الدرس السادس
قلنا ان الساحة التاريخية ساحة اهتمامات المؤرخين لا يستوعبها كل التاريخ لان هذه الساحة تشتمل على ظواهر كونية وطبيعية ، فيزيائية وحياتية وفسلجية ايضا .
هذه الظواهر تحكمها قوانينها النوعية على الرغم من ان بعض هذه الظواهر ذات اهمية بالمنظار التاريخي ، من منظار المؤرخين تعتبر هذه حوادث ذات اهمية لها بعد زمني في امتداد وتيار الحوادث التاريخية ولكنها مع هذا لا تحكمها سنن التاريخ بل تحكمها سننها الخاصة .
سنن التاريخ تحكم ميدانا معينا من الساحة التاريخية ، هذا الميدان يشتمل على ظواهر متميزة تميزا نوعيا عن سائر الظواهر الكونية والطبيعية وباعتبار هذا التميز النوعي استحقت سننا متميزة ايضا تميزا نوعيا عن سنن بقية الساحات الكونية .
المميز العام للظواهر التي تدخل في نطاق سنن التاريخ هو ان هذه الظواهر تحمل علامة جديدة لم تكن موجودة في سائر الظواهر الاخرى الكونية والطبيعية والبشرية .
الظواهر الكونية والطبيعية كلها تحمل علاقة ظاهرة بسبب مسبب بسبب نتيجة بمقدمات ، هذه العلاقة موجدوة في كل الظواهر الكونية والطبيعية ، الغليان ظاهرة طبيعية مرتبطة بظروف معينة ، بدرجة حرارة معينة ، بدرجة معينة ممن قرب هذا الماء من النار .
هذا الارتباط ارتباط المسبب بالسبب ، العلاقة هنا علاقة السببية ، علاقة الحاضر بالماضي ، بالظروف المسبقة المنجزة ، لكن هناك ظواهر على الساحة التاريخية تحمل علاقة من نمط آخر وهي علاقة ظاهرة بهدف علاقة نشاط بغاية او ما يسميه الفلاسفة بالعلة الغائية تميزا عن العلة الفاعلية ، هذه العلاقة علاقة جديدة متميزة ، غليان الماء بالحرارة ، يحمل مع سببه مع ماضيه لكن لا يحمل علاقة مع غاية ومع هدف مالم يتحول الى فعل انساني والى جهد بشري بينما العمل الانساني الهادف يحتوي على علاقة لا فقط مع السبب ، لا فقط مع الماضي ، بل مع الغاية التي هي غير موجودة حين انجاز هذا العمل وانما يترقب وجودها .
أي العلاقة هنا علاقة مع المستقبل لا مع الماضي ، الغاية دائما تمثل المستقبل بالنسبة الى العمل ، بينما السبب يمثل الماضي بالنسبة الى هذا العمل .
فالعلاقة التي يتميز بها العمل التاريخي ، العمل الذي تحكمه سنن التاريخ هو انه عمل هادف ، عمل يرتبط بعلة غائية سواءا كانت هذه الغاية صالحة او طالحة ، نظيفة أو غير نظيفة ، على أي حال يعتبر هذا عملا هادفا.
يعتبر نشاطا تاريخيا يدخل في نطاق سنن التاريخ على هذا الاساس وهذه الغايات التي يرتبط بها هذا العمل الهادف المسؤول ، هذه الغايات حيث انها مستقبلية بالنسبة الى العمل فهي تؤثر من خلال وجودها الذهني في العامل لا محالة ، لانها بوجودها الخارجي ، بوجودها الواقعي ، طموح وتطلع الى المستقبل ، ليست موجودة وجودا حقيقيا وانما تؤثر من خلال وجودها الذهني في الفاعل .
مُقدّمَاتٌ
في التفسير الموضوعي للقرآن
_ 28 _
اذن المستقبل أو الهدف الذي يشكل الغاية للنشاط التاريخي يؤثر في تحريك هذا النشاط وفي بلورته من خلال الوجود الذهني أي من خلال الفكر الذي يمثل فيه الوجود الذهني للغاية ضمن شروط ومواصفات ، حينئذ يؤثر في ايجاد هذا النشاط ، اذ حصلنا الان على مميز نوعي للعمل التاريخي لظاهرة على الساحة التاريخية ، هذا المميز غير موجود بالنسبة الى سائر الظواهر الاخرى على ساحات الطبيعة المختلفة ، هذا المميز ظهور علاقة فعل بغاية نشاط بهدف في التفسير الفلسفي ، ظهور دور العلة الغائية ، كون هذا الفعل متطلعا الى المستقبل ، كون المستقبل محركا لهذا الفعل من خلال الوجود الذهني الذي يرسم للفاعل غايته أي من خلال الفكر اذن هذا هو في الحقيقة دائرة السنن النوعية للتاريخ .
السنن النوعية للتاريخ موضوعها ذلك الجزء من الساحة التاريخية الذي يمثل عملا له غاية ، عملا يحمل علاقة اضافية الى العلاقات الموجودة في الظاهرة الطبيعية وهي العلاقة بالغاية والهدف ، بالعلة الغائية ، لكن ينبغي هنا أيضا انه ليس كل عمل له غاية هو عمل تاريخي ، هو عمل تجري عليه سنن التاريخ بل يوجد بعد ثالث لا بد ان يتوفر لهذا العمل لكي يكون عملا تاريخيا أي عملا تحكمه سنن التايخ .
البعد الاول كان هو ( السبب ) و البعد الثاني كان هو الغاية ( الهدف )،
لا بد اذن من بعد ثالث لكي يكون هذا العمل داخلا في نطاق سنن التاريخ ، هذا البعد الثالث هو ان يكون لهذا العمل أرضية تتجاوز ذات العامل ، ان تكون ارضية العمل هي عبارة عن المجتمع ، العمل الذي يخلق موجا ، هذا الموج يتعدى الفاعل نفسه ويكون أرضيته الجماعة التي يكون هذا الفرد جزءا منها طبعا الامواج على اختلاف درجاتها هناك موج محدود ، هناك موج كبير .
لكن العمل لا يكون عملا تاريخيا الا اذا كان له موج يتعدى حدود العامل الفردي ، قد يأكل الفرد اذا جاع ، ويشرب اذا عطش ، وينام اذا أجس بحاجته الى النوم ، لكن هذه الاعمال على الرغم من انها اعمال هادفة أيضا تريدان تحقق غايات ولكنها اعمال لا يمتد موجها اكثر من العامل خلافا لعمل يقوم به الانسان من خلال نشاط اجتماعي وعلاقات متبادلة مع افراد جماعته ، فمثلا التاجر حينما يعمل عملا تجاريا أو القائد حينما يعمل عملا حربيا أو السياسي حينما يمارس عملا سياسيا ، المفكر حينما يتبنى وجهة نظر في الكون والحياة ، هذه الاعمال موج يتعدى شخص العامل ، يتخذ من المجتمع ارضية له ، ويمكننا ايضا ان نستعين بمصطلحات الفلاسفة فنقول : المجتمع يشكل علة مادية لهذا العمل ، يتبدل من مصطلحات الفلاسفة التمييز الارسطي بين العلة الفاعلية والعلة الغائية والعلة المادية ، هنا نستعين بهذه المصطلحات لتوضيح الفكرة .
فنقول المجتمع يشكل علة مادية لهذا العمل ، أي ارضية العمل ، لحالة من هذا القبيل يعتبر هذا العمل عملا تاريخيا ويعتبر عملا للامة وللمجتمع وان كان الفاعل المباشر في جملة من الأحيان هو فرد واحد أو عدد من الافراد ولكن باعتبار الموج يعتبر المجتمع ، اذن العمل التاريخي الذي تحكمه سنن التاريخ هو العمل الذي يكون حاملا لعلاقة مع هدف وغاية ويكون في نفس الوقت ذا ارضية اوسع من حدود الفرد ، ذا موج يتخذ من المجتمع علة مادية له وبهذا يكون عمل المجتمع .
مُقدّمَاتٌ
في التفسير الموضوعي للقرآن
_ 29_