الفهرس العام

باب التوحيد ونفي التشبيه


    3 ـ باب معنى الواحد والتوحيد والموحد
    4 ـ باب تفسير قل هو الله أحد إلى آخرها
    5 ـ باب معنى التوحيد والعدل
    6 ـ باب إنه عزوجل ليس بجسم ولا صورة
    7 ـ باب أنه تبارك وتعالى شيء
    8 ـ باب ما جاء في الرؤية


      1 ـ حدثنا أبي رضي الله عنه ، قال : حدثنا سعد بن عبد الله ، قال : حدثنا أحمد بن أبي عبد الله ، عن أبيه محمد بن خالد البرقي ، عن أحمد بن النضر ، وغيره ، عن عمرو بن ثابت ، عن رجل ـ سماه ـ عن أبي إسحاق السبيعي ، عن الحارث الأعور قال : خطب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام يوما خطبة بعد العصر ، فعجب الناس من حسن صفته وما ذكر من تعظيم الله جل جلاله ، قال : أبو إسحاق : فقلت للحارث : أوما حفظتها ؟ قال : قد كتبتها ، فأملاها علينا من كتابه :
       الحمد لله الذي لا يموت ، ولا تنقضي عجائبه ، لأنه كل يوم في شأن من إحداث بديع لم يكن (1) الذي لم يولد فيكون في العز مشاركا ، ولم يلد فيكون موروثا هالكا ، ولم يقع عليه الأوهام فتقدره شبحا ماثلا (2) ولم تدركه الأبصار فيكون بعد انتقالها ، حائلا (3) الذي ليست له في أوليته نهاية ، ولا في آخريته حد ولا غاية ، الذي لم يسبقه وقت ، ولم يتقدمه زمان ، ولم يتعاوره (4) زيادة ولا نقصان ، ولم يوصف بأين ولا بمكان (5) الذي بطن من خفيات الأمور ، وظهر في العقول بما يرى في

    ---------------------------
    (1) أي هو تعالى في كل وقت يوجد فيه بديعا من خلقه يكون في شأن إيجاد ذلك البديع فاليوم يوم ذلك الموجود البديع ووقته.
    (2) في نسخة ( ج ) ( مماثلا ).
    (3) أي فيكون تعالى بعد انتقال الأبصار متحولا متغيرا عن الحالة التي كان عليها من المقابلة والوضع الخاص والمحاذاة للأبصار ، وبعض الأفاضل قرأ بضم الأول على أن يكون مصدرا لبعد يبعد وفسر الحائل بالحاجز أي فيكون بعد انتقال الأبصار حاجزا من رؤيته تعالى ، وبعضهم قرأ خائلا بالخاء المعجمة أي متمثلا في القوة المتخيلة.
    (4) تعاور القوم الشيء : تعاطوه وتداولوه .
       والتعاور : الورود على التناوب.
    (5) في الكافي في باب جوامع التوحيد وفي البحار في الصفحة 265 من الجزء الرابع من الطبعة الحديثة وفي نسخة ( ط ) و ( ن ) ( ولم يوصف بأين ولا بما ولا بمكان ) أي ليست له ماهية وراء حقيقة الوجود حتى يسأل بما هو ويجاب بما هو ، والمراد بها الماهية بالمعنى الأخص المقابل للوجود ، وأما الماهية بالمعنى الأعم فلا شيء بدونها كما أثبتها له الإمام الصادق عليه السلام في جواب السائل بقوله : ( لا يثبت الشيء الابانية ومائية ) في الحديث الأول من الباب السادس والثلاثين .

    التوحيد _ 32 _

       خلقه من علامات التدبير ، الذي سئلت الأنبياء عنه فلم تصفه بحد ولا بنقص (1) بل وصفته بأفعاله ، ودلت عليه بآياته (2) ولا تستطيع عقول المتفكرين جحده ، لأن من كانت السماوات والأرض فطرته وما فيهن وما بينهن وهو الصانع لهن ، فلا مدفع لقدرته (3) الذي بان من الخلق فلا شيء كمثله ، الذي خلق الخلق لعبادته (4) وأقدرهم على طاعته بما جعل فيهم ، وقطع عذرهم بالحجج ، فعن بينة هلك من هلك وعن بينة نجا من نجا ، ولله الفضل مبدئا ومعيدا .
       ثم إن الله وله الحمد افتتح الكتاب بالحمد لنفسه ، وختم أمر الدنيا ومجيء

    ---------------------------
    (1) الظاهر أن المراد بالحد والنقص ما هو اصطلح عليه أهل الميزان في باب الحد والرسم ، ويحتمل أن يكون المراد بالحد التحدد بالحدود الجسمانية وغيرها وبالنقص الأوصاف الموجبة للنقص ، وفي نسخة ( ج ) ( ولا ببعض ) أي التركب والتبعض ، وكل ذلك منفى عنه تعالى لا يوصف به .
    (2) كما قال الخليل : ( رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ ).
       وقال الكليم في جواب فرعون حيث قال : ( وما رب العالمين : رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُم مُّوقِنِين ) وقال المسيح : ( إِنَّ اللّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ ) وكما قال رسول الله صلى الله عليه وآله بلسان الوحي في القرآن من آيات كثيرة في ذلك ، وأبلغ ما أجيب في هذا المقام ما قاله الإمام الصادق عليه السلام في جواب الزنديق الذي سأله عنه : ( هو شيء بخلاف الأشياء ارجع بقولي شيء إلى إثبات معنى وأنه شيء بحقيقة الشيئية ) ويأتي هذا في الحديث الأول من الباب السادس والثلاثين.
    (3) المراد به الاعتقادي الذي يرجع إلى معنى الجحد والانكار ، أي فلا منكر لقدرته مع ظهور آثارها في السماوات والأرض ، أو الدفع الفعلي ، أي لا يمانعه ولا يدافعه أحد في قدرته لأن كل ما سواه مفطور مخلوق له ، والأول أنسب بما قبله ، وفي نسخة ( ط ) و ( ن ) ( فلا مدافع لقدرته ).
    (4) ليست العبادة الغاية النهائية بل هي غاية قريبة ، والنهائية هي ما تترتب على العبادة وهي القرار في جوار رحمته تعالى على ما نطق به التنزيل حيث قال تعالى :
      ( إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ) على ما فسرت الآية في الحديث العاشر من الباب الثاني والستين.

    التوحيد _ 33 _

       الآخرة بالحمد لنفسه ، فقال : ( وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين ) (1).
       الحمد لله اللابس الكبرياء بلا تجسد ، والمرتدي بالجلال بلا تمثل ، والمستوي على العرش بلا زوال ، والمتعالي عن الخلق بلا تباعد منهم ، القريب منهم بلا ملامسة منه لهم ، ليس له حد ينتهي إلى حده ، ولا له مثل فيعرف بمثله ، ذل من تجبر غيره ، وصغر من تكبر دونه ، وتواضعت الأشياء لعظمته ، وانقادت لسلطانه و عزته ، وكلت عن إدراكه طروف العيون ، وقصرت دون بلوغ صفته أوهام الخلائق ، الأول قبل كل شيء والآخر بعد كل شيء ، ولا يعد له شيء ، الظاهر على كل شيء بالقهر له ، والمشاهد لجميع الأماكن بلا انتقال إليها ، ولا تلمسه لامسة ولا تحسه حاسة ، وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله ، وهو الحكيم العليم ، أتقن ما أراد خلقه من الأشياء كلها بلا مثال سبق إليه ، ولا لغوب دخل عليه في خلق ما خلق لديه ، ابتدأ ما أراد ابتداءه ، وأنشأ ما أراد إنشاءه على ما أراده من الثقلين الجن والإنس لتعرف بذلك ربوبيته ، وتمكن فيهم طواعيته .
       نحمده بجميع محامده كلها على جميع نعمائه كلها ، ونستهديه لمراشد أمورنا ونعوذ به من سيئات أعمالنا ، ونستغفره للذنوب التي سلفت منا ، ونشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله ، بعثه بالحق دالا عليه وهاديا إليه ، فهدانا به من الضلالة ، واستنقذنا به من الجهالة ، من يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما ، ونال ثوابا كريما ، ومن يعص الله ورسوله فقد خسر خسرانا مبينا ، واستحق عذابا أليما ، فانجعوا (2) بما يحق عليكم من السمع والطاعة وإخلاص النصحية وحسن المؤازرة وأعينوا أنفسكم بلزوم الطريقة المستقيمة ، وهجر الأمور المكروهة ، وتعاطوا

    ---------------------------
    (1) الزمر : 75.
    (2) الانجاع : الافلاح ، أو هو ثلاثي من النجعة بمعنى طلب الكلاء من موضعه ، أي فاطلبوا بذلك ما ينفعكم لتعيش الآخرة كما ينفع الكلاء لتعيش الدنيا.

    التوحيد _ 34 _

       الحق بينكم ، وتعانوا عليه ، وخذوا على يدي الظالم السفيه ، مروا بالمعروف ، وانهو عن المنكر ، واعرفوا لذوي الفضل فضلهم ، عصمنا الله وإياكم بالهدي ، و ثبتنا وإياكم على التقوى ، وأستغفر الله لي ولكم .
      2 ـ حدثنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رضي الله عنه ، قال : حدثنا محمد بن عمر والكاتب ، عن محمد بن زياد القلزمي (1) ، عن محمد بن أبي زياد الجدي صاحب الصلاة بجدة ، قال : حدثني محمد بن يحيى بن عمر بن علي بن أبي طالب عليه السلام قال : سمعت أبا الحسن الرضا عليه السلام يتكلم بهذا الكلام عند المأمون في التوحيد ، قال ابن أبي زياد : ورواه لي أيضا أحمد بن عبد الله العلوي مولى لهم وخالا (*) لبعضهم عن القاسم بن أيوب العلوي أن المأمون لما أراد أن يستعمل الرضا عليه السلام على هذا الأمر جمع بني هاشم فقال : إني أريد أن أستعمل الرضا على هذا الأمر من بعدي ، فحسده بنو هاشم ، وقالوا : أتولي رجلا جاهلا ليس له بصر (2) بتدبير الخلافة ؟! فابعث إليه رجلا يأتنا فترى من جهله ما يستدل به عليه ، فبعث إليه فأتاه ، فقال له بنو هاشم : يا أبا الحسن اصعد المنبر وانصب لنا علما (3) نعبد الله عليه ، فصعد عليه السلام المنبر ، فقعد مليا لا يتكلم مطرقا ، ثم انتفض انتفاضة (4)، واستوى قائما ، وحمد الله وأثنى عليه ، وصلى على نبيه وأهل بيته .
        ثم قال : أول عبادة الله معرفته ، وأصل معرفة الله توحيده ، ونظام توحيد ـ

    ---------------------------
    (1) في نسخة ( ب ) و ( و ) وحاشية ( ط ) ( محمد بن زياد القلمزي ) بتقديم الميم على الزاي ، وفي ( د ) ( العلوي ) وفي ( ج ) ( العامري ) وفي عيون أخبار الرضا عليه السلام ( القلوني ) و في نسخة منه ( العرزمي ) ولم أجده، * ـ كذا.
    (2) وهكذا في العيون وفي نسخة ( ب ) و ( و ) و ( د ) ( ليس له بصيرة ).
    (3) بالفتحتين ، ويحتمل كسر الأول وسكون الثاني.
    (4) نفض الثوب : حركة لينتفض ، ونفض المكان نظر جميع ما فيه حتى يتعرفه ، و نفض الطريق تتبعها .

    التوحيد _ 35 _

       الله تفي الصفات عنه (1) لشهادة العقول أن كل صفة وموصوف مخلوق (2) وشهادة كل مخلوق أن له خالقا ليس بصفة ولا موصوف ، وشهادة كل صفة وموصوف بالاقتران ، وشهادة الاقتران بالحدث ، وشهادة الحدث بالامتناع من الأزل الممتنع من الحدث ، فليس الله عرف من عرف بالتشبيه ذاته ، ولا إياه وحده من اكتنهه (3) ولا حقيقة أصاب من مثله ، ولا به صدق من نهاه (4) ولا صمد صمده من أشار إليه (5) ولا إياه عنى من شبهه ، ولا له تذلل من بعضه ، ولا إياه أراد من توهمه ، كل معروف بنفسه مصنوع (6) وكل قائم في سواه معلول ، بصنع الله يستدل عليه و بالعقول يعتقد معرفته ، وبالفطرة تثبت حجته (7).
       خلق الله حجاب بينه

    ---------------------------
    (1) هذا الكلام كثير الدور في الكلمات أئمتنا سلام الله عليهم ، والمراد به أنه تعالى ليس له صفة مغايرة لذاته بالحقيقة بل ذاته المتعالية نفس كل صفة ذاتية كما يأتي التصريح به في بعض الأخبار في باب العلم وباب صفات الذات خلافا للأشاعرة حيث قالوا : ( إن كل مفهوم من مفاهيم الصفات الذاتية كالعلم والقدرة له حقيقة مغايرة لحقيقة الذات ) ، وفي بعض كلماتهم عليهم السلام يمكن تفسير نفي الصفات بنفي الوصف كما نزه نفسه تعالى في الكتاب عن وصف الواصفين.
    (2) أي كل مركب من الصفة والموصوف.
    (3) الاكتناه طلب الكنه ، فإن من طلب كنهه تعالى لم يوحده بل جعله مثلا للممكنات التي يمكن اكتناهها.
    (4) التنهية جعل الشيء ذا نهاية بحسب الاعتقاد أو الخارج.
    (5) أي لا قصد نحوه ولم يتوجه إليه بل توجه إلى موجود آخر لأنه أينما تولوا فثم وجه الله ، فليس له جهة خاصة حتى يشار إليه في تلك الجهة.
    (6) أي كل ما عرف بذاته وتصور ماهيته فهو مصنوع ، وهذا لا ينافي قول أمير المؤمنين عليه السلام : ( يا من دل على ذاته بذاته ) ولا قول الصادق عليه السلام : ( اعرفوا الله بالله ) لأن معنى ذلك أنه ليس في الوجود سبب لمعرفة الله تعالى إلا الله لأن الكل ينتهي إليه ، فالباء هنا للالصاق و المصاحبة أي كل معروف بلصوق ذاته ومائيته ومصاحبتها لذات العارف بحيث أحاط به إدراكا فهو مصنوع ، وهنالك للسببية.
    (7) أي لولا الفطرة التي فطر الناس عليها لم تنفع دلالة الأدلة وحجية الحجج.

    التوحيد _ 36 _

       وبينهم (1) ومباينته إياهم مفارقته إنيتهم ، وابتداؤه إياهم دليلهم على أن لا ابتداء له لعجز كل مبتدء عن ابتداء غيره ، وأدوه إياهم دليل على أن لا أداة فيه لشهادة الأدوات بفاقة المتأدين (2) وأسماؤه تعبير ، وأفعاله تفهيم ، وذاته حقيقة ، وكنهه تفريق بينه وبين خلقه ، وغبوره تحديد لما سواه (3) فقد جهل الله من استوصفه ، وقد تعداه من اشتمله (4) وقد أخطأه من اكتنهه ، ومن قال : كيف فقد شبهه ، و من قال : لم فقد علله ، ومن قال : متى فقد وقته ، ومن قال : فيم فقد ضمنه ، ومن قال : إلى م فقد نهاه ، ومن قال .
       حتى م فقد غياه (5) ومن غياه فقد غاياه ، ومن

    ---------------------------
    (1) ( خلق الله ) على صيغة المصدر مبتدء مضاف إلى فاعله والخلق مفعوله ، وحجاب خبر له .
       وفي نسخة ( ب ) و ( و ) و ( د ) ( خلقة الله ـ الخ ) ، والكلام في الحجاب بينه وبين خلقه طويل عريض عميق لا يسعه التعليق وفي كثير من أحاديث هذا الكتاب مذكور ببيانات مختلفة فليراجع .
    (2) آدوه على وزان فلس مصدر جعلى من الأداة مضاف إليه تعالى ، أي جعله إياهم ذوي أدوات وآلات في إدراكاتهم وأفعالهم ، وكذا أدوته بزيادة التاء في نسخة ( و ) و ( د ) و ( ب ) و ( ج ).
       والمتأدين أيضا من هذه المادة جمع لاسم الفاعل من باب التفعل أي من يستعمل الأدوات في أموره ، وأما ادواؤه على صيغة المصدر من باب الأفعال كما في نسخة ( ط ) و ( ن ) وكذا ( المادين ) على صيغة اسم الفاعل من مد يمد كما في نسخة ( ج ) و ( ط ) و ( ن ) فخطأ من النساخ لعدم توافق المادة في الموضوعين وعدم تناسب المعنى.
       وفي العيون ( وادواؤه إياهم دليلهم على أن لا أداة فيه لشهادة الأدوات بفاقة المؤدين ) وهكذا في تحف العقول في خطبة لأمير المؤمنين عليه السلام إلا أن فيه ( وايداؤه إياهم شاهد على أن لا أداة فيه ).
    (3) بالباء الموحدة مصدر بمعنى البقاء أي بقاؤه الملازم لعدم محدوديته محدد لما سواه ، وفي نسخة ( ج ) و ( ط ) و ( و ) بالياء المثناة وعلى هذا فهو مصدر بمعنى المغايرة لا جمع الغير ، وفي نسخة ( د ) و ( ب ) ( وغبوره تجديد لما سواه ) بالجيم أي قدمه يوجب حدوث ما سواه .
    (4) الاشتمال هو الإحاطة ، أي من أحاط بشيء تصور أو توهم إنه الله تعالى فقد تجاوز عن مطلوبه ، وفي نسخة ( ب ) و ( د ) ( أشمله ) من باب الأفعال.
    (5) أي من توهم إنه تعالى ذو نهايات وسأل عن حدوده ونهاياته فقد جعل له غايات ينتهي إليها ، ومن جعل له غايات فقد جعل المغاياة بينه وبين غيره بجعل الحد المشترك بينهما ، ومن جعله كذلك فقد جعله ذا أجزاء ، ومن توهمه كذلك فقد وصفه بصفة المخلوق ومن وصفه بها فقد ألحد فيه ، والالحاد هو الطعن في أمر من أمور الدين بالقول المخالف للحق المستلزم للكفر .

    التوحيد _ 37 _

       غاياه فقد جزأه ، ومن جزأه فقد وصفه ، ومن وصفه فقد ألحد فيه ، لا يتغير الله بانغيار المخلوق ، كما لا يتحدد بتحديد المحدود ، أحد لا بتأويل عدد ، ظاهر لا بتأويل المباشرة ، متجل لا باستهلال رؤية ، باطن لا بمزايلة ، مبائن لا بمسافة ، قريب لا بمداناة ، لطيف لا بتجسم ، موجود لا بعد عدم ، فاعل لا باضطرار ، مقدر لا بحول فكرة (1) مدبر لا بحركة ، مريد لا بهمامة ، شاء لا بهمة ، مدرك لا بمجسة (2) سميع لا بآلة ، بصير لا بأداة .
       لا تصحبه الأوقات ، ولا تضمنه الأماكن ، ولا تأخذه السنات (3) ولا تحده الصفات ، ولا تقيده الأدوات (4) سبق الأوقات كونه. والعدم وجوده ، والابتداء أزاله ، بتشعيره المشاعر عرف أن لا مشعر له (5) وبتجهيره الجواهر عرف أن لا جوهر له ، وبمضادته بين الأشياء عرف أن لا ضد له ، وبمقارنته بين الأمور عرف أن لا قرين له ضاد النور بالظلمة ، والجلاية بالبهم ، والجسو بالبلل (6) ، والصرد بالحرور ، مؤلف بين متعادياتها ، مفرق بين متدانياتها ، دالة بتفريقها على مفرقها ، وبتأليفها على مؤلفها ، ذلك قوله عزوجل : ( ومن كل شيء خلقنا زوجين

    ---------------------------
    (1) أي بقوة الفكرة ، وفي نسخة ( د ) و ( ن ) بالجيم.
    (2) المجسة : آلة الجس.
    (3) جمع السنة وهي النعاس ، وفي حاشية نسخة ( ب ) و ( د ) ( السبات ) بالباء الموحدة : على وزان الغراب وهو النوم ، أو أوله أو الراحة من الحركات فيه .
    (4) في نسخة ( ط ) ( ولا تفيده الأدوات ) من الإفادة.
    (5) لعلو الصانع عن مرتبة ذات المصنوع وكذا فيما يشابه هذه من الفقرات الآتية.
    (6) جسا يجسو جسوا : يبس وصلب.

    التوحيد _ 38 _

       لعلكم تذكرون ) (1) ففرق بها بين قبل وبعد ليعلم أن لا قبل له ولا بعد ، شاهدة بغرائزها أن لا غريزة لمغرزها ، دالة بتفاوتها أن لا تفاوت لمفاوتها (2) ، مخبرة بتوقيتها أن لا وقت لموقتها ، حجب بعضها عن بعض ليعلم أن لا حجاب بينه وبينها غيرها (3) له معنى الربوبية إذ لا مربوب (4) وحقيقة الإلهية إذ لا مألوه (5) ومعنى العالم ولا معلوم ، ومعنى الخالق ولا مخلوق ، وتأويل السمع ولا مسموع (6) ليس منذ خلق استحق معنى الخالق ، ولا باحداثه البرايا استفاد معنى البارئية (6) كيف (7) ولا تغيبه مذ ، ولا تدنيه قد ، ولا تحجبه لعل ، ولا توقته متى ، ولا تشمله حين ،

    ---------------------------
    (1) الذاريات : 49 ، والآية إما استشهاد للمضادة فالمعنى : ومن كل شيء خلقنا ضدين كالأمثلة المذكورة بخلافه تعالى فإنه لا ضد له ، أو استشهاد للمقارنة فالمعنى : ومن كل شيء خلقنا قرينين فإن كل شيء له قرين من سنخه أو مما يناسبه بخلاف الحق تعالى ، والأول أظهر بحسب الكلام هنا ، والثاني أولى بحسب الآيات المذكور فيها لفظ الزوجين.
    (2) إثبات التفاوت هنا لا ينافي قوله تعالى : ( ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت ) لأن ما في الآية بمعنى عدم التناسب.
    (3) في نسخة ( ط ) و ( ن ) وفي البحار : ( من غيرها ). (4) كل كلام نظير هذا على كثرتها في أحاديث أئمتنا سلام الله عليهم يرجع معناه إلى أن كل صفة كمالية في الوجود ثابتة له تعالى بذاته ، لا أنها حاصلة له من غيره ، وهذا مفاد قاعدة ( أن الواجب الوجود لذاته واجب لذاته من جميع الوجوه ).
    (5) الإلهية إن أخذت بمعنى العبادة فالله مألوه والعبد آله متأله ، وأما بمعنى ملك التأثير والتصرف خلقا وأمرا كما هنا وفي كثير من الأحاديث فهو تعالى إله والعبد مألوه ، وعلى هذا فسر الإمام عليه السلام ( الله ) في الحديث الرابع من الباب الحادي والثلاثين.
    (6) إنما غير أسلوب الكلام وقال : ( وتأويل السمع ) إذ ليس له السمع الذي لنا بل سمعه يؤول إلى علمه بالمسموعات ، وفي نسخة ( ب ) و ( ج ) كلمة إذ في الفقرات الثلاثة الأخيرة مكان الواو أيضا.
    (6) في أكثر النسخ ( البرائية ) وفي نسخة ( ن ) والبحار ( البارئية ) كما في المتن.
    (7) أي كيف لا يستحق معنى الخالق والبارئ قبل الخلق والحال أنه لا تغيبه مذ التي هي لابتداء الزمان عن فعله أي لا يكون فعله وخلقه متوقفا على زمان حتى يكون غائبا عن فعله بسبب عدم الوصول بذلك الزمان منتظرا لحضور ابتدائه ، ولا تقربه قد التي هي لتقريب زمان الفعل فلا يقال : قد قرب وقت فعله لأنه لا ينتظر وقتا ليفعل فيه بل كل الأوقات سواء النسبة إليه ، ولا تحجبه عن مراده لعل التي هي للترجي أي لا يترجى شيئا لشيء مراد له له بل ( إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ) ولا توقته في مبادى أفعاله ( متى ) أي لا يقال : متى علم ، متى قدر ، متى ملك لأن له صفات كما له ومبادي أفعاله لذاته من ذاته أزلا كأزلية وجوده ، ولا تشمله ولا تحدده ذاتا وصفه وفعلا ( حين ) لأنه فاعل الزمان ، ولا تقارنه بشيء ( مع ) أي ليس معه شيء ولا في مرتبته شيء في شيء ، ومن كان كذلك فهو خالق بارئ قبل الخلق لعدم تقيد خلقه وإيجاده بشيء غيره ، فصح أن يقال : له معنى الخالق إذ لا مخلوق ، وفي نسخة ( ج ) يغيبه وما بعدها من الأفعال بصيغة التذكير.

    التوحيد _ 39 _

       ولا تقارنه مع ، إنما تحد الأدوات أنفسها ، وتشير الآلة إلى نظائرها (1) وفي الأشياء يوجد فعالها (2) منعتها منذ القدمة ، وحمتها قد الأزلية ، وجبتها لولا التكملة (3) افترقت فدلت على مفرقها ، وتباينت فأعربت من مباينها لما تجلى صانعها للعقول (4)

    ---------------------------
    (1) أي إنما يتقيد في الفعل والتأثير بالأدوات أمثالها في المحدودية والجسمانية ، و لا يبعد أن يكون ( تحد ) على صيغة المجهول فلا يفسر أنفسها بأمثالها ، وإشارة الآلة كناية عن التناسب أي تناسب الآلة نظائرها وأمثالها في المادية والجسمانية والمحدودية .
    (2) أي في الأشياء الممكنة توجد تأثيرات الآلات والأدوات ، وأما الحق تعالى فمنزه عن ذلك كله .
    (3) منذ وقد ولولا فواعل للأفعال الثلاثة والضمائر مفاعيل أولى لها والقدمة والأزلية والتكملة مفاعيل ثواني ، والمعنى أن اتصاف الأشياء بمعاني منذ وقد ولولا وتقيدها بها يمنعها عن الاتصاف بالقدم والأزلية والكمال في ذاتها فإن القديم الكامل في ذاته لا يتقيد بها ، والأظهر أن الضمائر المؤنثة من قوله : منعتها إلى قوله : عرفها الاقرار ترجع إلى الأشياء.
    (4) لما تجلى متعلق بدلت وأعربت ، و ( ما ) مصدرية ، وفي البحار وفي هامش نسخة ( و ) ( بها تجلى صانعها للعقول ) فجملة مستقلة.

    التوحيد _ 40 _

       وبها احتجب عن الرؤية ، وإليها تحاكم الأوهام ، وفيها أثبت غيره (1) ومنها أنيط الدليل (2) وبها عرفها الاقرار ، وبالعقول يعتقد التصديق بالله ، وبالاقرار يكمل الإيمان به ، ولا ديانة إلا بعد المعرفة ولا معرفة إلا بالاخلاص ، ولا إخلاص مع التشبيه ، ولا نفي مع إثبات الصفات للتشبيه (3) فكل ما في الخلق لا يوجد في خالقه ، وكل ما يمكن فيه يمتنع من صانعه ، لا تجري عليه الحركة والسكون ، وكيف يجري عليه ما هو أجراه ، أو يعود إليه ما هو ابتدأه (4) إذا لتفاوتت ذاته ، ولتجز أكنهه ، ولامتنع من الأزل معناه ، ولما كان للبارئ معنى غير المبروء ، و لوحد له وراء إذا حد له أمام ، ولو التمس له التمام إذا لزمه النقصان ، كيف يستحق الأزل من لا يمتنع من الحدث ، وكيف ينشئ الأشياء من لا يمتنع من الانشاء ، إذا لقامت فيه آية المصنوع ، ولتحول دليلا بعد ما كان مدلولا عليه ، ليس في محال القول حجة (5) ولا في المسألة عنه جواب ، ولا في معناه له تعظيم ، ولا في إبانته عن الخلق ضيم ، إلا بامتناع الأزلي أن يثنى وما لا بدأ له أن يبدأ (6) ، لا إله إلا الله

    ---------------------------
    (1) غيره بفتح الأول وسكون الثاني مصدر بمعنى التغير أي في الأشياء أثبت التغير والاختلاف من عنده تعالى بحسب حدودها الامكانية وباعتبارها ، وأما لولا اعتبار الحدود ففيضه الفائض على الأشياء ورحمته الواسعة كل شيء وتوحيده الساري على هياكل الممكنات واحد ، ويمكن أن يقرأ بكسر الأول وفتح الثاني بمعنى الأحداث المغيرة لأحوال الشيء أي في الأشياء أثبت ذلك ، وفي نسخة ( ج ) ( عزه ) بالعين والزاي المشددة.
    (2) أنيط بالنون والياء المثناة مجهول أناط بمعنى علق ووصل أي من الأشياء يوصل بالدليل عليه ، وفي نسخة ( ب ) و ( د ) و ( ط ) بالنون والباء الموحدة أي من الأشياء انبط و أخرج الدليل عليه وعلى صفاته .
    (3) أي لا نفي لتشبيهه تعالى بالمخلوق مع إثبات الصفات الزائدة له .
    (4) في نسخة ( ط ) وفي البحار ( أو يعود فيه ـ الخ ).
    (5) من إضافة الصفة إلى الموصوف ، والقول المحال هو القول المخالف للحق الواقع.
    (6) أي ليس في القول بأنه تعالى بائن عن خلقه في ذاته وصفاته وأفعاله ظلم وافتراء إلا أن القديم الأزلي يمتنع عن التركب والأثنينية وأن الذي لا أول له يمتنع أن يكون مبدوءا مخلوقا ، وهذا من قبيل تأكيد المدح بما يشبه الذم كما في قول النابغة الذبياني.
       ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب وفي نسخة ( د ) و ( ب ) ( ولا بامتناع الأزلي أن يثنى ) وهو عطف على ما قبله ، أي و ليس في امتناع الأزلي من الاثنينية وامتناع ما لا بدء له من الابتداء ضيم ، وفي نسخة ( ن ) و ( و ) و ( ج ) ( ولا بامتناع الأزلي أن ينشأ ).

    التوحيد _ 41 _

       العلي العظيم ، كذب العادلون بالله ، وضلوا ضلالا بعيدا ، وخسروا خسرانا مبينا ، وصلى الله على محمد النبي وآله الطيبين الطاهرين.
      3 ـ حدثنا علي بن أحمد بن أحمد بن محمد بن عمران الدقاق ـ رحمه الله ـ قال : حدثنا محمد بن أبي عبد الله الكوفي ، وأحمد بن يحيى بن زكريا القطان ، عن بكر بن عبد الله ابن حبيب ، عن تميم بن بهلول ، عن أبيه ، عن أبي معاوية ، عن الحصين بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن أبي عبد الله ، عن أبيه ، عن جده عليهم السلام ، أن أمير المؤمنين عليه السلام استنهض الناس في حرب معاوية في حرب معاوية في المرة الثانية فلما حشد الناس قام خطيبا فقال : الحمد لله الواحد الأحد الصمد المتفرد ، الذي لا من شيء كان ، ولا من شيء خلق ما كان ، قدرته (1) بان بها من الأشياء ، وبانت الأشياء منه ، فليست له

    ---------------------------
    (1) في الكافي : ( قدرة ) بلا إضافة إلى ضميره أي له قدرة أو هو بذاته قدرة ، وقرأ المولى صدرا الشيرازي في شرحه للكافي بالفاء الموحدة المكسورة وجعلها اسما لكان وجعل ما الداخلة عليها نافية ، والقدرة في اللغة بمعنى القطعة من الشيء ، ومعنى الكلام على هذا :
       ما كان له تعالى قدرة وجزء بها امتاز عن الأشياء وامتازت الأشياء منه كما هو الشأن في الأشياء المشتركة في تمام الحقيقة أو في بعض الحقيقة إذ ليس له ما به الاشتراك في الحقيقة مع غيره لأنه وجود بحت ونور صرف وغيره ماهيات عرضها الوجود فليست له صفة تنال و لا حد يضرب له الأمثال ، وهذا أقرب من جهة التفريع ومن جهة أن القدرة ليست لها خصوصية بها يحصل الامتياز والبينونة له تعالى عن غيره دون سائر الصفات ، بل هو تعالى ممتاز من غيره بذاته التي كل من صفاتها عينها.

    التوحيد _ 42 _

       صفة تنال ، ولا حد يضرب له الأمثال ، كل دون صفاته تعبير اللغات (1) وضل هنالك تصاريف الصفات ، وحار في ملكوته عميقات مذاهب التفكير ، وانقطع دون الرسوخ في علمه جوامع التفسير ، وحال دون غيبه المكنون حجب من الغيوب ، وتاهت في أدني أدانيها طامحات العقول في لطيفات الأمور (2) فتبارك الله الذي لا يبلغه بعد الهمم ، ولا يناله غوص الفطن ، وتعالى الله الذي ليس له وقت معدود ، ولا أجل ممدود ، ولا نعت محدود ، وسبحان الذي ليس له أول مبتدء ، ولا غاية منتهى ، ولا آخر يفنى ، سبحانه ، هو كما وصف نفسه ، والواصفون لا يبلغون نعته ، حد الأشياء كلها عند خلقه إياها إبانة لها من شبهه وإبانة له من شبهها ، فلم يحلل فيها فيقال : هو فيها كائن (3) ولم ينأ عنها فيقال : هو منها بائن ، ولم يخل منها فيقال له : أين ، لكنه سبحانه أحاط بها علمه ، وأتقنها صنعه ، وأحصاها حفظه ، لم يعزب عنه خفيات غيوب الهوى (4) لا غوامض مكنون ظلم الدجى ، ولا ما في السماوات العلى والأرضين السفلى ، لكل شيء منها حافظ ورقيب ، وكل شيء منها بشيء محيط (5) والمحيط بما أحاط منها الله الواحد الأحد الصمد الذي لم تغيره صروف الأزمان ولم يتكاده

    ---------------------------
    (1) في نسخة ( ج ) و ( و ) ( تحبير اللغات ).
    (2) أي تحيرت في أدنى أداني الحجب العقول الطامحة المرتفعة في الأمور اللطيفة و العلوم الدقيقة.
    (3) فلم يحلل فيها بالحلول المكيف كحلول بعض الأشياء في بعض ، فلا ينافي قوله صلوات الله عليه : ( داخل في الأشياء لا بالكيفية ).
       وفي موضع آخر : ( داخل في الأشياء لا كدخول شيء في شيء )، في موضع آخر : ( داخل في الأشياء لا بالممازجة .
    (4) أي لم يعزب عنه خفيات الأهواء الغائبة عن الادراك في صدور العالمين فإنه عليم بذات الصدور ، وفي الكافي ( غيوب الهواء ) بالمد وهو الجو المحيط والذي فيه مما يستنشقه الحيوان.
    (5) إحاطة التأثير والعلية لا الجسمية كما هو مقتضى وحده السياق لأن إحاطة الحق تعالى بالمحيط بالكل ليست جسمية ، وضمير منها محتمل الرجوع إلى الأشياء وإلى السماوات والأرضين.

    التوحيد _ 43 _

       صنع شيء كان ، إنما قال لما شاء أن يكون : كن فكان ، ابتدع ما خلق بلا مثال سبق ، ولا تعب ولا نصب ، وكل صانع شيء فمن شيء صنع ، والله لا من شيء صنع ما خلق ، وكل عالم فمن بعد جهل تعلم ، والله لم يجهل ولم يتعلم ، أحاط بالأشياء علما قبل كونها فلم يزدد بكونها علما ، علمه بها قبل أن يكونها كعلمه بعد تكوينها ، لم يكونها لشدة سلطان ، ولا خوف من زوال ولا نقصان ، ولا استعانة على ضد مثاور (1) ولا ند مكاثر ، ولا شريك مكائد (2) لكن خلائق مربوبون ، وعباد داخرون ، فسبحان الذي لا يؤده خلق ما ابتدأ ، ولا تدبير ما برأ ، ولا من عجز ولا من فترة بما خلق اكتفى ، علم ما خلق وخلق ما علم لا بالتفكر ، ولا بعلم حادث أصاب ما خلق ، ولا شبهة دخلت عليه فيما لم يخلق ، لكن قضاء مبرم ، وعلم محكم ، وأمر متقن ، توحد بالربوبية ، وخص نفسه بالوحدانية ، واستخلص المجد والثناء ، فتمجد بالتمجيد ، وتحمد بالتحميد ، وعلا عن اتخاذ الأبناء ، وتطهر وتقدس عن ملامسة النساء (3) وعزوجل عن مجاورة الشركاء ، فليس له فيما خلق ضد ، ولا فيما ملك ند ، ولم يشرك في ملكه أحد (4) الواحد الأحد الصمد المبيد للأبد ، و الوارث ، للأمد (5) الذي لم يزل ولا يزال وحدانيا أزليا قبل بدء الدهور وبعد

    ---------------------------
    (1) المثاورة من الثورة ، وفي البحار بالسين وهو بمعناه ، وفي نسخة ( د ) ( مشارد ) والمشاردة بمعنى المطاردة ، وفي نسخة ( ط ) و ( ن ) « مشاور » بالشين المعجمة وهو من خطأ النساخ ، وفي الكافي « ضد مناو » أي معاد .
    (2) في نسخة ( ب ) و ( ن ) « شريك مكابد » بالباء الموحدة والدال ، وفي الكافي « مكابر » بالباء الموحدة والراء .
    (3) في نسخة ( ب ) و ( د ) « عن ملابسة النساء » وهو مأخوذ من الآية الكنائية.
    (4) في نسخة ( ب ) « ولم يشرك في حكمه أحد » .
    (5) أي المهلك المفني للأبد والدهر فإن الدهر والزمان ليس في جنب أزليته وسرمديته إلا كان .
       وهو الوارث الباقي بعد فناء الغايات ووصول النهايات ، وفي نسخة ( ج ) « المؤبد للأبد » وفي نسخة ( ط ) و ( ن ) ليس الأبد والأمد مصدرين بلام التقوية ، وقوله : « الذي ـ إلى قوله : ـ صرف الأمور » تفسير لهذا الذي قبله .

    التوحيد _ 44 _

       صرف الأمور ، الذي لا يبيد ولا يفقد (1) بذلك أصف ربي ، فلا إله إلا الله من عظيم ما أعظمه ، وجليل ما أجله ، وعزيز ما أعزه ، وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا .
       وحدثنا بهذه الخطبة أحمد بن محمد بن الصقر الصائغ ، قال : حدثنا محمد بن العباس بن بسام ، قال : حدثني أبو زيد سعيد بن محمد البصري ، قال : حدثتني عمرة بنت أوس (2) قالت : حدثني جدي الحصين بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن أبي ـ عبد الله جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جده عليهم السلام ، أن أمير المؤمنين عليه السلام خطب بهذه الخطبة لما استنهض الناس في حرب معاوية في المرة الثانية.
      4 ـ حدثنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رضي الله عنه ، قال : حدثنا محمد ابن الحسن الصفار ، وسعد بن عبد الله جميعا ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، والهيثم بن أبي مسروق النهدي ، ومحمد بن الحسين بن أبي الخطاب كلهم ، عن الحسن بن محبوب ، عن عمرو بن أبي المقدام ، عن إسحاق بن غالب ، عن أبي عبد الله ، عن أبيه عليهما السلام ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله في بعض خطبه :
       الحمد لله الذي كان في أوليته وحدانيا ، وفي أزليته متعظما بالإلهية ، متكبرا بكبريائه وجبروته (3) ابتدأ ما ابتدع ، وأنشأ ما خلق على غير مثال كان سبق بشيء مما خلق ، ربنا القديم بلط ف ربوبيته وبعلم خبره فتق (4) وبإحكام قدرته خلق جميع ما خلق ، وبنور الاصباح فلق ، فلا مبدل لخلقه ، ولا مغير لصنعه ، ولا معقب لحكمه ، ولا راد لأمره ، ولا مستراح عن دعوته (5) ولا زوال لملكه ،

    ---------------------------
    (1) في الكافي ( الذي لا يبيد ولا ينفد ).
    (2) في نسخة ( ط ) و ( ن ) ( بنت أويس ).
    (3) أي وكان في أزليته متعظما بالإلهية ، متكبرا بكبريائه وجبروته ، ولا يبعد عطف في أزليته على في أوليته وكون متعظما خبرا بعد خبر وكذا متكبرا .
    (4) في نسخة ( ب ) و ( و ) ( وبعلم جبره فتق ) بالجيم أي بعلمه الجبروتي الفعلي المتقدم على فتق الأمور وتقديرها.
    (5) مصدر ميمي أو اسم مكان وزمان ، وفي نسخة ( ب ) و ( ج ) ( ولا مستزاح من دعوته ) بالزاي المعجمة والاستزاحة استفعال من الرواح بمعنى الذهاب.

    التوحيد _ 45 _

       ولا انقطاع لمدته ، وهو الكينون أولا (1) والديموم أبدا ، المحتجب بنوره دون خلقه في الأفق الطامح ، والعز الشامخ والملك الباذخ ، فوق كل شيء علا ، و من كل شيء دنا ، فتجلى لخلقه من غير أن يكون يرى .
       وهو بالمنظر الأعلى ، فأحب الاختصاص بالتوحيد إذ احتجب بنوره ، وسما في علوه ، واستتر عن خلقه ، و بعث إليهم الرسل لتكون له الحجة البالغة على خلقه ويكون رسله إليهم شهداء عليهم ، وابتعث فيهم النبيين مبشرين ومنذرين ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة ، وليعقل العباد عن ربهم ما جهلوه فيعرفوه بربوبيته ، بعد ما أنكروا ويوحدوه بالإلهية بعد ما عضدوا (2).
      5 ـ حدثنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رضي الله عنه ، قال : حدثنا محمد بن يحيى العطار ، وأحمد بن إدريس جميعا ، قالا : حدثنا محمد بن أحمد بن يحيى ، عن بعض أصحابنا رفعه ، قال : جاء رجل إلى الحسن بن علي عليهما السلام فقال له : يا ابن رسول الله صف لي ربك حتى كأني أنظر إليه ، فأطرق الحسن بن علي عليهما السلام مليا ، ثم رفع رأسه ، فقال : الحمد لله الذي لم يكن له أول معلوم (3) ولا آخر متناه ، ولا قبل مدرك ، ولا بعد محدود ، ولا أمد بحتى (4) ولا شخص فيتجزأ ، ولا اختلاف صفة فيتناهى (5) فلا تدرك العقول وأوهامها ، ولا الفكر وخطراتها ، و

    ---------------------------
    (1) في نسخة ( ن ) ( وهو الكينون أزلا ).
    (2) هو ثلاثي من العضد بمعنى القطع ، أو مزيد من التعضيد بمعنى الذهاب يمينا و شمالا ، وفي البحار في باب جوامع التوحيد وفي نسخة ( ج ) و ( ن ) وحاشية نسخة ( و ) و ( ب ) ( بعد ما عندوا ).
    (3) هذه الصفة والثلاثة التي بعدها توضيحية .
    (4) أي ليس له نهاية بحتى فالتقييد توضيح ، وفي نسخة ( و ) ( فيحتى ) بالفاء والفعل المجهول من التحتية المجعولة المأخوذة من حتى أي ليس له نهاية فيقال له : أنه ينتهي إلى تلك النهاية.
    (5) المراد بالاختلاف إما اختلاف حقائق الصفات كما يقول به الأشعرية أو توارد الصفات المتضادة ، وكل منهما مستلزم للامكان المستلزم للتناهي .

    التوحيد _ 46 _

       لا الألباب وأذهانها صفته فتقول : متى ؟ (1) ولا بدئ مما ، ولا ظاهر على ما ، ولا باطن فيما ، ولا تارك فهلا (2) خلق الخلق فكان بديئا بديعا ، ابتدأ ما ابتدع ، و ابتدع ما ابتدأ ، وفعل ما أراد وأراد ما استزاد ، ذلكم الله رب العالمين.
      6 ـ حدثنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رضي الله عنه ، قال : حدثنا محمد ابن الحسن الصفار ، عن عباد بن سليمان ، عن سعد بن سعد ، قال : سألت أبا الحسن الرضا عليه السلام عن التوحيد ، فقال : هو الذي أنتم عليه (3).
      7 ـ أبي رحمه الله ، قال : حدثنا سعد بن عبد الله ، عن إبراهيم بن هاشم ، و يعقوب بن يزيد جميعا ، عن ابن فضال ، عن ابن بكير ، عن زرارة ، عن أبي عبد الله عليه السلام ، قال : سمعته يقول في قوله عزوجل : ( وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا ) (4) قال : هو توحيدهم لله عزوجل .
      8 ـ أبي رحمه الله ، قال : حدثنا سعد بن عبد الله ، قال : حدثنا محمد بن الحسين عن محمد بن سنان ، عن إسحاق بن الحارث ، عن أبي بصير ، قال : أخرج أبو عبد الله عليه السلام حقا ، فأخرج منه ورقة ، فإذا فيها : سبحان الواحد الذي لا إله غيره ، القديم المبدئ الذي لا بدئ له (5) الدائم الذي لا نفاد له ، الحي الذي لا يموت ، الخالق ما يرى ، وما لا يرى ، العالم كل شيء بغير تعليم ، ذلك الله الذي

    ---------------------------
    (1) أي فتقول أنت أو فتقول العقول : متى وجد ، والفقرات الثلاث بعدها عطف عليها والتقدير ولا تدرك العقول الخ صفته فتقول مما بدئ وعلى ما ظهر وفيما بطن ، ويحتمل أن تكون جملات مستقلة بتقدير المبتدأ و ( ما ) بمعنى الشيء لا الاستفهامية أي ولا هو بدئ من شيء ولا ظاهر على شيء ولا باطن في شيء .
    (2) أي ولا هو تارك ما ينبغي خلقه فيقال : هلا تركه .
    (3) لأن ولاية أهل البيت عليهم السلام من شروط التوحيد كما مر في حديث الرضا عليه السلام في الباب الأول فإذا انتفى الشرط انتفى المشروط.
    (4) آل عمران : 83.
    (5) على وزان المصدر أو على بناء الصفة المشبهة.

    التوحيد _ 47 _

       لا شريك له .
      9 ـ حدثنا محمد بن القاسم المفسر رحمه الله ، قال : حدثنا يوسف بن محمد بن زياد ، وعلي بن محمد بن سيار ، عن أبويهما ، عن الحسن بن علي بن محمد بن علي الرضا ، عن أبيه ، عن جده عليهم السلام ، قال : قام رجل إلى الرضا عليه السلام فقال له :
       يا ابن رسول الله صف لنا ربك فإن من قبلنا قد اختلفوا علينا ، فقال الرضا عليه السلام :
       إنه من يصف ربه بالقياس لا يزال الدهر في الالتباس ، مائلا عن المنهاج (1) ظاعنا في الاعوجاج ، ضالا عن السبيل ، قائلا غير الجميل ، أعرفه بما عرف به نفسه من غير رؤية ، وأصفه بما وصف به نفسه من غير صورة ، لا يدرك بالحواس ، ولا يقاس بالناس ، معروف بغير تشبيه ، ومتدان في بعده لا بنظير ، لا يمثل بخليقته ، ولا يجور في قضيته ، الخلق إلى ما علم منقادون ، وعلى ما سطر في المكنون من كتابه ماضون ، ولا يعملون خلاف ما علم منهم ، ولا غيره يريدون ، فهو قريب غير ملتزق وبعيد غير متقص ، يحقق ولا يمثل ، ويوحد ولا يبعض ، يعرف بالآيات ، ويثبت بالعلامات ، فلا إله غيره ، الكبير المتعال.
      10 ـ ثم قال عليه السلام : بعد كلام آخر تكلم به : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن جده ، عن أبيه عليهم السلام ، عن رسول الله صلى الله عليه وآله ، أنه قال : ما عرف الله من شبهه بخلقه ، ولا وصفه بالعدل من نسب إليه ذنوب عباده .
       (2) والحديث طويل ، أخذنا منه موضع الحاجة ، وقد أخرجته بتمامه في تفسير القرآن.
      11 ـ حدثنا محمد بن موسى بن المتوكل رضي الله عنه ، عن محمد بن يحيى العطار عن محمد بن أحمد ، عن عبد الله بن محمد ، عن علي بن مهزيار ، قال : كتب أبو جعفر عليه السلام إلى رجل بخطه وقرأته في دعاء كتب به أن يقول : ( يا ذا الذي كان قبل كل

    ---------------------------
    (1) في حاشية نسخة ( ب ) ( نائما عن المنهاج ).
    (2) أتى بهذا الحديث دفعا لما يتوهم من معنى الجبر في كلامه عليه السلام ، وهذا توهم باطل إذ قد تبين في محله أن كل ما يقع في الوجود يقع طبقا لعلمه السابق ولا يلزم من ذلك الجبر في شيء .

    التوحيد _ 48 _

       شئ ، ثم خلق كل شيء ، ثم يبقى ويفنى كل شيء ، ويا ذا الذي ليس في السماوات العلى ولا في الأرضين السفلى ولا فوقهن ولا بينهن ولا تحتهن إله يعبد غيره ) (1).
      12 ـ حدثنا محمد بن علي ماجيلويه رحمه الله ، عن عمه محمد بن أبي القاسم ، عن أحمد بن أبي عبد الله البرقي ، عن محمد بن عيسى اليقطيني ، عن سليمان بن راشد .
       عن أبيه ، عن المفضل بن عمر ، قال : سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول : الحمد لله الذي لم يلد فيورث ، ولم يولد فيشارك .
      13 ـ حدثنا علي بن أحمد بن محمد بن عمران الدقاق رحمه الله ، قال : حدثنا محمد بن أبي عبد الله الكوفي (2) قال : حدثنا محمد بن إسماعيل البرمكي ، قال : حدثني علي بن العباس ، قال : حدثني إسماعيل بن مهران الكوفي ، عن إسماعيل بن إسحاق الجهني ، عن فرج بن فروة ، عن مسعدة بن صدقة ، قال : سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول : بينما أمير المؤمنين عليه السلام يخطب على المنبر بالكوفة إذ قام إليه رجل فقال : يا أمير المؤمنين صف لنا ربك تبارك وتعالى لنزداد له حبا وبه معرفة ، فغضب أمير المؤمنين عليه السلام ، ونادى الصلاة جامعة (3) فاجتمع الناس حتى غص المسجد بأهله ، ثم قام متغير اللون فقال :

    ---------------------------
    (1) لأن ما يعبد غيره ليس باله ، فإن المراد بالإله ههنا ليس المعبود بل الذي له الخلق والأمر المستحق بذلك للعبادة ، ولهذا الدعاء تمام : ( لك الحمد حمدا لا يقوى على إحصائه إلا أنت فصل على محمد وآل محمد صلاة لا يقوى على إحصائها إلا أنت ) والدعاء بتمامه مذكور في أعمال أيام شهر رمضان.
    (2) محمد بن أبي عبد الله الكوفي هو محمد بن جعفر بن محمد بن عون الأسدي الكوفي كما يشهد به إسناد الكليني ـ رحمه الله ـ كالحديث الثالث من باب حدوث العالم وغيره في الكافي.
    (3) الصلاة منصوب بفعل مقدار أي احضروها ، وجامعة منصوب على الحال من الصلاة ، وهذه الكلمة كانت تستعمل لدعوة الناس إلى التجمع وإن لم يكن لإقامة الصلاة ، وهذه الخطبة مسماة في نهج البلاغة بخطبة الأشباح مذكورة فيه مع اختلافات وزيادات .

    التوحيد _ 49 _

       الحمد لله الذي لا يفره المنع ، ولا يكديه الاعطاء (1) إذ كل معط منتقص سواه ، الملئ بفوائد النعم وعوائد المزيد ، وبجوده ضمن عيالة الخلق ، فأنهج سبيل الطلب للراغبين إليه ، فليس بما سئل أجود منه بما لم يسأل ، وما اختلف عليه دهر فيختلف منه الحال ، ولو وهب ما تنفست عنه معادن الجبال وضحكت عنه أصداف البحار من فلذ اللجين (2) وسبائك العقيان ونضائد المرجان لبعض عبيده ، لما أثر ذلك في وجوده ولا أنفد سعة ما عنده ، ولكان عنده من ذخائر الافضال ما لا ينفذه مطالب السؤال (3) ولا يخطر لكثرته على بال ، لأنه الجواد الذي لا تنقصه المواهب ، ولا ينحله إلحاح الملحين (4) ( وإنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ) (5)

    ---------------------------
    (1) وفريفر كوعد يعد من الوفور بمعنى الكثرة أي لا يوجب المنع كثرة في خزائنه ، وفي نسخة ( ب ) و ( و ) و ( د ) و ( ج ) ( لا يغيره المنع ).
       والإكداء بمعنى الإفقار والتقليل أي لا يوجب الاعطاء فقرا وقلة فيها .
    (2) الفلذ بكسر الفاء وسكون اللام آخره الذال كبد البعير جمعه الأفلاذ ، وأفلاذ الأرض كنوزها ، أو بكسر الأول وفتح الثاني جمع الفلذة بمعنى الذهب والفضة ، وفي نسخة ( د ) و ( ب ) وفي البحار بالزاي المشددة في آخر الكلمة وهو اسم جامع لجواهر الأرض كلها ، واللجين مصغرا بمعنى الفضة.
    (3) السؤال كالتجار جمع السائل.
    (4) ينحله من الانحال أو التنحيل بمعنى الاعطاء أي لا يعطيه إلحاح الملحين شيئا يؤثر فيه ، بل يعطي مسألة السائلين أو يمنعها حسب المصلحة ، وهذا نظير ما في آخر دعاء الجوشن الكبير : ( يا من لا يبرمه إلحاح الملحين ) وإن كان الالحاح في السؤال لله تعالى ممدوح كما ورد في الحديث ، وفي البحار باب جوامع التوحيد وفي نسخة ( ب ) و ( ج ) بالباء الموحدة والخاء المعجمة من البخل على بناء التفعيل أي لا يصيره بخيلا أو على بناء الأفعال أي لا يجده بخيلا .
    (5) في حديث رواه في آخر الباب التاسع ( أن موسى على نبينا وآله وعليه السلام سأل ربه فقال : يا رب أرني خزائنك ، فقال تعالى : يا موسى إنما خزائني إذا أردت شيئا أن أقول له كن فيكون ).

    التوحيد _ 50 _

       الذي عجزت الملائكة على قربهم من كرسي كرامته ، وطول ولههم إليه وتعظيم جلال عزه ، وقربهم من غيب ملكوته أن يعلموا من أمره إلا ما أعلمهم ، وهم من ملكوت القدس بحيث هم من معرفته على ما فطرهم عليه أن قالوا : ( سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ) (1).
       فما ظنك أيها السائل بمن هو هكذا ، سبحانه وبحمده ، لم يحدث فيمكن فيه التغير والانتقال ، ولم يتصرف في ذاته بكرور الأحوال (2) ولم يختلف عليه حقب الليالي والأيام (3) الذي ابتدع الخلق على غير مثال امتثله ولا مقدار احتذى عليه من معبود كان قبله (4) ولم تحط به الصفات فيكون بإدراكها إياه بالحدود متناهيا ، وما زال ـ ليس كمثله شيء ـ عن صفة المخلوقين متعاليا (5) وانحسرت الأبصار عن أن تناله فيكون بالعيان موصوفا (6) وبالذات التي لا يعلمها إلا هو عند خلقه معروفا ، وفات لعلوه على أعلى الأشياء مواقع رجم المتوهمين (7) وارتفع عن أن تحوي كنه عظمته فهاهة (8) رويات المتفكرين ، فليس له مثل فيكون ما يخلق مشبها

    ---------------------------
    (1) قوله : ( إن قالوا ) بتقدير المضاف خبر لضمير الجمع بعد حيث ، وتقدير الكلام :
       وهم من ملكوت القدس بحيث أنهم من جهة معرفتهم به على ما فطرهم عليه من الروحانية المحضة في منزلة أن قالوا ـ الخ ، وهي منزلة إظهار العجز والجهل بحضرة الربوبية.
    (2) أي لم يقع التغير والتحول في ذاته تعالى بسبب تكرر الأحوال المختلفة الحادثة في الأشياء.
    (3) أي ولم يتردد عليه الزمان الذي يتجزأ بالليالي والأيام ، والحقب كالقفل بمعنى الدهر والزمان ويأتي بمعان أخر ، ومر نظير هذا الكلام في صدر الخطبة. (4) أي لم يمتثل في صنعه على مثال ولم يحتذ على مقدار مأخوذين مستفادين من معبود كان قبله تعالى .
    (5) ليس كمثله شيء معترضة بين زال وخبره .
    (6) في نسخة ( ط ) و ( ن ) ( وانحصرت الأبصار ـ الخ ).
    (7) لا يبعد أن يكون ( فات تصحيف فاق ) وفي نسخة ( ب ) و ( د ) ( مواقع وهم المتوهمين ).
    (8) الفهاهة : العى.

    التوحيد _ 51 _

       به (1) وما زال عند أهل المعرفة به عن الأشباه والأضداد منزها ، كذب العادلون بالله إذ شبهوه بمثل أصنافهم (2) وحلوه حلية المخلوقين بأوهامهم ، وجزوه بتقدير منتج خواطرهم (3) وقدروه على الخلق المختلفة القوى بقرائح عقولهم (4) وكيف يكون من لا يقدر قدره مقدرا في رويات الأوهام ، وقد ضلت في إدراك كنهه هواجس الأحلام لأنه أجل من أن يحده ألباب البشر بالتفكير ، أو يحيط به الملائكة على قربهم من ملكوت عزته بتقدير ، تعالى عن أن يكون له كفو فيشبه به لأنه اللطيف الذي إذا أرادت الأوهام أن تقع عليه في عميقات غيوب ملكه ، وحاولت الفكر المبرأة من خطر الوسواس إدراك علم ذاته (5) وتولهت القلوب إليه لتحوي منه مكيفا في صفاته (6) وغمضت مداخل العقول من حيث لا تبلغه الصفات لتنال علم إلهيته (7) ردعت خاسئة وهي تجوب مهاوي سدف الغيوب متخلصة إليه سبحانه ، رجعت إذ جبهت

    ---------------------------
    (1) لأن ما عداه كائنا ما كان مخلوق له ويمتنع أن يكون المخلوق مشبها بالخالق .
    (2) في نسخة ( ج ) ( بمثل أصنامهم ).
    (3) جزوه من الجز بمعنى القطع ، ومنتج على بناء المفعول من باب الأفعال بمعنى النتيجة ، وفي البحار وفي نسخة ( و ) و ( ب ) ( وجزوه بتقدير منتج من خواطر هممهم ) وفي نسخة ( د ) ( وحدوه بتقدير منتج من خواطر هممهم ).
    (4) الخلق بكسر الأول وفتح الثاني جمع الخلقة ، ولا يبعد أن يكون بفتح الأول وسكون الثاني والمختلفة فارغ الضمير ، والقوى بالرفع فاعله واللام في قوى بدلا عن الضمير الراجع إلى الخلق ، وفي النهج ( على الخلقة المختلفة القوى ).
    (5) الفكر جمع الفكرة ، وفي النهج ( وحاول الفكر المبرأ ) وفي نسخة ( ج ) ( وحاولت الفكرة المبرأة ).
       والخطر بالفتح فالسكون مصدر بمعنى الخطور.
    (6) مكيفا مصدر ميمي بمعنى التكييف والكيفية ، مفعول لتحوي ، أو على بناء المفعول صفة لمحذوف أي لتحوي منه تعالى شيئا مكيفا في صفاته ، أو حال من الضمير ، و في النهج ( وتولهت القلوب إليه لتجري في كيفية صفاته ).
    (7) أي لطفت ودقت طرق تفكير العقول بحيث يمتنع وصفه أي وصف لطف الطرق وغموضها ، أو الضمير المنصوب يرجع إليه تعالى فالحيثية تعليل ، وفي النهج وفي نسخة ( ج ) ( في حيث ـ الخ ) ، وفي نسخة ( ب ) و ( د ) ( لتناول علم إلهيته ) وفي النهج ( لتناول علم ذاته ).

    التوحيد _ 52 _

       معترفة بأنه لا ينال بجوب الاعتساف كنه معرفته (1) ولا يخطر ببال أولي الرويات خاطرة من تقدير جلال عزته لبعده من أن يكون في قوى المحدودين لأنه خلاف خلقه ، فلا شبه له من المخلوقين (2) وإنما يشبه الشيء بعديله ، فأما ما لا عديل له فكيف يشبه بغير مثاله ، وهو البدئ الذي لم يكن شيء قبله ، والآخر الذي ليس شيء بعده ، لا تناله الأبصار من مجد جبروته إذ حجبها بحجب لا تنفذ في ثخن كثافته (3) ولا تخرق إلى ذي العرش متانة خصائص ستراته (4) الذي صدرت الأمور عن مشيته ، وتصاغرت عزة المتجبرين دون جلال عظمته ، وخضعت له الرقاب ، وعنت الوجوه من مخافته (5) وظهرت في بدائع الذي أحدثها آثار حكمته (6) وصار

    ---------------------------
    (1) ردعت جواب إذا ، ورجعت عطف بيان له أو بدل ، وفي النهج ونسخة ( و ) معطوفة عليه بالفاء ، والجواب قطع البلاد والسير فيها ، وسدف جمع سدفة بضم الأول بمعنى الباب أو بفتحة بمعنى الظلمة ، وفي نسخة ( ط ) و ( ج ) و ( ب ) ( محاوى سدف الغيوب ) بالحاء أي مجامعها ، وفي نسخة ( ن ) ( بجور الاعتساف ).
    (2) في نسخة ( و ) و ( ج ) و ( ب ) و ( د ) ( في المخلوقين ).
    (3) أي لا تنفذ الأبصار في ثخن كثافة الحجب ، هكذا في النسخ ، ومقتضى القاعدة كثافتها ، وفي حاشية نسخة ( ب ) ( إذ حجبها بحجاب ـ الخ ).
    (4) أي ولا تخرق الأبصار متوجهة إلى الله ذي العرش ستراته المتينة الخصيصة به حتى تراه .
    (5) في البحار وفي نسخة ( د ) وحاشية نسخة ( ب ) ( وعنت له الوجوه من مخافته ).
    (6) أي في بدائع الله الذي أحدث الأمور ، والضمير المنصوب بأحدث لا يرجع إلى بدائع لأن الصلة لا تعمل في ما أضيف إلى الموصول لأن المضاف حينئذ يصير تعريفه بالموصول دوريا .
       وفي حاشية نسخة ( ب ) ( وظهرت في البدائع التي أحدثها آثار حكمته ) فيستقيم الكلام ويرجع الضمير إلى البدائع ، وفي النهج ( وظهرت في البدائع التي أحدثها آثار صنعته وأعلام حكمته ).

    التوحيد _ 53 _

       كل شيء خلق حجة له ومنتسبا إليه (1) فإن كان خلقا صامتها فحجته بالتدبير ناطقة فيه ، فقدر ما خلق ، فأحكم تقديره ، ووضع كل شيء بلطف تدبيره موضعه ، ووجهه بجهة (2) فلم يبلغ منه شيء حدود منزلته (3) ولم يقصر دون الانتهاء إلى مشيته ، ولم يستعصب إذ أمره بالمضي إلى أرادته ، بلا معاناة للغوب مسه (4) ولا مكائدة لمخالف له على أمره (5) فتم خلقه ، وأذعن لطاعته ، ووافى الوقت الذي أخرجه إليه إجابة لم يعترض دونها ريث المبطئ ولا أناة المتلكئ (6) فأقام من

    ---------------------------
    (1) في نسخة ( ب ) و ( و ) و ( د ) فصار كل شيء ـ الخ ).
    (2) في النهج ( ووجهه لوجهته ).
    (3) أي فلم يبلغ مما خلق شيء حدود منزلة الحق تعالى ، وفي البحار وفي نسخة ( ب ) و ( و ) و ( ج ) ( فلم يبلغ منه شيء محدود منزلته ) وفي النهج ( فلم يتعد حدود منزلته ) أي فلم يتعد شيء حدود منزلته التي وضعها الله تعالى له ، وما في النهج أنسب بالفقرات السابقة.
    (4) قوله : ( بلا معاناة ) متعلق بقوله : ( فقدر ما خلق ـ الخ ).
    (5) في نسخة ( ب ) ( ولا مكابدة ) بالباء الموحدة والدال. وفي نسخة ( ط ) ولا مكابرة بالباء الموحدة والراء.
    (6) أي ووافى كل شيء الوقت الذي أخرج ذلك الشيء إليه إجابة لأمره التكويني كإجابة السماء والأرض في قوله تعالى : ( ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها و للأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين ) قوله : ( لم يعترض ـ الخ ) صفه لإجابة ، واعترض دون الشيء أي حال دونه ، والمعنى إجابة لم يعترض دونها بطئ المبطئ ولا تأني المتوقف المتعلل ، وفي نسخة ( و ) و ( د ) وفي حاشية نسخة ( ب ) ( ولا أناة المتكلئ ) وهو بمعنى المتأخر ، وهذا الكلام كناية عن عدم تأخر مراده تعالى عن إرادته فإنه إذا أراد شيئا فإنما يقول له كن فيكون .

    التوحيد _ 54 _

       الأشياء أودها (1) ونهى معالم حدودها ، ولأم بقدرته بين متضادتها (2) ووصل أسباب قرائنها (3) وخالف بين ألوانها ، وفرقها أجناسا مختلفات في الأقدار والغرائز والهيئات ، بدايا خلائق أحكم صنعها ، وفطرها على ما أراد إذ ابتدعها ، انتظم علمه صنوف ذرئها ، وأدرك تدبيره حسن تقديرها .
       أيها السائل إعلم من شبه ربنا الجليل بتباين أعضاء خلقه وبتلاحم أحقاق مفاصلهم المحتجبة بتدبير حكمته أنه لم يعقد غيب ضميره على معرفته (4) ولم يشاهد قلبه اليقين بأنه لا ند له ، وكأنه لم يسمع بتبري التابعين من المتبوعين وهم يقولون :
       ( تالله أن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين ) (5) فمن ساوى ربنا بشيء فقد عدل به ، والعادل به كافر بما نزلت به محكمات آياته ، ونطقت به شواهد حجج بيناته ، لأنه الله الذي لم يتناه في العقول فيكون في مهب فكرها مكيفا ، وفي حواصل رويات همم النفوس محدودا مصرفا (6) المنشئ أصناف الأشياء بلا روية احتاج إليها ، ولا قريحة غريزة أضمر عليها ، ولا تجربة أفادها من مر حوادث

    ---------------------------
    (1) في نسخة ( ط ) و ( ن ) و ( ب ) ( وأقام ـ الخ ).
    (2) في النهج والبحار وفي نسخة ( ب ) و ( و ) ( ولاءم بقدرته ـ الخ ) من باب المفاعلة.
    (3) في نسخة ( و ) ( ووصل أسباب قرابتها ).
    (4) التلاحم : الالتصاق والالتيام بين الأجسام ، وأحقاق جمع حق بالضم وهو رأس الورك الذي فيه عظم الفخذ ورأس العضد الذي فيه الوابلة ، أي أن من شبه ربنا الجليل بالخلق ذي الأعضاء المتباينة والأحقاق المتلاحمة المحتجبة بالجلد واللحم كائنا ذلك بتدبير حكمته أنه لم يعرفه بقلبه ، وأن هذه خبر لأن الأولى، و ( من ) الموصولة بعدها اسمها.
    (5) الشعراء : 98.
    (6) حواصل جمع حوصلة وهي في الطيور بمنزلة المعدة ، وإضافتها إلى الرويات من قبيل إضافة الظرف إلى المظروف وفيها لطف .

    التوحيد _ 55 _

       الدهور (1) ولا شريك أعانه على ابتداع عجائب الأمور ، الذي لما شبهه العادلون بالخلق المبعض المحدود في صفاته ، ذي الأقطار والنواحي المختلفة فطبقاته ، و كان عزوجل الموجود بنفسه لا بأداته ، انتفى أن يكون قدروه حق قدره (2) فقال تنزيها لنفسه عن مشاركة الأنداد وارتفاعا عن قياس المقدرين له بالحدود من كفرة العباد : ( وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيمة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون ) (3) ما دلك القرآن عليه من صفته فاتبعه ليوصل بينك وبين معرفته (4) وأتم به (5) واستضئ بنور هدايته ، فإنها نعمة وحكمة أوتيتهما فخذ ما أوتيت وكن من الشاكرين ، وما دلك الشيطان عليه مما ليس في القرآن عليك فرضه ولا في سنة الرسول وأئمة الهدى أثره فكل علمه إلى الله عزوجل ، فإن ذلك منتهى حق الله عليك.
       واعلم أن الراسخين في العلم هم الذين أغناهم الله عن الاقتحام في السدد المضروبة دون الغيوب فلزموا الاقرار بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب

    ---------------------------
    (1) أقادها أي اقتناها واكتسبها ، وفي نسخة ( ج ) و ( و ) و ( ب ) أفادها من موجودات الدهور ، وفي حاشية نسخة ( د ) و ( ب ) ( استفادها من موجودات الدهور ) وفي النهج ( أفادها من حوادث الدهور ).
    (2) قوله : ( وكان عزوجل الموجود ـ الخ ) عطف على مدخول ( لما ) أي الموجود بذاته الواحدة وحده حقيقية لا بأجزاء هي أداته وآلاته للإدراك والفعل كالإنسان ، وفي نسخة ( و ) و ( د ) ( لا بآياته ) التي هي مخلوقاته فيكون موجودا بالغير ، فإن الوجود ينقسم إلى ما بالذات وما بالغير ، وقوله : ( انتفى ) جواب لما ، أي امتنع عن أن يكون في تقدير مقدر و تحديد محدد .
    (3) الزمر : 67.
    (4) في نسخة ( و ) و ( ج ) ( لتوسل بينك ـ الخ ).
    (5) في نسخة ( ط ) و ( ن ) ( فأتم به ).