التركيبة الاجتماعية والفكرية
لمنطقة البصرة قبل الاسلام
الاستاذة سهيلة مرعي مرزوق
كانت ارض العراق الجنوبية التي تجتمع فيها مياه نهري دجلة والفرات في مجرى واحد جزءًا من الخليج العربي ، وبقي هذان النهران منفصلين الى ما بعد عصر الملك الاشوري سنحاريب (671 ـ 669 ق.م) (1) وابان تلك العهود القديمة ورد ذكر بعض المدن او الموانيء المهمة ومنها.
باب سالميتي (Bab Salimety)
عثر على نقش يعود الى عهد الملك الاشوري سنحاريب ( 671669 ق.م) يشار فيه الى موضع يسمى (باب سالميتي) الذي كان احد القلاع المهمة في مقارعة الاعداء القادمين من الشرق ، وكان هذا الموضع (باب سالميتي) يقع على رأس الخليج العربي (البحر المخيف) (2)
ويبدو ان الموضع (باب سالميتي) كان ميناء مهمًا ، فقد شن سنحاريب حملة على العيلاميين والثائرين عليه ، واستخدم في هذه الحملة سفنًا حملت برًا الى قنال يربط بين دجلة والفرات ، فاركب فيها جيوشه حتى باب سالميتي حيث اتخذ سنحاريب مركزه وسار بالاسطول الى بلاد عيلام (3)
ويرى احد الباحثين أنه من المحتمل ان يكون هذا الموضع في مكان قريب من الموضع الذي اتخذت فيه مدينة البصرة (4)
الجدير بالذكر ان سنحاريب قام بتطهير الخليج العربي من القراصنة ، وكان ظهور القراصنة دليلا على وجود التجارة التي زادت بعد القضاء على القراصنة (5)
والمعروف ان العراقيين منذ الالف الثالث والثاني قبل الميلاد كانوا يهيمنون على تجارة الخليج العربي ، حيث كانت تنقل السلع من ميلوخا الى بلاد ما بين النهري (6)
تريدون (Tridon)
بعد ازدياد الاهتمام بالنقل والملاحة البحرية بنى نبوخذ نصر ( 604 ـ 561 ق.م) مرفأ في البطائح الجنوبية كما بنى مدينة تريدون (Tridon) غرب الفرات ، وكان نبوخذ نصر يهدف من ذلك توسيع التجارة الهندية الى الخليج العربي وبابل (7)
وذكر المؤرخون الكلاسيكيون ان مدينة تريدون تقع على مقربة من تلاقي نهري دجلة والفرات وانصبابهما في الخليج العربي ، حيث يشكلان مجريين منفصلين يصب كل منهما منفصلا عن الآخر في الخليج العربي وبينهما موضع تريدون (8)
ويرى احد الباحثين ان تريدون تقع على جبل سنام وهو تل على فرع بالاكوباس (Palacopas) من الفرات على بعد (12) ميلا الى الجنوب الغربي من الزبير (9)
وذكر ان قوات الاسكندر المقدوني (ت 323 ق.م) بقيادة نيرخوس (Nerchus) في (326 ق.م) ألقت اسطول مراسيها على فم الفرات قرب مدينة تريدون ، المركز التجاري للتجارة التي تنقل بحرًا من التمر واللبان وغيرهما من المنتجات العطرية الخاصة بالجزيرة العربية (10)
ولذلك تكاثر اليونانيون في البطائح حيث كانت تقوم تريدون ، وكانت ابولوغوس (Abologos ) بمثابة الميناء لهذه المدينة (11) ، في حين رجح باحث اخر ان ابولوغوس حلت محل تريدون في مكانتها التجارية لاستقبال البضائع (12)
الأُبلة (Apologos)
اشار صاحب كتاب الطواف حول البحر الارثيري (Periplus) الى ميناء ابولوغوس في الفصل (35) من الكتاب جاء فيه ( ... يمتد ذلك البحر الكبير (الخليج العربي) الى مساحة كبيرة في الداخل وفي النهاية تقوم مدينة مقررة قانونًا اسمها ابولوغوس الواقعة على مقربة من خاراكس سبازيني ونهر الفرات ) (13)
ويبدو ان ابولوغوس قد ازدهرت وازدادت اهميتها (على رأي احد الباحثين) بعد اضمحلال تريدون كا اشرنا سابقًا ولكن ربما ان ابولوغوس التي كانت ميناء لمدينة تريدون قد انتهت ايضًا ، ولكن هذا الاسم اطلق على ميناء في موضع اخر ، برز دوره في عهد دولة
ميسان ويقع على دجلة حيث كان للابلة مركز دولي معترف به ، وكانت السفن التجارية تصلها بانتظام من بريجازا كما تصلها من اليمن (14)
وكان نيرخوس (Nerchus) قائد اسطول الاسكندر قد اختاره للتعرف على الطريق البحري من نهر السند الى مصب الرافدين ، فاعد لذلك اسطولا ضخمًا وبدأت رحلته عام 326 ق.م ، واستمر في تلك الرحلة خمسة أشهر ، ومما ذكره عن ابولوغوس انها مستودع تجارات الخليج (15) بل انه مستودع البضائع القادمة من الهند ، وابو الوغوس ميناء عتيق تعود اهميته التاريخية لعهد البابليين والاشوريين (16)
لقد كانت الابله من كبرى الموانىء العالمية ، لذلك كانت الدولة الفارسية تحرص على ايجاد موطيء قدم لها في الميناء من خلال عمليات الاستيراد والتصدير التي يمارسها تجار فارس في ميناء الابلة (17) ولكن الدولة الفارسية لم تستطع ذلك حتى عند ضعف تجارة ميسان وانتقال قسم من تجارة الخليج العربي الى البحر الاحمر ، ولهذا فان الفرس لم يحصلوا على موطيء قدم في المنطقة الا بعد سقوط ميسان في (225 ق.م) (18) الجدير بالذكر ان خطوط القوافل التجارية الاتية من الصين الى الامبراطورية البيزنطية كانت تجتاح الدولة الساسانية ثم تسلمها الى الامبراطورية البيزنطية ، اما عن طريق البحر ، فقد كان التجار يحملون بضاعتهم على سفن الى تبروبانة (Toprobana) وتفرغ هناك ثم تحملها سفن الى خليج البصرة ، فبعدها دجلة والفرات الى حدود الروم (19)
خاراكس (Characx)
تقع عند ملتقى نهر الكارون بنهر دجلة العوراء (20) ويقول المرحوم البكر ، ان هناك شبه اجماع ان (Characx) القديمة هي المحمرة (21) او تقع اسفل ارض البصرة (22) وان حدود شبه جزيرة العرب في الشرق تبدأ من بحر البصرة الذي تقع فيه امارة ميسان التي ذكرها سترابون (23) واهتم بها السلوقيون ، لكنها لم تنجح في ذلك الا لفترة متأخرة على رأي الباحثة نورة النعيم (24)
وبسبب الاهمية التجارية لمدينة خاراكس وجدت فيها جاليات من يونان ورومان وفرس فضلا عن العرب من الشام وغيرها من المناطق ، وكانت تلك الجاليات تمثل النشاط التجاري العالمي حيث ساعد الموقع على جعلها محطة للتجار الاجانب من مختلف الاجناس
فذكر بليني (Pliney) ان التجار الرومان يرتادون خاراكس كما يرتادها التجار العرب (25)
فورات : (Forat)
اشار بليني (Pliney) الى مدينة (Forat) وقال انها كانت تابعة الى ملك (Characene) في الربع الثالث من القرن الاول الميلادي (26) وتقع هذه المدينة على بعد (11) ميلا الى الجنوب من خاراكس (Characx) العاصمة على نهر دجلة (27) .
ويرى بعض الباحثين ان مدينة فورات هي مدينة البصرة الحالية (28) بينما يرى اخرون ان مدينة فورات هي مدينة بهمشير التي تقع على الضفة الشرقية من نهر دجلة ، وان مدينة ( Apologos ) على الجهة الاخرى من النهر وجنوب مدينة فورات (29) ويرى الاحمد ان مدينة فورات لا بد انها كانت على الجانب الايسر لمجرى دجلة مباشرة فوق النقطة التي كان فيها النهر سابقًا يتصل بشط العرب (30)
وتظهر اهمية فورات التجارية من انها ميناء تنطلق منه خطوط تجارية بحرية ونهرية ، واهمها الطريق البحري الذي يربط مدينة خاراكس وميناء فورات ـ ابولوغوس ـ بجزيرة فيلكا ـ باراباريكون (Barabarikon) عند نهر السند ـ بريجازا ، والثاني يربط مدينة فورات بمدينة سلوقية ، عند نهر دجلة الذي كان صالحًا للملاحة الى هذه المدينة ، اما الطريق الثالث فيربط مدينة فورات بمدينة بابل عند نهر الفرات (31)
التركيبة الاجتماعية :
ان مصادر الادب السومري من القصص والاساطير تؤكد ان السومريين شعب واحد ومتدين عاش في وسط غني بالانهار والبحيرات والبردي والنخيل ، وهذه خلفية نموذجية لمنطقة جنوب العراق ، وتعطي انطباعًا قويًا ان السومريين قد عاشوا دائمًا في ربوع هذه المنطقة (32)
والسومريون اهم المجاميع العرقية التي استطونت جنوب وادي الرافدين في المنطقة الممتدة من نفر (الديوانية) الى الخليج العربي (33)
ويرى جورج رو ان سكان الاهوار ما زالوا يحتفظون لدرجة ما باسلوب حياة السومريين الاوائل (34)
ويبدو ان التنظيم القبلي كان احد ملامح المجتمع في العصور القديمة فقد ورد في الكتابات الاكدية كلمة ابولو (U-bu-lu) في نص يعود الى الملك تغلات بلاسر الثالث (745 ـ 724 ق.م) ويقصد بها اسم قبيلة ضمن اسماء القبائل التي كانت تقطن في
المنطقة الجنوبية من العراق ايام سرجون الثاني (722 ـ 705 ق.م) (35) ان الحضارة السومرية كانت الاساس لحضارة القبائل الجزرية التي هاجرت الى المنطقة وكونت ملكًا عظيمًا في بابل (36)
ومن الاقوام الجزرية التي استوطنت الآراميون الذين نزحوا من الجزيرة العربية حوالي القرن الخامس عشر قبل الميلاد واستطونت الشام ثم توجهت الى بلاد وادي الرافدين .
ولما كان العهد الذي نزح فيه الاراميون من الجزيرة العربية عهد ازدهار حضاري في بابل وسوريا ، كان (فتحهم) بطيئًا استمر قرونًا (37)
ويبدو ان قوة الآراميين قد ازدادت في القرنين السادس والخامس قبل الميلاد عندما اشتعلت نيران الحروب بين القوى الكبرى بابل واشور ومصر (38)
سكن الاراميون جنوب العراق ، وبرز منهم الكلدانيون وهم فرع من الاقوام الارامية العربية القديمة النازحة اصلا في شبه الجزيرة العربية على مسرح الاحداث في الشرق الادنى القديم ، ويطلق الباحثون على فترة حكم السلالة نفسها بالدولة الابلية الحديثة
( 626 ـ 539 ق.م) (39)
وكان نبوبلاصر مؤسس الدولة الكلدانية الحديثة زعيمًا لقبيلة تدعى (كلدو) وهي احدى القبائل الارامية التي استقرت في الجزء الجنوبي من العراق (40)
ويبدو ان الكلدانيين قد تراجعوا عن دورهم في المنطقة بعد تنكيل الملك سنحاريب بهم واحلال الفينقيين محلهم سنة ( 694 ق.م) لان الكلدانيين الذين سكنوا سيف البحر(*) ، منذ القرن التاسع (ق.م) لم يكن لهم من التفوق في الملاحة ما كان لاقرانهم الفينقيين الذين جلبهم الملك من اعالي دجلة والفرات (41)
ولذلك يرى بعض الباحثين ان الفنيقيين سيطروا على التجارة في المنطقة فيقول اوليري (ان تجارة الخليج العربي كانت اواخر القرن السابع قبل الميلاد في ايدي الفينقيين الذين كانوا قد استقروا في مستنقات شط العرب) (42)
لكننا نرى ان الفينقيين كانت لهم مراكز تجارية مهمة لادارة شؤون تجارتهم في موانيء العراق ولم تكن التجارة بايديهم ، ويؤكد أنه بعد نكسة بابل (539 ق.م) انتقلت مقاليد الامور التجارية بيد العرب في مملكة ميسان.
الملاحظ ان المنطقة قد ضمت في العصور القديمة اقوامًا جزرية من شبه الجزيرة العربية ، فضلا عن جاليات مختلفة من يونان ورومان وفرس لانجاز متطلبات العمليات التجارية التي كانت تمارسها تلك الجاليات فقد ورد ان اليونانيين تكاثروا في اقليم البطائح حيث كانت تقوم تريدون وكانت ابولوغوس بمثابة الميناء لهذه المدينة (43)
كما حرص الفرس على ايجاد موطيء قدم لهم في المنطقة (44)
اما قبل الاسلام فقد وردت اشارات تذكر ان قبائل عربية عديدة استقرت في المنطقة وما جاورها ، منها قبائل بكر بن وائل وحنظلة وتغلب وعبد قيس وغيرها (45) فضلا عن التنوخيين الذين اقاموا دولة الحيرة فقد ورد انهم (حي من أحياء الأزد الذين هاجروا من اليمن الى العراق وقد سمي هؤلاء بهذا الاسم لانهم تحالفوا مع ابناء القبائل العربية الاخرى من البحرين قبل قدومهم الى العراق) (46)
ويقول الطبري (ونزل كثير من تنوخ الانبار ما بين الحيرة الى طرفي الفرات وغربيه الى ناحية الانبار وما والاهما من المظال) (47)
الا ان ذلك لا يعني الاقتصار على هذه المناطق فمن الطبيعي بعد قيام دولتهم شجع الكثير من ابناء القبائل العربية الجنوبية وبسبب الظروف التي تعرضت لها البلاد الى النزوح الى العراق وبالتأكيد انهم انتشروا في مناطق واسعة منه ونقلوا معهم
ثقافاتهم.
التركيبة الفكرية:
يقول جورج رو (التقدم التقني والانجازات الفنية الكبيرة والكتابة عرض لحضارة ناضجة بمقدورنا تسميتها بدون تردد بالحضارة السومرية التي ولدت وانتعشت في جنوب العراق وشعت على الشرق الادنى برمته ، واثرت تاثيرًا عميقًا على الحضارات الشرقية الاخرى) (48)
ويقول رو ايضًا (ان حضارتهم (السومريون) قد تفتحت منذ عصور ما قبل التاريخ في ربوع العراق نفسه فعكست مزاج المجتمع الفلاحي المستقر الذي الف على الدوام العمود الفقري لهذه البلاد ، ليس هناك من شك في كون هذه الحضارة عراقية اساسًا وجوهرًا ، ولهذا السبب فقد استمرت باقية حتى اختفاء السومريين ، واستمرت تستخدم من قبل الاراميين والكاشيين والكلدانيين بعد ان طرأ عليها بعض التحويرات الطفيفة) (49) وهذا يعني ان الملامح الفكرية للمجتمع في المنطقة ذات تأثيرات سومرية بقيت ملازمة للمجتمعات التي برزت في العهود التالية.
وكما اشرنا سابقًا ، سكن الاراميون جنوب العراق ، وكان الاراميون قد كثروا في المدن وامتد نفوذهم الى جميع نواحي الحياة العقلية والسياسية ، واستطاعت العناصر الارامية ان تكون لها دولة وملكًا (50)
ولم تستطع اي من اللغات المحلية فرض نفسها كلسان عام لكل هذا الخليط من الناس الذي استوطن المنطقة ، باستثناء الارامية التي كانت واسعة الانتشار في غرب اسيا والتي يسهل تعلمها (51)
ويجب ان نشير الى وجود اللغة والكتابة الارامية عند النبط (52) ، وهؤلاء شكلوا نسبة عالية من سكان سواد العراق.
ان الخط الذي استعمله سكان المنطقة (البصرة) هو الخط الارامي ، وهذا واضح من المسكوكات الميسانية (خضعت المنطقة لمملكة ميسان) خصوصًا تلك المؤرخة في عام 8 / 9 م وما بعدها ، ثم ظهر الخط المندائي في المنطقة وهو الخط الذي استعمله المندائيون في جنوب العراق (53)
لقد اشرنا الى مملكة ميسان لانها المملكة العربية التي ضمت المناطق التي شكلت البصرة فيما بعد ، ويدل على ولاء تلك الاراضي سياسيًا لحاكم خاراكس (54) ، وحتى اسم ميسان يقدم معنى جغرافيًا ذا اهمية جغرافية ، ويبدو أن الشكل الارامي لاسم ميسان هو الذي تبناه العرب بعد تحرير العراق ، ولذلك بقي اسمًا لجنوب العراق حتى فترة العصور الوسطى المتأخرة (55)
اما المعتقدات الدينية التي تمثل احد الجوانب المهمة في الاتجاهات الفكرية لسكان المنطقة والمعلومات المتوافرة عنها قليلة ولكن ممكن القول ان المعلومات المتوافرة عن المعتقدات الدينية في مملكة ميسان تساعدنا على الاقتراب من المعتقدات السائدة في المنطقة قبل تخطيط البصرة.
ويبدو ان السكان في المنطقة ما كانوا يختلفون في عباداتهم عما كان يعبده العرب في شبه الجزيرة العربية اذا ما علمنا ان القبائل العربية كانت في حركة دائمة بين شبه الجزيرة العربية والمنطقة موضوع البحث.
لقد اشرنا الى نزوح القبائل من شبه الجزيرة العربية وعلى الخصوص من جنوبها ، وان عملية الانتشار للقبائل العربية بين الحيرة وديلمون ، وما مثلها من حركة انسيابية طبيعية للقبائل ، فلا بد لتلك القبائل من نقل فكرها الى المناطق التي استوطنتها مثل عبادة الالهة عشتار وود وسين التي شاعت في جنوب الجزيرة (56) في حين انها في الاصل معبودات عراقية قديمة ، فنقول ربما وجدت هذه المعبودات في المنطقة لدى القبائل التي استقرت فيها ولكن ظهرت بمسميات اخرى.
قلنا ان المعلومات المتوافرة عن المعتقدات الدينية في مملكة ميسان ربما تساعدنا على معرفة المعتقدات الدينية لدى سكان المنطقة فالمرحوم منذر البكر في بحث له عن المعتقدات الدينية في مملكة ميسان يقول اننا نفترض انهم عبدوا اله الشمس واله القمر والهة اخرى مع اننا لا نملك ادلة على ذلك ولا اسماء سوى اله واحد عبده العرب الميسانيون (بعل) اذ كانت له مكانه عند مؤسس الدولة العربية في ميسان وربما هو الاله الرئيسي فيها (57) كذلك لا يستبعد المرحوم البكر أنهم عبدوا الآلهة اللات وذلك لان لهذه الالهه مكانه فريدة في معتقدات العرب قبل الاسلام (58) والجدير بالذكر ان الاله بعل لم تقتصر عبادته على ميسان ، بل وفي شبه الجزيرة العربية وبلاد الشام (59)
اما الديانات التوحيدية فنفترض وجود اليهودية لوجود الجاليات اليهودية في المنطقة التي كانت تمارس نشاطًا تجاريًا (60)
يبدو ايضًا ان المسيحية انتشرت في المنطقة ولا بد ان تكون هنالك مطرانية واحدة من مجموع المطرانيات الخمس التي ظهرت في العراق والجزيرة العربية (61) ولذلك لابد ان تكون المنطقة مركز الحركة العلمية لان المطرانيات كان لها دور في تنشيط الحركة الفكريةفي المناطق التي اقيمت فيها ، وذلك من خلال المكتبات التي وجدت فيها وان كانت تخدم توجهاتها الفكرية كالمونوفيستية والنسطورية والاخيرة هي الغالبة في العراق.
ونرى ان مدرسة ( جند يسابور) في الاحواز ، لابد ان تكون نشأتها عربية او بيئة عربية ، بالرغم من ان هناك من يقول سابور الاول انشأها واسكن فيها اسرى من اليونانيين ، كما ان كسرى انوشروان استقبل فيها فلاسفة الروم الذين اضطهدوا في عهد جيستينانوس وكانوا يعلمون العلم اليوناني بالسرانية (وهي احد فروع الارامية) وبقيت هذه المدرسة حتى ايام العباسيين .
لا بد ان تكون العلوم والمعارف قد انتشرت في المنطقة وحواضرها مثل تريدون وفورات والابله لانها مناطق حضارية وذات علاقات واسعة وفرتها فرص التجارة العالمية ولا بد ان يضم هذا المجتمع جماعات من الصناع والمحترفين كالنحات والكتبة والبنائين وكلهم اصحاب حرف مختصين ولابد ان يكون البحث والتدوين والتأليف قد اخذ طريقه لدى اهل المنطقة واذا ما علمنا ان الكرخ انجبت الجغرافي ازيدور الكرخي وله كتاب (المنازل الفرثية) وصف فيه طريق القوافل التجارية وكتب وصفًا عامًا للعالم وذكر في مؤلفه ايضًا مواطن صيد اللؤلؤ في الخليج العربي ولا يمكن للمنطقة ان تنجب مثل هذا العالم اذا لم تكن ذات بيئة خصبة لانتاج فكري.
وبقي القول في الوقت الذي ازدهرت فيه ممالك العرب في ظل مكة والحيرة وكندة تعاظم شأن لغة الاعراب حتى تغلبت على مختلف لهجات النبط في الشمال وسكان العربية الجنوبية وظهرت لاول مرة لغة ادبية مشتركة تلقى بها الخطب حيثما قضت الحاجة وتنظم بها القصائد واستمر نمو اللغة العربية الفصحى وانتشارها بين العرب حتى عم اعتمادها كلغة رسمية مع ظهور الاسلام بالتأكيد فان المنطقة قد شهدت نشاطًا مماثلا وفرته طبيعة العلاقات القائمة بين قبائل المنطقة ومكة واشتراكهم في سوق عكاظ .
الخاتمة :
احتلت المنطقة التي دخلت في نطاق البحث أهمية كبيرة منذ العصور القديمة حيث كانت تقوم مدن منها تريدون (Tridon) وابولوغوس (Apologos) ثم اضمحلالها وظهور مدن وموانيء اخرى مثل خاراكس (Characx) وفورات (Forat) فضلا عن ظهور ميناء على رأس الخليج العربي احتل اهمية في التجارة العالمية انذاك وهو ميناء الابلة ويقع على شط العرب ويبدو انه حمل الاسم القديم لميناء العراق القديم ابولوغوس.
واهمية المنطقة في التجارة العالمية لوقوعها على رأس الخليج العربي او انها منتهى الخطوط التجارية البحرية الاتية من الشرق ومبدأ الخطوط التجارية البرية المتجهة الى بابل وبلاد الشام ولذا فالمنطقة ضمن خليط من الاقوام القديمة ذات الاصول الجزرية كالسومريين والاراميين فض ً لا عن القبائل العربية قبل الاسلام كما ضمت التركيبة الاجتماعية في المنطقة جاليات مختلفة من يونان ورومان وفرس كانوا يمارسون نشاطات تجارية في موانيء المنطقة.
اما التركيبة الفكرية للمنطقة فهي عبارة عن تراث حضاري كبير يعود بتاريخه لاكثر من الفي سنة قبل الميلاد ، كما ضمت التركيبة الفكرية ثقافة الاقوام التي نزحت الى المنطقة في العصور التالية كالاراميين الذين نزحوا من بلاد الشام بعد نزوحهم من الجزيرة العربية ، فض ً لا عما حملته القبائل قبل الاسلام من شبه الجزيرة شمالها وجنوبها من ارث حضاري وثقافي وما كان لتلك القبائل من ثقافات متميزة شكلت ملامح خاصة للمنطقة.
الهوامش :
(1) انظر الاحمد ، سامي سعيد : العراق في كتابات اليونان والرومان ، مجلة سومر ، مج 36 ، ج 1 ـ 3 ، 131 ، 1971 ـ 134 .
ـ ولفنسون ، أ : تاريخ اللغات السامية ، بيروت ، دار القلم للطباعة والنشر ، 1980 ، ص 27 ـ 28 .
(2) الاحمد ، سامي سعيد : تاريخ الخليج العربي ، منشورات مركز دراسات الخليج العربي / جامعة البصرة/ 1985 ، ص 364 .
(3) باقر ، طه: علاقات وادي الرافدين بجزيرة العرب ، مجلة سومر ، ج 2 ، 1949 ، ص 146 .
(4) ناجي ، عبد الجبار : دراسات في تاريخ المدن الاسلامية ، مطبعة جامعة البصرة ، 1986 ص 130 .
(5) اوليري ، دي لاسي : علوم اليونان وسبل انتقالها الى العرب ، ترجمة وهيب كامل ، القاهرة ، 1962 ، ص 131 .
(6) Specce ,M. The Role of Eastern Arabia in the Arabian Gulf Trade of Thrid and Second Millania
ـ دراسات تاريخ الجزيرة العربية ، الكتاب الثاني ، الرياض ، 1984 ، ص 167 ـ 171 .
(7) البكر ، منذر عبد الكريم : دور العرب في التجارة لدولية منذ اقدم العصور حتى العصر الروماني ، مجلة المربد ـ العدد 4 لسنة 1989 ، ص 56.
(8) الاحمد : كتابات اليونا وارومان ، ص 131ـ 133 .
(9) الاحمد : المصدر نفسه ، 135.
ـ وانظر ولسون ، ارنولد : الخليج العربي ، ترجمة عبد القادر يوسف ، الكويت ، ص 95 .
(10) ولسون ، المصدر نفسه ، ص 95 .
(11) المصدر نفسه ، ص 95 .
(12) الهاشمي ، جواد رضا : النشاط التجاري القديم في الخليج العربي واثاره الحضارية ، مجلة المؤرخ العربي ، ع 13 ، 1980 ، ص 63 .
(*) انظر مرعي ، سهيله : الابله في العصور القديمة ، مجلة ديالى ، مج 1 ، 2001 .
(**) دليل البرح الارثيري وضع اواسط القرن الاول الميلادي بين 50 م- 80 م.
(13) نقلا عن زيادة ، نيقولا : دليل البحر الارثيري وتجارة الجزيرة البحرية ، دراسات تاريخ الجزيرة العربية ، الكتاب الثاني ، الرياض ، 1984 ، ص 268 .
(14) البكر : العرب والتجارة الدولية ، ص 2 ـ 1 .
(15) زيادة ، نيقولا : الطرق البحرية والتجارية بين البحر الاحمر والخليج العربي والمحيط الهندي ، دراسات الخليج والجزيرة العربية ، ع 4 ، ص 57 .
(16) النعيم ، نورة : الوضع الاقتصادي في الجزيرة العربية (من القرن الثالث قبل الميلاد وحتى القرن الثالث الميلادي) ، الطبعة الاولى ، الرياض ، 192 م ، ص 259 .
(17) حوراني ، جورج فضلو : العرب والملاحة في المحيط الهندي ، ترجمة يعقوب بكر ، القاهرة ، 1962 ، ص 47 .
(18) البكر ، منذر عبد الكريم : الجذور التاريخية لعروبة الاحواز قبل لاسلام ، جامعة البصرة ، 1981 ، ص 51 .
(19) Smith ,S .Events in Arabia in the 6th century D.Bsoas.Vol.Xvl.1954,p.426.
(20) Altheim ,Steith : ie Araber in der alrthen welt, Vol,1,Berlin ، 1964,p.316 ـ 318.
(21) البكر ، الجذور التاريخية ، ص 2 .
(22) الحصان ، عبد الرزاق : الامارة العربية في ميسانن ، مجلة المجمع العلمي العراقي ، مج 3 ج 1 ، 1954 ، ص 201 ـ 202 .
(23) المصدر نفسه ، ص 204 ـ 205 .
(24) الوضع الاقتصادي ، ص 259 .
(25) انظر النعيم ، المصدر نفسه ، ص 284
(26) بلاد العرب في تاريخ بلينوس ، ترجمة محمود شكري محمد ، مجلة المجمع العلمي العراقي ، مج 3 ، ج 1 ، 1954 ، ص 130 .
(27) البكر : الجذور التاريخية ، ص 11 ـ 12 .
(28) انظر ، البكر : الجذور التاريخية ، ص 50 .
(29) انظر ، البكر : الجذور التاريخية ، ص 50 .
(30) البكر : العرب والتجارة الدولية ، ص 58 .
(31) رو ، جورج : العراق القديم ، ترجمة حسين علوان حسين ، بغداد ، 1984 ، ص 121.
(32) المصدر نفسه ، ص 120.
(33) المصدر نفسه ، ص 32.
(34) علي ، جواد : المفصل في تاريخ العرب قبل الاسلام ، بيروت 1970 ، ج 2 ، ص 20 ـ 21 .
(35) ولفنسون ، أ : المصدر السابق ، ص 29.
(36) المصدر نفسه ، ص 105 ـ 106.
(37) المصدر نفسه ، ص 89.
(38) انظر سليمان ، عامر ، الفتيان ، احمد : محاضرات في التاريخ القديم ، بغداد ، 1978 ، ص 199.
(39) المصدر نفسه ، ص 199 ـ 200 .
(*) سيف البحر : المنطقة الممتدة من مصب الفرات الى البحرين.
(40) يوسف ، السيد محمود : علاقات العرب التجارية بالهند منذ اقدم العصور الى القرن الرابع الهجري ، مجلة كية الاداب ، جامعة فؤاد الاول ، مج 15 ، ج 1 ، 1953 ، 1 ، ص 8 .
(41) اوليري : المصدر السابق ، ص 131.
(42) الحمارنة ، صالح : دور الابله في تجارة الخليج العربي ، مجلة المؤرخ العربي ، ع 5 ، ص 33.
(43) رو : المصدر السابق ، ص 551.
(44) الطبري ، محمد بن جزير : تاريخ الرسل والملوك ، تحقيق ابو الفضل ابراهيم ، دار المعارف ، مصر ، الطبعة الثالثة ، 1986 ، ج 2 ، ص 61.
(45) الاصفهاني ، حمزة بن الحسن : تاريخ سني ملوك الارض والانبياء ، الطبعة الثالثة ، بيروت ، 1961 ، ص 74.
(46) الطبري : المصدر السابق ، ج 1 ، ص 610 ـ 611.
(47) ابن خلدون ، عبد الرحمن محمد (ت 808 ) : المقدمة من كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر ، دار الفكر للطباعة ، د . ت ، ج 1 ، ص 349 ـ 350.
(48) المصدر نفسه ، ص 127.
(49) ولفنسون : المصدر نفسه ، 29.
(50) رو : المصدر السابق ، ص 552.
(51) ولفنسون : المصدر السابق ، ص 123.
(52) البكر : الجذور التاريخية ، ص 24.
(53) المصدر نفسه ، ص 5.
(54) مرعي ، سهيله : العلاقات العراقية اليمنية في العصور القديمة ، مجلة الفتح ، جامعة ديالى ، العدد 8 ، 2001 ، ص 40.
(55) البكر : الجذور التاريخية ، ص 23.
(56) انظر البكر ، منذر : معجم اسماء الالهه والاصنام لدى العرب قبل الاسلام ، ملحق مجلة كلية الاداب، 1998 ، ص 8.
(57) انظر الاحمد : الخليج العربي ، ص 362 ـ 363.
(58) كرستنسن ، ارثر : ايران وعهد الساسانيين ، ترجمة يحيى الخشاب ، بيروت ، 1982 ، ص 257.
(59) فروخ ، عمر : تاريخ الفكر الى ايام ابن خلدون ، الطبعة الثالثة ، بيروت ، 1981 ، ص 155 ـ 156 سفر ، فؤاد : المنازل الفرثية لازيدور الكرخي ، مجلة سومر ، 1946 ، ص 165 ـ 178.
(60) انظر الصليبي ، كمال سليمان : الاطار الخارجي لجاهلية العرب ، دراسا تاريخ الجزيرة العربية ، الكتاب الثاني ، الرياض ، 1984 ، ص 327 .
(61) كستر ، م . ح : مكة وتميم ( مظاهر من علاقاتهم) ، ترجمة يحيى الجبوري ، بغداد ، 1975 ص 4 .
|
|
|
|