الاول والثاني : الاحكام الاقتضائية المطلوب فيها الفعل ، وهي الواجب والمندوب .
  والثالث والرابع : الاقتضائية المطلوب فيها الكف والترك ، وهي الحرام والمكروه .
  والخامس : الاحكام التخييرية الدالة على الاباحة .
  والسادس : الاحكام الوضعية ، كالحكم على الشيء بأنه سبب لامر ، أو شرطه له أو مانع عنه .
  والمضايقة بمنع أن الخطاب الوضعي داخل في الحكم الشرعي ـ مما لا يضر فيما نحن بصدده .
  إذا عرفت هذا ! فإذا ورد أمر بطلب شيء ، فلا يخلو إما أن يكون مؤقتا ، أو لا .
  وعلى الاول : يكون وجوب وجوب ذلك الشيء أو ندبه في كل جزء من أجزاء ذلك الوقت ، ثابتا بذلك الامر ، فالتمسك حينئذ في ثبوت ذلك الحكم في الزمان الثاني ـ بالنص ، لا بالثبوت في الزمان الاول ، حتى يكون استصحابا ، وهو ظاهر .
  وعلى الثاني : أيضا كذلك ، إن قلنا بإفادة الامر التكرار ، وإلا فذمة المكلف مشغولة حتى يأتي به في أي زمان كان ، ونسبة أجزاء الزمان إليه نسبة واحدة في كونه أداء‌ا في كل جزء منها ، سواء قلنا بأن الامر للفور ، أو لا .
  والتوهم بأن الامر إذا كان للفور ، يكون نمن قبيل المؤقت المضيق ، اشتباه غير مخفي على المتأمل .
  فهذا أيضا ليس من الاستصحاب في شئ .
  ولا يمكن أن يقال : بأن إثبات الحكم في القسم الاول فيما بعد وقته ـ من الاستصحاب ، فإن هذا لم يقل به أحد ، ولا يجوز إجماعا .
  وكذا الكلام في النهي ، بل هو أولى بعدم توهم الاستصحاب فيه ، لان مطلقه لا يفيد التكرار .

الوافية في اصول الفقه ـ 202 ـ
  والتخييري أيضا كذلك .
  فالاحكام (1) الخمسة : ـ المجردة عن الاحكام الوضعية ـ لا يتصور فيها الاستدلال بالاستصحاب .
  وأما الاحكام الوضعية : فإذا جعل الشارع شيئا سببا لحكم من الاحكام الخمسة ـ كالدلوك لوجوب الظهر ، والكسوف لوجوب صلاته ، والزلزلة لصلاتها ، والايجاب والقبول لاباحة التصرفات والاستمتاعات في الملك والنكاح ، وفيه لتحريم أم الزوجة (2) ، والحيض والنفاس لتحريم الصوم والصلاة ، إلى غير ذلك ـ فينبغي أن ينظر إلى كيفية سببية السبب ، هل هي على الاطلاق ؟ كا في الايجاب والقبول ، فإن سببيته على نحو خاص ، وهو الدوام إلى أن يتحقق مزيل ، وكذا الزلزلة ، أو في وقت معين ، كالدلوك ونحوه مما لم يكن السبب وقتا ، وكالكسوف والحيض ونحوهما مما يكون السبب وقتا للحكم ، فإن السببية في هذه الاشياء على نحو آخر ، فإنها أسباب للحكم في أوقات معينة ، وجميع ذلك ليس من الاستصحاب في شيء ، فإن ثبوت الحكم في شيء من أجزاء الزمان الثابت فيه الحكم ليس تابعا للثبوت في جزء آخر ، بل نسبة السبب في اقتضاء الحكم في كل جزء نسبة واحدة .
  وكذا الكلام في الشرط والمانع .
  فظهر مما مر : أن الاستصحاب المختلف فيه لا يكون إلا في الاحكام الوضعية ـ أعني : الاسباب ، والشرائط ، والموانع ، للاحكام الخمسة ـ من حيث أنها كذلك (3) ، ووقوعه في الاحكام الخمسة إنما هو بتبعيتها ، كما يقال في الماء الكر المتغير بالنجاسة ، إذا زال تغيره من قبل نفسه : بأنه يجب الاجتناب


(1) في أ وط : والاحكام ، وفي ب : فان الاحكام .
(2) في ط : وكذا الايجاب والقبول لتحريم ام الزوجة .
(3) قيد الحيثية لجواز أن يكون حكم من الاحكام الخمسة سببا أو شرطا أو مانع لآخر منها : ( منه رحمه الله ) .

الوافية في اصول الفقه ـ 203 ـ
  عنه (1) في الصلاة ، لوجوبه قبل زوال تغيره ، فإن مرجعه إلى : أن النجاسة كانت ثابتة قبل زوال تغيره ، فتكون كذلك بعده ، ويقال في المتيمم إذا وجد الماء في أثناء الصلاة : إن صلاته كانت صحيحة قبل الوجدان ، فكذا بعده ، أي : كان مكلفا ومأمورا بالصلاة بتيممه قبله ، فكذا بعده ، فإن مرجعه إلى : أنه كان متطهرا قبل وجدان الماء ، فكذا بعده ، والطهارة من الشروط .
  فالحق ـ مع قطع النظر عن الروايات ـ : عدم حجية الاستصحاب ، لان العلم بوجود السبب أو الشرط أو المانع في وقت ، لا يقتضي العلم بل ولا الظن بوجوده في غير ذلك الوقت ، كما لا يخفى ، فكيف يكون الحكم المعلق عليه ثابتا في غير ذلك الوقت ؟ ! فالذي يقتضيه النظر ، بدون ملاحظة الروايات : أنه إذا علم تحقق العلامة الوضعية ، تعلق الحكم بالمكلف ، وإذا زال ذلك العلم ، بطر وشك ـ بل وظن أيضا (2) ـ يتوقف عن الحكم بثبوت الحكم الثابت أولا .
  إلا أن الظاهر من الأخبار : أنه إذا علم وجود شيء ، فإنه يحكم به ، حتى يعلم زواله .
  روى زرارة ، في الصحيح ، عن الباقر عليه السلام : ( قال : قلت له : الرجل ينام وهو على وضوء ، أتوجب الخفقة ، والخفقتان عليه الوضوء ؟ فقال : يا زرارة ، قد تنام العين ولا ينام القلب والاذن ، فإذا نامت العين والاذن والقلب فقد وجب الوضوء .
  قلت : فإن حرك إلى جنبه شيء ولم يعلم به ؟ قال : لا ، حتى يستيقن أنه قد نام ، حتى يجيء من ذلك أمر بين ، وإلا فإنه على يقين من وضوئه ، ولا ينقض اليقين أبدا بالشك ، ولكن ينقضه بيقين آخر ) (3) .


(1) كذا في أ ، وفي سائر النسخ : منه .
(2) في ط : بطر وظن بل شك أيضا .
(3) التهذيب : 1 / 8 ح 11 .

الوافية في اصول الفقه ـ 204 ـ
  فإن اليقين والشك عام ، أو مطلق ينصرف إلى العموم ، في مثل هذه المواضع ، بل صرح الشارح الرضي رحمه الله : بأن الجنس المعرف باللام (1) أو الاضافة للعموم ، وادرجه ابن الحاجب في مختصره (2) في ألفاظ العموم من غير نقل خلاف فيه ، ثم ذكر ألفاظا أختلف في عمومها .
  ومع التنزل عن ذلك ، فالظاهر هنا العموم ، فإنه عليه السلام استدل على أن الوضوء اليقيني لا ينقض بشك النوم ، بقوله : ( ولا تنقض اليقين أبدا بالشك ) ، ولو كان مراده أن لا ينقض يقين الوضوء أبدا بشك النوم ، كان عينا للمقدمة الأولى ، فقانون الاستدلال يقتضي أن يكون عاما ، وأيضا : فإن حمل المعروف باللام هنا على العهد ، يحتاج إلى قرينة مانعة عن الحمل على الجنس ، وليست متحققة .
  قال الرضي ، في أوائل بحث المعرفة والنكرة : ( فكل اسم دخله اللام لا يكون فيه علامة كونه بعضا من كل فينظر ذلك الاسم ، فإن لم تكن معه قرينة حالية ولا مقالية دالة على أنه بعض مجهول من كل ـ كقرينة الشراء الدالة على أن المشترى بعض في قولك ( اشتر اللحم ) ، ولا دلالة على أنه بعض معين كما في قوله تعالى : ( أو أجد على النار هدى ) (3) ـ فهي اللام التي جيء بها للتعريف اللفظي ، والاسم المحلى بها لاستغراق الجنس ) ثم شرع في الاستدلال على وجوب حمله على الاستغراق ، ثم قال : ( فعلى هذا ، قوله عليه السلام ( الماء طاهر ) أي (4) : كل الماء ، و ( النوم حدث ) أي : كل النوم ، إذ ليس في الكلام قرينة البعضية ، لا مطلقة ولا معينة ـ ثم ذكر ـ قوله تعالى : ( إن


(1) شرح الكفاية : 2 / 129 .
(2) شرح العضد : 1 / 215 ( لاحظ المتن ) .
(3) سور طه / 10 .
(4) كلمة ( أي ) : ساقطة من الاصل ، واثبتناها من سائر النسخ .

الوافية في اصول الفقه ـ 205 ـ
  الانسان لفي خسر إلا الذين آمنوا ) (1) أي : كل واحد منهم ) (2) .
  وقال العلامة التفتازاني في المطول ، في بحث تعريف المسند إليه باللام : ( اللفظ إذا دل على الحقيقة باعتبار وجودها في الخارج ، فإما أن يكون لجميع الافراد ، أو لبعضها ، إذ لا واسطة بينهما في الخارج ، فإذا لم يكن للبعضية ، لعدم دليلها ، وجب أن يكون للجميع ، وإلى هذا ينظر صاحب الكشاف ، حيث يطلق لام الجنس على ما يفيد الاستغراق ، كما ذكر في قوله تعالى : ( ( إن الانسان لفي خسر ) أنه للجنس ، وقال في قوله : ( إن الله يحب المحسنين ) (3) : إن اللام للجنس ، فيتناول كل محسن ) (4) .
  ولا يخفى : أن قوله ( لعدم دليلها ) صريح في أن حمل لام الجنس على البعض يحتاج إلى الدليل ، دون حمله على الجميع .
  ثم لا يخفى : أن ( اليقين ) و ( الشك ) مما لا يمكن اجتماعهما في وقت واحد ، فالمراد أنه إذا تيقن وجود أمر ، يجب الحكم بوجوده ، إلى أن يتحقق يقين آخر يعارضه .
  وصحيحة اخرى لزرارة أيضا ، وفي آخرها : ( قلت : فإن ظننت أنه قد أصابه ، ولم أتيقن ذلك ، فنظرت فلم أر شيئا ثم صليت فرأيت فيه ؟ قال : تغسله ولا تعيد الصلاة .
  قلت : لم ذلك ؟ قال : لانك كنت على يقين من طهارتك ، ثم شككت ، فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك أبدا .
  قلت : فإني قد علمت أنه قد أصابه ، ولم أدر أين هو ، فأغسله ؟ قال : تغسل من ثوبك الناحية التي ترى أنه قد أصابها ، حتى تكون على يقين من طهارتك )


(1) المصر / 2 .
(2) شرح الكافية : 2 / 129 ، كذا في أ وب وط ، وفي الاصل : أي إلا كل واحد منهم .
(3) البقرة / 195 ، والمائدة / 13 .
(4) المطول : 81 .

الوافية في اصول الفقه ـ 206 ـ
  تمام الحديث (1) .
  وههنا أيضا : لا يمكن حمل ( اليقين ) على يقين طهارة الثوب ، و( الشك ) على الشك في نجاسة الثوب ، بلا معارض أصلا ، لما مر .
  وفي الكافي ، في باب السهو في الثلاث والاربع (2) ، في الصحيح : ( عن زرارة ، عن أحدهما عليهما السلام ، قال : قلت له : من لم يدر في أربع هو ، أم في ثنتين ، وقد أحرز الثنتين ، قال : يركع ركعتين ـ إلى أن قال ـ : ولا ينقض اليقين بالشك ، ولا يدخل الشك في اليقين ، ولا يخلط أحدهما بالآخر ، ولكنه ينقض الشك باليقين ، ويتم على اليقين ، فيبني عليه ، ولا يعتد بالشك في حال من الحالات ) (3) .
  ودلالته على العموم غير خفية .
  وفي التهذيب : ( عن بكير ، قال : قال لي أبوعبدالله عليه السلام : إذا استيقنت أنك قد توضأت ، فإياك أن تحدث وضوء‌ا أبدا حتى تستيقن أنك قد أحدثت ) (4) .
  وروى عمار في الموثق : ( عن أبي عبدالله عليه السلام ، قال : كل شيء طاهر ، حتى تعلم أنه قذر ، فإذا علمت فقد قذر ، وما لم تعلم فليس عليك ) (5) .
  وروى عبدالله بن سنان ، في الصحيح : ( قال سأل رجل أبا عبدالله عليه السلام ، وأنا حاضر : إني اعير الذمي ثوبي ، وأنا أعلم أنه يشرب الخمر ، ويأكل لحم الخنزير ، فيرده علي ، فأغسله قبل أن اصلي فيه ؟ فقال أبوعبدالله عليه


(1) التهذيب : 1 / 421 ح 1335 ، الاستبصار : 1 / 183 ح 641 .
(2) في النسخ : ( باب السهو في الفجر والمغرب والجمعة ) وهو سهو .
(3) الكافي : 3 / 351 باب السهو في الثلاث والاربع / ح 3 .
(4) التهذيب : 1 / 102 ح 268 .
(5) التهذيب : 1 / 284 / 285 ح 832 ، لكن فيه : نظيف ، بدل : طاهر .

الوافية في اصول الفقه ـ 207 ـ
  السلام : صل فيه ، ولا تغسله من أجل ذلك ، فإنك أعرته إياه وهو طاهر ، ولم تستيقن أنه نجسه ، فلا بأس أن تصلي فيه ، حتى تستيقن أنه نجسه ) (1) .
  وروى ضريس ، في الصحيح : ( قال : سألت أبا جعفر عليه السلام ، عن السمن والجبن نجده في أرض المشركين بالروم ، أنأكله ؟ فقال : أما ما علمت أنه قد خلطه الحرام ، فلا تأكل ، وأما ما لم تعلم فكله ، حتى تعلم أنه حرام ) (2) .
  وروى عبدالله بن سنان ، في الصحيح : ( قال : قال أبوعبدالله عليه السلام : كل شيء يكون فيه حرام وحلال ، فهو لك حلال أبدا ، حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه ) (3) .
  وروى مسعدة بن صدقة ، في الموثق : ( عن أبي عبدالله عليه السلام ، قال : سمعته يقول : كل شيء هو لك حلال ، حتى تعلم أنه حرام بعينه ، فتدعه من قبل نفسك ، وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته ، وهو سرقة ، أو المملوك عندك ولعله حر قد باع نفسه ، أو خدع فبيع ، أو قهر ، أو إمرأة تحتك وهي أختك أو رضيعتك .
  والاشياء كلها على هذا ، حتى يستبين لك غير ذلك ، أو تقوم به البينة ) (4) .
  وروي بعدة طرق ، عن الصادق عليه السلام : ( كل ماء طاهر حتى يستيقن أنه قذر ) (5) .
  لا يقال : هذه الأخبار الاخيرة إنما تدل على حجية الاستصحاب في


(1) التهذيب : 2 / 361 ح 1495 ، لكن فيه : أبي ، بدل : رجل .
(2) التهذيب : 9 / 79 ح 336 .
(3) الكافي : 5 / 313 كتاب المعيشة / باب النوادر / ح 39 ، التهذيب : 7 / 226 ح 988 ، و 9 / 79 ح 337 .
(4) الكافي : 5 / 313 كتاب المعيشة / باب النوادر / ح 40 ، التهذيب 7 / 226 ح 989 .
(5) المروي في الكافي : 3 /1 ح 2 ، 3 ، والتهذيب : 1 / 215 ح 619 هو : ( الماء كله طاهر حتى يعلم أنه قذر ) .

الوافية في اصول الفقه ـ 208 ـ
  مواضع مخصوصة ، فلا تدل على حجيته على الاطلاق .
  لانا نقول : الحال على ما ذكرت من ورودها (1) في موارد مخصوصة ، إلا أن العقل يحكم من بعض الأخبار الدالة على حجيته مطلقا ، ومن حكم الشارع به (2) في مواضع مخصوصة كثيرة ـ كحكمه باستصحاب الملك ، وجواز الشهادة به ، حتى يعلم الرافع (3) ، والبناء على الاستصحاب في بقاء الليل والنهار ، وعدم جواز قسمة تركة الغائب ولو مضى زمان يظن عدم بقائه ، وعدم تزويج زوجاته ، وجواز عتق العبد الآبق من (4) الكفارة ، إلى غير ذلك مما لا يحصى كثرة ـ بأن الحكم في خصوص هذه المواضع بالبناء على الحالة السابقة ليس لخصوص هذه الموانع ، بل لان اليقين لا يرفعه إلا يقين مثله .
  وينبغي أن يعلم : أن للعمل بالاستصحاب شروطا :
  الاول : أن لا يكون هناك دليل شرعي آخر ، يوجب انتفاء الحكم الثابت أولا في الوقت الثاني ، وإلا فيتعين العمل بذلك الدليل إجماعا .
  الثاني : أن لا يحدث في الوقت الثاني أمر يوجب انتفاء الحكم الاول ، فالعامل بالاستصحاب ينبغي له غاية الملاحظة في هذا الشرط .
  مثلا : في مسألة من دخل في الصلاة بالتيمم ثم وجد الماء في أثناء الصلاة ، ينبغي للقائل بالبناء على تيممه وإتمام الصلاة للاستصحاب ، ملاحظة النص الدال على أن التمكن من استعمال الماء ناقض للتيمم ، هل هو مطلق ؟ أو عام ؟ بحيث يشمل هذه الصورة ؟ أو لا ؟ فإن كان الاول ،


(1) كذا في ط ، وفي سائر النسخ : من أن ورودها .
(2) كلمة ( به ) : ساقطة من الاصل ، وقد اثبتناها من سائر النسخ .
(3) كذا في أ وب وط ، وفي الاصل : الواقع .
(4) كذا في النسخ ، ولعلها تصحيف : عن .

الوافية في اصول الفقه ـ 209 ـ
  فلا يجوز العمل بالاستصحاب ، لانه حينئذ يرجع إلى فقد الشرط الاول حقيقة ، وإلا فيصح التمسك به .
  وفي مسألة من طلق زوجته المرضعة ، ثم تزوجت بعد العدة بزوج آخر ، وحملت منه ، ولم ينقطع بعد لبنها ، فالحكم بأن اللبن للزوج الاول للاستصحاب ، كما فعله المحقق في الشرائع (1) وغيره ـ يتوقف على ملاحظة ما دل على أن لبن المرأة ، الحاصل (2) من الذي حملت منه ، هل يشمل هذه الصورة ؟ أو لا ؟ فعلى الاول لا يصح الاستصحاب ، لانه إما أن يتعين الحكم بالثاني ، أو يصير من قبيل تعادل (3) الامارتين ، فيحتاج إلى الترجيح ، وعلى الثاني يصح .
  الثالث : أن لا يكون هناك استصحاب آخر معارض له ، يوجب نفي الحكم الاول في الثاني .
  مثلا : في مسألة الجلد المطروح ، قد استدل جماعة على نجاسته باستصحاب عدم الذبح ، فإن في وقت حياة ذلك الحيوان يصدق عليه أنه غير مذبوح ، ولم يعلم زوال عدم المذبوحية ، لاحتمال الموت حتف أنفه ، فيكون نجسا لان الطهارة حينئذ لا تكون (4) إلا مع الذبح ، فإن هذا الاستصحاب معارض باستصحاب طهارة الجلد الثابتة في حال حياته ، إذ لم يعلم زوالها ، لاحتمال الذبح ، وباستصحاب عدم الموت حتف أنفه أو نحوه الثابت أولا ، كعدم المذبوحية .
  واستدل بعض آخر على النجاسة : بأن للذبح أسبابا حادثة ، والاصل عدم الحادث ، فيكون نجسا .
  وقد عرفت أيضا : أن أصالة العدم أيضا مشروطة بشروط ، منها أن لا يكون


(1) شرائع الاسلام : 2 / 282 .
(2) كذا في ط ، وفي الاصل وأ وب : الحامل .
(3) في ط : تعارض .
(4) كذا في أ وط ، وفي الاصل وب : لا يمكن .

الوافية في اصول الفقه ـ 210 ـ
  مثبتا لحكم شرعي ، مع أنه معاض أيضا بأصالة عدم أسباب الموت أيضا .
  الرابع : أن يكون الحكم الشرعي المترتب على الامر الوضعي المستصحب ثابتا في الوقت الاول ، إذ ثبوت الحكم في الوقت الثاني ، فرع لثبوت الحكم في الاول ، فإذا لم يثبت في الزمان الاول ، فكيف يمكن إثباته في الزمان الثاني ؟ !
  مثلا : باستصحاب عدم المذبوحية في المسألة المذكورة ، لا يجوز الحكم بالنجاسة ، لان النجاسة لم تكن ثابتة (1) في الوقت الاول ، وهو وقت الحياة (2) .
  والسر فيه : أن عدم المذبوحية لازم لامرين : الحياة ، والموت حتف أنفه ، والموجب للنجاسة ليس هذا اللازم من حيث هو هو ، بل ملزومه الثاني ، أعني : الموت ، فعدم المذبوحية لازم أعم لموجب النجاسة ، فعدم المذبوحية العارض للحياة مغاير لعدم المذبوحية العارض للموت حتف أنفه ، والمعلوم ثبوته في الزمان الاول هو الاول ، لا الثاني ، وظاهر أنه غير باق في الوقت الثاني. ففي الحقيقة : تخرج مثل هذه الصورة من الاستصحاب ، إذ شرطه بقاء الموضوع ، وعدمه هنا معلوم .
  وليس مثل المتمسك (3) بهذا الاستصحاب ، إلا مثل من تمسك على وجود عمرو في الدار في الوقت الثاني ، باستصحاب بقاء الضاحك المتحقق بوجود زيد في الدار في الوقت الاول ، وفساده غني عن البيان .
 الخامس : أن لا يكون هناك استصحاب آخر في أمر ملزوم لعدم ذلك المستصحب .


(1) في أ وط : بثابتة .
(2) كأن نظر من حكم بنجاسة الجلد المطروح على انه غير جائز الاكل لعدم العلم بالتذكية ، وهو حكم بانه ميتة ، وهو يستلزم الحكم بالنجاسة ، وفي صحة هذه المقامات بحث ونظر ، فتأمل : ( منه رحمه الله ) .
(3) كذا في ب وط ، وفي الاصل وأ : التمسك .

الوافية في اصول الفقه ـ 211 ـ
  مثلا : إذا ثبت في الشرع أن الحكم بكون الحيوان ميتة ، يستلزم الحكم بنجاسة المائع القليل الواقع ذلك الحيوان فيه ـ لا يجوز الحكم باستصحاب طهارة الماء ، ولا نجاسة الحيوان في مسألة من رمى صيدا فغاب ، ثم وجده (1) في ماء قليل ، يمكن استناد موته إلى الرمي وإلى الماء .
  وأنكر بعض الاصحاب ثبوت هذا التلازم ، وحكم بكلا الاصلين : نجاسة الصيد ، وطهارة الماء ، ولكن قد عرفت سابقا أن طهارة الاشياء ليست بالاستصحاب في وقت ، بل بالاصل ، بمعنى : القاعدة المستفادة من الشرع ، وكذا النجاسة قبل ثبوت الرافع الشرعي ، لان الحكم وقع في الأخبار في بيان تطهير (2) النجس بالغسل ، في الثوب والبدن والاناء ، وإعادة الصلاة قبله ، وهو صريح في بقاء النجاسة إلى حين الغسل ، فيكون بقاء النجاسة إلى حين الغسل مدلولا للاخبار ، فلا يكون بالاستصحاب .
  وكذا وقع الامر بإهراق الماء القليل النجس ، والنهي ـ الظاهر في الدوام ـ عن التوضي والشرب من الماء النجس (3) ، وهو كالصريح في إستمرار النجاسة ، وورد الامر في حق المربية للصبي بغسل قميصها في اليوم مرة (4) ، وورد (5) النهي عن الصلاة في الثوب المشترى من النصراني قبل غسله (6) ، وتعجبه عليه السلام في صحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع ، حين سأله عن : ( الارض والسطح ، يصيبه البول أو ما أشبهه ، هل تطهره الشمس من غير ماء ؟ قال : كيف تطهر من غير ماء ؟ ! ) (7) إلى غير ذلك ، مما يدل على بقاء


(1) كذا في ط ، وفي الاصل وأ وب : وجد .
(2) كذا في ط ، وفي سائر النسخ : تطهر .
(3) الكافي : 3 / 10 ـ كتاب الطهارة / باب الوضوء من سؤر الدواب والسباع والطير / ح 6 .
(4) التهذيب : 1 / 250 ح 719 ، الفقيه : 1 / 70 ح 161 .
(5) كذا في أ وط ، وفي الاصل وب : وورود .
(6) التهذيب : 1 / 263 ح 766 ، قرب الاسناد : 96 .
(7) التهذيب : 1 / 273 ح 805 .

الوافية في اصول الفقه ـ 212 ـ
  النجاسة .
  وإذا كان بقاء النجاسة إلى حين المطهّر الشرعي منصوصا من الروايات ، فكيف يمكن القول بأنه بالاستصحاب (1) ؟ ! ففي بعض الامثلة المذكورة : وفي شرائط الاستصحاب قد انضم إليه أمر آخر من الادلة ، وهو الاصل ، بمعنى : القاعدة : فالامثلة للتوضيح .
  وقد يمكن اشتراط شروط اخر غير ما ذكرنا ، لكن الجميع في الحقيقة يرجع إلى انتفاء المعارض وعدم العلم والظن بالانتفاء .
  قال المدقق الاسترآبادي في الفوائد المكية (2) ، بعد إيراد الأخبار الدالة على الاستصحاب المذكور (3) : ( لا يقال : هذه القاعدة تقتضي جواز العمل باستصحاب أحكام الله تعالى ، كما ذهب اليه المفيد والعلامة من أصحابنا ، والشافعية قاطبة ، وتقتضي بطلان قول أكثر علمائنا والحنفية ، بعدم جواز العمل به ، لانا نقول : هذه شبهة عجز عن جوابها كثير من فحول الاصوليين والفقهاء ، وقد أجبنا عنها في الفوائد المدنية (4) :
  تارة بما ملخصه : أن صور الاستصحاب المختلف فيها عند النظر الدقيق والتحقيق ، راجعة إلى : أنه : إذا ثبت حكم بخطاب شرعي في موضوع في حال من حالاته ، نجريه (5) في ذلك الموضوع عند زوال الحالة القديمة ، وحدوث نقيضها فيه ، ومن المعلوم أنه إذا تبدل قيد موضوع المسألة بنقيض ذلك القيد ، اختلف موضوع المسألتين ، فالذي سموه استصحابا ، راجع


(1) زاد في أ في هذا الموضع : قد انضم اليه .
(2) هذا الكتاب جزء من التراث المفقود في العصر الحاضر ، وقد ذكره العلامة المجلسي في عداد مصادر كتابه : بحار الانوار : 1 / 20 .
(3) كذا في ط ، وفي سائر النسخ : المذكورة .
(4) لاحظ ذلك في بحث الاستصحاب من الفوائد المدنية : ص 16 ، 17 ، 141 وما بعدها ، وفي بحث البراء‌ة الاصلية منه ص 137 .
(5) كذا في أ ، وفي الاصل وب : بجريه ، وفي ط : تجريه .

الوافية في اصول الفقه ـ 213 ـ
  بالحقيقة إلى إسراء حكم إلى موضوع آخر ، يتحد معه بالذات ويغايره بالقيد والصفات ، ومن المعلوم عند الحكيم ، أن هذا المعنى غير معتبر شرعا ، وأن القاعدة الشريفة المذكورة غير شاملة له .
  وتارة : بأن استصحاب الحكم الشرعي ، وكذ الاصل ، أي : الحالة التي إذا خلي الشيء ونفسه كان عليها ، إنما يعمل بهما ما لم يظهر مخرج عنهما ، وقد ظهر في محال النزاع .
  بيان ذلك : أنه تواترت الأخبار عنهم عليهم السلام ، بأن كل ما يحتاج اليه الامة إلى يوم القيامة ، ورد فيه خطاب وحكم ، حتى أرش الخدش ، وكثير مما ورد مخزون عند أهل الذكر عليهم السلام (1) ، فعلم أنه ورد في محال (2) النزاع أحكام نحن لا نعلمها بعينها ، وتواترت الأخبار عنهم عليهم السلام بحصر المسائل في ثلاث : بين رشده ، وبين غيه ، أي : مقطوع به لا ريب فيه ، وما ليس هذا ولا ذاك ، وبوجوب (3) التوقف في الثالث ) (4) انتهى كلامه بألفاظه .
  ولا يخفى عليك ضعف هذين الجوابين : أما الاول : فلانه ظاهر أن مورد الروايات بعدم نقض الشك لليقين ، إنما هو إذا تغير وصف الموضوع ، بأن يعرض له أمر يجوز العقل رفعه به ، كالخفقة والخفقتين للوضوء ، وظن إصابة النجاسة لطهارة الثوب في لبس الذمي الثوب ، ونحو ذلك ، فإن سلم تبدل وصف الموضوع في هذه المواضع ، تكون الأخبار المذكورة حجة عليه ، وإلا فنحن لا نتمسك بالاستصحاب ، إلا فيما علم وجود أمر في وقت ، وتجدد في وقت آخر أمر يجوز العقل أن يكون رافعا


(1) الكافي : 1 / 238 242 كتاب الحجة / باب فيه ذكر الصحيفة والجفر والجامعة ومصحف فاطمة (ع) .
(2) في أ : محل .
(3) كذا في أ وب وط ، وفي الاصل : فبوجوب .
(4) كما في مقبولة عمر بن حنظلة : الكافي : 1 / 68 ح 10 .

الوافية في اصول الفقه ـ 214 ـ
  للاول ، لا فيما ترتب حكم على أمر موصوف بصفة ، بحيث يكون الحكم مترتبا على المركب من الموصوف والصفة جميعا ، ثم زالت الصفة في الوقت الثاني ، فإنا لا نحكم ببقاء ذلك الحكم في الوقت الثاني ، وهو ظاهر .
  وأما الثاني : فلانا لا نسلم أنه دخل في الشبهة ، بل هو داخل في ال‍ ( بين رشده ) ، لان الأخبار ناطقة بأن الحكم السابق باق إلى أن يعلم زواله ، ولا يزول بسبب الشك وهذا أظهر .
  وقال هذا الفاضل في الفوائد المدنية ، في أغلاط المتأخرين من الفقهاء ـ بزعمه ـ : ( من جملتها : أن كثيرا منهم ، زعموا أن قوله عليه السلام : ( لا ينقض اليقين بالشك أبدا ، وإنما تنقضه بيقين آخر ) جار في نفس أحكامه تعالى (1) ، ومن جملتها : أن بعضهم توهم أن قوله عليه السلام : ( كل شيء طاهر ، حتى تستيقن أنه قذر ) يعم صورة الجهل بحكم الله تعالى ، فإذا لم نعلم أن نطفة الغنم طاهرة أو نجسة ، نحكم بطهارتها ، ومن المعلوم أن مرادهم عليهم السلام ، أن كل صنف فيه طاهر وفيه نجس ، كالدم والبول واللحم والماء واللبن والجبن ، مما لم يميز الشارع بين فرديه بعلامة ، فهو طاهر ، حتى تعلم أنه نجس ، وكذلك كل صنف فيه حلال وحرام ، مما لم يميز الشارع بين فرديه بعلامة ، فهو لك حلال ، حتى تعلم الحرام بعينه فتدعه ) انتهى كلامه (2) .


(1) قال المحدّث البحراني في معرض رده على ما افاده الأمين الاسترآبادي من بطلان القول بالاستصحاب : ( السادس : قوله ومن القسم الثاني من الاختلاف ذهاب شيخنا المفيد قدس سره إلى جواز العمل بالاستصحاب إلى آخره فان فيه : انه وان كرر ذلك في غير موضع من هذا الكتاب ـ يعني به الفوائد المدنية ـ وشنع به على من عمل به من الاصحاب إلا أنه وقع فيما شنع به ، ومن عاب استعاب ، كما وقفت عليه من كلامه في حاشية ( حاشيته ظ ) على شرح المدارك وإن تستر ببعض التمويهات والتشبيهات التي هي أوهن من بيت العنكبوت ، وقد نقلنا كلامه المشار اليه في درة الاستصحاب ، فارجع اليه يظهر لك ما فيه من العجب العجاب والله الهادي إلى جادة الصواب ) ، الدرر النجفية : 92 ، ولاحظ : درة الاستصحاب في ص 73 منه .
(2) الفوائد المدنية : 148 .

الوافية في اصول الفقه ـ 215 ـ
   ولا يخفى عليك ما في كلامه ، فإن قوله عليه السلام : ( كل شيء طاهر حتى تستيقن أنه قذر ) عام شامل ، لما إذا كان الجهل بوصول النجاسة ، أو بأنه في الشرع هل هو طاهر ؟ أو نجس ؟ .
  مع أن الاول يستلزم الثاني للجاهل ، فإن المسلم إذا أعار ثوبه للذمي الذي يشرب الخمر ويأكل لحم الخنزير ، ثم رده عليه ، فهو جاهل بأن مثل هذا الثوب الذي هو مظنة النجاسة ، هل هو مما يجب التنزه عنه في الصلاة ، وغيرها مما يشترط بالطهارة ؟ أو لا ؟ فهو جاهل بالحكم الشرعي ، مع أنه عليه السلام قرر في الجواب قاعدة كلية ، بأن ما لم تعلم نجاسته ، فهو طاهر ، والفرق بين الجهل بحكم الله تعالى إذا كان تابعا للجهل بوصول النجاسة ، وبينه إذا لم يكن كذلك ، كالجهل بنجاسة نطفة الغنم ، مما لا يمكن إقامة دليل عليه .
  وأيضا : قد عرفت مما مر في القسم الثالث ، أن الطهارة في جميع ما لم يظهر مخرج عنها ـ قاعدة مستفادة من الشرع .
  وأيضا : فرقه بين نطفة الغنم ، وبين البول والدم واللحم وغيرها ، تحكم ظاهر ، فإن النطفة أيضا منها طاهرة ، كنطفة غير ذي النفس ، ومنها نجسة .
  ومن العجب حكمه بالطهارة فيما إذا وقع الشك في بول الفرس هل هو طاهر ؟ أو نجس ؟ وحكمه بنجاسة نطفة الغنم عند الشك ! .
  وكذا الكلام في الحلال والحرام .
  فإن قلت : قوله عليه السلام : ( كل شيء طاهر ، حتى تستيقن أنه قذر ) ظاهر في جوانب البناء في جميع الاشياء على الطهارة ، حتى يعلم بالنجاسة ، من غير فحص عن (1) المعارض ، مع أن البناء على أصل الطهارة في نفس الاحكام (2) من المسائل الاجتهادية ، التي يحتاج ترجيحها إلى الفحص عن عدم المعارض .


(1) كلمة ( عن ) : اضافة من ب .
(2) في أ وط : الحكم .

الوافية في اصول الفقه ـ 216 ـ
  وأيضا : على هذا يلزم معذورية من صلى مع البول مثلا ، عالما بأنه بول غير المأكول ، إذا جهل نجاسة البول .
  فيجب أن يكون المراد من الحديث معذورية الجاهل بإصابة النجاسة لثوبه أو بدنه أو نحو ذلك ، لا معذورية الجاهل مطلقا .
  قلت : أولا : بإمكان التزام معذورية الجاهل بالنجاسة مطلقا ، من غير فحص لهذه الروايات .
  وثانيا : بالتزام معذورية الجاهل بالنجاسة مطلقا ، إذا كان غافلا عن الحكم بالكلية ، وعدم معذورية من سمع الحكم مثل نجاسة البول ، وإن لم يصدق به ، بل حينئذ يلزمه التفحص حتى يظهر عليه الحكم الواقعي ، ولو بعدم الاطلاع على النجاسة بعد الفحص ، فإن مقتضاه الحكم بالطهارة .
  وثالثا : بأن ظاهر هذا الحديث ، وإن اقتضى عدم وجوب الفحص مطلقا ، إلا أنه مخصص بما دل على لزوم الفحص عن المعارض ، في حق المجتهد في نفس الحكم ، حتى يجوز له الحكم بالطهارة .
  ورابعا : بالتزام لزوم الفحص ، سواء جهل بأصل النجاسة ، أو بإصابتها ، إذا كان موجبا للجهل بحكم الله ، لانه من قبيل الاجتهاد ، فمن علم أن ظن النجاسة لا اعتبار به شرعا ، لا يلزمه الفحص عن ثوبه ، هل أصابته النجاسة ؟ أو لا ؟ وقد دل عليه بعض الروايات ، ومن لم يعلم ذلك ، وظن نجاسة ثوبه ، لا يبعد أن يقال : إنه يلزمه السؤال إن كان عاميا ، والفحص عن أنه هل ورد الشرع باجتناب مثل ذلك ؟ أو لا ؟ إن كان مجتهدا .
  واعلم : أن الشهيد الاول قال في قواعده : ( البناء على الاصل ، وهو استصحاب ما سبق ، أربعة أقسام : أحدها : استصحاب النفي في الحكم الشرعي ، إلى أن يرد دليل ، وهو المعبر عنه بالبراء‌ة الاصلية .

الوافية في اصول الفقه ـ 217 ـ
  وثانيها : استصحاب حكم العموم إلى ورود مخصص ، وحكم النص إلى ورود ناسخ ، وهو إنما يتم بعد استقصاء البحث عن المخصص والناسخ .
  وثالثها : استصحاب حكم ثبت شرعا ـ كالملك عند ورود سببه (1) ، وشغل الذمة عند إتلاف مال أو التزام ـ إلى أن يثبت (2) رافعه. ورابعها : استصحاب حكم الاجماع في مواضع النزاع ، كما نقول : الخارج من غير السبيلين لا ينقض الوضوء ، للاجماع على أنه متطهر قبل هذا الخارج ، فيستصحب ، إذ الاصل في كل متحقق دوامه ، حتى يثبت معارض ، والاصل عدمه ) (3) .
  ومثله قال الشهيد الثاني في كتاب تمهيد القواعد (4) .
  ولا يخفى عليك الحال في القسم الاول ، فإنه قد مر مفصلا .
  وعرفت أيضا أن الثاني ليس من الاستصحاب .
  وأما الثالث : فهو من الاستصحاب ، ولكن الفائدة في قوله : ( استصحاب حكم ثبت شرعا ) وتقييد الثبوت بالشرع ، غير ظاهرة ، لعموم أدلة الاستصحاب على ما مر ، فتأمل .
  وأما الرابع : فيجري فيه ما يجري في الثاني ، من خروجه عن الاستصحاب إن كان المجمع عليه الثبوت مطلقا ، وإلا فلا يجوز الاستصحاب .
  وما قد يستدل في بعض المسائل ، بأن هذا الحكم ثابت بالاجماع ، والاجماع إنما هو إلى هذا الوقت الخاص ، فلا دليل عليه فيما بعده ، فلم يكن


(1) في ط : عند ثبوت سببه ، وفي المصدر : عند وجود سببه .
(2) كذا في أ وط والمصدر ، وفي الاصل وب : ثبت .
(3) القواعد والفوائد : 1 / 132 / 133 / القاعدة الثالثة .
(4) تمهيد القواعد : 37 / المقصد الخامس / قاعدة : استصحاب الحال حجة ... إلى آخره .

الوافية في اصول الفقه ـ 218 ـ
  الحكم فيما بعده ثابتا ـ فهو (1) غير منقح ، فإنه يجب التفتيش عن متن الحكم المجمع عليه ، هل هو محدود إلى وقت ؟ أو حال ؟ أو هو مطلق غير محدود ؟ فإن كان الاول ، فالاستدلال صحيح ، وإلا فلا ، ولا يجدي (2) تحقق الخلاف في وقت ، إذا كان متن الاجماع غير محدود ، لانه يصير حجة على المخالف .
  ثم اعلم : أن حجية الاستصحاب والعمل به ، ليس مذهبا للمفيد والعلامة فقط من أصحابنا ، بل الظاهر أنه مذهب الاكثر ، فإن من تتبع كتب الفروع ، سيما في أبواب العقود (3) والايقاعات ، يظهر عليه أن مدارهم في الاغلب على الاستصحاب .
  يشهد بذلك شرح الشرائع للشهيد الثاني رحمه الله (4) .
  وقد صرح الشهيد الاول في قواعده باختياره في مواضع ، منها في قاعدة اليقين (5) .
  ونسب الشهيد الثاني اختياره في تمهيد القواعد إلى أكثر المحققين ، حيث قال : ( قاعدة : استصحاب الحال حجة عند أكثر المحققين ، وقد يعبر عنه بأن الاصل في كل حادث تقديره في أقرب زمان ، وبأن الاصل بقاء ما كان على ما كان ) (6) .
  القسم السابع :
  التلازم بين الحكمين ، فإنه إذا ثبت تلازم حكمين ، وتحقق أحدهما ،


(1) كذا في أ وط ، وفي الاصل وب : فانه .
(2) في ط : وإلا فلا يجدي ... إلى آخره .
(3) في أ : كتب الفروع سيما في العقود ، وفي ط : كتب الفروع وفي أبواب العقود .
(4) المسالك : 1 / 6 كتاب الطهارة / احكام الوضوء / في شرح قوله : ( أو تيقنهما ) .
(5) القواعد والفوائد : 1 / 132 / 141 / القاعدة الثالثة : قاعدة اليقين .
(6) تمهيد القواعد : 37 .

الوافية في اصول الفقه ـ 219 ـ
()   فإنه يدل على تحقق الحكم الآخر .
  والتلازم قد يكون مستفادا من الشرع ، كتلازم القصر في الصلاة والافطار في الصوم في السفر ، المستفاد من قوله عليه السلام : ( اذا قصرت أفطرت ، وإذا أفطرت قصرت ) (1) .
  وقد يكون مستفادا من حكم العقل ، كما يقال : إن الامر بالشيء في وقت معين لا يزيد عليه ، يستلزم عدم الامر بضده في ذلك الوقت بعينه وإلا لزم التكليف بما لا يطاق ، وهو قبيح عقلا ، مع قطع النظر عن كونه منصوصا أيضا .
  وهذا القسم مما يتوقف (2) حكم العقل فيه على ورود الخطاب الشرعي ويندرج فيه امور بحسب الظاهر ، فنحن نذكرها ، ونبين ما هو الحق في كل منها .
  الاول : مقدمة الواجب : وقد وقع الخلاف في أن وجوب الشيء هل يستلزم وجوب مقدمته ؟ أي : ما يتوقف عليه ذلك الشيء ، أو لا ؟ فقيل : بالتلازم مطلقا .
  وقيل : لا ، مطلقا .
  وقيل : به إذا كانت المقدمة سببا لا غير .
  وقيل : به إذا كانت شرطا شرعيا لا غير .
  والاول : مذهب أكثر القدماء والمحققين (3) ، ولكن أدلتهم المنقولة مما لا


(1) الفقيه : 1 / 437 ح 1269 .
(2) وضع ناسخ الاصل كلمة ( لا ) في الهامش ووضع عليها الرمز ( ظ ) اشارة إلى استظهار ان الصواب في العبارة هو : مما لا يتوقف ، ولكن هذا الاستظهار كما ترى .
(3) فقد قال السيد المرتضى : ( اعلم أن كل من تكلم في هذا الباب اطلق القول بأن الامر بالشيء .

الوافية في اصول الفقه ـ 220 ـ
  يمكن التعويل عليها ، لضعفها ، كما يقال : على تقدير عدم وجوب المقدمة ، يكون تركها جائزا ، فإذا تركت : فإن بقي التكليف بذي المقدمة حينئذ ، كان تكليفا بما لا يطاق ، وإلا فيلزم خروج الواجب عن كونه واجبا ، وهو محال (1) ، وهذا الدليل عمدة أدلتهم ، وعليه يدور أكثر أدلتهم .
  والجواب : أن هذا الواجب لا يخلو : إما أن يكون مؤقتا ؟ أم لا ؟ وعلى الاول : فإن تضيق الوقت ، بحيث لو أتى بالمقدمة ، لا يمكن الاتيان بذي المقدمة إلا فيما بعد وقته ، كالحج في المحرم مثلا ، فنختار عدم بقاء التكليف. قوله : ( يلزم خروج الواجب عن كونه واجبا ) .
  قلنا : نعم ، يلزم أن لا يكون الواجب المؤقت واجبا بعد وقته ، ولا فساد فيه ، فإن الحج مثلا في غير ذي الحجة ليس واجبا .
  فإن قلت : نحن نقول : من استطاع الحج (2) ، وترك المشي إليه بغير عذر ، وطلع عليه هلال ذي الحجة ، وهو في بلدة بعيدة لا يمكنه إدراك الحج في هذه السنة ـ إن وجب عليه الحج في هذه السنة ، يلزم تكليفه بالمحال عادة ، وإلا يلزم خروج الواجب في وقته عن الوجوب .
  قلت : لما كان وقوع الحج في هذه السنة في وقته محالا ، عادة ، فالتكليف به حينئذ ينصرف (3) إلى التكليف بإيقاعه فميا بعد وقته ، فنختار عدم بقاء التكليف حينئذ ، وليس إلا خروج الواجب بعد وقته عن الوجوب ، ولا استحالة فيه ، بل يتحقق (4) الاثم حينئذ .
  هو بعينه أمر بما لا يتم ذلك الشيء إلا به ) : الذريعة : 1 / 83 ، وممن صرح بالوجوب الغزالي : المستصفى : 1 / 71 ، والرازي : المحصول : 1 / 289 .


(1) حكى هذا الدليل المحقق الشيخ حسن ثم رده : معالم الدين : 62 .
(2) كذا في ب وط ، وفي الاصل : إلى الحج ، وفي أ : للحج .
(3) في ط : يؤول .
(4) كذا في أ وب ، وفي الاصل وط : تحقق .

الوافية في اصول الفقه ـ 221 ـ
  وإن كان الوقت متسعا ، أو لم يكن الواجب مؤقتا ، فنختار بقاء التكليف ، وليس تكليفا بالمحال ، لانه يمكن الاتيان بالمقدمة بعد .
  على : أنه يمكن جريان هذا (1) الدليل على تقدير وجوب المقدمة أيضا ، إذا تركها المكلف ، فتأمل .
  واستدل ابن الحاجب على وجوب الشرط الشرعي : بأنه لو لم يجب لكان الآتي بالمشروط فقط آتيا بجميع ما امر به ، فيجب أن يكون صحيحا ، فيلزم خروج الشرط الشرعي عن كونه شرطا (2) .
  والجواب : منع الشرطية ، لان المتأخر عن الشرط لا يتأتى إلا بفعل الشرط ، فليس آتيا بجميع ما امر به على تقدير عدم الاتيان بالشرط ، لفوت وصف التأخر في المشروط (3) حينئذ .
  وهذه المسألة بأدلتها من الطرفين مذكورة في كتب الاصول ، كالمعالم ، وغيره ، والمعترض مستظهر من الجانبين ، إلا أن المتتبع ـ بعد الاطلاع على المدح والذم الواردين في الأخبار والآيات القرآنية على فعل مقدمة الواجب وتركها ـ يحصل له ظن قوي بوجوب مقدمة الواجب مطلقا .
  واعلم : أنه قد تطلق المقدمة على امور ، يكون الاتيان بالواجب حاصلا في ضمن الاتيان بها ، وكأنه (4) لا خلاف في وجوب هذا القسم من المقدمة ، لانه عين الاتيان بالواجب ، بل هو منصوص في بعض الموارد ، كالصلاة إلى أربع جهات عند اشتباه القبلة (5) ، والصلاة في كل من الثوبين عند اشتباه


(1) كلمة ( هذا ) : زيادة من أ وب وط .
(2) المنتهى : 36 ، شرح العضد : 1 / 90 ـ 91 ( لاحظ المتن ) .
(3) كذا في أ وب وط : وفي الاصل : الشروط .
(4) كذا في أ وب وط : وفي الاصل : فكأنه .
(5) الفقيه : 1 / 278 ح 854 .

الوافية في اصول الفقه ـ 222 ـ
  الطاهر بالنجس (1) ، وغير ذلك .
  ولما [ ظهر ] ضعف أدلتهم المذكورة على وجوب مقدمة الواجب ، فلا فائدة في التعرض لحال (2) مقدمة المندوب والحرام والمكروه .
  والثاني : النهي عن الشيء عند الامر بضده الخاص ، وقد اختلف في أن الامر بالشيء ، هل يستلزم النهي عن ضده الخاص ؟ أو لا ؟ بعد الاتفاق على النهي عن الضد العام ، أي : ترك الواجب .
  وأدلة الاستلزام ضعيفة ، كما لا يخفى على من له أدنى تدبر ، فلا فائدة في ذكرها .
  والحق : عدم الاستلزام ، للاصل ، ولانه لو كان كذلك لتواتر ، لانه من الامور العامة البلوى ، على ما قال الشهيد الثاني [ من ] أنه لو كان كذلك لم يتحقق إباحة السفر إلا لاوحدي الناس (3) ، لتضاده غالبا لتحصيل العلوم الواجبة ، بل قلما ينفك الانسان عن شغل الذمة بشيء من الواجبات الفورية ، مع أنه على ذلك التقدير موجب لبطلان الصلاة الموسعة في غير آخر وقتها ، ولبطلان النوافل اليومية وغيرها .
  فلو كان الامر بالشيء مستلزما للنهي عن ضده الخاص ، لتواتر عنهم عليهم السلام النهي عن أضداد الواجبات ، من حيث هي كذلك ، والتالي (4) باطل .


(1) التهذيب : 2 / 225 ح 887 ، الفقيه : 1 / 249 ح 756 .
(2) في أ وب : بحال .
(3) روض الجنان : 388 / باب سفر المعصية / كتاب الصلاة ، وقد صرح الشهيد الثاني بعدم اقتضاء الامر بالشيء النهي عن ضده الخاص في : تمهيد القواعد : 17 ، وقد بنى على ذلك في الفقه ، انظر : روض الجنان : 120 / مسألة ما لو كان على بدن المحدّث او ثوبه نجاسة ولم يجد من الماء إلا ما يكفيه لازالة النجاسة خاصة ، وص 204 منه / مسألة الصلاة في الثوب المغصوب ، وص 339 منه ، والمسالك : 1 / 25 / مسألة وجوب رد السلام على المصلي .
(4) في ط : والثاني .

الوافية في اصول الفقه ـ 223 ـ
  على أنه لم ينقل آحادا أيضا .
  وبعض المتأخرين غير العبارة في المدعى (1) ، وقال : الامر بالشيء يستلزم عدم الامر بضده ، وإلا لزم التكليف بالمحال ، فيبطل الضد إذا كان عبادة .
  وفيه أيضا نظر ، ينكشف مما سنتلو عليك .
  فاعلم : أن الواجب إما مؤقت أو غير مؤقت ، وكل منهما إلا مضيق أو لا ، فالاقسام أربعة :
  المؤقت الموسع ، كالظهر مثلا .
  والمؤقت المضيق ، كالصوم .
  وغير المؤقت الموسع ، كالنذر المطلق على المشهور ، وغيره مما وقته العمر .
  وغير المؤقت المضيق ، كإزالة النجاسة عن المسجد ، وأداء الدين والحج وغيرها من الواجبات الفورية .
  فنقول : قوله : ( الامر بالشيء يستلزم عدم الامر بضده ) غير صحيح في الواجبين الموسعين مطلقا ، إذ لا يتوهم فيه أنه تكليف بالمحال ، وهو ظاهر .
  وأما في المؤقتين المضيقين فالمدعى حق ، إلا أنه لم يرد في الشرع شيء من هذا القبيل ، إلا ما تضيق بسبب تأخير المكلف ، كما إذا أخر المكلف الواجبين الموسعين إلى أن يبقى من الوقت بقدر فعل أحدهما .
  ولكن لا يخفى أنه حينئذ لا يمكن الاستدلال على بطلان أحدهما ، لتعلق الامر بكل منهما ، ولا يتفاوت كون أحدهما أهم من الآخر ، بل الحق حينئذ التخيير ، وتحقق الاثم إن كان التأخير بسبب تقصيره ، بل لا يبعد أن يقال بوجوب كل منهما في هذا الوقت أيضا ، ولا يلزم التكليف بالمحال ، لان حتمية فعلهما في هذا الوقت ، إنما هي بالنظر إلى ما بعد ذلك الوقت ، لا بالنظر إلى ما


(1) انظر : زبدة الاصول : 82 / 83 ، وقد لمح الشهيد الثاني إلى ذلك حيث قال : ( وإرادة أحد الضدين يستلزم عدم إرادة الآخر ) المسالك : 1 / 55 .

الوافية في اصول الفقه ـ 224 ـ
  قبله ، لان نسبة هذا الجزء من الوقت إلى هذين الواجبين ، مثل نسبة أول الوقت ووسطه ، فكما أن الفعلين الواجبين في أول الوقت ووسطه متصفان بالوجوب من غير لزوم التكليف بالمحال ـ لكون الوجوب راجعا إلى التخييري بحسب أجزاء الوقت ـ فكذا في آخر الوقت أيضا ، والحتمية ـ بمعنى : عدم (1) جواز التأخير عنه ـ لا ترفع التخيير فيه بالنظر إلى ما قبله من أجزاء الوقت .
  فإن قلت : إذا قصر المكلف ، وأخر الواجبين الموسعين حتى لا يبقى من وقتهما إلا بمقدار فعل أحدهما ، فحينئذ إن وجب كل منهما معا في هذا الوقت ، يكون تكليفا بالمحال ، ولا يجدي إمكان إيقاعهما قبل هذا الوقت ، لان الفرض أنه فات .
  قلت : وجوبهما في هذا الوقت بالايجاب السابق ، الذي نسبته إلى اول الوقت ووسطه وآخره نسبة واحدة ، فكما لا يتوهم التكليف بالمحال في الاولين ، فكذا في الآخر .
  وأما في المضيقين غير المؤقتين ـ كإزالة النجاسة من المسجد ، وأداء الدين مثلا إذا تضادا ـ فنقول : أول وقت وجوبهما ، قبل أن يمضي زمان يمكن فعل أحدهما فيه ، لا يجوز أن يكون كلاهما واجبا عينيا ، للزوم التكليف بالمحال ، بل يكون وجوبهما حينئذ تخييريا (2) إن لم يكن بينهما ترتيب ، ولا يمكن الاستدلال على النهي عن (3) أحدهما بسبب الامر بالآخر ، لما عرفت ، تساويا في الاهمية أو لا .
  وأما إذا مضى من أول وقت وجوبهما بقدر فعل أحدهما ، ففيه الاحتمالان المذكوران :


(1) كلمة ( عدم ) : ساقطة من الاصل ، واثبتناها من سائر النسخ .
(2) كذا في أ وب وط ، وفي الاصل : بل يكون وجوبهما تخييرا .
(3) كذا في ب وط ، وفي الاصل وأ : من .

الوافية في اصول الفقه ـ 225 ـ
  كون وجوبهما في كل جزء من الزمان تخييريا (1) ، ولكن مع تحقق الاثم على ترك ما تركه منهما ، بسبب تقسيره في التأخير مع إمكان فعله سابقا .
  وكون وجوبهما في كل جزء منه حتميا بالنظر إلى ما بعده ، أعني : عدم جواز تأخيرهما ، لا بالنظر (2) إلى ما قبله ، لامكان فعلهما قبله .
  وعلى أي تقدير ، فلا يمكن الاستدلال على النهي عن (3) أحدهما بسبب الامر بالآخر : أما على الاول : فلان الامر بأحدهما على التخيير ـ لا بهما معا ، حتى يتوهم التكليف بالمحال ـ لكن مع تحقق الاثم بترك ما تركه ، لتقصيره بتأخيره .
  وأما على الثاني : فلما عرفت ، فتأمل .
  وأما في الموسع مطلقا والمؤقت المضيق : فقد يتوهم أن هذا الوقت المضيق ، لما (4) صار متعينا لوقوع هذا الواجب المضيق فيه ، خرج عن (5) أن يكون وقتا لهذا الواجب الموسع ، فلم يتحقق الامر فيه بالواجب الموسع ، فإذا فعل فيه يكون باطلا ، وفيه بحث ، لان خروجه عن وقتية (6) الموسع ممنوع .
  فإن قلت : فما الفائدة في جعل هذا الوقت المضيق ، الذي ليس إلا بقدر الواجب المضيق ، وقتا له على التعيين ، وللموسع على التخيير ؟ .
  قلت : الفائدة فيه أنه لو عصى المكلف وترك فيه الواجب المضيق ، ولكن أتى فيه بالموسع ، يكون مؤديا للموسع غير فايت له (7) ، وكذا الكلام في الموسع


(1) كذا في أ وب وط ، وفي الاصل : تخييرا .
(2) اسقط حرف النفي من ط .
(3) كذا في أ وب وط ، وفي الاصل : من .
(4) كلمة ( لما ) ساقطة من الاصل ، واثبتناها من سائر النسخ .
(5) في ط : من .
(6) في أ وط : وقته .
(7) كذا في النسخ : والمراد : مفوت ، وقد اتفق للمصنف رحمه الله امثال هذه المسامحات اللفظية في مواضع اخر من كتابنا هذا فلاحظ. ويحتمل أن يكون في المقام محذوف ، والتقدير : فالموسع