تهجيرُ أهلِ البصرةِ خلالَ عهدِ زيادِ بنِ أبيهِ سنة (51هـ/ 671م)

المقدمة

  عملتْ الدّولةُ الأمويّةُ على انتهاجِ أساليبَ قمعيّةٍ ووحشيّةٍ شتّى ، من أجل تثبيتِ سلطانها ، ولم يتورَّع حكّامُها منْ تنفيذِ تلك الأساليب بحقّ المعارضينَ لها، أمّا وعّاظُ السّلاطين، فكان - وما يزال- دورهم معروفاً، وهو تبرير تلك الأفعال التي لا تمتُّ إلى الإسلام بصلةٍ، لا مِن قريبٍ، ولا منْ بعيدٍ.
  وقدْ ذكرتْ أغلبُ المصادر المتقدّمة والمتأخّرة، والمتّفق عليها عندَ جميعِ المؤرّخينَ من المسلمينَ، وغيرهم، تلكَ الأحداثَ بما لا يدعُ مجالاً للشكِّ في وقوعِهَا.
  فمِنْ تلك الأساليبِ التي اتّبعتْها السّلطةُ الأمويّةُ، (التّهجيرُ الجماعيُّ)، وهو أحدُ الأساليب القمعيّة والتعسّفيّة التي استخدمتْها بحقّ المنتقدينَ والمعارضينَ لها ، ونظراً إلى أنّ العراق كان موئلاً للثّورات والحركات المعارضة للحكم الأمويّ، لاسيّما في البصرة والكوفة ، لذا، فقدْ وجد معاوية وواليه زياد أنّ أحد أساليب معالجة هذه التمرّدات هي إرسالهم في البعوثِ وتجميرهم (1) هناك.
  تعودُ عمليّات التّوطين في خراسان إلى سنة (45 هـ)، عندما أسكَنَ أميرُ مرو – الذي عيّنه الوالي زياد بن أبيه – العربَ في مرو، وكانتْ على ما يبدو أوّلَ منطقةٍ يسكنها المسلمونَ في خراسان (2) ، تبعها صدورُ أوامرَ من الوالي زياد في السّنة (51 هـ / 671 م) بتهجير خمسينَ ألفاً من مقاتلي الكوفة والبصرة مع عيالاتهم إلى خراسان (3) ، إذْ نفى خمسةً وعشرينَ ألفاً من أهلِ البصرة، ومثلَ عددهم من أهلِ الكوفة (4) ، وقدْ أسكنهم والي زياد دون نهر جيحون (5) ، وكانَ استخدام زياد ذلك الأسلوب بسبب سياسة الشدّة التي استخدمها مع القبائل، ما جعله يبحثُ عن مخرجٍ آخَر؛ لأنّ سياسته تلك -بمرور الزّمن- سوف تفشل، فاتّجه إلى إضعافِ قوّةِ القبائلِ في البصرة ، خشيةً من التكتّلاتِ القبليّةِ، التي يلتزمُ بها أفرادُ القبائل، فعمل على تهجير تلك القبائل التي كانتْ مناوئةً للسّلطة الأمويّة، ليتخلّص من قوّتهم ومن ثوراتهم، بإبعادهم عنْ مصرهم (6).
  ولا شكّ في أنّ زياداً اتّبع – أيضاً - سياسة معاوية في التجويع والمضايقة السّياسيّة على تلك الفئات الشّيعيّة ، إذْ كتب معاوية إلى جميع عمّاله : (انظروا مَنْ قامتْ عليه البيّنة أنّه يُحبُّ عليّاً وأهلَ بيته، فامحُوه من الدّيوانِ، وأسقطوا عطاءَهُ ورزقَهُ) (7).
  ويُنظر إلى عمليّة التهجير هذه على أنّها من باب تصفية الحسابات مع العناصر الشّيعيّة المعارضة للسّلطة الأمويّة، وكذلك على أنّها كانتْ من باب تخفيف حدّة التّوتر السّياسيّ في البصرة والكوفة، والرّغبة منها في إبعاد العناصر غير المرغوب فيها، بعيداً عن العراقِ وعنْ مركز ِالدّولةِ في دمشق، وقدْ تجلّى ذلك من خلال تهجير جماعاتٍ قبليّةٍ عُرفتْ بولائها للعلويّينَ.
  ومن أسبابِ التهجير ِ- أيضاً - محاولةُ تغيير الخريطة السّكّانيّة، وإجراءُ نوعٍ من المعادلة، بعدَ خلق تنظيماتٍ مواليةٍ للأمويّينَ ، ويبدو أنّ السّلطة لم تكنْ تحسب لمستقبل هذا التّهجير بقدر معالجتها لحاضرها وإبعاد الخطر المحدق بها ، إذْ الملاحظ أنّ نفي هذا العدد الضّخم من الشّيعة قدْ ترتّبتْ عليه نتيجةٌ معكوسةٌ عمّا أرادهُ الأمويّونَ ، فتصرّفُ زيادٍ غيرُ المدروسِ كان من عواملِ انتشارِ التشيُّعِ في تلك البلاد، وإضعافِ الدّولة الأمويّة ، إذْ (دقّ زياد - بدون قصد- أوّل مسمارٍ في نعش الدّولة الأمويّة، فقدْ كان هذا العدد الضّخم من الشّيعة عاملاً مهمّاً في نشر حركة التشيّع في خراسان) (8).
  وهكذا يُلاحظ أنّ نفي أهل الكوفة والبصرة إلى خراسان ربّما كان لـه أثر في أنْ تصبح تلك المنطقة بؤرة خصبة للنشاط السّياسيّ ضدّ الأمويّينَ، ومِن ثمَّ كان لهم أثرٌ فعّالٌ في إسقاط الدّولة الأمويّة سنة (132 هـ / 749 م).

الهوامش
(1) جَمَّر الأميرُ الغزاة: حبسهم في الثّغر، وفي نحر العدوّ، ولا يُقْفِلُهم، قال سهم بن حنظلة الغنويّ :
مُـعاوِيَ  إمّا أنْ تُجهِّزَ iiأهلَنا      إلـينا وإمّا أنْ نزورَ iiالأهاليا
أجَمَّرْتَنَا تجميرَ كِسرى جنودَهُ      ومـنّيْتنا  حتّى نسينا iiالأمانيا
  يُنظر : الزمخشريّ، أساس البلاغة، (لا. ط)، دار ومطابع الشّعب، القاهرة، 1960 م : ص 132.
  وهذان البيتان شرحٌ لحال المسلمينَ الذين تمّ تهجيرهم، فقدْ مُنعوا من العودة إلى ديارهم، وتمّ تهجير الكثير منهم مع عوائلهم، لتتخلّص السّلطة الأمويّة منهم.
(2) الطبريّ، محمّد بن جرير، تاريخ الأمم والملوك، مراجعة وتصحيح : نخبة من العلماء، ط 4، مؤسّسة الأعلميّ للمطبوعات - بيروت، 1403 هـ : 4/170.
(3) يُنظر : البلاذريّ، أحمد بن يحيى، فتوح البلدان، (لا. ط)، مكتبة النهضة المصريّة، القاهرة، (د.ت) : 3/507 ، والطبريّ، تاريخ : 4/170.
(4) يُنظر : الطبريّ، تاريخ : 4/170.
(5) يُنظر : البلاذريّ، فتوح البلدان : 3/507.
(6) يُنظر : الرّاوي، ثابت إسماعيل، العراق في العصر الأمويّ - من النّاحية السّياسيّة والإداريّة والاجتماعيّة ، مطبعة النّعمان، ط 2، النّجف، 1970 م : ص 99.
(7) الهلاليّ، سليم بن قيس (ت 85 هـ)، كتاب سليم بن قيس، تحقيق : محمّد باقر المحموديّ، قم، (د.ت) : ص 318 ، ويُنظر : ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، تحقيق : محمّد أبو الفضل إبراهيم، ط 2، منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي ّ- قم، 1404 هـ : 11/ 45 ، والحلّيّ، الحسن بن سليمان، مختصر البصائر، تحقيق : مشتاق المظفّر، (د. م. ت) : ص 14 ، والمجلسي، محمّد باقر، بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمّة الأطهار، (لا. ط)، دار احياء التراث العربيّ، بيروت، (د. ت) : 33/180.
(8) خليف، يوسف، حياة الشّعر في الكوفة، القاهرة، 1968 م : ص 65، ويُنظر : رزّاق، جبّار، سياسة النّفي والتهجير في الدّولة العربيّة الإسلاميّة حتّى نهاية العصر الأمويّ، أطروحة دكتوراه غير منشورة - جامعة الكوفة، 2005 م : ص 140 - 141.

BASRAHCITY.NET