائصها : 16 ) .
18 ـ الخليل بن احمد الفراهيدي ، أعماله ومنهجه : 86 .
19 ـ العين 1/55 .
20 ـ المصدر : نفسه : 1/56 .
21 ـ الخليل بن احمد الفراهيدي ، أعماله ومنهجه ، مهدي المخزومي : 88 ـ الخليل بن احمد الفراهيدي ، أعماله ومنهجه : 86 .
22 ـ الخصائص 1/544 .
23 ـ لغات البشر ، أصولها ، طبيعتها ، تطورها ماريو باي : 17 ( في الهامش) ، وينظر : فقه اللغة العربية وخصائصها ، إميل بديع : 16 .
24 ـ ينظر : نظريات في اللغة ، أنيس فريحة : 17 .
25 ـ ينظر : علم اللغة العام : 104 .
26 ـ المصدر: نفسه : 105 .
27 ـ المدخل إلى علم اللغة : 112 .
28 ـ ينظر : المصدر نفسه : 112 ـ 113 ، بحوث ومقالات في اللغة ، للمؤلف نفسه : 17.
29 ـ فقه اللغة وخصائص العربية ، محمد المبارك : 187 .
30 ـ ينظر : المدخل إلى علم اللغة : 114 .
31 ـ ينظر : نظريات في اللغة ، أنيس فريحة : 18 .
32 ـ المزهر : 1/47 .
33 ـ المصدر نفسه : 1/16 ـ 17 .
34 ـ الخصائص : 1/48 .
35 ـ الخصائص : 1/48 .
36 ـ الخصائص : 1/48 .
37 ـ المصدر نفسه : 1/41
38 ـ المصدر نفسه : 1/48
39 ـ المصدر نفسه : 1/48

مصـادر البحــث ومراجعـــه
1 ـ الأصول ( دراسة ابستمولوجية للفكر اللغوي عند العرب ) / د . تمام حسان / دار الشؤون الثقافية العامة ـ بغداد ـ 1988 .
2 ـ البحث اللغوي عند الهنود وآثره على اللغويين العرب / احمد مختار عمر ـ دار الثقافة ـ بيروت ـ لبنان ـ 1972 م .
3 ـ بحوث ومقالات في اللغة / د . رمضان عبدالتواب / مكتبة الخانجي / القاهرة ـ 1982 .
4 ـ الخصائص / لأبي الفتح عثمان بن جني / تحقيق : محمد علي النجار / دار الشؤون الثقافية العامة بغداد ـ ط 4 ـ 1990م .
5 ـ الخليل بن احمد الفراهيدي ( أعماله ومنهجه ) / د . مهدي المخزومي / دار الرائد العربي ـ 1960 .
6 ـ دراسات في فقه اللغة / د . صبحي الصالح .
7 ـ دروس في الالسنية العامة / فردينان دي سوسير/ تعريب : صالح القرمادي وأخرين / الدار العربية للكتاب ـ 1985 م .
8 ـ علم اللغة العام / د . علي عبدالواحد وافي ـ ط7 ـ 1973م .
9 ـ العين / للخليل بن احمد الفراهيدي / تحقيق : د . مهدي المخزومي و د . ابراهيم السامرائي ـ دار ومكتبة الهلال د ـ ت .
10 ـ فقه اللغة/ د . عبدالحسين علك المبارك ـ مطبعة دار الكتب ـ البصرة ـ 1986م .
11 ـ فقه اللغة العربية / د . كاصد ياسر الزيدي / جامعة الموصل 1987م .
12 ـ فقه اللغة العربية وخصائصها / د . إميل بديع يعقوب / دار العلم للملايين ـ بيروت ـ ط 4 ـ 1986 .
13 ـ فقه اللغة وخصائص العربية / د . محمد المبارك / دار الفكر ـ ط2 .
14 ـ لغات البشر ( أصولها ، طبيعتها ، تطورها ) ماريو باي / ترجمة د . صلاح العربي / مطبعة العالم العربي ـ القاهرة ـ 1971 م .
15 ـ المحصول في علم أصول الفقه / فخر الدين محمد بن عمر الرازي (606 هـ) ـ تحقيق : طه جابر فياض العلواني ـ مؤسسة الرسالة ـ بيروت ـ ط 2 ـ 1412 هـ .
16 ـ المدخل إلى علم اللغة ومناهج البحث اللغوي / د . رمضان عبدالتواب-مطبعة المدني ـ القاهرة ـ ط 2 ـ 1985م .
17 ـ المزهر في علوم العربية وأنواعها / عبدالرحمن جلال الدين السيوطي / شرحه وضبطه وصححه محمد احمد جاد المولى ، وآخرون ـ دار إحياء الكتب العربية ـ 1958.
18 ـ المستصفى في علم الأصول/ أبو حامد محمد بن محمد الغزالي (505 هـ) ـ مطبعة دار الكتب العلمية ـ بيروت ـ 1417هـ .
19 ـ المنخول من تعليقات الاصول / أبو حامد محمد بن محمد الغزالي (505هـ) ـ تحقيق : د . محمد حسن هيتو ـ مطبعة دار الفكر ـ دمشق ـ ط3 ـ 1419هـ .
20 ـ نشأة اللغة عند الإنسان والطفل/ د . علي عبدالواحد وافي/ دار الفكر العربي ـ القاهرة ـ 1947 .
21 ـ نظريات في اللغة/ أنيس فريحة - دار الكتاب اللبناني بيروت ـ 1973 .

الدوريـات
22 ـ محاضرات في الألسنية العامة (دي سوسير) ـ أحمد محمد قدور / المجلة العربية للعلوم الإنسانية /الجامعة الكويتية ـ ع 16 ـ مج 4 ـ س 1984 .
23 ـ اللغة إصطلاح لا توقيف ـ زيان أحمد إبراهيم / المجلة العربية للعلوم الإنسانية/الجامعة الكويتية ـ ع 18 ـ مج 5 ـ س 1985 .


BASRAHCITY.NET