والرياح العاتية أو أصبح كما قال الشاعر :
كريشةٍ في مهب الريح طائرة      لا تستقر على حال من iiالقلق
   وقد صور الله سبحانه هذه الحالة القلقة التي يعيشها المشرك با‏لله تعالى الذي قطع صلة التوحيد به وأصبح على وضع مؤلم ومظلم بالصورة الموضحة لها عبر عدة آيات أبرزها الآيتان التاليتان الأولى منهما قوله تعالى :
   ( وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَآءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَو تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ ) (1) .
   والثانية قوله تعالى : ( ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُم لا يَعْلَمُونَ ) (2) .
   وبما ذكرنا من أهمية دور الصلاة في بناء الشخصية الإسلامية للإنسان وتأثيرها الإيجابي البليغ ـ أوجبها الشارع المقدس على المكلف ولم يسقط وجوبها عنه بحال من الأحوال حتى ولو كان غريقاً مشرفاً على الوفاة فإن صلاته الواجبة عليه في هذه الحالة هي تذكره لوجوبها واستحضاره لصورتها وعظمة الخالق الموجب لها والمصر على طلب تحققها على صعيد العبودية ولو بالحظور الذهني والوجود المعنوي .
   وبهذا الاعتبار عُبر عنها بأنها (جنسية المسلم) .
   وهذا المعنى مأخوذ من كلام للإمام علي عليه السلام في نهج البلاغة

(1) سورة الحج ، الآية : 31 .
(2) سورة الزمر ، الآية : 29 .

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 127
  وقوله : ما مضمونه : ما بين إسلام المسلم وكفره إلا أن يترك هذه الصلاة وكما شبهنا الصلاة بالقلب بالاعتبار المذكور يصح تشبيه الحج بالعقل ـ من جهة مساعدته على حفظ توازن الإنسان المؤمن واستقامته في إيمانه وأعماله التي يمارسها على صعيد هذه الحياة وذلك ببركة المنافع الكثيرة والكبيرة التي يجنيها الحاج من شجرة هذه الفريضة المباركة وقد مرت الإشارة إلى بعضها وسيأتي التنبيه على بعضها الآخر عند الكلام حول الحكمة والفائدة المترتبة على بقية الشعائر الراجعة إلى فريضة الحج المباركة .
   وعلى ضوء هذه الحقيقة الإيمانية ندرك واقعية ما تقدم ذكره من أن لكل واحدة من العبادات الخاصة ـ أثرين أحدهما يترتب عليها وينحصر في إطارها .
   والثاني أوسع منها لامتداده وانطلاقه مع المكلف في درب الحياة ليؤثر في كل تصرف يصدر عنه بإرادته واختياره .
   وذلك الأثر الأوسع هو التقوى وأوضح مثال لذلك هو الصوم الذي شرع الله فريضته لترسيخ ملكة التقوى في نفس المكلف كما هو المفهوم من صريح قوله تعالى :
   ( يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) (1) .
   وذلك لأن هذا الأثر الإيجابي المبارك إذا ترتب على الصوم فهو يلازم المكلف ويصاحبه ليجعل كل شهر عنده شهر رمضان من أجل أن يؤدي الصيام العام المتمثل بالإمساك التام عن كل حرام في جميع الشهور

(1) سورة البقرة ، الآية : 183.

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 128
  والأيام ـ فيترك كل المحرمات في شهر رمضان وغيره كما كان يترك المفطرات وأكثرها مباحات في داخله أي داخل شهر رمضان المبارك وهكذا شعائر الحج فهي تبتدىء وتبدو محدودة الأثر وهو فراغ الذمة من وجوبها وسقوط أمرها بفعلها عندما يأتي بواجباته ويترك محرماته ولكن الأثر المطلوب للمولى من تادية فريضة الحج هو أن يبقى في إطار شريعته دائماً وأبداً وذلك بتحقيق ما ترمز إليه شعائر هذه الفريضة المقدسة فكما طُلب منه أن يبقى على حالة صيام دائم بعد انتهاء شهر رمضان المبارك من خلال التزامه بمنهج التقوى .
   هكذا يُطلب ممن مارس شعائر الحج ـ أن يبقى على حالة إحرام دائم بترك كل المحرمات الشرعية كما كان تاركاً لمحرمات الإحرام وقت تلبسه به وقبل إحلاله منه .
   وبعد أن ينتهي من الطواف الخاص تبتدىء رحلة الطواف العام بالطواف المعنوي بقلبه حول مركز شريعة ربه فلا يتجاوز حدودها ابتداء ووسطاً وانتهاء كما كان لا يتجاوز حدود محل الطواف الخاص المحدود .
   وذلك لأن الشارع المقدس لم يطلب من المكلف الطواف الخاص بجسمه حركةً وبقلبه قصداً ونيةً إلا من أجل أن يظل على حالة طوافه القلبي العام في نطاق الشريعة الغراء فلا يتجاوز حدوده ولا يخالف أحكامه المعهودة .
   وبذلك ندرك أن الطواف المعنوي العام الذي يستفاد من الطواف الجسمي الخاص يتسع ويمتد مع حركة المكلف العبادية ليشمل كل مكان فلا يختص بمكان الكعبة المشرفة كما يشمل كل زمان ولا يختص بأشهر الحج المعهودة وكل حركة عبادية يقوم بها المكلف انقياداً لإرادة الله

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 129
  التشريعية وتعبداً له بها بتحقيق كل ما طلب منه فعله فيها وترك كل ما يمنع من صحتها وترتب الأثر عليها .
   أجل : إن كل حركة عبادية يأتي بها المكلف ضمن حدودها وقيودها الشرعية ـ تعتبر طوافاً يقوم به المكلف في إطار الشريعة الإسلامية ومطافها المحدد ليحقق الغاية المقصودة من تشريع الطواف الخاص وهو ترسيخ صفة العبودية وملكة الانقياد المطلق لإرادة الله الكامل بالكمال المطلق في كل التصرفات الاختيارية التي يمارسها المكلف بإرادته على صعيد هذه الحياة .
   وذلك لأن هذا هو مقتضى وجود روح العبودية والتعبد لله سبحانه بكل عمل يمارسه بإرادته واختياره وفق إرادة ا‏لله سبحانه ـ وعلى ضوء ملاحظة هذا المفهوم العام للعبادة الذي جعله الله تعالى العلة الغائبة والسبب الباعث لخلقه الجن والإنس يظهر لنا اشتراك جميع الوظائف الشرعية التي يأتي بها المكلف وفق إرادة ا‏لله تعالى ـ في هذه الروح العبادية لتصبح متفقة روحاً وجوهراً وإن اختلفت شكلاً وصورة ونوعية .

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 130
الحكمة في تحديد الطواف وتقييده بالحجر الأسود بداية ونهاية
   لا أريد تناول الحديث حول هذا الموضوع من زاوية ذاتية تتعلق بحقيقة الحجر ونوعيته وهل هو درة نزلت من السماء أو من نوع آخر حصل من الأرض ؟
   وذلك لأن معرفة هذه الخصوصية لا ترتبط بالهدف الأصيل العام المقصود من فرض ا‏لله سبحانه بدء الطواف بالحجر وختامه به ولذلك اقتصرت على ذكر ما يكون قابلاً للانسجام مع روح التعبد بفريضة الطواف وقيوده الخاصة وهو ما يستفاد من بعض الروايات الواردة عن أهل البيت عليهم السلام لبيان الحكمة في ذلك التعبد وهي أن ا‏لله سبحانه أراد جعل الحجر الأسود رمزاً لما تتحقق به المصافحة في مقام إعطاء العهد والميثاق لله سبحانه بالالتزام بخط العبودية والوفاء بميثاق الفطرة وعهد الاعتراف لله بالوحدانية وحق العبادة والإطاعة ولنبيه محمد بن عبدا‏لله صلى الله عليه وآله وسلم بالرسالة ـ عندما يُقبّل الطائف هذا الحجر أو يصافحه ويستلمه .
   وحيث أن الذي جرت العادة بين أفراد المجتمع على المصافحة به هو يمين الإنسان الذي يُعطى العهد له ـ فقد عبر عن هذا الحجر بهذا الإعتبار بأنه يمين الله سبحانه تجوزاً وتسامحاً في التعبير كما في التعبير

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 131
  بكلمة اليد وإرادة القدرة الإلهية الشاملة وإطلاق كلمة عرش الله وإرادة سلطانه الواسع .
   وقد روي هذا التعبير في مقام الرمز والإشارة إلى اليمين المعنوية لله سبحانه ـ عن الإمام زين العابدين عليه السلام حيث روي عنه قوله ما مضمونه : إن الحجر بمنزلة يمين الله سبحانه في أرضه فمن لمسه يكون كأنّه صافح الله سبحانه وروي عنه أيضاً ما حاصله :
   أن ا‏لله سبحانه جعل في الحجر ميثاق الأنبياء وأخذ على العباد أن يؤدوا الأمانة لله سبحانه ( وهي أمانة التكليف والمسؤولية ) .
   ولذلك ورد في الدعاء عندما يطوف المكلف حول البيت الشريف ويحاذي الحجر الأسود : إلهي أمانتي أديتُها وميثاقي تعهدتُه ليشهد لي بالموافاة عندك يوم القيامة .
   وحيث أن هذه الكتابة محررة لغاية استيحاء الدروس التربوية من مناسك الحج وشعائره رأيت من المناسب لذلك أن أذكر بعض الأدعية التي كان الإمام زين العابدين عليه السلام يدعو بها ويناجي ربه إذا خلا له المطاف مع ذكر قصة هشام بن عبدالملك عندما أراد أن يطوف حول الكعبة ويستلم الحجر فلم يتمكن بسبب زيادة عدد الحجاج وشدة الازدحام واضطر لأن يتراجع وينتظر إلى أن يخف الازدحام وحوله أصحابه من وجوه أهل الشام بينما تمكن الإمام زين العابدين من ذلك بكل يُسر وسهولة كما سيأتي ذكر قصته بعد ذكر بعض أدعية الإمام المناسبة للمقام .
   منها قوله عليه السلام : اللهم أنت وهبتنا أجلَّ الأشياء عندك وهو

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 132
  الإيمان من غير سؤال فهل تحرمنا ما دونه من الغفران بعد المسألة والابتهال ؟ يا من وعد فوفى وتوعد فعفا صل على محمد وآله الطاهرين واغفر لمن ظلم وأسا .
   ياسيدي لا أهلك وأنت الرجا . وكان يقول بعد دعائه المذكور :
يـا مـن إذا وقف الوفودُ iiببابه      ألـهى  غـريبَهم عن iiالأوطان
أنا  عبدُ نعمتك التي ملكت iiيدي      وربـيب  مـغناك الذي أغناني
جـرت الملوكُ ومن يُؤمل iiرفده      وبقيتُ حيث أرى الندى ويراني
   ومن كلماته الحكيمة المتعلقة بموضوع الحديث (الطواف) قوله عليه السلام : إذا وقفتَ في المطاف فلينطق قلبك بذكر رب البيت قبل أن يطوف جسمك بالبيت .
   فقد لفت الإمام عليه السلام بهذا البيان نظر المكلفين إلى حقيقة العبادة وجوهرها وهي التي يشترك فيها كل كيان الإنسان باطنه وظاهره جوانحه وجوارحه وبذلك تكون عبادة كاملة يرضى بها الإله الكامل وذلك لأنها إذا حصلت من الجوارح وحدها ولم تشترك معها الجوانح والباطن بأن صدرت حركةً من الجسم ولم تقترن بنية القلب وإخلاصه فهي تكون جسماً بلا روح لا قيمة لها ولا اعتبار بها .
   وكذلك إذا آمن بقلبه بقيمة العبادة وكون الله سبحانه أهلاً لها ومستحقاً لقيام العبد بها ـ من دون أن يُخرج هذا الإيمانَ من حيز القلب إلى صعيد الخارج ويجسمه بعمل خارجي ، فإن هذا الإيمان يكون أبتر ناقصاً لا يجلب لصاحبه نفعاً ولا يدفع عنه ضرراً .
   وقد بيّن الله سبحانه حقيقة العبادة الكاملة التي تسلم الإنسان العابد من الخسران وتساعده على نيل نعيم الجنة والسلامة من عذاب النيران

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 133
  بقوله سبحانه :
   ( وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ ءامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ ) (1) .
   وقد أشرتُ إلى مضمون هذه السورة بالأبيات التالية :
والعصر  إن المرءَ في خسران      وشـقـاوة ومـذَلـةٍ وهـوانِ
إلا الألـى عرفوا الإله iiوطبقوا      نـهج الـهدى وشريعة iiالقرآن
وغداً يُوصي بعضهم بعضاً هنا      بـالحق والصبر الجميل الباني
   أما قصة الإمام عليه السلام مع هشام فحاصلها :
   أن هشاماً بن عبدالملك بن مروان أراد أن يطوفَ حول الكعبة ويستلم الحجر فعجز عن ذلك بسبب شدة الازدحام واضطر لأن يتراجع وينتظر إلى أن يخف الإزدحام فيتم طوافه، وبينما كان جالساً وحوله جماعة من أصحابه الشاميين فإذا الإمام زين العابدين يُقبل بقصد الطواف فوسع الناس له ومهدوا السبيل لطوافه ولمسه الحجر بيسر وسهولة .
  وهذا ما لفت نظر أصحاب هشام فسأل أحدهم عن هذا الشخص الذي هابه الناس وقابلوه بإجلال واحترام ، فقال هشام للسائل : لا أعرفه ـ من باب التجاهل ـ حتى لا ينجذب جماعته الشاميون إلى الإمام عليه السلام ويؤمنوا بأولويته منه بمنصب الخلافة وكان الفرزدق حاضراً يسمع السؤال والجواب فتحركت فيه الغيرة الإيمانية والولاء الطاهر لأهل البيت الطاهر وقال لهشام : إذا كنت لا تعرفه فأنا أعرفه فقال له: ومن هو ؟
   فأجابه هذا الشاعر البطل والموالي المخلص للحق والولاية بالقصيدة المشهورة التي تعتبر من كرامات الإمام زين العابدين المعبرة عن مدى

(1) سورة العصر ، الآيات : 1 و2 و3 .

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 134
  اهتمام الله تعالى ببيان فضل أهل البيت وأحقيتهم من غيرهم .
   وذلك لأن ارتجال مثل هذه القصيدة الرائعة على الفور مع تميزها بفصاحتها وبلاغتها وجزالة ألفاظها وقوة وسمو معانيها يدل دلالة واضحة على مدى اهتمام واحترام الله سبحانه لكل واحد من أهل البيت عليهم السلام ومن يتمسك بعروة ولائهم الوثقى .
   وفيما يلي مقطوعة رائعة من هذه القصيدة الغراء وهي كما يلي :
هـذا  الـذي تعرف البطحاءُ iiوطأتَه      والـبيت يـعرفُه والـحل iiوالـحرمُ
هـذا ابـن خـير عـباد الله كـلهم      هـذا الـتقي الـنقي الـطاهر iiالعلم
هـذا ابـن فـاطمة إن كنتَ iiجاهله      بـجـده أنـبـياء الله قـد iiخُـتموا
هــذا  عـليٌ رسـول الله iiوالـده      أضـحت بـنور هـداه تهتدي الأمم
ولـيس قـولك مَـنْ هـذا iiبضائره      الـعربُ تـعرف مَنْ أنكرتَ والعجم
يـكـاد  يُـمسكه عـرفانَ iiراحـته      ركـنُ  الـحطيم إذا مـا جاء iiيستلم
مـن  مـعشر حـبهم دينٌ iiوبغضُهُم      كـفرٌ  وقـربهم مَـنجىً iiومُـعتصمُ
إن  عُـد أهـل الـتقى كانوا iiأئمتهم      أو قيل من خير أهل الأرض قيل هم
   ويستفاد من قصة الإمام عليه السلام مع هشام عدة دروس تربوية :
   1 ـ منها درس يفيدنا مدى تأثير قوة العلاقة بالله سبحانه والذوبان في ذاته المقدسة حباً وعبادة وقرباً حيث ينعكس ذلك إيجاباً على شخص المؤمن بالله تعالى المحب له والذائب في محبته وعبادته .
   وقد تمثل الأثر الإيجابي لمحبة الإمام عليه السلام ربه وإخلاصه له في عبادته بزرع المحبة والمهابة له في قلوب تلك الجماهير المحتشدة حول بيت الله تعالى الأمر الذي دفعها لأن تفسح له في طريق الوصول إلى الكعبة المشرفة ليطوف حولها ويلمس حجرها بيسر وسهولة بدون وجود أي

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 135
  ضغط خارجي يدفعها لذلك وهذا يُعتبر نتيجة طبيعية بالنسبة إلى الإمام زين العابدين عليه السلام وأمثاله من الأولياء المحبين لله تعالى المخلصين في محبته وعبادته لأن سبحانه وعد بالمجازاة بالإحسان على فعل الإحسان حيث قال تعالى :
   ( هَلْ جَزآءُ الإحْسَانُ إلاّ الإحسان ) (1) .
   كما وعد بالخير معجلاً لفعل الخير بقوله سبحانه :
   ( فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ ) (2) .
   ووعد أيضاً بالنصر والتأييد من نصره أي نصر دينه بتعلم أحكامه وتطبيق نظامه والدفاع عنه فكرياً وعسكرياً إذا تعرض للخطر من قِبَل الأعداء وذلك بصريح قوله تعالى :
   ( إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِتْ أَقْدَامَكُمْ ) (3) .
   ومن المعلوم أن الله سبحانه أوفى الواعدين وأصدق القائلين ، وحيث أن الإمام جاء زائراً بيت الله تعالى بكل حب وصدق وإخلاص فلا بد أن يمهد له سبيل الوصول إلى غرضه الأخروي السامي ليظهر الفرق بين المؤمن المخلص لله سبحانه وغيره ، وذلك بتأييد الأول وخذلان الثاني تطبيقاً لقوله تعالى :
   ( أَفَمَن كَانَ مُؤمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاّ يَسْتَوُونَ ) (4) .
   وحيث أن ما حصل للإمام عليه السلام من الجماهير لم يكن عادياً بل

(1) سورة الرحمن ، الآية : 60 .
(2) سورة الزلزلة ، الآية : 7 .
(3) سورة محمّد ، الآية : 7 .
(4) سورة السجدة ، الآية : 18 .

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 136
  هو فوق العادة ـ يصح أن نعتبره كرامة سماوية كرَّم الله بها الإمام عليه السلام بهذا النحو من العناية والتكريم ـ ويأتي ارتجال الفرزدق قصيدته العصماء التي هي من عيون الشعر العربي ـ ليكون كرامةً أخرى كرّم الله بها الإمام عليه السلام وأبرز فضله وفضل آبائه وأجداده وأبنائه حيث قال في حقه وحقهم ما هو الثابت لهم واقعاً يتحدى ونصاً يتحدث عن كون مودتهم فرضاً وبغضهم كفراً وذلك بقوله :
مـن  مـعشر حبهم فرض iiوبغضهم      كـفر  وقـربهم مَـنجىً iiومُـعتَصَمُ
إن  عـد أهـل الـتقى كانوا iiأئمتهم      أو قيل مَن خير أهل الأرض قيل هم
   2 ـ ومنها درس في التضحية والجهاد المقدس بالكلمة الجريئة والموقف الأبي الذي وقفه ذلك الشاعر البطل في سبيل نصر المبدأ ودعم الفضيلة وإظهار الحقيقة ليكون محققاً بذلك أفضل الجهاد الذي عناه الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلّم بقوله : أفضل الجهاد كلمة حق أمام سلطان جائر .
  والذي رفع هذا الجهاد بمقياس القيم هو تجرده من العوامل المادية والدوافع الدنيوية . وتجلى ذلك بوضوح عندما اعتذر وأبى قبول الهدية التي قدمها له الإمام عليه السلام مكافأة له على موقفه المشرف ، ويأبى الكرمُ الإيماني الهاشمي إلا أن يقابل إرجاع الهدية بالرفض معللاً ذلك بقوله عليه السلام ما مضمونه :
   إنا أهلَ البيت لا نرضى بإرجاع ما قدمناه هدية ثم أعادها إليه ـ أي إلى الفرزدق .
   3 ـ ومنها درس في التوعية والتنبيه على واقعية العزة الإيمانية التي نبه الله عليها في أكثر من مورد وبأكثر من آية .

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 137
   منها قوله تعالى : ( وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلَرسُولِهِ وَلِلْمُؤمِنِينَ ) (1) .
   وقوله تعالى : ( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقاكُم) (2) .
   وقول الرسول الأعظم المشهور : لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى ، متحدٌ مع الآية المذكورة .
   وورد في وصية الإمام الحسن عليه السلام إلى جنادة ما يشير إلى ذلك وهي قوله عليه السلام : وإذا أردت عزاً بلا عشيرة وهيبة بلا سلطان فاخرج من ذل معصية الله إلى عز طاعته .
   والحقيقة الموضوعية التي كشفت عنها هذه النصوص الكريمة بعدما أثبتها الواقع وشهد بواقعيتها الوجدان السليم والذوق المستقيم هي أن الميزان في رفعة الشأن وسمو المنزلة هو التقوى والعمل الصالح والخلق الفاضل ـ لا السلطة المادية الدنيوية القائمة على أساس الظلم والجور ولا كثرة الأعوان والجنود المتعاونين مع صاحب هذه السلطة ـ على الإثم والعدوان ـ ولا كثرة الأموال وإقبال الدنيا بزينتها الفانية وفتنتها الساحرة فإن ذلك كله وهم وخيال لا قيمة له ولا اعتبار به بمقياس الحقيقة لأنها كلها تفنى وتزول كما يزول صاحبها معها أو قبلها ولا يبقى له منها إلا تبعتها ومسؤوليتها الخطيرة غداً :
   ( يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلبٍ سَلِيمٍ ) (3) .
   وبذلك ندرك أن تلك المظاهر الجوفاء مصداق للزبد الذي تحدث الله عنه بصريح قوله تعالى :

(1) سورة المنافقون ، الآية : 8 .
(2) سورة الحجرات ، الآية : 13 .
(3) سورة الشعراء ، الآية : 88 و 89 .

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 138
   ( فَأمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ ) (1) .
   وتأتي الحوادث التاريخية لتؤكد هذه الحقيقة وتزيدها وضوحاً وجلاء فيعتبر بها المعتبرون ويستفيد منها المتفكرون .
   فهارون العباسي أقبلت عليه الدنيا وخدعته بزينتها الخادعة وفتنتها الساحرة حتى كان يخاطب السحابة قائلاً :
   ( أينما أمطرتِ فإن خراجك سيأتي إلى ) معبراً بذلك عن سعة سلطانه وقوة نفوذه .
   وفي المقابل كان الإمام موسى الكاظم عليه السلام غارقاً في ظلمات السجون بحيث لا يستطيع تمييز الليل عن النهار ولم يصدر منه ما يقتضي ذلك سوى رفضه لأن يسير في ركاب الحاكم الظالم ساكتاً عن ظلمه وداعماً لسلطانه .
   وقد بعث هذا الإمام العظيم لذلك الحاكم الجائر رسالة يقول له فيها :
   إنه لن ينقضيَ عني يوم من البلاء إلا انقضى معه عنك يوم من الرخاء حتى نمضي جميعاً إلى يوم ليس له انقضاء هناك يخسر المبطلون . وفي المقابل :
   ( قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِم خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُون ) (2) .

(1) سورة الرعد ، الآية : 17 .
(2) سورة المؤمنون ، الآيات : 1 و2 و3 و4 .

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 139
   وقال سبحانه مشيراً إلى العاقبة الحسنة التي ينتهي إليها المتقون بتقواهم :
   ( تِلْكَ الدَّارُ الأَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرضِ وَلا فَسَاداً والعَاقِبةُ لِلّمُتَّقِينَ ) (1) .
   وأشار إلى مصير المؤمنين العاملين بإيمانهم الصادق بالتقوى والعمل الصالح بقوله سبحانه :
   ( إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَريَّةِ * جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْري مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِديِنَ فِيهَا أَبَداً رَّضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِىَ رَبَّهُ ) (2) .
   كما أشار إلى مصير الكافرين بقوله تعالى :
  ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ وَالمُشْرِكينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدينَ فِيهَا أُوْلئِكَ هُمْ شَرُّ البَرِيَّةِ ) (3) .
   وقد أشار إلى هاتين العاقبتين المتقابلتين أحد الشعراء المبدعين بقوله :
هـيا  بنا لرُبى الزوراء iiنسألها      عـن  ثلتين هما موتى iiوأحياء
فـقد مشت وبنو العباس سامرةٌ      بـألف ليلةَ حيث العيش iiسراء
دار الرقيق وقصر الخلد طافحة      بـما  يـلذ فـأنغام iiوصـهباء
تـجبك أن ديـار الظلم iiخاوية      وأن  لـلمتقين الـخلدَ ما iiشاؤا
(1) سورة القصص ، الآية : 83 .
(2) سورة البينة ، الآيتان : 7 و8 .
(3) سورة البينة ، الآية : 6 .

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 140
ومِل إلى الكرخ وارمُق قُبة سمَقَت      تـجاذبتها  الـثريا فـهي شـماء
وحـي فـيها إمـاماً مـن iiأنامله      سـحابة الـفضل والإنعام iiوطفاء
   وهذه المقطوعة الشعرية الرائعة وإن جعلت المقابلة بين الإمام موسى الكاظم عليه السلام وحاكم عصره والمتعاونين معه على الإثم والعدوان إلا أن مضمونها ومحتواها ينسحب بشكل عام ليشمل كل فرد أو جماعة سائرة في خط السماء بالإيمان الصادق والتقوى والعمل الصالح كما يشمل الطرف المقابل لهذه الفئة الهادية المهتدية إلى درب العبادة والكمال ( وبضدها تتميز الأشياء ) .
   ولذلك ينطلق المضمون المذكور في رحاب التاريخ ليصل إلى عصر الإمام الهادي عليه السلام ومعاصره المتوكل العباسي والقصة التالية تُظهر لنا تحقق المقابلة بين خط الهدى والاستقامة في العقيدة والسلوك والخط المقابل المنحرف عن هذا الخط القويم والصراط المستقيم وحاصل القصة المشار إليها :
   أن المتوكل أحضر الإمام الهادي عليه السلام إلى قصر حكمه وهو جالس على مائدة الخمر وطلب من الإمام أن يشاركه في شربه فقال له الإمام عليه السلام أعفني يا أمير فوالله ما خالط لحمي ودمي قط فاعفني منه فقال المتوكل إذن أنشدني الشعر فقال له إني لقليل الرواية فألحّ عليه المتوكل وقال له لابد من أن تنشدني شعراً فأنشده الأبيات التالية لينبهه من غفلته وهي كما يلي :
باتوا على قُلل الأجبال تحرسُهم      غـلبُ الرجالِ فلم تنفعهم iiالقُلَلُ
واستنزلوا  بعد عز من iiمعاقلهم      وأسكنوا حفراً يا بئس ما iiنزلوا
ناداهم  صارخ من بعدما iiقُبروا      أيـن  الأسرةُ والتيجانُ iiوالحُلَلُ


فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 141
أيـن الـوجوهُ التي كانت iiمنعمةً      من دونها تُضربُ الأستارُ iiوالكُلَلُ
فـأفصح القبر عنهم حين iiساءلهم      تـلك الـوجوهُ عليها الدود iiينتقل
وطـالما أكـلوا دهراً وما iiشربوا      فأصبحوا بعد طول الأكل قد أُكلوا
وطـلما  كنزوا الأموال iiوادخروا      فـخلفوها على الأعداء iiوارتحلوا
وطـالما عـمروا دُوراً لتحصنهم      فـفارقوا الدور والأهلين iiوانتقلوا
أضـحت  مـنازلهم قفراً iiمعطلة      وساكنوها  إلى الأجداث قد رَحلوا
   ذكر المؤرخون أن المتوكل بكى عندما سمع هذه الأبيات من الإمام عليه السلام وأمر برده الى منزله لساعته .
   وانطلاقا من جو العبرة والاعتبار بحياة العظماء الذين باعوا كل كيانهم لله سبحانه وتلك الشخصيات التي مشت في خط معاكس لنهج الحق والعدالة فجرفهم تيار الواقع وأغرقهم في بحر الفناء معنوياً ومادياً كما أغرق فرعون من قبل وأنجاه ببدنه ليكون عبرة للمعتبرين .
   أجل : أنسجاماً مع هذا الجو التاريخي الذي تصارعت فيه المبادىء وكان الانتصار في النهاية لمبادىء الحق والعدالة على مبادىء الباطل والضلالة ـ آثرت ذكر بعضٍ من قصيدة الشاعر السوري المبدع المنصف الأْستاذ محمد مجذوب التي قارن فيها بين مصير الإمام علي عليه السلام رمز الحق والعدالة ونهاية خصمه المبدئي معاوية بن أبي سفيان وذلك من أجل أن نقتدي بتلك الشخصية الإسلامية الفذة التي كانت مع الحق وكان الحق معها بشهادة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم في حقه .
   ونستفيد عبرة وعظةً من سيرة الذين حاربوا الحق ومن سار على نهجه فانتصر عليهم وبقي صامداً في وجه التحديات لا تزيده إلا صلابة وثباتاً وتألقاً وخلوداً .
   ومن أجل تحصيل المزيد من الفائدة ونيل العديد من أنواع العبرة

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 142
  آثرت نقل نص الرسالة التي بعثها الشاعر مع القصيدة إلى لجنة الاحتفال الذي أقيم في النجف الأشرف بمناسبة جليلة تتعلق بشخصية الإمام علي عليه السلام وهي كما يلي :
   حضرة الاخوان لجنة الشباب النجفي المحترمين
   وبعد : لقد كنت أود لو يُتاح لي الحضور شخصياً للمساهمة في الذكرى الخالدة لولا ما يحول دون ذلك من عقبات لا قِبَل لي باجتيازها وفكرت ملياً في الكلمة التي تصلح لمثل ذلك المقام العظيم فلم أجد أفضل من قصيدة كنت قد نظمتها عقيب زيارتي لضريح معاوية بدمش إذ تفتحت في خيالي أبواب التاريخ فأشرفت من خلالها على تلك المآسي الفاجعة التي مُني بها الإسلام منذ خروج أبي يزيد على أمير المؤمنين إلى كارثة كربلاء وإلى ما لا نهاية له من النوازل التي استغرقت أمة محمد ولا تزال تستغرقها حتى يشاء الله تداركها برحمته .
   وها هي ذي القصيدة وفيها كل ما اختلجت به مشاعري واقتنع به عقلي من الشؤون التي تتصل بهذه الذكرى ويسرني جداً أن تنال رضاكم فتكون أحدَ موضوعات الحفلة ولا شك أن ذلك سيتيح لي سعادة الاتصال بنفوس زكية ربطني بها رحم الولاء الخالص لذلك البيت الذي أذهب الله عنه الرجس وطهره تطهيراً .
   هذا وختاماً أرفع إليكم أحر التمنيات وأصدق التحيات .
   وفيما يلي بعض من قصيدته الجليلة الطويلة :
أيـن القصورُ أبا يزيدَ iiولهوُها      والـصافنات وزهوُها iiوالسؤددُ
أيـن الدهاءُ نحرتَ عِزتَه على      أعـتاب  دنـياً سحرها لا ينفدُ
آثـرتَ فانيها على الحق iiالذي      هو لو علمتَ على الزمان مخلد

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 143
تـلك البهارجُ قد مضت iiلسبيلها      وبـقيتَ  وحـدك عِـبرةَ تتردد
هذا  ضريحك لو بصُرتَ iiببؤسه      لأسـال  مدمعَك المصيرُ iiالأسودُ
كـتَلٌ  من الترب المهين iiبخِرْبةٍ      سـكر الـذبابُ بها فراح iiيُعربد
خـفيت  مـعالمها على iiزوارها      فـكأنها  فـي مـجهل لا iiيُقصد
ومشى  بها ركبُ البلى iiفجدارها      عـار  يكاد من الضراعة iiيسجد
والـقُبة الـشماء نـكس iiطرفها      فـبكل  جـزء لـلفناء بـها iiيد
تهمي السحائبُ من خلال شقوقها      والـريح  مـن جـنابتها iiتتردد
حـتى  الـمصلى مـظلمٌ iiفكأنه      مـذ  كـان لـم يجتز به iiمتعبد
أأبـا يـزيدَ لـتلك حكمةُ خالقٍ      تُـجلى على قلب الحكيم iiفيُرشَدُ
أرأيـتَ  عاقبة الجموح iiونزوه      أودى بـلبك غـيها الـمترصد
أغـرتك بـالدنيا فرُحت iiتشنها      حرباً على الحق الصراح وتُوقد
تـعدو بـها ظلماً على من حبه      ديـن وبـغضته الشقاء السرمد
عـلَمُ الـهدى وإمام كل iiمطهَّر      ومـثابةُ  الـعلم الذي لا iiيُجحد
ورثـت شـمائله بَـراءةَ iiأحمدٍ      فـيكاد مـن بُرديه يشرق أحمد
وغلوتَ  حتى قد جعلت iiزمامها      إرثـاً  لـكل مُـذمَّمٍ لا iiيُـحمد
هتك  المحارمَ واستباح خدورها      ومـضى  بـغير هواه لا iiيتقيد
فـأعادها  بـعد الهدى iiعصبيةً      جـهلاءَ تـلتهم النفوس iiوتُفسد
فـكأنما الإسـلام سـلعةُ iiتاجر      وكــأن  أمـته لأَلـكَ أعْـبُدُ
أأبـا يـزيد وسـاءَ ذلـك عِترةً      مـاذا  أقول وبابُ سمعك iiمُوصد
قم وارمق النجف الشريف بنظرةٍ      يـرتدَّ طـرفُك وهـو باكٍ iiأرمد

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 144
تـلك  الـعظام أعـز ربك iiشأنها      فـتكادُ لـولا خـوفُ ربـك تُعبد
أبـداً  تـباكرها الـوفودُ iiيـحثها      مـن  كـل صوب شوقها iiالمتوقد
نـازعتَها الـدنيا فـفزت iiبوردها      ثـم  انـطوى كالحُلم ذاك iiالموردُ
وسعت إلى الأخرى فأصبح ذكرها      فـي  الخالدين وعطف ربك iiأخلد
   وفي ختام الحديث عن الطواف وحكمته يترجح ذكر حوار جرى بين عبدالله بن مبارك والإمام زين العابدين عليه السلام عندما التقى به وهو في طريقه إلى مكة المكرمة لتأدية فريضة الحج المباركة .
   قال عبدالله هذا للإمام عندما رآه منفصلاً عن الحجاج : يا بُني مع من قطعت هذا البر وليس معك زاد ولا راحلة ؟ فأجابه الإمام عليه السلام قائلاً : يا شيخ قطعتُ هذا البرَّ مع البار ، ثم سأله ثانياً : وأين زادك وراحلتك ؟ فأجابه الإمام عليه السلام قائلاً :
   راحلتي رجلاي وزادي تقواي وقصدي مولاي .
  الحكمة من تشريع وجوب صلاة الطواف بعده وفي مقام ابراهيم (ع) :
   بعد الجولة الواسعة في ميدان الطواف الفسيح واستلهام الكثير من العبر والدروس من مدرسته المباركة ، لابد من الوقوف أمام تشريع وجوب صلاته المترتبة عليه من أجل النظر بعين الفكر إلى عمق هذه الصلاة وفي مقام إبراهيم بالذات دون غيره من الأماكن لقوله تعالى : (واتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبرَاهِيم مُصَلَّى ) (1) .

(1) سورة البقرة ، الآية : 125 .

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 145
   وذلك من أجل استيحاء الحكم البالغة والعبر النافعة وهي كثيرة :
   1 ـ منها : أن الصلاة بصورة عامة تعتبر من أبرز مظاهر العبودية والخضوع التام أمام عظمة الله تعالى لتأدية واجب العبودية وفريضة الشكر له . والحاج بعد أن يتوفق بعناية الله تعالى ومعونته للوصول إلى أماكن تأدية فريضة الحج ويقوم بأول واجب من واجباته وهو الإحرام بشروطه المعتبرة ويتوفق بعد ذلك لزيارة بيت الله تعالى ويقوم بالواجب الثاني وهو الطواف بشروطه المعهودة يُطلب منه أن يقدم لله الشكر الجزيل والثناء الجميل لإحسانه إليه وتفضله عليه بالتوفيق لقيامه بما وجب عليه من الاحرام وزيارة بيت الله الحرام والطواف فيه ـ وبذلك ينال التوفيق لإكمال حجه ونيل المزيد من العناية الإلهية والتمكن من إكمال الوظيفة الشرعية .
   قال سبحانه : ( لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ ) (1) .
   وأما ربط هذه الصلاة ـ أي صلاة الطواف ، بمقام إبراهيم حيث قال سبحانه : ( واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ) كما سبق ، فلا يبعد أن يكون وجه الحكمة فيه هو لفت نظر الأجيال الصاعدة الوافدة إلى هذا المقام ، إلى الدور البارز الذي نهض به بالنسبة إلى فريضة الحج بالتعاون مع ولده إسماعيل فهو :
   أوّلاً : كان المجدد لبناء الكعبة مع ولده هذا برفع قواعدها والبناء فوقها بعد أنت كان مغطاة مستورة بسبب طوفان نوح عليه السلام وهبوب الرياح العاتية .
   وعندما أراد إبراهيم وابنه المذكور تجديد بناء البيت بأمر من الله تعالى ـ سخر له الريح فكشفت له عن مكانه وظهرت القواعد الأساسية التي كان قائماً عليها في الزمن القديم وساعد ذلك على تجديد

(1) سورة ابراهيم ، الآية : 7 .

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 146
  البناء وإعادته إلى الوجود من جديد ، وقد أشار الله سبحانه إلى ذلك بقوله :
   ( وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ وَإِسْماعِيلُ ) (1) .
   وثانياً : أن الاطلاع على سيرة هذا النبي العظيم وعبادته الخالصة المخلصة لله سبحانه يبرز شخصيته الرسالية المثالية على واقعها وأنها بلغت القمة في الإخلاص والتوحيد العبادي بعد أن بلغت ذلك في التوحيد العقيدي وتجلى ذلك بوضوح بعد تعرضه لامتحانات عديدةٍ وصعبة فقابلها بقوة إيمان وصلابة موقف وغاية في التسليم والخضوع لإرادة الله سبحانه وذلك هو روح العبودية وقلب العبادة الحقة التي خلق الله الإنسانَ من أجلها وكلفه بالعبادات الخاصة المعهودة لتكون وسيلةً لتحقق تلك العبادة بمعناها العام وهي صفة الخضوع المطلق لإرادة الله تعالى بكل عمل اختياري يمارسُه المكلف على صعيد هذه الحياة بإرادته واختياره .
   وسأذكر المواقف التي تعرض فيها هذا النبي العظيم لأصعب الامتحانات وأشقها على النفس البشرية واستطاع بعناية الله سبحانه وقوة إيمانه أن يجتازها بقوة إرادة وصلابة عقيدة وأراد الله سبحانه أن يذكره ضمن حديثه عن مناسك الحج المتميزة عن غيرها من العبادات بصعوبة التأدية كما هو معلوم من أجل أن يقتدي المكلفُ به في مقام امتثاله التكاليف الشرعية وخصوصاً الصعبة منها .
   والاقتداء بمثل هذه الشخصية المثالية غير مقصور على الموارد التي تحدث القرآن عنها وأشار التاريخ إليها مثل قصة الذبح الذي رأى في منامه

(1) سورة البقرة ، الآية : 127 .

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 147
  أنه مأمور به بالنسبة إلى ولده اسماعيل وكذلك شعار الرمي الذي تحدث عنه التاريخ أن الله أمره به بواسطة جبرائيل من أجل أن يطرد الشيطان الذي تعرض له ليمنعه من ذبح ولده وامتثال أمر ربه على تفصيل مذكور في قصص الأنبياء .
   أجل : إن الاقتداء ببطل التوحيد خليل الله العظيم ليس مقصوراً على تلك الموارد بل يشمل كل مجالات التعبد والعبادة الخالصة لله تعالى بالمعنى العام الذي مرت الإشارة إليه .
   من تلك المواقف الصعبة التي تعرض فيها النبي إبراهيم للامتحان الصعب ـ أمر الله له بأن يهاجر مع زوجته هاجر وطفله الوحيد اسماعيل ـ من فلسطين إلى الحجاز ليتركهما هناك في واد غير ذي زرع كما تحدث القرآن الكريم وفي جوار الكعبة التي رفع قواعدها بعد ذلك مع ولده اسماعيل هذا .
   وكما كانت هذه الوادي مجردة من الزرع الذي يستفيد منه الإنسان طعامه الضروري كانت خالية من الماء أيضاً الذي هو مصدر الحياة وحفظها من التلف بعد الوجود قال سبحانه :
   ( وَجَعَلْنَا مِنَ المَآءِ كُلَّ شَيءٍ حَيٍّ ) (1) .
  وخاليةً من الإنسان أيضاً بسبب خلوها من ذلك أي من الزرع مصدر الطعام والماء مصدر الشراب والحياة وذلك هو سر الصعوبة والشدة في هذا الامتحان وقد شاركته في تحمل الصعوبة والصبر على الشدة ـ زوجته المؤمنه المذكورة بالخير والثناء حيث رضيت بقضاء الله وسلمت أمرها له ليقضي أمراً كان مفعولاً مهما كلف قضاؤه من صعوبة ومعاناة ما دام ذلك

(1) سورة الأنبياء ، الآية : 30 .

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 148
  حاصلاً في طريق مرضاة ا‏لله وحصول الغاية السامية التي أراد تحققها بعد ذلك .
   والسر الكامن وراء هذا التسليم والرضا بقضاء الله العليم الحكيم هو الإيمان الراسخ والثقة القوية بحكمته تعالى ورحمته وأنه لا يترك من لجأ إليه وتوكل عليه ـ بدون رعاية وحماية .
   وبعد أن قام النبيّ إبراهيم بما أمره الله به بتسليم وانقياد لإرادته تعالى رغم الصعوبة النفسية التي يعاني منها الإنسان الأب في مثل هذا الموقف وخصوصاً إذا كان شيخاً كبيراً وكان ولده طفلاً صغيراً ووحيداً وقد منَّ الله به عليه حال شيخوخته وكبره .
   وشاءت الحكمة الإلهية أن يتعرض هذا النبي العظيم لهذا الامتحان الصعب ليكون قدوةً للمؤمنين الذين يتعرضون لمثل هذا الامتحان الشديد في طريق قيامهم بواجب العبودية لله تعالى .
   كما تكون زوجته هذه قدوة للنساء المؤمنات اللاتي يتعرضن لمثل هذا الابتلاء عندما يتوقف قيامهن بواجب الإطاعة لله تعالى وتنفيذ إرادته على تحمل المزيد من المشقة الجسمية والنفسية أو الأولى وحدها .
   وإذا لاحظنا مجموع الخصوصيات التي تجمعت لأم اسماعيل عليه السلام وسببت لها المزيد من الصعوبة والمعاناة ندرك أن امتحانها كان أصعب من امتحان زوجها الذي وقف هذه المرة عند حد السفر بولده الصغير وتركه مع والدته في صحراء جرداء لا كلأ فيها ولا ماء والخصوصيات التي سببت لها مضاعفة الانفعال العاطفي والجهد النفسي ـ كثيرة أبرزها رقة العاطفة المعهودة لدى الأم تجاه ولدها وخصوصاً إذا كان

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 149
  صغيراً بعمر اسماعيل ويضاف إلى ذلك الغربة المؤلمة والبعد عن الوطن والأحباء .
   واشتدّ هذا الابتلاء عندما احتاج طفلها إلى الماء ليزيل عطشه الشديد وكيف تحصل على مطلوبه ومطلوبها في تلك الصحراء القاحلة ولكن قوة أملها في أن يجعل الله لها ولطفلها من بعد عسر يسراً ومن بعد شدة فرجاً ـ جعلتها تعيش حالة الترقب لبزوغ صبح الفرج واليسر وانجلاء ليل الشدة والعسر .
   وحيث كانت ناضجة العقل وكاملة الرشد الديني والوعي الإيماني ومدركة ببركة هذا الوعي أن الإنسان المؤمن مكلف بالسعي في سبيل تحصيل الهدف المحبوب أو دفع الحادث المكروه تمشياً مع الحكمة الإلهية التي قضت واقتضت أن لا تدرك المسببات إلا بأسبابها ولا تدخل البيوت إلا من أبوابها ـ لذلك انطلقت ساعية في سبيل تحصيل الماء لنفسها ولطفلها وقاصدة مكان الصفا الذي يبتدىء سعي الحجاج منه ويختمونه بالمروة ـ في كل شوط من أشواطه السبعة وذلك حينما لاح لها بريق السراب في مكان ابتداء السعي ( الصفا ) وتخيلت أنه ماء وعندما وصلت إليه تبين لها الواقع وأنه سراب خادع ثم التفتت إلى جهة المروة فشاهدت بريقاً يُوهم أنه ماء فسعت إليه وتبين لها أنه من نوع البريق الأول .
   ورغم ذلك بقيت تسعى بدافع الرجاء والأمل برحمة الله تعالى ولم يتسرب اليأس والقنوط إلى قلبها لأن ذلك لا مجال له عند النفوس الكبيرة المؤمنة قال سبحانه : ( وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ ) (1) .

(1) سورة الحجر ، الآية : 56 .

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 150
   وقال تعالى : ( إِنَّهُ لا يَاْيْئَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْم الكَافِرُون ) (1) .
   ولذلك بقيت هذه المرأة المؤمنة ـ مستمرة على السعي بين هذين المكانين (الصفا والمروة) رغم فشل التجربة وعدم حصول الأمنية لأن فشلها لا يعني عدم إمكانية حصول مطلوبها بقدرة الله تعالى وعنايته ـ وأخيراً تحقق لها ذلك بعد أن بذلت أقصى الجهد وقامت بما تتمكن منه ـ وكان ظفرها بالماء في مكان آخر وهو مكان وجود الطفل الذي شاءت الرحمة الإلهية أن تشمله مع أمه المؤمنة المتوكلة ـ بعطفها المعهود فتخرج لهما الماء من تحت قدمي طفلها الناعمتين وتبادر تلك الأم الظمأى الولهى لتزم هذا الماء وتمنعه من التدفق والجريان بوضع ما يحجزه في مكانه ـ من الرمل أو التراب ـ ولعل ذلك كان سبب تسميته بماء زمزم .
   وبحصول هذا الماء للأم وطفلها بهذه الوسيلة المعجزة حصل لهما ارتواء جسمي بشربه كما حصل لها ارتواء روحي بماء الرعاية الإلهية التي أنعشت ثقتها بالرحمة السماوية وأنه سبحانه عند حسن ظن عبده المؤمن فمن حسَّن ظنه به ولجأ إليه وتوكل عليه كان حسبَه ونعم الوكيل .
   قال سبحانه : ( وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ) (2) .
   وقال تعالى :
   ( وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مُخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ ) (3) .

(1) سورة يوسف ، الآية : 87 .
(2) سورة الطلاق ، الآية : 3 .
(3) سورة الطلاق ، الآيتان : 2 و3 .