المقدمة
فقد رأينا في هذا الزمان من لا يلتفتون الى بر الوالدين ولا يرونه لازماً لزوم الدين ، يرفعون اصواتهم على الآباء والأمهات وكأنهم لا يعتقدون طاعتهم من الواجبات ،يقطعون الأرحام التي أمر الله سبحانه بوصلها ، ونهى عن قطعها فقال الله تبارك وتعالى ( وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ) .
قال أبو بكر الانباري (هذا القضاء ليس من باب الحكم ، أنما هو من باب الامر والغرض ) وقوله ( وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ) هو البر والاكرام .
( وَلاَ تَنْهَرْهُمَا ) أي لا تكلمهما ضجراً صائحاً في وجهيهما ( وقل لهما قولاً كريماً ) أي لطيفاً ومن بيان حق الوالدين قوله تعالى ( اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ ) فقرن شكره بشكرهما .
لذا ربما يكون بطاعتهما فيما يأمران به والاجتناب لما نهيا عنه والانفاق عليهما والمبالغة في خدمتهما واستعمال الادب والهيبة لهما فلا يرفع الولد صوته ولا يدعوهما بأسمهما ويمشي وراءهما ويصبر على ما يكره مما يصدر منهما .
وعن أبي هريره ،انه أبصر رجلين فقال لأحدهما هذا منك ؟ قال : أبي قال : ( لاتسمه بأسمه ، ولا تمشي امامه ، ولا تجلس قبله ) .
وعن عبد الله بن أوفى قال : جاء رجل إلى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فقال ( يا رسول الله ههنا غلام قد أحتضر ،قال له قل لا اله إلا الله فلا يستطيع ان يقولهما
قال : ( أليس كان يقولها في حياته ) ؟ قالا : بلى قال ( فما يمنعه منها عند موته ) ؟ ، فنهض رسول الله ونهضنا معه حتى أتى الغلام ، فقال :( يا غلام قل : لا اله الا الله ) قال لا أستطيع ان اقولها قال " ولم " قال لعقوقي والدتي ، قال هي ( أحيه هي ) ؟ قال : أدعوها فدعوها ،فقال : (هذا أبنك) ؟ قالت نعم ، قال ( أرأيت لو أن ناراً أججت ، وقيل لك : أن لم تشفعي له دفناه في هذه النار ) قالت : اذن كنت اشفع له قال ( فأشهدي الله وأشهدينا انك رضيت عنه ) قالت : لا اله الا الله ) فقال : لا اله الا الله فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ( الحمد لله الذي انقذه بي من النار ) وعن مالك بن دينار ، قال : بينما أنا اطوف بالبيت الحرام اذ أعجبني كثرة الحجاج والمعتمرين فلما كان الليل رايت في منامي قائلاً : يقول : مالك بن دينار يسأل عن الحجاج والمعتمرين ؟ الا رجلاً واحداً فأن الله تعالى عليه غضبان ، وقد رد الله حجه ، وضرب به في وجهه قال مالك : فنمت بليلة لا يعلمها الا الله عز وجل وخشيت ان اكون ذلك الرجل ، فلما كانت الليلة الثانية ، رأيت في منامي مثل ذلك ، غير أنه قيل لي : ولست أنت ذلك الرجل بل هو من خراسان يقال له : محمد بن هارون البلخي فجعلت أجول في الخرابات ،فأذا هو قائم خلف جدار واذا يده اليمنى معلقه في عنقه وقد شدها بقيدين عظيمين الى قدميه وهو راكع وساجد ، فلما أحس بهمس قدمي قال : من تكون ؟ قلت : مالك بن دينار ، قال : يا مالك ما جاء بك الي ؟ أن كنت رأيت رؤيا فقصها علي قال : أستحي ان أقولها ، قال : بل قال ، فقصصتها عليه ، فبكى طولاً ،وقال : كنت رجل أكثر شرب المسكر ، فشربت يوماً الى درجه زال عقلي فأتيت منزلي فدخلت ، فأنما بأمي توقد تنوراً لنا ، فلما رأتني ؟ بسكري ، أقبلت تطعمني ، فتقول هذا آخر يوم من شعبان واول ليلة من رمضان ، يصبح الناس صياماً وتصبح سكران : أما تستحي من الله ؟ فرفعت يدي ، فقالت : تعست ، فغضبت لقولها وحملتها بسكري ورميت بها في التنور فلما رأتني امرأتي : أدخلتني بيتاً وأغلقت علي .
فلما كان آخر الليل ذهب سكري ،دعوت لفتح الباب فأجابتني بجواب فيه جفاء ، فقلت : ويحك ما هذا الجفاء ، قالت : ؟ الا أرحمك ، قلت : لم ؟ قالت : قتلت أمك ورميت بها في التنور فأحترقت فخرجت الى التنور فأذا هي كالرغيف المحروق ، فخرجت وتصدقت بمالي ،وأعتقت عبيدي ،وأنا مذ أربعين سنة أصوم النهار ، وأقوم الليل وأحج كل سنة ، ويروي لي كل سنة عابد مثلك هذه الرؤيا .
فنفضت يدي في وجهه ،وقلت : يا مشؤوم كدت تحرق الارض وما عليها بنارك ، وغبت عنه بحيث أسمع حسه ولا أرى شخصه فرفع يديه الى السماء ، وقال : يا فارج الهم وكاشف الغم ، يجيب دعوة المضطرين ،اعوذ برضاك من سخطك ، وبما فاتك من عقوبتك ، ولاتقطع رجائي ، وتخيب دعائي .
فذهبت الى منزلي ونمت ، فرأيت في المنام قائلاً يقول : يا مالك لا تقنط الناس من رحمة الله .
ان الله اطلع من الملأ الأعلى الى محمد بن هارون فاستجاب دعوته وأقال عثرته : عد اليه وقل : ان الله يجمع الخلائق يوم القيامة ،ويقص للجماء من القرناء ،ويجمع بينك وبين والدتك ،فيحكم لها عليك ، ويذيقك النار ، ثم يهبك لامك .