عليه أهل البيت عليهم السلام ، وهم الائمة المعصومون صلوات الله عليهم ، وما صح نقله عنهم ، بالطريق الذي له إلى الشيخ الطوسي ، ومن الشيخ الطوسي إلى الائمة عليهم السلام ، بالطرق الصحيحة التي لا شك فيها ولا ريب ، لان والدي لما ذكرنا له أن الميت لا قول له ، فقال : إني قد أثبت لكم ما اتفقت عليه الائمة عليهم السلام ، فلا يحتاج إلى تقليد أحد بعد معرفة ( واجب الاعتقاد ) (1) ومن عدل عنه إلى غيره ، فقد عدل عن يقين إلى ظن ، وعن قول معصوم إلى قول مجتهد ، فأيها المؤمنون تمسكوا واعتمدوا عليه ) انتهى كلامه .
  احتج المحقق الشيخ علي ، في حواشي كتاب الجهاد من الشرائع (2) ، على المنع بوجوه :
  الاول : أن المجتهد إذا مات سقط اعتبار قوله ، ولهذا ينعقد الاجماع على خلافه .
  وضعف هذا الوجه ظاهر ، لانه ـ بعد عدم صحته على اصولنا ـ ينتقض بمعروف النسب ، مع أنهم اعتبروا شهادة الميت في الجرح والتعديل ، وهو يستلزم الاعتداد بقوله في عدد الكبائر ، فتأمل .
  الثاني : أنه لو جاز العمل بقول الفقيه بعد موته ، لامتنع في زماننا ، للاجماع على وجوب تقليد الاعلم والاورع من المجتهدين ، والوقوف على الاعلم والاورع بالنسبة إلى الاعصار السابقة في هذا العصر غير ممكن .


(1) هو من مصنفات العلامة قدس سره في اصول الدين، انظر : الذريعة : 25 / 4 .
(2) حاشية المحقق الكركي على شرائع الاسلام / ص 635 / 638 من مخطوطة محفوظة برقم 1964 في مكتبة المدرسة الفيضية بقم ـ ايران و/ الصفحة قبل الاخيرة من مخطوطة اخرى محفوظة برقم 1418 في المكتبة المذكورة ، ( بتصرف ) ، وقد ذكر المحقق الكركي ذلك في كتاب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر تعقيبا على قول المحقق الحلّي في الشرائع : ( ولا يجوز أن يتعرض لاقامة الحدود ولا للحكم بين الناس إلا عارف بالاحكام مطلع على مآخذها ... ) شرائع الاسلام : 1 / 344 .

الوافية في اصول الفقه ـ 302 ـ
 وفيه ـ بعد تسليم هذا الاجماع ـ : أنه يمكن الاطلاع على الاورع والاعلم ، بالآثار والاخبار والتصانيف ونحو ذلك ، وهذا في غاية الظهور .
  الثالث : أن المجتهد إذا تغير اجتهاده ، وجب العمل باجتهاده الاخير ، ولا يتميز في الميت فتواه الأولى والاخيرة .
  وفيه : أنه يمكن العلم بتقديم الفتوى وتأخيرها في الميت من كتبه ، وأنه لا يتم إلا في ميت تغيرت فتواه في مسألة واحدة ، واحتمال التغير ينتقض بالحي .
  الرابع : أن دلائل الفقه لما كانت ظنية ، لم تكن حجيتها إلا باعتبار الظن الحاصل معها (1) ، وهذا الظن يمتنع بقاؤه بعد الموت ، فيبقى الحكم خاليا عن السند ، فيخرج عن كونه معتبرا شرعا .
  وأورد هذا الوجه الفاضل المدقق مير محمد باقر الداماد ، في كتابه شارع النجاة (2) ، بتغيير ما ، وزاد : أنه بعد موته يمكن ظهور (3) خطأ ظنه ، فلا يمكن القول بأصالة لزوم اتباع ظنه كما في حال الحياة (4) ، إذ بقاء الموضوع معتبر في الاستصحاب .
  والجواب : ـ بعد تسليم زوال الاعتقادات والعلوم القائمة بالنفس الناطقة بعد الموت ـ منع خلو الحكم عن السند ، وهل هذا إلا عين (5) المتنازع فيه ؟! فإنا نقول : إذا حصل للمجتهد العلم أو الظن بالحكم الشرعي ، من دليل اقترن به علمه أو ظنه ، فلم لا يجوز العمل بذلك الحكم ـ الذي أفتى به


(1) في ط : بها .
(2) شارع النجاة ( فارسي ) : 10 ـ 11 .
(3) كلمة ( ظهور ) : ساقطة من الاصل ، وقد اثبتناها من سائر النسخ .
(4) في ط : حياته .
(5) في أ وط ، غير ، وهو خطأ ، لان مراد المصنف ان الاستدلال المذكور مصادرة إذ انه عين المدعى .

الوافية في اصول الفقه ـ 303 ـ
  في حياته ـ بعد موته ؟! ولم لا يكفي لسندية ذلك الحكم بالنسبة إلى المقلد ، ظنه السابق المقترن به مع عدم العلم بالمزيل في حياته ؟! لابد لنفيه من دليل ! ودعوى لزوم بقاء ظن المجتهد إلى حين عمل المقلد ، أول المسألة ، غايته لزوم عدم العلم بتغير اعتقاده ، وهو حاصل ههنا بحسب الفرض .
  واحتمال ظهور خطأ الظن غير مضر ، كما في الحي .
  ولضعف هذه الوجوه قال صاحب المعالم : ( والحجة المذكورة للمنع في كلام الاصحاب ـ على ما وصل إلينا ـ ردية جدا ، لا تستحق أن تذكر ) .
  ثم قال : ( ويمكن الاحتجاج له ب‍ : أن التقليد إنما ساغ : للاجماع المنقول سابقا .
  وللزوم الحرج الشديد والعسر بتكليف الخلق بالاجتهاد .
  وكلا الوجهين لا يصلح دليلا في محل النزاع : لان صورة حكاية الاجماع صريحة في الاختصاص بتقليد الاحياء ، والحرج والعسر يندفعان بتسويغ التقليد في الجملة .
  على أن القول بالجواز قليل الجدوى على اصولنا ، لان المسألة اجتهادية ، وفرض العامي فيها الرجوع إلى فتوى المجتهد ، وحينئذ فالقائل بالجواز : إن كان ميتا : فالرجوع إلى فتواه فيها ـ دور ظاهر .
  وإن كان حيا : فاتباعه فيها ، والعمل بفتاوى الموتى في غيرها ـ بعيد عن الاعتبار غالبا ، مخالف لما يظهر من اتفاق علمائنا على المنع من الرجوع إلى فتوى الميت مع وجود المجتهد الحي ، بل قد حكى الاجماع فيه صريحا بعض الاصحاب ) انتهى كلامه ، أعلى الله مقامه (1) .


(1) معالم الدين : 247 / 248 .

الوافية في اصول الفقه ـ 304 ـ
  والجواب من وجوه :
  الاول : مع عموم النهي عن التقليد واتباع الظن ، بل هو مختص بالاصول .
  الثاني : أن المسوغ لجواز تقليد الحي ، ليس إلا الوجه الاخير من الوجهين اللذين ذكرهما ، وكيف يمكن دعوى الاجماع مع مخالفة كثير من الاصحاب ؟! ونقد نسب المنع من التقليد مطلقا ، الشهيد في الذكرى (1) إلى قدماء أصحابنا وفقهاء حلب .
  وكلام الكليني في أول الكافي (2) ، ظاهر في منع التقليد مطلقا ، حيث جعل التكليف منوطا بالعلم واليقين ، ونهى عن التقليد والاستحسان .
  وصرح ابن [ زهرة في كتاب غنية النزوع ] (3) بعينية الاجتهاد ، وعدم جواز التقليد ، وجعل فائدة رجوع العامي إلى العلماء الاطلاع على مواضع الاجماع ليعمل به (4). وأيضا : العلم بدخول قول المعصوم أو تقريره في مثل هذه المسائل الاصولية ، التي علم عدم الكلام عنها في عصر المعصوم ـ غير ممكن الحصول ، فإن هذه المسائل غير مذكورة في كتب قدمائنا ، بل غير مذكورة إلا في كتب العلامة ومن تأخر عنه ، فكيف يمكن العلم بالاجماع الذي يكون حجة عندنا ؟!


(1) الذكرى : 2 / المقدمة / الاشارة الثانية، لكن فيه : بعض قدماء الامامية .
(2) الكافي : 1 / 8 المقدمة .
(3) في النسخ : وصرح ابن حمزة في كتاب غنية ( عتبة ـ ط ) الدروع، والصواب ما اثبتناه .
(4) غنية النزوع : 485 / 486 ( تسلسل الجوامع الفقهية ) .

الوافية في اصول الفقه ـ 305 ـ
  مع : أنه روى الكشي ـ في ترجمة يونس بن عبدالرحمن ـ بسنده : ( عن الفضل بن شاذان ، عن أبيه ، عن أحمد بن أبي خلف ، قال : كنت مريضا ، فدخل علي أبوجعفر عليه السلام يعودني في مرضي ، فإذا عند رأسي كتاب ( يوم وليلة ) فجعل يتصفحه ورقة ورقة ، حتى أتى عليه من أوله إلى آخره ، وجعل يقول : رحم الله يونس ، رحم الله يونس ، رحم الله يونس ) (1) .
  والظاهر : أن الكتاب كان كتاب الفتوى ، فحصل تقرير الامام عليه السلام على تقليد يونس بعد موته .
  وأيضا : روى بسنده ( عن داود بن القاسم : أن أبا جعفر الجعفي ، قال : أدخلت كتاب ( يوم وليلة ) الذي ألفه يونس بن عبدالرحمن ، على أبي الحسن العسكري عليه السلام ، فنظر فيه ، وتصفحه كله ، ثم قال : هذا ديني ودين آبائي ، وهو الحق كله ) (2) فلو لم يجز العمل بقول الميت ، لانكر عليه السلام العمل به قبل عرضه عليه .
  وأيضا : ابن بايويه صرح بجواز العمل بما في : من لا يحضره الفقيه ، مع أنه كثيرا ما ينقل فتاوى أبيه ، وهو صريح في تجويزه العمل بفتاوى أبيه بعد موته ، وإنكاره مكابرة .
  نعم ، الوجه الاخير ـ وهو لزوم الحرج ـ يدل على جاوز التقليد .
  وكذا : ما ورد من الأخبار ، من رجوع الناس بأمر الائمة عليهم السلام إلى : محمد بن مسلم ، ويونس بن عبدالرحمن ، والفضل بن شاذان ، وأمثالهم ـ في أحكامهم ، والامر بأخذ معالم الدين عنهم ، على ما ذكره الكشي في ترجمتهم (3) .


(1) رجال الكشي : 484 الترجمة : 913 .
(2) رجال الكشي : 484 الترجمة 915 .
(3) رجال الكشي : 161 الترجمة : 273 ، وص 483 الترجمة : 910 ، وص 542 الترجمة : 1027 .

الوافية في اصول الفقه ـ 306 ـ
  لكن تخصيص الحي وإخراج الميت ، يحتاج إلى دليل .
  ولا يكفي اندفاع العسر بتقليد الاحياء ، للاندفاع بتقليد الميت أيضا .
  الثالث : أن قوله : ( لان المسألة اجتهادية ، وفرض العامي ، الرجوع فيها إلى المجتهد ) ممنوع ، لان المسألة اصولية ، يمكن تحصيل القطع فيها ، فإن الانسان اذا علم أن جواز إستفتاء المقلد عن المجتهد ، إنما هو لانه مخبر عن أحكام الله تعالى ، يحصل له القطع بأن حياة المجتهد وموته ، مما لا يحتمل أن يكون مؤثرا في ذلك .
  وعلى تقدير عدم إمكان تحصيل القطع : فلا شك في الاكتفاء بالظن ، إذ اشتراط القطع في الاصول مبني على إمكانه ، كما صرحوا به ، وتحكم به البديهة ، وليس اعتماد المقلد على ظنه في المطالب الاصولية ـ التي يعتمد فيها على الظن ـ مشروطا بشيء ، كالاعتماد على الظن في الفروع ، حيث إنه مشترط بثبوت الاجتهاد .
  وعلى تقدير تسليم كون المسألة اجتهادية : فلا نسلم أن فرض العامي الرجوع فيها إلى المجتهد ، فإنه مبني على ما أشار إليه بقوله : ( على اصولنا ) من عدم صحة تجزي الاجتهاد ، وقد عرفت بطلانه .
  وحينئذ : فيمكن الاجتهاد في هذه المسألة ، ثم الرجوع إلى فتاوى الاموات في بقية أحكامه .
  الرابع : أن قوله : ( وحينئذ ، فالقائل بالجواز : إن كان ميتا ، فالرجوع إلى فتواه فيها ـ دور ظاهر ، وإن كان حيا ، فاتباعه فيها والعمل بفتاوى الموتى في غيرها ، بعيد عن الاعتبار غالبا . . . ) إلى آخره ـ غير صحيح ، إذ لا بعد في تقليد مجتهد حي في هذه المسألة ، وتقليد الموتى في غيرها ، ولا معنى لادعاء البعد في مثل هذه المقامات البرهانية .
  الخامس : أن قوله : ( مخالف لما يظهر من اتفاق علمائنا ... ) إلى آخره ـ فيه : أنه لو تحقق اجماع شرعي على منع تقليد الميت مع وجود الحي ، لاستغنى

الوافية في اصول الفقه ـ 307 ـ
  عن التطويل الذي ذكره ، فإن قوله : ( والحرج والعسر يندفعان بتسويغ التقليد في الجملة ) كالصريح في أن مراد المستدل المنع من تقليد الميت عند وجود المجتهد الحي ، وإلا فلا يندفع العسر إلا بتقليد الميت كما لا يخفى ، ولكنك عرفت عدم تحقق الاجماع مثل هذه المسائل الاصولية ، وسيما هذه المسألة .
  وأقول : الذي يختلج في الخاطر في هذه المسألة ، أن من علم من حاله أنه لا يفتي في المسائل إلا بمنطوقات الادلة ، ومدلولاتها الصريحة ـ كابني بابويه ، وغيرهما من القدماء ـ يجوز تقليده حيا كان أو ميتا ، ولا تتفاوت حياته وموته في فتاواه .
  وأما من لا يعلم من حاله ذلك ، كمن يعمل باللوازم غير البينة ، والافراد الخفية (1) ، والجزئيات غير البينة الاندراج ـ فيشكل تقليده حيا كان أو ميتا ، فإن من تتبع ، وظهر عليه كثرة اختلاف الفقهاء في هذه الاحكام ، يعلم أن قليل الغلط في هذه الاحكام قليل ، مع أن شرط صحة التقليد : ندرة الغلط .
  والسر فيه : أن مقدمات هذه الاحكام ، لما لم يوجد فيها نص صريح ، كثيرا ما يشتبه فيها الظني بالقطعي ، وربما يشتبه الحال فيتوهم جواز الاعتماد على مطلق الظن (2) ، فيكثر فيها الاختلاف ، ولهذا قلما يوجد في مقدمات هذا القسم ، مقدمة غير قابلة للمنع ، بل مقدمة لم يذهب أحد إلى منعها وبطلانها .
  بخلاف الاختلاف الواقع في القسم الاول ، فإنه يرجع إلى اختلاف الأخبار (3) .

  فإن قلت : فعلى هذا يبطل جواز اعتماد المجتهد ـ أيضا ـ على اعتقاده في هذا القسم الثاني .


(1) كلمة ( الخفية ) : زيادة من ب .
(2) في ط : فيتوهم جواز العمل على الظن .
(3) في الكافي [ 1 / 56 ح 11 ] في باب البدع والرأي والمقاييس : في الصحيح ( عن أبي بصير ، قال : قلت لأبي عبدالله (ع) ترد علينا أشياء ليس نعرفها في كتاب ولا سنة ، فننظر فيها ؟ فقال : لا ، أما إنك إن اصبت لم تؤجر ، وإن اخطأت كذبت على الله عزوجل ) ، ( منه رحمه الله ) .

الوافية في اصول الفقه ـ 308 ـ
  قلت : لا يلزم ذلك ، لانه إذا حصل له الجزم باللزوم أو الفردية ، يحصل له الجرم بالحكم الشرعي ، ومخالفة الحكم المقطوع به غير معقول ، فتأمل .
  إذا عرفت هذا : فالاولى والاحوط للمقلد المتمكن من فهم العبارات : أن لا يعتمد على فتوى القسم الثاني من الفقهاء إلا بعد العرض على الأحاديث ، بل لو عكس أيضا كان أحوط (1) .
  تنبيه (2) :
  حكم جماعة من متأخري أصحابنا ، ببطلان صلاة من لم يكن مجتهدا ولا مقلدا لمن يجوز تقليده ، وكذا غير الصلاة من العبادات (3) ، ولا أرى لاطلاق ذلك وجها ، بل لا يصح ذلك الحكم في صور :
  الاولى : من احتاط في العبادة ، بحيث تحصل الصحة على كل تقدير ، فحينئذ لا وجه للقول ببطلان تلك العبادة ، كمن صام وكف عن جميع ما يحتمل أن يكون مبطلا ، ويتأتى ذلك في الصلاة أيضا ، كالاتيان بجميع ما يحتمل أن يكون تركه مبطلا ، وترك جميع ما يحتمل أن يكون فعله مبطلا ، بحيث يحصل له القطع بصحة صلاته على كل تقدير .
  فإن قلت : هذا لا يتأتى في الصلاة ، لان الافعال المحتملة للوجوب والندب ـ كالسورة ، والتسليم ، ونحوهما ـ إن وقعت على وجه الوجوب ، أبطلت الصلاة على تقدير ندبيتها ، وكذا العكس .


(1) في الكافي ( 1 / 53 ح 3 ) في باب التقليد : في الصحيح ( عن أبي بصير ، عن أبي عبدالله (ع) في قول الله عزوجل : ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ) فقال : والله ، ما صاموا لهم ، ولا صلوا لهم ، ولكن أحلوا لهم حراما ، وحرموا عليهم حلالا ، فاتبعوهم ) ، ( منه ) .
(2) في ط : تذنيب .
(3) المقاصد العلية : 32 ، روض الجنان : 248 .

الوافية في اصول الفقه ـ 309 ـ
  قلت : لا نسلم بطلان ذلك ـ أي : بطلان الصلاة بإيقاع بعض أجزائها الواجبة على وجه الندب ، وبالعكس ـ إذا تحققت نية القربة ، غايته كونه آثما في اعتقاده (1) خلاف الواقع ، وليس النهي متعلقا بنفس الصلاة ، أو بشيء من أجزائها ، بل ولا بصفاتها اللازمة ، كما لا يخفى. وعلى تقدير التسليم : فيمكن عدم نية الوجه في مثل تلك الافعال ، بل الاقتصار على قصد القربة ، وكونه مشغولا بالصلاة ، إذ لا دليل على تعيين نية الوجه في تفاصيل أجزاء الصلاة ، ولهذا لم يذهب إليه أحد من العلماء ـ وإن ذهب البعض إلى البطلان مع نية الوجه المخالف للواقع ـ ولذا لم يذهب أحد إلى بطلان صلاة الذاهل عن الوجه في أجزاء الصلاة .
  مع : أنه لا يتم القول بالبطلان ـ بوجه ـ على تقدير صحة تجزي الاجتهاد ، فإن من اجتهد في أمر النية وظهر عليه أن لا يعتبر نية الوجه في أجزاء الصلاة ، ثم أتى بالصلاة على الوجه المذكور (2) ، فحينئذ لا يتصور القول ببطلان صلاته بوجه .
  الثانية : لو وقعت العبادة موافقة لحكم الشرع في نفس الامر ، واقترنت بنية القربة : مثلا :
  من صلى وترك قراء‌ة السورة في الصلاة ، بمجرد تقليد مثله من العوام ، فلا يمكن للمجتهد المعتقد استحباب السورة ، الحكم ببطلان تلك الصلاة ، إذ ليس النهي عنده متعلقا بصلاة ذلك المصلي ، بل بتقليده لمثله كما مر .
  وعلى هذا ، فلا يمكن الحكم ببطلان صلاة من كانت صلاته موافقة لشيء من أخبار الائمة عليهم السلام المعمول به ، أو لقول من أقوال الفقهاء المعتمدين شرعا ، وإن لم يكن ذلك المصلي إلا مقلدا لمثله ، بمجرد حسن الظن


(1) كذا في ط ، وفي سائر النسخ : اعتقاد .
(2) أي : الاتيان بجميع ما يحتمل ان يكون تركه مبطلا ، ( منه رحمه الله ) .

الوافية في اصول الفقه ـ 310 ـ
  به ، بحيث يتأتى منه نية القربة .
  قال الفاضل الورع المحقق مولانا أحمد الاردبيلي ـ في شرح قول العلامة في الارشاد : ( ويجب معرفة واجب أفعال الصلاة ... ) إلى آخره ـ : ( إعلم : أن الذي تقتضيه الشريعة السهلة ، والاصل ، عدم الوجوب على التفصيل والتحقيق المذكور في الشرح وغيره ، وأظن : أنه يكفي الفعل على ما هو المأمور به (1) ، وفي الأخبار إشارة إليه ، كما مر البعض وستقف على أمثاله أيضا ، خصوصا في مسائل الحج ، إذ الظاهر : أن الغرض إيقاعه على شرائطه المستفادة من الادلة ، وأما كونه على وجه الوجوب فلا ، وغير معلوم أنه داخل في الوجه المأمور به (2) ، بل الظاهر عدمه ، فلا يتم الدليل بأن فعل الواجب على الوجه المأمور به موقوف على المعرفة والعلم ، فبدونه ما أتى بالمأمور به على وجهه ، فيبقى في عهدة التكليف .
  وعلى تقدير تسليم الوجوب : لا نسلم البطلان على تقدير عدمه ، خصوصا عن الجاهل والغافل عن وجوبه ، وعن الذي أخذه بدليل ، مع كون (3) وظيفته ذلك ، وكذا المقلد لمن لا يجوز تقليده ، ولا خفاء في صعوبة العلم الذي اعتبروه سيما بالنسبة إلى النساء والاطفال في أوائل البلوغ ، فإنهم كيف يعرفون المجتهد ، وعدالته ، وعدالة المقلد ، والوسائط ؟ ! مع أنهم ما يعرفون العدالة ، ومعرفتهم إياها وأخذهم عنهم فرع العلم بعدالتهم .
  ومعرفة العدالة ما تحصل غالبا إلا بمعرفة المحرمات والواجبات ، فهم (4) الآن ما حصلوا شيئا ، وليس بمعلوم لهم العمل بالشياع بأن فلانا (5) عدل ، مع عدم معرفتهم حقيقة العدالة ، بل ولا بالعدلين ، ولا بالمعاشرة ، وتحقيقهم ذلك كله


(1) كلمة ( به ) : اضافة من ب ومن المصدر .
(2) كلمة ( به ) : اضافة من ب وط ومن المصدر .
(3) في ط والمصدر : عدم ، بدل : كون .
(4) في أ وب وط : وهم ، وفي المصدر : وهم إلى الآن .
(5) كذا في المصدر ، وفي الاصل وب : الفلان ، وفي أ وط : الفلاني .

الوافية في اصول الفقه ـ 311 ـ
  بالدليل لا يخفى صعوبته ، مع عدم الوجوب عليهم قبل البلوغ على الظاهر ، بل بعده أيضا ، لعدم العلم بالتكليف بها .
  نعم يمكن فرض الحصول ، فحينئذ يصح التكليف ، ولكن قد لا يكون ، المراد أعم .
  والحاصل : أنه لا دليل يصلح ، إلا أن يكون إجماعا ، وهو أيضا غير معلوم لي ، بل ظني :
  أنه يكفي في الاصول الوصول إلى المطلوب كيف كان ، بدليل ضعيف باطل ، وتقليد كذلك ، كما مر إليه الاشارة ، وعدم نقل الايجاب عن ( النبي صلى الله عليه وآله والائمة و ) (1) السلف ، بل كانوا يكتفون بمجرد الاعتقاد وفعل صورة الواجبات (2) ، ومثل تعليم النبي صلى الله عليه وآله الاعراب ، مع أن الصلاة معلوم اشتمالها على ما لا يحصى كثرة من الواجبات وترك المحرمات والمندوبات ، وكذا سكوتهم عليهم السلام عن أصحابهم في ذلك .
  وبالجملة : لي ظن قوي على ذلك من الامور الكثيرة ، وإن لم يكن كل واحد منها دليلا ، فالمجموع مفيد له ، وإن لم يحضرني الآن كله ، وإن أمكن الوجوب على العام المتمكن من العلم على الوجه المشروط .
  على أن دليلهم لو تم ، لدل على وجوب القصد حين الفعل ، وإنه غير واجب إجماعا ، ولكن ظني لا يغني من الحق (3) شيئا ، فعليك طلب الحق والاحتياط ما استطعت ) انتهى كلامه ، أعلى الله مقامه (4) .
  وذكر أيضا في مسألة الشك بين الاثنين والثلاث والاربع : ( أنه يكفي في الاصول مجرد الوصول إلى الحق ، وأنه يكفي ذلك لصحة العبادة المشترطة بالقربة ، من غير اشتراط البرهان والحجة على ثبوت الواجب ، وجميع الصفات الثبوتية والسلبية ، والنبوة ، والامامة ، وجميع أحوال القبر ، ويوم القيامة ، بل


(1) ما بين المعقوفين زيادة من المصدر .
(2) كذا في المصدر ، وفي النسخ : الايجاب .
(3) كذا في ط ، وفي الاصل وأ وب والمصدر : العلم .
(4) مجمع الفائدة والبرهان : 2 / 182 .

الوافية في اصول الفقه ـ 312 ـ
  يكفي في الايمان اليقين بثبوت الواجب والوحدانية والصفات في الجملة ، بإظهار الشهادة به ، وبالرسالة ، وبإمامة الائمة عليهم السلام ، وعدم إنكار ما علم من الدين بالضرورة ويلزمه إعتقاد سائر المذكورات في الجملة .
  هذا ظني ، وقد استفدته أيضا من كلام منسوب إلى أفضل العلماء وصدر الحكماء ، نصير الحق والشريعة ، ومعين الفرقة الناجية بالبراهين العقلية والنقلية ، على حقية (1) مذهب الشيعة الاثنى عشرية ، نفعه الله بعلومه الدينية وحشره الله مع محمد خاتم الرسالة وآله الامناء الائمة عليهم السلام .
  ومما يؤيده : الشريعة السهل السمحة ، [ و] (2) أن البنت ـ التي ما رأت أحدا إلا والديها ، مع فرضهما متعبدين (3) بالدين الحق ، فكيف بالغير (4) ؟! ـ إذا بلغت تسعا يجب عليها جميع ما يجب على غيرها من المكلفين ، على ما هو المشهور عند الاصحاب ، مع أنها ما تعرف شيئا ، فكيف يمكنها تعلم كل الاصول بالدليل والفروع من أهلها ، على التفصيل المذكور ، قبل العبادة مثل الصلاة ؟! على : أن تحقيقها العدالة في غاية الاشكال كما مر ، وقد لا يمكن لها فهم الاصول بالتقليد ، فكيف بالدليل ؟! وعلى ما ترى ، أنه قد صعب على أكثر الناس من الرجال والنساء جدا ، فهم شيء من المسائل على ما هي إلا بعد المداومة .
  وبالجملة : هذا ظني ، ولكنه لا يغني من شيء ، ولعلي لا أعاقب به إن شاء الله تعالى ، وقد استبعدت ما ذكره بعض الاصحاب ، سيما ما في الرسالة الالفية ، مع قوله في الذكرى بصحة صلاة العامة ، وقد أشار الشراح إليه أيضا ،


(1) كذا في أ والمصدر ، وفي الاصل وب وط : حقيقة .
(2) ما بين المعقوفين ساقط من النسخ ، وقد اثبتناه من المصدر المنقول عنه النص .
(3) كذا في أ وب وط والمصدر ، ولكن في الاصل : متقيدين .
(4) كذا في أ وط ، وفي الاصل وب : الغير .

الوافية في اصول الفقه ـ 313 ـ
  واستشكل الشارح هنا في الصحة على تقدير الموافقة ) انتهى كلامه (1) .
  وقال في بحث وجوب العلم بدخول وقت الصلاة : ( وبالجملة : كل من فعل ما هو في نفس الامر ـ وإن لم يعرف كونه كذلك ، ما لم يكن عالما بنهيه وقت الفعل ، حتى لو أخذ المسائل عن غير أهله ، بل لو لم يأخذ من أحد (2) فظنها كذلك وفعل ـ فإنه يصح ما فعله ، وكذا في الاعتقادات ، وإن لم يأخذها عن أدلتها ، فإنه يكفي ما اعتقده دليلا وأوصله إلى المطلوب ، ولو كان تقليدا ، كذا يفهم من كلام منسوب إلى المحقق نصير الملة والدين قدس سره العزيز ، وفي كلام الشارع إشارات إليه ، مثل مدحه جماعة للطهارة بالحجر والماء مع عدم العلم بحسنها ، وصحة حج من مر بالموقف ، ومثل قوله صلى الله عليه وآله لعمار حين غلط في التيمم قال ـ : ( ألا فعلت كذا ) فإنه يدل على أنه لو فعل كذا لصح (3) ، مع أنه ما كان يعرف ، وفي تصحيح من نسي ركعة ففعلها ، واستحسنه عليه السلام مع عدم العلم ، والشريعة السمحة السهلة تقتضيه ، وما وقع في أوائل الاسلام من فعله صلى الله عليه وآله مع الكفار من الاكتفاء بمجرد قولهم بالشهادة ، وكذا فعل الائمة عليهم السلام مع من قال بهم مما يفيد اليقين ، فتأمل .
  وكذا جميع أحكام الصوم ، والقصر والاتمام (4) ، وجميع المسائل ، فلو أعطى زكاته للمؤمن مع عدم العلم ، لصح ، فتأمل واحتط ) انتهى كلامه قدس سره (5) .
  وقال ـ في شرح قوله : ( ويجب غسل موضع البول بالماء خاصة ) ـ : ( واعلم : أن الرواية التي نقلت هنا في سبب نزول الآية الدالة على الازالة بالماء


(1) مجمع الفائدة والبرهان : 3 / 189 ـ 190 .
(2) كلمة ( أحد ) : ساقطة من الاصل ، وقد اثبتناها من سائر النسخ والمصدر .
(3) كذا في المصدر ، وفي النسخ : يصح .
(4) كذا في المصدر وفي النسخ : التمام .
(5) مجمع الفائدة والبرهان : 2 / 54 / 55 .

الوافية في اصول الفقه ـ 314 ـ
  ـ أي : قوله تعالى : ( إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ) (1) ـ دالة على أن إصابة الحق حسن وصواب ، وإن لم يكن عن علم ، فعدم صحة صلاة من لم يأخذ كما وصفوه ، مع صلاته كما وصفوها ، غير ظاهر ، بل يمكن صحتها .
  وأمثالها كثيرة ، سيما في أخبار الحج ، فتفطن ، إلا أن يقال : إنه ـ في وقت الصلاة ـ كان مأمورا بالاخذ ، فتبطل ، ولكن المتأخرين لم يقولوا بمثله ، لعدم النهي عن الضد الخاص عندهم .
  نعم نقول به لو فرض الامر المضيق في ذلك الوقت مع الشعور ، فالجاهل والغافل خارجان عن النهي ، فافهم ) انتهى (2) .
  هذا ، ولكن روى الكليني في باب المسألة في القبر : عن ( محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن الحسين بن سعيد ، عن إبراهيم بن أبي البلاد ، عن بعض أصحابه ، عن أبي الحسن موسى عليه السلام ، قال : يقال للمؤمن في قبره : من ربك ؟ قال : فيقول : الله .
  فيقال له : ما دينك ؟ فيقول : الاسلام .
  فيقال له : من نبيك ؟ فيقول : محمد .
  فيقال : من إمامك ؟ فيقول : فلان .
  فيقال : كيف علمت بذلك ؟ فيقول : أمر هداني الله وثبتني عليه .
  فيقال له : نم نومة لا حلم فيها ، نومة العروس ، ثم يفتح له باب إلى الجنة ، فيدخل عليه من روحها وريحانها ، فيقول : يا رب عجل قيام الساعة ، لعلي أرجع إلى أهلي ومالي .
  ويقال للكافر : من ربك ؟ فيقول : الله .
  فيقال : من نبيك : فيقول : محمد .
  فيقال : ما دينك ؟ فيقول : الاسلام .
  فيقال : من أين علمت ذلك ؟ فيقول : سمعت الناس يقولون فقلته .
  فيضربانه بمرزبة ، لو اجتمع عليها الثقلان : الانس ، والجن ، لم يطيقوها .
  قال : فيذوب كما يذوب الرصاص ) الحديث (3) .


(1) البقرة / 222 .
(2) مجمع الفائدة والبرهان : 1 / 93 .
(3) الكافي : 3 / 238 ح 11 من الباب المذكور ، المرزبة : عصية من حديد ، و: المطرقة الكبيرة تكسر بها الحجارة ، ج : مرازب ( لاروس ) ، وفي نسخة ب : بمضربة .

الوافية في اصول الفقه ـ 315 ـ
  وهذه الرواية دالة على أن هذه الاصول لا يكفي فيها تقليد الناس .
  والحق : أن الأولى والاحوط للمكلف ، أن يكون جميع ما يعتقده من الاصول والفروع مما يكون معروضا على كلام أئمة الهدى ، وخزنة علم الله ، وأبواب مدينة العلم صلى الله عليه وآله وسلم ، ومستندا إليهم .
  روى الكليني رحمه الله في الكافي (1) في الصحيح : ( عن أبي بصير ، قال : قلت لأبي عبدالله عليه السلام : ترد علينا أشياء وليس نعرفها في كتاب ولا سنة فننظر فيها ؟ فقال : لا ، أما إنك إن أصبت لم تؤجر ، وإن أخطأت كذبت على الله عزوجل ) (2).   فإن الظاهر من كلامهم عليهم السلام : أن المخطئ حينئذ لا يكون معذورا ، والمصيب لا مع ذلك غير مؤجر ، بل الأولى : أن تكون مقدمات المعارف النظرية مأخوذة من كلامهم .
  وما سكتوا عنه ، أو لم يبلغنا فيه منهم شيء ، فالاحوط السكوت فيه .
  ومن تتبع الأخبار الواردة في ذلك ـ كالروايات الواردة في النهي عن الكلام ، مرة على الاطلاق ، ومرة على غير المأخوذ منهم عليهم السلام ـ حصل له الجزم بذلك .
  ويفهم من كثير من الروايات والخطب أن أصل التصديق بالله تعالى مما فطر عليه جميع العقول ، وأن قلب ذي الجحود مقر بما أنكر (3) بلسانه ، بل إن البهائم أيضا لم تبهم عن أربع ، أحدها معرفة الرب ـ وفي بعض الروايات : معرفة ألله ، بدل : معرفة الرب ـ قال الله تعالى : ( أفي الله شك فاطر السموات والارض ) الآية (4) .
  وهذا مذهب النظام ، وكثير من المتكلمين (5) ، كما نقله في المواقف (6) ،


(1) الكافي : 1 / 56 ح 11 .
(2) قوله : ( روى الكليني ) إلى هذا الموضع : ساقط من الاصل وب وط ، وقد اثبتناه من نسخة أ .
(3) في أ وط : انكره .
(4) ابراهيم / 10 .
(5) شرح المواقف : 1 / 77 ، حاشية الچلبي على شرح المواقف : 51 .
(6) المواقف : 28 ، إلا أنه لم ينص على رأي النظام .

الوافية في اصول الفقه ـ 316 ـ
  وغيره ، بل جميع المعارف عندهم كذلك .
  واعلم : أنه قد مر أن الاحوط للمقلد ، عرض فتاوى الفقهاء على الروايات وإنما قلنا : إنه أحوط ، لا أنه متعين ، لان الظاهر من الروايات جواز اعتماد العامي على من كان ثقة عارفا بروايات الائمة ، كالامر بأخذ معالم الدين عن محمد بن مسلم الثقفي ، والفضيل بن يسار ، ويونس بن عبدالرحمن ، وغيرهم ، على ما ذكره الكشي (1) ، وغيره ، في ترجمتهم ، وكالروايات الواردة في فضل العلماء بأنهم يسددون قلوب شيعتنا .
  وروى ابن جمهور ، في غوالي اللآلي ، بطرقه المذكورة فيه : ( عن الامام الحسن العسكري عليه السلام ، قال : حدثني أبي ، عن آبائه ، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، قال : أشد من يتم اليتيم الذي انقطع من أبيه ، يتم يتيم انقطع عن إمامه ، ولا يقدر على الوصول إليه ، ولا يدري كيف حكمه فيما يبتلى من شرائع دينه ، ألا فمن كان من شيعتنا عالما بعلومنا ، وهدى الجاهل بشريعتنا ، كان معنا في الرفيق الاعلى ) (2). وبإسناده : ( عن علي بن محمد عليه السلام ، قال : لو لا من يبقى بعد غيبة الامام ـ من العلماء الداعين اليه ، والدالين عليه ، والذابين عنه وعن دينه بحجج الله ، المنقذين للضعفاء من عباد الله ، من شباك إبليس ومردته ، لما بقي أحد إلا ارتد ) الحديث (3) .
  وغير ذلك من الروايات .
  والحاصل : أن المفهوم جواز اعتماد ضعفاء الناس والعوام على العلماء ، من غير تقييده (4) بلزوم عرض فتاواهم على كلام الائمة عليهم السلام ، فيكون


(1) رجال الكشي : 161 ترجمة رقم 273 و ص 212 رقم 377 / 381 و ص 483 رقم 910 .
(2) غوالي اللآلي : 1 / 16 ح 1 .
(3) غوالي اللآلي : 1 / 19 ح 8 .
(4) في أ وب وط : تقييد .

الوافية في اصول الفقه ـ 317 ـ
  منفيا ، ولو وقع غلط كان على ذمة العلماء فقط ، ويقتضيه نفي العسر والحرج ، وكون الدين والشريعة سمحة سهلة ، كما لا يخفى ، فتأمل ، والله أعلم بحقائق الامور .

الوافية في اصول الفقه ـ 319 ـ
  الباب السادس : في التعادل والتراجيح :
(1)


(1) في ط : الترجيح .

الوافية في اصول الفقه ـ 321 ـ
  اعلم : أن التعارض الواقع في الادلة الشرعية ، يكون بحسب الاحتمالات العقلية منحصرا في أقسام :
  الاول : بين الآيتين من الكتاب .
  فإن كان في إحداهما إطلاق أو عموم ، بحيث يمكن تقييدها أو تخصيصها أو نحو ذلك : فالمشهور : لزوم ذلك .
  وإلا فالمتأخر ناسخ ، إن علم التأريخ .
  وإلا فالتوقف ، أو التخيير إن أمكن .
  والاحوط : الرجوع إلى الأخبار الواردة عن الائمة عليهم السلام ـ إن وجدت في ذلك ـ وإلا فالتوقف ، أو الاحتياط إن أمكن (1). الثاني : بين الكتاب والسنة المتواترة ، فإن كانت من النبي صلى الله عليه وآله وسلم :
  فحكمه ما مر ، مع احتمال تقديم السنة ، وكذا إن كانت من الائمة عليهم السلام ، مع احتمال تقديم الكتاب


(1) في ط : والاحتياط ، وقوله : إن امكن : ساقط من أ وط .

الوافية في اصول الفقه ـ 322 ـ
  حينئذ ، لحديث عرض حديثهم على كتاب الله ، وطرح ما خالف كتاب الله ، وحمله على التقية .
  الثالث : بين الكتاب والظني من أخبار الآحاد .
  والمشهور : تقديم الكتاب مع عدم إمكان الجمع بوجه ، بل معه أيضا على قول الشيخ وجماعة ، وحديث العرض مقتض له (1) .
  والاخبار الواردة في حصر العلم بالقرآن على الائمة عليهم السلام ـ وأنه بحسب عقولهم لا بحسب عقول الرعية ـ يقتضي تقديم الخبر ، كما لا يخفى والله أعلم .
  الرابع : بين الكتاب والاجماع المقطوع ، أو المظنون .
  والظاهر : أن حكمه كالثاني والثالث في الاول ، والثاني من قسميه .
  الخامس : بين الكتاب والاستصحاب ، بناء‌ا على حجيته .
  ويبعد تقديم الثاني مطلقا .
  السادس : بين السنة المتواترة وخبر الواحد .
  ولا شك في تقديم الخبر المتواتر ، وكذا المحفوف بما يفيد القطع ، على خبر الواحد ، إذا كان كل منهما عن الائمة عليهم السلام ، أو النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
  وكذا إذا كان أحدهما عن النبي صلى الله عليه وآله فقط على الظاهر ، وهذا مع عدم إمكان الجمع .
  السابع : بين السنة المقطوع بها بقسميها (2) مع مثلها .


(1) روى الكليني في باب الاخذ بالسنة ، في الصحيح : ( عن هشام بن الحكم وغيره ، عن أبي عبدالله (ع) قال : خطب النبي صلى الله عليه وآله بمنى ، فقال : أيها الناس ما جاء‌كم عني يوافق كتاب الله فأنا قلته ، وما جاء‌كم يخالف كتاب الله فلم أقله ) ، [ و] روى بمضمونه اخبارا كثيرة ( منه رحمه الله ) ، الكافي : 1 / 69 ح 5 .
(2) كذا الظاهر ، وفي الاصل : بقسميه ، وهي ساقطة من أ وب وط ، وعلى نسخة الاصل يكون

الوافية في اصول الفقه ـ 323 ـ
  ويظهر حكمه مما سيجيء إن شاء الله تعالى .
  الثامن : بين السنة المقطوع بها والاجماع بقسميه ، وحكمه : كالسادس والسابع .
  التاسع : بينها وبين الاستصحاب ، وحكمه : كالخامس .
  العاشر : بين الخبرين من أخبار الآحاد .
  وهذا هو الذي ذكره الاكثر في كتبهم ، واقتصروا عليه ، وذكروا فيه أقساما من وجوه الترجيح :
  بعضها : بحسب السند (1) ، ككثرة رواة أحدهما ، أو ورع راوي أحدهما ، أو أضبطيته ، أو نحو ذلك من الاوصاف ، أو علو الاسناد في أحدهما .
  وبعضها : بحسب الرواية ، كترجيح المروي بلفظ المعصوم ، على المروي بالمعنى .
  وبعضها : بحسب المتن ، كالفصاحة والافصحية على قول ، أو تأكد الدلالة ، أو كون المدلول في أحدهما حقيقيا دون الآخر ، أو كون دلالة أحدهما غير موقوفة على توسط أمر بخلاف الآخر ، أو العام الذي لم يخصص والمطلق الذي لم يقيد على المخصص والمقيد .
  وبعضها : بالامور الخارجية ، كاعتضاد أحدهما بدليل آخر ، أو بعمل السلف ، أو بموافقة الاصل على قول ، أو بمخالفته (2) على قول آخر ، أو بمخالفته لأهل الخلاف ، بخلاف الآخر .
  وهذه الوجوه مفصلة في كتب الاصول ، وأنا لم أبسط القول فيها ، لان ـ المراد بالقسمين : الخبر المتواتر ، والخبر المحفوف بما يفيد القطع ، أو المنقول عن النبي صلى الله عليه وآله ، والمنقول عن الائمة (ع) ، والاول أولى .


(1) في ط : الراوي .
(2) كذا في ط ، وفي سائر النسخ : وبمخالفته .

الوافية في اصول الفقه ـ 324 ـ
  المدرك في بعضها غير ظاهر .
  والاولى : الرجوع في الترجيح إلى ما ورد به ، وهو روايات :
  الاولى : ما رواه الشيخ الجليل الطبرسي في كتاب الاحتجاج ، في احتجاج أبي عبدالله الصادق عليه السلام : ( عن الحارث بن المغيرة ، عن أبي عبدالله عليه السلام ، قال : إذا سمعت من أصحابك الحديث ، وكلهم ثقة ، فموسع عليك حتى ترى القائم عليه السلام ، فترد (1) إليه ) (2) .
الثانية : ما رواه عن الحسن بن الجهم ، عن الرضا عليه السلام ، وفي آخره : ( قلت : يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقة ، بحديثين مختلفين ، فلا نعلم (3) أيهما الحق ، قال : إذا لم تعلم ، فموسع عليك بأيهما أخذت ) (4) .
  الثالثة : ما رواه أيضا ، في جواب مكاتبة محمد بن عبدالله الحميري ، إلى صاحب الزمان عليه السلام : ( يسألني بعض الفقهاء عن المصلي ، إذا قام من التشهد الاول إلى الركعة الثالثة ، هل يجب عليه أن يكبر ؟ فإن بعض أصحابنا قال : لا يجب عليه تكبيرة ، ويجزيه أن يقول : بحول الله وقوته أقوم وأقعد .
  في الجواب عن ذلك حديثان ، أما أحدهما : فإنه إذا انتقل من حالة إلى اخرى ، فعليه التكبير ، وأما الحديث الآخر : فإنه روي إذا رفع رأسه من السجدة الثانية وكبر ، ثم جلس ، ثم قام ، فليس عليه في القيام بعد القعود تكبير ، وكذلك التشهد الاول يجري هذا المجرى .
وبأيهما أخذت من باب التسليم كان صوابا ) (5) .


(1) كذا في النسخ ، وفي المصدر : ـ على ما في النسخة المطبوعة منه ـ فترده ، ويؤيد المتن نسخة الوسائل : 18 / 87 / 88 .
(2) الاحتجاج : 357 .
(3) كذا في المصدر ، وفي النسخ : فلم نعلم ، وفي نسخة الوسائل : ولا نعلم : الوسائل : 18 / 87 .
(4) الاحتجاج : 357 .
(5) الاحتجاج : 483 ، باختلاف يسير .

الوافية في اصول الفقه ـ 325 ـ
  الرابعة : ما رواه علي بن مهزيار ، في الصحيح ، قال : قرأت في كتاب لعبد الله بن محمد ، إلى أبي الحسن عليه السلام : ( اختلف أصحابنا في رواياتهم عن أبي عبدالله عليه السلام في ركعتي الفجر في السفر ، فروى بعضهم : أن صلهما في المحمل ، وروى بعضهم : أن لا تصلهما إلا على الارض ، فأعلمني كيف تصنع أنت ؟ لاقتدي بل في ذلك .
  فوقع عليه السلام : موسع عليك بأية عملت ) (1) .
  وفي دلالة هذه الرواية على ما نحن فيه نظر ظاهر .
  وروى الكليني في الكافي ، قال : وفي رواية : ( بأيهما أخذت من باب التسليم وسعك ) (2) ، ورواها في خطبة الكافي عن العالم عليه السلام (3) .
  وهذه الأخبار دالة على أن المكلف مخير في العمل بأي الخبرين شاء ، واختار الكليني في خطبة الكافي ، كما مر نقل عبارته (4) .
  الخامسة : ما نقل عن احتجاج الطبرسي أنه روى : ( عن سماعة بن مهران ، قال :
  سألت أبا عبدالله عليه السلام ، قلت : يرد علينا حديثان ، واحد يأمرنا بالاخذ به ، والآخر ينهانا عنه ؟ قال : لا تعمل بواحد منهما حتى تلقى (5) صاحبك فتسأله عنه ، قال : قلت : لابد أن نعمل بأحدهما ؟ قال : خذ بما فيه خلاف العامة ) (6).
  السادسة : ما رواه الشيخ قطب الدين الراوندي ، في رسالة ألفها في بيان أحوال أحاديث أصحابنا (7) ، بسنده : ( عن ابن بابويه ، عن محمد بن الحسن .


(1) التهذيب : 3 / 228 ح 583 .
(2) الكافي : 1 / 6(6) باب اختلاف الحديث ح 7 .
(3) الكافي : 1 / 9 .
(4) كذا الظاهر ، وفي النسخ : ونقل عبارته .
(5) كذا في المصدر والوسائل ( 18 / 88 ) ، ولكن في النسخ : حتى يأتي .
(6) الاحتجاج : ص 357 / 358 .
(7) هذه الرسالة من المفقودات في عصرنا هذا ، وقد نقل هذه الأحاديث الثلاثة ( 6 ، 7 ، 8 )