وهكذا تابعت الرعاية الإلهية هذه المرأة وطفلها فهيأ لهما ببركة هذا الماء ـ وجود جماعة تنفي عنها وحشة الغربة وحرارة الكربة التي كانت تعاني منها بسبب إقامتها في تلك الصحراء الجرداء بلا جار مريح وإنسان إنسان ترتاح بقربه وتتعاون معه على طي مسافة المدة المقدر لها أن تقيمها فيها ـ أي في تلك الصحراء .
   وكانت تلك الجماعة التي جاءت لتجاورها هي قبيلة جرهم وذلك بعدما شاهدت الطيور تحوم فوق ذلك المكان وتهبط إليه لتشرب من مائه ـ فعرفت هذه القبيلة بوجود الماء فيه .
   وكانت جُرهُم هذه قبيلة عربية معروفة بالنبل والكرم والأريحية فاندفعت بعامل هذه الصفات النبيلة للانفتاح على هذه المرأة الصالحة الغريبة النجيبة وطفلها الصغير البريء ـ بالعطف والحنان والبر والإحسان من أجل التعبير عن مشاعر الإنسانية من جهة ومن أجل تحصيل موافقتها على الاستفادة من ذلك الماء الواقع تحت إشرافها وحيازتها ـ من جهة أخرى .
   وترعرع ذلك الطفل في ظل رعايتهم له ولأمه مع حضانتها وقيامها بواجب الأمومة تجاهه .
   والذي زاد في عطفهم ورعايتهم لهما معرفتهم بأن هذا الطفل هو نجل النبي إبراهيم عليه السلام وأن أمه هذه هي زوجة ذلك النبي العظيم وهذا ما بعث السرور والاطمئنان في قلب هذا الأب الرحيم والزوج الكريم حيث استجيب دعاؤه وتضرعه إلى الله تعالى بقوله :
   (رَّبَّنَآ إِنّي أَسْكَنتُ مِن ذُرّيَّتي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاةَ فاجْعَلْ أَفئِدةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِم وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَراتِ

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 152
  لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) (1) .
   والذي زاده سروراً هو حصول ما يمهد لتحقق الهدف الكبير المقصود لله سبحانه بأمره له بالهجرة مع زوجته وطفله إلى ذلك المكان والمراد بذلك الهدف هو تجديد بناء الكعبة وتعميرها مع ولده اسماعيل مادياً مقدمة لعمرانها معنوياً بقيام ذريته الحالية ومن سيولد منها في المستقبل مع من يؤمن بدعوته من الناس بإحياء شعائر الله والقيام بفريضة الحج لبيته الحرام في المستقبل القريب والبعيد إلى يوم القيامة تلبية للنداء الكريم الذي أمر الله نبيه هذا بتوجيهه إلى الأجيال عبر التاريخ وذلك بقوله تعالى :
   ( وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةٍ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا البَآئِسَ الفَقِيرَ ) (2) .
   ومن مجموع ما تقدم ذكره حول هجرة النبي إبراهيم وزوجته هاجر من فلسطين إلى الحجاز وما تحقق منهما من التسليم لأمر الله تعالى والإقدام على تنفيذ إرادته تعالى رغم وجود الصعوبة والمعاناة النفسية والجسمية وما ترتب على ذلك وحصل بعده من اليسر بعد العسر والفرج بعد الشدة .
   ندرك مدى النجاح الذي حققه هذان المؤمنان الموحدان المخلصان لله سبحانه ونعرف أن الفرج الذي منَّ الله به عليهما بعد صبرهما الجميل

(1) سورة إبراهيم ، الآية : 37 .
(2) سورة الحج ، الآيتان 27 و28 .

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 153
  وتسليمهما لأمر الله الجليل ـ كان جائزة كبرى معجلة ومكافأة معنوية ومادية على ذلك التسليم.
   وشاءت الحكمة الإلهية أن تضيف جائزة أخرى لهاجر ومكافأة كبرى على صبرها واحتسابها وهي جعل السعي بين الصفا والمروة الذي قامت به وهي تبحث عن الماء ـ فريضة على كل من حج أو اعتمر من أجل أن يخلد ذكرها بذلك ويجعل منها قدوة مثلى وأسوة حسنة لكل من يسعى في سبيل الهدف الكبير والغاية السامية فيصبر كما صبرت ليظفر بما ظفرت به من نجاح السعي ونيل رضا الله تعالى .
   وقبل متابعة الحديث حول شخصية النبي إبراهيم بذكر المواقف الأخرى التي تعرض فيها للامتحانات الأخرى الصعبة .
   أحب أن أقف من قصة هجرته مع زوجته هذه وطفله ذاك وقفة تأمل وتدبر من أجل استيحاء العديد من الدروس التربوية التي تقوي إيماننا برحمة الله تعالى وحكمته وتدفعنا للاقتداء بهما بالصبر الجميل والتسليم لحكم الله تعالى وقضائه إذا تعرضنا لما تعرضا له من الامتحان الصعب فأقول :
   1 ـ الدرس الأول : الذي نستلهمه من هذه القصة هو درس في التسليم والرضا بقضاء الله وقدره لأن ذلك هو مقتضى الإيمان الكامل الذي يوحي لصاحبه بأنه عبد مملوك لله سبحانه فيجب عليه أن يطيعه بكل ما يأمره به من فعل واجب أو ترك حرام حكيم وإنه رحيم لا يأمره إلا بما فيه المصلحة والفضيلة ولا ينهاه إلا عما فيه المفسدة والرذيلة لذلك تكون نتيجة امتثاله لأحكام ربه هي السعادة في الدنيا والآخرة وهذا وذاك يقوي عامل الانبعاث والتحرك في إطار العبودية والتعبد لله سبحانه مهما كلفه

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 154
  ذلك من صعوبات وتضحيات لأن الفوائد التي يجنيها بامتثاله حاضراً في هذه الدنيا ومستقبلاً في الآخرة هي أكبر وأعظم من كل صعوبة تحصل في طريق الامتثال كما أن السلبيات المترتبة والصعوبات الناشئة من مخالفة تعاليم الله سبحانه هي أيضاً أكبر وأخطر من كل صعوبة تحدث للمكلف بسبب استقامته في خط التقوى كما أنها أكبر وأكثر من الفوائد المادية الدنيوية الزائلة .
   ويؤكد عامل الاستقامة في خط العبودية والخضوع لإرادة الله تعالى الإلتفات إلى أن طبيعة هذه الحياة قائمة على أساس عام وقاعدة ثابتة لا يستطيع أي إنسان أن يتجاهلها ويتجاوز حدودها بقطع النظر عن القضايا التعبدية والالتزام بالأحكام الشرعية .
   وهي أن الأهداف الحياتية وخصوصاً الكبيرة منها لا تدرك إلا بالتعب والتحمل فطالب العلم في مدرسته لا يحصل النجاح إلا بالسهر والصبر على المشقة وكذلك طالب المال والثراء لا يدرك الربح المنشود في تجارته إلا بالتعب الجسمي والفكري غالباً .
   والمجاهد في ساحة النضال لا يحقق هدف الانتصار والتحرر إلا بالصبر على مضاعفات المعركة وصعوباتها المعهودة وإلى ذلك أشار النبي عيسى عليه السلام ـ بما روي عنه في وصيته للحواريين من قوله لهم : إنكم لا تدركون ما تحبون إلا بالصبر على ما تكرهون ، وإلى هذا المعنى أشار الشاعر بقوله :
ذريـني  أنـلْ مـا لا يُـنال مـن iiالـعلى      فصعب العلى في الصعب والسهل في السهل
تـريـدين  إدراك الـمـعالي iiرخـيـصة      ولا بــد دون الـشهد مـن إبـر iiالـنحل

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 155
   وقال آخر :
لا تـحسب المجدَ تمراً أنت آكلُه      لن تبلغ المجدَ حتى تلعق الصبرا
   وقال آخر :
لأستسهلن الصعبَ أو أدرك المنى      فـما  انـقادت الآمال إلا iiلصابر
   وتفترق الأهداف الرسالية عن الأهداف الحياتية الخارجة عن نطاق الرسالة ونهج الشريعة بأن طالب الأولى مضمون النجاح والربح على كل حال لأنه إذا أدرك هدفه المنشود في هذه الحياة يكون قد ظفر بالنجاح المعجل مع الفوز المؤجل الذي يناله غداً يوم القيامه جزاء عمله في سبيله وإذا لم ينل هدفه الحالي فهو لا يخسر ثواب سعيه وعمله في الآخرة :
   ( يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) (1) .
   وهذا بخلاف طالب الأهداف الحياتية المادية البعيدة عن منهج الدين وخط الاستقامة في طريق التقوى فهو مردد المصير بين النجاح الدنيوي المعجل المؤدي إلى الفشل والخسران الحقيقي يوم الجزاء والخسران المعجل الملزوم للفشل والخسارة الكبرى في الدار الاُخرى وذلك هو الخسران المبين .
   وإليه أشار الله سبحانه بقوله تعالى :
   ( قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالأَخْسَرِينَ أَعمالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحَيَاةٍ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحسِنُونَ صُنْعاً ) (2) .

(1) سورة الشعراء ، الآيتان : 88 و89 .
(2) سورة الكهف ، الآيتان : 103 و104 .

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 156
   وقوله تعالى :
   ( قُلْ إِنَّ الخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الخُسْرانُ المُبِينُ ) (1) .
   وقال سبحانه متحدثاً عن مصير المؤمنين بالله العاملين في سبيله .
   ( إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لُهُمْ جَنَّاتُ الفِرْدُوسِ نُزُلاً * خَالِدينَ فِيهَا لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً ) (2) .
   2 ـ الدرس الثاني : هو درس في التوكل الواعي وهو الذي يهيء صاحبه الأسباب والمقدمات العادية التي يتوقف عليها حصول الهدف المشروع المطلوب للمؤمن المتوكل ويتوكل بعد ذلك على الله سبحانه في حصول هدفه فإن شاء لسعيه النجاح كان له ذلك وشكره على تفضله بتوفيقه له مردداً بلسان المقال أو الحال قوله تعالى ، على لسان نبيه سليمان عليه السلام :
   ( هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي ءأشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ ) (3) .
   وإذا قدر سبحانه أن لا يترتب على سعيه هدفه المنشود رضي بما قدره الله له وصبر عليه مردداً ما ورد في دعاء الافتتاح المروي عن الإمام المهدي عليه السلام من قوله :
   ولعل الذي أبطأ عني هو خير لي لعلمك بعاقبة الأمور .
   وأما الهدف المؤجل وهو نعيم الآخرة ورضا الله سبحانه المترتب على توكل المؤمن على ربه وسعيه في سبيله .

(1) سورة الزمر ، الآية : 15 .
(2) سورة الكهف ، الآيتان : 107 و108 .
(3) سورة النمل ، الآية : 40 .

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 157
   فهو مضمون الحصول يوم الجزاء العادل قال سبحانه :
   ( فَمَن يَعْمَل مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْر يَرَهُ ) (1) .
   والدرس المذكور مستفاد من سعي هاجر في سبيل تحصيل الماء رغم إيمانها بقدرة الله سبحانه وتمكنه من تحصيل الماء لها ولطفلها ولو بدون حصول البحث عنه وسعيها في سبيل تحصيله .
   وذلك لأنها تعلم أن حكمة الله سبحانه قضت أن لا تنال المسببات إلا بأسبابها العادية وأن إعدادها من أجل التوصل بها إلى الهدف المطلوب المشروع مع الاعتماد على الله سبحانه في نجاح السعي وترتب الأثر المقصود عليها ـ هو التوكل المحمود المحبوب لله تعالى .
   ولذلك سعت في سبيل تحصيل الماء ولم تجلس في مكانها معتمدة على إيمانها برحمة الله ودعائها وتضرعها له ليحقق لها مطلوبها من دون أن تتحرك في طريق تحصيله .
   وذلك لأن طلب حصول الهدف بدون السعي في سبيل تحصيله بسببه العادي ـ هو من التواكل المذموم في مقابل التوكل المحبوب المحمود عند الله الذي يُباركه ويساعد على إنجاحه في الغالب إلا إذا اقتضت الحكمة الإلهية تأخير حصوله إلى الوقت المناسب أو عدم حصوله في حاضر الدنيا ليعطي الله سبحانه للساعي أجر سعيه يوم القيامة وقد تحدثت حول موضوع التوكل بصورة تفصيلية في الجزء الأول من وحي الإسلام صفحة 216 .
   3 ـ الدرس الثالث: المستفاد من قصة الهجرة المذكورة هو درس

(1) سورة الزلزلة ، الآية : 7 .

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 158
  إيماني رائع ونور ساطع يبدد ظلمة اليأس بشعاع الأمل والثقة القوية برحمة الله سبحانه وأنه لا يكلف نفساً إلا وسعها بمقتضى عدالته وحكمته ولا يتركها وحدها في ساحة الصراع تصارع الأيام وتتجشم الآلام بدون أن يمد إليها يد الرحمة والمعونة ليجعل لها من بعد عسر يسراً ومن بعد شدة فرجاً في الغالب .
   ويفهم ذلك من صريح قوله تعالى :
   ( فَإِنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرا ) (1) .
   وقد أشار بعض الشعراء إلى هذا المعنى بقوله :
ولاتـيأسنَّ  وإن طـالت iiمـحاولة      إذا اسـتعنت بصبر أن ترى الفرجا
أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته      ومُـدمن  الـقرع للأبواب أن iiيلجا
   وقد رأينا بعين الحقيقة والواقع الملموس ـ كيف بدل الله سبحانه شدة هاجر وولدها بالفرج والرخاء وظمأها بالري والارتواء ووحشتهما المقيتة وغربتهما المؤلمة ـ بحسن الجوار لجماعة عرفوا قدرهما وقدموا كل أنواع الدعم والمعونة لهما .
   وتأتي الحوادث التاريخية الواقعية لتؤكد هذه الحقيقة الإيمانية وأبرزها ما حصل للنبي أيوب من الشفاء بعد العارض الجسمي الذي أحاط ببدنه ومن إعادة الحياة لأولاده بعد موتهم بالحادث الذي حصل لهم مع عودة أمواله ومواشيه إلى سابق عهدها وعودة زوجته رحمة لتعيش معه في ظل الحياة الزوجية السعيدة بعد أن مرت عليها شدة شديدة وبلاء عظيم حصل لها تبعاً للابتلاء الشديد الذي أصيب به زوجها النبي الصابر الذي مدحه الله سبحانه لصبره بقوله تعالى :

(1) سورة الشرح ، الآيتان : 5 و6 .

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 159
   ( إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِّعْمَ العَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ) (1) .
   وكذلك ما حصل للنبي يوسف وأبيه يعقوب عليهما السلام حيث تعرض الابن لامتحانات عديدة وصعبة ولأنه كان مع الله سبحانه حال ابتلائه بها بالصبر والاحتساب والثقة القوية بحكمته تعالى ورحمته فقد كان الله معه بالدعم والإعانة على التحمل والتجمل بالصبر الجميل .
   كان معه حين إلقائه في البئر ليوفر له ما يضطر له من الغذاء والشراب الحافظ لحياته وبقي معه بعد خروجه منه على يد تلك القافلة التي سخرها الله له لتخرجه من ظلمة البئر إلى عزة القصر ونعيمه .
   وبقيت العناية الإلهية معه لتنصره في معركة الجهاد الأكبر عندما رادوته التي هو في بيتها ودخلت معه هذه العناية إلى السجن لتشد على يديه فيرى أن السجن رغم صعوبته أحب إليه ممّا يدعونه إليه من مخالفة الله وانحرافه عن خط تقواه وكان ذلك سبب الإفراج عنه والإخراج له من ضيق السجن وذلته إلى سعة القصر وعزته كما كان السبب في ظهور براءته مما ألصق به ونسب إليه مما لا يليق بشأنه ويناسب مقامه كنبي معصوم ومؤمن تقي بلغ القمة في العفة والنزاهة .
   وهكذا ارتفعت به العناية الإلهية إلى عرش الملك ليصبح حاكماً بالعدل بعد أن كان محكوماً بالظلم وهذا من أوضح مصاديق قوله تعالى :
   ( وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ ) (2) .
   كما أنه تطبيق واضح وتجسيم حي لمضمون النصيحة التي قدمها الإمام الحسن عليه السلام لجنادة يوم زاره في مرضه الذي توفي

(1) سورة ص ، الآية : 44 .
(2) سورة الطلاق ، الآيتان : 2 و3 .

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 160
  به وهي قوله له :
   وإذا أردت عزاً بلا عشيرة وهيبة بلا سلطان فاخرج من ذل معصية الله تعالى إلى عز طاعته .
   ويأتي قول زليخا التي راودت يوسف ـ عندما شاهدته على عزة السلطان وهيبة الإيمان : سبحان الذي جعل العبيد ملوكاً بطاعته والملوك عبيداً بمعصيته ، منسجماً مع روح النصيحة التي قدمها الإمام الحسن عليه السلام لصاحبه المذكور .
   وهكذا وصلت العناية الإلهية إلى النبي يعقوب والد النبي يوسف عليهما السلام لتشد على يده وتعينه على الصبر الجميل بدل الجزع والاعتراض على حكم الله وقضائه وأعادت له بصره بعد أن فقده وجمعت شمله بولديه يوسف وأخيه بعد الفراق الطويل .
   وانطلقت هذه العناية الإلهية والرعاية السماوية في رحاب الزمن لترعى أولياء الله الذين باعوا أنفسهم وكل كيانهم وما يتصل بهم لله تعالى لينالوا بذلك رضاه ثمناً أعلى وأغلى مضافاً إلى النعيم الخالد والسعادة الأبدية في جواره تعالى .
   وكان لنبينا الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم النصيب الأوفر والقسط الأكبر من هذه الرعاية المباركة لتشد على يديه وتثبته في ساحة الصراع المرير الذي خاضه في مواجهة قومه الذين عارضوا دعوته وقابلوه مع من آمن به بكل قسوة وعنف حتى تحدث عمّا أصابه من الأذى العنيف بقوله ، وهو الصادق الأمين الذي لا ينطق عن الهوى: ما أوذي نبي بمثل ما أوذيت .
   وقابل كل ذلك الأذى مع الحصار السياسي والاقتصادي والأمني مدة ثلاث سنوات في شعب عمه أبي طالب رحمه الله مردداً قوله في مناجاته :

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 161
  إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي ، وأخيراً شاءت الرحمة الإلهية والعناية السماوية أن تهيأ له وسيلة خروجه من سجن الشعب وترد على مكر المشركين الذي دبروه ليلة الهجرة بمكر عادل مبطل لمكرهم الظالم وذلك بإخباره عمّا عزموا عليه وأمره بأن يأمر علياً بالمبيت في فراشه ليلة هجرته ليكون مبيته فيه مغطياً لانسحابه من بينهم فلا يشعروا به ، وامتثل علي عليه السلام أمر السماء ووقى بشخصه حياة سيد الأنبياء وكلل هجرته بالنجاح والتوفيق ليتحول من مرحلة الضعف والدعوة إلى مرحلة القوة والدولة ويفتح له مكة بعد ذلك سلماً ويفتح له بذلك القلوب بالإيمان ليدخل الناس في دين الله أفواجاً .
   وقد سجل الله سبحانه ذلك كله على صفحات كتابه الكريم لتستلهم الأجيال منه دروساً تربوية تنير لها درب التضحية والجهاد والصبر والثبات على منهج الحق في مقام الدعوة إلى مبدئه والتمسك بخطه والدفاع عنه عندما يتعرض للخطر من قبل أعداء الرسالة والفضيلة .
   هذا حاصل ما يمكن استلهامه من الدروس التربوية من قصة هجرة النبي إبراهيم عليه السلام وسفره بزوجته هاجر وطفله اسماعيل إلى بلد غير ذي زرع ليتحول بعد وجود أسرته فيه إلى حقل خصب مزدهر بالزرع المعنوي المبارك الذي تمثل بزرع الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم بذور الإيمان والتوحيد وغرسه شتلات الرسالة الخالدة الخاتمة في حقل العقول وسقيها بماء التوعية والتربية الرسالية المثالية حتى أصبحت خلال فترة قصيرة ـ شجرة ميمونة مباركة أصلها ثابت في صعيد القلوب وفرعها ممتد إلى سماء الكمال والفضيلة لتؤتي أكلها الطيب وتعطي ثمرها اليانع كل حين بإذن ربها .
   ويسرني أن أذكر في ختام هذا الحديث المنطلق في رحاب هجرة

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 162
  الخليل المذكورة والمنتهي بوحي المناسبة إلى هجرة حفيده الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلم التي أكملت الهدف وحققت الغاية التي كانت هجرة الخليل الجد من أجلها .
   أجل: يسرني أن أختم هذا الحديث المبارك بالأبيات التالية للشاعر القروي لمناسبتها لمضمون آخر الحديث عن شخصية الرسول الأكرم ورسالته الخالدة وهي منظومة من وحي المولد النبوي المبارك :
عـيدُ  البرية عيد المولد iiالنبوي      في المشرقين له والمغربين دوي
عيد النبي بن عبدا‏‏لله من iiطلعت      شمس  الهداية من قرآنه iiالعلوي
بدا من القفر نوراً للورى iiوهدى      يـا  للتمدن عم الكون من بدوي
   والبيتان التاليان من وحي المبعث النبوي الشريف :
غـمر الكون بأنوار iiالنبوه      كوكب لم تدرك الدنيا علوه
بـينما  الكون ظلام دامس      فتُحت  في مكة للنور iiكوه
   وبعد هذه الرحلة المباركة في رحاب شخصية النبي إبراهيم بطل التوحيد الخالد وزوجته هاجر رمز التوحيد الخالص والتسليم الصامد والتحدث عن بعض الشخصيات الأخرى بوحي المناسبة من أجل استيحاء المزيد من الدروس والعبر .
   أعود للحديث عن هذه الشخصية الفذة الخالدة في أعماق التاريخ أعني شخصية الخليل الجليل وهو يجتاز امتحاناً آخر أصعب من الأول وأشق على الطبيعة البشرية وخصوصاً مع الأب الشيخ الكبير وطفله الوحيد الصغير الذي منَّ الله به عليه حال الشيخوخة التي تقتضي مع جاذبية الأبوة الحانية المزيد من التعلق العاطفي بالبنوة الصغيرة الوحيدة .

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 163
امتحان إبراهيم المجيد بذبح طفله الوحيد
   وقد تمثل الامتحان الجديد الشديد بل الأشد من كل امتحان تعرض له في مسيرته الحياتية ـ بأمره من قبل الله في عالم الطيف ـ بذبح ولده إسماعيل وحيث أن رؤيا الأنبياء حق فقد اعتقد بسببها أنه مأمور بذبح ولده هذا واقعاً وأمره بذلك يتضمن أمر إسماعيل أيضاً بتقديم نفسه قربة وقرباناً لله تعالى .
   وقد شارك هذا الولد المؤمن حقاً والموحد واقعاً ـ أباه في الاعتقاد بأنّه مأمور بذلك أي بتقديم نفسه المطمئنة في سبيل مرضاة الله سبحانه .
  ولذلك أبدى الاستعداد لقبول تنفيذ أمره تعالى عندما أخبره والده الجليل بالتكليفين المذكورين المتوجه أحدهما إلى الأب مباشرة وبصراحة والآخر موجه إلى الابن ضمناً وبالتبع والإشارة ( والحر تكفيه الإشارة ) .
   وقد ورد التكليفان المذكوران في قوله تعالى :
   ( فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَابُنَيَّ إِنّي أَرَى فِي المَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانُظر مَاذَا تَرَى قَالَ يَأَبَتِ أفْعَلْ ما تُؤمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَآءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ) (1) .
   فالمفهوم من هذه الآية المباركة أن النبي إبراهيم اعتقد بسبب هذه

(1) سورة الصافات ، الآية : 102 .

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 164
  الرؤيا بأنه مأمور بذبح ولده وتقديمه قربناً لله تعالى .
   كما اعتقد اسماعيل تبعاً لاعتقاد والده بأنه مأمور بتقديم نفسه قرباناً في سبيل مرضاة الله تعالى وأن والده مستعد لتنفيذ أمر ربه وتنفيذ إرادته وإن كان ذلك من أصعب التكاليف وأشدها وقعاً على شعوره وعاطفته الأبوية وأراد الاستفهام ومعرفة حال ولده هذا وهل هو مستعد لتقديم نفسه وتنفيذ أمر ربه بطواعية وانقياد لإرادة رب العباد فخاطبه قائلاً : ( فانظر ماذا ترى ؟ ) .
   فأجابه على الفور وبدون تردد : يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين .
   وحكى الله سبحانه قصة إقدام هذاين النبيين العظيمين على أمتثال أمر ربهما الأعظم بقوله تعالى:
   ( فَلَمَّآ أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلّجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَن ياإبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ البَلاؤا المُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الأَخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيم * كَذِلَكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤمِنِينَ ) (1) .
   فقد بيّن الله سبحانه بهذه الآيات البينات عدة نقاط حيوية جديرة بالتنبه لها والالتفات إليها من أجل استيحاء العبر الموجهة والدروس المربية .
   النقطة الاُولى: هي أن إقدام كل واحد من الوالد والولد على تنفيذ أمر الله‏ سبحانه لم يكن عن ضغط خارجي مثل خوف العقوبة الصارمة المترتبة

(1) سورة الصافات ، الآيات : 103 ـ 111.

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 165
  على المخالفة العملية للوظيفة الشرعية وإنما كان عن تسليم لأمر الله سبحانه ورضا بقضائه وهذا هو روح العبودية الكاملة والعبادة المخلصة لله تعالى وهي القسم الثالث من أقسام العبادة الذي اختاره الإمام علي عليه السلام لأنه يمثل غاية الخضوع وقمة الخشوع أمام عظمة الخالق المعبود بحق وجدارة حيث قال عليه السلام : إلهي ما عبدتك خوفاً من نارك ولا طمعاً في جنتك ولكني وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك .
   وقد عبر ا‏لله سبحانه عن تسليمهما الخاشع أمام قضائه الواقع بقوله سبحانه : فلما أسلما . . .
   النقطة الثانية : أن إقدام النبي إبراهيم على ذبح ولده إسماعيل الطفل الوحيد لم يكن مشوباً بشيء من الرقة والعطف الأبوي الذي يقتضي بطبعه التريث والبطء في مقام الامتثال كما هو واضح بمقياس العاطفة البشرية وخصوصاً العاطفة الأبوية وعلى الأخص مع الطفل الوحيد الوديع الذي بلغ من العمر مرحلة تساعده على العمل في سبيل خدمة أبويه ومساعدتهما على تحقيق بعض الخدمات ولا سيما إذا كان الوالد شيخاً كبيراً كما كان بالنسبة إلى موضوع الحديث وموضع الإعجاب والتقدير .
   ويستفاد من ما ذكرناه في هذه النقطة من قوله تعالى : ( وتله للجبين ) حيث يفهم من هذه الكلمة ـ معنى القوة على ضوء ما ورد في تفسيرها لغة وشرحاً في كتب التفسير . قال المرحوم العلامة الشيخ محمد جواد مغنية في كاشفه مفسراً مفردات الآية المذكورة بقوله : أسلما ـ استسلما لأمر الله تعالى وتله ـ صرعه وألقى به على الأرض (1) .
   وهذا يدل على أن حرارة الإيمان المتوهجة في قلبه غلبت على

(1) تفسير الكاشف ج6، ص 349 الطبعة الأولى .

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 166
  حرارة العاطفة الأبوية لتصبح بحكم العدم ، وهذا هو المتوقع من المؤمن الرسالي المثالي الذي باع نفسه وماله وأولاده وكل ما يتعلق به في هذه الحياة ‏لله تعالى ، بأنّ له في مقابل ذلك جنةً عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين .
   والسر في ذلك هو أن المؤمن الواعي الواقعي يرى بعين فطرته الصافية وبصيرته النافذة أن نفسه وماله وأولاده وكل ما هو تحت يده وتصرفه في هذه الحياة هو ملك لله تعالى المالك الحقيقي للكون كله بما فيه الإنسان ولذلك يجب عليه أن يصرفَه ويتصرف به وفق مرضاته وإذا طُلب منه تسليمه له وإعادته إليه وجبت عليه المبادرة إلى التسليم عملاً بقوله تعالى :
   ( إِنَّ اللَّهَ يأمُرُكُم أَن تُؤَدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالعَدْلِ ) (1) .
   وقد أدرك بعض المؤمنين هذه الحقيقة الإيمانية وتعامل مع حادثة وفاة ولده البالغ من العمر عشرين عاماً ـ على هذا الأساس وحاصل قصته أن هذا الوالد المؤمن الواعي كان مشغولاً بإلقاء محاضرة على طلابه في مدرستهم وفي الأثناء بلغه نبأ وفاة ولده هذا فقابل هذا النبأ بالصبر والتسليم وقوة الإرادة الإيمانية واستمر على إلقاء المحاضرة وبعد فراغه منها سأله أحد طلابه عن مضمون النبأ الذي بلغه أثناء المحاضرة فأخبره بكل هدوء واطمئنان وكأنه لم يحدث شيء يذكر .
   وهذه ظاهرةٌ غريبة وعجيبة تلفت النظر وتثير الاستغراب والإعجاب في الوقت نفسه ، وعندما سألوه عن سبب ضبط أعصابه ومقابلته هذا النبأ

(1) سورة النساء ، الآية : 58 .

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 167
  العظيم بصبر وتسليم أجابهم بلسان المؤمن الواثق بعدالة السماء الراضي بالقدر والقضاء :
   أنا لم أُفاجأ بما حصل لأني كنت مؤمناً منذ البداية بأن ولدي كان أمانة عندي لله تعالى وأنا أحمد الله سبحانه وأشكره على أن أبقى أمانته عندي طيلة عشرين سنة ولم يأخذها قبل ذلك . وقد أشار بعض الشعراء إلى هذا المعنى بقوله :
وما الناس والأهلون إلا ودائع      ولا  بـد يوماً أن ترد الودائع
   والنتيجة الإيجابية المترتبة على الاعتراف بهذه الحقيقة الإيمانية والعمل بمقتضى هذا الاعتراف .
   هي أولاً : حصول الرضا بقضاء الله وقدره والتسليم لإرادته والصبر على حكمه ومشيئته القاضية بفراق المحبوب كالولد أو أي عزيز من الأقرباء أو الأصدقاء ومثله فراق الصحة أو المال ونحو ذلك من متاع الدنيا أو وقوع المكروه من مصائب الزمن ونوائب الدهر ـ ولا شك أن الرضا بقدر الله والتسليم لأمره يخفف من وقع المصيبة ويسهل على المؤمن تحملها .
   وثانياً : ترتب الأجر العظيم والثواب الجسيم على الصبر والرضا بقضاء الله الرحيم الحكيم مضافاً إلى سقوط الحساب عنه ليدخل الجنة بغير حساب ولا عتاب وتلك فائدة جسيمة ومنفعة عظيمة يستفيدها المؤمن بتسليمه لقضاء ربه العادل وصبره على ما يقدره له من فراق محبوب أو وقوع مكروه ، قال سبحانه : ( إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُون أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَاب ) (1) .

(1) سورة الزمر ، الآية : 10 .

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 168
   وقال سبحانه :
   ( وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيءٍ مّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرينَ * الَّذِينَ إِذَآ أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُهْتَدُونَ ) (1) .
   وقد تحدثتُ حول فوائد الصبر المعجلة في الدنيا والحاصلة في الآخرة بصورة تفصيلية في الجزء الأول من (وحي الإسلام) صفحة 126 ، والذي يهون المصيبة على المؤمن ويجعله في حالة تصبر وجلد هو إيمانه بالعوض الأكبر والجزاء الأوفر يوم القيامة .
   فإذا فقد صحته وصبر على المرض نال بذلك الصحة التامة والسلامة الدائمة في دار الخلود .
   وإذا فقد أحد أولاده عوضه الله عنه بالولدان المخلدين مع جمع شمله بمن فقده من ولد أو أي عزيز آخر إذا قدر للفقيد أن يكون من أهل النعيم بسبب من الأسباب .
   وإذا فارق زوجته عوضه الله عنها بالحور العين وجمع شمله بها ـ أي بزوجته إذا قدر لها أن تكون من أهل الجنة .
   ولو فقد مالاً أو نعمة من نعم ا‏لله في هذه الحياة نال عوضها الثراء الحقيقي الدائم والنعيم الواقعي الخالد عندما يقابل مصيبة ابتلائه بفقد ما يحب أو من يحب ـ بالصبر والتسليم لقضاء الله الرحمن الرحيم وذلك هو السر في الصبر العظيم الذي تجمل به الأنبياء والأوصياء والسائرون على

(1) سورة البقرة ، الآيات : 155 و156 و157 .

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 169
  نهجهم من الأولياء والصلحاء .
   لأن إيمانهم الجازم بأن الله يجازيهم على صبرهم ورضاهم بتقديره لهم فقد ما يحبون أو حصول ما يكرهون ـ بتعويضه عليهم وتقديمه لهم ما هو المحبوب لهم من أنواع النعيم على وجه الدوام والخلود وكذلك يجازيهم على صبرهم ورضاهم بما قدره الله لهم من المكروه وذلك بتسليمهم من المكروه الأكبر والعذاب الأخطر يوم القيامة .
   أجل : إن إيمانهم بذلك يُهون عليهم مصيبة فقد المحبوب وحصول المكروه فيقابلونها بالصبر الجميل والرضا بحكم الله الجليل .
   ويستفاد ذلك من قول الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم عندما قابله المشركون بكل أنواع الأذى والمكروه: « إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي » .
   وقول سبطه الحسين عليه السلام حينما ذبح طفله الرضيع على يده يوم عاشوراء : ( هون ما نزل بي أنه بعينك يارب ) .
   وبذلك يعرف السر في اتصاف المؤمنين الواعين المخلصين بجميع الصفات الكمالية المحبوبة لله تعالى والمقربة منه والمسببة لنيل رضاه ومجازاتهم على الاتصاف بها والعمل بمقتضاها ـ بالنعيم الخالد والسعادة الأبدية وتأتي صفتا الشجاعة والكرم في الطليعة بين الصفات المثالية التي يتجمل بها المؤمنون المخلصون وبذلك كانوا السباقين إلى ميادين التضحية والفداء في ساحة النضال والدفاع عن المبدأ الحق ولو اقتضى ذلك بذل النفس النفيسة وبالطريق الأولى أن يكونوا السباقين في ميدان البذل والجود بالمال في سبيل تحقيق الهدف المذكور والسبب في ذلك هو ما تقدم ذكره من أن المؤمن الواعي يؤمن بالخلف والثمن الثمين الذي يأخذه من الله سبحانه عوضاً عمّا يقدمه في سبيله من النفس العزيزة والأولاد الأحباء والأنصار الأوفياء فضلاً عما يقدمه مما هو أقل قيمة من ذلك وهو الأموال

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 170
  ونحوها مما يترتب على تقديمه في ساحة الجهاد المقدس أثر إيجابي ونصر معنوي أو مادي للمبدأ الحق ونظامه العادل الكامل .
   وقد أشار إلى ذلك سيد البلغاء والموحدين علي أمير المؤمنين بعد سيد المرسلين بقوله : من أيقن بالخلف جاد بالعطية ، والمقصود بالخلف اليقين والثمن الثمين الذي يأخذه المؤمن من الله سبحانه بدلاً عما يقدمه في سبيله ـ هو الجنة الخالدة ونعيمها الدائم مع رضوانه الأكبر .
   ويستفاد ذلك من قوله تعالى :
   ( وَعَدَ اللَّهُ المُؤمِنِينَ وَالمُؤمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجري مِن تَحْتِها الأَنْهَارُ خَالِدينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّن اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ الَعظِيمُ ) (1) .
   كما يستفاد ذلك من آية اُخرى مع التصريح بالعوضية التي وعد الله بها عباده المؤمنين العاملين وهي من نفس السورة التي وردت فيها الآية السابقة وهي قوله تعالى :
   ( إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبيل اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ ويُقْتَلون وَعْداً عَلَيهِ حَقّاً فِي التَّوْراةِ وَالإنجِيلِ وَالقُرْءانِ وَمَنْ أَوفَىُ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ ) (2) .
   وروي عن أهل البيت ( عليهم السلام ) أن المؤمن لا يكون بخيلاً ولا جباناً وحيث أنهم بلغوا القمة في الإيمان الصادق الراسخ فقد بلغوا الذروة في الكرم والسخاء والتضحية والفداء .

(1) سورة التوبة ، الآية : 72 .
(2) سورة التوبة ، الآية : 111 .

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 171
  ويأتي كرم الحسين النادر وتضحيته بنفسه النفيسة وأبنائه الأحباء واخوانه الأعزاء وأنصاره الأوفياء الأصفياء ـ في سبيل نصرة الحق مردداً بلسان الحال :
إن كان دين محمد لم يستقم      إلا بقتلي يا سيوف iiخذيني
   أجل: قد جاءت تضحية سيد الشهداء بذلك كله لتكون المثل الأعلى والنموذج الأكمل للمؤمن المسلم الذي سلم أمره لخالقه وسلمه كل ما طلب منه تسليمه له من أمانة النفس والأولاد والاخوان والأنصار والأعوان ونال بذلك عز الدنيا وسعادة الآخرة ورضواناً من الله أكبر .
   وهذا وذاك هو الذي دفع بالكثيرين من أبناء الجيل المعاصر للاقتداء به والسير على نهجه في كربلاء جديدة وعاشوراء مجيدة وصدق الشاعر عندما قال في حقه :
مـا كـان لـلأحرار إلا iiقُـدوةً      بـطلٌ  توسد في الطفوف iiقتيلا
بـعثته أسـفار الـحقائق iiآيـةً      لا  تـقبل الـتفسير iiوالـتأويلا
لازال يـقرؤها الـزمان iiمعظماً      فـي  شـأنها ويـزيدها iiترتيلاً
يدوي صداها في المسامع زاجراً      مـن علَّ ضيماً واستكان iiخمولا
   النقطة الثالثة : التي تضمنتها الآيات المذكورة في سورة الصافات هي أن الله سبحانه أراد بإجراء الامتحان للنبي إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام ـ بالنحو الذي طلبه منهما في الطيف وشاءت إرادته الحكيمة أن يحصل لهما العلم بأن التكليف الذي وُجه إليهما في المنام تكليف واقعي حقيقي يُراد امتثاله كالصلاة والصوم والحج والزكاة ونحوهما من الواجبات الشرعية الإلهية .
   أجل : أراد الله سبحانه بهذا الامتحان الصعب أن يُظهر مقام هذين

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 172
  النبيين العظيمين وأنهما مستعدان لأن يقدم أحدهما نفسه والآخر ولده قرباناً لله تعالى وطلباً لمرضاته هذا من جهة . ومن جهة اُخرى أراد الله سبحانه أن يقدم منهما قدوةً مُثلى وأسوة فضلى للأجيال المؤمنة عبر التاريخ لتقتدي بهما في مجال الجهاد والتضحية بالغالي والنفيس في سبيل نصرة الحق والدفاع عنه عندما يتعرض للخطر .
   وقد شاء الله تعالى أن يخلد ذكرهما العاطر وذكراها الحافلة بكل أنواع التضحية والفداء ـ وذلك بجعل تقديم الهدي من الشعارات الواجبة في حج التمتع على من استطاع إليه سبيلاً . وفي اليوم العاشر من ذي الحجة وفي نفس المكان الذي أقدم النبي إبراهيم على تقديم ولده فيه قرباناً لله وامتثالاً لأمره باعتقاد أن ذلك كان هو الذي أوجبه الله عليه في المنام وحيث أن الواجب الذي كان مطلوباً منه في الواقع هو نفس الإقدام على ذبح ولده، هذا لأن ذلك كافٍ لنجاحه في الامتحان وظهور أنه مستعدٌ للإقدام على تقديم ولده في سبيل الله فيُعرف مكانه الرفيع عند الله وتُرسم بذلك القدوة المثلى والأسوة الحسنة للآخرين كما أراد رب العالمين ـ وقد تحقّق منه ذلك الإقدامُ وترتب عليه الغرض المنشود ولذلك أخبره الله بالحقيقة بقوله تعالى :
   ( وَنَاديْناهُ أَن يَاإبراهيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجِزِي المُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ البَلاؤا المُبينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيم ) (1) .

(1) سورة الصافات ، الآيات : 104 و105 و106 و107 .

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 173
الحكمة من تشريع وجوب الرمي والذبح والحلق أو التقصير يوم العاشر من ذي الحجة
   وهناك حكمة اُخرى وراء تشريع وجوب الذبح وتقديم الهدي على المتمتع في حجه ـ أي على من وجب عليه حج التمتع في اليوم العاشر من ذي الحجة وفي منى .
   وهي أي حكمة وجوب تقديم الهدي ـ إطعام الفقراء من لحمه فيكون ذلك وسيلة من وسائل تفقدهم بالبر ومد يد الإحسان إليهم بتقديم ذلك لهم ـ وكان يستفاد سابقاً من تقديم هذا الشعار ـ أي الهدي بأكل الفقراء حالاً من لحمه ـ كما كانوا يجففونه ليستفيدوا منه في مستقبل أيامهم والملحوظ أن هذه الحكمة جمدت وتلك الفائدة فقدت بالنسبة إلى الفقراء من زاوية هذا الشعار ـ أي تقديم الهدي حيث لا يستفيد منه الفقراء معجلاً ولا مؤجلاً بل تحرق الذبائح أو تدفن ليذهب لحمها هدراً .
   وهنا ننبه إلى أمرين :
   أحدهما : يتعلق بتشريع وجوب تقديم الهدي على كل متمتع في حجه ـ حتى وإن لم يترتب أي نفع للفقراء من لحمه ـ وعلى هذا فتاوى المشهور من علمائنا الأجلاء ـ وذلك لإطلاق دليل الوجوب وعدم تقييده بترتب تلك الفائدة عليه فعلاً ، مضافاً إلى أن العبادات وما يتعلق بها من أجزاء وشروط

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 174
  يطغى على إيجابها الجانب التعبدي الذي لا يُربط بحكمة صريحة وفائدة محددة ـ من أجل تقوية روح العبودية والانقياد في نفس المكلف فيقدم على امتثال الأمر بالعمل لمجرد صدور الأمر به وإن لم يعرف وجه الحكمة في تشريع وجوبه .
   الأمر الثاني : الجدير بالتنبيه عليه هو ضرورة اهتمام أولي الأمر في المملكة السعودية بحفظ هذه الثروة الطائلة عن طريق تعليبها وتوزيعها على الفقراء في البلد وخارجه وما أكثرهم في هذه الأيام ولا يوجد في ذلك أي إشكال وإنّما الإشكال والاستشكال في إهماله لكونه من مصاديق التبذير المنهي عنه شرعاً .
   ورمي جمرة العقبة صباح يوم عيد الأضحى في منى هو الواجب الأول على الحاج في هذا اليوم وبعده يجب عليه تقديم الهدي وبعده يقوم بالواجب الثالث (1) على الترتيب المذكور ويجب عليه رمي الجمرات الثلاث في يومي الحادي عشر والثالث عشر على التفصيل المذكور في محله من كتب المناسك .
   وقد اختلفت الكلمات المبينة لسبب تشريع الرمي وجعله شعاراً واجباً في الحج فالمستفاد من بعضها أن الرمي في بدايته حصل من إسماعيل عندما تصدى الشيطان له ليمنعه ويصرفه عن امتثال أمر ربه بتقديم نفسه قرباناً لله تعالى وكان تصديه له في ثلاثة مواضع وفي كل واحد منها كان إسماعيل يطرده عنه ويرميه بسبع حصيات .
   والمستفاد من كلام البعض الآخر أن الحادثة حصلت مع النبي ابراهيم من أجل أن يصده الشيطان عن امتثال أمر ربه بذبح ولده قربة

(1) وهو الحلق أو التقصير .

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 175
  وقرباناً لله تعالى وكان ذلك منه في ثلاثة مواضع وكان إبراهيم يرميه في كل موضع منها بسبع حصيات .
   كما يفهم من كلام ثالث أن الحادثة حصلت مع الثلاثة النبي إبراهيم وولده اسماعيل وزوجه أم إسماعيل هاجر من أجل أن يصد الوالد عن تقديم ولده والولد عن تقديم نفسه والأم عن الرضا وموافقة إبراهيم على ذبح ولدهما لتقف حائلاً بين الوالد وما أقدم عليه من ذبح الولد .
   ولا يبعد أن يكون الكلام الثالث أقرب لأن عملية الذبح مرتبطة بالثلاثة بالولد مباشرة وبالوالدين بطريق غير مباشر .
   وقد شاء الله تعالى أن يجعل من كل واحد من هؤلاء الثلاثة قدوة مثلى لكل المؤمنين في التاريخ في كل عمل مطلوب لله سبحانه ويكون القيام به صعباً وشاقاً .
   فالأب هو الشيخ الكبير يكون قدوة لكل الأباء والأم المرأة العطوف تكون قدوة لكل الأمهات في التسليم لأمر الله والرضا بقضائه .
   وكذلك الابن الغلام يكون قدوة حسنة لكل فتى مقارب له في العمر وتقتضي المصلحة أن يقتحم ميدان الجهاد الأكبر والأصغر في سبيل تحقيق ما يريد الله تحقيقه من الأهداف السامية والغايات الرفيعة التي يتوقف على تحقيقها رضا الله تعالى ونفع الأمة وتطبيق أحكام الرسالة .
   ولا يخفىُ أن المتأمل المتدبر في حكمة تشريع وجوب مناسك الحج بصورة عامة وبعضها المنطلق من مناسبة اقتضت الحكمة الإلهية أن يكون هذا المنسك إشارة له من أجل إحياء ذكرى الشخص الذي حصلت المناسبة معه وارتبطت الحادثة به من جهة تاريخية .
   أجل : إن المتأمل في روح تشريع هذه المناسك والغاية المنشودة من