اراد الانسان الاوروبي الرائد لعصر النهضة ان يحرر هذا الانسان من هذه القيود ، من قيود الكنيسة ، من قيود الاقطاع اراد ان يجعل من الانسان كائنا مختارا اذا اراد ان يفعل يفعل ، يفكر بعقله لا بعقل غيره ويتصور ويتأمل بذاته ولا يستمد هذا التصور كصيغ ناجزة من الاخرين ، وهذا شيء صحيح الا ان الشيء الخاطئ في ذلك هو التعميم الافقي فان هذه الحرية بمعنى كسر القيود عن هذا الانسان ، هذا قيمة من القيم هذا اطار للقيم ولكن هذا وحده لا يصنع الانسان ، انت لا تستطيع ان تصنع الانسان بان تكسر عنه القيود وتقول له افعل ما شئت ، لا يوجد انسان ولا كائن ، لا يوجد اقطاعي ولا قسيس ولا سلطان ولا طاغوت يضطرك الى موقف او يفرض عليك موقفا .
  هذا وحده لا يكفي فان كسر القيوم انما يشكل الاطار للتنمية البشرية الصالحة ، يحتاج هذا الى مضمون الى محتوى مجرد انه يستطيع ان يتصرف ، يستطيع ان يمشي في الاسواق هذا لا يكفي ، اما كيف ويمشي وما هو الهدف الذي من اجله يمشي في الاسواق المحتوى والمضمون هو الذي فات الانسان الاوربي ، الانسان الاوربي جعل الحرية هدفا وهذا صحيح ولكنه صير من هذا الهدف مثلا اعلى بينما هذا الهدف ليس الا اطار في الحقيقة وهذا الاطار بحاجة الى محتوى والى مضمون واذا جرد هذا الاطار عن محتواه سوف يؤدي الى الويل والدمار ، الى الويل الذي تواجهه الحضارة الغربية اليوم التي صنعت للبشرية كل وسائل الدمار لان الاطار بقي بلا محتوى بقي بلا مضمون حينئذ ، هذا هو مثلا للتعميم الافقي ، التعميم الافقي للمثل الاعلى .
  واما التعميم الزمني ايضا كذلك على مر التاريخ توجد خطوات ناجحة تاريخيا ولكنها لا يجوز ان تحول من حدودها كخطوة الى مطلق ، الى مثل اعلى يجب ان تكون ممارسة تلك الخطوة ضمن المثل الاعلى لا ان تحول هذه الخطوة الى مثل اعلى حينما اجتمع في التاريخ مجموعة من الاسر فشكلوا القبيلة .
  ومجموعة من القبائل فشكلت عشيرة ، ومجموعة من العشائر فشكلت أمة هذه الخطوات صحيحة لتقدم البشرية وتوحيد البشرية ولكن كل خطوة من هذه لا يجب ان تتحول الى مثل اعلى لا يجوز ان تتحول الى مطلق ، لا يجوز ان تكون العشيرة هي المطلق الذي يحارب من اجله هذا الانسان وانما المطلق الذي يحارب من اجله الانسان يبقى هو ذاك المطلق الحقيقي ، يبقى هو الله سبحانه وتعالى ، الخطوة تبقى كاسلوب ولكن المطلق يبقى هو الله سبحانه وتعالى هذا التعميم الزمني ايضا هو شكل من التعميم الخاطئ حينما يحول هذا المثل المنتزع من خطوة محدودة عبر الزمن يحول الى مثل اعلى .
  وحال هذا الانسان الذي يحول هذه الرؤية المحدودة عبر الزمن يحولها الى مطلق حاله حال الانسان الذي يتطلع الى الافق فلا تساعده عينه الا الى النظر على مسافة محدودة فيخيل له ان الدنيا تنتهي عند الافق الذي يراه ، ان السماء تنطبق على الارض على مسافة قريبة منه وقد يخيل له وجود الماء ، وجود السراب على مقربة منه ، الا ان هذا في الحقيقة ناشئ من عجز عينيه عن ان يتابع المسافة الارضية الطويلة الامد .
  كذلك هنا هذا الانسان الذي يقف على طريق التاريخ الطويل ، على طريق المسيرة البشرية له افق يحكم قصوره الذهني وبحكم محدودية الذهن البشري . له افق كذلك الافق الجغرافي ولكن هذا الافق يجب ان يتعامل معه كافق لا كمطلق كما اننا نحن على الصعيد الجغرافي لا نتعامل مع هذا الافق الذي نراه على بعد عشرين مترا او مائتي متر انه نهاية الارض ، وانما نتعامل معه بأنه أفق .

مُقدّمَاتٌ في التفسير الموضوعي للقرآن _ 52 _

  كذلك ايضا هنا يجب ان يتعامل هذا الانسان معه كافق لا يحول هذا الافق التاريخي الى مثل اعلى والا كان من قبيل من يسير نحو سراب ، انظروا الى التمثيل الرائع في قوله سبحانه وتعالى : ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ) (1) .
  يعبر القرآن عن كل هذه المثل المصطنعة من دون الله سبحانه وتعالى بانها كبيت العنكبوت حيث يقول : ( مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُون ) (2) .
  اذا قارنا بين هذين النوعين من المثل العليا المشتقة من الواقع والمثل العليا المشتقة من طموح محدود للاحظنا ان المثل العليا المشتقة من الواقع كثيرا ما تكون قد مرت بمرحلة هذه المثل التي تعبر عن طموح محدود .
  يعني كثيرا ما تكون تلك المثل من النوع الاول امتداداً للمثل من النوع الثاني ، بأن يبدأ هذا المثل الاعلى مشتقا من طموح لكن حينما يتحقق هذا الطموح المحدود ، حينما تصل البشرية الى النقطة التي أثارت هذه المثل ، يتحول هذا المثل الى واقع محدود بحسب الخارج ، حينئذ يصبح مثلا تكراريا من هنا قلنا في ما سبق أننا لو رجعنا خطوة الى الوراء بالنسبة الى الهة النوع الاول ، مثل النوع الاول .
  لو رجعنا الى الوراء لوجدنا آلهة النوع الثاني فالمسألة في كثير من الاحيان تبدأ هكذا ، تبدأ بمثل اعلى له طموح مشتق من طموح مستقبلي ثم يتحول هذا المثل الاعلى الى مثل تكراري ، ثم يتمزق هذا المثل التكراري كما قلنا وتتحول الامة الى شبح أمة ، في هذه الفترة الزمنية تمر الامة بمراحل في الحقيقة يمكننا تلخيصها في أربعة مراحل .
   المرحلة الاولى هي مرحلة فاعلية هذا المثل بحكم انه قد بدأ مشتقا من طموح مستقبلي ولكن طبعا هذه الفاعلية وهذا العطاء هو عطاء يسميه القرآن بالعاجل ، هذه المكاسب عاجلة وليست مكاسب على الخط الطويل ، عاجلة لان عمر هذا المثل قصير ، وعطاءه محدود ، لان هذا المثل سوف يتحول في لحظة من اللحظات الى قوة ابادة لكل ما أعطاه من مكاسب ولهذا يسمى بالعاجل .
   انظروا الى قوله تعالى (مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا ) (3) الله سبحانه وتعالى خير محض ، عطاء محض ، جود كله ، فبقدر ما تتبنى الامة مثلا قابلا للتحريك .
   الله سبحانه وتعالى ايضا يعطي لكنه يعطي بقدر قابلية هذا المثل يعطي شيئا عاجلا لا اكثر ، في حالة من هذا القبيل تكون السلطة التي تمثل هذا المثل ذات مثل اعلى ، ذات مثل يعطي ويبدع وتكون قيادة موجهة للامة في حدود هذا المثل وتكون للامة دور المشاركة في صنع هذا المثل وفي تحقيق هذا المثل ، هذه المرحلة سوف تؤدي الى مكاسب ولكنها في النظر القرآني العميق الطويل الامد مكاسب عاجلة تعقبها جهنم ، جهنم في الدنيا وجهنم في الآخرة ، هذه المرحلة الاولى مرحلة الابداع والتجديد .
--------------------
(1) سورة النور : الآية (39) .
(2) سورة العنكبوت : الآية (41) .
(3) سورة الاسراء : الآية (18 ـ 20) .

مُقدّمَاتٌ في التفسير الموضوعي للقرآن _ 53 _
  المرحلة الثانية حينما يتجمد هذا المثل الاعلى حينما يستنفذ طاقته وقدرته على العطاء حينئذ يتحول هذا المثل الى تمثال والقادة الذين كانوا يعطون ويوجهون على أساسه يتحولون الى سادة وكبراء لا الى قادة .
  وجمهور الامة يتحول الى مطيعين ومنقادين لا الى مشاركين في الابداع والتطوير وهذه المرحلة هي المرحلة التي عبر عنها القرآن الكريم بقوله ( وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا ) (1) .
   ثم تأتي المرحلة الثالثة ، مرحلة الامتداد التاريخي لهؤلاء ، هذه السلطة تتحول الى طبقة بعد ذلك تتوارث مقاعدها عائليا أو طبقيا وراثيا بشكل من اشكال الوراثة ، وحينئذ تصبح هذه الطبقة هي الطبقة المترفة المنعمة الخالية من الاغراض الكبيرة ، المشغولة بهمومها الصغيرة وهذا ما عبر عنه القرآن الكريم بقوله ( وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُون ) (2) هؤلاء امتداد تاريخي لآباء لهم تاريخ وهم امتداد تاريخي ، وهذا الامتداد التاريخي تحول من مستوى مثل وعطاء الى مستوى طبقة مترفة تتوارث هذا المقعد بشكل من اشكال التوارث .
  هذه هي المرحلة الثالثة ثم حينما تتفتت الامة ، حينما تتمزق الامة ، حينما تفقد ولاءها لذلك المثل التكراري على ضوء ما قلناه تدخل في مرحلة رابعة وهي اخطر المراحل ففي هذه المرحلة يسيطر عليها مجرموها ، يسيطر عليها اناس لا يرعون الا ولاذمة وهذا ما عبر عنه القرآن الكريم في قوله سبحانه وتعالى ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ )(3) .
  حينئذ يسيطر مجموعة من هؤلاء المجرمين ، يسيطر هتلر والنازية مثلا في جزء من أوروبا لكي يحطم كل ما في أوروبا من خير وكل ما فيها اوروبا من ابداع ، لكي يقضي على كل تبعات ذلك المثل الاعلى الذي رفعه الانسان الاوروبي الحديث والذي تحول بالتدريج الى مثل تكراري ثم تفسخ هذا المثل لكن بقيت مكاسبه في المجتمع الاوروبي ، يأتي شخص كهتلر لكي يمزق كل تلك المكاسب ويقضي عليها .
  الان نصل الى النوع الثالث من المثل العليا وهو الله سبحانه وتعالى ، في هذا المثل التناقض الذي واجهناه سوف يحل باروع صورة كنا نجد تناقضا وحاصل هذا التناقض هو ان الوجود الذهني للانسان محدود ، والمثل يجب ان يكون غير محدود فكيف يمكن توفير المحدود وغير المحدود وكيف يمكن التنسيق بين المحدود وغير المحدود .
   هذا التنسيق سوف نجده في المثل الاعلى الذي هو الله سبحانه وتعالى .. لماذا ؟ لان هذا المثل الاعلى ليس من نتاج الانسان ، ليس افرازا ذهنيا للانسان ، بل هو مثل أعلى هذا التنسيق سوف نجده في المثل الاعلى الذي هو الله سبحانه وتعالى ... لماذا ؟
--------------------
(1) سورة الاحزاب : الآية (67) .
(2) سورة الزخرف : الآية (23) .
(3) سورة الانعام : الآية (123) .

مُقدّمَاتٌ في التفسير الموضوعي للقرآن _ 54_
  لان هذا المثل الاعلى ليس من نتاج الانسان ، ليس افرازا ذهنيا للانسان ، بل هو مثل أعلىعيني له واقع عيني ، هو موجود مطلق في الخارج ، له قدرته المطلقة وله علمه المطلق وله عدله المطلق .
  هذا الوجود العيني بواقعه العيني يكون مثلا اعلى لانه مطلق لكن الانسان حينما يريد ان يستلهم من هذا النور ، حينما يريد ان يمسك بحزمة من هذا النور ، طبعا هو لا يمسك الا بالمقيد ، الا بقدر محدود من هذا النور الا انه يميز بين ما يمسك به وبين مثله الاعلى ، المثل الاعلى خارج حدود ذهنه ، لكنه يمسك بحزمة من النور .
  هذه الحزمة مقيدة لكن المثل الاعلى مطلق ، ومن هنا حرص الاسلام على التمييز دائما بين الوجود الذهني وما بين الله سبحانه وتعالى الذي هو المثل الاعلى ، فرق حتى بين الاسم والمسمى وأكد على انه لا يجوز عبادة الاسم، وانما تكون العبادة للمسمى لان الاسم ليس الا وجودا ذهنيا ، الا واجهة ذهنية لله سبحانه وتعالى ، بينما الواجهات الذهنية دائما محدودة العبادة يجب ان تكون للمسمى لا للاسم لان المسمى هو المطلق اما الاسم فهو مقيد ومحدود .
  الواجهات الذهنية تبقى كواجهات ذهنية محدودة مرحلية واما صفة المثل الاعلى فتبقى قائمة بالله سبحانه وتعالى .

الدرس الحادي عشر
  قال الله سبحانه وتعالى ( يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ ) (1) هذه الآية الكريمة تضع الله سبحانه وتعالى هدفا أعلى للانسان والانسان هنا بمعنى الانسانية ككل ، فالانسانية بمجموعها تكدح نحو الله سبحانه وتعالى والكدح هنا كدح الانسانية ككل ، نحو الله سبحانه وتعالى ، يعني السير المستمر بالمعاناة والجهد والمجاهدة ، لان هذا السير ليس سيرا اعتياديا ، بل هو سير ارتقائي ، هو تصاعد وتكامل ، هو سير تسلق ، فهؤلاء الذين يتسلقون الجبال ليصلوا الى القمم يكدحون نحو هذه القمم ، يسيرون سير معاناة وجهد .
  كذلك الانسانية حينما تكدح نحو الله فانما هي تتسلق الى قمم كمالها وتكاملها وتطورها الى الافضل باستمرار ، وهذا السير الذي يحتوي على المعاناة باستمرار يفترض طريقا لا محالة فان السير نحو هدف يفترض حتما طريقا ممتدا بين السائر وبين ذلك الهدف .
  وهذا الطريق هو الذي تحدثت عنه الآيات الكريمة في المواضع المتفرقة تحت اسم سبيل الله واسم الصراط واسم صراط الله هذه الصيغ القرآنية المتعددة كلها تتحدث عن الطريق الذي يفترضه ذلك السير وكما أن السير يفترض الطريق ، كذلك الطريق يفترض السير أيضا وهذه الآية الكريمة ( يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ ) تتحدث عن حقيقة قائمة ، عن واقع موضوعي ثابت ، فهي ليست بصدد دعوة الناس الى أن يسيروا في طريق الله سبحانه وتعالى ، ليست بصدد الطلب والتحريك ، فما هو الحال في آيات أخرى في مقامات وسياقات قرآنية أخرى .
--------------------
(1) سورة الانشقاق : الآية (6) .

مُقدّمَاتٌ في التفسير الموضوعي للقرآن _ 55 _
  الآية القرآنية الكريمة لا تقول يا أيها الناس تعالوا الى سبيل الله ، توبوا الى الله ، بل تقول ( يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ ) ، لغة الآية لغة التحدث عن واقع ثابت وحقيقة قائمة وهي أن كل سير وكل تقدم للانسان في مسيرته التاريخية الطويلة الامد ، فهو تقدم نحو الله سبحانه وتعالى وسير نحو الله سبحانه وتعالى حتى تلك الجماعات التي تمسكت بالمثل المنخفضة وبالآلهة المصطنعة واستطاعت ان تحقق لها سيرا ضمن خطوة على هذا الطريق الطويل ، حتى هذه الجماعات التي يسميها القرآن بالمشركين هم يسيرون هذه الخطوة نحو الله ، هذا التقدم بقدر فاعليته وبقدر زخمه هو اقتراب نحو الله سبحانه وتعالى ، لكن هناك فرق بين تقدم مسؤول وتقدم غير مسؤول ( على ما يأتي شرحه ان شاء الله ) ، حينما تتقدم الانسانية في هذا المفاض واعية على المثل الاعلى وعيا موضوعيا يكون التقدم تقدما مسؤولا ، يكون عبادة بحسب لغة الفقه ، لونا من العبادة يكون له امتداد على الخط الطويل وانسجام مع الوضع العريض للكون ، وأما حينما يكون التقدم منفصلا عن الوعي على ذلك المثل فهو تقدم على أي حال ، سير نحو الله على أي حال ، ولكنه تقدم غير مسؤول على ما يأتي تفصيله .
  اذن كان تقدم هو تقدم نحو الله ، حتى اولئك الذين ركضوا وراء سراب كما تحدثت الآية الكريمة فان هؤلاء الذين يركضون وراء السراب الاجتماعي ، وراء المثل المنخفضة ، حينما يصلوا الى هذا السراب لا يجدون شيئا ، ويجدون الله سبحانه وتعالى فيوفيهم حسابهم كما تتحدث الآية الكريمة التي قرأناها فيما سبق ، الله سبحانه وتعالى هو نهاية هذا الطريق ولكنه ليس نهاية جغرافية ليس نهاية على نمط النهايات الجغرافية للطرق الممتدة مكانيا .
  كربلاء مثلا نهاية طريق ممتد بين النجف وكربلاء ، كربلاء بمعناها المكاني نهاية جغرافية ، ومعنى انها نهاية جغرافية انها موجودة على آخر الطريق ، ليست موجدة على طول الطريق ، لو أن انسانا سار نحو كربلاء ووقف في نصف الطريق لا يحصل على شيء من كربلاء ، لا يحصل على حفنة من تراب كربلاء اطلاقا ، لان كربلاء نهاية جغرافية موجودة في آخر الطريق ، ولكن الله سبحانه وتعالى ليس نهاية على نمط النهايات الجغرافية ، الله سبحانه وتعالى هو المطلق ، هو المثل الاعلى ، أي المطلق الحقيقي العيني ، وبحكم كونه هو المطلق ، اذن هو موجود على طول الطريق أيضا ، ليس هناك فراغ منه ، ليس هناك انحسار عنه ، ليس هناك حد له ، الله سبحانه وتعالى هو نهاية الطريق ولكنه موجود أيضا على طول الطريق ، من وصل الى نصف الطريق ، من وصل الى سرابه ، فتوقف واكتشف انه سراب ، ماذا يجد ؟ ماذا وجد في الآية ؟.. .وجد الله فوفاه الله حسابه لان المطلق موجود على طول الطريق وبقدر زخم الطريق وبقدر التقدم في الطريق يجد الانسان مثله الاعلى ، يلقى الله سبحانه وتعالى اينما توقف بحجم سيره ، وبحجم تقدمه على هذا الطريق .
  وبحكم أن الله سبحانه وتعالى هو المطلق اذن الطريق ايضا لا ينتهي هذا الطريق طريق الانسان نحو الله هو اقتراب مستمر يقدر التقدم الحقيقي نحو الله ، ولكن هذا الاقتراب يبقى اقترابا نسبيا ، يبقى مجرد خطوات على الطريق من دون ان يجتاز هذا الطريق ، لان المحدود لا يصل الى المطلق ، الكائن المتناهي لا يمكن ان يصل الى اللامتناهي ، فالفسحة الممتدة بين الانسان وبين المثل الاعلى هنا فسحة لا متناهية ، أي انه ترك له مجال الابداع الى اللانهاية ، مجال التطور التكاملي الى اللانهاية ، بأعتبار أن الطريق الممتد طريق لا نهائي .
  وهذا المثل الاعلى الحقيقي حينما تتبناه المسيرة الانسانية وتوفق بين وعيها البشري والواقع الكوني الذي يفترض هذا المثل الاعلى حقيقة قائمة كما افترضته الآية ، المسيرة الانسانية حينما توفق بين وعيها على المسيرة وبين الواقع الكوني لهذه المسيرة ، بوصفها سائرة ومتجهة نحو الله سوف يحدث تغيير كيفي وكمي على هذه المسيرة .

مُقدّمَاتٌ في التفسير الموضوعي للقرآن _ 56 _
  هذه الحركة سوف يحدث فيها تغيير كيفي وكمي ، أما التغير الكمي على هذه الحركة فهو باعتبار ما أشرنا اليه من أن الطريق حينما يكون طريقا الى المثل الاعلى الحق يكون طريقا غير متناهي ، أي أن مجال التطور والابداع ، والنمو قائم ابدا ودائما ، مفتوح للانسان بأستمرار من دون توقف هذا المثل الاعلى حينما يتبنى سوف نمسح من الطريق كل الآلهة المزورة ، كل الاصنام وكل الاقزام المتصنمة على طريق الانسان التي تقف عقبة بين الانسان وبين وصوله الى الله سبحانه وتعالى ، ومن هنا كان دين التوحيد صراعا مستمرا مع مختلف اشكال الالهة والمثل المنخفضة والتكرارية التي حاولت ان تتحد من كمية الحركة الى نقطة ثم تقول قف أيها الانسان .
  هذه الالهة التي ارادت أن توقف الانسان في وسط الطريق ، وفي نقطة معينة كان دين التوحيد على مر التاريخ هو حامل لواء المعركة ضدها ، هذا المثل الاعلى اذن سوف يحدث تغييرا كميا على الحركة لانه يطلقها من عقالها ، يطلقها من هذه الحدود المصطنعة لكي تسير بأستمرار وأما التغيير الكيفي الذي يحدثه المثل الاعلى على هذه المسيرة فهذا التغيير الكيفي هو اعطاء الحل الموضوعي الوحيد للجدل الانساني ، للتناقض الانساني ، اعطاء الشعور بالمسؤولية الموضوعية لدى الانسان ، الانسان من خلال ايمانه بهذا المثل الاعلى ووعيه على طريق بحدوده الكونية الواقعية من خلال هذا الوعي ينشأ بصورة موضوعية ، شعور معمق لديه بالمسؤولية تجاه هذا المثل الاعلى لاول مرة في تاريخ المثل البشرية التي حركت البشر على مر التاريخ ، لماذا ؟ لان هذا المثل الاعلى حقيقة وواقع عيني منفصل عن الانسان وبهذا يعطي للمسؤولية شرطها المنطقي فان المسؤولية الحقيقية لا تقوم الا بين جهتين بين مسؤول ومسؤول لديه .
  اذا لم تكن هناك جهة أعلى من هذا الكائن المسؤول واذا لم يكن هذا الكائن المسؤول مؤمنا بأنه بين يديه جهة أعلى لا يمكن ان يكون شعوره بالمسؤولية شعورا موضوعيا ، شعورا حقيقيا ، مثلا تلك المثل المنخفضة ، تلك الالهة ، تلك الاقزام المتعملقة على مر التاريخ ، على مر المسيرة البشرية هي في الحقيقة لم تكن كما رأينا وكما حللنا الا افرازا بشريا ، الا انتاجا انسانيا ، يعني انها جزء من الانسان جزء من كيان الانسان ، والانسان يمكن ان يستشعر بصورة موضوعية حقيقة المسؤولية تجاه ما يفرزه ، هو اتجاه ما يصنعه هو ( ان هي الا أسماء سميتموها ) تلك المثل لا تصنع الشعور الموضوعي بالمسؤولية ، نعم قد تصنع قوانين ، قد تصنع عادات ، قد تصنع اخلاق ، ولكنها كلها عطاء ظاهري ، وكلما وجد هذا الانسان مجالا للتحلل من هذه العادات ، ومن هذه الاخلاق ، ومن هذه القوانين فسوف يتحلل .
  بينما المثل الاعلى لدين التوحيد ، للانبياء على مر التاريخ باعتباره واقعا عينيا منفصلا عن الانسان ، باعتباره جهة اعلى من الانسان ليست افرازا بشريا ، ليست انتاجا انسانيا ، اذن سوف يتوصل للشعور بالمسؤولية ، شرطه الموضوعي في المقام ، لماذا كان الانبياء على مر التاريخ أصلاب الثوار على الساحة التاريخية ، أنظف الثوار على الساحة التاريخية ، لماذا كانوا على الساحة التاريخية فوق كل مساومة ، فوق كل مهادنة ، فوق كل تململ يمنة او يسرة ، لماذا كانوا هكذا ، لماذا انهار كثير من الثوار على مر التاريخ ولم يسمع أن نبيا من أنبياء التوحيد انهار أو تململ او أنحرف يمنة او يسرة عن الرسالة التي بيده وعن الكتاب الذي يحمله من السماء ، لان المثل الاعلى المنفصل عنه الذي فوقه هو الذي اعطاه نفحة موضوعية من الشعور بالمسؤولية وهذا الشعور بالمسؤولية تجسد في كل كيانه في كل مشاعره وافكاره وعواطفه ، ومن هنا كان النبي معصوما على مر التاريخ ، اذن هذا المثل الاعلى بحسب الحقيقة يحدث تغييرا كيفيا على المسيرة لانه يعطي الشعور بالمسؤولية ، وهذا الشعور بالمسؤولية ليس أمرا عرضيا ، ليس امرا ثانويا في مسيرة الانسان ، بل هو شرط أساسي في امكان انجاح هذه المسيرة وتقديم الحل الموضوعي للتناقض الانساني للجدل الانساني ، لان الانسان يعيش تناقضا بحسب تركيبه وخلقته ، لانه هو تركيب من حفنة من تراب ونفخة من روح الله سبحانه وتعالى كما وصفت ذلك الآيات الكريمة .

مُقدّمَاتٌ في التفسير الموضوعي للقرآن _ 57 _
  الآيات الكريمة قالت بان الانسان خلق من تراب ، وقالت بانه نفخ فيه من روحه سبحانه وتعالى ، اذا فهو مجموع نقيضين اجتمعا والتحما في الانسان ، حفنة التراب تجره الى الارض ، تجره الى الشهوات الى الميول ، تجره الى كل ما ترمز اليه الارض من انحدار وانحطاط وروح الله سبحانه وتعالى التي نفخها فيها تجره الى أعلى تتسامى بانسانيته الى حيث صفات الله ، الى حيث اخلاق الله ، تتخلق باخلاق الله ، الى حيث العلم الذي لا حد له والقدرة التي لا حد لها ، الى حيث العدل الذي لا حد له ، الى حيث الجود والرحمة والانتقام ، الى حيث هذه الاخلاق الالهية ، هذا الانسان واقع في تيار هذا التناقض ، في تيار هذا الجدل بحسب محتواه النفسي ، بحسب تركيبه الداخلي ، هذا الجدل وهذا التناقض الذي احتوته طبيعة الانسان وشرحته قصة آدم على ما يأتي انشاء الله تعالى ، هذا الجدل الانساني له حل واحد فقط ، هذا الحل الواحد الذي يمكن ان يفرض لهذا التناقض هو الشعور بالمسؤولية لا الشعور المنبثق عن هذا الجدل فان الشعور المنبثق عن نفس هذا الجدل لا يحل هذا الجدل بل هو يساهم في افراز هذا التناقض وهذا الشعور الموضوعي بالمسؤولية لا يكفله الا المثل الاعلى الذي يكون جهة عليا ، يحس الانسان من خلالها بانه بين يدي رب قادر سميع بصير محاسب مجاز على الظلم ، مجاز على العدل .
  اذن هذا الشعور الموضوعي بالمسؤولية الذي هو التغير الكيفي على المسيرة هو في الحقيقة الحل الوحيد للتناقض وللجدل الذي تستبطنه طبيعة الانسان وتركيب الانسان .
دور دين التوحيد اذن هو عبارة عن تعبيد هذا الطريق الطويل الطويل ، تعبيده وازالة العوائق من خلال تنمية الحركة كميا وكيفيا ومحاربة تلك المثل المصطنعة والمنخفضة والتكرارية التي تريد ان تجمد الحركة من ناحية وأن تعريها من الشعور بالمسؤولية من ناحية اخرى ، ومن هنا كان حرب الانبياء كما أشرنا كان حرب الانبياء مع الالهة المصطنعة على مر التاريخ ، ولما كان كل مثل من هذه المثل العليا التي تتحول الى تمثال ضمن ظروف تطورها بالشكل الذي شرحناه فيما سبق ، حينما تتحول الى تمثال نجد في مجموعة من الناس ، تجد فيهم مدافعين طبيعيين عنها باعتبار ان مجموعة من الناس ترتبط مصالحهم وترفهم وكيانهم المادي والدنيوي ببقاء هذا المثال الذي تحول الى تمثال ولهذا يقف دائما هؤلاء الذين يرتبطون مصلحيا بهذا التمثال ، يقفون دائما في وجهه الانبياء ليدافعوا عن مصالحهم ، عن دنياهم ، عن ترفهم ، ومن هنا ابرز القرآن الكريم سنة من سنن التاريخ وهي ان الانبياء دائما كانوا يواجهون المترفين من مجتمعاتهم كقطب آخر من المعارضة مع هذا النبي لان هذا المترف المستفيد من هذا المثال بعد ان تحول الى ذلك التمثال هذا المثال تحول الى تمثال فمن هو المستفيد منه ؟ المستفيد منه المترفون في ذلك المجتمع ، المنعمون على حساب الناس الذين يجعلون من هذا التمثال مبررا لوجودهم ، من هنا يكون من الطبيعي ان هؤلاء المترفين وهؤلاء المستفيدين تجدهم دائما في الخط المعارض للانبياء ، ( وكذلك ما ارسلنا من قبلك في قرية من نذير الا قال مترفوها انا وجدنا اباءنا على أمة وانا على آثارهم مقتدون ) (1) .
  ( وما ارسلنا في قرية من نذير الا قال مترفوها انا بما ارسلتم به كافرون ) (2) .
( سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ ) (3) .
  ( وَقَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاء الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ ) (4) .
  اذن دين التوحيد هو الذي يستأصل مصالح هؤلاء المترفين بالقضاء على الهتهم وعلى مثلهم التي تحولت الى تماثيل ، يقطع صلة البشرية بهذه المثل العليا المنخفضة ولكنه لا يقطع صلتها بهذه المثل العليا المنخفضة لكي يطأ برأسها في التراب ، لكي يحولها الى كومة مادية ليس لها اشواق ليس لها طموحات ليس لها تطلعات الى اعلى كما هو شأن الثوار الماديين الذين يستلهمون من المادية التأريخية ومن الفهم المادي للتاريخ .
--------------------
(1) سورة الزخرف : الآية (23) .
(2) سورة سبأ : الآية (34) .
(3) سورة الاعراف : الآية (146) .
(4) سورة المؤمنون : الآية (33) .

مُقدّمَاتٌ في التفسير الموضوعي للقرآن _ 58 _
  اولئك ايضا يحاربون هذه الالهة المصطنعة ويسمونها أفيون الشعوب ونحن ايضا نحارب هذه الالهة المصطنعة ولكننا نحن نحاربها لا لكي نحول الانسان الى حيوان ، لا لكي نقطع صلة الانسان بأشواقه العليا ، لا لكي نحول مسار الانسان من اعلى الى أسفل وانما نقطع صلة الانسان بهذه المثل المنخفضة لكي نشده الى المثل الاعلى لكي نشده الى الله سبحانه وتعالى وتبني المسيرة البشرية لهذا المثل الاعلى الحق الذي يحدث هذه التغيرات الكيفية والكمية على اتجاه المسيرة وحجمها ، تبني المسيرة البشرية لهذا المثل يتوقف على عدة أمور :
  1 ـ على رؤية واضحة فكريا وايديولوجيا لهذا المثل الاعلى وهذه الرؤية الواضحة لهذا المثل الاعلى هو الذي تقدمه عقيدة التوحيد على مر التاريخ ، عقيدة التوحيد التي تنطوي على الايمان بالله سبحانه وتعالى ، التي توحد بين كل المثل ، بين كل الغايات وكل الطموحات وكل التطلعات البشرية وتوحد بينها في هذا المثل الاعلى الذي هو علم كله وقدرة كله وعدل كله وروحمة ، كله انتقام من الجبارين .
  هذا المثل الاعلى الذي تتوحد فيه كل الطموحات وكل الغايات ، هذا المثل الاعلى تعطينا عقيدة التوحيد رؤية واضحة له ، تعلمنا على ان نتعامل مع صفات الله واخلاق الله بوصفها حقائق عينية منفصلة عنا كما يتعامل فلاسفة الاغريق وانما نتعامل مع هذه الصفات والاخلاق بوصفها رائدا عمليا ، بوصفها هدفا لمسيرتنا العملية ، بوصفها مؤشرات على الطريق الطويل للانسان نحو اللسبحانه وتعالى ، عقيدة التوحيد هي التي توفر هذا الشرط الاول وهو الرؤية الواضحة فكريا وايديولوجيا للمثل اعلى .
  2 ـ لابدّ من طاقة روحية مستمدة من هذا المثل الاعلى لكي تكون هذه الطاقة الروحية رصيدا ووقودا مستمرا للارادة البشرية على مر التاريخ ، هذه الطاقة الروحية ، هذا الوقود الذي يستمد من الله سبحانه وتعالى يتمثل في عقيدة يوم القيامة ، في عقيدة الحشر والامتداد ، عقيدة يوم القيامة تعلم الانسان ان هذه الساحة التاريخية الصغيرة التي يلعب عليها الانسان مرتبطة ارتباطا وثيقا بساحات برزخية وبساحات حشرية في عالم البرزخ والحشر .
  وان مصير الانسان على تلك الساحات العظيمة الهائلة مرتبط بدوره على هذه الساحة التاريخية ، هذه العقيدة تعطي تلك الطاقة الروحية وذلك الوقود الرباني الذي ينعش ارادة الانسان ويحقق له دائما قدرته على التمديد والاستمرار .
   3 ـ ان هذا المثل الاعلى الذي تحدثنا عنه يختلف عن المثل العليا الاخرى التكرارية والمنخفضة التي تحدثنا عنها سابقا على اساس ان هذا المثل منفصل عن الانسان ، ليس جزءا من الانسان ، ليس من افراز الانسان ، بل هو منفصل عنه ، هو واقع عيني قائم هناك ، قائم في كل مكان وليس جزءا من الانسان ، هذا الانفصال يفرض وجود صلة موضوعية بين الانسان وهذا المثل الاعلى .
  بينما المثل الاخرى السابقة كانت انسانية ، كانت افرازا بشريا لاحاجة الى افتراض صلة موضوعية ، نعم هناك طواغيت وفراعنة على مر التاريخ نصبوا من انفسهم صلات موضوعية بين البشرية وبين آلهة الشمس ، آلهة الكواكب ولكنها صلة موضوعية مزيفة لان هذا الاله هناك كان وهما ، كان وجودا ذهنيا ، كان افرازا انسانيا ، اما هنا المثل الاعلى منفصل عن الانسان ولهذا كان لابدّ من صلة موضوعية تربط هذا الانسان بذلك المثل الاعلى .

مُقدّمَاتٌ في التفسير الموضوعي للقرآن _ 59 _
  وهذه الصلة الموضوعية تتجسد في النبي في دور النبوة ، فالنبي هو ذلك الانسان الذي يركب بين الشرط الاول والشرط الثاني بأمر الله سبحانه وتعالى ، بين رؤية ايديولوجية واضحة للمثل الاعلى وطاقة روحية مستمدة من الايمان بيوم القيامة ، يركب بين هذين العنصرين ثم يجسد بدور النبوة ، الصلة بين المثل الاعلى والبشرية هذا المركب الى البشرية بشيرا ونذيرا .
  4 ـ البشرية بعد ان تدخل مرحلة يسميها القرآن مرحلة الاختلاف على ما يأتي ان شاء الله شرحه في الدروس القادمة سوف لن يكفي مجيء البشير النذير لان مرحلة الاختلاف تعني مرحلة انتصاب تلك المثل المنخفضة او التكرارية ، تعني وجود تلك الالهة المزورة على الطريق ، وجود تلك الحواجب والعوائق عن الله سبحانه وتعالى ، اذن لابدّ للبشرية من ان تخوض معركة ضد الآلهة المصطنعة ، ضد تلك الطواغيت والمثل المنخفضة التي تنصب من نفسها قيما على البشرية وحاجب وقاطع طريق بالنسبة للمسيرة التاريخية ، لابدّ من معركة ضد هذه الآلهة ، لابدّ من قيادة تتبنى هذه المعركة وهذه القيادة هي الامامة ، هي دور الامام ، الامام هو القائد الذي يتولى هذه المعركة .
   ودور الامامة يندمج مع دور النبوة في مرحلة من مراحل النبوة يتحدث عنها القرآن وسوف نتحدث عنها انشاء الله تعالى ونقول بانها بدأت في أكبر الظن مع نوح عليه الصلاة والسلام .ودور الامام يندمج مع دور النبوة ولكنه يمتد حتى بعد النبي اذا ترك النبي الساحة وبعد لاتزال المعركة قائمة ولا تزال الرسالة بحاجة الىمواصلة هذه المعركة من اجل القضاء على تلك الآلهة حينئذ يمتد دور الامامة بعد انتهاء النبي .
   هذا هو الشرط الرابع في تبني المسيرة التاريخية لهذا المثل الاعلى ، على هذا الضوء سوف نكون رؤية واضحة لما نسميه الاصول الخمسة ، سوف تقع اصول الدين الخمسة في موقعها الطبيعي الصحيح السليم من مسار الانسان ، اصول الدين الخمسة .
  التوحيد : هو الذي يعطي الرؤية الواضحة فكريا وايديولوجيا ، هو الذي يجمع ويعبئ كل الطموحات وكل الغايات في مثل اعلى واحد وهو الله سبحانه وتعالى .
  العدل : هو جانب من التوحيد ولكن انما فصل العدل صفة من صفات الله سبحانه وتعالى حال العدل ، حال العليم ، حال القدرة ، لا يوجد ميزة عقائدية في العدل في مقابل العلم ، في مقابل القدرة ولكن الميزة هنا ميزة اجتماعية ، ميزة القدوة .
  لأن العدل هو الصفة التي تعطي للمسيرة الاجتماعية وتغنيها والتي تكون المسيرة الاجتماعية بحاجة اليها اكثر من أي صفة أخرى ، ابرز العدل هنا كأصل ثاني من اصول الدين باعتبار المدلول التوجهي ، باعتبار المدلول التربوي لهذه الصفة ، قلنا بان صفات الله واخلاق الله علمنا الاسلام بان لا نتعامل معها كحقائق عينية ميتافيزقية فوقنا لا صلة لنا بها وإنما نتعامل معها كمؤشرات وكمنارات على الطريق اذن من هنا كان العدل له مدلوله الاكبر بالنسبة الى توجيه المسيرة البشرية ولاجل ذلك أفرز ، وان العدل في الحقيقة هو داخل في اطار التوحيد العام ، في اطار المثل الاعلى .

مُقدّمَاتٌ في التفسير الموضوعي للقرآن _ 60_
  الاصل الثالث النبوة : النبوة هي التي توفر الصلة الموضوعية بين الانسان وبين المثل الاعلى ، المسيرة البشرية كما قلنا حينما تبنت المثل الاعلى الحق المنفصل عنها الذي ليس من افرازها ومن انتاجها المنخفض كانت بحاجة الى صلة موضوعية .
  هذه الصلة الموضوعية يجسدها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، النبي على مر التاريخ ، الانبياء عليهم الصلاة والسلام هم الذين يجسدون هذه الصلة الموضوعية .
  الامامة : الامامة هي في الحقيقة تلك القيادة التي تندمج مع دور النبوة ، النبي هو امام ايضا ، النبي نبي والنبي امام ولكن الامامة لا تنتهي بانتهاء النبي اذا كانت المعركة قائمة واذا ما كانت الرسالة لا تزال بحاجة الى قائد يواصل المعركة .
  اذن سوف يستمر هذا الجانب من دور النبي خلال الامامة ، فالامامة هو الاصل الرابع من اصول الدين ، والاصل الخامس هو ايمان بيوم القيامة : هو الذي يوفر الشرط الثاني من الشروط الاربعة التي تقدمت ، هو الذين يعطي تلك الطاقة الروحية ، ذلك الوقود الرباني الذي يجدد دائما ارادة الانسان وقدرة الانسان ويوفر الشعور بالمسؤولية والضمانات الموضوعية .
  اذن اصول الدين في الحقيقة وبالتعبير التحليلي على ضوء ما ذكرناه هي كلها عناصر تساهم في تركيب هذا المثل الاعلى وفي اعطاء تلك العلاقة الاجتماعية بصفتها التاريخية ، بصفتها القرآنية الرباعية التي تحدثنا عنها في الدروس الماضية ، تحدثنا بان القرآن الكريم طرح العلاقة الاجتماعية ذات اربعة ابعاد لا ذات ثلاثة ابعاد ، طرحها بصيغة الاستخلاف وشرحنا في ما سبق صيغة الاستخلاف وقلنا بان الاستخلاف يفترض اربعة ابعاد ، يفترض انسانا وطبيعة والله سبحانه وتعالى وهو المستخلف .
  هذه الصيغة الرباعية للعلاقة الاجتماعية هي التعبير الاخر عن صيغة تدمج اصول الدين الخمسة في مركب واحد من اجل ان يسير الانسان ويكدح نحو الله سبحانه وتعالى في طريقه الطويل ، بما ذكرناه نوضح دور الانسان في المسرة التاريخية ، نوضح ان الانسان هو مركز الثقل في المسيرة التاريخية ، هو مركز الثقل لا بجسمه الفيزيائي وانما بمحتواه الداخلي وهذا المحتوى الداخلي توضح ايضا من خلال ما شرحناه ، ان الاساس في بناء هذا المحتوى الداخلي هو المثل الاعلى الذي يتبناه الانسان ، لان المثل الاعلى هو الذي تنبثق منه كل الغايات التفصيلية .
والغايات التفصيلية هي المحركات التاريخية للنشاطات على الساحة التاريخية .
  اذن المثل الاعلى وتبني المثل الاعلى هو في الحقيقة الاساس في بناء المحتوى الداخلي للانسان ومن هنا ظهر دور هذا البعد الرابع .

  الدرس الثاني عشر
  مقدمة في تحليل عناصر المجتمع ، ان المجتمع يتكون من ثلاثة عناصر وهي : الانسان والطبيعة والعلاقة في الحلقة التاريخية ، وقد تحدثنا عن الانسان ودوره الاساسي في الحلقة التاريخية وتحدثنا عن الطبيعة وشأنها على الساحة التاريخية وبقي علينا ان نأخذ العنصر الثالث وهو : العلاقة الاجتماعية لنحدد موقفنا من هذه العلاقة الاجتماعية على ضوء ما انتهينا اليه من مواقف قرآنية تجاه دور الانسان والطبيعة على الساحة التاريخية ،

مُقدّمَاتٌ في التفسير الموضوعي للقرآن _ 61 _
  العنصر الثالث هو العلاقة الاجتماعية وقد تقدم ان العلاقة الاجتماعية تتضمن علاقتين مزدوجتين احداهما علاقة الانسان مع الطبيعة والاخرى علاقة الانسان مع اخيه الانسان ، هذان خطّان من العلاقة الاجتماعية ، وهذان الخطان نؤمن بان كل واحد منهما مختلف عن الاخر ومستقل استقلالا نسبيا عن الاخر مع شيء من التفاعل والتأثير المتبادل المحدود الذي سوف نشرحه بعد ذلك ان شاء الله تعالى من حيث الاساس ، هذان الخطان احدهما مختلف عن الاخر ومستقل استقلالا نسبيا عنه تبعا للاختلاف النوعي في طبيعة المشكلة التي يواجهها كل واحد من هذين الخطين ونوع الحل الذي ينسجم مع طبيعة تلك المشكلة .
  فالخط الاول الذي يمثل علاقات الانسان مع الطبيعة من خلال استثمارها ومحاولة تطويعها وانتاج حاجاته الحياتية منها ،هذا الخط يواجه مشكلة وهي مشكلة التناقض بين الانسان والطبيعة ، ويعني تمرد الطبيعة وتعصيها عن الاستجابة للطلب الانساني وللحاجة الانسانية من خلال التفاعل ما بينهما ، هذا التناقض بين الانسان والطبيعة هو المشكلة الرئيسية على هذا الخط وهذا التناقض له حل من قانون موضوعي يمثل سنة من سنن التاريخ الثابتة ، وهذا القانون هو قانون التأثير المتبادل بين الخبرة والممارسة ، ذلك لان الانسان كلما تضاءل جهله بالطبيعة وكلما ازدادت خبرته بلغتها وبقوانينها ازدادت سيطرة عليها وتمكنا من تطويعها وتذليلها لحاجاته وحيث ان كل خبرة هي تتولد في هذا الحقل عادة من الممارسة ، وكل ممارسة تولد بدورها خبرة ولهذا كان قانون التأثير المتبادل بين الخبرة والممارسة قانونا موضوعيا يكفل حل هذا التناقض ، يقدم الحل المستمر والمتنامي لهذا التناقض بين الانسان والطبيعة .
  اذ يتضاءل جهل الانسان باستمرار وتنمو معرفته باستمرار من خلال ممارسته للطبيعة يكتسب خبرة جديدة ، هذه الخبرة الجديدة تعطيه سيطرة على ميدان جديد من ميادين الطبيعة فيمارس على الميدان الجديد وهذه الممارسة بدورها ايضا تتحول الى خبرة وهكذا تنمو الخبرة الانسانية باستمرار ما لم تقع كارثة كبرى طبيعية او بشرية ، وهذا القانون ينموه وبتطابيقاته التاريخية يعطي الحلول التدريجية لهذه المشكلة ، فهي مشكلة محلولة تاريخيا ومحلولة موضوعيا ولعل في الآوَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا ية الكريمة ( وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا ) (1) لعل في الآية الكريمة اشارة الى هذا الحل الموضوعي المستمد من قانون التأثير المتبادل بين الخبرة والممارسة لان السؤال في الآية الكريمة ( وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنِ ) لا يراد منه الدعاء طبعا السؤال اللفظي الذي هو الدعاء ، لان الآية تتكلم عن الانسانية ككل عمن يؤمن بالله ومن لا يؤمن بالله ، من يدعو الله ومن لا يدعو الله ، كما ان الدعاء لا يتضمن حتما تحصيل الشيء المدعو به ، نعم كل دعاء له استجابة ، لكن ليس لكل دعاء تحقيق لما تعلق به الدعاء ، بينما هنا يقول ( وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ ) هنا ايتاء ، استجابة فعلية بعطاء ما سؤل عنه ، فأكبر الظن ان هذا السؤال من الانسانية ككل وعلى مر التاريخ وعبر الماضي والحاضر والمستقبل يتمثل في السؤال الفعلي والطلب التكويني الذي يحقق باستمرار التطبيقات التاريخية لقانون التأثير المتبادل بين الخبرة والممارسة ، هذه هي المشكلة التي يواجهها الخط الاول من العلاقات ، وهذا هو الحل الذي يوضع لهذه المشكلة .
  واما الخط الثاني من العلاقات علاقات الانسان مع اخيه الانسان في مجال توزيع الثورة أو في سائر الحقول الاجتماعية أو في أوجه التفاعل الحضاري بين الانسان واخيه الانسان ، فهذا الخط يواجه مشكلة أخرى ، ليست المشكلة هنا هي التناقض بين الانسان والطبيعة بل هي التناقض الاجتماعي بين الانسان واخيه الانسان .
وهذا التناقض الاجتماعي بين الانسان واخيه الانسان يتخذ على الساحة الاجتماعية صيغا متعددة والوانا مختلفة ولكنه يظل في حقيقته وجوهره يظل شيئا ثابتا وحقيقة واحدة وروحا عامة وهي التناقض ما بين القوي والضعيف ، بين كائن في مركز القوة وكائن في مركز الضعف .
--------------------
(1) سورة ابراهيم الآية (34) .

مُقدّمَاتٌ في التفسير الموضوعي للقرآن _ 62 _
  هذا الكائن الذي هو في مركز القوة اذا لم يكن قد حل تناقضه الخاص ، جدله الانساني من الداخل فسوف يفرز لا محالة صيغة من صيغ التناقض الاجتماعي ومهما اختلفت الصيغة في مضمونها القانوني وفي شكلها التشريعي وفي لونها الحضاري فهي بلا شك صيغة من صيغ التناقض بين القوي والضعيف .
  قد يكون هذا القوي فردا فرعونا ، قد يكون طبقة ، قد يكون شعبا ، قد يكون امة ، كل هذه الوان من التناقض كلها تحتوي روحا واحدا وهي روح الصراع ، روح الاستغلال من القوي الذي لم يحل تناقضه الداخلي وجدله الانساني ، الصراع بينه وبين الضعيف ومحاولة استغلال هذا الضعيف .
  هذه اشكال متعددة من التناقض الاجتماعي الذي يواجهه خط العلاقات بين الانسان واخيه الانسان وهذه الاشكال المتعددة ذات الروح الواحدة كلها تنبع من معين واحد ، من تناقض رئيسي واحد ، وهو ذلك الجدل الانساني الذي شرحناه القائم بين حفنة التراب وبين اشواق الله سبحانه وتعالى ، ما لم ينتصر أفضل النقيضين في ذلك الجدل الانساني فسوف يظل هذا الانسان يفرز التناقض تلو التناقض والصيغة بعد الصيغة حسب الظروف والملابسات ، حسب الشروط الموضوعية ومستوى الفكر والثقافة ، اذن النظرة الاسلامية من زاوية المشكلة التي يواجهها خط العلاقات بين الانسان واخيه الانسان .
  نظرة واسعة ، منفتحة ، معمقة ، لا تقتصر على لون من التناقض ، ولا تهمل ألوان أخرى من التناقض ، بل هي تستوعب كل أشكال التناقض على مر التاريخ وتنفذ الى عمقها وتكشف حقيقتها الواحدة ، وروحها المشتركة ثم تربط كل هذه التناقضات تربطها بالتناقض الاعمق ، بالجدل الانساني ، ومن هنا يؤمن الاسلام بأن الرسالة الوحيدة القادرة على حل هذه المشكلة التي يواجهها خط علاقات الانسان مع الانسان هو تلك الرسالة التي تعمل على مستويين في وقت واحد ، تعمل من أجل تصفية التناقضات الاجتماعية على الساحة لكن في نفس الوقت وقبل ذلك وبعد ذلك تعمل من أجل تصفية ذلك الجدل في المحتوى الداخلي للانسان من أجل تجفيف منبع تلك التناقضات الاجتماعية ، ويؤمن الاسلام بأن ترك ذلك المعين من الجدل والتناقض على حالة والاشتغال بتصفية التناقضات على الساحة الاجتماعية بصيغتها التشريعية فقط هذا نصف العملية ، النصف المبتور من العملية اذ سرعان ما يفرز ذلك المعين صيغا أخرى وفق هذه العملية التي سوف نستأصل بها الصيغ السابقة .
  فلا بد للرسالة التي تريد أن تضع الحل الموضوعي للمشكلة ان تعمل على كلا لمستويين ، أن تؤمن بجاهدين ، جهاد اكبر سماه الاسلام ( بالجهاد الاكبر ) وهو الجهاد لتصفية ذلك التناقض الرئيسي ، لحل ذلك الجدل الداخلي .
  وجهاد آخر ، جهاد في وجه كل صيغ التناقض الاجتماعي وفي وجه كل الوان استئثار القوي للضعيف من دون ان نحصر أنفسنا في نطاق صيغة معينة من صيغ هذا الاستئثار لان الاستئثار جوهره واحد مهما اختلفت صيغة .
  هذه هي النظرة المنفتحة الواقعية التي اثبتت التجربة البشرية باستمرار انطباقها على واقع الحياة خلافا للنظرة الضيقة التي فسرت بها المادية والثوار الماديون التي فسروا بها التناقض ، فان ماركس على الرغم من ذكائه الفائق الا انه لم يستطع ان يتجاوز حدود النظرة التقليدية للانسان الاوروبي ، كان بحكم كونه فردا أوروبيا ، كان رهين هذه النظرة التقليدية .
  الانسان الاوروبي دائما يرى العالم ينتهي حيث تنتهي الساحة الاوروبية أو الساحة الغربية بتعبير أعم كما يعتقد اليهود بأن الانسانية هي كلها في اطارهم ( ليس علينا في الاميين من سبيل ) أولئك ليسو بشرا ، ليسو أناسا ، أولئك أميين ، همج ، كذلك الانسان الاوروبي اعتاد أن يضع الدنيا كلها في اطار ساحته الاوروبية والغربية ، لم يتخلص هذا

مُقدّمَاتٌ في التفسير الموضوعي للقرآن _ 63 _
  الانسان الاوروبي دائما يرى العالم ينتهي حيث تنتهي الساحة الاوروبية أو الساحة الغربية بتعبير أعم كما يعتقد اليهود بأن الانسانية هي كلها في اطارهم ( ليس علينا في الاميين من سبيل ) أولئك ليسو بشرا ، ليسو أناسا ، أولئك أميين ، همج ، كذلك الانسان الاوروبي اعتاد أن يضع الدنيا كلها في اطار ساحته الاوروبية والغربية ، لم يتخلص هذا الرجل (1) من تقاليد هذه النظرة الاوروبية ، كما انه لم يتخلص من هيمنة العامل الطبقي الذي لعب دورا في افكار المادية التاريخية ، ومن هنا جاء لنا بتفسير محدود ضيق للتناقض الذي تواجهه الانسانية على هذا الخط اعتقد بأن مرد كل التناقضات على الساحة البشرية الى تناقض واحد هو التناقض الطبقي ، التناقض بين طبقة تملك كل وسائل الانتاج أو معظم وسائل الانتاج وطبقة لا تملك شيئا من وسائل الانتاج وانما تعمل من أجل مصالح الطبقة الاولى تستثمر في تشغيل وسائل الانتاج التي تملكها الطبقة الاولى ثم هذه الثروة المنتجة التي جسدت عرق جبين هذا العامل المستغل هذه الثورة المنتجة يستولي عليها الطبقة الاولى المالكة ولا يعطي للطبقة الثانية منها الا الحد الادنى ، حد الكفاف الذي يضمن استمرار حياة هذه الطبقة لكي تواصل خدمتها وممارستها ضمن اطار الطبقة الاولى ، هذا هو التناقض الطبقي الذي اتخذه قاعدة واساسا لكل ألوان التناقض الاخرى ، وهذا التناقض يتخذ مدلوله الاجتماعي من خلال صراع مرير بين الطبقة المالكة وما بين الطبقة العاملة ، وهذا الصراع المرير بين هاتين الطبقتين ينمو ويشتد كلما تطورت الآلة وكلما نمت الآلة الصناعية وتعقدت وذلك لان الآلة كلما تطورت أدت الى تخفيض في مستوى المعيشة وهذا التخفيض في مستوى المعيشة يعطي فرصة للطبقة الرأسمالية المالكة في ان تخفض أجر العامل لانها لا تريد ان تعطي العامل أكثر مما يديم به حياته ونفسه .
  اذن باستمرار تتطور الآلة ، باستمرار تنخفض كلفة المعيشة وبأستمرار يخفض الرأسمالي أجرة العامل هذا من ناحية ، من ناحية ثانية ان تطور الآلة وتعقدها يقتضي امكانية التعويض عن العدد الكبير من العمال بالعدد القليل من العمال لان دقة الآلة وعملقة الآلة سوف يعوض عن الجزء الآخر من العمال وهذا يجعل الطبقة الرأسمالية تطرد الفائض من العمال باستمرار وهكذا يشتد الصراع بين الطبقتين ويحتدم التناقض حتى ينفجر في ثورة ، هذه الثورة تجسدها الطبقة العاملة تقضي بها على التناقض الطبقي في المجتمع وتوحد المجتمع في طبقة واحده وهذه الطبقة احدة تمثل حينئذ كل أفراد المجتمع وفي حالة من هذا القبيل سوف تستأصل كل ألوان التناقض لان أساس التناقض هو التناقض الطبقي ، فاذا أزيل التناقض الطبقي زالت كل التناقضات الاخرى الفرعية والثانوية ، هذا تلخيص سريع جدا لوجهة نظر هؤلاء الثوار تجاه التناقض الذي عالجناه .
  الا ان هذه النظرة الضيقة تنجسم في الحقيقة مع الواقع ولا تنطبق على تيار الاحداث في التاريخ ليس التناقض الطبقي وليس تطور الآلة بل هو وليد الانسان ، هو من صنع الانسان الاوروبي ، ليست الآلة هي التي صنعت استغلال الرأسمالي للعامل ، ليست الآلة هي التي خلقت النظام الرأسمالي ، وانما الانسان الاوروبي الذي وقعت هذه الآلة بيده افرز نظاما رأسماليا يجسد قيمه في الحياة وتصوراته للحياة ، وليس التناقض الطبقي هو الشكل الوحيد من اشكال التناقض ، هناك صيغ كثيرة للتناقض على الساحة الاجتماعية ، وليس التناقض الطبقي هو التناقض الرئيسي بالنسبة الى تلك الاشكال وانما كل هذه الاشكال من التناقض على الساحة الاجتماعية هي وليد تناقض رئيس وهو جدل الانسان ، هو الجدل المخبوء في داخل محتوى الانسان ذاك هو التناقض الرئيس الذي يفرز دائما وأبدا صيغا متعددة من التناقض .
--------------------
(1) يقصد به كارل ماركس .

مُقدّمَاتٌ في التفسير الموضوعي للقرآن _ 64 _
  تعالوا نلاحظ ونقارن بين هذه النظرة الضيقة وبين واقع التجربة البشرية المعاصرة لنرى أي النظريتين أكثر انطباقا على العالم الذي نعيشه ، ونرى ماذا كنا نتوقع ، ماذا كنا ننتظر لو كانت هذه النظرة وكان هذا التفسير للتناقض ، لو كان صحيحا وواقعيا ، ماذا كنا ننتظر وماذا كنا نتوقع كنا ننتظر ونتوقع أن لاتحولت الى سراب ، بينما تحققت هذه النبوءات بالنسبة الى بلاد لم تعش تطورا آليا بل لم تعيش تناقضا طبقيا بالمعنى الماركسي لانها لم تكن قد دخلت الباب العريض الواسع للتطور الصناعي من قبيل روسيا القيصرية والصين .
  من ناحية اخرى هل ازداد العمال بؤسا وفقرا ، هل أزدادوا أستغلالا ؟ لا بالعكس العمال أزدادوا رخاءا ، ازدادوا سعة ، اصبحوا مدللين من قبل الطبقة الرأسمالية المستغلة ، العامل الامريكي يحصل على ما لا يطع به انسان آخر يعمل بكد بيمينة ويقطف ثمار عمله في المجتمعات الاشتراكية الاخرى ، هل ازدادت النقمة لدى الطبقة العاملة ؟ العكس هو الصحيح ، العمال والهيئات التي تمثل العمال في الدول الرأسمالية المستغلة تحولت بالتدريج أكثر هذه الهيئات تحولت الى هيئات ذات طابع شبه ديمقراطي ، تحولت الى اشخاص لهم حالة الاسترخاء السياسي ، تركوا هموم الثورة ، تركوا منطق الثورة ، أصبحوا يتصافحون يدا بيد مع تلك الايدي المستغلة ، مع أيدي الطبقة الرأسمالية ، اصبحوا يرفعون شعار تحقيق حقوق العمال عن طريق النقابات وعن طريق البرلمانات وعن طريق الانتخابات ، هذه الحالة هي حالة الاسترخاء السياسي ، كل هذا وقع في هذه الفترة القصيرة من الزمن التي نحسها ، كيف وقع هذا كله ؟ هل كان ماركس سيء الظن الى هذه الدرجة بهؤلاء الرأسماليين ، بهؤلاء المجرمين ، والمستغلين بحيث تنبأ بهذه النبوءات ثم ضاعت هذه النبوءات كلها فلم يتحقق شيء منها ؟ هل كان هذا سوء ظن من ماركس لهؤلاء المستغلين ؟ هل ان هؤلاء الرأسماليين المستغلين دخل في نفوسهم الرعب من ماركس ومن الماركسية ومن الثورات التحررية في العالم ؟ هل دخل في أنفسهم الرعب فحاولوا أن يتنازلوا عن جزء من مكاسبهم خوفا من أن يثور العامل عليهم ؟ هل هذا صحيح ، هل ان المليونير الامريكي يخالج ذهنه فعلا أي شبح من خوف من هذه الناحية ، اشد الناس تفاؤلا بمصائر الثورة في العالم لا يمكنه ان يفكر في ان ثورة حقيقية على الظلم في امريكا يمكن ان تحدث قبل مئة سنة من هذا التاريخ .
  فكيف يمكن ان نفترض ان المليونير الامريكي أصبح أمامه شبح الخوف والرعب على اساس هذا الشبح تنازل عن جزء من مكاسبه ، هل انه دخلت الى قلوبهم التقوى فجأة ؟ استنارت قلوبهم بنور الاسلام الذي أنار قلوب المسلمين الاوائل الذين كانوا لا يعرفون حدا للمشاركة والمواساة والذين كانوا يشاطرون اخوانهم غنائمهم وسرائهم وضرائهم ، هل تحول هؤلاء بين عشية وضحاها الى مسلمين ، الى قلوب مسلمة ؟ لا... لم يتحقق شيء من ذلك ، لا كارل ماركس كان سيء الظن بهؤلاء ، كان ظنه منطبقا على هؤلاء انطباقا تاما .
  ولا أن هؤلاء أرعبهم شبح العامل فتنازلوا من أجل اسكاته ولا ان قلوبهم خفقت بالتقوى لم تعرف التقوى ولن تعرف التقوى لانها انغمست في لذات المال وفي الشهوات ، لم يتحقق شيء من ذلك ، اذن ماذا وقع وكيف نفسر هذا الذي وقع ، هذا الذي وقع في الحقيقة كان نتيجة تناقض آخر عاش مع التناقض الطبقي منذ البداية ولكن ماركس والثوار الذين ساروا على هذا الطريق ، لم يستطيعوا أن يكتشفوا ذلك التناقض ولهذا حصروا أنفسهم في التناقض الطبقي في التناقض بين المليونير الامريكي والعامل الامريكي ، بين الغني الانجليزي ولم يدخلوا في الحساب التناقض الاخر الاكبر الذي أفرزه جدل الانسان الاوروبي ، افرزه تناقض الانسان الاوروبي فغطى على هذا التناقض الطبقي ، بل جنده ، بل أوقفه الى فترة طويلة من الزمن .

مُقدّمَاتٌ في التفسير الموضوعي للقرآن _ 65 _
  ما هو ذلك التناقض ؟ نحن بنظرتنا المنفتحة يمكننا أن نبصر ذلك التناقض ، أن نضع أصبعنا على ذلك التناقض لاننا لم نحصر انفسنا في اطار التناقض الطبقي ، بل قلنا أن جدل الانسان دائما يفرز أي شكل من أشكال التناقض الاجتماعي ، ذلك التناقض الآخر وجد فيه الرأسمالي المستغل الاوروبي والامريكي وجد فيه أن من طبيعة هذا التناقض ان يتحالف مع العامل ، مع من يستغله لكي يشكل هو والعامل قطبا في هذا التناقض ! لم يعد التناقض تناقضا بين الغني الاوروبي والعامل الاوروبي بل ان هذين الوجودين الطبقيين تحالفا معا وكونا قطبا في تناقض اكبر بدأ تاريخيا منذ بدأ ذلك التناقض الذي تحدث عنه ماركس ، لكن ما هو القطب الاخر في هذا التناقض .
  القطب الاخر في هذا التناقض هو أنا وأنت وأنت هم الشعوب الفقيرة في العالم هو شعوب ما يسمى بـ ( العالم الثالث ) ، هم شعوب آسيا وأفريقيا وامريكا اللاتينية ، هذه الشعوب هي التي تمثل القطب الثاني في هذا التناقض ، ان الانسان الاوروبي بكلا وجوديه الطبقيين تحالف وتمحور من أجل أن يمارس صراعه واستغلاله لهذه الشعوب الفقيرة ، وقد انعكس هذا التناقض الاكبر ، انعكس أجتماعيا من خلال صيغ الاستعمار المختلفة التي زخرت بها الساحة التاريخية منذ خرج الانسان الاوروبي والامريكي من دياره ليفتش عن كنوز الارض في مختلف أرجاء العالم ولينهب الاموال بلا حساب من مختلف البلاد والشعوب الفقيرة ، هذا التناقض غطى على التناقض الطبقي ، بل جعد التناقض الطبقي لان جدل الانسان من وراء هذا التناقض كان أقوى من جدل الانسان من وراء ذلك التناقض .
  والثراء الهائل الذي تكدس في أيدي الطبقة الرأسمالية في الدول الرأسمالية لم يكن كله ، بل ولا معظمه نتاج عرق جبين العامل الاوروبي والامريكي ، وانما كان نتاج غنائم حرب ، كان نتائج غنائم غارات ، غارات على هذه البلاد الفقيرة على بلاد أخرى استطاع الانسان الابيض ان يغزوها وان ينهبها ، هذا النعيم الذي تغرق فيه تلك الدول ليس من عرق جبين العامل الاوروبي ، ليس من نتاج التناقض الطبقي بين الرأسمالي والعامل وانما هذا النعيم هو من نفط آسيا وامريكا اللاتينية ، هو من ألماس تنزانيا ، هو من الحديد والرصاص والنحاس واليوارنيوم في مختلف بلاد أفريقيا ، هو من قطن مصر ، هو من تنباك لبنان ، هو من خمر الجزائر ! نم من خمر الجزائر لان الكافر المستعمر الذي استعمر الجزائر حول أرضها كلها الى بستان عنب لكي يقطف هذا العنب ويحوله الى خمر ليسكر به العمال ، وليشعر اولئك العمال بالنشوة والخيلاء ، لانهم يشربون خمر الجزائر ، يقطفون عنب الجزائر فيحولونه الى خمر ! نعم ذلك النعيم ، لكن من هذه المصادر ، من هذه الينابيع ! سكروا على خمر الجزائر ولم يسكروا على عرق جبين العامل الفرنسي أو الاوروبي أو الامريكي .
  اذن التناقض الذي جمد ذلك التناقض والذي وقف ذلك التناقض هو هذا التناقض الاكبر التناقض بين المحور الراسمالي ككل بكلتا طبقتيه وما بين الشعوب الفقيرة في العالم ، من خلال هذا التناقض وجد الرأسمالي الاوروبي والامريكي أن من مصلحته أن يقاسم العامل شيئا من هذه الغنائم التي نهبها مني ومنك التي نهبها من فقراء الارض والمستضعفين في الارض وان من مصلحته أن يعطي نعمة منها ، ان يسكر هو ويسكر العمال ايضا بخمر الجزائر ، ان يتزين بماس تنزانيا ويتزين العامل أو زوجته بماسة من ماسات تنزانيا ولهذا نرى أن العامل بدأت حياته تختلف عن نبوءات ماركس . ليس ذلك لاجل كرم طبيعي في الراسمالي الاوروبي والامريكي وليس لتقوى ، وانما هي غنيمة كبيرة كان من المفروض أن يعطي جزءا منها لهذا العامل والجزء وحده يكفي لاجل تحقيق هذا الرفاه بالنسبة الى هذا العامل الاوروبي والامريكي .
  اذن الحقيقة التي يثبتها التاريخ دائما هو ان التناقض لا يمكن حصره في صيغة واحده ، التناقض له صيغ متعددة وذلك لان كل هذه الصيغ تنبع من منبع واحد وهو التناقض الرئيسي ، الجدل الانساني والجدل الانساني لا تعوزه صيغة ، اذا حلت صيغة وضع صيغة أخرى مكانها ليس من الصحيح ان نطوق كل التناقضات في التنااقض الطبقي ، في التناقض بين من يملك ومن لا يملك ، فاذا حللنا هذا التناقض قلنا بأن التناقضات كلها قد حلت ، التناقض لا يمكن حصره في هذه الصيغة . التناقض هو استغلال القوي للضعيف .

مُقدّمَاتٌ في التفسير الموضوعي للقرآنء _ 66 _
  الدرس الثالث عشر
  قلنا أن خط علاقات الانسان مع الطبيعة مختلف مشكلة وقانونا عن خط علاقات الانسان مع أخيه الانسان ، وذكرنا ان هذين الخطين كل واحد منهما مستقل استقلالا نسبيا عن الخط الاخر لكن هذا الاستقلال النسبي لا ينفي التفاعل والتأثير المتبادل الى حد ما بين هذين الخطين ، فلكل منهما لون من التاثير الطردي أو العكسي على الخط الاخر وهذا التأثير المتبادل بين الخطين يمكن ابرازه ضمن علاقتين قرآنيتين بين هذين الخطين ، العلاقة الاولى تبرز مدى تأثير خط علاقات الانسان مع الطبيعة على خط علاقات الانسان مع أخيه الانسان والعلاقة القرآنية الثانية تبرز من الجانب الاخر مدى تأثير علاقات الانسان مع أخيه الانسان على علاقات الانسان مع الطبيعة ، أما العلاقة الاولى التي تبرز تأثير علاقات الانسان مع الطبيعة على الخط الاخر فمؤدى هذه العلاقة هو أنه كما نمت قدرة الانسان على الطبيعة واتسعت سيطرته عليها وازداد اغتناءا بكنوزها ووسائل انتاجها ، تحققت بذلك امكانية اكبر فاكبر للاستغلال على خط علاقات الانسان مع أخيه الانسان ( كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى ) (1) هذه الآية الكريمة تشير الى هذه العلاقة الى ان الانسانية بقدر ما تتمكن وتستقطب الطبيعة وتتوصل الى وسائل انتاج أقوى وأدوات توليد أوسع تكون انعكاسات ذلك على حقل علاقات الانسان مع أخيه الانسان ، انعكاساته على شكل امكانيات واغراءات وفتح الشهية للاقوياء لكي يستثمروا أداة الانتاج في سبيل استغلال الضعفاء ، تصوروا مجتمعا يعيش على الصيد باليد والحجارة والهراوة ، مثل هذا المجتمع لا يتمكن من أن يمارس بذور الاقوياء ، بذور الوحوش فيه لا يتمكنون على الاغلب من أن يمارسوا أدوارا خطيرة من الاستغلال الاجتماعي لان مستوى الانتاج محدود والقدرة محدودة وكل انسان لا يكسب عادة بعرق جبينه الا قوت يومه فلا توجد امكانية الاستغلال بشكله الاجتماعي الواسع وان كان توجد ألوان اخرى من الاستغلال الفردي ولكن لاحظوا من الجانب الاخر مجتمعا متطورا استطاع الانسان فيه أن يصنع الآلة البخارية والآلة الكهربائية استطاع فيه أن يخضع الطبيعة لارادته في مثل هذا المجتمع سوف تكون الالة البخارية والآلة الكهربائية المعقدة المتطورة الصنع تكون أداة ، امكانية على ساحة علاقات الانسان مع اخيه الانسان تشكل بحسب مصطلح الفلاسفة ما بالقوة للاستغلال ويبقى ان يخرج ما بالقوة الى ما بالفعل وذلك على عهدة الانسان ودوره التاريخي على الساحة الاجتماعية ، فالانسان هو الذي يصنع الاستغلال ، هو الذي يفرز النظام الرأسمالي المستغل حينما يجد الآلة البخارية والكهربائية ، ولكن الآلة البخارية والكهربائية هي التي تعطيه امكانية هذا الاستغلال ، هي التي تهيىء له فرصة تفتح شهيته ، توقظ مشاعره ، تحرك جدله الداخلي وتناقضه الداخلي من اجل أن يبرز صيغة تتناسب مع ما يوجد على الساحة من قوى الانتاج ووسائل التوريد ، وهذا هو الفرق بيننا وبين المادية التاريخية ، المادية التاريخية اعتقدت بأن الآلة هي التي تصنع الاستغلال ، هي التي تصنع النظام المتناسب لها ولكننا نحن لا نرى ان دور الآلة هو دور الصانع ، وانما دور الآلة هو دور الامكانية ، دور توفير الفرصة والقابلية وأما الصانع الذي يتصرف ايجابا وسلبا ،أمانة وخيانة ، صمودا وانهيارا ، انما هو الانسان وفقا لمحتواه الداخلي .
   لمثله الاعلى لمدى التحامة مع هذا المثل الاعلى ، هذه هي العلاقة الاولى وأما العلاقة القرآنية الثانية التي تمثل وتجسد تأثير علاقات الانسان مع الطبيعة ، فمؤدى هذه العلاقة القرآنية هو أنه كلما جسدت علاقات الانسان مع اخيه الانسان العدالة وكلما استطاعت ان تستوعب قيم هذه العدالة وان تبتعد عن أي لون من ألوان الظلم والاستغلال من الانسان لاخيه الانسان ، كلما وقع ذلك ازدهرت علاقات الانسان مع الطبيعة وتفتحت الطبيعة عن كنوزها وأعطت المخبوء من ثرواتها ونزلت البركات من السماء وتفجرت الارض بالنعمة والرخاء ، هذه العلاقة القرآنية هي العلاقة التي شرحها القرآن الكريم في نصوص عديدة قال سبحانه وتعالى ( وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا ) (2) ( وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم م ) (3) .
--------------------
(1) سورة الفلق : الآية ( 6ـ7 ) .
(2) سورة الجن : الآية (16) .
(3) سورة المائدة : الآية (66) .

مُقدّمَاتٌ في التفسير الموضوعي للقرآن _ 67 _
  ( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ) (1) ، هذه العلاقة مؤداها ان علاقات الانسان مع الطبيعة تتناسب عكسيا مع ازدهار العدالة في علاقات الانسان مع اخيه الانسان فكلما ازدهرت العدالة في علاقات الانسان مع اخيه الانسان اكثر فأكثر ازدهرت علاقات الانسان مع الطبيعة ، وكلما أنحسرت العدالة عن الخط الاول انحسر الازدهار عن الخط الثاني ، أي ان مجتمع العدل هو الذي يصنع الازدهار في علاقات الانسان مع الطبيعة ومجتمع الظلم هو الذي يؤدي الى انحسار تلك العلاقات ، علاقات الانسان مع الطبيعة ، وهذه العلاقة ليست ذات محتوى غيبي فقط ، نعم نحن نؤمن أيضا بمحتواها الغيبي ولكن اضافة الى محتواها الغيبي الرباني هي تشكل سنة من سنن التاريخ بحسب مفهوم القرآن الكريم وذلك لان مجتمع الظلم ، مجتمع الفراعنة على مر التاريخ مجتمع ممزق ، مشتت ، الفرعونية على مر التاريخ حينما تتحكم في علاقات الانسان مع اخيه الانسان تستهدف تمزيق طاقات المجتمع ، وتشتيت فئاته ، وبعثرة امكانياته ، ومن الواضح أنه تشتيت وبعثرة وتفتيت وتجزئة من هذا القبيل لا يمكن لافراد المجتمع ان يحشدوا قواهم الحقيقية والسيطرة على الطبيعة وهذا هو الفرق بين المثل العليا المنخفضة الفرعونية وبين المثل الاعلى الحق مثل التوحيد سبحانه وتعالى ، فان المثل الاعلى يوحد الجامعة البشرية ويلغي كل الفوارق والحدود باعتبار شمولية هذا المثل الاعلى باعتبار شموليته فهو يستوعب كل الحدود وكل الفوارق ، يهضم كل الاختلافات ، يصهر البشرية كلها في وحدة متكافئة ، لا يوجد ما يميز بعضها عن بعض ، لا من دم ولا من جنس ولا من قومية ولا من حدود جغرافية أو طبقية .
  المثل الاعلى بشموليته يوحد البشرية ولكن المثل العليا المنخفضة تجزيء البشرية وتشتت البشرية انظروا الى المثل الاعلى كيف يقول ( إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ) (2) ، ( إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ ) (3) ، هذا هو منطق شمولية المثل الاعلى التي لا تعترف بحد وبحاجز في داخل هذه الاسرة البشرية انظروا ، استمعوا الى المثل المنخفض ، الى مجتمع الظلم وآلهة مجتمع الظلم كيف يقولون ، أو كيف يتحدث عنهم القرآن الكريم ( إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا ) (4) ، فرعون المثل الاعلى المنخفض ،الفرعونية على مر التاريخ التي تبني العلاقات بين الانسان وأخيه الانسان علىاساس الظلم والاستغلال ، الفرعونية تجزيء المجتمع ، تبعثر امكانيات المجتمع ، وطاقات المجتمع ومن هنا تهدر ما في الانسان من قدرة على الابداع والنمو الطبيعي على ساحة علاقات الانسان مع الطبيعة ، وعملية التجزئة الفرعونية للمجتمع تقسم المجتمع الى فصائل وجماعات الجماعة الاولى ظالمون مستضعفون ، هذه الجماعة الاولى في التقسيم الفرعوني هم الظالمون المستضعفون في نفس الوقت الظالمون الثانويون أو بحسب تعبير أئمتنا عليهم الصلاة والسلام « اعوان الظلمة » هؤلاء الظالمون المستضعفون يشكلون حماية لفرعون وللفرعونية وسندا في المجتمع لبقاء الفرعونية واستمرار وجودها واطارها .
  قال الله سبحانه وتعالى ( إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ ) (5) .
  هنا القرآن يتحدث عن الظالمين يقول ( إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ ) لكن الظالمين صنفهم الى قسمين : الى من استضعفت منهم ومن استكبر منهم .
  اذن فالظالمون فيهم مستكبرون وهم الذين يمثلون الفرعونية في المجتمع وفيهم مستضعفون .
--------------------
(1) سورة الاعراف : الآية (96) .
(2) سورة الانبياء : الآية (92) .
(3) سورة المؤمنون : الآية (52) .
(4) سورة القصص : الآية (4) .
(5) سورة سبأ : الآية (31) .

مُقدّمَاتٌ في التفسير الموضوعي للقرآن _ 68 _
  فالطائفة الاولى اذن في التجزئة الفرعونية لمجتمع الظلم هم الظالمون المستضعفون هؤلاء الذين يحشرون يوم القيامة في زمرة الظالمين ثم يقولون للمستكبرين من الظالمين لولا انتم لكنا مؤمنين ، هذه هي الطائفة الاولى التي تشكل الحماية والسند للفرعونية .
  الطائفةالثانية في عملية التمزقة الفرعونية لمجتمع الظلم ظالمون يشكلون حاشية ومتملقين ، اولئك الذين قد لا يمارسون ظلما بأيديهم بالفعل ولكنهم دائما وابدا على مستوى نزوات فرعون وشهوات فرعون ورغبات فرعون يسبقونه بالقول من أجل ان يصححوا مسلكه ومسيرته .
  قال الله سبحانه وتعالى ( وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ ) (1) ، شكلوا دور الاثارة لفرعون ، هؤلاء كانوا يعرفون انهم بهذا الكلام يضربون على الوتر الحساس في قلب فرعون ، وان فرعون كان بحاجة الى كلام من هذا القبيل ، فتسابقوا الى هذا الكلام لكي يجعلوا فرعون يعبر عما في نفسه ويتخذ الموقف المنسجم مع مشاعره وعواطفه وفرعونيته .
  الطائفة الثالثة في عملية التجزئة الفرعونية لمجتمع الظلم أولئك الذين عبر عنهم الامام علي عليه الصلاة والسلام ( بالهمج الرعاع ) جماعة هم مجرد آلات مستسلمة للظلم ، لا تحس بالظلم لا تدرك انها مظلومة ولا تدرك ان في المجتمع ظلما ، هي آلات تتحرك تحركا آليا ، تحركا يشبه التحرك الميكانيكي للآلة ، تحرك التبعية والطاعة دون تدبير ، دون وعي ، سلب فرعون منها تدبرها ، عقلها ، وعيها ، ربط يدها به لا عقلها به ، ولهذا فهي تحرك يدها تحريكا آليا وتستسلم للاوامر ، للاوامر الفرعونية دون أن تناقشها حتى دون ان تتدبرها ، حتى بينها وبين نفسها لا بينها وبين الآخرين ، هذه الفئة طبعا تفقد كل قدرة على الابداع البشري في مجال التعامل مع الطبيعة ، تفقد كل قابليات النمو لانها تحولت الى آلات ، اذا وجد أن هناك ابداع في هذه الفئة انما هو ابداع من يحرك هذه الآلات ، ابداع تلك الفرعونية التي تحرك هذه الآلات ، وأما هذه الفئة فلم تعد أناسا وبشرا يفكرون ويتدبرون لكي يستطيعوا أن يحققوا لونا من الابداع على هذه الساحة .
  قال الله سبحانه وتعالى ( وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا ) (2) لا يوجد في كلام هؤلاء ما يشعر بأنهم كانوا يحسون بالظلم أو كانوا يحسون بأنهم مظلومون ، وانما هو مجرد طاعة ، مجرد تبعية ، هؤلاء هم القسم الثالث في تقسيم مولانا أمير المؤمنين عليه أفضل الصلاة والسلام حينما قال ( الناس ثلاثة : عالم رباني ومتعلم على سبيل نجاة وهمج رعاع ينعقون مع كل ناعق ) وهذا القسم الثالث يشكل مشكلة بالنسبة الى أي مجتمع صالح وبقدر ما يمكن للمجتمع الصالح أن يستأصل هذا القسم الثالث بتحويله الى القسم الثاني ، بتحويله الى متعلم على سبيل النجاة على حد تعبير الامام ، الى تابع باحسان على حد تعبير القرآن ، الى مقلد بوعي وتبصر على حد تعبير الفقه ، بقدر ما يمكن تحويل هذا القسم الثالث الى القسم الثاني يمكن للمجتمع الصالح أن يستمر وأن يمتد ولهذا كان من ضرورات المجتمع الصالح في نظر الامام عليه الصلاة والسلام هو شجب هذا القسم الثالث ، هؤلاء همج ، رعاع ينعقون مع كل ناعق ليس لهم عقل مستقل ، وارادة مستقلة .
--------------------
(1) سورة الاعراف : الآية (127) .
(2) سورة الاحزاب : الآية (67) .

مُقدّمَاتٌ في التفسير الموضوعي للقرآن _ 69 _
  كان الامام ( عليه السلام ) يرى ان هذا القسم الثالث يجب تصفيته من المجتمع الصالح ، ذلك لا بالقضاء عليه فرديا ، بل بتحويله الى القسم الثاني ضمن أحد الصيغ الثلاثة التي ذكرناها ، لكي يستطيع المجتمع الصالح أن يواصل ابداعه ، ولكي يستطيع كل أفرادالمجتمع الصالح ، ان يشكلوا مشاركة حقيقية في مسيرة الابداع .
  وخلافا لذلك الفرعونية ، الفرعونية تحاول ان توسع من هذا القسم الثالث ، هؤلاء الهمج الرعاع الذين ينعقون مع كل ناعق تحاول الفرعونية ان توسع منهم وكلما توسعت هذه الفئة اكثر فأكثر قدمت المجتمع نحو الدمار خطوة بعد خطوة لان هذه الفئة لا تستطيع بوجه من الوجوه ان تدافع عن المجتمع اذا حلت كارثة في الداخل أو طرأت كارثة من الخارج ، فكلما توسعت هذه الفئة ، هذا القسم الثالث ، هؤلاء الذين ينعقون مع كل ناعق ، كلما توسعوا في المجتمع ازداد خطر فناء المجتمع وبهذا تموت المجتمعات موتا طبيعيا . مفهوم الموت لدى القرآن للمجتمعات وللاقوام وللامم الموت الطبيعي للمجتمع لا الموت المخروم .
  المجتمع له موتان : موت طبيعي وموت مخروم ، الموت الطبيعي للمجتمع يكون عن طريق توسع هذه الفئة الثالثة وازديادها نوعيا وعدديا في المجتمع الى ان تحل الكارثة فينهار المجتمع ، هذه الطائفة الثالثة في عملية التجزئة الفرعونية أما الطائفة الرابعة : هم اولئك الذين يستنكرون الظلم في أنفسهم ، اولئك الذين لم يفقدوا لبهم أمام فرعون والفرعونية فهم يستكنرون الظلم لكنهم يهادنونه ويسكتون عنه فيعيشون حالة التوتر والقلق في أنفسهم وهذه الحالة ، حالة التوتر والقلق أبعد ما تكون عن حالة تسمح للانسان بالابداع والتجديد والنمو على ساحة علاقات الانسان مع الطبيعة .
  هؤلاء يسميهم القرآن الكريم ( ظالمي انفسهم ) ، قال الله سبحانه وتعالى ( إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا ) (1) هؤلاء لم يظلموا الاخرين ، ليسوا من الظالمين المستضعفين كالطائفة الاولى ، وليسوا من الحاشية المتملقين ، وليسوا أيضا من الهمج الرعاع الذين فقدوا لبهم بل بالعكس هم يشعرون بأنهم مستضعفون .
  ( قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْض ) هؤلاء لم يفقدوا لبهم ، يدركون واقعهم ولكنهم كانوا عمليا مهادنين ولهذا عبر عنهم القرآن بأنهم ظلموا أنفسهم هذه الطائفة هل يترقب منها أن تساعد بابداع حقيقي في مجال علاقات الانسان مع الطبيعة ؟ طبعا كلا الطائفة الخامسة في عملية التجزئة الفرعونية للمجتمع هي : الطائفة التي تتهرب من مسرح الحياة ، تبتعد عن المسرح وتتهرب منه وتترهب .
--------------------
(1) سورة النساء : الآية (97) .

مُقدّمَاتٌ في التفسير الموضوعي للقرآن _ 70 _
  وهذه الرهبانية موجودة في كل مجتمعات الظلم على مر التاريخ وهي تتخذ صيغتين الاولى صيغة جادة ، رهبانية جادة تريد ان تفر بنفسها لكي لا تتلوث بأوحال المجتمع ، هذه الرهبانية الجادة التي عبر عنها القرآن الكريم بقوله ( وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا ) (1) هذه الرهبانية يشجبها الاسلام لانها موقف سلبي تجاه مسؤولية خلافة الانسان على الارض .
  وهناك صيغة مفتعلة للرهبانية ، يترهب ويلبس مسوح الرهبان ولكنه ليس راهبا في اعماق نفسه ، وانما يريد بذلك ان يخدر الناس ويشغلهم عن فرعون وظلم فرعون ويسطو عليهم نفسيا وروحيا ، وهذا هو الذي عبر عنه القرآن الكريم بقوله ( إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّه ) (2) الجماعة السادسة والاخيرة في عملية التجزئة الفرعونية للمجتمع هم : المستضعفون .
  الفرعونية حينما جزأت المجتمع الى طوائف ، فرعون حينما اتخذ من قومه شيعا استضعف طائفة معينة منهم خصها بالاستضعاف والاذلال وهدر الكرامة لانها كانت هي الطائفة التي يتوسم ان تشكل اطارا للتحرك ضده ولهذا استضعفها بالذات .
  ( إِذْ أَنجَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ ) (3) هذه هي الطائفة السادسة وقد علمنا القرآن الكريم ضمن سنة من سنن التاريخ ايضا ان موقع اي طائفة في التركيب الفرعوني لمجتمع الظلم يتناسب عكسا مع موقعه بعد انحسار الظلم ، وهذا معنى قوله سبحانه وتعالى ( وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ) (4) .
  تلك الطائفة السادسة التي كانت هي منحدر التركيب يريد الله سبحانه وتعالى ان يجعلهم ائمة ويجعلنم الوارثين وهذه علاقة اخرى وسنة تاريخية اخرى يأتي الحديث عنها انشاء الله تعالى ، اذن فالى هنا استخلصنا هذه الحقيقة وهي : ان المجتمع يتناسب مدى الظلم فيه تناسبا عكسيا مع ازدهار علاقات الانسان مع الطبيعة ، ويتناسب مدى العدل فيه تناسبا طرديا مع ازدهار علاقات الانسان مع الطبيعة .
  مجتمع الفرعونية المجزأ المشتت مهدور القابليات والطاقات والامكانيات ومن هنا تحبس السماء قطرها ، وتمنع الارض بركاتها ، واما مجتمع العدل فهو على العكس تماما هو مجتمع تتوحد فيه كل القابليات وتتساوى فيه كل الفرص والامكانيات هذا المجتمع الذي تحدثنا الروايات عنه ، تحدثنا عنه من خلال ظهور الامام المهدي عليه الصلاة والسلام ، تحدثنا عما تحتفل به الارض والسماء في ظل الامام المهدي ( عليه السلام ) من بركات وخيرات وليس ذلك الا لان العدالة دائما وأبدا تتناسب طردا مع ازدهار علاقات الانسان مع الطبيعة ، هذه العلاقة الثانية بين الخطين .
--------------------
(1) سورة الحديد : الآية (27) .
(2) سورة التوبة : الآية (34) .
(3) سورة البقرة : الآية (49) .
(4) سورة القصص : الآية (5) .

مُقدّمَاتٌ في التفسير الموضوعي للقرآن _ 71 _
الدرس الرابع عشر
  خرجنا مما سبق بنظرية تحليلية قرآنية كاملة لعناصر المجتمع ولادوار هذه العناصر وللعلاقة القائمة بين الخطين المزدوجين في العلاقة الاجتماعية ، خط علاقات الانسان مع اخيه الانسان ، وخط علاقات الانسان مع الطبيعة ، وانتهينا على ضوء هذه النظرية القرآنية الشاملة الى ان هذين الخطين احدهما مستقل عن الآخر استقلالا نسبينا ولكن كل واحد منهما له نحو تأثير في الآخر على الرغم من ذلك الاستقلال النسبي وهذه النظرية القرآنية في تحليل عناصر المجتمع وفهم المجتمع فهما موضوعيا تشكل اساسا للاتجاه العام في التشريع الاسلامي فان التشريع الاسلامي في اتجاهاته العامة وخطوطه يتأثر وينبثق ويتفاعل مع وجهة النظر القرآنية والاسلامية الى المجتمع وعناصره وادوار هذه العناصر والعلاقات المتبادلة بين الخطين ، هذه النظريات التي قرأناها والتي نتهينا اليها على ضوء المجموعة المذكورة سابقا من أن النصوص القرآنية هذه النظريات هي في الحقيقة الاساس النظري للاتجاه العام للتشريع الاسلامي فان الاستقلال النسبي بين الخطين ، خط علاقات الانسان مع اخيه الانسان وخط علاقات النسان مع الطبيعة ، هذا الاستقلال النسبي يشكل القاعدة لعنصر الثبات في الشريعة الاسلامية والاساس لتلك المنطقة الثابتة من التشريع التي تحتوي على الاحكام العامة المنصوصة ذات الطابع الدائم المستمر في التشريع الاسلامي بينما منطقة التفاعل بين الخطين ، بين خط علاقات الانسان مع الطبيعة وخط علاقات الانسان مع اخيه الانسان ، منطقة التفاعل والمرونة تشكل في الحقيقة الاساس لما أسميناه في كتاب ( اقتصادنا ) بمنطقة الفراغ تشكل الاساس للعناصر المرنة والمتحركة في التشريع الاسلامي .
  هذه العناصر المرنة والمتحركة في التشريع الاسلامي هي انعكاس تشريعي لواقع تلك المرونة وذلك التفاعل بين الخطين ، والعناصر الاولى الثابتة والصامدة في التشريع الاسلامي هي انعكاس تشريعي لذلك الاستقلال النسبي الموجود بين الخطين ، بين خط علاقات الانسان مع اخيه الانسان وخط علاقات الانسان مع الطبيعة ، ومن هنا نؤمن بان الصورة التشريعية الاسلامية الكاملة لمجتمع هي في الحقيقة تحتوي على جانبين ، تحتوي على عناصر ثابتة ، وتحتوي على عناصر متحركة ومرنة وهذه العناصر المتحركة والمرنة التي ترك للحاكم الشرعي ان يملأها فرضت امامه مؤشرات اسلامية عامة ايضا لكي يملأ هذه العناصر المتحركة وفقا لتلك المؤشرات الاسلامية العامة ، وهذا بحث يحتاج الى كلام اكثر من هذا ، تفصيلا واطنابا ، من المفروض ان نستوعب هذا البحث انشاء الله تعالى لكي نربط الجانب التشريعي من الاسلام بالجانب النظري التحليلي من القرآن الكريم لعناصر المجتمع وبعد ذلك يبقى علينا بحث آخر في نظرية الاسلام عن ادوار التاريخ ، عن ادوار الانسان على الارض فان القرآن الكريم يقسم حياة الانسان على الارض الى ثلاثة ادوار ، دور الحضانة ، ودور الوحدة ، ودور التشتت والاختلاف .

مُقدّمَاتٌ في التفسير الموضوعي للقرآن _ 72 _
  وهذه ادوار ثلاثة تحدث عنها القرآن الكريم ، بين لكل دور الحالات والخصائص والمميزات التي يتميز بها ذلك الدور ، هذا أيضا بحث سوف نخرج منه بنظرية شاملة كاملة لهذا الجانب من تاريخ الانسان ، كل ذلك لا يمكن ان يسعه يوم واحد وبحث واحد اذن فمن الافضل ان نؤجل ذلك ، وننصرف الان من منطقة الفكر الى منطقة القلب ، من منطقة العقل الى منطقة الوجدان ، ريد ان نعيش معا لحظات بقلوبنا لا بعقولنا فقط ، بوجداننا ، بقلوبنا ، نريد ان نعرض هذه القلوب على القرآن الكريم بدلا عن ان نعرض افكارنا وعقولنا ، نعرض صدورنا ، لمن ولاؤها ؟ ما هو ذاك الحب الذي يسودها ويمحورها ويستقطبها ؟ ان الله سبحانه وتعالى لا يجمع في قلب واحد ولاءين ، لا يجمع حبين مستقطبين .
  اما حب الله واما حب الدنيا ، اما حب الله وحب الدنيا معا فلا يجتمعان في قلب واحد ، فلنمتحن قلوبنا ، فلنرجع الى قلوبنا لنمتحنها ، هل تعيش حب الله سبحانه وتعالى ، او تعيش حب الدنيا ، فان كانت تعيش حب الله زدنا ذلك تعميقا وترسيخا ، وان كانت ( نعوذ بالله ) تعيش حب الدنيا ، حاولنا ان نتخلص من هذا الداء الوبيل ، من هذا المرض المهلك .
  ان كل حب يسقطب قلب الانسان يتخذ احدى صيغتين واحدى درجتين . الدرجة الاولى ان يشكل هذا الحي محورا وقاعدة لمشاعر وعوطف وآمال وطموحات هذا الانسان قد ينصرف عنه في قضاء حاجة في حدود خاصة ولكن يعود ، سرعان ما يعود الى القاعدة لانها هي المركز ، وهي المحور ، قد ينشغل بحديث ، قد ينشغل بكلام ، قد ينشغل بعمل ، بطعام ، بشراب ، بمواجهة ، بعلاقات ثانوية ، بصداقات ، لكن يبقى ذاك الحب هو المحور ، هذه هي الدرجة الاولى ، والدرجة الثانية من الحب المحور ان يستقطب هذا الحب كل وجدان الانسان ، بحيث لا يشغله شيء عنه على الاطلاق ومعنى انه لا يشغله شيء عنه انه سوف يرى محبوبه وقبلته وكعبته اينما توجه ، اينما توجه سوف يرى ذلك المحبوب ، هذه هي الدرجة الثانية من الحب المحور ، هذا التقسيم الثنائي ينطبق على حب الله وينطبق على حب الدنيا ، حب الله سبحانه وتعالى ، الحب الشريف لله المحور يتخذ هاتين الدرجتين ، الدرجة الاولى يتخذها في نفوس المؤمنين الصالحين الطاهرين الذين نظفوا نفوسهم من اوساخ هذه الدنيا الدنية هؤلاء يجعلون من حب الله محورا لكل عواطفهم ومشاعرهم وطموحاتهم وآمالهم ، قد ينشغلون بوجبة طعام ، بمتعة من المتع المباحة ، بلقاء مع صديق ، بتنزه في شارع ، ولكن يبقى هذا هو المحور الذي يرجعون اليه بمجرد ان ينتهي هذا الانشغال الطارىء ، واما بالدرجة الثانية فهي الدرجة التي يصل اليها اولياء الله من الانبياء والائمة عليهم أفضل الصلاة والسلام ، ( علي بن أبي طالب ) الذي نحظى بشرف مجاورة قبره ، هذا الرجل العظيم كلكم تعرفون ماذا قال ، هو الذي قال ( بأني ما رأيت شيئا الا ورأيت الله معه وقبله وبعده وفيه ) لان حب الله في هذا القلب العظيم استقطب وجدانه الى الدرجة التي منعه من ان يرى شيئا آخر غير الله حتى حينما كان يرى الناس ، كان يرى فيهم عبيد الله ، حتى حينما كان يرى النعمة الموفورة كان يرى فيها نعمة الله سبحانه وتعالى دائما هذا المعنى الحرفي ، هذا الربط بالله دائما وابدا يتجسد امام عينه لان محبوبه الاوحد ، ومعشوقه الاكمل ، قبلة آماله وطموحاته ، لم يسمح له بشريك في النظر ، فلم يكن يرى الا الله سبحانه وتعالى .
  هذه هي الدرجة الثانية نفس التقسيم الثنائي يأتي في حب الدنيا ، الذي هو رأس كل خطيئة على حد تعبير رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) .

مُقدّمَاتٌ في التفسير الموضوعي للقرآن _ 72 _
  حب الدنيا يتخذ درجتين : الدرجة الاولى أن يكون حب الدنيا محورا للانسان ، قاعدة للانسان في تصرفاته وسلوكه يتحرك حينما تكون المصلحة الشخصية في أن يتحرك ويسكن حينما تكون المصلحة الشخصية في أن يسكن ، يتعبد حينما تكون المصلحة الشخصية في أن يتعبد وهكذا ، الدنيا تكون هي القاعدة ، لكن أحيانا أيضا يمكن ان يفلت من الدنيا ، يشتغل اشغال أخرى نظيفة ، طاهرة ، قد يصلي لله سبحانه وتعالى ، قد يصوم لله سبحانه وتعالى ، لكن سرعان ما يرجع مرة أخرى الى ذلك المحور وينشد اليه ، فلتات يخرج بها من اطار ذلك الشيطان ثم يرجع الى الشيطان مرة أخرى ، هذه درجة أولى من هذا المرضالوبيل ، مرض حب الدنيا ، واما الدرجة الثانية من هذا المرض الوبيل فهي الدرجة المهلكة ، حينما يعمي حب الدنيا هذا الانسان ، يسد عليه كل منافذ الرؤية ، يكون بالنسة الى الدنيا كما كان سيد الموحدين وأمير المؤمنين النسبة الى الله سبحانه وتعالى ، انه لم يكن يرى شيئا الا وكان يرى الله معه وقبله وبعده حب الدنيا في الدرجة الثانية يصل الى مستوى بحيث ان الانسان لا يرى شيئا الا ويرى الدنيا فيها وقبلها وبعدها ومعها ، حتى الاعمال الصالحة تتحول عنده وبمنظاره الى دنيا ، تتحول عنده الى متعة ، الى مصلحة شخصية حتى الصلاة ، حتى الصيام ، حتى البحث ، حتى الدرس ، هذه الالوان كلها تتحول الى دنيا لا يمكنه ان يرى شيئا الا من خلال الدنيا ، الا من خلال مقدار ما يمكن لهذا العمل ان يعطيه ، يعطيه من حفنة مال أو من كومة جاه لا يمكن ان يستمر معه الا بضعة أيام معدودة ، هذه هي الدرجة الثانية وكل من الدرجتين مهلكة والدرجة الثانية أشد هلكة من الدرجة الاولى ولهذا قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ( حب الدنيا رأس كل خطيئة ) ، قال الامام الصادق ( غليه السلام ) : ( الدنيا كماء البحر من ازداد شربا منه ازداد عطشا ) .
  لا تقل فلأأخذ هذه الحنفة من الدنيا ثم أنصرف عنها فلأحصل على هذه المرتبة من جاه الدنيا ثم انصرف الى الله ليس الامر كذلك فان أي مقدار تحصل عليه من مال الدنيا ، من مقامات هذه الدنيا الزائلة ، سوف يزداد بك العطش والنهم الى المرتبة الاخرى ، ( الدنيا كماء البحر ) ، ( الدنيا رأس كل خطيئة ) .
   الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول : ( من أصبح واكبر همه الدنيا فليس له من الله شيء ) .
   هذا الكلام يعني قطع الصلة مع الله ، يعني ان ولائين لا يجتمعان في قلب واحد ، من كان ولاءه للدنيا ، فليس له من الله شيء ) ، ليس له صلة مع الله سبحانه وتعالى لان ولائين لا يجتمعان في قلب واحد ، ( حب الدنيا رأس كل خطيئة ) لان حب الدنيا هو الذي يفرغ الصلاة من معناها ويفرغ الصيام من معناه ويفرغ كل عبادة من معناها ، ماذا يبقى من معنى لهذه العبادات ، اذا استولى حب الدنيا على قلب الانسان ، أنا وأنتم نعرف أن أولئك الذين نآخذهم على ما عملوا مع امير المؤمنين ، اولئك لم يتركوا صلاة ، ولم يتركوا صياما ، ولم يشربوا خمرا ، على الاقل عدد كبير منهم لم يقوموا بشيء من هذا القبيل ، لكنهم مع هذا ما هي قيمة هذه الصلاة ، وما هي قيمة هذا الصيام ، وما هي قيمة العفة عن شرب الخمر اذا كان حب الدنيا هو الذي يملأالقلب .

مُقدّمَاتٌ في التفسير الموضوعي للقرآن _ 73_
ما قيمة صلاة عبد   الرحمن بن عوف ، عبد الرحمن بن عوف كان صحابيا جليل القدر ، كان من السابقين الى الاسلام ، كان ممن أسلم والناس كفار ومشركون تربى على يد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، عاش مع الوحي ، مع القرآن ، مع آيات الله تترى ، لكن ماذا دهاه ؟ ماذا دهاه حينما فتح الله على المسلمين بلاد كسرى وقيصر ، وكنوز كسرى وقيصر ، ماذا دهى هذا الرجل المسكين ؟ هذا الرجل المسكين ملأ قلبه حب الدنيا ، كان يصلي وكان يصوم ، ولكن ملأ قلبه حب الدنيا حينما وقف في خيار واحد بين عثمان وعلي ( عليه السلام ) ، إما ان يكون عثمان خليفة المسلمين وإما ان يكون علي خليفة المسلمين وهو يعلم أنه لو أعطى هذه الخلافة لعلي لاسعد المسلمين الى أبد الدهر ولكنه يعلم أيضا انه حينما يعطيها الى عثمان فقد فتح بذلك باب الفتن الى آخر الدهر يعلم بذلك وقد سمع ذلك من عمر نفسه أيضا ، ولكنه في هذا الخيار غلب حب الدنيا على قلبه ، ضرب على يد عثمان وترك يد علي مبسوطة تنتظر من يبايع ، جعل عثمان خليفة ، وأقصى علي (عليه السلام) عن الخلافة ، قد تقولون أن هذه معصية هذا كترك الصلاة ، لان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جعل عليا خليفة بعده بلا فصل هذا صحيح ، تولي علي بن أبي طالب أهم لواجبات ، ولكن افرضوا وفرض المحال ليس بمحال ، لو أن رسول الله لم ينص على علي بن ابي طالب .
  أكان هذا الموقف من عبد الرحمن بن عوف مهضوما ، أكان هذا الموقف من عبد الرحمن بن عوف صحيحا ؟ ، لو تركنا كل نصوص الرسول ! وتركنا حديث الغدير وحديث الثقلين ! لو تركنا كل ذلك ، لكن بمنطق حب الله وحب الدنيا ، بمنطق الحرص على الاسلام بمنطق الغيرة على الدين والمسلمين ، أكان هذا الموقف من عبد الرحمن بن عوف سليما ، ان يطرح يد علي ( عليه السلام ) مبسوطة دون أن يبايعها ويبايع انسانا غير جدير بأن يتحمل الامانة ، ان يبايع عثمان بن عفان .
  اذن المسألة هنا ليست فقط مسألة نص وانما المسألة هنا مسألة حب الدنيا ، مسألة خيانة الامانة لان حب الدنيا يعمي ويصم ، حب عبد الرحمن بن عوف للدنيا أفقد الصلاة معناها ، أفقد الصيام معناه ، أفقد شهر رمضان معناه ، أفقد كل شيء مغزاه الحقيقي ومحتواه النبيل الشريف ( حب الدنيا رأس كل خطيئة ) وحب الله سبحانه وتعالى اساس كل كمال ، حب الله هو الذي يعطي للانسان الكمال ، العزة ، الشرف ، الاستقامة ، النظافة ، القدرة على مغالبة الضعف في كل الحالات ، حب الله سبحانه وتعالى هو الذي جعل اولئك السحرة ، يتحولون الى رواد على الطريق .

مُقدّمَاتٌ في التفسير الموضوعي للقرآن _ 74_
  فقالوا لفرعون ( فاقض ما انت قاض ، انما تقضي هذه الحياة الدنيا ) كيف قالوا هكذا ؟ لان حب الله اشتعل في قلوبهم فقالوا لفرعون بكل شجاعة وبطولة ( فاقض ما انت قاض ، انما تقضي هذه الحياة الدنيا ) حب الله هو الذي جعل علياً عليه الصلاة والسلام دائما يقف مواقف الشجاعة ، مواقف البطولة ، هذه الشجاعة ، شجاعة علي ( عليه السلام ) ليست شجاعة السباع ، ليست شجاعة الأسود ، وانما هي شجاعة الايمان وحب الله ، لماذا ؟ لان هذه الشجاعة لم تكن فقط شجاعة البراز في ميدان الحرب ، بل كانت احيانا شجاعة الرفض ، احيانا شجاعة الصبر ، علي بن ابي طالب ضرب المثل الاعلى في شجاعة المبارزة في ميدان الحرب شد حزامه وهو ناهز الستين من عمره الشريف وهجم على الخوارج وحده فقاتل أربعة آلاف انسان ، هذه قمة الشجاعة في ميدان المبارزة ، لان حب الله اسكره ! فلم يجعله يلتفت أن هؤلاء أربعة آلاف وهو واحد ! وضرب قمة الشجاعة في الصبر ، في السكوت عن الحق ، حينما فرض عليه الاسلام أن يصبر عن حقه وهو في قمة شبابه ، لم يكن في شيخوخته ، كان في قمة شبابه ، كانت حرارة الشباب ملء وجدانه ، ولكن الاسلام قال له اسكت ، اصبر عن حقك حفاظا على بيضة الدين ، ما دام هؤلاء يتحملون حفظ الشعائر الظاهرية للاسلام وللدين ، سكت ما دام هؤلاء كانوا يتحفظون على الظواهر والشعائر الظاهرية للاسلام والدين ، وكان هذا قمة الشجاعة في الصبر ايضا ! هذه ليست شجاعة الاسود ، هذه شجاعة المؤمن الذي اسكره حب الله ! وكان قمة الشجاعة في الرفض ، وفي الأباء حينما طرح عليه ذلك الرجل ان يبايعه على شروط تخالف كتاب الله وسنة رسوله بعد مقتل الخليفة الثاني ، ماذا صنع هذا الرجل العظيم ؟ هذا الرجل العظيم الذي كان يحترق لان الخلافة ذهبت من يده ، يحترق من أجل الله !! لا من أجل نفسه ، يقول ( ولقد تقمصها ابن ابي قحافة وهو يعلم ان محلي منها محل القطب من الرحى ) ، هذا الرجل الذي كان يحترق لان الخلافة خرجت من يده ، لو ان انسانا يقرأ هذه العبارة وحدها لقال ما أكثر شهوة هذا الرجل الى السلطان والى الخلافة ! لكن هذا الرجل نفسه ، هذا الرجل بذاته عرضت عليه الخلافة ، عرضت عليه رئاسة الدنيا فرفضها ! لا لشيء الا لانها شرطت بشرط يخالف كتاب الله وسنة رسوله ، من هنا نعرف ان ذلك الاحتراق لم يكن من أجل ذاته ، وانما كان من اجل الله سبحانه وتعالى ، اذن هذه الشجاعة شجاعة البراز في يوم البراز ، وشجاعة الصبر في يوم الصبر ، وشجاعة الرفض في يوم الرفض ، هذه الشجاعة خلقها في قلب علي حبه لله ، لا اعتقاده بوجود الله ، هذا الاعتقاد الذي يشاركه في فلاسفة الاغريق ايضا ، أرسطو أيضا يعتقد بوجود الله ، افلاطون أيضا يعتقد بوجود الله ، الفارابي أيضا يعتقد بوجود الله ، ماذا صنع هؤلاء للبشرية ، وماذا صنعوا للدين أو للدنيا ، ليس الاعتقاد وانما حب الله اضافة الى الاعتقاد ، هذا هو الذي صنع هذه المواقف ونحن أولى الناس بأن نطلق الدنيا ، اذا كان حب الدنيا خطيئة ، فهو منا نحن الطلبة (1) من اشد الخطايا ، هذا الشيء الذي هو خطيئة من غيرنا هو اكثر خطيئة منا ، نحن أولى من غيرنا بأن نكون على حذر من هذه الناحية ، أولا لاننا نصبنا أنفسنا أدلاء على طريق الاخرة ، ما هي مهمتنا في الدنيا ، ما هي وظيفتنا في الدنيا ؟ اذا سألك انسان ، ماذا تعمل ، ما هو مبرر وجودك ، ماذا تقول ؟ تقول بأني أريد أن اشد الناس الى الاخرة ، اشد دنيا الناس الى الاخرة ، الى عالم الغيب ، الى الله سبحانه وتعالى .
  اذن كيف تقطع دنياك عن الاخرة ؟ اذا كانت دنياك مقطوعة عن الاخرة فسوف تشد دنيا الناس الى دنياك لا الى آخرة ربك .
--------------------
(1) يقصد طلبة العلوم الدينية الاسلامية في النجف .

مُقدّمَاتٌ في التفسير الموضوعي للقرآن _ 75_
  سوف نتحول الى قطاع طريق ، ولكن أي طريق ، الطريق الى الله ، لا طريق ما بين بلد وبلد ، هذا الطريق الى الله نحن رواده ، نحن القائمون على الدلالة اليه ، على الاخذ بيد الناس فيه ، فلو اننا أغلقنا باب هذا الطريق ، لو اننا تحولنا عن هذا الطريق الى طريق آخر اذن سوف نكون حاجبا عن الله ، حاجبا عن اليوم الاخر كل انسان يستولي حب الدنيا على قلبه يهلك هو ، أما الطلبة ، أما نحن اذا استولى حب الدنيا على قلوبنا سوف نهلك ونهلك الآخرين ، لاننا وضعنا أنفسنا في موضع المسؤولية ، في موضع ربط الناس بالله سبحانه وتعالى والله لا يعيش في قلوبنا ، اذن سوف لن نتمكن من أن نربط الناس بالله ، نحن أولى الناس واحق الناس باجتناب هذه المهلكة لاننا ندعي أننا ورثة الانبياء وورثة الائمة والاولياء ، اننا السائرون على طريق محمد (صلى الله عليه وأله وسلم) وعلي والحسن والحسين عليهم الصلاة والسلام ، ألسنا نحاول أن نعيش شرف هذه النسبة هذه النسبة تجعل موقفنا أدق من مواقف الاخرين ، لاننا نحن حملة أقوال هؤلاء وافعال هؤلاء ، أعرف الناس بأقوالهم ، واعرف الناس بأفعالهم ، ألم يقل رسول الله (صلى الله عليه وأله وسلم) : ( انا معاشر الانبياء لا نورث ذهبا ولا فضة ولا عقار ، انما نورث العلم والحكمة ) ألم يقل علي بن أبي طالب عليه الصلاة والسلام : ( ان امارتكم هذه أو خلافتكم هذه لا تساوي عندي شيئا الا أن أقيم حقا أو أدحض باطلا ) . ألم يقل علي بن ابي طالب ذلك ، ألم يجسد هذا في حياته ، في كل حياته ، علي بن أبي طالب كان يعمل لله سبحانه وتعالى ، لم يكن يعمل لدنياه ، لو كان علي يعمل لدنياه لكان اشقى الناس واتعس الناس ، لان عليا حمل دمه على يده منذ طفولته ، منذ صباه ، يذب عن وجه رسول الله ( صلى الله عليه وأله وصلم ) وعن دين الله وعن رسالة الله ، لم يتردد لحظة في أن يقدم ، لم يكن يحسب للموت حسابا ، لم يكن يحسب للحياة حسابا ، كان دمه دائما على يده ، كان أطوع الناس لرسول الله في حياة رسول الله (صلى الله عليه وأله وسلم) ، وكان أطوع الناس لرسول الله بعد رسول الله ( صلى الله عليه وأله وسلم ) ، كان أكثر الناس عملا في سبيل الدين ، ومعاناة من أجل الاسلام .
   ماذا حصل ، ماذا حصل عليه علي بن أبي طالب (عليه السلام) ؟ لو جئنا الى مقاييس الدنيا ، ماذا حصل عليه هذا الرجل العظيم ؟ ألم يقصى هذا الرجل العظيم ، ألم يكن جليس بيته فترة من الزمن ، ألم يسب هذا الرجل العظيم ألف شهر على منابر المسلمين ! التي اقيمت اعوادها بجهاده ، بدمه ، بتضحياته ، سب على منابر المسلمين ! اذن لم يحصل على شيء من الدنيا لا على حطام ولا على مال ولا على منصب ولا على كناء (1) ولا على تقدير ، ولكنه على الرغم من ذلك حينما ضربه عبد الرحمن بن ملجم بالسيف على رأسه (2) ماذا قال هذا الامام العظيم ؟ قال ( لقد فزت ورب الكعبة ) لو كان علي يعمل لدنياه لقال والله اني أتعس انسان لاني لم أحصل على شيء في مقابل عمر كله جهاد ، كله تضحية ، كله حب لله ، لم أحصل على شيء ، لكنه لم يقل ذلك ، قال ( لقد فزت ورب الكعبة ) انها والله الشهادة ، لانه لم يكن يعمل لدنياه ، كان يعمل لربه ، والان لحظة اللقاء مع الله ، هذه اللحظة هي اللحظة التي سوف يلتقي بها علي مع الله سبحانه وتعالى فيوفيه حسابه ويعطيه أجره ، يعوضه عما تحمل من شدائد ، عما قاسى من مصائب ، أليس هذا الامام هو مثلنا الاعلى ، أليست حياة هذا الامام هي السنة ، أليست مصادر التشريع عندنا الكتاب والسنة ، أليست السنة هي قول المعصوم وفعله و تقريره .
  علينا أن نحذر من حب الدنيا ، لانه لا دنيا عندنا لكي نحبها ! ماذا نحب ؟ نحب الدنيا ؟! نحن الطلبة ! ما هي هذه الدنيا التي نحبها ونريد ان نغرق انفسنا فيها ونترك رضوانا من الله أكبر ، نترك مالا عين رأت ولا.
--------------------
(1) كناء : جمع كنية .
(2) ضربه في مسجد الكوفة وهو ساجد في صلاة الفجر .

مُقدّمَاتٌ في التفسير الموضوعي للقرآن _ 76_
  أذن سمعت ولا اعترض على خيال بشر ، ما هي هذه الدنيا ؟ هذه الدنيا دنيانا هي مجموعة من الاوهام ، كل دنيا وهم ، لكن دنيانا اكثر وهما من دنيا الاخرين ، مجموعة من الاوهام ، ماذا نحصل من الدنيا الا على قدر محدود جدا ، لسنا نحن أولئك الذين نهبوا أموال الدنيا وتحدثنا عنهم سابقا ، لسنا نحن أولئك الذين تركع الدنيا بين أيدينا لكي نؤثر الدنيا على الاخرة ، دنيا هارون الرشيد كانت عظيمة ، نقيس انفسنا بهارون الرشيد ، هارون الرشيد نسبه ليلا نهارا لانه غرق في حب الدنيا ، لكن تعلمون أي دنيا غرق فيها هارون الرشيد ، أي قصور مرتفعة عاش فيها هارون الرشيد ، أي بذخ وترف كان يحصل عليه هارون الرشيد ، أي زعامة وخلافة وسلطان امتد مع أرجاء الدنيا حصل عليه هارون الرشيد ، هذه دنيا هارون الرشيد ، نحن نقول بأننا أفضل من هارون الرشيد ، أورع من هارون الرشيد ، أتقى من هارون الرشيد ، عجباه نحن عرضت علينا دنيا هارون الرشيد فرفضناها حتى نكون أورع من هارون الرشيد .
  يا أولادي ، يا أخواني ، يا أعزائي ، يا أبناء علي ... هل عرضت علينا دنيا هارون الرشيد ، لا ... عرضت علينا دنيا هزيلة ، محدودة ، ضئيلة ، دنيا ما أسرع ما تتفتت ، ما اسرع ما تزول ، دنيا لا يستطيع الانسان أن يتمدد فيها كما كان يتمدد هارون الرشيد ، هارون الرشيد يلتفت الى السحابة يقول لها أينما تمطرين يأتيني خراجك ، في سبيل هذه الدنيا سجن موسى بن جعفر ( عليه السلام ) ، هل جربنا أن هذه الدنيا تأتي بيدنا ثم لا نسجن موسى بن جعفر ؟ جربنا أنفسنا ، سألنا أنفسنا ، طرحنا هذا السؤال على انفسنا ، كل واحد منا يطرح هذا السؤال على نفسه ، بينه وبين الله .
  ان هذه الدنيا ، دنيا هارون الرشيد كلفته أن يسجن موسى بن جعفر ، هل وضعت هذه الدنيا أمامنا لكي نفكر بأننا أتقى من هارون الرشيد ، ما هي دنيانا ؟ هي مسخ من الدنيا ، هي أوهام من الدنيا ، ليس فيها حقيقة الا حقيقة رضى الله سبحانه وتعالى ، الا حقيقة رضوان الله ، كل طالب علم حاله حال علي ابن أبي طالب ، اذا كان يعمل للدنيا فهو أتعس انسان ، لان أبواب الدنيا مفتوحة ، خاصة اذا كان طالب له قابلية ، له امكانية ، له ذكاء ، له قابليات ، هذا أبواب الدنيا مفتوحة له .
فاذا كان يعمل للدنيا فهو أتعس انسان ، لانه سوف يخسر الدنيا والاخرة ، لا دنيا الطلبة دنيا ولا الاخرة يحصل عليها ، فليكن همنا ان نعمل للاخرة ، أن نعيش في قلوبنا حب الله سبحانه وتعالى بدلا عن حب الدنيا لانه لا دنيا معتد بها عندنا .

مُقدّمَاتٌ في التفسير الموضوعي للقرآن _ 77_
  فاذا كان يعمل للدنيا فهو أتعس انسان ، لانه سوف يخسر الدنيا والاخرة ، لا دنيا الطلبة دنيا ولا الاخرة يحصل عليها ، فليكن همنا ان نعمل للاخرة ، أن نعيش في قلوبنا حب الله سبحانه وتعالى بدلا عن حب الدنيا لانه لا دنيا معتد بها عندنا ، الأئمة عليهم السلام علمونا بأن تذكر الموت دائما يكون من العلاجات المفيدة لحب الدنيا ، أن يتذكر الانسان الموت ، كل واحد منا يعتقد بأن كل من عليها فان ، لكن القضية دائما وابداً لا يجسدها بالنسبة الى نفسه ، من العلاجات المفيدة ان يجسدها بالنسبة الى نفسه ، دائما يتصور بأنه يمكن ان يموت بين لحظة واخرى ، كل واحد منا يوجد لديه اصدقاء ماتوا ، اخوان انتقلوا من هذه الدار الى الدار الاخرى ، أبي لم يعش في الحياة اكثر مما عشت حتى الان ، أخي لم يعش في الحياة اكثر مما عشت حتى الان ، أنا الان استوفيت هذا العمر ، من المعقول جدا أن أموت في السن الذي مات فيه أبي ، من المعقول جدا أن أموت في السن التي مات فيها أخي ، كل واحد منا لا بد وأن يكون له قدوة من هذا القبيل ، لا بد وان احباب له قد رحلوا ، أعزة له قد انتقلوا لم يبق من طموحاتهم شيء ، لم يبق من آمالهم شيء ان كانوا قد عملوا للاخرة فقد رحلوا الى مليك مقتدر ، الى مقعد صدق عند مليك مقتدر ، واذا كانوا قد عملوا للدنيا فقد انتهى كل شيء بالنسبة اليهم ، هذه عبر ، هذه العبر التي علمنا الائمة عليهم السلام ان نستحضرها دائما ، تكسر فينا شره الحياة ، ما هي هذه الحياة ، لعلها أيام فقط ، لعلها أشهر فقط ، لعلها سنوات ، لماذا نعمل دائما ونحرص دائما على اساس أنها حياة طويلة ، لعلنا لا ندافع الا عن عشرة ايام ، الا عن شهر ، الا عن شهرين لا ندري عن ماذ ندافع ، لا ندري اننا نحتمل هذا القدر من الخطايا ، هذا القدر من الآثام ، هذا القدر من التقصير امام الله سبحانه وتعالى وأمام ديننا ، نتحمله في سبيل الدفاع عن ماذا ، عن عشرة أيام ، عن شهر ، عن اشهر ... هذه بضاعة رخيصة ، نسأل الله سبحانه وتعالى ان يطهر قلوبنا وينقي أرواحنا ، ويجعل الله أكثر همنا ، ويملأ حبا له ، وخشية منه ، وتصديقا به ، وعملا بكتابه .