قصيدةُ (أمّ البروم) لبدر شاكر السَّيَّاب، قراءةٌ أخرى

د . حامد ناصر الظالميّ

المقدمة

  الكلمةُ المفتاحُ هي التي تُساعدكَ في الدّخول إلى النّصّ وتفكيكه، ويتقصّد بعض الأدباء الإشارة إلى كلمةٍ محدّدةٍ في النّصّ لفتح بعض الفجوات فيه ، كي ينظر المؤوِّل منها إلى ما وراء النَّصِّ، وأصوله التي تَشكَّلَ عليها. وقصيدة (أمّ البروم) واحدة من قصائد السّيّاب التي أشار فيها إلى الكلمة المفتاح، قائلاً : (المقبرة التي أصبحتْ جزءاً من المدينة) إذْ كتبها الشّاعر في : ( 21 / 7/ 1961 م )، وضمّها ديوانه (المعبد الغريق) (1).

أودُّ هنا أنْ أطرحَ سؤالاً يُيب عنه البحث فيما بعد :
  ما الذي جعل السَّيّاب يتذكّر مقبرةً قديمةً وسْطَ العشّار، ويكتبُ قصيدةً عنها سنة ( 1961 م )، أي : قبل وفاته بسنواتٍ قليلةٍ، والمقبرة تمّ تهديمها وتسويتها عام ( 1932 م ) ؟ (تُنظر الوثائق في آخر البحث)، أي : ما الذي جعل السّيّاب يتذكّر ذلك بعد ثلاثينَ سنة، أي : بعد انتهاء الدّفنِ فيها رسميّاً في بداية الثّلاثينيّات، وعمره -آنذاك- ستّ سنوات أو أكثر بقليل ، إذْ وُلد سنة ( 1924 م )، وهو لمْ يأتِ إلى العشّار في هذا العمر، ولمْ يزُر المقبرة ؟ وعندما درس في الإعداديّة ووصل إلى منطقة العشّار لمْ يبقَ شيءٌ منْ آثار هذه المقبرة إطلاقاً، بلْ تحوّلتْ إلى حديقة أُطلِق عليها حديقة (الملك غازي)، ثُمَّ تحوّلتْ إلى مكانٍ لتجمّع العمّل والفقراء، وفيما بعد أصبحتْ مرآباً للسَّيّارات.

نظرةٌ في ديوانِ (معبد الغريق )
  صحيحٌ أنّ ديوان (المعبد الغريق)، الذي صدر في بداية السِّتينيّات يكاد أنْ تكونَ موضوعات قصائده تحمل ثيمة (الموت)، وهو ما نجده في (قصيدة المعبد الغريق، قصيدة شبّاك وفيقة، وقصيدة حدائق وفيقة، وقصيدة أمّ البروم)، فمن الطبيعيّ أنّ اليأس قدْ سيطر عليه في أواخر حياته في بداية السِّتينيّات، وألمّتْ به الضّائقة الماليّة، وبدايات مرضه وفصله منْ دائرته، ولكن، أنْ يُصدِر ديواناً كاملاً ثيمته (الموت والقبر)، فهو أمرٌ يستحقّ المناقشة، وما الذي يذكِّر شاعراً مثل السَّيّاب بموضوعٍ نسيه النّاس، واندرستْ آثاره، ولماذا (أمّ البروم) تحديداً ؟
  يقول السَّيّاب عن (أمّ البروم) : (المقبرة التي أصبحتْ جزءاً من المدينة ) والحقيقة أنّ مدينة البصرة (ونقصد هنا مركز المحافظة )، هي جزءٌ من مقبرة، أو مجموعة مقابر ، إذْ يوجد في مركز المدينة حتّى عقد الثّلاثينيّات (40) مقبرة، إذن مدينة لاتتجاوز مساحتها (5كم 2) تضمّ ( 40 ) مقبرة ! أليس هذا قلب لكلام السَّيّاب ؟ أي إنّ المدينة كانتْ عبارة عن محلّت سكنيّة تربطها أزقّة ضيّقة وشوارع غير معبّدة، وتفصلُها مستنقعات، وسط عددٍ كبيرٍ من المقابر، وما نشاهدُه من بقايا أضرحةٍ يقدّسها النّاس -الآن- في البصرة، هي بقايا تلك المقابر الأربعينَ، تمّ تهديمها وسحقها، ومن ثمَّ بُنيتْ عليها المدارس والدّوائر والبيوت ... ولذلك يقول أحدُ الباحثين : ( إنّ الدّارس لتخطيط المدينة يجدُ أنّ البصرة -آنذاك- هي مدينة داخل مقبرة، وليس العكس ) (2).
  والمقابرُ هي :
  1 ـ مقبرة العبّاسيّة، في العبّاسيّة (للمسلمين).
  2 ـ مقبرة الفرسي، في محلّة الفرسي (للمسلمين).
  3 ـ مقبرة إبراهيم الخليل، في محلّة السّيمر (مقبر عامّة).
  4 ـ مقبرة محمّد جواد، في محلّة جسر العبيد (عامّة).
  5 ـ مقبرة السَّيّد درويش، في محلّة المشراق (للمسلمين).
  6 ـ مقبرة الشّيخ حبيب، في محلّة القبلة (للمسلمين).
  7 ـ مقبرة السّبخة الكبيرة، في محلّة السّبخة (مقبرة عامّة).
  8 ـ مقبرة مستشفى العزل في محلّة دويد (الخاصّة بالمرضى المعزولين).
  9 ـ مقبرة (تذكار مود)، قرب مستشفى (تذكار مود) (خاصّة بالرّاقدين في المستشفى الجمهوريّ).
  10 ـ مقبرة الخضر، في محلّة الخضر (للمسلمين).
  11 ـ مقبر السّاعي، في محلّة السّاعي (للمسلمين).
  12 ـ مقبرة الرّباط الصّغير، في محلّة الرّباط.
  13 ـ مقبرة الفقراء، في محلّة المنّاوي باشا (عامّة).
  14 ـ مقبرة القبلة الأولى، في محلّة القبلة (اليهود).
  15 ـ مقبرة القبلة الثّانية، في محلّة القبلة (اليهود).
  16 ـ مقبرة النبؤ زوفين، في محلّة الخندق.
  17 ـ مقبرة الكلدان خلف السّجن المركزيّ (للمسيحيّين).
  18 ـ مقبرة بريهة، في محلّة بريهة (للمسلمين) .
  مقبرة نادي صيد الحمام (غير معرفة) هي للبروتستانت.
  20 ـ مقبرة الخضراويّة، في محلّة (أبو الحسن)، للمسلمين (متروكة فيها مياه).
  21 ـ مقبرة الكوّاز، في محلّة المشراق (عامّة).
  22 ـ مقبرة باب الهوا، في محلّة المشراق (عامّة).
  23 ـ مقبرة العروة، في محلّة السّيمر (عامّة وللأطفال).
  24 ـ مقبرة السّجن، في محلّة نظران في السّجن المركزيّ (للمسجونين فقط).
  25 ـ مقبرة (عليّ بن موسى الرّضا)، في محلّة الفرسي (للمسلمين) (متروكة بسبب المياه).
  26 ـ مقبرة مقام (عبّاس أبو مطرق)، في محلّة البلوشي.
  27 ـ مقبرة الشّيخ (خرج)، في محلّة المشراق (عامّة).
  28 ـ مقبرة الرّباط الكبير، في محلّة الرّباط الكبير (عامّة).
  29 ـ مقبرة زين العابدين، في محلّة العبّاس (عامّة).
  30 ـ مقبرة جبل اليهوديّة، في محلّة كوت الحجّاج (عامّة).
  31 ـ مقبرة الفرعونيّة، في محلّة كوت الحجّاج (عامّة).
  32 ـ مقبرة (أم إسكندر)، في محلّة السّبخة الكبيرة (عامّة).
  33 ـ مقبرة أمّ الدّجاج، في محلّة أمّ الدّجاج (عامّة) .
  34 ـ مقبرة الإنجليز، في محلّة الرّباط الكبير (لجنود الإنجليز).
  35 ـ مقبرة الحسن العسكريّ، في محلّة المشراق (للمسلمين).
  36 ـ مقبرة الهنود، في محلّة القبلة.
  37 ـ مقبرة الأرمن، في محلّة القبلة.
  38 ـ مقبرة البروتستانت (قرب مقبرة الإنكليز).
  39 ـ مقبرة أخوات رزنة، في محلّة سبخة العرب (للمسلمين).
  40 ـ مقبرة (أمّ البروم) في محلّة العشّار.

( أمُّ البروم) وجَدَل التسمية
  وعندما نأتي إلى منطقة (أمّ البروم) ونبحث عن معناها، نجدْ تأويلاً سمعتُه من المؤرّخ البصريّ (حامد البازي)، ولمْ أقرأه، أو أتثبّت منه، أو أجده مكتوباً، وهو شائع كذلك عند البصريّين، وهو (أنّ هذه المنطقة سُمِّيتْ بهذا الاسم ، لكثرة قدور الطّبخ فيها، والقدر الكبير هو (البُْمة) ، إذْ كان الأغنياء يطبخونَ هنا للفقراء، ويوزّعونَ الطّعامَ ، لذلك سُمِّيتْ بهذا الاسم، أي : بأحد لوازم الطّبخ)، ولكنّ الذي أراه على وفق الوثائق التّاريخيّة أنّ هذا المكان هو مقبرة للفقراء، ولمن أصابتْه أمراض مُعْدِية، فكيف يتّفق الطّبخ هنا مع دفنِ الموتى المصابينَ، ولمْ يؤكّد لنا المرحوم (حامد البازي) كلامه ذلك بوثائق تاريخيّة نطمئنّ إليها، بل هو محضُ تأويلٍ.
  بعد أنْ عرفنا أنّ هذا المكان كان مقبرة، وهو ما أكّدتْه الوثائق المتوافرة لدينا، بقي أنْ نسأل عن معنى هذا الاسم، وهو أمرٌ يُرجعنا تاريخيّاً إلى ما كان يفعلُه السّومريّونَ أثناء دفن موتاهم ، إذْ يقول الدّكتور (سامي سعيد الأحمد) : إنّم (يلفّونَ الميّت مثنيّاً في حصيرة، أو قطعة من الكتّان فوق ملابسه الاعتياديّة، ورأسه على وسادة، ومعه كأس ماء وبعض الحاجات الشّخصيّة، ثمّ يُوضع بتابوتٍ من أعواد الصّفصاف، أو بقطعةٍ فخاريّةٍ كبيرةٍ، أو في جرّتينِ كبيرتينِ متقابلتَي الفوّهة، ويُنى الظّهر بحيث يُصبح الرّأس عند الصّدر وقرب الحنك من الحوض ... ومِنْ قبور العصر البابليّ الحديث بكيش، وضع الميّت بتابوت طينيّ، أو في الأرض، ولمْ تكنْ التوابيت على طول الجثث، ممّا يجعلُهُم يثنونَ الأطراف ) (3) . أي : إنّ الدّفن يكون هنا بجرارٍ كبيرة هي (البُمة)، وهذه الطريقة، أي : الدّفن بالجرار، أو في (البُم) كَتَب عنها (غسّان طه ياسين)، الأستاذ في مركز البحوث الآثاريّة والحضاريّة في جامعة الموصل بحثين، هما :
  1 ـ أسلوب دفن الموتى في العراق القديم، وبعض مناطق الشّق الأدنى القديم، مجلّة بين النّهرين سنة (8) عدد (30) سنة ( 1980 م) : ص 131 - 138 .
  2 ـ تقاليد دفن الموتى في ( تلّ حلاوة ) من خلال تنقيبات جامعة الموصل، الموسم (22) شباط عام ( 1978 م)، في مجلّة آداب الرّافدين، جامعة الموصل، عدد (12) سنة (1980 م) : ص 34 - 69 .
  وفي هذين البحثين مخطّطاتٌ تبيُّ طريقة إحناء الجثّة ووضعها في الجرار الكبير كمدفن ، إذْ يُثنى الجسد داخل الجرّة (البُمة) ، كما لو كان في رحم الأمّ، أو يكون وضعها كالإنسان الذي أصابه برْدٌ فتكوّر على نفسه، أو كالإنسان الخائف، وبعد إدخاله في الجرّة الكبيرة، يُضاف فوقه الكافور وموادّ التّحنيط الأُخَر، ثمّ تُغلق الجرّة تماماً بالفخّار والطّين . ونعتقد أنّ السّبب في ذلك ، هو لحماية الجثّة من الحيوانات، ولمنع انبعاث الرّوائح منها، ولحمايتها من المياه الجوفيّة، وغيرها من الظّروف الطّبيعيّة، ولسهولة نقلها إلى مكانٍ آخر.
  لمْ تكن وسائط النّقل قبل مئات السّنين متوافرة وسريعة كما هي الآن ، فلذلك يكون نقل الجثث عن طريق السّفن طبعاً، وليس برّاً ، إذْ لاوجود لسيّارات أو قطارات تقوم بذلك، وبما أنّ النّقل النهريّ يستوجب أيّاماً عديدة لنقل جثث الميسورينَ -خاصّة- من البصرة إلى النّجف، فإنّ النّقل بالتّابوت الخشبيّ لا ينفع هنا ، لتحلّل الجثّة خلال فترة النّقل التي قدْ تطولُ ، لذا فإنّ أفضل الطّرق تكون بالجِرار أو (البُرم) ، لعدم تأثّرها بالظّروف الجويّة من حرٍّ وبردٍ، وغير ذلك، فالبُمة تحافظ على ما موجود فيها مدّةً أطول، ولقرب مقبرة (أمّ البروم) من نهري العشّار والخندق، فإنّ النّقل سيكونُ أكثر سهولة إلى مناطق العراق الأُخَر عَبر شطّ العرب، ومِن ثَمّ الدّخول في نهر الفرات، والوصول إلى النّجف، وبهذا تتحوّل هذه المنطقة إلى مكان تجمّع الجرار، أو )البُم( كي يتمّ نقلها فيما بعد، وهو ما جاء في الوثائق الرّسميّة، كالكتاب الصّادر عن متصرّف لواء البصرة المرقّم ( 15345 ) في : ( 7/ 3/ 1922 م ) المرسَل إلى رئيس الصّحّة المركزيّ في البصرة، الذي يطالبه بتقديم إحصاء عن المعدّلِ الشّهريّ للجثث التي تُرسل إلى الأماكنِ المقدّسة في النّجفِ الأشرف وكربلاء، وهذا الأمر موضّحٌ وبشكلٍ تفصيليٍّ في كتابٍ يحمل عنوان : (بيان لنقل الجثث إلى النّجف وكربلاء)، وهو صادر عن متصرّف لواء البصرة آنذاك (4).
  ذلك ما يتعلّق باسم المنطقة التي جاءتْ عنواناً لقصيدة السَّيّاب (أمّ البروم)، أمّا لماذا تذكَّر السّيّاب هذا المكان بعد إزالته بثلاثين سنة؟ فنعتقد أنّ السّبب هو كون هذه المقبرة خاصّة بالفقراء الذين يموتونَ وليس لدى ذويهم الإمكانات اللّزمة لنقلهم ودفنهم في النّجف أو كربلاء، وهي مقبرة للمصابينَ بأمراضٍ فتّاكة، وكذلك لدفن الغرباء، ثمّ سُوِّيت بالكامل، وبُنِيَ فوقها الملاهي ودور السّينما و ...!!

إزالةُ المقبرةِ وتهديمها

  وعنْ إزالة هذه المقبرة نجدُ مجموعةً من الوثائق تُشير إلى ذلك، فالوثيقة ذات الرّقم (2831) في : ( 13 / 8/ 1929 م) (سرّي)، وموضوعها (مقبرة أمّ البروم)، هي في الأصل كتاب من رئيس بلديّة البصرة موجّهٌ إلى متصرّفية لواء البصرة، يطلبُ فيه إزالة هذه المقبرة، وفعلاً قدْ توقّف الدّفن فيها عام ( 1930 م )، على وفق الوثيقة الصّادرة من رئيس بلديّة البصرة إلى متصرّفيّة لواء البصرة (سرّي) موضوعها (أمّ البروم) ذات الرّقم ( 1709 ) في : ( 9/ 7/ 1930 م )، والوثيقة المؤرّخة في : ( 25 / 4/ 1932 م )، تُبيّ تحويلها إلى متنزّه تابع للبلديّة، وكذلك أكّد رئيس بلديّة البصرة هذا الأمر بكتابه ذي الرّقم ( 996 ) في : ( 1932/5/9 م )، بجعل هذه المقبرة متنزّهاً، وهكذا تحوّلتْ إلى ساحة عامّة سنة ( 1932 م )، على وفق كتاب متصرّف لواء البصرة المرسَل إلى رئاسة بلديّة البصرة ذي الرّقم ( 8208 ) في : ( 4/ 7/ 1932 م )، وبعد ذلك تمّ هدم جدار المقبرة يوم ( 19 / 7/ 1932 م )، فأرسلَ عالمُ العشّار الشّيخ (عبد المهدي المظفّر) برقيّةً إلى وزارة الدّاخليّة في : ( 30 / 7/ 1932 م ) يستنكر فيها هذا العمل، وحتّى تغسيل الموتى، فقدْ تمّ إيقافُهُ هنا، فتقدّم جمعٌ مِنْ أهالي العشّار، وعددُهم أحد عشر شخصاً، بإرسال برقيّة إلى جلالة الملك للتّاجع عن هذا الأمر (هدم المقبرة)، ومن هؤلاء الأشخاص : - سلمان الصّكّار : وهو والد الشّاعر الأديب والفنّان والخطّاط (محمّد سعيد الصّكّار)، وكان منْ تجّار الحبوب في البصرة، وحدّثني والدي عنه أنّه كان بطلاً مصارعاً امتاز بقوّةٍ جسديّةٍ فائقةٍ.
  ـ مهدي الجابريّ.
  ـ عبد الحسين علوش، وآخرونَ.
  ولكنّ الأمر تمّ تنفيذه، وتمّت تسوية المقبرة.

قصيدةُ الّسيّابِ قراءةٌ في ضوءِ النّقدِ الثّقافيّ
  على وفق أساسيّات النّقد الثّقافيّ التي تدرس الظّروف السّياقيّة المؤثّرة في إنتاج النّصّ، أيّ نصٍّ كان، أدبياً أم غير أدبيٍّ، ولتفكيك الخطاب، ومعرفة الباعث على الكتابة والسّياقات الثّقافيّة، وغيرها ممّا يُيط بالنّصّ، جاءتْ مقدّمتنا التّاريخيّة هذه للإجابة عن السّؤالِ السّابق.
  يحتاجُ البحث في لغة السّيّاب معرفة جملة أمور أبرزها : اللُّغة المحلّيّة المتداولة آنذاك، والموروث الثّقافيّ والاجتماعيّ، فمثلاً كلمة (بويب) الواردة في قصيدة (بويب)، ما معنى هذه الكلمة في الثّقافة المحلّيّة آنذاك ؟ هل هو اسم نهرٍ معروفٍ في البصرة بهذا الاسم مثلا ً؟ أو هناك رأيٌ آخر إذْ يُطلق أهل أبي الخصيب - والسّيّاب منهم- على كلِّ نهرٍ كبيرٍ متفرِّعٍ من شطّ العرب اسم (باب)، ولذلك لديهم (باب سليمان)، و (باب طويل)، والباب هو النّهر الطّويل والعريض، والباب هو مصدر للرّزق، وكلُّ شيءٍ يتعلّق بالخير فهو باب، و (بويب) هو مصغّر باب، أي : كلّ نهر صغير وقصير متفرّع من الباب الكبير، وهو ليس اسماً لهذا النّهر تحديداً، بل هو كلُّ نهر صغير أينما يكون، ولكنّ بعضَ الباحثين يعتقد أنّ هذا النّهر الذي قيلتْ فيه القصيدة، هو نهرٌ محدّدٌ بهذا الاسم لا غيره.
  وعندما نعود إلى (أمّ البروم) التي كانتْ تمثّل صراعاً كبيراً ما بين الموت (المقبرة المندرسة)، وما بين الحياة العابثة الصّاخبة (الملاهي والغانيات)، فالسّيّاب لمْ يرَ تلك المقبرة بل سمع بها ، إذْ يقول :
  (رأيتُ قوافل الأحياءِ ترحلُ عنْ مغانيها
  تُطاردُها وراءَ اللّيلِ أشباحُ الفوانيسِ
  سمعتُ نشيجَ باكيها وصرخةَ طفلِها وثُغاءَ صادٍ مِنْ مواشيها
  ولكنْ لمْ أرَ الأمواتَ يطردُهُنّ حفّارُ
  من الحفر العِتاق وينزعُ الأطفال عنها أو يغطّيها
  ولكنْ لمْ أرَ الأمواتَ قبلَ ثراك يُليها
  مُونُ مدينةٍ وغناءُ راقصةٍ وخمّارُ
  يقول رفيقي السّكرانُ : ( دَعْها تأكلُ الموتى
  مدينتُنا لتكب ُ... تحضنُ الأحياءَ ... تسقينا
  شراباً من حدائق برسفون (5) ... تُعلّنا حتّى
  تدورَ جماجمُ الأمواتِ مِن شكرٍ مشى فينا ) (6).
  هو يتحدّثُ عن نقيضين (حياة الفقراء / صراخ الأطفال)، وعن (مجون المدينة التي بُنيتْ حاناتها فوق جُثث الفقراء والمجذومين)، الّذين تمّتْ تسوية عظامهم، فتحوّلتْ قبورُهم إلى ملهى السّندباد، وسينما الكرنك، وملاهٍ ...، وكأنّما ليس في هذه المدينة مكانٌ آخر غير هذا يذكّرنا بالمقبورينَ تحت الأرض ...، فالبصرةُ يختطفُها الموتُ، فهي مثل (برسفون) ابنة آلهة الخِصب اليونانيّة، التي اختطفها (بلوتو) سيّد العالم السّفليّ، عالم الموتى، فصارتْ تعيشُ معه - كما تقول الأسطورة- فأصبحتْ مدينة تعرك اللّحم، ورحىً تطحن البشر، ولا تكتفي بل تمتدّ يداها للأموات لطحنهم كذلك.
  يقول السيّاب :
(مدينتُنا منازلها رحىً ودروبها نارُ
لها مِنْ لحمِنا المعروك خبزٌ فهو يكفِيها
عَلامَ تمدُّ للأمواتِ أيدِيها وتختارُ
تلوكُ ضلوعَها وتقيؤها للرّيح تُسفيها ) (7).
هل يستحقُّ أولئك الفقراء منّا سحق عظامهم لبناء سجنٍ، أو دائرة، أو
مرقص، أو ملهىً، أو ... ، أو مدرسة، أو ...؟
(تسلَّلَ ظلُّها النّاري منْ سجنٍ ومستشفى
ومِن مبغىً ومِن خمّارةٍ مِنْ كلّ ما فيها
وكانتْ إذْ يُطلُّ الفجرُ تأتيك العصافيرُ
تساقطُ كالثّمارِ على القبورِ تنفِّرُ الصّمتا
فتحلمُ أعينُ الموتى
بكركرةِ الضّياء وبالتّلال يرشُّها النّورُ ) (8).
  فالأبُ الذي مات وترك أمّاً لثلاثة أطفال تعولُ بهم، وتتسكّع على الأبواب مع أطفالها، تستجدي ماءً وطعاماً حتّى ماتتْ، فخلا منها نَعْشُها :
(وتسمعُ ضجّة الأطفالِ أمُّ ثلاثةٍ ضاعوا
يتامى في رحابِ الأرضِ إنْ عطشوا وإنْ جاعُوا
فلا ساقٍ ولا مِنْ مُطْعِمٍ في الكوخِ ظلّوا واعتلى النّعشُ
رؤوسَ القومِ والأكتافَ ... أفئدةٌ وأسماعُ
ولاعينٌ ترى الأمَّ التي منها خلا النّعشُ ) (9).
  فهؤلاء الثلاثة كالطّيور، فقدُوا الأبَ والأمّ التي تستجدي لهم الماء والطّعام، وتجمعهم في عشِّها فلا ساقٍ ولا مُطعمٌ لهم، فالقبر الذي ضمّ جسدها أبعدها عن دنيا الذُّلّ، ولكنْ بقيتْ طفلتها الصّغيرة ذات المفاتن تتسكّع وأيدي المتطفّلينَ لا ترحمُها:
(يباعدُ عالم الأمواتِ عنْ دنيا منَ الذُّلّ
منَ الأغلال والبوقات والآهات والزّحمة
وأوقدتْ المدينةُ نارَها في ظلّة الموتِ
تقلعُ أعينَ الأمواتِ ثمّ تدسُّ في الحُفر
بذورَ شقائق النّعمانِ تزرعُ حبّةَ الصّمْتِ
لتُثمر بالرّنين مِنَ النّقود وضجّة السَّفرِ
وقهقهةِ البغايا والسّكارى في ملاهيها
... ) (10).
  هذا هو حال المدينة، تبدّلاتٌ عجيبةٌ، وانقلاباتٌ أغرب، فالمدفون هنا في (مقبرة أمّ البروم، المتحوّلة إلى المتنزّه والشّوارع) يحسب ويعدّد العجلات التي مرّتْ على جسده، وهو ينتظرُ موعد الرّبِّ للخلاص من هذا العذاب.
(سلامٌ جالَ فيه الدّمعُ والآهاتُ والوَجدُ
على المتبدّلاتِ لُودَهم والغاديات قبورُهم طرقا
وطِيبُ رقادِهم أرقا
يحنُّ إلى النّشور ويَسبُ العجلاتِ في الدّربِ
ويرقُبُ موعدَ الرّبّ ) (11).

الوثائق


الوثيقة رقم (1)


الوثيقة رقم (2)


الوثيقة رقم (3)


الوثيقة رقم (4)


الوثيقة رقم (5)


الوثيقة رقم (6)


الوثيقة رقم (8)


الوثيقة رقم (9)


الخاتمة
  تُفيدُنا الوثائق في محاولتنا إعادة قراءة النّصوص الأدبيّة من جديد، فمن الممكنِ إعادة قراءة الأدب الأصيل عَبر الأزمنة والأمكنة المتعدِّدة، ويتمّ اكتشاف الجديد فيه، والوثيقة التّأريخيّة تزيد مِنْ نسبة الاحتمال، بل تؤدِّي إلى القطع بالرّأي أحياناً، وبهذا فهي - بصورةٍ أو بأخرى- تُساعدُنا على إعادة قراءة النّصِّ بدقّةٍ أكبر. وهذا ما عملنا عليه في قصيدة السّيّاب (أمّ البروم)، التي طرحنا حولها هنا عدّة تساؤلاتٍ حاولنا الإجابة عنها في ضوء الوثائق التّأريخيّة، التي عرضناها، والتي بَيَّنت لنا أنّ (أمّ البروم) كانتْ في الأصل مقبرة، وهو الأمر الذي تَنبَّه له السّيّاب، فعملنا على الكشف عن دلالات قصيدة (أمّ البروم) في ضوء ذلك، فعرفنا أنّ الحوارَ الذي أراده السّيّاب في القصيدة بين الموتى والأحياء، كان واعياً له، فقدْ عرفَ أصل المكان الذي تحدَّثَ عنه في القصيدة، وبهذا نكشف عن جماليّات النّصِّ في ضوء المعلومة التّأريخيّة الدّقيقة

الهوامش
(1) يُنظر : الأعمال الشّعريّة الكاملة، بدر شاكر السيّاب : 1/ 126 .
(2) الحالة الصّحّيّة في البصرة سنة ( 1921 - 1939 م )، جعفر عبد الدّايم، رسالة ماجستير، جامعة البصرة، كلّيّة التّبية، قسم التّاريخ سنة ( 1988 م ) : ص 20 .
(3) المعتقدات الدّينيّة في العراق القديم، د . سامي سعيد الأحمد : ص 88 .
(4) تُنظر الوثائق المرافقة.
(5) ابنة آلهة الخصب اليونانيّة اختطفها (بلوتو) سيّد العالم السفلّي، عالم الموتى، فصارتْ تعيش معه هناك.
(6) الأعمال الشّعريّة الكاملة، بدر شاكر السيّاب : 1/ 126 .
(7) الأعمال الشّعريّة الكاملة، بدر شاكر السيّاب : 1/ 126 .
(8) الأعمال الشّعريّة الكاملة، بدر شاكر السيّاب : 1/ 126 ، 127 .
(9) الأعمال الشّعريّة الكاملة، بدر شاكر السيّاب : 1/ 127 .
(10) الأعمال الشّعريّة الكاملة، بدر شاكر السيّاب : 1/ 127 .
(11) الأعمال الشّعريّة الكاملة، بدر شاكر السيّاب : 1/ 128 .

المصادرُ والمراجعُ
1 ـ الأعمال الشعريّة الكاملة، بدر شاكر السّيّاب، دار الحياة، القاهرة، 2011 م.
2 ـ الحالة الصِّحّيّة في البصرة سنة ( 1921 - 1939 م )، جعفر عبد الدّايم، رسالة ماجستير، جامعة البصرة، كلّيّة التّبية، قسم التّاريخ سنة 1988 م.
3 ـ المعتقدات الدّينيّة في العراق القديم، د. سامي سعيد الأحمد، المركز الأكاديميّ للأبحاث، بيروت، 2013 م.
4 ـ وثائق بلديّة البصرة للأعوام : ( 1929 م، 1930 م، 1932 م، 1933 م ).

BASRAHCITY.NET