ومما لا شك فيه أن الاختلاف في جملة القراءات كان في الأقل ، وأن الاتفاق كان في الأعم الأكثر ، والنظر في المصاحف الأولى تجد يؤيد الاختلاف في قلة معدودة من الكلمات ، نطقا وإمالة وحركات ، وقد جمعت في كتاب المباني محدودة : « اختلف مصحفا أهل المدينة والعراق في إثنى عشر حرفا ، ومصحفا أهل الشام وأهل العراق في نحو أربعين حرفا ، ومصحفا أهل الكوفة والبصرة في خمسة حروف » (1) .
   فإذا كان بعض الخلاف في القراءات مصدره اختلاف مصاحف الأمصار ، فالاختلافات ضيقة النطاق ، وتظل القضية قضية تأريخية فحسب ، إذ القرآن المعاصر الذي أجمع عليه العالم الإسلامي ـ وهو ذات القرآن الذي نزل به الوحي على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ مرقوم برواية حفص لقراءة عاصم بن أبي النجود الكوفي ، باستثناء المغرب العربي الذي اعتمد قراءة نافع المدني برواية ورش .
   وتبقى المسألة بعد هذا أثرية العطاء ، نعم قد تبدو الهوة سحيقة فيما يدعى من خلافات لا طائل معها ، ولكن النظرة العلمية الفاحصة تخفف من حدتها ، فما من شك أن عاملا متشابكا وراء تلك الخطوط المتناثرة هنا وهناك ، ذلك هو المناخ الإقليمي السائد آنذاك في الأفق العلمي ، فهو مما يجب الوقوف عنده ، ألا وهو النزاع القائم بين مدرستي الكوفة والبصرة ، وما نشأ عنه من تعصب إقليمي حينا ، واختلاف تقليدي حينا آخر ، ومزيج من هذا وذاك بعض الأحايين ، فدرج جيل يصوب رأي الكوفيين ، وآخر يؤيد نظر البصريين ، مما طبع أثره على جملة من شؤون التراث ، والقراءات جزء من ذلك التراث ، وأفرغ كثيرا من الإسراف في التجريح والتعديل ، فعاد صراعا عشوائيا يوثق به الضعفاء ، ويضعف به الثقات في كثير من المظاهر ، وقد لا يكون لكل ذلك أصل ، فطالما حمل البصريون أو من شايعهم على الكوفيين وبالعكس ، وطالما تعصب لمذهب من القراءة جيل من الناس ، وجانب قراءة جيل آخر ، دون العودة إلى قاعدة متأصلة .
   وهذا الملحظ الدقيق جدير بالتمحيص والترصد بغية الوصول إلى
--------------------
(1) المصدر نفسه : 117 .

تاريخ القرآن _107 _
مقياس علمي أصيل تزان في ضوئه حقائق القراءات .

*  *  *

   وكما اختلف في مصادر القراءات ومنابعها ، فقد اختلف في القراء وعددهم ، وتضاربت الآراء في منزلتهم وشهرتهم ، فكان منهم السبعة ، والعشرة ، والأربعة عشر ، وكان اعتبارهم يتردد بين الأقاليم تارة ، وبين الشهرة تارة أخرى ، وبينهما في أغلب الأحيان ، وقد تحل المنزلة العلمية مكان الشهرة حينا ، وقد يكون العكس هو المطرد ، وقد تتحقق الشهرة عند باحث ، وتنتفي عند باحث غيره ، وهكذا ...
   وقد كان مشاهير القراء قبل ابن مجاهد ( ت : 324 هـ ) على النحو الآتي :
   1 ـ عبد الله اليحصبي ، المعروف بابن عامر ( شامي ) ( ت : 118 هـ ) .
   2 ـ عاصم بن أبي النجود ( كوفي ) ، ( ت : 127 هـ ) .
   3 ـ عبد الله بن كثير الداري ( مكي ) ، ( ت : 129 هـ ) .
   4 ـ أبو عمرو بن العلاء ( بصري ) ، ( ت : 154 هـ ) .
   5 ـ نافع عبد الرحمن بن أبي نعيم ( مدني ) ، ( ت : 169 هـ ) .
   6 ـ حمزة بن حبيب الزيات ( كوفي ) ، ( ت : 188 هـ ) .
   7 ـ يعقوب بن أبي إسحاق الحضرمي ( بصري ) ، ( ت : 205 هـ ) .
   وقد حذف ابن مجاهد يعقوب من السبعة وأثبت مكانه علي بن حمزة ( الكسائي الكوفي ) ( ت : 189 هـ ) واعتبره من القراء السبعة . وهكذا كان .
   أما من عد القراء عشرة ، فأضاف لهم زيادة على تسبيع ابن مجاهد وتعيينه لهم ، يزيد بن القعقاع ( ت : 130 هـ ) ويعقوب الحضرمي ( ت : 205 هـ ) وحلف بن هشام ( ت : 229 هـ ) .
   ويبدو أن الكسائي ( ت : 189 هـ ) لم يكن معدودا من القراء السبعة ، وإنما ألحقه ابن مجاهد في سنة ثلاثمائة أو نحوها بدل يعقوب الحضرمي

تاريخ القرآن _108 _
وقد كان السابع (1) .
   وفي هذا الضوء نجد القراء عند ابن مجاهد ، هم : نافع ، ابن كثير ، عاصم ، حمزة بن حبيب ، الكسائي ، أو عمرو بن العلاء ، عبد الله بن عامر .
   وقد عقب ابن مجاهد على ذلك بقوله :
   « فهؤلاء سبعة نفر ، من أهل الحجاز ، والعراق ، والشام ، خلفوا في القراءة التابعين ، وأجمعت على قراءتهم العوام من أهل كل مصر من هذه الأمصار التي سميت وغيرها من البلدان التي تقرب من هذه الأمصار » (2) .
   وواضح أن تقسيم ابن مجاهد تقسيم إقليمي نظر فيه إلى اعتبار الأمصار التي وجهت إليها المصاحف في عهد عثمان ( رض ) لا باعتبار تعصب إقليمي من قبله .
   وابن مجاهد أول من اقتصر على هؤلاء السبعة ، فإنه أحب أن يجمع المشهور من قراءات الحرمين والعراقين والشام ، إذ هذه الأمصار الخمسة هي التي خرج منها علم النبوة ، من القرآن وتفسيره ، والحديث ، والفقه في الأعمال الباطنة الظاهرة وسائر العلوم الدينية (3) .
   وقد تبعه الفضل بن الحسن الطبرسي ( ت : 548 هـ ) بتصنيف القراء في ضوء الأقاليم الإسلامية ، ولكنه اختلف معه بالتعيين ، فأسماء القراء المشهورين عنده باعتبار الأمصار كالآتي :
   1 ـ أبو جعفر يزيد بن القعقاع ، مدني وليس من السبعة .
   2 ـ عبد الله بن كثير ، مكي من السبعة .
   3 ـ عاصم بن أبي النجود ، كوفي من السبعة .
   4 ـ حمزة بن حبيب ، كوفي من السبعة .
--------------------
(1) أبو شامة ، المرشد الوجيز : 153 .
(2) ابن مجاهد ، كتاب السبعة : 87 .
(3) ظ : القسطلاني ، لطائف الإشارات : 1 | 86 .

تاريخ القرآن _109 _
   5 ـ علي بن حمزة الكسائي ، كوفي من السبعة .
   6 ـ خلف بن هشام ، كوفي ، وليس من السبعة وله اختيار .
   7 ـ أبو عمرو بن العلاء ، بصري من السبعة .
   8 ـ يعقوب بن إسحاق الحضرمي ، بصري وليس من السبعة
   9 ـ ابو حاتم سهل بن محمد السجستاني بصري ، وليس من السبعة .
   10 ـ عبد الله بن عامر ، شامي من السبعة (1) .
   فالطبرسي عد من القراء السبعة ؛ عبد الله بن كثير ، وعاصم ، وحمزة بن حبيب ، والكسائي ، وأبو عمرو بن العلاء ، وعبد الله بن عامر ، بينما أسقط نافع بن عبد الرحمن ، قارىء أهل المدينة .
   وعد من غيرهم : يزيد بن القعقاع ، وخلف بن هشام ، ويعقوب بن إسحاق الحضرمي ، وسهل بن محمد السجستاني .
   فعدة القراء المشهورين عنده عشرة . وقد عقب على تعيينه لهؤلاء بما يلي :
   « وإنما اجتمع الناس على قراءة هؤلاء واقتدوا بهم فيها لسببين :
   أحدهما : أنهم تجردوا لقراءة القرآن ، واشتدت بذلك عنايتهم مع كثرة علمهم . ومن كان قبلهم أو في أزمتهم ممن نسب إليه القراءة من العلماء ، وعدت قراءتهم في الشواذ ، لم يتجرد لذلك تجردهم ، وكان الغالب على أولئك الفقه والحديث أو غير ذلك من العلوم
   والآخر : أن قراءتهم وجدت مسندة لفظا أو سماعا حرفا حرفا من أول القرآن إلى آخره مع ما عرف من فضائلهم ، وكثرة علمهم بوجوه القرآن » (2) .
   والحق أن القراء الذين ذكرت قراءاتهم فيما ألف من كتب القراءات
--------------------
(1) ظ : الطبرسي ، مجمع البيان : 1 | 11 وما بعدها .
(2) المصدر نفسه : 1 | 12 .

تاريخ القرآن _110 _
يزيد على هذا العدد كثيرا ، وفيهم من هو أسبق منهم تأريخا . فقد تتبع الدكتور الفضلي من ألف في القراءات قبل اختيار ابن مجاهد للقراء السبعة ، فبلغت عدتهم عنده أربعة وأربعين مؤلفا ، ابتداء من يحيى بن يعمر ( ت : 90 هـ ) وانتهاء بأبي بكر محمد بن أحمد الداجوني ( ت : 324 هـ ) (1) .
   وكان نتيجة لهذا الإحصاء الدقيق أن ظهر أن هذه المؤلفات لم تختص بالقراءات السبع أو العشر أو الأربع عشرة ، وقراء تلك القراءات بل اتضح من خلال العرض والتحليل أن فيها من هو متقدم على بعض القراء المشهورين تأريخا ، حتى إذا جاء ابن مجاهد التميمي البغدادي ( ت : 324 هـ ) فاختار من الجميع أولئك .
   وقد علل مكي بن أبي طالب ( ت : 437 هـ ) وجه الاقتصار على هؤلاء دون غيرهم فقال :
   « إن الرواة من الأئمة من القراء كانوا في العصر الثاني والثالث كثيرا في العدد ، كثيرا في الاختلاف ، فأراد الناس في العصر الرابع أن يقتصروا من القراءات التي توافق المصحف على ما يسهل حفظه ، وتنضبط القراءة به ، فنظروا إلى إمام مشهور بالثقة والأمانة ، وحسن الدين ، وكمال العلم ، فقد طال عمره ، واشتهر أمره ، وأجمع أهل عصره على عدالته فيما نقل ، وثقته فيما روى ، وعلمه بما يقرأ ، فلم تخرج قراءته عن خط مصحفهم المنسوب إليهم ، فأفردوا من كل مصر وجه إليه عثمان مصحفا ، إماما هذه صفته ، وقراءته على مصحف ذلك المصر » (2) .
   وقد أيد ذلك من المتأخرين السيد محمد الجواد العاملي النجفي ( ت : 1226 هـ ) فتحدث عن وجهة نظره في تحديد القراءات بالسبع والقراء بالسبعة ، وقال :
   « وحيث تقاصرت الهمم عن ضبط الرواة لكثرتهم غاية الكثرة ،
--------------------
(1) ظ : عبد الهادي الفضلي ، القراءات القرآنية : 27 ـ 32 .
(2) مكي ، الإبانة : 47 ـ 48 .

تاريخ القرآن _111 _
اقتصروا مما يوافق خط المصحف على ما يسهل حفظه ، وتنضبط القراءة به ، فعمدوا إلى من اشتهر بالضبط والأمانة وطول العمر في الملازمة للقراءة ، والاتفاق على الأخذ عنه ، فأفردوا إماما من هؤلاء في كل مصر من الأمصار المذكورة ، وهم : نافع وابن كثير وأبو عمرو ، وابن عامر ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي » (1) .
   وبملاحظة ما حققه ابن مجاهد من جمعه للقراءات ، وبيان وجوه الاختلاف فيها ، يتجلى أن الاختلاف ليس من العسر بمكان بحيث قد يؤدي إلى تشويه النص ، أو تغيير الأحكام ، أو اضطراب القراءة ، بل نجد الأعم الأغلب منه إنما يرجع إلى أصول الأداء ، وطريقة التلفظ ، وتحقيق النطق مدغما أو ممالا ، منقوطا أو غير منقوط ، إمدادا وإشماما ، وهو اختلاف لا يضفي على النص القرآني أي مردود معقد لا يمكن معه الوصول إلى الحقيقة القرآنية ، مما يقرب إلينا القول بأن هذه القراءات إنما اشتبكت وتظاهرت وتفاوتت اجتهادا في كيفية أداء النطق تارة ، وطريقة تلفظه تارة أخرى ، ومردود اللهجات عليها بين ذلك .
   وهذا إنما يجري في القراءات المتواترة رواية مرفوعة ، أو دراية من أصحابها ، ولا ينطبق على القراءات الشاذة التي أصبحت فيما بعد عرضة لزلل الأهواء .
   « ولا مرية أنه كما يتعبد بفهم معاني القرآن وإقامة حدوده ، يتعبد بتصحيح ألفاظه ، وإقامة حروفه على الصفة المتلقاة . عن أئمة القراء ، ومشايخ الأقراء ، المتصلة بالحضرة النبوية الأفصحية العربية ، التي لا يجوز مخالفتها ، ولا العدول عنها (2) .
   وقد بلغت القراءات السبع حد الرضا والقبول عند المسلمين وعلمائهم ، فلم يؤثّر عليها تعدد القراءات ، ولم يؤثّروا عليها سواها .
   وكان إلى جنب القراءات اختيار في القراءات قد تشمل هذه القراءات
--------------------
(1) العاملي ، مفتاح الكرامة : 2 | 391 + القراءات القرآنية .
(2) القسطلاني ، لطائف الإشارات : 1 | 209 .

تاريخ القرآن _112 _
ـ كما سيأتي ـ وقد لا تشملها ، وهي لا تحمل الطابع الشخصي لأصحابها ، بل هي ضمن قواعد قد تتسم بالطابع الشمولي العام .
   قال مكي بن أبي طالب : « وأكثر اختياراتهم إنما هو في الحرف إذ اجتمع فيه ثلاثة أشياء :
   قوة وجهه في العربية .
   وموافقته للمصحف .
   واجتماع العامة عليه .
   والعامة ـ عندهم ـ ما اتفق عليه أهل المدينة وأهل الكوفة ، فلذلك عندهم حجة قوية ، فوجب الاختيار .
   وربما جعلوا العامة ما اجتمع عليه أهل الحرمين .
   وربما جعلوا الاختيار على ما اتفق عليه نافع وعاصم ، فقراءة هذين الإمامين أوثق القراءات وأصحها سندا ، وأفصحها في العربية ، ويتلوهما في الفصاحة خاصة : قراءة أبي عمرو والكسائي رحمهم الله » (1) .
   ويبدو مضافا إلى ما تقدم ، أن لأئمة الإقراء أنفسهم تصرفا يقوم على حسن النظر وأصول الاستنباط ، يتمثل باختيارهم للقراءة التي تنسب إليهم ، فهم يتدارسون القراءات على يد نخبة من التابعين ، ومن ثم يقارنون بين هذه القراءات التي اخذوها ، ويحكمون مداركهم في أسانيدها وأصولها ومصادرها ، فيؤلفون القراءة التي يختارونها بناء على كثرة الموافقات عند أغلب الشيوخ المقرئين . فقد قال نافع بن أبي نعيم ( ت : 169 هـ ) وهو يتحدث عن مشايخه في الإقراء :
   « أدركت هؤلاء الخمسة وغيرهم ... فنظرت إلى ما أجمع عليه إثنان منهم فأخذته ، وما شذ فيه واحد تركته ، حتى ألفت هذه القراءة » (2) .
   وربما كان المقرىء مخالفا لأستاذه في اختياره للقراءة ، ناظرا في
--------------------
(1) مكي ، الإبانة في معاني القراءات : 48 وما بعدها .
(2) ابن مجاهد ، كتاب السبعة : 62 .

تاريخ القرآن _113 _
وجوه القراءات الأخرى ، كما هي الحال عند الكسائي حينما اختار من قراءة حمزة وقراءة من سواه ، وأسس لنفسه بذلك اختيارا (1) .
   قال ابن النديم : « وكان الكسائي من قراء مدينة السلام ، وكان أولا يقرأ الناس بقراءة حمزة ، ثم اختار لنفسه قراءة ، فاقرأ بها الناس » (2) .
   وقد كان لأبي عمرو بن العلاء اختيار من قراءة ابن كثير ، وهو شيخه ، ومن قراءة غيره ، وأسس بذلك لنفسه قراءة تنسب إليه (3) .
   وقد شجعت ظاهرة الاختيار في القراءة على القضاء على النزعة الإقليمية التي انتشرت في نسبه القراءات للأمصار ، إذا امتزجت هذه القراءات في الأغلب نتيجة للاختيار ، فتداخلت قراءة أهل المدينة بقراءة أهل الكوفة ، وقراءة الشام بقراءة العراق ، فلم تعد القراءة فيما بعد إقليمية المظهر ، بقدر ما هي علمية المصدر ، وفي هذا الضوء وجدنا القراء السبعة يمثلون خلاصة التجارب الماضية للقرنين الأول والثاني في العطاء العلمي المشترك بين الأقاليم ، لما في ظاهرة الاختيار لدى أئمة الأقراء من عناصر مختلف القراءات ، حتى وحدت ونسبت منفردة إلى عاصم ، أو نافع ، أو الكسائي ، وهي عصارة قراءة لمصرين ، أو قراءات لأمصار ، تتفق مع قراءة بوجه ، وتختلف مع قراءة بوجه آخر ، وتجمع بين هذين بما ألف قراءة منظورة متميزة ، تعني تجارب السابقين ، وعطاء المتخصصين . حتى وقف الاختيار على أعتاب القرن الرابع ، حيث بدأ ابن مجاهد في حفظ القراءات والاختيارات ، دون التفكير بتجديد ظاهرة الاختيار التي لم تعد من هموم هؤلاء الأعلام أمثال ابن مجاهد ، بل اتجهت هممهم إلى صيانة تلك القراءات ، لا إلى الاختيار .
   فقد روى الذهبي عن عبد الواحد بن عمر بن أبي هاشم ، وهو تلميذ ابن مجاهد ، قال :
   « سأل رجل ابن مجاهد ، لم لا يختار الشيخ لنفسه حرفا يحمل عليه ؟
--------------------
(1) ظ : المصدر نفسه : 78 .
(2) ابن النديم ، الفهرست : 30 .
(3) ظ : ابن الجزري ، غاية النهاية : 2 | 376 .

تاريخ القرآن _114 _
فقال : نحن أحوج إلى أن نعمل أنفسنا في حفظ ما مضى عليه أئمتنا ، أحوج منا إلى اختيار حرف يقرأ به من بعدنا » (1) .
   وفي ضوء ما تقدم يبدو لنا أن الاختيار عبارة عن استنباط القراءة من خلال النظر الاجتهادي في القراءات السابقة ، والموازنة فيما بينها على أساس السند في الرواية ، أو الوثاقة في العربية ، أو المطابقة في الرسم المصحفي ، أو إجماع العامة ، من أهل الحرمين أو العراقين ، أو الموافقة بين مقرئين ، ومن خلال ذلك نشأت القراءات المختارة .
   يقول القرطبي : « وهذه القراءات المشهورة هي اختيارات أولئك الأئمة القراء ، وذلك أن كل واحد منهم اختار مما روي وعلم وجهه من القراءات ما هو الأحسن عنده والأولى ، والتزم طريقه ورواه ، وأقرأ به ، واشتهر عنه وعرف به » (2) .
   ويرى الدكتور الفضلي : « أن اجتهاد القراء لم يكن في وضع القراءات ـ كما توهم البعض ـ وإنما في اختيار الرواية ، وفرق بين الاجتهاد في اختيار الرواية والاجتهاد في وضع القراءة » (3) .
   فإضافة القراءة لصاحبها إضافة اختيار لا إضافة اختراع ورأي واجتهاد (4) .    ومما يؤيده ما أورد أبو شامة باعتبار القراءة سنة ، والسنة لا مورد فيها للاجتهاد بالمعنى المشار إليه : « ألا ترى أن الذين أخذت عنهم القراءة إنما تلقوها سماعا ، وأخذوها مشافهة ، وإنما القراءة سنة يأخذها الآخر عن الأول ، ولا يلتفت في ذلك إلى الصحف ، ولا إلى ما جاء من وراء وراء » (5) .
--------------------
(1) الحافظ الذهبي ، معرفة القراءة : 1 | 171 .
(2) القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن : 15 | 40 .
(3) الفضلي ، القراءات القرآنية : 106 .
(4) ابن الجزري ، النشر : 1 | 52 .
(5) أبو شامة ، المرشد الوجيز : 132 .