الفسلجية والبيولوجية والفلكية ، هذا الميدان الذي يخضع لقوانين ذات طابع نوعي مختلف ، هذا الميدان هل تتسع له الساحة التاريخية ، هل يستوعب كل الساحة التاريخية ، أو يعبر عن جزء من الساحة التاريخية ؟ لكن قبل هذا يجب أن نعرف ماذا نقصد بالساحة التاريخية الساحة التاريخية عبارة عن الساحة التي تحوي تلك الحوادث والقضايا التي يهتم بها المؤرخون ، المؤرخون أصحاب التواريخ بمجموعة من الحوادث والقضايا يسجلونها في كتبهم والساحة التي تزخر بتلك الحوادث التي يهتم بها المؤرخون ويسجلونها هي الساحة التاريخية فالسؤال هنا اذن هكذا ، هل ان كل هذه الحوادث والقضايا التي يربطها المؤرخون وتدخل في نطاق مهمتهم التاريخية والتسجيلية هل كلها محكومة بالسنن التاريخية ، بسنن التاريخ ذات الطابع النوعي المتميز عن سنن بقية حدود الكون والطبيعة ، أو أن جزءاً معينا من هذه الحوادث والقضايا هو الذي تحكمه سنن التاريخ ؟ الصحيح ان جزءاً معينا من هذه الحوادث والقضايا هو الذي تحكمه سنن التاريخ ، هناك حوادث لا تنطبق عليها سنن التاريخ بل تنطبق عليها القوانين الفيزيائية او الفسلجية أو قوانين الحياة او أي قوانين اخرى لمختلف الساحات الكونية الاخرى مثلا : موت ابي طالب ، موت خديجة في سنة معينة حادثة تاريخية مهمة تدخل في نطاق ضبط المؤرخين واكثر من هذا هي حادثة ذات بعد في التاريخ ترتبت عليها آثار كثيرة ولكنها لا يحكمها سنة تاريخية بل تحكمها قوانين فسلجية ، تحكمها قوانين الحياة التي فرضت ان يموت ابو طالب ( صلوات الله عليه ) وان تموت خديجة ( عليها السلام ) في ذلك الوقت المحدد ، هذه الحادثة تدخل في نطاق صلاحيات المؤرخين ولكن الذي يتحكم في هذه الحادثة هي قوانين فسلجة جسم أبي طالب وجسم خديجة ، قوانين الحياة التي تفرض المرض والشيخوخة ضمن شروط معينة وظروف معينة ، حياة عثمان بن عفان الخليفة الثالث ، طول عمره حادثة تاريخية فقد ناهز الثمانين ، طبعا هذه الحادثة التاريخية كان لها أثر عظيم في تاريخ الاسلام ، لو قدر لهذا الخليفة أن يموت موتا طبيعيا وفقا لقوانينه الفسلجية قبل يوم الثورة كان من الممكن ان تتغير كثير من معالم التاريخ ، كان من المحتمل ان يأتي الامام أمير المؤمنين الى الخلافة بدون تناقضات وبدون ضجيج وبدون خلاف لكن قوانين فسلجة جسم عثمان بن عفان اقتضت ان يمتد به العمر الى ان يقتل من قبل الثائرين عليه من المسلمين هذه حادثة تاريخية تعني انها تدخل في اهتمامات المؤرخين ولها بعد تاريخي ايضا ولعبت دورا سلبا أو ايجابا في تكييف الاحداث التاريخية الاخرى ، ولكنها لا تتحكم فيها سنن التاريخ ، ان الذي يتحكم في ذلك قوانين بنية جسم عثمان ، قوانين الحياة وقوانين جسم الانسان التي اعطت لعثمان بن عفان عمر ناهز الثمانين ، مواقف عثمان بن عفان وتصرفاته الاجتماعية تدخل في نطاق سنن التاريخ ، لكن طول عمر عثمان بن عفان لمسألة اخرى ، مسألة حياتية أو مسألة فسلجية أو مسألة فيزيائية وليست مسألة تتحكم فيها سنن التاريخ .
   اذن سنن التاريخ لا تتحكم على كل الساحة التاريخية ، لا تتحكم على كل القضايا التي يدرجها الطبري في تاريخه بل على ميدان معين من هذه الساحات يأتي ذكره انشاء الله .

مُقدّمَاتٌ في التفسير الموضوعي للقرآن _ 27 _

الدرس السادس
  قلنا ان الساحة التاريخية ساحة اهتمامات المؤرخين لا يستوعبها كل التاريخ لان هذه الساحة تشتمل على ظواهر كونية وطبيعية ، فيزيائية وحياتية وفسلجية ايضا .
  هذه الظواهر تحكمها قوانينها النوعية على الرغم من ان بعض هذه الظواهر ذات اهمية بالمنظار التاريخي ، من منظار المؤرخين تعتبر هذه حوادث ذات اهمية لها بعد زمني في امتداد وتيار الحوادث التاريخية ولكنها مع هذا لا تحكمها سنن التاريخ بل تحكمها سننها الخاصة .
  سنن التاريخ تحكم ميدانا معينا من الساحة التاريخية ، هذا الميدان يشتمل على ظواهر متميزة تميزا نوعيا عن سائر الظواهر الكونية والطبيعية وباعتبار هذا التميز النوعي استحقت سننا متميزة ايضا تميزا نوعيا عن سنن بقية الساحات الكونية .
  المميز العام للظواهر التي تدخل في نطاق سنن التاريخ هو ان هذه الظواهر تحمل علامة جديدة لم تكن موجودة في سائر الظواهر الاخرى الكونية والطبيعية والبشرية .
  الظواهر الكونية والطبيعية كلها تحمل علاقة ظاهرة بسبب مسبب بسبب نتيجة بمقدمات ، هذه العلاقة موجدوة في كل الظواهر الكونية والطبيعية ، الغليان ظاهرة طبيعية مرتبطة بظروف معينة ، بدرجة حرارة معينة ، بدرجة معينة ممن قرب هذا الماء من النار .
  هذا الارتباط ارتباط المسبب بالسبب ، العلاقة هنا علاقة السببية ، علاقة الحاضر بالماضي ، بالظروف المسبقة المنجزة ، لكن هناك ظواهر على الساحة التاريخية تحمل علاقة من نمط آخر وهي علاقة ظاهرة بهدف علاقة نشاط بغاية او ما يسميه الفلاسفة بالعلة الغائية تميزا عن العلة الفاعلية ، هذه العلاقة علاقة جديدة متميزة ، غليان الماء بالحرارة ، يحمل مع سببه مع ماضيه لكن لا يحمل علاقة مع غاية ومع هدف مالم يتحول الى فعل انساني والى جهد بشري بينما العمل الانساني الهادف يحتوي على علاقة لا فقط مع السبب ، لا فقط مع الماضي ، بل مع الغاية التي هي غير موجودة حين انجاز هذا العمل وانما يترقب وجودها .
  أي العلاقة هنا علاقة مع المستقبل لا مع الماضي ، الغاية دائما تمثل المستقبل بالنسبة الى العمل ، بينما السبب يمثل الماضي بالنسبة الى هذا العمل .
  فالعلاقة التي يتميز بها العمل التاريخي ، العمل الذي تحكمه سنن التاريخ هو انه عمل هادف ، عمل يرتبط بعلة غائية سواءا كانت هذه الغاية صالحة او طالحة ، نظيفة أو غير نظيفة ، على أي حال يعتبر هذا عملا هادفا.
  يعتبر نشاطا تاريخيا يدخل في نطاق سنن التاريخ على هذا الاساس وهذه الغايات التي يرتبط بها هذا العمل الهادف المسؤول ، هذه الغايات حيث انها مستقبلية بالنسبة الى العمل فهي تؤثر من خلال وجودها الذهني في العامل لا محالة ، لانها بوجودها الخارجي ، بوجودها الواقعي ، طموح وتطلع الى المستقبل ، ليست موجودة وجودا حقيقيا وانما تؤثر من خلال وجودها الذهني في الفاعل .

مُقدّمَاتٌ في التفسير الموضوعي للقرآن _ 28 _
  اذن المستقبل أو الهدف الذي يشكل الغاية للنشاط التاريخي يؤثر في تحريك هذا النشاط وفي بلورته من خلال الوجود الذهني أي من خلال الفكر الذي يمثل فيه الوجود الذهني للغاية ضمن شروط ومواصفات ، حينئذ يؤثر في ايجاد هذا النشاط ، اذ حصلنا الان على مميز نوعي للعمل التاريخي لظاهرة على الساحة التاريخية ، هذا المميز غير موجود بالنسبة الى سائر الظواهر الاخرى على ساحات الطبيعة المختلفة ، هذا المميز ظهور علاقة فعل بغاية نشاط بهدف في التفسير الفلسفي ، ظهور دور العلة الغائية ، كون هذا الفعل متطلعا الى المستقبل ، كون المستقبل محركا لهذا الفعل من خلال الوجود الذهني الذي يرسم للفاعل غايته أي من خلال الفكر اذن هذا هو في الحقيقة دائرة السنن النوعية للتاريخ .
  السنن النوعية للتاريخ موضوعها ذلك الجزء من الساحة التاريخية الذي يمثل عملا له غاية ، عملا يحمل علاقة اضافية الى العلاقات الموجودة في الظاهرة الطبيعية وهي العلاقة بالغاية والهدف ، بالعلة الغائية ، لكن ينبغي هنا أيضا انه ليس كل عمل له غاية هو عمل تاريخي ، هو عمل تجري عليه سنن التاريخ بل يوجد بعد ثالث لا بد ان يتوفر لهذا العمل لكي يكون عملا تاريخيا أي عملا تحكمه سنن التايخ .
  البعد الاول كان هو ( السبب ) و البعد الثاني كان هو الغاية ( الهدف )، لا بد اذن من بعد ثالث لكي يكون هذا العمل داخلا في نطاق سنن التاريخ ، هذا البعد الثالث هو ان يكون لهذا العمل أرضية تتجاوز ذات العامل ، ان تكون ارضية العمل هي عبارة عن المجتمع ، العمل الذي يخلق موجا ، هذا الموج يتعدى الفاعل نفسه ويكون أرضيته الجماعة التي يكون هذا الفرد جزءا منها طبعا الامواج على اختلاف درجاتها هناك موج محدود ، هناك موج كبير .
   لكن العمل لا يكون عملا تاريخيا الا اذا كان له موج يتعدى حدود العامل الفردي ، قد يأكل الفرد اذا جاع ، ويشرب اذا عطش ، وينام اذا أجس بحاجته الى النوم ، لكن هذه الاعمال على الرغم من انها اعمال هادفة أيضا تريدان تحقق غايات ولكنها اعمال لا يمتد موجها اكثر من العامل خلافا لعمل يقوم به الانسان من خلال نشاط اجتماعي وعلاقات متبادلة مع افراد جماعته ، فمثلا التاجر حينما يعمل عملا تجاريا أو القائد حينما يعمل عملا حربيا أو السياسي حينما يمارس عملا سياسيا ، المفكر حينما يتبنى وجهة نظر في الكون والحياة ، هذه الاعمال موج يتعدى شخص العامل ، يتخذ من المجتمع ارضية له ، ويمكننا ايضا ان نستعين بمصطلحات الفلاسفة فنقول : المجتمع يشكل علة مادية لهذا العمل ، يتبدل من مصطلحات الفلاسفة التمييز الارسطي بين العلة الفاعلية والعلة الغائية والعلة المادية ، هنا نستعين بهذه المصطلحات لتوضيح الفكرة .
  فنقول المجتمع يشكل علة مادية لهذا العمل ، أي ارضية العمل ، لحالة من هذا القبيل يعتبر هذا العمل عملا تاريخيا ويعتبر عملا للامة وللمجتمع وان كان الفاعل المباشر في جملة من الأحيان هو فرد واحد أو عدد من الافراد ولكن باعتبار الموج يعتبر المجتمع ، اذن العمل التاريخي الذي تحكمه سنن التاريخ هو العمل الذي يكون حاملا لعلاقة مع هدف وغاية ويكون في نفس الوقت ذا ارضية اوسع من حدود الفرد ، ذا موج يتخذ من المجتمع علة مادية له وبهذا يكون عمل المجتمع .

مُقدّمَاتٌ في التفسير الموضوعي للقرآن _ 29_
  وفي القرآن الكريم نجد تمييزا بين عمل الفرد وعمل المجتمع ونلاحظ في القرآن الكريم انه من خلال استعراضه للكتب الغيبية الاحصائية تحدث القرآن عن كتاب للفرد وتحدث عن كتاب للامة ، عن كتاب يحصي على الفرد عمله وعن كتاب يحصي على الامة عملها وهذا تمييز دقيق بين العمل الفردي الذي ينسب الى الفرد وبين عمل الامة ، بين العمل الذي له ثلاثة ابعاد والعمل الذي له بعدان ، العمل الذي له بعدان لا يدخل الا في كتاب الفرد واما العمل الذي له ثلاثة ابعاد فهو يدخل في الكتابين .
   يدخل في كتاب الامة ويعرض على الامة وتحاسب الامة على أساسه ،لاحظوا قوله تعالى ( وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) (1) .
  هنا القرآن الكريم يتحدث عن كتاب للامة ، أمة جاثية بين يدي ربها ويقدم لها كتابها ، يقدم لها سجل نشاطها وحياتها التي مارستها كأمة ، هذا العمل الهادف ذو الابعاد الثلاثة يحتوي هذا الكتاب ، وهذا الكتاب ـ انتبهوا الى العبارة ـ يقول ( إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) هذا الكتاب ليس تاريخ الطبري لا يسجل الوقائع الطبيعية ، الفسلجية ، الفيزيائية ، انما يمدد ويستنسخ ما كانوا يعملون كأمة .
  ما كانت الامة تعمله كأمة يعني العمل الهادف ذو الموج بحيث يكون العمل منسوبا للأمة وتكون الامة مدعوة الى كتابها .
  هذا العمل هو الذي يحويه هذا الكتاب ، بينما في آية اخرى نلاحظ قوله سبحانه وتعالى ( وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا * اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا )(2) هنا الموقف يختلف ، هنا كل انسان مرهون بكتابه ، لكل انسان كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة من اعماله من حسناته وسيئاته وهفواته وسقطاته من صعوده ونزوله الا وهو محصي في ذلك الكتاب .
  والكتاب الذي كتب بعلم من لا يغرب عن علمه مثقال ذرة في الارض ، كل انسان قد يفكر ان بامكانه ان يخفي نقطة ضعف ، ان يخفي ذنبا ، سيئة عن جيرانه وقومه وامته ، واولاده ، وحتى عن نفسه ، يخدع نفسه يرى انه لم يركب سيئة ولكن هذا الكتاب الحق لا يغادر صغيرة ولا كبيرة الا أحصاها ، في ذلك اليوم يقال انت حاسب نفسك لان هذه الاعمال التي مارستها سوف تواجهها في هذا الكتاب ان تحكم على نفسك بموازين الحق في يوم القيامة في ذلك اليوم لا يمكن لاي انسان ان يخفي شيئا عن الموقف ، عن الله سبحانه وتعالى ، وعن نفسه .
  هذا كتاب الفرد وذاك كتاب الامة ، هناك كتاب لامة جاثية بين يدي ربها ، وهنا لكل فرد كتاب ، هذا التمييز النوعي القرآني بين كتاب الامة وكتاب الفرد تعبير آخر عما قلناه من ان العمل التاريخي هو ذاك العمل الذي يتمثل في كتاب الامة ، العمل الذي له ابعاد ثلاثة بل ان الذي يستظهر ويلاحظ من عدد آخر من الآيات القرآنية الكريمة انه ليس فقط يوجد كتاب للفرد ويوجد كتاب للامة بل يوجد احضار للفرد ويوجد احضار للامة ، هنا احضارات بين يدي الله سبحانه وتعالى الاحضار الفردي يأتي بكل انسان فردا فردا ، لا يملك ناصرا ولا معينا ، لا يملك شيئاً يستعين به في ذلك الموقف الا العمل الصالح والقلب السليم والايمان بالله وملائكته وكتبه ورسله ، هذا هو الاحضار الفردي .
--------------------
(1) سورة الجاثية : الآية (28 ـ 29) .
(2) سورة الاسراء : الآية (13) .

مُقدّمَاتٌ في التفسير الموضوعي للقرآن _ 30 _
  قال الله تعالى (إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا ) (1) هذا الاحضار هو احضار فردي بين يدي الله تعالى وهناك احضار آخر ، احضار للفرد في وسط الجماعة ، احضار للامة بين يدي الله سبحانه وتعالى كما يوجد هناك سجلان كذلك يوجد احضاران ( كما تقدم )، ترى كل امة جاثية تدعى الى كتابها ، ذاك احضار للجماعة ، والمستأنس به من سياق الآيات الكريمة انه هذا الاحضار الثاني يكون من اجل اعادة العلاقات الى نصابها الحق ، العلاقات داخل الامة قد تكون غير قائمة على اساس الحق ، فقد يكون الانسان المستضعف فيها جديرا بأن يكون في اعلى الامة ، هذه الامة تعاد فيها العلاقات الى نصابها الحق .
  هذا اليوم هو اليوم الذي سماه القرآن الكريم بيوم التغابن ، كيف يحصل التغابن ؟.. يحصل التغابن عن طريق اجتماع المجموعة ثم كل انسان كان مغبونا في موقعه في الامة ، في وجوده في الامة ، بقدر ما كان مغبونا في موقعه في الامة يأخذ حقه ، يأخذ حقه يوم لا كلمة الا للحق . لاحظوا قوله تعالى ( يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُن ) (2) .
  اذن فهناك سجلان هناك سجل لعمل الفرد ، وهناك سجل لعمل الامة وعمل الامة هو عبارة عما قلناه في العمل الذي يكون له ثلاث ابعاد ، بعد من ناحية العامل ما يسميه ارسطو بـ ( العلة الفاعلية ) ، وبعد من ناحية الهدف ما يسميه ارسطوا بـ ( العلة الغائية ) ، وبعد من ناحية الارضية وامتداد الموج ما يسمونه بـ ( العلة المادية ) .
  هذا العمل ذو الابعاد الثلاثة هو موضوع سنن التاريخ ، هذا هو عمل المجتمع ، لكن لا ينبغي ان يوهم ذلك ما توهمه عدد من المفكرين والفلاسفة الاوربيين من ان المجتمع كائن عملاق له وجود وحدوي عضوي متميز عن سائر الافراد وكل فرد ليس الا بمثابة الخلية في هذا العملاق الكبير ، ( هكذا تصور هيجل مثلا ) وجملة من الفلاسفة الاوروبيين ، تصورا عمل المجتمع بهذا النحو ، أرادوا أن يميزوا بين عمل المجتمع وعمل الفرد فقال بأنه يوجد عندنا كائن عضوي واحد عملاق هذا الكائن الواحد هو في الحقيقة يلف في احشاءه وتندمج في كيانه كل الافراد .
  لكل فرد يشكل خلية في هذا العملاق الواحد وهو يتخذ من كل فرد نافذة على الواقع على العالم بقدر ما يمكن ان يجسد في هذا الفرد من قابلياته هو ومن ابداعه هو ، اذن كل قابلية وكل ابداع ، وكل فكر هو تعبير عن نافذة من النوافذ التي يعبر عنها ذلك العملاق الهيجلي ، هذا التصور اعتقد به جملة من الفلاسفة الاوربيين تمييزا لعمل المجتمع عن عمل الفرد لا ان هذا التصور ليس صحيحا ، ولسنا بحاجة اليه والى الاغراق في الخيال الى هذه الدرجة لكي ننحت هذا العملاق الاسطوري من هؤلاء الافراد ، ليس عندنا الا الافراد زيد وبكر وخالد ، ليس عندنا ذلك العملاق المستتر من ورائهم ، ( طبعاً مناقشة هيجل من الزاوية الفلسفية يخرج من حدود هذا البحث ومتروك الى بحث آخر ) لان هذا التفسير الهيجلي للمجتمع مرتبط بحسب الحقيقة بكامل الهيكل النظري لفلسفته الا ان الشيء الذي نريد أن نعرفه موقع اقدامنا من هذا التصور ، هذا التصور ليس صحيحا ، نحن لسنا بحاجة الى مثل هذا الافتراض الاسطوري لكي نميز بين عمل الفرد وعمل المجتمع ، لان التمييز بين عمل الفرد وعمل المجتمع يتم من خلال ما اوضحناه من البعد الثالث .
  عمل الفرد هو العمل الذي يكون له بعدان فان اكتسب بعدا ثالثا كان عمل المجتمع ، باعتبار ان المجتمع يشكل أرضية له ، يشكل علة مادية له ، يدخل حينئذ في سجل كتاب الامة الجاثية بين يدي ربها هذا هو ميزان الفرق بين العملين .
  اذن الشيء الذي نستخلصه مما تقدم ان موضوع السنن التاريخية هو العمل الهادف الذي يشكل أرضية ويتخذ من المجتمع او الامة أرضية له على اختلاف سعة الموجة وضيق الموجة هذا هو موضع السنن التاريخية .
--------------------
(1) سورة الاسراء : الآية (13) .
(2) سورة التغابن : الآية (9) .

مُقدّمَاتٌ في التفسير الموضوعي للقرآن _ 31 _
الدرس السابع
  آن الاوان لكي نتعرف على الصيغ المتنوعة التي تتخذها السنة التاريخية القرآنية ، كيف يتم التعبير موضوعيا عن القانون التاريخي في القرآن الكريم ؟ ما هي الاشكال التي تتخذها سنن التاريخ في مفهوم القرآن الكريم ؟ هناك ثلاثة أشكال تتخذها السنة التاريخية في القرآن الكريم ، لا بد من استعراضها ومقارنتها والتدقيق في أوجه الفرق بينها .
  الشكل الاول للسنة التاريخية هو شكل القضية الشرطية ، في هذا الشكل تتمثل السنة التاريخية في قضية شرطية تربط بين حادثتين أو مجموعتين من الحوادث على الساحة التاريخية وتؤكد العلاقة الموضوعية بين الشرط والجزاء ، وانه متى ما تحقق لشرط تحقق الجزاء وهذه صياغة نجدها في كثير من القوانين والسنن الطبيعية والكونية في مختلف الساحات الاخرى .
  فمثلا : حينما نتحدث عن قانون طبيعي لغليان الماء ، نتحدث بلغة القضية الشرطية ، نقول بأن الماء اذا تعرض الى الحرارة وبلغت الحرارة درجة معينة مائة مثلا في مستوى معين من الضغط ، حينئذ سوف يحدث الغليان هذا قانون طبيعي يربط بين الشرط والجزاء ويؤكد ان حالة التعرض الى الحرارة ، ضمن مواصفات معينة تذكر في طرف الشرط تستتبع حادثة طبيعية معينة ، وهي غليان هذا الماء ( تحول هذا الماء من سائل الى غاز ) هذا القانون مصاغ على نهج القضية الشرطية ومن الواضح ان هذا القانون الطبيعي لا ينبئنا شيئاً عن تحقق الشرط وعدم تحققه ، لا ينبئنا هذا القانون الطبيعي عن ان الماء سوف يتعرض للحرارة او لا يتعرض للحرارة هل ان درجة حرارة الماء ترتفع الى الدرجة المطلوبة ضمن هذا القانون او لا ترتفع ؟ هذا القانون لا يتعرض الى مدى وجود الشرط وعدم وجوده ، ولا ينبئنا بشيء عن تحقق الشرط ايجابا او سلبا ، وانما ينبئنا عن ان الجزاء لا ينفك عن الشرط ، فمتى ما وجد الشرط وجد الجزاء ، فالغليان نتيجة مرتبطة موضوعيا بالشرط هذا هو تمام ما ينبئنا عنه هذا القانون المصاغ بلغة القضية الشرطية ، ومثل هذه القوانين تقدم خدمة كبيرة للانسان في حياته الاعتيادية وتلعب دورا عظيما في توجيه الانسان ، لان الانسان ضمن تعرفه على هذه القوانين يصبح بامكانه ان يتصرف بالنسبة الى الجزاء ففي كل حالة يرى انه بحاجة الى الجزاء يعمل هذا القانون ليوفر شروط هذا القانون ، ففي كل حالة يكون الجزاء متعارضا مع مصالحه ومشاعره يحاول الحيلولة دون توفر شروط هذا القانون .
  متى ما كان غليان الماء مقصودا للانسان يطبق شروط هذا القانون ومتى لم يكن مقصودا للانسان يحاول ان لا تتطبق شروط هذا القانون .
  اذن القانون الموضوعي بنهج القضية الشرطية موجه عملي للانسان في حياته ومن هنا تتجلى حكمة الله سبحانه وتعالى في صياغة نظام الكون على مستوى القوانين وعلى مستوى الروابط المضطردة والسنن الثابتة لان صياغة الكون ضمن روابط مضطردة وعلاقات ثابتة هو الذي يجعل الانسان يتعرف على موضع قدميه وعلى الوسائل التي يجب ان يسلكها في سبيل تكييف بيئته وحياته والوصول الى اشباع حاجته لو ان الغليان في الماء كان يحدث صدفة ومن دون رابطة قانونية مضطردة مع حادثة اخرى كالحرارة ، اذن لما استطاع الانسان ان يتحكم في هذه الظاهرة ، ان يخلق هذه الظاهرة متى ما كانت حياته بحاجة اليها وان يتفاداها متى ما كانت حياته بحاجة الى تفاديها ، انما كان له هذه القدرة باعتبار ان هذه الظاهرة وضعت في موضع ثابت من سنن الكون وطرح على الانسان القانون الطبيعي من لغة القضية الشرطية فأصبح ينظر في نور لا في ظلام ويستطيع في ضوء هذا القانون الطبيعي ان يتصرف ، نفس الشيء نجده في الشكل الاول من السنن التاريخية القرآنية فان عددا كبيرا من السنن التاريخية في القرآن قد نمت صياغته على شكل القضية الشرطية التي تربط ما بين حادثتين اجتماعيتين او تاريخيتين فهي لا تتحدث عن الحادثة الاولى ( انها متى توجد ، ومتى لا توجد ) لكن تتحدث عن الحادثة الثانية بأنه ( متى ما وجدت الحادثة الاولى ، وجدت الحادثة الثانية ) .

مُقدّمَاتٌ في التفسير الموضوعي للقرآن _ 32 _
  قرأنا في ما سبق استعراضا للآيات الكريمة التي تدل على سنن التاريخ في القرآن جملة من تلك الآيات الكريمة مفادها هو السنة التاريخية بلغة القضية الشرطية ، تتذكرون ما قرأناه سابقا ( إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ ) (1) .
  هذه السنة التاريخية للقرآن والتي تقدم الكلام عنها ويأتي انشاء الله الحديث عن شرح محتواها ، هذه السنة التاريخية للقرآن بينت بلغة القضية الشرطية لان مرجع هذا المفاد القرآني الى ان هناك علاقة بين تغييرين ، بين تغيير المحتوى الداخلي للانسان وتغيير الوضع الظاهري للبشرية والانسانية ، مفاد هذه العلاقة قضية شرطية ، انه متى ما وجد ذاك التغيير في انفس القوم وجد هذا التغيير في بناء القوم وكيان القوم ، هذه القضية قضية شرطية بين القانون فيها بلغة القضية الشرطية .
  ( وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا )(2) ، قلنا في ما سبق ان هذه الآية الكريمة تتحدث عن سنة من سنن التاريخ ، عن سنة تربط وفرة الانتاج بعدالة التوزيع هذه السنة ايضا هي بلغة القضية الشرطية كما هو الواضح من صياغتها النحوية ايضا .
  ( وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِير ) (3) ايضا سنة تاريخية بينت بلغة القضية الشرطية ربطت بين امرين ، بين تأمير الفساق والمترفين في المجتمع وبين دمار ذلك المجتمع وانحلاله ، هذا القانون التاريخي ايضا مبين على نهج القضية لشرطية ، فهو لا يبين انه متى وجد الشرط ، لكن يبين متى ما وجد هذا الشرط يوجد الجزاء ، هذا هو الشكل الاول من اشكال السنة التاريخية في القرآن .
  الشكل الثاني الذي تتخذه السنن التاريخية شكل القضية الفعلية الناجزة الوجودية المحققة وهذا الشكل ايضا نجد له امثلة وشواهد في القوانين الطبيعية والكونية .
  مثلاً : العالم الفلكي حينما يصدر حكما علميا على ضوء قوانين مسارات الفلك بأن الشمس سوف تنكسف في اليوم الفلاني ، أو أن القمر سوف ينخسف في اليوم الفلاني هذا قانون علمي وقضية علمية ، الا أنها قضية وجودية ناجزة ، وليست قضية شرطية ، لا يملك الانسان اتجاه هذه القضية أن يغير من ظروفها وأن يعدل من شروطها ، لانها لم تبين كلغة قضية شرطية ، وانما بينت على مستوى القضية الفعلية الوجودية ، الشمس سوف تنكسف ، القمر سوف ينخسف ، هذه قضية فعلية تنظر الى الزمان الآتي وتخبر عن وقوع هذه الحادثة على أي حال ، وكذلك القرارات العلمية التي تصدر عن الانواء الجوية ، المطر ينهمر على المنطقة الفلانية ، هذا أيضا يعبر عن قضية فعلية وجودية لم تصغ بلغة القضية الشرطية وانما صيغت بلغة التنجيز والتحقيق بلحاظ زمان معين ومكان معين ، هذا هو الشكل الثاني من السنن التاريخية وسوف اذكر فيما بعد انشاء الله عند تحليل عناصر المجتمع الى أمثلة هذا الشكل من القرآن الكريم .
--------------------
(1) سورة الرعد : الآية (11) .
(2) سورة الجن : الآية (16) .
(3) سورة الاسراء : الآية (16) .

مُقدّمَاتٌ في التفسير الموضوعي للقرآن _ 33 _
  هذا الشكل من السنن التاريخية هو الذي أوحى في الفكر الاوروبي بتوهم التعارض بين فكرة سنن التاريخ وفكرة اختيار الانسان وارادته ، نشأ هذا التوهم الخاطيء الذي يقول بأن فكرة سنن التاريخ لا يمكن أن تجتمع الى جانب فكرة اختيار الانسان لان سنن التاريخ هي التي تنظم مسار الانسان وحياة الانسان اذن ماذا يبقى لارادة الانسان ؟ هذا التوهم أدى الى أن بعض المفكرين يذهب الى ان الانسان له دور سلبي فقط حفاظا على سنن التاريخ وعلى موضوعية هذه السنن ، ضحى باختيار الانسان من أجل الحفاظ على سنن التاريخ فقال بأن الانسان دوره دور سلبي وليس دورا ايجابيا ، يتحرك كما تتحرك الالة وفقا لظروفها الموضوعية ، ولعله يأتي بعض التفصيل أيضا عن هذه الفكرة ، وذهب بعض آخر في مقام التوفيق ما بين هاتين الفكرتين ولو ظاهريا الى أن اختيار الانسان نفسه هو ايضا يخضع لسنن التاريخ ولقوانين التاريخ ، لا نضحي باختيار الانسان ، لكن نقول بان اختيار الانسان لنفسه حادثة تاريخية ايضا ، اذن هو بدوره يخضع للسنن هذه تضحية باختيار الانسان لكن بصورة مبطنة ، بصورة غير مكشوفة ، وذهب بعض آخر الى التضحية بسنن التاريخ لحساب اختيار الانسان فذهب جملة من المفكرين الاوروبيين الى أنه ما دام الانسان مختارا فلابدّ من أن تستثنى الساحة التاريخية من الساحات الكونية في مقام التقنين الموضوعي ، لا بد وان يقال بأنه لا سنن موضوعية للساحة التاريخية حفاظا على ارادة الانسان وعلى اختيار الانسان وهذه المواقف كلها خاطئة لانها جميعا تقوم على ذلك الوهم الخاطئ ، وهم الاعتقاد بوجود تناقض أساسي بين مقولة السنة التاريخية ومقولة الاختيار ، وهذا التوهم نشأ من قصر النظر على الشكل الثاني من اشكال السنة التاريخية أي قصر النظر على السنة التاريخية المصاغة بلغة القضية الفعلية الوجودية الناجزة .
  لو كنا نقصر النظر على هذا الشكل من سنن التاريخ ولو كنا نقول بأن هذا الشكل هو الذي يستوعب كل الساحة التاريخية لا يبقي فراغا لذي فراغ لكان هذا التوهم واردا ، ولكنا يمكننا ابطال هذا التوهم عن طريق الالتفات الى الشكل الاول من اشكال السنة التاريخية الذي تصاغ فيه السنة التاريخية بوصفها قضية شرطية ، وكثيرا ما تكون هذه القضية الشرطية في شروطها معبرة عن ارادة الانسان واختيار الانسان ، يعني ان اختيار الانسان يمثل محور القضية الشرطية ( شرط القضية الشرطية ) اذن فالقضية الشرطية كامثلة التي ذكرناها من القرآن الكريم تتحدث عن علاقة بين الشرط والجزاء ، لكن ما هو الشرط ؟ الشرط : هو فعل الانسان ، هو ارادة الانسان ( إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ ) (1) ، التغيير هنا أسند اليهم فهو فعلهم ، ابداعهم وارادتهم .
   اذن السنة التاريخية حينما تصاغ بلغة القضية الشرطية وحينما يمثل ابداع الانسان واختياره موضوع الشرط في هذه القضية الشرطية ، في مثل هذه الحالة تصبح هذه السنة متلائمة تماما مع اختيار الانسان بل أن السنة حينئذ تقضي اختيار الانسان ، تزيده اختيارا وقدرة وتمكنا من التصرف في موقفه ، كيف أن ذلك القانون الطبيعي للغليان كان يزيد من قدرة الانسان لانه يستطيع حينئذ ان يتحكم في الغليان بعد أن عرف شروطه وظروفه ، كذلك السنن التاريخية ذات الصيغ الشرطية ، هي في الحقيقة ليست على حساب ارادة الانسان وليست نقيضا لاختيار الانسان بل هي مؤكدة لاختيار الانسان وتوضح للانسان نتائج ، لكي يستطيع أن يقتبس ما يريده من هذه النتائج .
--------------------
(1) سورة الرعد : الآية (11) .

مُقدّمَاتٌ في التفسير الموضوعي للقرآن _ 34 _
  لكي ستطيع ان يتعرف على الطريق الذي يسلك به الى هذه النتيجة او الى تلك النتيجة فيسير على ضوء وكتاب منير هذا هو الشكل الثاني للسنة التاريخية .
  الشكل الثالث للسنة التاريخية وهو شكل اهتم به القرآن الكريم اهتماما كبيرا ، هو السنة التاريخية المصاغة على صورة اتجاه طبيعي في حركة التاريخ لا على صورة قانون صارم حدي وفرق بين الاتجاه والقانون ولكي تتضح الفكرة في ذلك لابد وان نطرح الفكرة الاعتيادية التي نعيشها في اذهاننا عن القانون ، القانون العلمي كما نتصوره عادة عبارة عن تلك السنة التي لا تقبل التحدي من قبل الانسان ، لانها قانون من قوانين الكون والطبيعة فلا يمكن للانسان ان يتحداها ، أن ينقضها ، أن يخرج عن طاعتها ، يمكنه ان لا يصلي لان وجوب الصلاة حكم تشريعي وليس قانونا تكوينيا ، يمكنه أن يشرب الخمر لان حرمة الخمر قانون تشريعي وليس قانونا تكوينيا ، لكنه لا يمكنه ان يتحدى القوانين الكونية والسنن الموضوعية ، مثلا لا يمكنه أن يجعل الماء لا يغلي اذا توفرت شروط الغليان ، لا يمكنه ان يتحدى الغليان وان يؤخر الغليان لحظة عن موعده المعين لان هذا قانون والقانون صارم والصرامة تأبى التحدي .
  هذه هي الفكرة التي نتصورها عادة عن لقوانين وهي فكرة صحيحة الى حد ما ، لكن ليس من الضروري ان تكون كل سنة طبيعية موضوعية على هذا الشكل بحيث تأبى التحدي ولا يمكن تحديها من قبل الانسان بهذه الطريقة بل هناك اتجاهات موضوعية في حركة التاريخ وفي مسار الانسان الا ان هذه الاتجاهات لها شيء من المرونة بحيث انها تقبل التحدي ولو على شوط قصير ، وان لم تقبل التحدي على شوط طويل ، لكن على الشوط القصير تقبل التحدي أنت لا تستطيع أن تؤخر موعد غليان الماء لحظة ، لكن تستطيع أن تجمد هذه الاتجاهات لحظات من عمر التاريخ لكن هذا لا يعني أنها ليست اتجاهات تمثل واقعا موضوعيا في حركة التاريخ ، هي اتجاهات ولكنها مرنة تقبل التحدي لكنها تحطم المتحدي تحطمه بسنن التاريخ نفسها ، ومن هنا كانت اتجاهات : هناك اشياء يمكن تحديها دون ان يتحطم المتحدي ، لكن هناك اشياء يمكن تتحدى على شوط قصير ولكن المتحدي يتحطم على سنن التاريخ نفسها ، هذه هي طبيعة الاتجاهات الموضوعية في حركة التاريخ .
  لكي أقرب الفكرة اليكم نستطيع أن نقول بأن هناك اتجاها في تركيب الانسان وفي تكوين الانسان اتجاها موضوعيا لا تشريعيا الى اقامة العلاقات المعينة بين لذكر والانثى في مجتمع الانسان ضمن اطار من أطر النكاح والاتصال ، هذا الاتجاه ليس تشريعيا ليس تقنينا اعتباريا وانما هو اتجاه موضوعي اعملت العناية في سبيل تكوينه في مسار حركة الانسان ، لا نستطيع أن نقول أن هذا مجرد قانون تشريعي ، مجرد حكم شرعي ، لا وانما هذا اتجاه ركب في طبيعة الانسان وفي تركيب الانسان وهو الاتجاه الى الاتصال بين الذكر والانثى وادامة النوع عن طريق هذا الاتصال ضمن اطار من أطر النكاح الاجتماعي .
   هذه سنة لكنها سنة على مستوى الاتجاه ، لا على مستوى القانون ... لماذا ؟ لان التحدي لهذه السنة لحظة او لحظات ممكن ، أمكن لقوم لوط أن يتحدوا هذه السنة فترة من الزمن بينما لم يكن بامكانهم ان يتحدوا سنة الغليان بشكل من الاشكال ، الا ان تحدي هذه السنة يؤدي الى أن يتحطم الانسان ، المجتمع الذي يتحدى هذه السنة يكتب بنفسه فناء نفسه لانه يتحدى ذلك عن طريق الوان اخرى من الشذوذ تؤدي الى فناء المجتمع والى خراب المجتمع ومن هنا كان هذا اتجاها موضوعيا يقبل التحدي على شوط قصير ، لكن لا يقبل التحدي على شوط طويل لانه سوف يحطم المتحدي بنفسه .

مُقدّمَاتٌ في التفسير الموضوعي للقرآن _ 35_
  الاتجاه الى توزيع الميادين بين المرأة والرجل هذا الاتجاه اتجاه موضوعي وليس اتجاها ناشئا من قرار تشريعي ، اتجاه ركب في طبيعة الرجل والمرأة ، ولكن هذا الاتجاه يمكن ان يتحدى ، يمكن استصدار تشريع يفرض على الرجل بأن يبقى في البيت ليتولى دور الحضانة والتربية وان تخرج المرأة الى الخارج لكي تتولى مشاق العمل والجهد ، هذا بالامكان ان يتحقق عن طريق تشريع معين وبهذا يحصل التحدي لهذا الاتجاه لكن هذا التحدي سوف لن يستمر لان سنن التاريخ سوف تجيب على هذا التحدي لاننا بهذا سوف نخسر ونجمد كل تلك القابليات التي زودت بها المرأة من قبل هذا الاتجاه لممارسة دور الحضانة والامومة وسوف نخسر كل تلك القابليات التي زود بها الرجل من اجل ممارسة دور يتوقف على الجلد والصبر والثبات وطول النفس كما أن من قبيل ان تسلم بناية تسلم نجارياتها الى حداد وحدادياتها الى نجار يمكن ان تصنع هكذا ويمكن ان تنشأ البناية أيضا لكن هذه البناية سوف تنهار ، سوف لن يستمر هذا التحدي على شوط طويل سوف يتقطع في شوط قصير كل اتجاه من هذا القبيل هو في الحقيقة سنة موضوعية من سنن التاريخ ومن سنن حركة الانسان ولكنها سنة مرنة تقبل التحدي على الشوط القصير ولكنها تجيب على هذا التحدي واهم مصداق يعرضه القرآن الكريم لهذا الشكل من السنن هو الدين ، القرآن الكريم يرى أن الدين نفسه سنة من سنن التاريخ ، سنة موضوعية من سنن التاريخ ليس الدين فقط تشريعا وانما هو سنة من سنن التاريخ ولهذا يعرض الدين على شكلين تارة يعرضه بوصفه تشريعا كما يقول علم الاصول ، بوصفه ارادة تشريعية مثلا يقول ( شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْم ) (1) .
  هنا يبين الدين كتشريع ، كقرار ، كأمر من الله سبحانه وتعالى لكن في مجال آخر يبينه سنة من سنن التاريخ وقانون داخل في صميم تركيب الانسان وفطرة الانسان قال سبحانه وتعالى ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُون ) (2) .
هنا الدين لم يعد مجرد قرار وتشريع من أعلى وانما الدين هنا فطرة للناس ، فطرة الله التي فطر عليها الناس ولا تبديل لخلق الله ، هذا الكلام كلام موضوعي خبري لا تشريعي انشائي ، لا تبديل لخلق الله ، وهكذا انك لا يمكنك ان تنتزع من الانسان أي جزء من اجزاءه التي تقومه ، كذلك لا يمكنك ان تنتزع من الانسان دينه ، الدين ليس مقولة حضارية مكتسبة على مر التاريخ يمكن اعطاؤها ويمكن الاستغناء عنها لانها في حالة من هذا القبيل لا تكون فطرة الله التي فطر الناس عليها ولا تكون خلق الله الذي لا تبديل له ، بل تكون من المكاسب التي حصل عليها الانسان من خلال تطوراته المدنية والحضارية على مر التاريخ ، القرآن يريد ان يقول بأن الدين ليس مقولة من هذه المقولات بالامكان اخذها وبالامكان عطاؤها ، الدين خلق الله ، فطرة الله التي فطر الناس عليها ولا تبديل لخلق الله في هذا الكلام ( لا ) ليست ناهية بل نافية يعني هذا الدين لا يمكن أن ينفك عن خلق الله ما دام الانسان انسانا فالدين يعتبر سنة لهذا الانسان .
--------------------
(1) سورة الشورى : الآية (13) .
(2) سورة النون : الآية (30) .

مُقدّمَاتٌ في التفسير الموضوعي للقرآن _ 36 _
  هذه سنة ولكنها ليست سنة صارمة على مستوى الغليان ، سنة تقبل التحدي على الشوط القصير كما كان بامكان تحدي سنة النكاح اللقاء الطبيعي والتزواج الطبيعي ، كما كان بالامكان تحدي ذلك عن طريق الشذوذ الجنسي ، لكن على شوط قصير كذلك يمكننا تحدي هذه السنة على شوط قصير عن طريق الالحاد وغمض العين عن هذه الحقيقة الكبرى بأمكان الانسان ان لا يرى الشمس ، أن يغمض عينه عن الشمس ويلحد ولا يرى هذه الحقيقة ولكن هذا التحدي لا يكون الا على شوط قصير لان العقاب سوف ينزل بالملحدين ، العقاب هنا ليس بمعنى العقاب الذي ينزل على من يرتكب مخالفة شرعية على يد ملائكة العذاب في السماء في يوم القيامة ليس هو ذاك العقاب الذي ينزل على من يخالف القانون على يد الشرطي ، يضربه بالعصا على رأسه ، وانما العقاب هنا ينزل من سنن التاريخ نفسها تفرض العقاب على كل أمة تريد أن تبدل خلق الله سبحانه وتعالى ، ولا تبديل لخلق الله ( وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَولن ) (1) .
  نحن نقول بأن السنن التاريخية من الشكل الثالث اذا تحداها الانسان فسوف يأخذ العقاب من السنن التاريخية ، سرعان ما ينزل عليه العقاب من السنن التاريخية نفسها ( كلمة سرعان هنا يجب أن تؤخذ بمعنى السرعة التاريخية لا السرعة التي نفهمها في حياتنا الاعتيادية ) وهذا ما أرادت أن تبينه هذه لآية في المقام تتحدث عن العذاب واقعه في سياق العذاب الجماعي الذي نزل بالقرى السابقة الظالمة ثم بعد ذلك يتحدث عن استعجال الناس في ايام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الناس يستعجلون الرسول ( صلى الله علبه وآله وسلم ) ويقولون له أين هذا العقاب ، اين هذا العذاب ؟ لماذا لا ينزل بنا نحن الان كفرنا تحديناك لم نؤمن بك ، صممنا آذاننا عن قرآنك لماذا لا ينزل بنا هذا العذاب ؟ هنا القرآن يتحدث عن السرعة التاريخية التي تختلف عن السرعة الاعتيادية يقول ( وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ ) (2) ، لانها سنة ، والسنة التاريخية ثابتة ، لكن ( وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّون )(3) .
  اليوم الواحد في سنن التاريخ عند ربك باعتبار أن سنن التاريخ هي كلمات الله كما قرأنا في ما سبق ، كلمات الله سنن التاريخ ، اذن في كلمات الله ، في سنن الله ، اليوم الواحد ( المهلة القصيرة ) هي ألف سنة ، طبعا في آية أخرى عبر بخمسين ألف سنة ، لكن اريد بذلك أيام القيامة لا يوم الدنيا وهذا هو وجه الجمع بين الآيتين ، الكلمتين .
  في آية أخرى قيل ( تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ * فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا * إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا *وَنَرَاهُ قَرِيبًا * يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاء كَالْمُهْلِ يوم كان مقداره خمسين ألف سنة فاصبر صبرا جميلا انهم يرونه بعيدا ونراه قريبا يوم تكون السماء كالمهل ) (4) .
--------------------
(1) سورة الحج : الآية (47) .
(2) سورة الحج : الآية (47) .
(3) نفس الآية السابقة .
(4) سورة المعارج : الآية (4 ـ 8) .

مُقدّمَاتٌ في التفسير الموضوعي للقرآن _ 37 _
  هذا ناظر الى يوم القيامة ، الى يوم تكون السماء كالمهل فيوم القيامة قدر بخمسين ألف سنة أما هنا يتكلم عن يوم توقيت نزول العذاب الجماعي وفقا لسنن التاريخ يقول وان يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون اذن فهذا شكل ثالث من السنن التاريخية ، هذا الشكل هو عبارة عن اتجاهات موضوعية من مسار التاريخ وفي حركة الانسان وفي تركيب الانسان ، يمكن ان يتحدى على الشوط القصير ولكن سنن التاريخ لا تقبل التحدي على الشوط الطويل الا أن الشوط القصير والطويل هنا ليس بحسب طموحاتنا ، بحسب حياتنا الاعتيادية يوم أو يومين لان اليوم الواحد في كلمات الله وفي سنن الله كألف سنة مما نحسب ، هذا هو الشكل الثالث ، الدين هو المثال الرئيسي للشكل الثالث من أجل ان نعرف ان الدين ليس سنة من سنن التاريخ ... ما هو دوره ؟ ما هو موقعه ؟ لماذا أصبحت سنة من سنن التاريخ ليس مجرد تشريع وانما هو سنة ، يعني حاجة اساسية موضوعية حاله حال قانون الزوجية بين الذكر والانثى هو سنة موضوعية لماذا صار هكذا ؟ وكيف صار هكذا ؟ وما هو دوره كسنة تاريخية من سنن التاريخ ؟ لكي نعرف ذلك يجب أن نأخذ المجتمع ونحلل عناصر المجتمع على ضوء القرآن الكريم لنصل الى مغزى قولنا ان الدين سنة من سنن التاريخ .
  كيف نحلل المجتمع ؟ نحلل عناصر المجتمع على ضوء هذه الآية الكريمة ( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ )(1) .
   على ضوء هذه الآية التي تعطينا أروع وادق وأعمق صيغة لتحليل عناصر المجتمع سوف ندرس هذه العناصر ونقارن ما بينها لنعرف في النهاية أن الدين سنة من سنن التاريخ .
--------------------
(1) سورة البقرة : الآية (30) .

مُقدّمَاتٌ في التفسير الموضوعي للقرآن _ 38 _
الدرس الثامن
  قلنا بأن توضيح واقع هذه السنة القرآنية في سنن التاريخ يتطلب منا ان نحلل عناصر المجتمع ، ما هي عناصر المجتمع من زاوية نظر القرآن الكريم ، ما هي مقومات المركب الاجتماعي ، كيف يتم التنفيذ بين هذه العناصر والمقومات وضمن أي اطار وأي سنن ؟ هذه الاسئلة نحصل على جوابها في النص القرآني الشريف الذي تحدث عن خلق الانسان الاول ( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ) (1) .
  حينما نستعرض هذه الآية الكريمة نجد ان الله سبحانه وتعالى ينبأ الملائكة بأنه قرر انشاء مجتمع على الارض فما هي العناصر التي تتحدث عن هذه الحقيقة العظيمة ؟ هناك ثلاثة عناصر يمكن استخلاصها من العبارة القرآنية :
  1 ـ الانسان .
  2 ـ الارض أو الطبيعة على وجه عام ( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ) فهناك ارض او طبيعة على وجه عام وهناك الانسان الذي يجعله الله سبحانه وتعالى على الارض .
  3 ـ العلاقة المعنوية التي تربط الانسان بارض وبالطبيعة وتربط من ناحية اخرى الانسان بأخيه الانسان هذه العلاقة المعنوية التي سماها القرآن الكريم بالاستخلاف ، هذه هي عناصر المجتمع ، الانسان والطبيعة والعلاقة المعنوية التي تربط الانسان بالطبيعة من ناحية وتربط الانسان باخيه الانسان من ناحية اخرى وهي العلاقة التي سميت قرآنيا بالاستخلاف .
   ونحن حينما نلاحظ المجتمعات البشرية نجد انها جميعا تشترك بالعنصر الاول والعنصر الثاني ، فلا يوجد مجتمع بدون انسان يعيش مع أخيه الانسان ولا يوجد مجتمع بدون ارض او طبيعة يمارس الانسان عليها دوره الاجتماعي وفي هذين العنصرين تتفق المجتمعات التاريخية والبشرية .
   واما العنصر الثالث : ففي كل مجتمع علاقة كما ذكرنا ولكن المجتمعات تختلف طبيعة هذه العلاقة وفي كيفية صياغتها .
  فالعنصر الثالث هو العنصر المرن والمتحرك منلا عناصر المجتمع وكل مجتمع يبني هذه العلاقة بشكل قد يتفق وقد يختلف مع طريقة بناء المجتمع الاخر لها ، وهذه العلاقة لها صيغتان احدهما صيغة رباعية وقد اطلق عليها اسم ( الصيغة الرباعية ) والاخرى صيغة ثلاثية .
  الصيغة الرباعية : هي الصيغة التي ترتبط بموجبها الطبيعة والانسان مع الانسان ، هذه اطراف ثلاثة فالعلاقة اذن اتخذت صيغة تربط بموجبها بين هذه الاطراف وهي الطبيعة والانسان مع اخيه الانسان ولكن مع افتراض طرف رابع ايضا ، الصيغة الرباعية تربط بين هذه وهذا الطرف الرابع ليس داخلا في اطار المجتمع وانما خارج عن اطاره .
--------------------
(1) سورة البقرة : الآية (30) .

مُقدّمَاتٌ في التفسير الموضوعي للقرآن _ 39 _
   ولكن الصيغة الرباعية للعلاقة الاجتماعية تعتبر هذا الطرف الرابع مقوما من المقومات الاساسية للعلاقة الاجتماعية على رغم خروجه خارج اطار المجتمع ، وهذه الصيغة الرباعية للعلاقة الاجتماعية ذات الابعاد الاربعة هي التي طرحها القرآن الكريم تحت اسم الاستخلاف ، الاستخلاف اذن هو العلاقة الاجتماعية من زاوية نظر القرآن الكريم وعند تحليل الاستخلاف نجد انه ذو اربعة اطراف لانه يفترض مستخلفا ايضا .
  لا بد من مستخلف ومستخلف عليه ، ومستخلف ، فهناك اضافة الى الانسان واخيه الانسان والطبيعة يوجد طرف رابع في طبيعة وتكوين علاقة الاستخلاف وهو المستخلف اذ لا استخلاف بدون مستخلف ، فالمستخلف هو الله سبحانه وتعالى والمستخلف هو الانسان واخوه الانسان ، أي الانسانية ككل الجماعة البشرية والمستخلف عليه هو الارض وما عليها ومن عليها فالعلاقة الاجتماعية ضمن صيغة الاستخلاف تكون ذات اطراف اربعة وهذه الصيغة تنطبق بوجهة نظر معينة نحو الحياة والكون بوجهة نظر قائلة بانه لا سيد ولا اله للكون وللحياة الا الله سبحانه وتعالى وان دور الانسان في ممارسة حياته انما هو دور الاستخلاف والاستئمام وأي علاقة تنشأ بين الانسان والطبيعة فهي في جوهرها ليست علاقة مالك بمملوك وانما هي علاقة امين على امانة استؤمن عليها وأي علاقة تنشأ بين الانسان واخيه الانسان مهما كان المركز الاجماعي لهذا او لذاك فهي علاقة استخلاف وتفاعل بقدر ما يكون هذا الانسان مؤديا لواجبه بهذه الخلافة وليس علاقة سيادة أو الوهية او مالكية ، هذه الصيغة الاجتماعية الرباعية الاطراف التي صاغها القرآن الكريم تحت اسم الاستخلاف ترتبط بوجهة النظر المعينة للحياة والكون .
   في مقابلها يوجد للعلاقة الاجتماعية صيغة ثلاثية الاطراف ، صيغة تربط بين الانسان والانسان والطبيعة ولكنها تقطع صلة هذه الاطراف مع الطرف الرابع ، تجرد تركيب العلاقة الاجتماعية عن البعد الرابع ، عن الله سبحانه وتعالى ، وبهذا تتحول نظرة كل جزء الى الجزء الاخر داخل هذا التركيب وداخل هذه الصيغة .
  وجدت الالوان المختلفة للملكية والسيادة ، سيادة الانسان على أخيه الانسان باشكالها المختلفة التي استعرضها التاريخ بعد ان عطل البعد الرابع وبعد ان افترض ان البداية هي الانسان ، حينئذ تنوعت على مسرح الصيغة الثلاثية اشكال الملكية واشكال السيادة ، سيادة الانسان على اخيه الانسان .
  وبالتدقيق في المقارنة بين الصيغتين ، الصيغة الرباعية والصيغة الثلاثية يتضح ان اضافة الطرف الرابع للصيغة الرباعية ليس مجرد اضافة عددية ، ليس مجرد طرف جديد يضاف الى الاطراف الاخرى بل ان هذه الاضافة تحدث تغييرا نوعيا في بنية العلاقة الاجتماعية وفي تركيب الاطراف الثلاثة الاخرى نفسها ، ليس هذا مجرد عملية جمع ثلاثة زائد واحد ، بل هذا الواحد الذي يضاف الى الثلاثة سوف يعطي للثلاثة روحا أخرى ومفهوما آخر ، سوف يحدث تغييرا اساسيا في كنية هذه العلاقة ذات الاطراف الاربعة كما رأينا .

مُقدّمَاتٌ في التفسير الموضوعي للقرآن _ 40 _
  اذ يعود الانسان مع اخيه الانسان مجرد شركاء في محل هذه الامانة والاستخلاف وتعود الطبيعة بكل ما فيها من ثروات وبكل ما عليها ومن عليها مجرد امانة لابدّ من رعاية واجبها واداء حقها .
  هذا الطرف الرابع هو في الحقيقة مغير نوعي لتركيب العلاقة اذن امامنا للعلاقة الاجتماعية صيغتان صيغة رباعية وصيغة ثلاثية والقرآن الكريم آمن بالصيغة الرباعية كما رأينا في الآية الكريمة ، الاستخلاف هو الصيغة الرباعية للعلاقة الاجتماعية لكن القرآن الكريم اكثر من أنه آمن بالصيغة الرباعية في المقام أعتبر الصيغة الرباعية سنة من سنن التاريخ كما رأينا في الآية السابقة كيف اعتبر الدين سنة من سنن التاريخ كذلك اعتبر الصيغة الرباعية للعلاقة الاجتماعية التي هي صيغة الدين في الحياة .
  اعتبر هذه العلاقة بصيغتها الرباعية سنة من سنن التاريخ ، كيف ؟ هذه الصيغة الرباعية عرضها القرآن الكريم على نحوين : عرضها تارة بوصفها فاعلية ربانية من زاوية دور الله سبحانه وتعالى في العطاء ، وهذا هو العرض الذي قرأناه ( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ) هذه العلاقة الرباعية معروضة في هذا النص الشريف باعتبارها عطاءا من الله ، جعلا من الله يمثل الدور الايجابي والتكريمي من رب العالمين للانسان وعرض الصيغة الرباعية نفسها من زاوية اخرى .
  عرضها بوصفها وبنحو ارتباطها مع الانسان بما هي أمر يتقبله الانسان ، عرضها من زاوية تقبل الانسان لهذه الخلافة وذلك في قوله سبحانه وتعالى ( إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ) (1) ، الامانة هي الوجه التقبلي للخلافة ، الخلافة هي الوجه الفاعلي والعطائي للامانة ، الامانة والخلافة عبارة عن الاستخلاف والاستئمان وتحمل الاعباء .
  عبارة عن الصيغة الرباعية وهذه تارة نلحظها من زاوية ربطها بالفاعل وهو الله سبحانه وتعالى بقوله ( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ) واخرى نلحظها من زاوية القابل كما يقول الفلاسفة ، من ناحية دور الانسان في تقبل هذه الخلافة وتحمل هذه الامانة وذلك بقوله تعالى ( وعَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ ) وهذه الامانة التي تقبلها الانسان وتحملها حينما عرضت عليه بعض هذه الآية الكريمة ، هذه الامانة او هذه الخلافة او بالتفسير الذي قلناه هذه العلاقة الاجتماعية بصيغتها الرباعية .
--------------------
(1) سورة الاحزاب : الآية (72) .

مُقدّمَاتٌ في التفسير الموضوعي للقرآنء _ 41 _
  لم تعرض على الانسان بوصفها تكليفا او طلبا ليس المقصود من عرضها على الانسان هو العرض على مستوى التكليف والطلب وليس المقصود من تقبل هذه الامانة هو تقبل هذه الخلافة على مستوى الامتثال والطاعة ، ليس المفروض ان يكون هكذا العرض وان يكون هكذا التقبل بقرينة ان هذا العرض كان معروضا على الجبال ايضا ، على السماوات والارض ايضا فمن الواضح انه لا معنى لتكليف السماوات والجبال والارض .
  نعرف من ذلك ان هذا العرض ليس عرض تشريعي ، هذا العرض معناه ان هذه العطية الربانية كانت تفتش عن الموضع المنسجم معها بطبيعته ، بفطرته ، بتركيبه التاريخي والكوني ، الجبال لا تنسجم مع هذه الخلافة ، السماوات والارض لا تنسجم مع هذه العلاقة الاجتماعية الرباعية .
  الانسان هو الكائن الوحيد الذي بحكم تركيبه وبحكم بنيته وبحكم فطرة الله التي قرأناها في الآية السابقة كان منسجما مع هذه العلاقة الاجتماعية ذات الاطراف الاربعة والتي تصبح أمانة وخلافة ، اذن العرض هنا عرض تكويني والقبول هنا قبول تكويني وهو معنى سنة التاريخ يعني ان هذه العلاقة الاجتماعية ذات الاطراف الاربعة داخلة في تكوينة الانسان وفي تركيب مسار الانسان الطبيعي والتاريخي ، ونلاحظ انه في هذه الآية الكريمة ايضا جاءت الاشارة الى هذه السنة التاريخية وانها سنة من الشكل الثالث ، سنة تقبل التحدي وتقبل العصيان .
  ليست من تلك السنن التي لا تقبل التحدي ابدا ولو للحظة ، لا ... هي سنة فطرة ولكن هذه الفطرة تقبل التحدي ، كيف اشار القرآن الكريم الى ذلك بعد ان اوضح انها سنة من سنن التاريخ ؟ قال : ( وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ) هذه العبارة الأخيرة ( إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ) تأكيد على طابع هذه السنة وان هذه السنة على الرغم من انها سنة من سنن التاريخ ولكنها سنة تقبل التحدي ، تقبل ان يقف الانسان منها موقفا سلبيا .
  هذا التعبير يوازي تعبير ( وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُون ) في الآية السابقة اذن الآية السابقة استخلصنا منها ان الدين سنة من سنن الحياة ومن سنن التاريخ ومن هذه الآية نستخلص ان صيغة الدين للحياة التي هي عبارة عن العلاقة الاجتماعية الرباعية ، العلاقة الاجتماعية ذات الاطراف الاربعة التي يسميها القرآن بالخلافة والامانة والاستخلاف ، هذه العلاقة الاجتماعية هي ايضا بدورها سنة من سنن التاريخ بحسب مفهوم القرآن الكريم فالحقيقة ان الآية الاولى والآية الثانية متطابقتان تماما في مفادهما لانه في الآية الاولى قال ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ) (1) .
--------------------
(1) سورة الروم : الآية (30) .

مُقدّمَاتٌ في التفسير الموضوعي للقرآن _ 42 _
  التعبير بالدين القيم تأكيد على أن ما هو الفطرة وما هو داخل في تكوين الانسان وتركيبه وفي مسار تاريخه هو الدين القيم يعني ان يكون هذا الدين قيما على الحياة ان يكون مهيمنا على الحياة ، هذه القيمومة في الدين هي التعبير المجمل في تلك الآية عن العلاقة الاجتماعية الرباعية التي طرحت في الآيتين ، في آية ( اني جاعل في الارض خليفة ) وآية ( انا عرضنا الامانة على السماوات والارض ) فالدين سنة الحياة والتاريخ ، الدين يدخل فيها بعداً رابعا لكي يحدث تغييرا في كنية هذه العلاقة لا لكي تكون مجرد اضافة عددية .
  هذه مفاهيم القرآن الكريم مستخلصة من هذه الآيات عن هذه السنة ، اما كيف نريد ان نتعرف بصورة اوضح وأوسع عن هذه السنة ، عن دور التاريخ كسنة ، عن دور الدين القيم ودور الخلافة والامانة ، عن دور العلاقة الاجتماعية ذات الاطراف الاربعة ، دور الطرف الرابع .
  ما هو دوره كسنة من سنن التاريخ ، وكيف كان سنة من سنن التاريخ ؟ ، وكيف كان مقوما اساسيا لمسار الانسان على الساحة التاريخية ؟ لكي نتعرف على ذلك لا بد من ان نتعرف على الركنين الثابتين في العلاقة الاجتماعية ، هناك ركنان ثابتان في العلاقة الاجتماعية احدهما الانسان واخوه الانسان والاخر الطبيعة ، الكون والارض .
  هذان الركنان داخلان في الصيغة الثلاثية وداخلان في الصيغة الرباعية ، ومن هنا نسميهما بالركنين الثابتين في العلاقة الاجتماعية لكي نعرف دور الركن الجديد ودور هذا الركن الجديد ، دور هذا الطرف الرابع ، دور الله سبحانه وتعالى في تركيب العلاقة الاجتماعية ، يجب ان نعرف مقدمة لذلك دور الركنين الثابتين .
  ما هو دور الانسان في عملية التاريخ من زاوية النظرة القرآنية ، من زاوية النظرة للقرآن والفهم الرباني من القرآن للتاريخ وسنن الحياة ؟ ما هو دور الانسان في العلاقة الاجتماعية ؟ وما هو دور الطبيعة في العلاقة الاجتماعية على ضوء تشخيص هذين الدورين وتحديد هذين الموقفين ، سوف يتضح حينئذ دور هذا الطرف الجديد ، دور الطرف الرابع الذي تتميز به الصيغة الرباعية عن الصيغة الثلاثية .
  ويتضح ان هذا الطرف الرابع عنصر ضروري بحكم سنة التاريخ وتركيب خلقة الانسان ولابدّ وان يندمج مع الاطراف الاخرى لتكوين علاقة جتماعية رباعية الاطراف . اذن ففهم هذه السنة التاريخية يتطلب منا ان نتحدث عن دور الانسان والطبيعة في عملية التاريخ من زاوية نظر القرآن الكريم وهذا ما سيأتي انشاء الله .

مُقدّمَاتٌ في التفسير الموضوعي للقرآن _ 43 _
الدرس التاسع
  قلنا في ما سبق ان اكتشاف الابعاد الحقيقية لدور الدين في حركة التاريخ والمسيرة الاجتماعية للانسان تتوقف على تحقيق وتقييم دور العنصرين او الركنين الثابتين في الصيغة وهما الانسان والطبيعة .
  الان نتحدث عن الانسان ودور الانسان في الحركة التاريخية من زاوية مفهوم القرآن الكريم ، من الواضح على ضوء المفاهمي التي قرأناها سابقا ان الانسان أو المحتوى الداخلي للانسان هو الاساس لحركة التاريخ واننا ذكرنا ان حركة التاريخ تتميز عن كل الحركات الاخرى بانها حركة غائية لا سببية فقط ، ليست مشدودة الى سببها ، الى ماضيها . بل هي مشدودة الى الغاية لانها حركة هادفة لها علة غائية متطلعة الى المستقبل . فالمستقبل هو المحرك لأي نشاط من النشاطات التاريخية .
  والمستقبل معدوم فعلا وانما يحرك من خلال الوجود الذهني الذي يتمثل فيه هذا المستقبل .
  اذن فالوجود الذهني هو الحافز والمحرك والمدار لحركة التاريخ وهذا الوجود الذهني يجسد من ناحية جانبا فكريا وهو الجانب الذي يضم تصورات الهدف ، وايضا يمثل من جانب آخر الطاقة والارادة التي تحفز الانسان نحو هذا الهدف .
   اذن هذا الوجود الذهني الذي يجسد المستقبل المحرك يعبر بجانب منه عن الفكر وفي جانب آخر منه عن الارادة وبالأمتزاج بين الفكر والارادة تتحقق فاعلية المستقبل ومحركيته للنشاط التاريخي على الساحة الاجتماعية ، وهذان الامران الفكر والارادة هما في الحقيقة المحتوى الداخلي الشعوري للانسان .
  انه يتمثل في هذين الركنين الاساسيين وهما الفكر والارادة ، اذن المحتوى الداخلي للانسان هو الذي يصنع هذه الغايات ويجسد هذه الاهداف من خلال مزجه بين فكرة وارادة ،وبهذا صح القول بأن المحتوى الداخلي للانسان هو الاساس لحركة التاريخ .
  والبناء الاجتماعي العلوي بكل ما يضم من علاقات ومن انظمة ومن افكار وتفاصيل هذا البناء العلوي في الحقيقة مرتبط بهذه القاعدة في المحتوى الداخلي للانسان ويكون تغيره وتطوره تابعا لتغير هذه القاعدة وتطورها فاذا تغير الاساس تغير البناء العلوي ، واذا بقي الاساس ثابتا ، بقي البناء العلوي ثابتا .
  فالعلاقة بين المحتوى الداخلي للانسان والبناء الفوقي والتاريخي للمجتمع ، هذه العلاقة علاقة تبعية أي علاقة سبب بسبب ، هذه العلاقة تمثل سنة تاريخية تقدم الكلام عنها في قوله سبحانه وتعالى ( إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ ) (1) .
  هذه الآية واضحة جدا في المفهوم الذي اعطيناه وهو ان المحتوى الداخلي للإنسان هو القاعدة والأساس لبناء العلوي ، للحركة التاريخية لان الاية الكريمة تتحدث عن تغييرين احدهما تغيير القول ( إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ ) يعني تغيير اوضاع القوم ، شؤون القوم ، الابنية العلوية للقوم ، ظواهر القوم ، هذه لا تتغير حتى يتغير ما بأنفس القوم .
  اذن التغيير الاساس هو تغيير ما بنفس القوم والتغيير النابع المترتب على ذلك هو تغيير حالة القوم النوعية والتاريخية والاجتماعية ومن الواضح ان المقصود من تغيير ما بالانفس . تغيير ما بأنفس القوم بحيث يكون المحتوى الداخلي للقوم كقوم وكأمة وكشجرة مباركة تؤتي أكلها كل حين متغيرا .
--------------------
(1) سورة الرعد : الآية (11) .

مُقدّمَاتٌ في التفسير الموضوعي للقرآن _ 44 _
  والا تغير الفرد الواحد او الفردين او الافراد الثلاثة لا يشكل الاساس لتغير ما بالقوم ، وانما يكون تغير ما بالقوم تابعا لتغير ما بأنفسهم كقوم وكأمة وكشجرة مباركة تؤتي اكلها كل حين ، فالمحتوى النفسي والداخلي للامة كأمة لا لهذا الفرد او لذلك الفرد هو الذي يعتبر أساسا وقاعدة للتغييرات في البناء العلوي للحركة التاريخية كلها .
  والاسلام والقرآن الكريم يؤمن بأن العمليتين يجب ان تسيرا جنبا الى جنب في عملية صنع الانسان لمحتواه الداخلي وبناء الانسان لنفسه ولفكره ولارادته ولمطموحاته .
  هذا البناء الداخلي يجب ان يسير جنبا الى جنب مع البناء الخارجي ، مع الابنية العلوية ولا يمكن ان يفترض انفكاك البناء الداخلي عن البناء الخارجي الا اذا بقي البناء الخارجي بناءا مهزوزا متداعيا .
   ولهذا سمى الاسلام عملية بناء المحتوى الداخلي اذا اتجهت اتجاها صالحا بـ ( الجهاد الاكبر ) ، وسمى عملية البناء الخارجي اذا اتجهت اتجاها صالحا بعملية ( الجهاد الاصغر ) وربط الجهاد الاصغر بالجهاد الاكبر واعتبر ان الجهاد الاصغر اذا فصل عن الجهاد الاكبر فقد محتواه ومضمونه ، بل فقد قدرته على التغيير الحقيقي على الساحة التاريخية والاجتماعية . اذن هاتان العمليتان يجب ان تسيرا جنبا الى جنب .
  فاذا انفكت احداهما عن الاخرى فقدت حقيقتها ومحتواها وسمى الاسلام العملية الاولى عملية بناء المحتوى الداخلي بالجهاد الاكبر تأكيد على الصفة الاساسية للمحتوى الداخلي وتوضيحا لهذه الحقيقة ، حقيقة ان المحتوى الداخلي للانسان هو الاساس ولهذا سمي بالجهاد الاكبر . فاذا بقي الجهاد الاصغر منفصلا عن الجهاد الاكبر ، حينئذ لا يحقق ذلك في الحقيقة أي مضمون تغييري صالح . القرآن الكريم يعرض لحالة من حالات انفصال عملية البناء الخارجي عن عملية البناء الداخلي قال سبحانه وتعالى ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ ) (1) يريد ان يقول بان الانسان اذا لم ينفذ بعملية التغيير الى قلبه والى اعماق روحه ، اذا لم يبن نفسه بناءا صالحا لا يمكنه ابدا ان يطرح الكلمات الصالحة .
  التي يمكن ان تتحول الى بناء صالح في المجتمع اذا نبعت عن قلب يعمر بالقيم التي تدل عليها تلك الكلمات والا فتبقى الكلمات مجرد الفاظ جوفاء دون ان يكون لها مضمون ومحتوى . فمسألة القلب هي التي تعطي للكلمات معناها وللشعارات ابعادها ولعملية البناء الخارجي اهدافها ومسارها .
--------------------
(1) سورة البقرة : الآية (204 ـ 205) .

مُقدّمَاتٌ في التفسير الموضوعي للقرآن _ 45 _
  الى هنا عرفنا ان الاساس في حركة التاريخ هو المحتوى الداخلي للانسان . وهذا المحتوى الداخلي للانسان يشكل القاعدة ، الان نتساءل : ما هو الاساس في هذا المحتوى الداخلي نفسه ، ما هي نقطة البدء في بناء هذا المحتوى الداخلي للانسان ، وما هو المحور الذي يستقطب عملية بناء المحتوى الداخلي للانسان ؟ هو المثل الاعلى ، عرفنا ان المحتوى الداخلي للانسان يجسد الغايات التي تحرك التاريخ ، يجسدها من خلال وجودات ذهنية تمتزج فيها الارادة بالتفكير . وهذه الغايات التي تحرك التاريخ يحددها المثل الاعلى .
  فانها جميعا تنبثق عن وجهة نظر رئيسية الى مثل اعلى للانسان في حياته ، للجماعة البشرية في حياتها ، وهذا المثل الاعلى هو الذي يحدد الغايات التفصيلية وينبثق عنه هذا الهدف الجزئي وذلك الهدف الجزئي فالغايات بنفسها محركة للتاريخ وهي بدورها نتاج لقاعدة اعمق منها في المحتوى الداخلي للانسان وهو المثل الاعلى الذي تتمحور فيه كل تلك الغايات وتعود اليه كل تلك الاهداف .
   فبقدر ما يكون المثل الاعلى للجماعة البشرية صالحا وعاليا وممتدا تكون الغايات صالحة وممتدة ، وبقدر ما يكون هذا المثل الاعلى محدودا او منخفضا تكون الغايات المنبثقة عنه محدودة ومنخفضة ايضا .
  اذن المثل الاعلى هو نقطة البدء في بناء المحتوى الداخلي للجماعة البشرية . وهذا المثل الاعلى يرتبط في الحقيقة بوجهة نظر عامة الى الحياة والكون ، يتحدد من قبل كل جماعة بشرية على اساس وجهة نظرها العامة نحو الحياة والكون ، على ضوء ذلك تحدد مثلها الاعلى . ومن خلال الطاقة الروحية التي تتناسب مع ذلك المثل الاعلى ومع وجهة نظرها الى الحياة والكون تحقق ارادتها للسير نحو هذا المثل وفي طريق هذا المثل .
  اذن هذا المثل الاعلى هو في الحقيقة ايضا يتجسد من خلال رؤية فكرية ومن خلال طاقة روحية تزحف بالانسان في طريقة ، وكل جماعة اختارت مثلها الاعلى ، فقد اختارت في الحقيقة سبيلها وطريقها ومنعطفات هذا السبيل وهذا الطريق كما رأينا ان الحركة التاريخية تتميز عن أي حركة اخرى في الكون بانها حركة غائية وهادفة وكذلك تتميز وتتمايز الحركات التاريخية انفسها بعضها عن بعض بمثلها العليا .
  فلكل حركة تاريخية مثلها الاعلى ، وهذا المثل الاعلى هو الذي يحدد الغايات والاهداف وهذه الاهداف والغايات هي التي تحدد النشاطات والتحركات ضمن مسار ذلك المثل الاعلى ، والقرآن الكريم والتعبير الديني يطلق على المثل الاعلى فيجملة من الحالات اسم الاله باعتبار ان المثل الاعلى هو القائد الآمر المطاع الموجه .
   هذه صفات يراها القرآن لاله ولهذا يعبر عن كل من يكون مثل اعلى ، كل ما يمثل مركز المثل الاعلى يعبر عنه بالاله لانه هو الذي يصنع مسار التاريخ ، حتى ورد في قوله سبحانه وتعالى ( أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاه ) (1) عبر حتى عن الهوى حينما يتصاعد تصاعدا مصطنعا فيصبح هو المثل الاعلى وهو الغاية القصوى لهذا الفرد او لذاك ، عبر عنه بانه اله .
  فالمثل العليا بحسب التعبير القرآني والديني هي آلهة في الحقيقة لانها هي المعبودة حقا وهي الآمرة والناهية حقا وهي المحركة حقا ، فهي آلهة في المفهوم الديني والاجتماعي . وهذه المثل العليا التي تتبناها الجمعات البشرية على ثلاثة اقسام :
--------------------
(1) سورة الفرقان : الآية (43) .

مُقدّمَاتٌ في التفسير الموضوعي للقرآن _ 46 _
 القسم الاول : المثل الاعلى الذي يستمد تصوره من الواقع نفسه ، ويكون منتزعا من واقع ما تعيشه الجماعة البشرية من ظروف وملابسات ، أي ان الوجود الذهني الذي صاغ المستقبل هنا لم يستطع يرتفع على هذا الواقع بل انتزع مثله الاعلى من هذا الواقع بحدوده وبقيوده وبشؤونه . وحينما يكون المثل الاعلى منتزعا عن واقع الجماعة بحدودها وقيودها وشؤونها تصبح حالة تكرارية ، تصبح بتعبير آخر محاولة لتجميد هذا الواقع وحمله الى المستقبل بدلا عن التطلع اليه فقط يكون في الحقيقة تجميدا لهذا الواقع وتحويله من حالة نسبية ومن امر محدود الى امر مطلق لان الانسان يعترضه هدفا ومثلا اعلى وحينما يتحول هذا الواقع من امر محدود الى هدف مطلق ، الى حقيقة مطلقة لا يتصور الانسان شيئا وراءها .
  حينما يتحول الى ذلك ، سوف تكون حركة التاريخ حركة تكرارية لحالة سابقة ولهذا سوف يكون المستقبل تكرارا للواقع وللماضي .
  هذا النوع من الآلهة يعتمد على تجميد الواقع وتحويل ظروفه النسبية الى ظروف مطلقة لكي لا تستطيع الجماعة البشرية ان تتجاوز الواقع وان ترتفع بطموحاتها عن هذا الواقع ، تبني هذا النوع من المثل العليا له احد سببين : السبب الاول الالفة والعادة والخمول والضياع ، وهذا سبب نفسي ، واذا انتشرت هذه الحالة في مجتمع حينئذ يتجمد ذلك المجتمع لانه سوف يصنع الهة من واقعه ، سوف يحول هذا الواقع النسبي المحدود الذي يعيشه الى حقيقة مطلقة ، الى مثل اعلى الى هدف لا يرى وراءه شيئا ، وهذا في الحقيقة هو ما عرضه القرآن الكريم في كثير من الآيات التي تحدثت عن المجتمعات التي واجهت الانبياء حينما جاؤها بمثل عليا حقيقية ترتفع عن الواقع وتريد ان تحرك هذا الواقع وتنتزعه من حدوده النسبية الى وضع آخر .
  واجه هؤلاء الانبياء مجتمعات سادتها حالة الالفة والعادة والتميع فكان هذا المجتمع يرد على دعوة الانبياء ويقول باننا وجدنا اباءنا على هذه السنة ، وجدنا آباءنا على هذه الطريقة ونحن متمسكون بمثلهم الاعلى ، سيطرة الواقع على اذهانهم وتغلغل الحس في طموحاتهم بلغ الى درجة تحول هذا من خلالها الى انسان حسي لا الى انسان مفكر ، الى الى انسان يكون ابن يومه دائما ، ابن واقعه دائما لا أبا يومه أبا واقعه .
  ولهذا لا يستطيع ان يرتفع على هذا الواقع ، لاحظوا القرآن الكريم وهو يقول ( قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُون ) (1) .
   ( قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا ، أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون ) (2) .
   ( قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِين ) (3) .
  ( أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيب ) (4) ، ( قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى قَالُواْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ) (5) ( بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ )(6) في كل هذه الآيات يستعرض القرآن الكريم السبب الاول لتبني المجتمع هذا المثل الاعلى المنخفض .
  هؤلاء بحكم الالفة والعادة وبحكم التميع والفراغ وجدوا سنة قائمة . وجدوا وضعا قائما فلم يسمحوا لانفسهم بأن يتجاوزوه بل جسدوه كمثل اعلى وعارضوا به دعوات الانبياء على مر التاريخ ، هذا هو السبب الاول لتبني هذا المثل الاعلى المنخفض .
--------------------
(1) سورة البقرة : الآية (170) .
(2) سورة المائدة : الآية (104) .
(3) سورة يونس : الآية (78) .
(4) سورة نوح : الآية (62) .
(5) سورة إبراهيم : الآية (10) .
(6) سورة الزخرف : الآية (22) .

مُقدّمَاتٌ في التفسير الموضوعي للقرآن _ 47 _
  السبب الثاني لتبني هذا المثل الاعلى المنخفض هو التسلط الفرعوني على مر التاريخ ، الفراعنة حينما يحتلون مراكزهم يجدون في أي تطلع الى المستقبل وفي أي تجاوز للواقع الذي سيطروا عليه ، يجدون في ذلك زعزعة لوجودهم وهزا لمراكزهم .
  من هنا كان من مصلحة فرعون على مر التاريخ ان يغمض عيون الناس على هذا الواقع ، ان يحول الواقع الذي يعيشه مع الناس الى مطلق ، الى اله ، الى مثل أعلى لا يمكن تجاوزه ، يحاول ان يحبس وان يضع كل الامة في اطار نظرته هو ، في اطار وجوده هو لكي لا يمكن لهذه الامة ان تفتش عن مثل اعلى ينقلها من الحاضر الى المستقبل من واقعه الى طموح آخر أو أكبر من هذا الواقع .
  هنا السبب اجتماعي لا نفسي ، السبب خارجي لا داخلي ، وهذا ايضا ما عرضه القرآن الكريم ( وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ ) (1) ( قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَاد ) (2) هنا فرعون يقول ما أريكم الا ما ارى يريد ان يضع الناس الذين يعبدونه كلهم في اطار رؤيته في اطار نظرته ، يحول هذه النظرة وهذا الواقع ، الى مطلق لا يمكن تجاوزه هنا الذي يجعل المجتمع يتبنى مثلا اعلى مستمد من الواقع هو التسلط الفرعوني الذي يرى في تجاوز هذا المثل الاعلى خطرا عليه وعلى وجوده .
  قال الله سبحانه وتعالى ( ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ * فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ ) (3) نحن غير مستعدين ان نؤمن بهذا المثل الاعلى الذي جاء به موسى لانه سوف يزعزع عبادة قوم موسى وهارون لنا .
  اذن هذا التجميد ضمن اطار الواقع الذي تعيشه الجماعة أي جماعة بشرية ينشأ من حرص أولئك الذين تسلطوا على هذه الجماعة على ان يضمنوا وجودهم ويضمنوا الواقع الذي هم فيه وهم بناته ، هذا هو السبب الثاني الذي عرضه القرآن الكريم .
  والقرآن الكريم يسمى هذا النوع من القوى التي تحاول ان تحول هذا الواقع المحدود الى مطلق وتحصر الجماعة البشرية في اطار هذا المحدود ، يسمي هذا بالطاغوت . قال سبحانه وتعالى ( وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ ) (4) .
  لاحظوا ذكر صفة اساسية مميزة لمن اجتنب عبادة الطاغوت ما هي ؟
  قال ( فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ) (5) .
  يعني لم يجعلوا هناك قيدا على ذهنهم ، لم يجعلوا أطارا محدودا لا يمكنهم ان يتجاوزوه ، جعلوا الحقيقة مدار همهم هدفهم ولهذا يستمعون القول فيتبعون أحسنه يعني هم في حالة تطلع وموضوعية تسمح لهم بان يجدوا الحقيقة يتبعوها .
  بينما لو كانوا يعبدون الطاغوت ، حينئذ يكونون في اطار هذا الواقع الذي يريده الطاغوت ، سوف لن يستطيعو أن يستمعوا الى القول فيتبعون احسنه وانما يتبعون فقط ما يراد لهم ان يتبعوه ، هذا هو السبب الثاني لاتباع وتبني هذه المثل ، اذن خلاصة ما مر بنا حتى الان : أن التاريخ يتحرك من خلال البناء الداخلي للانسان الذي يصنع للانسان غاياته هذه الغايات تبني على اساس المثل الاعلى الذي تنبثق عنه تلك الغايات لكل مجتمع مثل اعلى ولكن مثل اعلى مسار ومسيرة وهذا المثل الاعلى هو الذي يحدد في تلك المسيرة معالم الطريق وهو على ثلاثة أقسام حتى الان استعرضنا القسم الاول من المثل العليا وهو المثل الاعلى الذي ينبثق تصوره عن الواقع ويكون منتزعا عن الواقع الذي تعيشه الجماعة وهذا مثل أعلى تكراري .
--------------------
(1) سورة القصص : الآية (38) .
(2) سورة غافر : الآية (29) .
(3) سورة المؤمنون : الآية (45 ـ 47) .
(4) سورة الزمر : الآية (17 ـ 18) .
(5) سورة الزمر : الآية (17 ـ 18) .

مُقدّمَاتٌ في التفسير الموضوعي للقرآن _ 48 _
  وتكون الحركة التاريخية في ظل هذا المثل الاعلى حركة تكرارية ، أخذ الحاضر لكي يكون هو المستقبل وقلنا بان تبني هذا النوع من المثل الاعلى يقود الى احد سببين بحسب تصورات القرآن الكريم .
  السبب الاول سبب نفسي وهو الالفة والعادة والضياع والسبب الاخر سبب خارجي وهو تسلط الفراعنة والطواغيت على مر التاريخ .

الدرس العاشر
  هذه المثل العليا المنخفضة المتنوعة عن الواقع والتي تحدثنا عنها في الدرس السابق في كثير من الاحيان تتخذ طابع الدين ويسبغ عليها هذا الطابع من اجل اعطائها قدسية تحافظ على بقائها واستمرارها على الساحة كما رأينا في الايات الكريمة المتقدمة كيف ان المجتمعات التي رفضت دعوة الانبياء كثيرا ما كانت تصر على التمسك بعبادة الاباء وبدين الاباء بالمثل الاعلى المعبود للاباء بل ان الحقيقة أن كل مثل اعلى من هذه المثل العليا المنخفضة لا ينفك عن الثوب الديني سواء ابرز بشكل صريح او لم يبرز لان المثل الاعلى دائما يحتل مركز الاله بحسب التعبير القرآني والاسلامي ، ودائما تستبطن علاقة الامة بمثلها الاعلى نوعا من العبادة ، من العبادة لهذا المثل الاعلى وليس الدين بشكلها العام الاعلاقة عابد بمعبود .
  اذا المثل الاعلى لا ينفك عن الثوب الديني سواء كان ثوبا دينيا صريحا او ثوبا دينيا مستترا مبرقعا تحت شعارات اخرى فهو في جوهره دين وفي جوهره عبادة وانسياق ، الا ان هذه الاديان التي تفرزها هذه المثل العليا المنخفضة اديان محدودة تبعا لمحدودية نفس هذه المثل لما كانت هذه المثل مثلا منخفضة ومحدودة قد حولت بصورة مصطنعة الى مطلقات والا هي في الحقيقة ليست الا تصورات جزئية عبر الطريق الطويل الطويل للانسان ، الا أنها حولت الى مطلقات بصورة مصطنعة .
  اذن هذه المحدودية في المثل تعكس الاديان التي تفرزها فالاديان التي تفرزها هذه المثل او بالتعبير الاخرى الاديان التي يفرزها الانسان من خلال صنع هذه المثل ، ومن خلال عملقة هذه المثل وتطويرها من تصورات الى مطلقات هذه الاديان تكون اديانا محدودة وضئيلة ، وتجزئة وهذه التجزئة في مقابل دين التوحيد الذي سوف نتكلم عنه حينما نتحدث عن مثله الاعلى القادر على استيعاب البشرية بابعادها واديان التجزئة هذه وهذه الالهة ، التي فرزها الانسان بين حين وحين هي التي يعبر عنها القرآن الكريم بقوله ( إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم ) (1) فهذه الآلهة التي يفرزها الانسان ، هذا الدين الذي يصنعه الانسان ، وهذا المثل الاعلى الذي هو نتاج بشري ، هذا لا يمكن ان يكون هو الدين القيم ، لا يمكن ان يكون هو المصعد الحقيقي للمسيرة البشرية لان المسيرة البشرية لا يمكن ان تخلق الهها بيدها .
  المجتمعات والامم التي تعيش هذا المثل الاعلى المنخفض المستمد من واقع الحياة ، قلنا بأنها تعيش حالة تكرارية يعني ان حركة التاريخ تصبح حركة تماثلية وتكرارية وهذه الامة تأخذ بيدها ماضيها الى الحاضر وحاضرها الى المستقبل ليس لها مستقبل في الحقيقة وانما مستقبلها هو ماضيها ومن هنا اذا تقدمنا خطوة في تحليل ومراقبة ومشاهدة اوضاع هذه الامة التي تتمسك بمثل من هذا القبيل اذا تقدمنا خطوة الى الامام نجد ان هذه الامة بالتدريج سوف تفقد ولاءها لهذا المثل ايضا لن تظل متمسكة بهذا المثل لان هذا المثل بعد ان يفقد فاعليته وقدرته على العطاء بعد ان يصبح نسخة من الواقع ويصبح اجرا مفروضا ومحسوسا وملموسا وغير قادر على تطوير البشرية وتصعيدها في مسارها الطويل ، تفقد هذه البشرية وهذه الجماعة بالتدريج ولاءها لهذا المثل ومعنى انها تفقد ولاءها لهذا المثل يعني ان القاعدة الجماهيرية الواسعة في هذه الامة سوف تتمزق وحدتها لان وحدة هذه القاعدة انما هي بالمثل الواحد فاذا ضاع المثل ضاعت هذه القاعدة .
--------------------
(1) سورة النجم : الآية (23) .

مُقدّمَاتٌ في التفسير الموضوعي للقرآن _ 49 _
  هذه الامة بعد ان تفقد ولاءها لهذا المثل تصاب بالتشتت ، بالتمزق ، بالتبعثر ، تكون كما وصف القرآن الكريم ( بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُون ) (1) .
  بأسهم بينهم شديد باعتبار أن هذه الامة التي لا يجمعها شيء الا تماثل الوجوه وتقارب الوجوه لا يجمعها مثل اعلى لا تجمعها طريقة مثلى ، لا يجمعها سبيل واحد ، قلوب متفرقة اهواء متشتتة ارواح مبعثرة وعقول مجمدة في حالة من هذا القبيل لا تبقى امة وانما يبقى شبح امة فقط ، وفي ظل هذا الشبح سوف ينصرف كل فرد في هذه الامة ينصرف الى همومه الصغيرة ، الى قضاياه المحدودة لانه لا يوجد هناك مثل اعلى تلتف حوله الطاقات ، تلتف حوله القابليات والامكانات تحشد من اجله التضحيات لا يوجد هذا المثل الاعلى حينما يسقط هذا المثل الاعلى تسقط الراية التي توحد الامة ، يبقى كل انسان مشدود الى حاجاته المحدودة ، الى مصالحه الشخصية الى تفكيره في اموره الخاصة كيف يصبح وكيف يمسي وكيف ياكل وكيف يشرب وكيف يوفر الراحة والاستقرار له ولاولاده ولعائلته أي راحة وأي استقرار ، الراحة بالمعنى لرخيص ، بالمعنى القصير من الاستقرار يبقى كل انسان سجين حاجاته الخاصة ، سجين رغباته الخاصة يبقى يدور ويلتف حول هذه الرغبات وحول هذه الحاجات لا يرى غيرها ان لا يوجد المثل ، اذ ضاع المثل وتفتت وسقط في حالة من حالات هذه الامة ، قلنا بأن الامة تتحول الى شبح لا يبقى امة حقيقية ، وانما هناك شبح امة وقد علمنا التاريخ انه في حالة من هذا القبيل توجد ثلاث اجراءات ، ثلاث بدائل يمكن ان تنطبق على حالة هذه الامة الشبح .
  الاجراء التاريخي الاول هو ان تتداعى هذه الامة امام غزو عسكري من الخارج لان هذه الامة التي افرغت من محتواها ، التي تخلت عن وجودها كأمة ، وبقيت كأفراد كل انسان يفكر في طعامه ولباسه ودار سكناه ولا يفكر في الامة من يفكر .
   اذا ففي وضع من هذا القبيل يمكن ان تتداعى هذه الامة امام غزو من الخارج ، وهذا ما وقع بالفعل بعد ان فقد المسلمون مثلهم الاعلى وفقدوا ولاءهم لهذا المثل الاعلى ووقعوا فريسة غزو التتار حينما سقطت حضارة المسلمين بايدي التتار هذا هو الاجراء التاريخي الاول . والاجراء التاريخي الثاني : هو الذوبان والانصهار في مثل اعلى اجنبي في مثل مستورد من الخارج هذه الامة بعد ان فقدت مثلها العليا النابعة منها فقدت فاعليتها واصالتها حينئذ تفتش عن مثل اعلى من الخارج تعطيه ولاءها لكي تمنحه قيادتها .
   هذا هو الاجراء التاريخي الثاني والاجراء التاريخي الثالث ان ينشأ في اعماق هذه الامة بذور اعادة المثل الاعلى من جديد بمستوى العصر الذي تعيشه الامة ، هذان الاجراءان ، الثاني والثالث وقفت الامة امامهما على مفترق طريقين حينما دخلت عصر الاستعمار ، كان هناك طريق يدعوها الى الانصهار في مثل اعلى من الخارج هذا الطريق الذي طبقه جملة من حكام المسلمين في بلاد المسلمين ( رضاخان ) في ايران و ( اتاتورك ) في تركيا ، حاول هؤلاء ان يجسدوا المثل الاعلى للانسان الاوروبي المنتصر ويطبقوا هذا المثل الاعلى ويكسبوا ولاء المسلمين انفسهم لهذا المثل الاعلى بعد ان ضاع المثل الاعلى في داخل المسلمين ، بينما رواد الفكر الاسلامي في بدايات عصر الاستعمار وفي أواخر الفترة التي سبقت عصر الاستعمار ، رواد الفكر الاسلامي ورواد النهضة الاسلامية اطلقوا جهودهم في سبيل الاجراء الثالث في سبيل اعادة الحياة الى الاسلام من جديد في سبيل انتشار هذا المثل الاعلى واعادة الحياة اليه وتقديمه بلغةالعصر وبمستوى العصر وبمستوى حاجات المسلمين . الامة تتحول الى شبح فتواجه احد هذه الاجراءات الثلاثة .
--------------------
(1) سورة الحشر : الآية (14) .

مُقدّمَاتٌ في التفسير الموضوعي للقرآن _ 50 _
  الان تكلمنا عن امة هذه الالهة المنخفضة ، اذا تقدمنا خطوة نجد المثل التكراري يتمزق ، ان الامة تفقد ولاءها ، ان الامة تتحول الى شبح احد هذه اجراءات الثلاثة ، الان نرجع الى الوراء خطوة . سوف نواجه النوع الثاني من الالهة من المثل العليا اليس قلنا في البداية ان المثل العليا عكس ثلاثة انواع ، تكلمنا الان عن النوع الاول .
  اذا رجعنا خطوة اخرى الى الوراء وهذا ما سوف اشرح معناه بعد لحظات ، سوف نواجه النوع الثاني من الالهة من المثل العليا .
  هذا النوع الثاني يعبر عن كل مثل أعلى للامة يكون مشتقا من طموح الامة ، من تطلعها نحو المستقبل ، ليس هذا المثل تعبير تكراريا عن الواقع بل هو تطلع الى المستقبل وتحفز نحو الجديد والابداع ، والتطوير ولكن هذا المثل منتزع عن خطوة واحدة من المستقبل منتزع عن جزء من هذا الطريق الطويل المستقبلي أي ان هذا الطموح الذي منه انتزعت الامة مثلها كان طموحا محدودا كان طموحا مفيدا لم يستطع ان يتجاوز المسافات الطويلة ، وانما استطاع ان يكون رؤية مستقبلية محدودة ، وهذه الرؤية المستقبلية المحدودة انتزع منها مثلها الاعلى وفي هذا المثل الاعلى جانب موضوعي صحيح ولكنه يحتوي على امكانيات خطر كبير اما الجانب الموضوعي الصحيح فهو ان الانسان عبر مسيرته الطويلة لا يمكنه ان يستوعب برؤيته الطريق الطويل الطويل كله ، لا يمكنه ان يستوعب المطلق لان الذهن البشري محدود والذهن البشري المحدود لا يمكن ان يستوعب المطلق وانما هو دائما يستوعب نفحة من المطلق ، شيئا من المطلق يأخذ بيده قبضة من المطلق تنير له الطريق ، تنير الدرب .
  فكون دائرة الاستيعاب البشري محدودة هذا أمر طبيعي أمر صحيح وموضوعي ، ولكن الخطير في هذه المسألة ان هذه القبضة التي يقبضها الانسان من المطلق هذه القبضة هذه الكومة المحدودة ، هذه الومضة من النور التي يقبضها من هذا المطلق يحولها الى نور السماوات والارض ، يحولها الى مثل اعلى ، يحولها الى مطلق .
  هنا يكمن الخطر لانه حينما يصنع مثله الاعلى وينتزع هذا المثل من تصور ذهني محدود للمستقبل ، لكن يحول هذا التصور الذهني المحدود الى مطلق حينئذ هذا المثل الاعلى سوف يخدمه في المرحلة الحاضرة سوف يهيء له امكانية النمو بقدر طاقات هذا المثل ، بقدر ما يمثل للمستقبل ، بقدر امكاناته المستقبلية سوف يحرك هذا الانسان وينشطه لكن سرعان ما يصل الى حدوده القصوى ، وحينئذ سوف يتحول هذا المثل نفسه الى قيد للمسيرة ، الى عائق عن التطور ، الى مجمد لحركة الانسان لانه اصبح مثلا اصبح الها ، أصبح دينا ، أصبح واقعا قائما ، وحينئذ سوف يكون بنفسه عقبة أمام استمرار زحف الانسان نحو كماله الحقيقي ، وهذا المثل الذي يعمم خطأ يحول من محدود الى مطلق خطأ .
  التعميم فيه تارة يكون تعميما افقيا خاطئا وأخرى تعميما زمنيا خاطئا ، هناك تعميمان خاطئان لهذا المثل ، هناك تعميم افقي خاطئ وهناك تعميم زمني عمودي خاطئ .
  التعميم الأفقي الخاطئ : ان ينتزع الانسان من تصوره المستقبلي مثلا ويعتبر ان هذا المثل يضم كل قيم الانسان التي يجاهد من اجلها ويناضل في سبيلها ، بينما هذا المثل على الرغم من صحته الا انه لا يمثل الا جزءا من هذه القيم .
   فهذا التعميم تعميم افقي خاطئ هذا المثل يكون معبرا عن جزء من افق الحركة بينما جرد منه ما يملأ كل افق الحركة ، الانسان الاوروبي الحديث في بدايات عصر النهضة وضع مثلا اعلى وهو الحرية جعل الحرية مثلا اعلى لانه راى ان الانسان الغربي كان محطما ومقيدا ، كانت على يديه الاغلال في كل ساحات الحياة كان مقيدا في عقائده العلمية والدينية بحكم الكنيسة وتعنتها كان مقيدا في قوته ورزقه بأنظمة الاقطاع كان مقيدا اينما يسير .