فقالوا : ( آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ) (1) فمدح الله عزوجل اعترافهم بالعجز عن تناول ما لم يحيطوا به علما ، وسمى تركهم التعمق في ما لم يكلفهم البحث عنه منهم رسوخا ، فاقتصر على ذلك ، ولا تقدر عظمة الله ( سبحانه ) على قدر عقلك فتكون من الهالكين.
  14 ـ حدثنا علي بن أحمد بن محمد بن عمران الدقاق رحمه الله ، قال : حدثنا محمد بن أبي عبد الله الكوفي ، قال : حدثنا محمد بن إسماعيل البرمكي ، قال : حدثني علي بن العباس ، قال : حدثني جعفر بن محمد الأشعري ، عن فتح بن يزيد الجرجاني ، قال : كتبت إلى أبي الحسن الرضا عليه السلام أسأله عن شيء من التوحيد فكتب إلي بخطه ـ قال جعفر : وإن فتحا أخرج إلى الكتاب فقرأته بخط أبي ـ الحسن عليه السلام : بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الملهم عباده الحمد ، وفاطرهم على معرفة ربوبيته ، الدال على وجوده بخلقه ، وبحدوث خلقه على أزله ، وبأشباههم على أن لا شبه له ، المستشهد آياته على قدرته ، الممتنع من الصفات ذاته (2)ومن الأبصار رؤيته ، ومن الأوهام الإحاطة به لا أمد لكونه ولا غاية لبقائه لا يشمله المشاعر و لا يحجبه الحجاب فالحجاب بينه وبين خلقه لامتناعه مما يمكن في ذواتهم ولا مكان ذواتهم مما يمتنع منه ذاته ، ولافتراق الصانع والمصنوع والرب والمربوب ، والحاد والمحدود ، أحد لا بتأويل عدد ، الخالق لا بمعنى حركة (3) السميع لا بأداة ، البصير لا بتفريق آلة ، الشاهد لا بمماسة ، البائن لا ببراح مسافة (4) الباطن لابا جتنان ،

---------------------------
(1) الغيب المحجوب هنا والغيب المكنون الذي ذكر في الحديث الثالث هو مقام ذات الواجب الذي لا يناله أحد حتى الراسخين في العلم، والآية في آل عمران : 7.
(2) أي من الوصف إذ لا يدرك ذاته حتى توصف ، أو المعنى ليس مقام أحدية ذاته مقام الصفات والأسماء إذ ليس في ذلك المقام الشامخ اسم ولا صفة ولا إشارة ولا معرفة .
(3) أي ليس إيجاده بالحركة كإيجادنا .
(4) البراح بمعنى الزوال أي بائن عن خلقه لا ببعده عنهم بالمسافة ، وفي الكافي في باب جوامع التوحيد في حديث عن أبي عبد الله عليه السلام عن أمير المؤمنين عليه السلام وفي نهج البلاغة ( لا بتراخي مسافة ).

التوحيد _ 57 _

   الظاهر لا بمحاذ ، الذي قد حسرت دون كنهه نواقد الأبصار (1) وامتنع وجوده جوائل الأوهام (2) ، أول الديانة معرفته ، وكمال المعرفة توحيده ، وكمال التوحيد نفي الصفات عنه ، لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف ، وشهادة الموصوف أنه غير الصفة ، و شهادتهما جميعا على أنفسهما بالبينة الممتنع منها الأزل (3) فمن وصف الله فقد حده ومن حده فقد عده ، ومن عده فقد أبطل أزله ، ومن قال : كيف فقد استوصفه ، و من قال : على م فقد حمله ، ومن قال : أين فقد أخلى منه ، ومن قال : إلى م فقد وقته ، عالم إذ لا معلوم ، وخالق إذ لا مخلوق ، ورب إذ لا مربوب ، وإله إذ لا مألوه وكذلك يوصف ربنا ، وهو فوق ما يصفه الواصفون.
  15 ـ حدثنا علي بن أحمد بن محمد بن عمران الدقاق رحمه الله ، قال : حدثنا محمد بن أبي عبد الله الكوفي ، قال : حدثنا محمد بن إسماعيل البرمكي ، قال حدثنا علي بن العباس ، قال : حدثنا الحسن بن محبوب ، عن حماد بن عمرو النصيبي ، قال : سألت جعفر بن محمد عليهما السلام عن التوحيد ، فقال : واحد ، صمد ، أزلي ، صمدي (4)

---------------------------
(1) في نسخة ( د ) و ( ب ) ( الظاهر الذي قد حسرت دون كنهه نوافذ الأبصار ) وفي الكافي ( قد حسر كنهه نوافذ الأبصار ).
(2) في البحار وفي نسخة ( ب ) ( واقمع وجوده ـ الخ ) ، وفي الكافي ( وقمع وجوده ـ الخ ) وفي نسخة ( د ) وحاشية نسخة ( ب ) ( واقمع وجوده جوائد الأوهام ).
(3) البينة كالجلسة مصدر بمعنى البينونة ، وفي الكافي ( بالتثنية الممتنعة من الأزل ) وفي نسخة ( ط ) ( بالبينة الممتنع فيها الأزل ) وفي حاشية نسخة ( ن ) ( بالبينة الممتنع بها الأزل ).
(4) النسبة للمبالغة كالأحدي ، وكذا فرداني وديمومي ، ولعله عليه السلام أراد به معنى و بما قبله معنى آخر فإن للصمد معاني تصح على الله تعالى يأتي ذكرها في الباب الرابع.

التوحيد _ 58 _

   لا ظل له يمسكه ، وهو يمسك الأشياء بأظلتها (1) عارف بالمجهول ، معروف عند كل جاهل (2) فرداني ، لا خلقه فيه ولا هو في خلقه ، غير محسوس ولا مجسوس ولا تدركه الأبصار ، علا فقرب ، ودنا فبعد ، وعصى فغفر ، وأطيع فشكر ، لا تحويه أرضه ، ولا تقله سماواته ، وإنه حامل الأشياء بقدرته ، ديمومي ، أزلي ، لا ينسى ، ولا يلهو (3) ولا يغلط ، ولا يلعب ، ولا لإرادته فصل (4) وفصله جزاء ، و أمره واقع ، لم يلد فيورث ، ولم يولد فيشارك ، ولم يكن له كفوا أحد.
   16 ـ وبهذا الإسناد ، عن علي بن العباس ، قال : حدثنا يزيد بن عبد الله عن الحسين بن سعيد الخزاز ، عن رجاله ، عن أبي عبد الله عليه السلام ، قال : الله غاية من غياه ، والمغيى ، غير الغاية ، توحد بالربوبية ، ووصف نفسه بغير محدودية ، فالذاكر الله غير الله ، والله غير أسمائه (5) وكل شيء وقع عليه اسم شيء سواه فهو

---------------------------
(1) للظل معان ، والكلام من العلماء والمفسرين في تفسير الظل في الكتاب والأحاديث كثير مختلف ، والأنسب الأقرب هنا أن يقال : الظل من كل شيء كنهه ووقاؤه الذي يصان به عن الفساد والبطلان ، وكل موجد إنما يصان عن الفساد والعدم بعلته ومبدئه فالمعنى أنه تعالى لا مبدأ له يمسكه ويصونه عن العدم.
   بل هو موجود بنفسه ممتنع عليه العدم وهو تعالى مبدء الأشياء يمسكها ويقيمها ويصونها عن التلاشي والعدم مع أظلتها أي مع مباديها الوسطية التي هي أيضا من جملة الأشياء الممكنة.
(2) أي عارف بما يجهله غيره ، ويعرفه كل أحد بفطرته وإن كان من الجهال.
(3) وفي نسخة ( ب ) ( ولا يلهم ) على بناء المجهول من الالهام.
(4) أي لا فصل بين إرادته ، ومراده ، أو لا مانع لإرادته بل هي نافذة في الأشياء كلها .
(5) النغيية جعل الشيء غاية للسلوك والحركة ، والغاية لا بد أن تقع في الذهن ابتداء السلوك حتى تكون باعثة له ، فمعنى الكلام أن الله تعالى يصح أن يجعله الإنسان غاية لسلوكه الانساني ولكن المغيي أي الذي يقع في الذهن قبل السلوك غير الله الذي هو غاية موصول بها بعد السلوك لأن ما هو واقع في الذهب محدود .
   والله تعالى وصف نفسه بغير محدودية فالذاكر الله الذي هو مفهوم واقع في ذكرك وذهنك ويوجب توجهك وسلوكك إلى الله تعالى غير الله الذي هو مصداق تام حقيقي لهذا المفهوم وموصل وموصول لك في سلوكك إليه ، فإذا كان هذا المفهوم غير الله فأسمائه التي تحكي عن هذه المفاهيم غير الله بطريق أولى ، بل هي مضافة إليه إضافة ما ، فما ذهب إليه قوم من اتحاد الاسم والمعنى باطل .

التوحيد _ 59 _

   مخلوق (1) ألا ترى قوله : ( العزة لله ، العظمة لله ) ، وقال : ( ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها ) (2) وقال : ( قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى ) (3) فالأسماء مضافة إليه ، وهو التوحيد الخالص (4).
  17 ـ حدثنا علي بن أحمد بن محمد بن عمران الدقاق رحمه الله ، قال : حدثنا محمد بن أبي عبد الله الكوفي أبو الحسين (5) ، قال : حدثني موسى بن عمران ، عن الحسين ابن يزيد ، عن إبراهيم بن الحكم بن ظهير ، عن عبد الله بن جرير العبدي ، عن جعفر بن محمد عليهما السلام أنه كان يقول : الحمد لله الذي لا يحس ، ولا يجس ، ولا يمس

---------------------------
(1) قد استعمل الاسم في لسان الشرع الأقدس في اللفظ الدال وفي مفهوم اللفظ ، وبمعنى العلامة وفي صفة الشيء ، والمناسب هنا الأول والثاني ، فمعنى الكلام أن كل شيء وقع عليه لفظ الشيء أو مفهوم الشيء سوى الله تعالى فهو مخلوق وإن كان ذلك الشيء اسما من أسمائه تعالى أو مفهوما ينطبق عليه ، واستدل عليه السلام للثاني بإضافة العزة والعظمة إلى الله تعالى فإن الإضافة تدل على المغايرة لأن الشيء لا يضاف إلى نفسه ، واستدل للأول بالآيتين فإن المدعو غير المدعو به .
(2) الأعراف : 180.
(3) الإسراء : 110.
(4) أي تنزيهه تعالى عن أن يكون متحدا مع الاسم ، أو أن يكون هو تعالى ما يقع في الذهن ، هو التوحيد الخالص فإن كل ما صورتموه بأوهامكم في أدق المعاني فهو مخلوق لكم مردود إليكم فهو تعالى ذات ليست بنفس هذه الأسماء ولا هذه المفاهيم ولا بمصداقها على حد ما نتصوره من المصاديق الممكنة ، بل هو شيء لا كالأشياء ، وعالم لا كالعلماء ، وحي لا كالأحياء ، وقادر لا كالقادرين ، وهكذا.
(5) هو محمد بن جعفر بن محمد بن عون الأسدي الكوفي ، ثقة .

التوحيد _ 60 _

   لا يدرك بالحواس الخمس ، ولا يقع عليه الوهم ، ولا تصفه الألسن ، فكل شيء حسته الحواس أو جسته الجواس أو لمسته الأيدي فهو مخلوق ، والله هو العلي حيث ما يبتغى يوجد ، والحمد لله الذي كان قبل أن يكون كان (1) لم يوجد لوصفه كان (2) بل كان أولا كائنا (3) لم يكونه مكون ، جل ثناؤه ، بل كون الأشياء قبل كونها (4) فكانت كما كونها ، علم ما كان وما هو كائن ، كان إذ لم يكن شيء ولم ينطق فيه ناطق (5) فكان إذ لا كان.
  18 ـ حدثنا علي بن أحمد بن محمد بن عمران الدقاق رحمه الله ، قال : حدثنا محمد بن أبي عبد الله الكوفي ، قال : حدثنا محمد بن إسماعيل البرمكي ، قال : حدثنا الحسين بن الحسن بن بردة (6) ، قال : حدثني العباس بن عمرو الفقيمي ، عن

---------------------------
(1) هذه والجملة الأخيرة في الحديث والتي قبلها بمثابة واحدة ، أي كان قبل أن يكون شيء ، يقال فيه : كان كذا وكذا ، وكان إذ لا شيء ، يقال فيه : كان كذا وكذا ، كما يقال : صرت إلى كان وكنت أي صرت إلى أن يقال فيك : كان فلان كذا وكذا وكنت أنا فيما كنت من قبل ، وحاصل الكلام كله نفي أن يكون معه تعالى في أزليته شيء.
(2) أي لم يوجد لوصفه تغير فيقال : كان كذا ثم صار كذا ، وفي نسخة ( و ) و ( ب ) و ( د ) ( لا يوجد ـ الخ ).
(3) في البحار في الجزء الثالث من الطبعة الحديثة ص 298 ( بل كان أزلا كان كائنا ـ الخ ) وفي نسخة ( ط ) ( بل كان أزلا كائنا ـ الخ ).
(4) قبلية التأثير على الأثر التي يقال لها التقدم بالعلية ، لا قبلية بالزمان فإن تكوين الشيء يمتنع أن يكون قبل كونه زمانا.
(5) أي في الله تعالى ، ويحتمل رجوع الضمير إلى شيء أي كان إذ لم يكن شيء ولم يكن ناطق فينطق في ذلك الشئ.
(6) في نسخة ( ب ) و ( د ) ( الحسين بن بردة ) وفي الكافي باب حدوث العالم روي حديثا عن الرضا عليه السلام مع رجلا من الزنادقة سنده هكذا : حدثني محمد بن جعفر الأسدي عن محمد بن إسماعيل البرمكي الرازي ، عن الحسين بن الحسن بن برد ( بدون التاء في آخر الكلمة ) الدينوري ـ الخ ، وما في الكافي مذكور في الكتاب في الباب السادس والثلاثين وليس في سنده هذا الرجل ، ولم أجد له ذكرا فيما عندي من كتب الرجال.

التوحيد _ 61 _

   أبي القاسم إبراهيم بن محمد العلوي ، عن الفتح بن يزيد الجرجاني ، قال : لقيته عليه السلام (1) على الطريق عند منصرفي من مكة إلى خراسان وهو سائر إلى العراق فسمعته يقول : من اتقى الله يتقى ، ومن أطاع الله يطاع .
   فتلطفت في الوصول إليه فوصلت فسلمت فرد علي السلام ثم قال : يا فتح من أرضى الخالق لم يبال بسخط المخلوق ، ومن أسخط الخالق فقمن أن يسلط عليه سخط المخلوق ، وإن الخالق لا يوصف إلا بما وصف به نفسه وأنى يوصف الذي تعجز الحواس أن تدركه ، والأوهام أن تناله ، والخطرات أن تحده ، والأبصار عن الإحاطة به ؟ جل عما وصفه الواصفون ، وتعالى عما ينعته الناعتون ، نأى في قربه ، وقرب في نأيه ، فهو في بعده قريب ، وفي قربه بعيد ، كيف الكيف فلا يقال له : كيف وأين الأين فلا يقال له أين ، إذ هو مبدع الكيفوفية والأينونية (2) يا فتح كل جسم مغذي بغذاء إلا الخالق الرزاق ، فإنه جسم الأجسام ، وهو ليس بجسم ولا صورة ، لم يتجزأ ، ولم يتناه ، ولم يتزايد ، ولم يتناقص ، مبرء من ذات ما ركب في ذات من جسمه (3) وهو اللطيف الخبير السميع البصير الواحد الأحد الصمد ، لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفوا أحد ، منشئ الأشياء (4) ومجسم الأجسام ، و مصور الصور ، لو كان كما يقول المشبهة لم يعرف الخالق من المخلوق ، ولا الرازق من المرزوق ، ولا المنشئ من المنشأ لكنه المنشئ ، فرق بين من جسمه وصوره و

---------------------------
(1) يعني أبا الحسن الرضا عليه السلام بشهادة الحديث الرابع عشر.
(2) في نسخة ( ب ) ( مبدء الكيفوفية ـ الخ ).
(3) أي هو تعالى منزه من ذوات الأشياء والأجزاء التي ركبها وجعلها في ذات من أوجده جسما .
(4) في حاشية نسخة ( ب ) ( مشيئ الأشياء ).

التوحيد _ 62 _

   شيئه وبينه (1) إذ كان لا يشبهه شيء .
   قلت : فالله واحد والإنسان واحد ، فليس قد تشابهت الوحدانية ؟ فقال : أحلت ثبتك الله (2) إنما التشبيه في المعاني فأما في الأسماء فهي واحدة (3) وهي دلالة على المسمى (4) وذلك أن الإنسان وإن قيل واحد فإنه يخبر أنه جثة واحدة وليس باثنين ، والإنسان نفسه ليس بواحد ، لأن أعضاءه مختلفة ، وألوانه مختلفة غير واحدة ، وهو أجزاء مجزأة ليس سواء (5) دمه غير لحمه ، ولحمه غير دمه ، وعصبه غير عروقه ، وشعره غير بشره .
   وسواده غير بياضه ، وكذلك سائر جميع الخلق ، فالإنسان واحد في الاسم ، لا واحد في المعنى (6) والله جل جلاله واحد لا واحد غيره ، ولا اختلاف فيه ، ولا تفاوت ، ولا زيادة ، ولا نقصان ، فأما الإنسان المخلوق المصنوع المؤلف

---------------------------
(1) قوله : ( فرق ) على صيغة المصدر مبتدء خبره ( بين من جسمه ـ الخ ) وقوله : ( بينه ) معادلة بين الأولى ، ويحتمل أن يكون ماضيا من باب التفعيل أي جعل بينه تعالى و بين من جسمه ـ الخ تفرقة ومباينة ، ويحتمل بعيدا أن يكون قوله : ( بينه ) فعلا من النبيين إذ لا يناسب قوله : ( إذ لا يشبهه شيء ) ، وقوله : ( شيئه ) من باب التفعيل أي جعله شيئا بالجعل البسيط أو المركب ، وفي الكافي باب معاني الأسماء ( وأنشأه ) مكان ( شيئه ).
(2) أي أتيت بشيء محال .
(3) أي إنما التشبيه الذي ننفيه عنه تعالى في الحقائق فأما في الأسماء أي الألفاظ أو المفاهيم ( والثاني أقرب ) فالتشبيه واقع لأنها فيه تعالى وفي غيره واحدة متشابهة ولا يضر ذلك بوحدة ذاته تعالى ، ويمكن أن يقرأ بالنصب أي إنما ننفي عنه التشبيه في المعاني وفي البحار وفي نسخة ( ج ) ( وأما في الأسماء ).
(4) أي والألفاظ دلالة على المفهوم أو والمفاهيم دلالة على المصداق والحقيقة ، و شباهة الدال بشيء لا تستلزم شباهة المدلول للمغايرة بينهما ذاتا.
(5) قوله : ( ليس سواء ) خبر لهو بعد خبر ، وفي الكافي وفي حاشية نسخة ( ط ) و ( ن ) ( ليست بسواء ) فصفة لا جزاء بعد صفة .
(6) في نسخة ( ط ) و ( ن ) فالإنسان واحد بالاسم لا واحد بالمعنى .

التوحيد _ 63 _

   فمن أجزاء مختلفة وجواهر شتى غير أنه بالاجتماع شيء واحد .
   قلت : فقولك : اللطيف فسره لي ، فإني أعلم أن لطفه خلاف لطف غيره للفصل ، غير أني أحب أن تشرح لي ، فقال : يا فتح إنما قلت : اللطيف للخلق اللطيف ولعلمه بالشيء اللطيف ، ألا ترى إلى أثر صنعه في النبات اللطيف وغير اللطيف ، وفي الخلق اللطيف من أجسام الحيوان من الجرجس والبعوض وما هو أصغر منهما مما لا يكاد تستبينه العيون ، بل لا يكاد يستبان لصغره الذكر من الأنثى ، والمولود من القديم ، فلما رأينا صغر ذلك في لطفه واهتدائه للسفاد والهرب من الموت والجمع لما يصلحه بما في لجج البحار (1) وما في لحاء الأشجار والمفاوز والقفار و إفهام بعضها عن بعض منطقها (2) وما تفهم به أولادها عنها ، ونقلها الغذاء إليها ، ثم تأليف ألوانها حمرة مع صفرة وبياض مع حمرة علمنا أن خالق هذا الخلق لطيف ، وأن كل صانع شيء فمن شيء صنع (3) والله الخالق اللطيف الجليل خلق وصنع لا من شيء .
   قلت : جعلت فداك وغير الخالق الجليل خالق ؟ قال : إن الله تبارك وتعالى يقول : ( فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ) (4) فقد أخبر أن في عباده خالقين (5) منهم عيسى ابن مريم ، خلق من الطين كهيئة الطير بإذن الله فنفخ فيه فصار طائرا بإذن الله ، والسامري خلق لهم عجلا جسدا له خوار ، قلت : إن عيسى خلق من الطين طيرا

---------------------------
(1) في البحار ( سما في لجج البحار ) وفي الكافي ( وما في لجج البحار ).
(2) استعمل الأفهام ههنا بمعنى التفاهم إذ تعدى بعن .
(3) قوله : ( وإن كل صانع شيء ـ الخ ) جملة مستأنفة ، ويحتمل بعيدا عطفه على مدخول علمنا .
(4) المؤمنون : 14.
(5) هذا لا ينافي قوله تعالى : ( اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْء ) إذ هو تعالى خالق كل شيء بواسطة أو بلا واسطة ، فإسناد خلق بعض الأشياء إلى الوسائط لا يخرجه عن كونه مخلوقا له تعالى .

التوحيد _ 64 _

   دليلا على نبوته ، والسامري خلق عجلا جسدا لنقض نبوة موسى عليه السلام ، وشاء الله أن يكون ذلك كذلك ؟ إن هذا لهو العجب ، فقال : ويحك يا فتح إن لله إرادتين ومشيتين إرادة حتم وإرادة عزم (1) ينهى وهو يشاء ، ويأمر وهو لا يشاء ، أوما رأيت أنه نهى آدم وزوجته عن أن يأكلا من الشجرة وهو شاء ذلك ، ولو لم يشأ لم يأكلا ولو أكلا لغلبت مشيتهما مشية الله (2) وأمر إبراهيم بذبح ابنه إسماعيل عليهما السلام ، و شاء أن لا يذبحه ، ولو لم يشأ أن لا يذبحه لغلبت مشية إبراهيم مشيئة الله عزوجل (3)

---------------------------
(1) إن لله تعالى إرادة عزم سماها المتكلمون بالإرادة التشريعية هي أمره ونهيه بل نفس تشريعه ، والتشريع هو تعليم الله تعالى عبادة كيفية سلوكهم في طريقة العبودية وهذه لا تأثير لها في شيء من أفعال العباد إلا أن لها شأنية بعثهم للأفعال والتروك .
   وإرادة حتم سموها بالتكوينية ولها تعلق بأفعالهم بمعنى أنه تعالى يريد أفعالهم من طريق اختيارهم وإرادتهم ، وبعبارة أخرى أن فعل العبد لا يقع في ملكه تعالى إلا بإرادته تعالى جميع مقدماته التي منها اختيار العبد الموهوب من عند الله تعالى ، فإن الله تعالى يريد فعل العبد هكذا وإذا لم يرده يبطل بعض المقدمات فيبقى عاجزا ، فالعبد دائما مقهور في فعله تحت إرادة الله لأن بيده الاختيار فقط الذي هو موهوب من الله تعالى وباقي المقدمات خارج من يده ، فإن تمت واختار العبد وقع الفعل وإلا فلا ، والمدح والذم دائما يتوجهان إلى العبد في فعله وتركه لأنه عند نقصان المقدمات لا يذم ولا يمدح لعجزه عن إتيان الفعل وتركه بل تارك قهرا وعند تمامها يختار أو لا يختار فيمدح أو يذم ، وباقي الكلام في الأبواب الآتية المناسبة له .
(2) أي ولو أكلا مع عدم مشية الله تعالى للأكل بإبطال بعض المقدمات لغلبت الخ.
(3) أي شاء عدم الذبح بتحقيق علته وهي عدم علة الذبح التامة فإن علة عدم الشيء عدم علته ، وعدم علة الذبح تحقق بإبطال تأثير السكين ، وأما إبراهيم عليه السلام فشاء أن يذبحه فوقع ما شاء الله ولم يقع ما شاء إبراهيم وإن كان مأمورا بإيقاعه ، ولو لم يشأ الله أن لا يذبحه وشاء إبراهيم أن لا يذبحه في هذه الصورة التي لم يقع الذبح لغلبت مشيئة إبراهيم مشية الله.
   وفي الكافي باب المشيئة والإرادة : ( وأمر إبراهيم أن يذبح إسحاق ولم يشأ أن يذبحه ولو شاء لما غلبت مشيئة إبراهيم مشيئة الله تعالى ) أي ولو شاء لذبحه وما غلبت مشيئة إبراهيم مشيئة الله تعالى لتوافق المشيئتين ، ثم إن المأمور بالذبح في رواية الكافي إسحاق ، وفي نسخة ( و ) و ( ب ) و ( ج ) و ( د ) لم يذكر الاسم بل فيها هكذا : ( وأمر إبراهيم بذبح ابنه عليهما السلام ـ الخ ) لكن الأخبار الكثيرة صريحة في أن المأمور بالذبح هو إسماعيل عليه السلام.

التوحيد _ 65 _

   قلت : فرجت عني فرج الله عنك ، غير أنك قلت : السميع البصير ، سميع بالأذن وبصير بالعين ؟ فقال : إنه يسمع بما يبصر ، ويرى بما يسمع ، بصير لا بعين مثل عين المخلوقين ، وسميع لا بمثل سمع السامعين ، لكن لما لم يخف عليه خافية من أثر الذرة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء تحت الثرى والبحار قلنا : بصير ، لا بمثل عين المخلوقين ، ولما لم يشتبه عليه ضروب اللغات ولم يشغله سمع عن سمع قلنا : سميع ، لا مثل سمع السامعين.
   قلت : جعلت فداك قد بقيت مسألة ، قال : هات لله أبوك.
   قلت : يعلم القديم الشيء الذي لم يكن أن لو كان كيف كان يكون ؟ (1) قال : ويحك إن مسائلك لصعبة ، أما سمعت الله يقول : ( لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا ) (2) وقوله : ( وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ) (3) وقال يحكي قول أهل النار : ( أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ ) (4) وقال : ( وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ ) (5) فقد علم الشيء الذي لم يكن أن لو كان كيف كان يكون .
   فقمت لا قبل يده ورجله ، فأدنى رأسه فقبلت وجهه ورأسه ، وخرجت و بي من السرور والفرح ما أعجز عن وصفه لما تبينت من الخير والحظ.
   قال مصنف هذا الكتاب رضي الله عنه : إن الله تبارك وتعالى نهى آدم وزوجته عن أن يأكلا من الشجرة ، وقد علم أنهما يأكلان منها ، لكنه عزوجل شاء أن لا يحول بينهما وبين الأكل منها بالجبر والقدرة (6) كما منعهما من الأكل منها

---------------------------
(1) ( أن ) بالفتح مع ما بعده مأول بالمصدر وبدل اشتمال للشئ الذي هو مفعول يعلم .
(2) الأنبياء : 22.
(3) المؤمنون : 91.
(4) فاطر : 37.
(5) الأنعام : 28.
(6) هذا لازم مشيته تعالى لفعل العبد على النحو الذي بيناه .

التوحيد _ 66 _

   بالنهي والزجر ، فهذا معنى مشيته فيهما ، ولو شاء عزوجل منعهما من الأكل بالجبر ثم أكلا منها لكانت مشيتهما قد غلبت مشيته كما قال العالم عليه السلام ، تعالى الله عن العجز علوا كبيرا .
  19 ـ حدثنا علي بن أحمد بن محمد بن عمران الدقاق رحمه الله ، قال : حدثنا محمد بن أبي عبد الله الكوفي ، قال : حدثني محمد بن جعفر البغدادي ، عن سهل بن زياد ، عن أبي الحسن علي بن محمد عليهما السلام ، أنه قال : ( إلهي تاهت أوهام المتوهمين وقصر طرف الطارفين ، وتلاشت أوصاف الواصفين ، واضمحلت أقاويل المبطلين عن الدرك لعجيب شأنك ، أو الوقوع بالبلوغ إلى علوك (1) فأنت في المكان الذي لا يتناهى (2) ولم تقع عليك عيون بإشارة ولا عبارة (3) هيهات ثم هيهات ، يا أولي ، يا وحداني ، يا فرداني (4) شمخت في العلو بعز الكبر ، وارتفعت من وراء كل غورة ونهاية بجبروت الفخر ).
  20 ـ حدثنا علي بن أحمد بن محمد بن عمران الدقاق رحمه الله ، قال : حدثني محمد بن أبي عبد الله الكوفي ، عن محمد بن إسماعيل البرمكي ، عن الحسين بن الحسن ، قال : حدثني أبو سمينة ، عن إسماعيل بن أبان ، عن زيد بن جبير ، عن جابر الجعفي ، قال : جاء رجل من علماء أهل الشام إلى أبي جعفر عليه السلام ، فقال : جئت أسألك عن مسألة لم أجد أحدا يفسرها لي ، وقد سألت ثلاثة أصناف من الناس ، فقال كل صنف غير ما قال الآخر ، فقال أبو جعفر عليه السلام : وما ذلك ؟ فقال : أسألك ، ما أول ما خلق الله عزوجل من خلقه ؟ (5) فإن بعض من سألته قال :

---------------------------
(1) أي الوقوع عليك بسبب البلوغ إلى علوك ، والوقوع بمعنى الوقوف والاطلاع.
(2) في نخسة ( د ) و ( و ) و ( ب ) ( فأنت الذي لا يتناهى ).
(3) ( ولا عبارة ) متعلق بمحذوف إذ لا يستقيم قولنا : ولم تقع عليك عيون بعبارة أو المراد بالعيون مطلق الإدراكات.
(4) ياءات النسبة للمبالغة ، وفي نسخة ( ب ) و ( د ) ( يا أزلي ).
(5) في نسخة ( ج ) فقال : ( أسألك عن أول ـ الخ ).

التوحيد _ 67 _

   القدرة ، وقال بعضهم : العلم ، وقال بعضهم : الروح ، فقال أبو جعفر عليه السلام : ما قالوا شيئا ، أخبرك أن الله علا ذكره كان ولا شيء غيره ، وكان عزيزا ولا عز لأنه كان قبل عزه (1) وذلك قوله : ( سبحان ربك رب العزة عما يصفون ) (2) وكان خالقا ولا مخلوق (3) فأول شيء خلقه من خلقه الشيء الذي جميع الأشياء منه ، وهو الماء (4) فقال السائل : فالشئ خلقه من شيء أو من لا شيء ؟ فقال : خلق الشيء لا من شيء كان قبله ، ولو خلق الشيء من شيء إذا لم يكن له انقطاع أبدا ، ولم يزل الله إذا ومعه شيء (5) ولكن كان الله ولا شيء معه ، فخلق الشيء الذي جميع الأشياء ، منه ، وهو الماء.
  21 ـ أبي رحمه الله ، قال : حدثنا سعد بن عبد الله ، قال : حدثنا محمد بن الحسين ابن أبي الخطاب ، عن محمد بن إسماعيل بن بزيع ، عن إبراهيم بن عبد الحميد ، قال : سمعت أبا الحسن عليه السلام يقول في سجوده : ( يا من علا فلا شيء فوقه ، يا من دنا فلا شيء دونه ، اغفر لي ولأصحابي ).

---------------------------
(1) أي كان عزيزا بذاته ولم يظهر عزه على خلقه لأنه كان قبل ظهور عزه على خلقه إذ كان ولا شيء غيره.
(2) الصافات : 180.
(3) أي كان تاما بذاته في جهات الخلق والايجاد من دون توقف في خلقه على شيء ولا انتظار لشيء ولا مخلوق .
(4) إن كان المراد به الماء الجسماني فهو أول شيء من الجسمانيات ، وإن استعاره لأول شيء صدر منه تعالى فهو أول الأشياء مطلقا الذي عبر عنه في أخبار بالعقل والنور ، والثاني أظهر لشهادة ذيل الحديث.
(5) أجاب عليه السلام عن أول شقي الترديد في السؤال بلزوم التسلسل أو أن يكون لله تعالى ثان في الأزلية ، ولم يجب عن الشق الثاني لظهور أن لا شيء لا يكون مبدءا للشئ ، فتعين الشق الثالث وهو خلق الشيء لا من شيء بأن يكون هو تعالى بذاته مبدءا له ، ولصاحب الكافي بيانا في باب جوامع التوحيد لنظير هذا الكلام في حديث لأمير المؤمنين عليه السلام فليراجع .

التوحيد _ 68 _

  22 ـ أبي رحمه الله ، قال : حدثنا أحمد بن إدريس ، عن محمد بن أحمد ، عن سهل ابن زياد ، عن أحمد بن بشر (1) عن محمد بن جمهور العمي ، عن محمد بن الفضيل بن يسار ، عن عبد الله بن سنان ، عن أبي عبد الله عليه السلام ، قال : قال في الربوبية العظمى والإلهية الكبرى : لا يكون الشيء لا من شيء إلا الله ، ولا ينقل الشيء من جوهريته إلى جوهر آخر إلا الله ، ولا ينقل الشيء من الوجود إلى العدم إلا الله (2).
  23 ـ حدثنا محمد بن موسى بن المتوكل رضي الله عنه قال : حدثنا علي بن إبراهيم بن هاشم ، قال : حدثنا أبي ، عن الريان بن الصلت ، عن علي بن موسى الرضا عليهما السلام ، عن أبيه ، عن آبائه ، عن أمير المؤمنين عليهم السلام ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله : قال الله جل جلاله ، ما آمن بي من فسر برأيه كلامي ، وما عرفني من شبهني بخلقي ، وما على ديني من استعمل القياس في ديني .
  24 ـ حدثنا أبو عبد الله الحسين بن محمد الأشناني الرازي العدل ببلخ ، قال : حدثنا علي بن مهرويه القزويني ، عن داود بن سليمان الفراء (3) عن علي بن موسى الرضا ، عن أبيه ، عن آبائه ، عن علي عليهم السلام ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله : التوحيد نصف الدين ، واستنزلوا الرزق بالصدقة (4).
  25 ـ حدثنا محمد بن موسى بن المتوكل رحمه الله ، قال : حدثنا علي بن الحسين

---------------------------
(1) في نسخة ( ج ) ( أحمد بن بشير ).
(2) مضمون هذا الحديث معنى قولهم : ( لا مؤثر في الوجود إلا الله ) فكل ما يقع في الوجود من دون أن يكون من شيء فهو من تكوينه وإبداعه ، فكل مصنوع لكل أحد إلا الله فيه شيء كان قبله وشيء حادث أفاضه الله تعالى .
(3) كذا راجع ص 377.
(4) التوحيد بشروطه من سائر الاعتقادات الحقة نصف الدين ، والنصف الآخر العمل بما اقتضاه التوحيد ، وقوله : ( واستنزلوا ـ الخ ) تنبيه على أن هم الرزق لا يشغلهم عن الدين وتحصيل معارفه فإنه مقسوم بينكم مضمون لكم يصل إليكم من رازقكم ، فإن قدر عليكم في بعض الأحيان فاستنزلوه واطلبوا السعة بالصدقة والإنفاق كما قال تعالى : ( وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ ).

التوحيد _ 69 _

   السعد آبادي ، قال : حدثنا أحمد بن أبي عبد الله البرقي ، عن داود بن القاسم ، قال :
   سمعت علي بن موسى الرضا عليهما السلام ، يقول : من شبه الله بخلقه فهو مشرك ، ومن وصفه بالمكان فهو كافر ، ومن نسب إليه ما نهى عنه فهو كاذب ، ثم تلا هذه الآية : ( إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأُوْلئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ ) (1).
  26 ـ حدثنا أبو العباس محمد بن إبراهيم بن إسحاق الطالقاني رضي الله عنه ، قال : حدثنا أبو سعيد الحسن بن علي العدوي ، قال : حدثنا الهيثم بن عبد الله الرماني ، قال : حدثنا علي بن موسى الرضا ، عن أبيه موسى بن جعفر ، عن أبيه جعفر بن محمد ، عن أبيه محمد بن علي ، عن أبيه علي بن الحسين ، عن أبيه الحسين بن علي عليهم السلام ، قال : خطب أمير المؤمنين عليه السلام الناس في مسجد الكوفة ، فقال : الحمد لله الذي لا من شيء كان ، ولا من شيء كون ما قد كان ، مستشهد بحدوث الأشياء على أزليته (2) وبما وسمها به من العجز على قدرته ، وبما اضطرها إليه من الفناء على دوامه ، لم يخل منه مكان فيدرك بأينية ، ولا له شبه مثال فيوصف بكيفية (3) ولم يغب عن علمه شيء فيعلم بحيثية (4) مبائن لجميع ما أحدث في

---------------------------
(1) النحل : 105.
(2) في البحار ( المستشهد ـ الخ ).
(3) في البحار باب جوامع التوحيد وفي نسخة ( و ) و ( ب ) و ( د ) ( ولا له شبح مثال ـ الخ ).
(4) ( فيعلم ) على صيغة المعلوم والمستتر فيه يرجع إلى الله تعالى ومفعوله محذوف ، أي لم يغب عن علمه شيء فيعلمه بحيثية دون حيثية بل أحاط بكل شيء علما إحاطة تامة ، أو المعنى لم يخرج عن علمه شيء حتى يعلم ذلك الشيء بصورته التي هي حيثية من حيثياته ، وفي البحار ( ولم يغب عن شيء فيعلم بحيثية ) ويحتمل أن يكون على صيغة المجهول كالفعلين قبله ، وفي نسخة ( ط ) و ( ج ) و ( د ).
   ( بحيثية ) بالإضافة إلى الضمير وكذا ( بكيفيته ) وفي نسخة ( ن ) و ( ب ) كذلك في ( باينيته أيضا ).

التوحيد _ 70 _

   الصفات ، وممتنع عن الادراك بما ابتدع من تصريف الذوات (1) وخارج بالكبرياء والعظمة من جميع تصرف الحالات ، محرم على بوارع ثاقبات الفطن تحديده (2) و على عوامق ناقبات الفكر تكييفه ، وعلى غوائص سابحات الفطر تصويرة (3) لا تحويه الأماكن لعظمته ، ولا تذرعه المقادير لجلاله ، ولا تقطعه المقائيس لكبريائه ، ممتنع عن الأوهام أن تكتنهه ، وعن الأفهام أن تستغرقه (4) وعن الأذهان أن تمثله ، قد يئست من استنباط الإحاطة به طوامح العقول ، ونضبت عن الإشارة إليه بالاكتناه بحار العلوم ، ورجعت بالصغر عن السمو إلى وصف قدرته لطائف الخصوم (5) واحد لا من عدد ، ودائم لا بأمد ، وقائم لا بعمد ، ليس بجنس فتعادله الأجناس ، ولا بشبح فتضارعه الأشباح ، ولا كالأشياء فتقع عليه الصفات ، قد ضلت العقول في أمواج

---------------------------
(1) ( بما ) متعلق بالادراك أي يمتنع أن يدرك ذاته بما ابتدع من الذوات الممكنة المتغيرة المتصرفة لأن ذاته مبائنة لهذه الذوات والشئ لا يعرف بمبائنه .
(2) هذا من إضافة الصفة إلى الموصوف أي الفطن الثاقبة البارعة ، وكذا فيما بعده .
(3) في البحار ( النظر ) مكان ( الفطر ) ، وهو أنسب لأن الغوص من شؤون النظر الذي يغوص في بحار المبادي ويأخذ ما يناسب مطلوبه التصوري أو التصديقي وأما الفطرة فساكنة مطمئنة تنظر دائما بعينها إلى جناب قدس الرب تعالى وعينها عمياء عما سواه ، وهذا هو الدين القيم الحنيف الذي أمر بإقامة الوجه له في الكتاب.
(4) في نسخة ( ج ) وحاشية نسخة ( ط ) ( أن تستعرفه ).
(5) الباء بمعنى مع والى متعلق بالسمو ، أي رجعت الخصوم اللطيفة الدقيقة مع الذل والحقارة عن التصعد إلى وصف قدرته ، والمراد بالخصوم الأوهام وإنما أطلق الخصم على الوهم لأنه يخاصم وينازع العقل فيما هو خارج عن إدراكه فيشبهه في الإحكام بما هو في إدراكه ، ويحتمل أن يكون المراد بها الأفكار القوية التي تنازع جنود الجهل وتفتح قلاع المجملات والمجهولات لسلطان النفس وهي مع ذلك ترجع من تلك المعركة مهانة ذليلة مقهورة .

التوحيد _ 71 _

   تيار إدراكه ، وتحيرت الأوهام عن إحاطة ذكر أزليته (1) وحصرت الأفهام عن استشعار وصف قدرته ، وغرقت الأذهان في لجج أفلاك ملكوته (2) مقتدر بالآلاء (3) وممتنع بالكبرياء ومتملك على الأشياء (4) فلا دهر يخلقه (5) ولا وصف يحيط به ، قد خضعت له ثوابت الصعاب في محل تخوم قرارها ، وأذعنت له رواصن الأسباب في منتهى شواهق أقطارها (6) مستشهد بكلية الأجناس على ربوبيته (7) وبعجزها على قدرته ، وبفطورها على قدمته ، وبزوالها على بقائه ، فلا لها محيص عن إدراكه إياها ، ولا خروج من إحاطته بها ، ولا احتجاب عن إحصائه لها (8) ولا امتناع من قدرته عليها ، كفى بإتقان الصنع لها آية ، وبمركب الطبع عليها دلالة (9) و بحدوث الفطر عليها قدمة (10) وبإحكام الصنعة لها عبرة ، فلا إليه حد منسوب ، و

---------------------------
(1) في نسخة ( و ) و ( د ) و ( ب ) ( وتخبطت الأوهام ـ الخ ).
(2) الفلك من كل شيء مستداره ومعظمه.
(3) أي مقتدر على الآلاء ، أو مقتدر على الخلق بالآلاء بأن يعطيهم إياها ويمنعهم إياها.
(4) في نسخة ( د ) و ( و ) وحاشية نسخة ( ب ) ( ومستملك بالأشياء ).
(5) من الأخلاق أي لا يبليه دهر.
(6) الظاهر أن المراد بثوابت الصعاب ما في الأرض من أصول الكائنات وبرواصن الأسباب ما في السماوات من علل الحادثات ، وفي البحار وفي نسخة ( ب ) و ( و ) و ( د ) ( رواتب الصعاب ).
(7) أي بكل ضرب من ضروب الأشياء وكل قسم من أقسام الموجودات.
(8) في نسخة ( د ) وحاشية نسخة ( ب ) ( ولا احتجار عن إحصائه لها ) من الحجر بمعنى المنع.
(9) أي بالطبع المركب على الأجناس ، أو مصدر ميمي بمعنى تركيب الطبع عليها.
(10) أي كفى بحدوث الايجاد على الأجناس أو حدوث التفطر والانعدام عليها دلالة على قدمته .

التوحيد _ 72 _

   لا له مثل مضروب ، ولا شيء عنه محجوب ، تعالى عن ضرب الأمثال والصفات المخلوقة علوا كبيرا .
   وأشهد أن لا إله إلا الله إيمانا بربوبيته ، وخلافا على من أنكره ، وأشهد أن محمد عبده ورسوله المقر في خير مستقر ، المتناسخ من أكارم الأصلاب ومطهرات الأرحام (1) المخرج من أكرم المعادن محتدا ، وأفضل المنابت منبتا ، من أمنع ذروة ، وأعز أرومة ، من الشجرة التي صاغ الله منها أنبياءه (2) وانتجب منها أمناءه الطيبة العود ، المعتدلة العمود ، الباسقة الفروع ، الناضرة الغصون ، اليانعة الثمار الكريمة الحشا ، في كرم غرست ، وفي حرم أنبتت ، وفيه تشعبت ، وأثمرت ، و عزت ، وامتنعت ، فسمت به (3) وشمخت حتى أكرمه الله عزوجل بالروح الأمين والنور المبين والكتاب المستبين ، وسخر له البراق ، وصافحته الملائكة ، وأرعب به الأباليس ، وهدم به الأصنام والآلهة المعبودة دونه ، سنته الرشد ، وسيرته العدل وحكمه الحق ، صدع بما أمره ربه ، وبلغ ما حمله ، حتى أفصح بالتوحيد دعوته وأظهر في الخلق أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، حتى خلصت له الوحدانية وصفت له الربوبية ، وأظهر الله بالتوحيد حجته ، وأعلى بالاسلام درجته ، واختار الله عزوجل لنبيه ما عنده من الروح والدرجة والوسيلة ، صلى الله عليه عدد ما صلى على أنبيائه المرسلين ، وآله الطاهرين.
  27 ـ حدثنا محمد بن محمد بن عصام الكليني رحمه الله قال : حدثنا محمد بن يعقوب الكليني ، قال : حدثنا محمد بن علي بن معن ، قال : حدثنا محمد بن علي بن عاتكة ، عن الحسين بن النضر الفهري ، عن عمرو الأوزاعي ، عن عمرو بن شمر ، عن جابر

---------------------------
(1) المقر بصيغة المفعول من باب الأفعال ، والمتناسخ بمعنى المنتقل.
(2) في إبراهيم عليه السلام ، وفي الحديث ( ما من نبي بعده إلا من صلبه ) كما قال تعالى : ( و ... لنا في ذريته النبوة والكتاب ).
(3) الضمير المجرور إما يرجع إلى حرم فالباء للظرفية ، ويحتمل التعدية أو إلى محمد صلى الله عليه وآله ، فللسببية ، والضمائر المؤنثة كلها راجعة إلى الشجرة.

التوحيد _ 73 _

   ابن يزيد الجعفي ، عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر ، عن أبيه ، عن جده عليهم السلام ، قال : قال أمير المؤمنين عليه السلام في خطبة خطبها بعد موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم بسبعة أيام ، و ذلك حين فرغ من جمع القرآن فقال :
   الحمد لله الذي أعجز الأوهام أن تنال إلا وجوده (1) وحجب العقول عن أن تتخيل ذاته في امتناعها من الشبه والشكل ، بل هو الذي لم يتفاوت في ذاته ، ولم يتبعض بتجزئة العدد في كماله ، فارق الأشياء لا على اختلاف الأماكن ، وتمكن منها لا على الممازجة ، وعلمها لا بأداة ـ لا يكون العلم إلا بها ـ (2) وليس بينه وبين معلومه علم غيره ، إن قيل كان فعلى تأويل أزلية الوجود ، وإن قيل : لم يزل فعلى تأويل نفي العدم (3) فسبحانه وتعالى عن قول من عبد سواه واتخذ إلها غيره علوا كبيرا .
   ونحمده بالحمد الذي ارتضاه لخلقه ، وأوجب قبوله على نفسه ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمد عبده ورسوله ، شهادتان ترفعان القول ، وتضاعفان العمل ، خف ميزان ترفعان منه ، وثقل ميزان توضعان فيه ، و بهما الفوز بالجنة والنجاة من النار ، والجواز على الصراط ، وبالشهادتين يدخلون الجنة ، وبالصلاة ينالون الرحمة ، فأكثروا من الصلاة على نبيكم وآله ، إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما .
   أيها الناس إنه لا شرف أعلى من الإسلام ، ولا كرم أعز من التقى ، ولا معقل أحرز من الورع ، ولا شفيع أنجح من التوبة ، ولا كنز أنفع من العلم ، ولا عز أرفع من الحلم ، ولا حسب أبلغ من الأدب ، ولا نسب أوضع من الغضب ، ولا

---------------------------
(1) أي لا يدرك منه إلا أنه تعالى موجود وأما ذاته فلا ، وفي البحار باب جوامع التوحيد عن تحف العقول : ( أعدم الأوهام أن تنال إلى وجوده ) أي إلى ذاته.
(2) هذه الجملة صفة لأداة والضمير المجرور بالباء يرجع إليها ، أي علم الأشياء لا بأداة لا يكون علم المخلوق إلا بها .
(3) أي ليس كونه وبقاؤه مقرونين بالزمان على ما يفهم من كلمة كان ولم يزل .

التوحيد _ 74 _

   جمال أزين من العقل ، ولا سوء أسوء من الكذب ، ولا حافظ أحفظ من الصمت ، ولا لباس أجمل من العافية ، ولا غائب أقرب من الموت.
   أيها الناس إنه من مشى على وجه الأرض فإنه يصير إلى بطنها ، والليل والنهار مسرعان في هدم الأعمار ، ولكل ذي رمق قوت ، ولكل حبة آكل ، و أنتم قوت الموت ، وإن من عرف الأيام لم يغفل عن الاستعداد ، لن ينجو من الموت غني بماله ولا فقير لا قلاله .
   أيها الناس من خاف ربه كف ظلمه ، ومن لم يرع في كلامه أظهر هجره ومن لم يعرف الخير من الشر فهو بمنزلة البهم ، ما أصغر المصيبة مع عظم الفاقة غدا ، هيهات هيهات ، وما تناكرتم إلا لما فيكم من المعاصي والذنوب ، فما أقرب الراحة من التعب ، والبؤس من النعيم ، وما شر بشر بعده الجنة ، وما خير بخير بعده النار ، وكل نعيم دون الجنة محقور ، وكل بلاء دون النار عافية .
  28 ـ حدثنا تميم بن عبد الله بن تميم القرشي رضي الله عنه ، قال : حدثني أبي ، عن حمدان بن سليمان النيسابوري ، عن علي بن محمد بن الجهم ، قال : حضرت مجلس المأمون وعنده علي بن موسى الرضا عليهما السلام ، فقال له المأمون : يا ابن رسول الله أليس من قولك إن الأنبياء معصومون ، قال : بلى ، قال : فسأله عن آيات من القرآن ، فكان فيما سأله أن قال له : فأخبرني عن قول الله عزوجل في إبراهيم ( فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي ) فقال الرضا عليه السلام : إن إبراهيم عليه السلام وقع إلى ثلاثة أصناف : صنف يعبد الزهرة ، وصنف يعبد القمر ، وصنف يعبد الشمس ، وذلك حين خرج من السرب الذي أخفي فيه ، فلما جن عليه الليل و رأى الزهرة قال : هذا ربي على الانكار والاستخبار ، فلما أفل الكوكب قال : ( لا أحب الآفلين ) لأن الأفول من صفات المحدث لا من صفات القديم ، فلما رأى القمر بازغا قال : هذا ربي على الانكار والاستخبار ، فلما أفل قال : ( لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين ) فلما أصبح ( ورأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر ) من الزهرة والقمر على الإنكار والإستخبار لا على الإخبار

التوحيد _ 75 _

  والإقرار ، فلما أفلت قال للأصناف الثلاثة من عبدة الزهرة والقمر والشمس : ( يا قوم إني بريء مما تشركون إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين ) وإنما أراد إبراهيم بما قال أن يبين لهم بطلان دينهم ، ويثبت عندهم أن العبادة لا تحق لما كان بصفة الزهرة والقمر والشمس ، وإنما تحق العبادة لخالقها وخالق السماوات والأرض ، وكان ما احتج به على قومه مما ألهمه الله عزوجل وآتاه كما قال الله عزوجل : ( وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ ) (1) فقال المأمون : لله درك يا ابن رسول الله. والحديث طويل أخذنا منه موضع الحاجة ، وقد أخرجته بتمامه في كتاب عيون أخبار الرضا عليه السلام.
  29 ـ حدثنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رحمه الله ، قال : حدثنا محمد بن يحيى العطار ، عن الحسين بن الحسن بن أبان ، عن محمد بن أورمة ، عن إبراهيم ابن الحكم بن ظهير ، عن عبد الله بن جرير العبدي ، عن أبي عبد الله عليه السلام ، أنه كان يقول : الحمد لله الذي لا يحس ، ولا يجس ، ولا يمس ، ولا يدرك بالحواس الخمس ، ولا يقع عليه الوهم ، ولا تصفه الألسن ، وكل شيء حسته الحواس أو لمسته الأيدي فهو مخلوق ، الحمد لله الذي كان إذ لم يكن شيء غيره ، وكون الأشياء فكانت كما كونها ، وعلم ما كان وما هو كائن .
  30 ـ حدثنا أحمد بن زياد بن جعفر الهمداني رضي الله عنه ، قال : حدثنا علي بن إبراهيم بن هاشم ، عن أبيه ، عن القاسم بن يحيى ، عن جده الحسن بن راشد ، عن يعقوب بن جعفر ، قال : سمعت أبا إبراهيم موسى بن جعفر عليهما السلام ، وهو يكلم راهبا من النصارى ، فقال له في بعض ما ناظره : إن الله تبارك وتعالى أجل وأعظم من أن يحد بيد أو رجل أو حركة أو سكون ، أو يوصف بطول أو قصر ، أو تبلغه .
   الأوهام ، أو تحيط به صفة العقول (2) أنزل مواعظه ووعده ووعيده ، أمر بلا شفة

---------------------------
(1) الأنعام : 83 ، والآيات قبل هذه الآية.
(2) في البحار وفي نسخة ( ب ) و ( د ) و ( ج ) و ( و ) ( أو تحيط بصفته العقول ).

التوحيد _ 76 _

   ولا لسان ، ولكن كما شاء أن يقول له كن فكان خبرا كما أراد في اللوح (1).
  31 ـ حدثنا أحمد بن هارون الفامي رضي الله عنه ، قال : حدثنا محمد بن عبد الله ابن جعفر بن جامع الحميري ، عن أبيه ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن أبيه ، عن محمد بن أبي عمير ، عن غير واحد ، عن أبي عبد الله عليه السلام قال : من شبه الله بخلقه فهو مشرك ، ومن أنكر قدرته فهو كافر .
  32 ـ حدثنا أبي ، وعبد الواحد بن محمد بن عبدوس العطار رحمهما الله ، قالا : حدثنا علي بن محمد بن قتيبة ، عن الفضل بن شاذان ، عن محمد بن أبي عمير ، قال : دخلت على سيدي موسى بن جعفر عليهما السلام ، فقلت له : يا ابن رسول الله علمني التوحيد فقال : يا أبا أحمد لا تتجاوز في التوحيد ما ذكره الله تعالى ذكره في كتابه فتهلك ، واعلم أن الله تعالى واحد ، أحد ، صمد ، لم يلد فيورث ، ولم يولد فيشارك ، ولم يتخذ صاحبة ولا ولدا ولا شريكا ، وإنه الحي الذي لا يموت ، والقادر الذي لا يعجز ، والقاهر الذي لا يغلب ، والحليم الذي لا يعجل ، والدائم الذي لا يبيد ، والباقي الذي لا يفنى ، والثابت الذي لا يزول ، والغني الذي لا يفتقر ، والعزيز الذي لا يذل ، والعالم الذي لا يجهل ، والعدل الذي لا يجور ، والجواد الذي لا يبخل ، و إنه لا تقدره العقول ، ولا تقع عليه الأوهام ، ولا تحيط به الأقطار ، ولا يحويه مكان ، ولا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير ، وليس كمثله شيء وهو السميع البصير ( ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا ) وهو الأول الذي لا شيء قبله ، والآخر الذي لا شيء بعده ، وهو القديم وما سواه مخلوق محدث ، تعالى

---------------------------
(1) قوله : ( خبرا ) بضم الخاء المعجمة وسكون الباء بمعنى العلم وهو بمعنى الفاعل حال من فاعل ( شاء ) ، وفي نسخة ( و ) و ( د ) و ( ب ) بالجيم والباء الموحدة ، أي شاء من دون خيرة للمخلوق فيما كان بمشيئته ، وفي البحار باب نفي الجسم والصورة وفي نسخة ( ج ) بالخاء المعجمة والياء المثناة من تحت ، وقوله : ( كما أراد ـ الخ ) أي ما حدث في الوجود بقوله كن كان كما أراد وأثبت في لوح التقدير أو لوح من الألواح السابقة عليه إلى أن ينتهي إلى عمله .

التوحيد _ 77 _

   عن صفات المخلوقين علوا كبيرا .
  33 ـ حدثنا أبو سعيد محمد بن الفضل بن محمد بن إسحاق المذكر المعروف بأبي سعيد المعلم بنيسابور ، قال : حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، قال : حدثنا علي ابن سلمة الليفي ، قال : حدثنا إسماعيل بن يحيى بن عبد الله ، عن عبد الله بن طلحة بن هجيم ، قال : حدثنا أبو سنان الشيباني سعيد بن سنان ، عن الضحاك ، عن النزال ابن سبرة (1) ، قال : جاء يهودي إلى علي بن أبي طالب عليه السلام ، فقال : يا أمير المؤمنين متى كان ربنا ؟ قال : فقال له علي عليه السلام : إنما يقال : متى كان لشيء لم يكن فكان وربنا تبارك وتعالى هو كائن بلا كينونة (2) كائن ، كان بلا كيف يكون ، كائن لم يزل بلا لم يزل ، وبلا كيف يكون ، كان لم يزل ليس له قبل ، هو قبل القبل بلا قبل وبلا غاية ولا منتهى ، غاية ولا غاية إليها (3) غاية انقطعت الغايات عنه ، فهو غاية كل غاية .
  34 ـ أخبرني أبو العباس الفضل بن الفضل بن العباس الكندي فيما أجازه لي بهمدان سنة أربع وخمسين وثلاثمائة ، قال : حدثنا محمد بن سهل يعني العطار البغدادي لفظا من كتابه سنة خمس وثلاثمائة ، قال : حدثنا عبد الله بن محمد البلوي قال : حدثني عمارة بن زيد ، قال : حدثني عبد الله بن العلاء (4) قال : حدثني

---------------------------
(1) النسخ في ضبط أسماء رجال هذا الحديث وألقابهم وكناهم مختلفة كثيرا ، وتركنا ذكر الاختلاف لقلة الجدوى فإنهم أو أكثرهم من العامة ، والحديث مذكور بسند آخر في الباب الثامن والعشرين في موضعين .
(2) أي ربنا تبارك وتعالى كائن بحقيقة الكينونة بلا أن يكون له كينونة زائدة على ذاته (3) أي هو غاية كل شيء ولا غاية له ينتهي إليها ، وحاصل كلامه عليه السلام أنه تعالى لا يتصف بمتى ولا بلوازمه من كونه ذا مبدء ومنتهى لأن ذلك ينافي الربوبية الكبرى بل الأشياء كلها حتى الزمان تبتدء منه وتنتهي إليه ، هو الأول والآخر .
(4) في البحار باب جوامع التوحيد وفي نسخة ( ب ) و ( و ) و ( ج ) ( عبيد الله بن العلاء ).

التوحيد _ 78 _

   صالح بن سبيع ، عن عمرو بن محمد بن صعصعة بن صوحان (1) قال : حدثني أبي عن أبي المعتمر مسلم بن أوس ، قال : حضرت مجلس علي عليه السلام في جامع الكوفة فقام إليه رجل مصفر اللون ـ كأنه من متهودة اليمن ـ فقال : يا أمير المؤمنين صف لنا خالقك وانعته لنا كأنا نراه وننظر إليه ، فسبح علي عليه السلام ربه وعظمه عزوجل وقال : الحمد لله الذي هو أول بلا بدئ مما (2) ولا باطن فيما ، ولا يزال مهما (3) ولا ممازج مع ما ، ولا خيال وهما (4) ليس بشبح فيرى ، ولا بجسم فيتجزأ ، ولا بذي غاية فيتناهى ، ولا بمحدث فيبصر ، ولا بمستتر فيكشف ، ولا بذي حجب فيحوى (5) كان ولا أماكن تحمله أكنافها ، ولا حملة ترفعه بقوتها ، ولا كان بعد أن لم يكن ، بل حارث الأوهام أن تكيف المكيف للأشياء ومن لم يزل بلا مكان ، ولا يزول باختلاف الأزمان ، ولا ينقلب شأنا بعد شأن (6) ، البعيد من حدس

---------------------------
(1) في نسخة ( د ) و ( ب ) ( عن عمر بن محمد ـ الخ ) ، وفي نسخة ( و ) وحاشية نسخة ( ط ) ( حدثني صالح بن سبيع بن عمرو بن محمد ـ الخ ) ورجال هذا السند كلهم مجاهيل إلا البلوى وهو رجل ضعيف مطعون عليه ، لكن لا ضير فيه لأن الاعتبار في أمثال هذه الأحاديث بالمتن ، ولو كان سندها معتبرا ولم تكن متونها موافقة لما تواتر من مذهب أهل البيت ( ع ) أو مضمونها مخالف لما دل عليه العقل لم تكن حجة إلا عند الحشوية من أهل الحديث.
(2) أي بلا بدئ من شيء ، وهو فعيل بمعنى المفعول أو الفاعل ، وعلى الأول فهو مضمون ما في خطبه الأخرى : ( لا من شيء كان ) وعلى الثاني فهو مضمون قوله : ( لا من شيء كون ما قد كان ) والأول أظهر بل الظاهر.
(3) أي ولا يزول أبدا فإن يزال يأتي بمعنى يزول قليلا ، ومهما لعموم الأزمان.
(4) الخيال بفتح الأول ما يتمثل في النوم واليقظة من صورة الشيء ، أي ولا هو كالخيال يتصور ويتمثل في قوة الوهم.
(5) أي لا يستره حجب فيكون محويا في مكان وراء الحجب.
(6) لا ينافي هذا ما في الآية الشريفة من أنه كل يوم هو في شأن لأن هنا بمعنى الحال في نفسه وهناك بمعنى الأمر في خلقه ، كما قال عليه السلام في صدر الحديث الأول : ( إنه كل يوم في شأن من إحداث بديع لم يكن ).

التوحيد _ 79 _

   القلوب (1) المتعالي عن الأشياء والضروب ، والوتر ، علام الغيوب ، فمعاني الخلق عنه منفية ، وسرائرهم عليه غير خفية ، المعروف بغير كيفية ، لا يدرك بالحواس ، ولا يقاس بالناس ، ولا تدركه الأبصار ، ولا تحيط به الأفكار ، ولا تقدره العقول ، ولا تقع عليه الأوهام ، فكل ما قدره عقل أو عرف له مثل فهو محدود ، وكيف يوصف بالأشباح ، و ينعت بالألسن الفصاح ؟ من لم يحلل في الأشياء فيقال هو فيها كائن ، ولم ينأ عنها فيقال هو عنها بائن ، ولم يخل منها فيقال أين ، ولم يقرب منها بالالتزاق ، ولم يبعد عنها بالافتراق ، بل هو في الأشياء بلا كيفية ، وهو أقرب إلينا من حبل الوريد ، وأبعد من الشبه من كل بعيد (2) لم يخلق الأشياء من أصول أزلية ، ولا من أوائل كانت قبله بدية (3) بل خلق ما خلق ، وأتقن خلقه ، وصور ما صور ، فأحسن صورته ، فسبحان من توحد في علوه ، فليس لشيء منه امتناع ، ولا له بطاعة أحد من خلقه انتفاع ، إجابته للداعين سريعة ، والملائكة له في السماوات والأرض مطيعة ، كلم موسى تكليما بلا جوارح وأدوات ولا شفة ولا لهوات (4) سبحانه و تعالى عن الصفات ، فمن زعم أن إله الخلق محدود فقد جهل الخالق المعبود ـ و الخطبة طويلة أخذنا منها موضع الحاجة ـ.
  35 ـ حدثنا أبو العباس محمد بن إبراهيم بن إسحاق الطالقاني رضي الله عنه .

---------------------------
(1) في نسخة ( ب ) و ( ج ) ( البعيد من حدث القلوب ).
(2) في البحار وفي نسخة ( ج ) و ( و ) و ( ب ) ( وأبعد من الشبهة ـ الخ ).
(3) بدية أي مبتدئة ، والمعنى لم يخلق الأشياء على مثال أشياء مبتدئة قبل خلق هذه الأشياء ، بل فعله إبداع واختراع ، والجملتان نظير قول الرضا عليه السلام في الحديث الخامس من الباب السادس : الحمد لله فاطر الأشياء ـ الخ ، وفي نسخة ( ط ) و ( ن ) ( أبدية ) مكان بدية .
(4) جمع لهاة وهي اللحمة الصغيرة المشرفة على الحلق في أقصى الفم تسمى باللسان الصغير عندها مخرج الكاف والقاف .

التوحيد _ 80 _

   قال : حدثنا أبو أحمد عبد العزيز بن يحيى الجلودي البصري بالبصرة ، قال : أخبرنا محمد بن زكريا الجوهري الغلابي البصري ، قال : حدثنا العباس بن بكار الضبي ، قال : حدثنا أبو بكر الهذلي عن عكرمة ، قال : بينما ابن عباس يحدث الناس إذ قام إليه نافع بن الأزرق ، فقال : يا ابن عباس تفتي في النملة والقملة ، صف لنا إلهك الذي تعبده ، فأطرق ابن عباس إعظاما لله عزوجل ، وكان الحسين ابن علي عليهما السلام جالسا ناحية ، فقال : إلي يا ابن الأزرق ، فقال : لست إياك أسأل : فقال ابن العباس : يا ابن الأزرق إنه من أهل بيت النبوة ، وهم ورثة العلم فأقبل نافع بن الأزرق نحو الحسين ، فقال له الحسين : يا نافع إن من وضع دينه على القياس لم يزل الدهر في الارتماس ، مائلا عن المنهاج ، ظاعنا في الاعوجاج ضالا عن السبيل ، قائلا غير الجميل ، يا ابن الأزرق أصف إلهي بما وصف به نفسه وأعرفه بما عرف به نفسه ، لا يدرك بالحواس ولا يقاس بالناس ، فهو قريب غير ملتصق ، وبعيد غير متقص ، يوحد ، ولا يبعض ، معروف بالآيات ، موصوف بالعلامات ، لا إله إلا هو الكبير المتعال.
  36 ـ حدثنا أحمد بن هارون الفامي رضي الله عنه ، قال : حدثنا محمد بن عبد الله بن جعفر الحميري ، عن أبيه ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن محمد بن خالد البرقي ، عن محمد بن أبي عمير ، عن المفضل بن عمر ، عن أبي عبد الله عليه السلام ، قال : من شبه الله بخلقه فهو مشرك ، إن الله تبارك وتعالى لا يشبه شيئا ولا يشبهه شيء وكل ما وقع في الوهم فهو بخلافه (1).
   قال مصنف هذا الكتاب رحمه الله : الدليل على أن الله سبحانه لا يشبه شيئا من خلقه من جهة من الجهات أنه لا جهة لشيء من أفعاله إلا محدثة ، ولا جهة محدثة إلا وهي تدل على حدوث من هي له ، فلو كان الله جل ثناؤه يشبه شيئا منها لدلت على حدوثه من حيث دلت على حدوث من هي له (2) إذ المتماثلان في العقول

---------------------------
(1) في نسخة ( ب ) ( فهو يخالفه ).
(2) أي لو كان يشبه شيئا من أفعاله لكان له جهة محدثة ولدلت تلك الجهة على حدوثه كما دلت على حدوث من هي له .

التوحيد _ 81 _

   يقتضيان حكما واحدا من حيث تماثلا منها (1) وقد قام الدليل على أن الله عزوجل قديم ، ومحال أن يكون قديما من جهة وحادثا من أخرى. ومن الدليل على أن الله تبارك وتعالى قديم أنه لو كان حادثا لوجب أن يكون له محدث ، لأن الفعل لا يكون إلا بفاعل ، ولكان القول في محدثه كالقول فيه ، وفي هذا وجود حادث قبل حادث لا إلى أول ، وهذا محال ، فصح أنه لا بد من صانع قديم ، وإذا كان ذلك كذلك فالذي يوجب قدم ذلك الصانع ويدل عليه يوجب قدم صانعنا ويدل عليه (2).
  37 ـ حدثنا علي بن أحمد بن محمد بن عمران الدقاق رحمه الله وعلي بن عبد الله الوراق ، قالا : حدثنا محمد بن هارون الصوفي ، قال : حدثنا أبو تراب عبيد الله ابن موسى الروياني ، عن عبد العظيم بن عبد الله الحسني ، قال : دخلت على سيدي علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام فلما بصر بي قال لي : مرحبا بك يا أبا القاسم أنت ولينا حقا ، قال : فقلت له : يا ابن رسول الله إني أريد أن أعرض عليك ديني ، فإن كان مرضيا أثبت عليه حتى ألقى الله عزوجل : فقال : هات يا أبا القاسم ، فقلت : إني أقول : إن الله تبارك وتعالى واحد ، ليس كمثله شيء ، خارج عن الحدين حد الإبطال و حد التشبيه ، وإنه ليس بجسم ولا صورة ولا عرض ولا جوهر ، بل هو مجسم الأجسام ، ومصور الصور ، وخالق الأعراض والجواهر ، ورب كل شيء ومالكه وجاعله ومحدثه ، وإن محمدا عبده ورسوله خاتم النبيين فلا نبي بعده إلى يوم القيامة وأقول : إن الإمام والخليفة وولي الأمر من بعده أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ثم الحسن ، ثم الحسين ، ثم علي بن الحسين ، ثم محمد بن علي ، ثم جعفر بن محمد ثم موسى بن جعفر ، ثم علي بن موسى ، ثم محمد بن علي ثم أنت يا مولاي ، فقال

---------------------------
(1) أي من جهة من الجهات.
(2) أي يوجب أن يكون صانعنا القديم الذي كلامنا فيه ذلك الصانع القديم الذي اضطر 6العقل إلى إثباته.