وإلى جانب الحيطة في الاختيار ، كانت الحيطة للقراءة نفسها ، فلم يأخذوا بكل قراءة ، بل وضعوا بعض المقاييس النقدية الاحترازية لقبول القراءة أو رفضها ، مما ينصح معه مدى عناية القوم بالقراءة المختارة ، بعد أن عسر الضبط ، وظهر التخليط ، واشتبه الأمر . قال القسطلاني نقلا عن الكواشي : « فمن ثم وضع الأئمة لذلك ميزانا يرجع إليه ، ومعيارا يعول عليه ؛ وهو السند والرسم والعربية ، فكل ما صح سنده ، واستقام وجهه في العربية ، ووافق لفظه خط المصحف الإمام فهو من السبعة المنصوصة ، فعلى هذا الأصل بني قبول القراءات عن سبعة كانوا أو سبعة آلاف ، ومتى فقد شرط من هذه الثلاثة فهو شاذ » (1) .
   والشاذ لا يعمل به في القراءات ولا يقاس عليه ، « وقد أجمع الأصوليون والفقهاء وغيرهم ، على أن الشاذ ليس بقرآن ، لعدم صدق حد القرآن عليه ، أو شرطه وهو التواتر » (2) .
   وكأن ابن الجزري قد أدخل جانب الاحتمال في بعض الشروط ، وصنف القراءة المعتبرة والباطلة فقال :
   « كل قراءة وافقت العربية ولو بوجه ، ووافقت أحد المصاحف العثمانية ولو احتمالا ، وصح سندها ، فهي القراءة الصحيحة التي لا يجوز ردها ، ولا يحل إنكارها ..
   ومتى اختل ركن من هذه الأركان الثلاثة أطلق عليها ضعيفة أو باطلة ، سواء كانت عن السبعة أم عمن هو أكبر منهم . هذا هو الصحيح عند أئمة التحقيق من السلف والخلف » (3) .
   وتكاد أن تتلاقى كلمات الأعلام في مقياس القراءة الصحيحة ، وتتداعى الخوطر . في صياغة ألفاظها ، فقد اشترط مكي بن أبي طالب ( ت : 437 هـ ) في وجه صحتها ما يلي :
--------------------
(1) القسطلاني ، لطائف الإشارات : 1 | 67 .
(2) المصدر نفسه : 1 | 72 .
(3) السيوطي ، الاتقان : 1 | 210 .

تاريخ القرآن _116 _
   « أن ينقل عن الثقات إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويكون وجهه في العربية التي نزل بها القرآن شائعا ، ويكون موافقا لخط المصحف » (1) .
   ومع هذا نجد الداني جديا في مسألة القراءة ، إذ يعتبرها سنة لا تخضع لمقاييس لغوية ، وإنما تعتمد الأثر والرواية فحسب ، فلا يردها قياس ، ولا يقرّبها استعمال فيقول :
   « وأئمة القراء لا تعمل في شيء من حروف القرآن على الأفشى في اللغة ، والأقيس في العربية ، بل على الأثبت في الأثر ، والأصح في النقل وإذا ثبتت الرواية لم يردّها قياس عربية ، ولا فشو لغة ، لأن القراءة سنة متبعة ، يلزم قبولها والمصير إليها » (2) .
   وما أبداه الداني لا يخلو من نظر أصيل ، إذ القراءة إذا كانت متواترة صحيحة السند ، فهي تفيد القطع ، ولا معنى لتقييد القطع بقياس أو عربية ، فالعربية إنما تصحح في ضوء القرآن ، ولا يصحح القرآن في ضوء العربية ، ومع هذا فإن الإجماع القرائي يكاد أن يكون متوافرا على اشتراط صحة السند ، ومطابقة الرسم المصحفي ، وموافقة اللغة العربية ؛ لهذا تختلف النظرة بالنسبة للقراءة في ضوء تحقق هذه الشروط أو عدمه ، وقد نتج عنه تقسيم القراءات إلى صحيحة وشاذة ، فما اجتمعت فيه من القراءات هذه الشروط فهو الصحيح ، وما نقص عنه فهو الشاذ .
   وفي هذا الضوء ولد ـ في عهد ابن مجاهد ـ مقياسان آخران ، وماتا في مهدهما ، لعدم تلقي المسلمين لهما بالقبول ، ولرفضهم لهما ، وهما :
   مقياس ابن شنبوذ ( ت : 327 هـ ) الذي اكتفى فيه بصحة السند وموافقة العربية .
   ومقياس ابن مقسم ( ت : 354 هـ ) الذي اكتفى فيه بمطابقة المصحف وموافقة العربية (3) .
   وقد تحرر للسيوطي مع المقارنة فيما كتبه ابن الجزري في النشر ، أن القراءات أنواع :
--------------------
(1) مكي ، الإبانة : 18 .
(2) السيوطي ، الاتقان : 1 | 211 .
(3) ظ : الفضلي ، القراءات القرآنية : 39 وانظر مصدره .

تاريخ القرآن _117 _
   الأول : المتواتر ، وهو ما نقله جمع لا يمكن تواطؤهم على الكذب ، عن مثلهم إلى منتهاه ، وغالب القراءات كذلك .
   الثاني : المشهور ، وهو ما صح سنده ، ولم يبلغ درجة التواتر ، ووافق العربية والرسم واشتهر عند القراء .
   الثالث : الآحاد ، وهو ما صح سنده ، وخالف الرسم أو العربية ، أو لم يشتهر بالاشتهار المذكور ، ولا يقرأ به .
   الرابع : الشاذ ، وهو ما لم يصح سنده .
   الخامس : الموضوع ، [ وهو ما لا أصل له ] .
   السادس : ما زيد في القراءات على وجه التفسير (1) .
   وهذا التقسيم الذي استخرجه السيوطي مما أفاضه ابن الجزري جدير بالأهمية إذ هو جامع مانع كما يقول المناطقة .
   وتبقى النظرة إلى هذه القراءات متأرجحة بين التقديس والمناقشة ، فمن يقدسها يعتبرها قرآنا ، ومن يناقشها يعتبرها علما بكيفية أداء كلمات القرآن ، وفرق بين القرآن وأداء القرآن .
   فالباقلاني يذهب : « أن القراءات قرآن منزل من عند الله تعالى ، وأنها تنقل خلفا عن سلف ، وأنهم أخذوها من طريق الرواية ، لا من جهة الاجتهاد ، لأن المتواتر المشهور أن القراء السبعة إنما أخذوا القرآن رواية ، لأنهم يمتنعون من القراءة بما لم يسمعوه » (2) .
   بينما خالفه الزركشي في هذه الملحظ ، واعتبر القرآن حقيقة ، والقراءات حقيقة أخرى فقال :
   « والقرآن والقراءات حقيقتان متغايرتان ، فالقرآن : هو الوحي المنزل على محمد للبيان والإعجاز ، والقراءات : اختلاف ألفاظ الوحي المذكور في الحروف وكيفيتها من تخفيف وتشديد وغيرهما » (3) .
--------------------
(1) ظ : السيوطي ، الاتقان : 1 | 216 .
(2) الباقلاني ، نكت الانتصار لنقل القرآن : 415 .
(3) الزركشي ، البرهان : في علوم القرآن : 1 | 318 .

تاريخ القرآن _118 _
   والحق أن رأي الزركشي يتفق مع تعريف القراءات المتداول عند أئمة التحقيق ، فقد ذهبوا إلى أن علم القراءات : هو علم يعرف منه إتفاق الناقلين لكتاب الله واختلافهم في اللغة والأعراب ، والحذف والإثبات والتحريك والإسكان ، والفصل والإتصال ، وغير ذلك من هيئة النطق ، والإبدال من حيث السماع (1) .
   والحق أن لا علاقة بين حقيقة القرآن وحقيقة القراءات ، فالقرآن هو النص الإلهي المحفوظ ، والقراءات أداء نطق ذلك النص إتفاقا أو اختلافا ، والقرآن ذاته لا اختلاف في حقيقته إطلاقا .
   وقد استظهر الزركشي تواتر القراءات عن القراء السبعة : « أما تواترها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ففيه نظر ، فإن إسناد الأئمة السبعة بهذه القراءات السبعة موجود في كتب القراءات ، وهي نقل الواحد عن الواحد ، ولم تكمل شروط التواتر في استواء الطرفين والواسطة ، وهذا شيء موجود في كتبهم ، وقد أشار الشيخ شهاب الدين أبو شامة في كتابه « المرشد الوجيز » إلى شيء من ذلك » (2) .
   وقد وافقه من المتأخرين السيد الخوئي وازداد عليه حيث قال : « إنها غير متواترة ، بل القراءات بين ما هو اجتهاد من القارىء وبين ما هو منقول بخبر الواحد » (3) .
   وقد حشد لهذا الرأي جملة من الأدلة خلص منها إلى عدم تواتر القراءات ، وأنها نقلت بأخبار الآحاد (4) .
   ويكاد أن ينعقد إجماع المسلمين على حجية هذه القراءات وتواترها ـ سواء أكان تواترها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو عن أصحابها ـ وعلى جواز القراءة بها في الصلاة وغيرها .
--------------------
(1) القسطلاني ، لطائف الإشارات : 1 | 170 .
(2) الزركشي ، البرهان : 1 | 319 .
(3) الخوئي ، البيان : 123 .
(4) ظ : الخوئي البيان : 151 وما بعدها .

تاريخ القرآن _119 _
   فعن الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام أنه قال : « إقرأوا كما علّمتم » (1) .
   وقال الشيخ الطوسي ( ت : 460 هـ ) وهو يتحدث عن رأي الإمامية في الموضوع :
   « واعلموا أن العرف من مذهب أصحابنا ، والشائع من أخبارهم ورواياتهم أن القرآن نزل بحرف واحد ، على نبي واحد ، غير أنهم أجمعوا على جواز القراءة بما يتداوله القراء ، وأن الإنسان مخير بأي قراءة شاء قرأ ، وكرهوا تجريد قراءة بعينها ، بل أجازوا القراءة بالمجاز الذي يجوز بين القراء ، ولم يبلغوا بذلك حد التحريم والحظر » (2).
   وقد حكى الطبرسي ( ت : 548 هـ ) الإجماع عليه فقال :
   « إعلم أن الظاهر من مذهب الإمامية أنهم أجمعوا على جواز القراءة بما تتداوله القراء بينهم من القراءات ، إلا أنهم اختاروا القراءة بما جاز بين القراء ، وكرهوا تجريد قراءة مفردة » (3) .
   وذهب الشهيد الأول : ( ت : 786 هـ ) من الإمامية إلى أن القراءات متواترة ، ومجمع على جواز القراءة بها ، وتابعه الخوانساري في ذلك ، ونفى الخلاف في حجية السبع منهم مطلقا ، والثلاث المكملة للعشر في الجملة ، بل اعتبر تواترها بوجوهها السبعة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند قاطبة أهل الإسلام (4) .
   وقد انتهى العاملي إلى الإجماع على تواتر القراءات ونعتها به وحكاه عن المنتهى والتحرير والتذكرة والذكرى ، والموجز الحاوي ، وغيرها من أمهات كتب الإمامية مما يقطع معه بتواترها حرفا حرفا ، وحركة حركة (5) .
--------------------
(1) الكليني ، أصول الكافي : 2 | 631 .
(2) الطوسي ، التبيان : 1 | 7 .
(3) الطبرسي ، مجمع البيان : 1 | 12 .
(4) ظ : الخوانساري ، روضات الجنات : 263 .
(5) ظ : العاملي ، مفتاح الكرامة : 2 | 290 .

تاريخ القرآن _120 _
   وقد فصل الخوئي في القول ، فذهب إلى عدم حجية هذه القراءات ، فلا يستدل بها على الحكم الشرعي ، إذ لم يتضح عنده كون القراءات رواية ، فلعلها اجتهادات في القراءة ، ولكنه جوز بها الصلاة نظرا لتقرير المعصومين لها ، وذلك عنده يشمل كل قراءة متعارفة زمن أهل البيت عليهم السلام إلا الشاذة فلا يشملها التقرير (1) .
--------------------
(1) ظ : الخوئي ، البيان في تفسير القرآن : 164 ـ 167 .