مطلقا ، والمضيق غير المؤقت .
  إذا عرفت هذا ، عرفت أن القول بأن الامر بالشيء يستلزم عدم الامر بضده ـ غير صحيح ، إلا في المضيقين المؤقتين ، وأما فيهما (1) فهو صحيح ، لكن لم يقع من هذا القبيل شيء في الشرع ، ولو وقع يكون محمولا على الوجوب التخييري ، فلا يمكن الاستدلال فيه أيضا على بطلان أحدهما .
  ثم نقول : وهل الامر بالشيء يستلزم عدم طلب ضده على طريق الاستحباب ؟ أو لا ؟ الاظهر عدم الاستلزام فيه أيضا .
  وتظهر الفائدة فيمن صلى نافلة الزوال في وقت الكسوف ، قبل صلاة الكسوف ، بحيث يفوته الفرض ، فإن قلنا بالاستلزام ، تكون النافلة باطلة ، ويحتاج إلى الاعادة ، وإلا فلا .
  والحق الثاني ، إذ لا تناقض في إيجاب عبادة في وقت خاص ، واستحباب اخرى فيه بعينه ، ولا شك في صحة التصريح به ، من غير توهم تناقض ، بأن يقول : أوجبت عليك الفعل الفلاني في الوقت الفلاني ، وندبت عليك الفعل الفلاني في هذا الوقت بعينه ، بحيث لو عصيت وتركت الفعل الذي أوجبته عليك فيه وأتيت بما ندبت عليك فيه ، كنت مذوما لتركك الواجب ، وممدوحا لفعلك المندوب ، ولو كان وجوب الشيء في وقت منافيا لاستحباب آخر فيه ، لكان هذا الكلام مشتملا على التناقض ، مع أنه ليس كذلك ضرورة .
  ولا يجري هذا في الواجبين المؤقتين المضيقين ، لانه لا يمكن للمكلف بهما الخلاص من الاثم على هذا التقدير ، بخلاف ما نحن فيه ، لانه يمكنه ترك النافلة .
  فإن قلت : إذا علم الشارع أن فعل هذا النافلة مما لا ينفك عن غير فائت له .


(1) كذا الظاهر ، وفي النسخ : وفيه .

الوافية في اصول الفقه ـ 227 ـ
  العصيان ، يقبح منه طلبها .
  قلت : الموجب للعصيان هو إرادة ترك الواجب ، واستحباب هذه النافلة إنما هو على تقدير تحقق هذه الارادة ، فكأنه قال : إن اخترت إرادة هذا الواجب فلا أطلب منك شيئا غيره ، وإن اخترت عدم فعل هذا الواجب ، فقد عصيت ، ولكن حينئذ أطلب منك هذا المندوب .
  فان قلت : هذا (1) يرفع كون التكليف بهما معا في حال واحدة .
  قلت : نحن ننزل الخطاب الوجوبي والاستحبابي ـ لو وردا ـ على هذا المعنى ، فلا يمكن الاستدلال على بطلان المستحب ، بسبب الخطاب الوجوبي ، على أنه على تقدير إرادة عدم الوجوب يقع التكليف بهما معا ، فتأمل .
  إذا عرفت هذا : فاستحباب شيء في وقت ، يكون بعض ذلك الوقت وقتا لواجب مضيق ، يكون جائزا بالطريق الأولى ، إذ يمكن حينئذ انفكاك الفعل المستحب عن العصيان ، بخلاف الاول ، فإنه لا ينفك عن العصيان ، وإن لم يكن هو الموجب له ، بل الموجب سوء الاختيار .
  واعلم (2) : أن من قال بأن الامر بالشيء يستلزم النهي عن ضده ، إنما يقول به في الواجب المضيق ، كما صرح به جماعة ، إذ لا يقول عاقل بأنه إذا زالت الشمس مثلا ، حرم الاكل والشرب والنوم وغيرها من أضداد الصلاة ، قبل فعل الصلاة .
  ثم اعلم : أنه إيراد مقدمة الواجب والنهي عن الضد في هذا القسم إنما هو إذا لم يكن وجوب المقدمة وتحريم الضد ، على القول به ، من باب دلالة اللفظ ، كما قيل به ، ولكنه بعيد على هذا القول أيضا .
  ولما كانت أدلة اقتضاء الامر بالشيء النهي عن الضد ضعيفة ، فالاولى عدم التعرض ل‍ :


(1) كذا في ط ، وفي الاصل وأ وب : فهذا .
(2) كلمة ( واعلم ) : ساقطة من الاصل وقد اثبتناها من سائر النسخ .

الوافية في اصول الفقه ـ 228 ـ
  أن النهي عن الشيء هل يقتضي الامر بضده ؟ أو لا ؟ وهل استحباب الشيء يقتضي كراهة ضده وبالعكس ؟ أو لا ؟ والثالث : المنطوق غير الصحيح .
  وهو ما لم يوضع له اللفظ ، بل يكون مما يلزم لما وضع له اللفظ ، وهو أقسام : الاول : ما يتوقف صدق المعنى ، أو صحته عليه ، ويسمى بدلالة الاقتضاء .
  فالصدوق : نحو : « رفع عن امتي : الخطأ ، والنسيان » (1) فإن صدقه يتوقف على تقدير المؤاخذة ، لوقوعهما من (2) غير المعصوم عليه السلام .
  والصحة : نحو ( واسأل القرية ) (3) .
  وحجية هذا القسم ظاهرة ، إذا كان الموقوف عليه مقطوعا به .
  الثاني : ما يقترن بحكم على وجه ، يفهم منه أنه علة لذلك الحكم ، فيلزمه (4) جريان هذا الحكم في غير هذا المورد ، مما اقترنت به ، ويسمى بدلالة التنبيه والايماء ، نحو قوله عليه السلام : « أعتق رقبة » حين قال له الاعرابي : واقعت أهلي في شهر رمضان (5) ، فإنه يفهم (6) منه أن علة وجوب العتق هي المواقعة ، فيجب في كل موضع تحققت .
  وهو حجة إذا علم العلية ، وعدم مدخلية خصوئص الواقعة (7) ، فإن مدار


(1) الكافي : 2 / 462 كتاب الايمان والكفر / باب ما رفع عن الامة ح 2 ، الفقيه : 1 / 59 ح 132 ( لكن فيهما : وضع : بدل : رفع ) الخصال : 2 / 417 بال التسعة .
(2) في أ وط : عن .
(3) يوسف / 82 .
(4) في ط : فيلزم .
(5) الفقيه : 2 / 115 ح 1885 .
(6) في أ وط : يعلم .
(7) كذا في أ وب وط ، وفي الاصل : المواقعة .

الوافية في اصول الفقه ـ 229 ـ
  الاستدلال في الكتب الفقهية عليه ، وهذا هو مراد المحقق في المعتبر (1) ، حيث حكم بحجية تنقيح المناط القطعي ، كما إذا قيل له عليه السلام : صليت مع النجاسة ؟ فيقول عليه السلام : أعد صلاتك ، فإنه يعلم منه ، أن علة الاعادة هي النجاسة في البدن أو الثوب ، ولا مدخلية لخصوص المصلي ، أو الصلاة .
  الثالث : ما لم يقصد عرفا من الكلام ، ولكن يلزم المقصود ، نحو قوله تعالى : ( وحمله وفصاله ثلاثون شهرا ) (2) مع قوله تعالى : ( وفصاله في عامين ) (3) علم منهما أن أقل مدة الحمل ستة أشهر ، فإن المقصود (4) في الأولى بيان حق الوالدة وتعبها ، وفي الثانية بيان مدة الفصال ، فلزم منهما : العلم بأقل مدة الحمل ، ويسمى بدلالة الاشارة ، وحجيته ظاهرة إذا كان اللازم قطعيا .
  والرابع : المفهوم .
  وينقسم إلى موافقة ومخالفة ، لان حكم غير المذكور : إما موافق لحكم المذكور نفيا وإثباتا ، أو لا ، والاول الاول ، والثاني الثاني .
  والاول : يسمى بفحوى الخطاب ، ولحن الخطاب ، وضرب له أمثلة. منها : قوله تعالى : ( فلا تقل لهما أف ، ولا تنهرهما ) (5) فإنه يعلم من حال التأفيف ـ وهو محل النطق ـ حال الضرب ، وهو غير محل النطق ، وهما متفقان في الحرمة .
  ومنها : قوله تعالى : ( فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ) (6) .
  ومنها : قوله تعالى : ( ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يوده إليك


(1) نص المحقق الحلّي على هذا في : معارج الاصول : 185 .
(2) الاحقاف / 15 .
(3) لقمان / 14 .
(4) في ب وط : المراد .
(5) الاسراء / 23 .
(6) الزلزلة / 7 ، 8 .

الوافية في اصول الفقه ـ 230 ـ
  ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك ) (1) .
  فإنه يعلم منه (2) مجازاة ما فوق الذرة في الاول ، وتأدية ما دون القنطار في الثاني ، وعدم ما فوقه في الثالث ، فهو تنبيه بالادنى ـ أي : الاقل مناسبة ـ على الاعلى ، أي : الاكثر مناسبة .
  وهو حجة إذا كان قطعيا ، أي : كون (3) التعليل بالمعنى المناسب ـ كالاكرام في منع التأفيف ، وعدم تضييع الاحسان ، والاساء‌ة في الجزاء ، والامانة في أداء القنطار ، وعدمها في أداء الدينار ، وكونه أشد مناسبة للفرع ، قطعيين ، كالامثلة المذكورة .
  وأما إذا كانا ظنيين : فهو مما يرجع إلى القياس المنهي عنه (4) ، كما يقال .
  ( يكره جلوس المجبوب الصائم في الماء ، لاجل ثبوت كراهة جلوس المرأة الصائمة في الماء ) ، ويقال : ( إذا كان اليمين غير الغموس توجب الكفارة ، فالغموس أولى ) ، لعدم تيقن كون العلة في الاول جذب الماء بالفرج ، وفي الثاني الزجر .


(1) آل عمران / 75 .
(2) كلمه ( منه ) : ساقطة من الاصل ، وقد اثبتناها من سائر النسخ .
(3) كذا الظاهر ، وفي النسخ : يكون .
(4) ويدل على بطلان هذا القسم من القياس ما رواه ابن بابويه في الصحيح « عن عبدالرحمن بن الحجاج ، عن أبان بن تغلب ، قال : قلت لأبي عبدالله (ع) : ما تقول في رجل اصبعا من اصابع المرأة ، كم فيها ؟ قال : عشرة من الابل ، قلت : قطع اثنتين ؟ قال : عشرون ، قلت : قطع ثلاثا ؟ قال ثلاثون ، قلت قطع أربعا ؟ قال : عشرون ، قلت سبحان الله ! يقطع ثلاثا فيكون عليه ثلاثون ويقطع اربعا فيكون عليه عشرون ! إن هذا كان يبلغنا ونحن بالعراق فنبرأ ممن قاله ، ونقول : الذي قاله شيطان ، فقال : مهلا يا أبان ، هكذا حكم رسول الله صلى الله عليه وآله ، إن المرأة تعاقل الرجل إلى ثلث الدية ، فاذا بلغت رجعت المرأة إلى النصف ، يا أبان انك أخذتني بالقياس ، والسنة اذا قيست محق الدين ». ( منه رحمه الله ) .

الوافية في اصول الفقه ـ 231 ـ
  والثاني أقسام :
   الاول : مفهوم الصفة ، نحو قوله (1) : « في الغنم السائمة زكاة » (2) ومفهومه : نفي الزكاة عن المعلوفة .
  الثاني : مفهوم الشرط ، نحو : « إذا بلغ الماء كرا لم يحمل خبثا » (3) مفهومه : نجاسة الماء القليل .
  الثالث : مفهوم الغاية ، مثل : ( فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره ) (4) مفهومه : أنها إذا نكحت زوجا غيره تحل .
  الرابع : مفهوم العدد الخاص ، مثل : ( فاجلدوهم ثمانين جلدة ) (5) مفهومه : عدم وجوب الزائد على الثمانين .
  الخامس : مفهوم الحصر ، مثل : ( المنطلق زيد ) مفهومه : نفي الانطلاق عن غيره .
  وعد بعضهم مفهوم الاستثناء ، ومفهوم ( إنما ) .
  والحق : أن دلالتهما على ما يفهم منهما ـ من المنطوق ، على تقدير ثبوت أن ( إنما ) بمعنى : ( ما ) و( إلا ) .
  وعلى تقدير كونه بمعنى : ( إن ) التأكيدية و( ما ) الزائدة ، فلا مفهوم له أصلا ، وذلك لان المنطوق ما دل عليه اللفظ في محل النطق ، أي : يكون حكما للمذكور ، وحالا من أحواله ، سواء ذكر ذلك الحكم ونطق به أو لا ، والمفهوم بخلافه ، ولا يخفى أنا إذا قلنا : ( ما جاء القوم إلا زيد ) فنفي
الجيأة (6) عما عدا


(1) كلمة ( قوله ) : اضافة من ب .
(2) مثل به السيد في الذريعة : 1 / 399 ، والغزالي في المستصفى : 2 / 191 ، وغيرهما .
(3) غوالي اللآلي : 1 / 76 و 612 .
(4) البقرة / 230 .
(5) النور / 4 .
(6) في أ وط : المجيأة .

الوافية في اصول الفقه ـ 232 ـ
  زيد من القوم ، مما نطق به ، وكذا : ( ما جاء إلا زيد ) ، لان المقدر كالمذكور .
  السادس : مفهوم الزمان والمكان ، مثل : ( أفعله (1) في هذا اليوم ) أو : ( في هذا المكان ) ومفهومه : نفي الفعل في غير ذلك الزمان والمكان .
  وقد وقع الخلاف في حجية المفهوم بأقسامه (2) : فالسيد المرتضى (3) ، وجماعة من العامة أيضا (4) : أنكروا حجية جميع أقسامه .
  والشيخ الطوسي رحمه الله : قال بحجية مفهوم الصفة (5) ، ومال إليه الشهيد (6) ، وبه قال أكثر العامة (7) .
  والظاهر : أن قال بمفهومه الصفة ، يعترف بحجية : مفهوم الشرط ، والغاية ، والزمان ، والمكان ، لان الاولين أولى منه ، والاخيرين في معناه .
  ومختار المرتضى رحمه الله قوي .
  ولما كان حجية مفهوم الغاية أقوى من باقي الاقسام ، فنحن نتكلم فيه ويظهر منه حال البواقي ، من غير تأمل ، فنقول :


(1) في ب : فعله : وفي ط : افعل .
(2) كذا في أ وب ، وفي الاصل وط : باقسام .
(3) الذريعة : 1 / 392 .
(4) فقد انكره ابوحنيفة ، كما في المنخول : 209 ، وهو مذهب الاحناف والقاضي أبي بكر وأبي العباس بن سريج والقفال الشاشي والغزالي ، كما في الابهاج : 1 / 371 ، وقوم من المتكلمين ، كما في التبصرة : 218 ، والآمدي ، كما في التمهيد : 245 ، 253 .
(5) لم نجد في العدة ما يدل على صحة هذه النسبة ، بل قال الشيخ بعد نقله كلاما مبسوطا للسيد المرتضى في الاستدلال على عدم حجية الوصف ـ قال : ولي في هذه المسألة نظر ، عدة الاصول 2 / 25 .
(6) الاذكرى : 5 / المقدمة / الاشارة السادسة / الاصل الرابع / القسم الثاني / قوله خامسا .
(7) فقد ذهب إلى ذلك الشافعي والجمهور ، كما في التمهيد : 245 ، 253 ، وابوالحسن وابو عبيدة معمر بن المثنى ، وجمع كثير من الفقهاء والمتكلمين ، كما في الابهاج 1 / 371 ، والشيرازي في التبصرة : 218 .

الوافية في اصول الفقه ـ 233 ـ
  لنا : أن قول القائل : ( صوموا إلى الليل ) لا يدل على نفي وجوب صوم الليل بوجه ، أما المطابقة والتضمن : فظاهر ، وأما الالتزام : فلانه لا ملازمة بين وجوب صوم النهار وعدم وجوب صوم الليل ، وهو ظاهر .
  فإن قلت : نحن ندعي أن مفهوم الغاية وغيره (1) مما يلزم المنطوق لزوما غير بين ، كوجوب مقدمة الواجب ونحوه ، ولهذا أدرجناه في الادلة العقلية .
  قلت : ليس ههنا ما يوجب القول بالمفهوم ، كما ستعرف من ضعف أدلة الخصم .
  احتج الخصم بوجوه ضعيفة ، أقواها : أن التعليق على الغاية والشرط والصفة وغيرها ، يجب أن يكون لفائدة ، والفائدة هي مخالفة حكم المذكور للمسكوت عنه ، لان الاصل عدم غيرها من الفوائد ، وهي أمور : الاول : أن يكون قد خرج مخرج الاغلب ، مثل : ( وربائبكم اللاتي في حجوركم ) (2) ، فإن الغالب كون الربائب في الحجور ، فقيد لذلك ، لا لان حكم اللاتي لسن في الحجور بخلافه .
  الثاني : أن يكون لسؤال سائل عن المذكور ، أو لحادثة مخصوصة به ، مثل أن يسأل : هل في الغنم السائمة زكاة ؟ فيقول : في الغنم السائمة زكاة .
  أو يكون الغرض بيان ذلك لمن له السائمة دون المعلوفة .
  الثالث : أن تكون المصلحة في السكوت عن المسكوت عنه ، وعدم إعلام حاله .
  وغير ذلك من الفوائد المذكورة في المطولات .
  والمخالفة مما لا يحتاج إلى القرينة ، بخلاف الفوائد الاخر ، فإنها محتاجة إلى القرائن الخارجة (3) ، فيصير عند عدم القرينة من قبيل اللفظ المردد بين


(1) في ط : ونحوه .
(2) النساء / 23 .
(3) في ط : الخارجية .

الوافية في اصول الفقه ـ 234 ـ
  المعنى الحقيقي والمجازي ، فظاهر أنه محمول على المعنى الحقيقي ، عند التجرد عن القرينة .
  والجواب : أن هذه الفوائد كلها متساوية (1) في الاحتياج إلى القرينة وليس للمخالفة المذكورة رجحان على غيرها من الفوائد ، ليحمل عليه عند عدم ظهور القرينة ، بل يمكن أن يقال : إن الفائدة الثالثة ، وهي المصلحة في عدم الاعلام ، راجحة على غيرها ، سيما في كلام الائمة صلوات الله عليهم .
  فظهر بطلان ادعاء اللزوم غير البين بين المفهوم والمنطوق .
  واحتج صاحب المعالم على الدلالة الالتزامية في مفهوم الغاية ب‍ : أن قول القائل : ( صوموا إلى الليل ) معناه : آخر وجوب الصوم مجيء الليل ، فلو فرض ثبوت الوجوب بعد مجيئه ، لم يكن الليل آخرا ، وهو خلاف المنطوق (2) ـ وقريب منه استدلال ابن الحاجب في مختصره (3) ـ وقال بعد ذلك في جواب السيد : اللزوم هنا ظاهر ، إذ لا ينفك تصور الصوم المقيد بكون آخره الليل مثلا ، عن عدمه في الليل (4) .
  والجواب : لا نسلم أن معناه ذلك ، بل معناه : أريد منكم الامساك الخاص في زمان أوله طلوع الفجر ، وآخره الليل .
  وظاهر : أن مطلوبية الامساك في القطعة الخاصة من الزمان ، لا تستلزم عدم مطلوبيته فيما بعد تلك القطعة ، بل يجوز أن يكون فيما بعدها أيضا مطلوبا موسعا ، لكن سكت عنه لمصلحة اقتضت ذلك ، فقول القائل : ( صوموا إلى الليل ) يستفاد منه أن الصوم الواجب بذلك الخطاب انتهاؤه الليل ، وهذا لا يجدي الخصم .
  وقوله في بيان اللزوم : « إذ لا ينفك تصور الصوم المقيد بكون آخره الليل


(1) كذا في أ وط ، وفي الاصل وب : مساوية .
(2) معالم الدين : 81 .
(3) شرح العضد : 2 / 320 ( لاحظ المتن ) .
(4) معالم الدين : 82 .

الوافية في اصول الفقه ـ 235 ـ
  مثلا عن عدمه في الليل » لا يخفى ما فيه ، فإن مدلول قول القائل : ( صوموا إلى الليل ) هو مطلوبية الصوم ـ أي الامساك ـ إلى الليل ، وليس لفظة ( إلى الليل ) صفة للصوم ، حتى يكون المعنى مطلوبية الصوم الموصوف بكونه منتهيا إلى الليل ، مع أنه على تقدير الوصفية أيضا يرجع إلى مفهوم الوصف ، وهو ينكره (1) ، فليس للمفهوم لزوم ذهني مع المنطوق .
  واحتج أيضا على حجية مفهوم الشرط ب‍ : أن قول القائل : ( أعط زيدا درهما إن أكرمك ) يجري في العرف مجرى قولنا : الشرط في إعطائه إكرامك. والمتبادر من هذا : انتفاء الاعطاء عند انتفاء الاكرام قطعا ، فيكون الاول أيضا هكذا (2) .
  ولا يخفى ما فيه ، إذ لا يلزم أن يكون ما يتبادر من لفظ الشرط متبادرا من ( إن ) المسماة في العرف بحرف الشرط ، بل هو قياس لكلام على كلام آخر من غير بيان الجامع ، مع أن ادعاء التبادر من الثاني أيضا منظور فيه ، فتأمل .
  ثم لا يذهب عليك : أن ثمرة الخلاف إنما تظهر إذا كان المفهوم مخالفا للاصل ، نحو : ( ليس في الغنم المعلوفة زكاة ) أو : ( ليس في الغنم زكاة إذا كانت معلوفة ) أو : ( ليس في الغنم زكاة إلى أن تسوم ) فهل يجوز بمجرد هذا مثلا ، القول بجوب الزكاة في السائمة ؟ أو لا ؟ فأنكره المرتضى (3) ، وقد عرفت حقيقة الحال .
  وأما إذا كان موافقا للاصل : نحو : ( في الغنم السائمة زكاة ) ، فإن نفي الزكاة عن المعلوفة هو المقتضي لبراء‌ة الذمة ، فلا يظهر للخلاف فيه ثمرة يعتد بها .
  وكأن المفهوم في هذا القسم لما كان مركوزا في العقول ، بسبب موافقة


(1) أي : عدم الصوم في الليل : ( منه رحمه الله ) .
(2) معالم الدين : 77 / 78 .
(3) الذريعة : 1 / 394 و 406 و 407 .

الوافية في اصول الفقه ـ 236 ـ
  الاصل ، ادعي أنه حجة ، ومتبادر من حكم المنطوق ، ويؤيده : أن الامثلة المذكورة في استدلالهم ، كلها من هذا القبيل .
  واحتج بعضهم على حجية مفهوم الشرط والصفة ، بأن هذا النحو من التعليق يشعر بالعلية ، والعلة منتفية في المفهوم بحسب الفرض ، والاصل عدم علة اخرى ، فينتفي فيه حكم المنطوق (1) .
  والجواب : ـ بعد تسليم اعتبار (2) مطلق العلة منصوصة كانت أو مستنبطة ـ أن هذا النحو من الاستدلال صحيح ، لرجوعه إلى أصالة براء‌ة الذمة كما عرفت ، ولا مدخلية للمنطوق فيه ، مثلا : لو لم يكن النص الدال على وجوب الزكاة في السائمة متحققا ، أمكن إجراء هذا الاستدلال على نفي الزكاة في المعلوفة ، بأن يقال : الاصل عدم تحقق علل وجوب الزكاة في المعلوفة ، فينتفي وجوب الزكاة فيها .
  والخامس : القياس :
  وهو : إثبات الحكم في محل ، بعلة ، لثبوته في محل آخر بتلك العلة .
  واختلف في حجيته (3) ، ولا خلاف بين الشيعة في عدم حجيته ، ما لم ينص على العلة (4) ـ مثل أن يقول : ( حرمت الخمر ) ، فلا يجوز بمجرد هذا القول ، الحكم بتحريم غيره من المسكرات ، بسبب ظن أن علة حرمة الخمر هي الاسكار ، وهو متحقق في غيره ـ إلا ما نقل عن ابن الجنيد : أنه كان يقول به (5) ثم رجع (6) .


(1) المحصول : 1 / 266 ( الثالث ) ، المنتهى : 152 ، وتقرير الدليل للمصنف .
(2) في ب : اختيار .
(3) المستصفى : 2 / 234 ، المحصول : 2 / 245 ، المنتهى : 186 ، 188 .
(4) الذريعة : 2 / 697 ، عدة الاصول : 2 / 90 ، معارج الاصول : 187 .
(5) الفهرست : 134 ترجمة رقم 590 ، و: رجال النجاشي : 388 ترجمة رقم 1047 .
(6) لم نجد من نص على ذلك ، حتى نسب في الفوائد المدنية ( ص 135 ) رجوعه عنه إلى القيل .

الوافية في اصول الفقه ـ 237 ـ
  بل إنكار القياس قد صار متواترا عندنا .
  واختلف أصحابنا في حجية القياس المنصوص العلة ، مثل أن يقول : ( حرمت الخمر لاسكاره ) ، فهل يجوز القول بتحريم غيره من المسكرات بمجرد ذلك ؟ أو لا ؟ فأنكره السيد المرتضى (1) .
  وقال به العلامة (2) وجماعة (3) .
  والحق أن يقال : إذا حصل القطع بأن الامر الفلاني علة لحكم خاص ، من غير مدخلية شيء آخر في العلية ، وعلم وجود تلك العلة في محل آخر ، لا بالظن بل بالعلم ، فإنه حينئذ يلزم القول بذلك الحكم في هذا المحل الآخر ، لان الاصل حينئذ يصير من قبيل النص على حكم كل ما فيه تلك العلة ، فيخرج في الحقيقة عن القياس .
  وهذا مختار المحقق أيضا (4) .
  ولكن هذا في الحقيقة قول بنفي حجية القياس المنصوص العلة ، إذ حصول هذين القطعين (5) مما يكاد ينخرط في سلك المحالات ، إلا في تنقيح المناط ، على ما مر .
  واعلم : ان للعلم بالعلة عند القايسين طرقا : منها : النص عليها ، وله مراتب : صريح ، وهو : ما دل وضعا ، مثل : ( لعله كذا ) أو (6) : ( لاجل كذا ) أو : ( كي يكون كذا ) أو : ( إذن يكون كذا ) أو : ( لكذا ) أو : ( بكذا ) إذا كانت


(1) الذريعة : 2 / 684 .
(2) تهذيب الوصول : 84 / 85 .
(3) معالم الدين : 229 .
(4) معارج الاصول : 185 / المسألة الرابعة .
(5) بل الاول: ( منه رحمه الله ) .
(6) كذا في ب وط ، وفي الاصل وأ : و .

الوافية في اصول الفقه ـ 238 ـ
  ( الباء ) للسببية (1) ، أو : ( فإنه كذا ) .
  وتنبيه وإيماء ، وهو : ما لزم مدلول اللفظ ، وضابطه : كل اقتران بوصف ، لو لم يكن للتعليل لكان بعيدا ، مثل ما مر من قصة الاعرابي (2) ، فكأنه عليه السلام في جوابه قال : واقعت فكفر .
  وهذا القسم قد (3) يصير قطعيا ، فإنه إذا علم عدم مدخلية بعض الاوصاف ، فحذف ، وعلل بالباقي ، سمي تنقيح المناط القطعي ، كما يقال : إن كونه أعرابيا لا مدخل له في العلية ، إذ الهندي والاعرابي حكمهما واحد في الشرع ، وكذا كون المحل أهلا ، فإن الزنا أجدر به ، وعند الحنفية : لا مدخلية لكونه وقاعا ، فيكون الاكل وغيره من مفسدات الصوم كذلك (4) .
  وقد يكون ظنيا ، محتملا لعدم قصد الجواب ، كما يقول العبد : ( طلعت الشمس ) فيقول السيد : ( إسقني ماء‌ا ) .
  ومن الايماء : ما روي من قوله عليه السلام ، حين قالت له الخثعمية : « إن أبي أدركته الوفاة وعليه فريضة الحج ، فإن حجحت عنه ، أينفعه ذلك ؟ فقال صلى الله عليه وآله : أرأيت لو كان على أبيك دين ، فقضيته ، أكان ينفعه ذلك ؟ قالت : نعم .
  قال : فدين الله أحق أن يقضى » (5) .
  ومنه : أن يفرق بين حكمين بوصفين ، مثل : « للراجل سهم ، وللفارس سهمان » (6) .


(1) وردت هذه الجملة في نسخة أ كما يلي : مثل لعلة كذا ، ولاجل كذا ، وكي يكون كذا ، ولكذا ، او بكذا ، اذا كانت الباء للسببية ، وفي ط : مثل للعلة كذا ، أو لاجل كذا ، أو كي يكون كذا ، او اذن يكون كذا ، ولكذا ، وبكذا ، اذا كانت الباء للسببية .
(2) انظر ص 228 .
(3) كلمة ( قد ) : ساقطة من الاصل ، وقد اثبتناها من سائر النسخ .
(4) اصول السرخسي : 1 / 244 / 245 ، 2 / 153 / 154 .
(5) دعائم الاسلام : 1 / 336 .
(6) الكافي : 5 / 44 كتاب الجهاد / باب قسمة الغنيمة ح 2 .

الوافية في اصول الفقه ـ 239 ـ
  ومنه : تعليق الحكم على الوصف المناسب ، مثل ( أكرم العلماء ) .
  ومنها : السبر والتقسيم ، وهو : حصر الاوصاف الموجودة في الاصل ـ الصالحة للتعليل ـ في عدد ، ثم إبطال بعضها ، وهو ما سوى الذي يدعى أنه العلة ، كما يقال في قياس الذرة على البرفي الربوية : إن الاوصاف الصالحة للعلية في البر ليس إلا القوت والطعم والكيل ، لكن القوت والطعم لا يصلح للعلية ، فتعين الكيل .
  ومنها : تخريج المناط ، وهو : تعيين العلة في الاصل بمجرد المناسبة بينها وبين الحكم في الاصل ، لا بالنص ولا بغيره ، كالاسكار للتحريم ، فإن النظر في المسكر وحكمه ووصفه ، يوجب العلم بكون الاسكار مناسبا لشرع التحريم ، وكالقتل العمد العدوان ، فإنه بالنظر إلى ذاته مناسب لشرع القصاص. والمناسب ـ اصطلاحا ـ : وصف ظاهر منضبط ، يحصل من ترتب الحكم على (1) ما يصلح أن يكون مقصودا للعقلاء : من حصول مصلحة ، أو دفع مفسدة .
  وفي هذه الطريقة لا يحتاج إلى السبر .
  ويرد على القياس ـ بعد الايرادات المذكورة في المطولات ـ : أنه قد لا تكون علة الحكم في الشيء شيئا من أوصاف ذلك الشيء ، كما يدل عليه قوله تعالى : ( فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات احلت لهم ) الآية (2) ، وفي آية اخرى : ( وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما ) الآية (3) ، فإنه يدل على أن علة تحريم هذه الاشياء عصيانهم ، لا أوصاف تلك الاشياء ، فتأمل .


(1) كذا الصواب ، وفي النسخ : عليه. بدل : على .
(2) النساء / 160 .
(3) الانعام / 146 .

الوافية في اصول الفقه ـ 241 ـ
  الباب الخامس : في الاجتهاد والتقليد وفيه مباحث :

الوافية في اصول الفقه ـ 243 ـ
  الاول :
  الاجتهاد في اللغة : تحمل الجهد ، وهو : المشقة (1) .
  وفي الاصطلاح :
  المشهور : أنه استفراغ الوسع من الفقيه ، في تحصيل الظن بحكم شرعي (2) .
  وعندي أن الأولى في تعريفه : أنه صرف العالم بالمدارك وأحكامها نظره في ترجيح (3) الاحكام الشرعية الفرعية .
  فدخل القطعيات النظرية .
  وخرج الشرعية الاصلية .
  ولم يستعمل فيه ( الفقيه ) مع خفاء معناه ههنا (4) .


(1) المصباح المنير / مادة : جهد .
(2) المنتهى : 209 ، معالم الدين : 238 .
(3) لفظة ( ترجيح ) ساقطة من ب .
(4) لاحظ تفصيل هذه الدعوى في : الفوائد المدنية : 93 / الوجه الثامن .

الوافية في اصول الفقه ـ 244 ـ
  المدارك : قد علم كميتها وحقيقتها سابقا .
  والمراد ب‍ ( أحكامها ) : أحوال التعادل والترجيح وسيجيء إن شاء الله تعالى .
  وسيجيء تحقيق ما يحصل بسببه العلم بالمدارك .
  البحث الثاني :
  في أن الاجتهاد هل يقبل التجزية ؟ أو لا ؟ بمعنى : جريانه في بعض المسائل دون بعض ، وذلك بأن يحصل للعالم ما هو مناط الاجتهاد في بعض المسائل ، دون بعض آخر ، وقد اختلف فيه ، فالاكثر على أن يقبل التجزية ، وقيل بعدمه .
  والحق الاول لوجوه :
  الاول : أنه إذا اطلع على دليل مسألة بالاستقصاء ، فقد ساوى المجتهد المطلق في تلك المسألة ، وعدم علمه بأدلة غيرها لا مدخل له فيها. فإن قلت : لا يمكن العلم بعدم المعارض (1) والمخصص بدون الاحاطة بجميع مدارك الاحكام ، فبطل التساوي .
  قلت : إنكار حصول الظن بعدم المعارض مكابرة ، بل قد يحصل العلم من العادة بالعدم ، فإن المسائل التي وقع فيها الخلاف ، وأوردها جمع كثير من الفقهاء في كتبهم الاستدلالية ، واستدلوا عليها نفيا وإثباتا ، مما تحكم العادة بأن ليس لها مدارك غير ما ذكروه ، ولا أقل من حصول ظن قوي متاخم من العلم .
  فإن قلت : التمسك في جواز اعتماد المتجزي على استنباطه ، بمساواته للمجتهد المطلق ، قياس غير معلوم العلة ، فيكون باطلا .


(1) كذا في أ وب وط ، وفي الاصل : المعارضة .

الوافية في اصول الفقه ـ 245 ـ
  مع أنه : يمكن أن تكون العلة في المجتهد المطلق ، هي : قدرته على استنباط المسائل كلها ، فإن القوة الكاملة أبعد عن احتمال الخطأ من الناقصة .
  قلت : البديهة تحكم بالمساواة حينئذ ، بمعنى : أن كل ما دل على جواز اعتماد المجتهد المطلق على ظنه ، دل على الجواز في المتجزي أيضا ، كما سيجيء في آخر هذا البحث .
  وقوله بأن قوة الاول كاملة دون الثاني : إن أراد ب‍ ( الكمال ) الشمول والعموم ، فالعقل يحكم بأنه لا يصلح للعلية ، إذ العلة يجب أن تكون مناسبة ، وظاهر أن الظن بأن المتعة (1) مثلا ترث أو لا ترث ؟ أو الرضاع الناشر للحرمة خمس عشرة أو عشر ؟ ـ لا دخل له في جواز الاعتماد على الظن بوجوب السورة مثلا في الصلاة ، والمنكر مكابر مقتضى عقله .
  وإن أراد أن ظن العالم بالكل بوجوب السورة مثلا ، يكون أقوى من ظن المتجزي بوجوب السورة ، وإن اطلع على جميع أدلة وجوب السورة ـ فهذا مجرد دعوى يحكم أول النظر ببطلانها .
  الثاني : أن التقليد مذموم ، وخلاف الاصل أيضا ، فإن الاصل عدم وجوب اتباع غير المعصوم ، خرج عنه العامي الصرف ، لدليل على وجوب التقليد في حقه ، فيبقى المتجزي والمطلق ، لعدم المخرج في حقهما .
  فإن قلت : نحن نقلب هذا الدليل في المتجزي ، فنقول : اتباع الظن مذموم ، بل وخلاف الاصل أيضا ، إذ الاصل عدم وجوب اتباع غير القطع ، خرج عنه المجتهد المطلق ، لدليل أخرجه ، فبقي المتجزي ، لعدم المخرج فيه قلت : المخرج فيه متحقق ، فإنه ليس له بد من اتباع الظن : إما الظن .


(1) أي : المتمتع بها ، وهي المنكوحة بالعقد المنقطع ، و: المتعة : اسم التمتع ـ كما في المصباح ـ فاطلاقه على المتمتع بها مسامحة منه .

الوافية في اصول الفقه ـ 246 ـ
  الحاصل من التقليد ، أو الظن الحاصل من الاجتهاد ، فكيف يكون هو منهيا عن اتباع الظن على الاطلاق بخلاف التقليد ؟ !
  وتقريره الدليل بعبارة اخرى : جواز التقليد مشروط بعدم جواز العمل بالدليل ـ أي : الاجتهاد ـ فما لم يحصل القطع بعدم جواز الاجتهاد ، لم يحصل القطع بجواز التقليد ـ وكذا الظن على تقدير الاكتفاء به في الاصول ـ ولا دليل على عدم جواز عمل (1) المتجزي بالادلة الشرعية ، حتى يحصل القطع أو الظن بالشرط ، فينتفي العلم أو الظن (2) بجواز تقليد المتجزي ، وإذا كان هناك أمران ، أحدهما مرتب (3) على الآخر ، فلا يعدل من الاصل إلى الفرع إلا مع القطع أو الظن بوجوب العدول .
  والثالث : أن أوامر وجوب العمل بأوامر الرسول ونواهيه ـ وكذا خلفاؤه ـ عام ، خرج عنه العامي الصرف إجماعا ، لعدم إمكان العمل في حقه ، فيبقى المتجزي .
  والوجهان متقاربا المأخذ .
  قال في الذكرى : وعليه ـ أي على صحة التجزي ـ نبه في مشهور أبي خديجة ، عن الصادق عليه السلام : « انظروا إلى رجل منكم ، يعلم شيئا من قضايانا ، فاجعلوه بينكم قاضيا ، فإني قد جعلته قاضيا عليكم » (4) .
  قال في المعالم ـ بعد إيراد تحقيق له قد ظهر مما مر جوابه ـ : « لكن التعويل في اعتماد ظن المجتهد المطلق ، إنما هو على دليل قطعي وهو إجماع الامه عليه ، وقضاء الضرورة به ، وأقصى ما يتصور في موضع النزاع أن يحصل دليل ظني يدل على مساواة التجزي للاجتهاد المطلق ، واعتماد المتجزي عليه يفضي إلى


(1) كلمة ( عمل ) : ساقطة من الاصل وقد اثبتناها من سائر النسخ .
(2) كذا في أ وط ، وفي الاصل وب : والظن .
(3) في ط : مترتب .
(4) الذكرى : 3 / المقدمة / الاشار الثالثة / ذيل الامر الثالث عشر .

الوافية في اصول الفقه ـ 247 ـ
  الدور ، لانه تجز في مسألة التجزي ، وتعلق بالظن في العمل بالظن .
  ورجوعه في ذلك إلى فتوى المجتهد المطلق ، وإن كان ممكنا ، لكنه خلاف المراد ، إذ الفرض إلحاقه إبتداء‌ا بالمجتهد ، وهذا إلحاق له بالمقلد بحسب الذات ، وإن كان بالعرض إلحاقا بالاجتهاد ، ومع ذلك فالحكم في نفسه مستبعد ، لاقتضائه (1) ثبوت الواسطة بين أخذ الحكم بالاستنباط والرجوع فيه إلى التقليد ، وإن شئت قلت : تركب التقليد والاجتهاد ، وهو غير معروف » انتهى (2) .
  وفيه بحث من وجوه : الاول : أن قوله : « التعويل في اعتماد ظن المجتهد المطلق ، إنما هو على دليل قطعي ، وهو إجماع الامة ، وقضاء الضرورة به » ـ غير صحيح ، إذ ظاهر : أن هذه المسألة مما لم يسأل عنها الامام عليه السلام ، وظاهر : أن العمل بالروايات في عصر الائمة عليهم السلام ، للرواة ، بل وغيرهم ، لم يكن موقوفا على إحاطتهم بمدارك كل الاحكام ، والقوة القوية على الاستنباط ، بل يظهر بطلانه بأدنى اطلاع على حقيقة أحوال (3) قدماء الاصحاب .
  والحاصل : أن العلم بالاجماع الذي يقطع بدخول المعصوم عليه السلام في هذه المسألة ، بل وفي غيرها من المسائل التي لم يوجد فيها نص شرعي ـ مما لا يكاد يمكن .
  وقوله : « وقضاء الضرورة به » : إن أراد : حكم بديهة العقل به من غير ملاحظة أمر خارج ، فظاهر البطلان ، إذ العمل بالظن ونحو ذلك ، ليس من البديهيات الصرفة .
  وإن أراد : حكم العقل به ، بسبب أنه إذا احتاج المكلف إلى العمل ، وانحصر طريقه في الاجتهاد والتقليد ، فالبديهة تحكم بتقديم العمل بالحجة


(1) كذا في أ وب وط والمصدر ، وفي الاصل : لافضائه .
(2) معالم الدين : 239 .
(3) في ط : طريقة ، بدل : حقيقة احوال .

الوافية في اصول الفقه ـ 248 ـ
  الشرعية على التقليد ـ فهو صحيح ، لكنه مشترك بين المجتهد المطلق والمتجزي .
  والحاصل : أن دليل عمل المجتهد المطلق بالادلة الشرعية ، هو ما ذكرنا ، لا ما ذكره من الاجماع ، إذ انتفاء الاجماع القطعي هنا من أجلى الامور .
  الثاني : أن قوله : « وأقصى ما يتصور » إلخ ـ أيضا غير صحيح ، لان الادلة التي ذكرناها ، توجب القطع بجواز عمل المتجزي بالادلة الشرعية .
  الثالث : أن قوله : « واعتماد المتجزي عليه يفضي إلى الدور » ـ أيضا غير صحيح ، لانه على تقدير جواز الاعتماد في الاصول على الظن ، لا يختص ذلك بالمجتهد ، فمن حصل له الظن من دليل أو أمارة بشيء من المطالب الاصولية يجوز الاعتماد عليه على ذلك التقدير ، مجتهدا كان أو مقلدا ، وعلى تقدير عدم جواز الاعتماد على الظن في الاصول ، فهذه المسألة لابد فيها من الاعتماد على الظن ، بناء‌ا على عدم تحقق دليل قطعي على جواز التجزي ، إذ عدم تحقق دليل قطعي دال على جواز التقليد لذلك الشخص أظهر (1) .


(1) استدل في حواشي العدة على تعذر المجتهد المطلق بادلة ، ثانيها : انه لو امكن تحقق المجتهد المطلق فعلمه أو ظنه بامارة بانه مجتهد مطلق غير ممكن عادة ، فان المجتهدين كانوا لا يدرون الجواب في كثير من المسائل وليس لهم طريق إلى أن يعلموا أو يظنوا بامارة انهم قادرون بعد الفكر والمراجعة على الاجتهاد فيه ، فيلزم أنه لا يجوز لاحد العمل باجتهاده ، وثالثها : أنه لا يمكن للمقلد العامي أو المتجزي أن يعلم أو يظن بامارة اجتهاد غيره بالاجتهاد المطلق بطريق اولى ، فيلزم ان لا يجوز للعامي أو المتجزي الرجوع إلى المجتهد، ورابعها : أنه لو لم يجز للمتجزي العمل بظنه لم يمكن له العلم بجواز عمله ، لان استدلال المتجزي على وجوب الاستفتاء من المجتهد المطلق بظاهر قوله ( فاسألوا أهل الذكر ) غير ممكن ، لانه لو علم المتجزي جواز عمله بالظاهر في مسائل الاصول فعلمه بجواز في الفروع اولى ، ويناقض هذا توقفه في التجزي أو نفيه له ، ولو ادعي الاجماع على وجوب عمل المتجزي بهذا الظاهر ، وهذا الظن دون الظواهر والظنون الاخرى في الاصول أو الاجماع على رجوع المتجزي إلى المجتهد المطلق توجه المنع ، وكذا لو ادعي رجوع المتجزي في مسألة جواز عمله بظنه إلى المجتهد المطلق كما احتمله صاحب المعالم كيف وهي مسألة اصلية ولا يجري هنا التقليد للمجتهد وبعد .

الوافية في اصول الفقه ـ 249 ـ
  فان قلت : يجوز أن يقلد في جواز التقليد .
  قلت : الادلة الدالة على ذم التقليد مطلقا ، وفي الاصول خاصة ـ لكثرتها ـ غير قابلة للتأويل ، فإذا كان صحة تقليده مبنيا على صحة التقليد في الاصول كاد أن يحصل القطع ببطلانه ، وعلى تقدير التسليم ، والقول بصحة تقليده في الاصول ، فيجوز حينئذ (1) له العمل بظنه في الفروع ، بعد اعتقاده الحاصل من التقليد في جواز اعتماده على ظنه .
  وقوله : « إنه خلاف الفرض (2) ومستبعد ، للزوم الواسطة » ـ لا يخفى ما فيه ، فإنه على تقدير جواز التقليد في الاصول ، لا يتصور ههنا مانع للعمل بظنه ، بعد تقليده في مسألة التجزي والله يعلم .
  ثم لا يخفى : أن حصول ملكة العلم بكل الاحكام الواقعية للمجتهد ممتنع عندنا ، لان الائمة عليهم السلام لم يتمكنوا من إظهار كل الاحكام ، نعم يمكن العلم بالاحكام الظاهرية المتعلقة بعمله في نفسه .
  بل الظاهر : أن القول بنفي التجزي إنما هو على طريقة جمع من العامة القائلين بأن النبي صلى الله عليه وآله أظهر جميع الاحكام بين يدي أصحابه ، وتوفر الدواعي على نقله ، فما لم يوجد فيه مدرك ، فعدم المدرك فيه ، مدرك لعدم الحكم فيه في الواقع ، فحكمه التخيير ، وقد عرفت بطلانه عندنا ، فإن الائمة عليهم السلام ، كثيرا ما يتقون على أنفسهم وعلى أصحابهم في بيان الاحكام ، بل ربما يحكمون على شخص معين بحكم معين ، لمدخلية بعض خصوصيات ذلك الشخص في ذلك الحكم كما روى ابن بابويه في الفقيه ، في أواخر باب ( ما يجوز للمحرم إتيانه وما لا يجوز ) عن خالد بياع القلانس ، أنه قال : « سألت أبا التسليم يجوز فرض الكلام في المتجزي الذي لم يطلع على هذا الاجماع ، فيلزم أنه يكون اسوء حالا من العامي ، انتهت عبارته ، ( منه رحمه الله ).


(1) كلمة ( حينئذ ) : زيادة من أ وب وط .
(2) كذا في ط ، وفي سائر النسخ : الغرض .

الوافية في اصول الفقه ـ 250 ـ
  عبدالله عليه السلام ، عن رجل أتى أهله وعليه طواف النساء ؟ قال عليه السلام : عليه بدنة .
  ثم جاء‌ه آخر ، فسأله عنها ؟ فقال عليه السلام : عليه بقرة .
  ثم جاء‌ه آخر فسأله عنها ؟ فقال عليه السلام : عليه شاة .
  فقلت ـ بعد ما قاموا ـ : أصلحك الله ، كيف قلت : عليه بدنه ؟! فقال : أنت موسر ، وعليك بدنة ، وعلى الوسط بقرة ، وعلى الفقير شاة » (1) فبين عليه السلام بعد السؤال ، أن الاول موسر ، والثاني متوسط ، والثالث فقير ، من غير إشعار في كلامه عليه السلام بمدخلية الاحوال الثلاث ، وهذا مما يقدح أيضا في حصول العلم بنتقيح المناط (2) ، فتأمل .
  البحث الثالث :
  فيما يحتاج إليه المجتهد من العلوم ، وهو تسعة ، ثلاثة من العلوم الأدبية ، وثلاثة من المعقولات ، وثلاثة من المنقولات .
  فالاول من الاول : علم اللغة .
والاحتياج إليه : ظاهر ، إذ الكتاب والسنة عربيان ، ومعاني مفردات اللغة إنما تبين (3) في علم اللغة. والثاني : علم الصرف .
  والاحتياج إليه : لان تغير المعاني بتصريف المصدر ـ المبين معناه في علم اللغة ـ إلى الماضي والمضارع والامر والنهي ونحوها ، إنما يعلم في الصرف .
  والثالث : علم النحو .
  والاحتياج إليه : أظهر ، لان معاني المركبات من الكلام إنما يعلم به .


(1) الفقيه : 2 / 363 ح 2716 .
(2) حيث أن العلم بعدم المزية شرط في تعدية الحكم إلى المساوي ، فان احتمل وجودها لم تجز التعدية ، كما صرح به المحقق في معارج الاصول : 85 / المسألة الرابعة .
(3) كذا في ط وب ، وفي الاصل : يبين ، وفي أ : يتبين .