7 ـ أورد السيوطي في مسألة القراءة في المصحف أفضل من القراءة من حفظه ، لأن النظر في المصحف عبادة مطلوبة ، أورد عدة روايات مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيها ذكر المصحف ، مما يعني أن لفظ « المصحف » المجموع فيه القرآن ، كان شائعا ومعروفا ، وذا دلالة معينة منذ عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فما رفع إليه على سبيل المثال (1) :
   أ ـ ما أخرجه الطبراني ، والبيهقي في الشعب من حديث أوس الثقفي مرفوعا :
   « قراءة الرجل في غير المصحف ألف درجة ، وقراءته في المصحف تضاعف ألفي درجة » .
   ب ـ ما أخرجه البيهقي عن ابن مسعود مرفوعا : « من سره أن يحب الله ورسوله ، فليقرأ في المصحف » .
   ج ـ وأخرج بسند حسن مرفوعا : « أديموا النظر في المصحف » .
   د ـ وأخرج غير السيوطي ، عن أبي هريرة ، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : الغرباء في الدنيا أربعة ، وعد منها مصحفا لا يقرأ فيه (2) .
   هـ ـ وروى ابن ماجة ، وغيره ، عن أنس مرفوعا : « سبع يجري للعبد أجرهن بعد موته ، وهو في قبره ، وعدّ منهن : من ورث مصحفا » (3) .
   و ـ وعن ابن عمر ، قال نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يسافر بالمصاحف إلى أرض العدو ، مخافة أن ينالوها ، وفي لفظ آخر : نهى أن يسافر بالمصحف إلى أرض العدو (4) .
   فهذه الأحاديث وأمثالها ـ إن صحت ـ دليل صريح على وجود جمعي وكيان تأليفي للقرآن في مصحف ، بل في المصحف نفسه .
--------------------
(1) الأحاديث أ ، ب ، ج ، في السيوطي : الاتقان : 1 | 34 وما بعدها .
(2) المناوي ، فيض القدير .
(3) ظ : السيوطي ، الاتقان : 4 | 166 .
(4) ابن أبي داود ، كتاب المصاحف : 180 ـ 181 .

تاريخ القرآن _81 _
   والزركشي مع قوله : إن القرآن كان على هذا التأليف والجمع في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا أنه يعقب عليه بقوله : وإنما ترك جمعه في مصحف واحد ، لأن النسخ كان يرد على بعض ، فلو جمعه ثم رفعت تلاوة بعض ، لأدى إلى الاختلاف ، واختلاط الدين » (1) .
   فيرده التصريح بالجمع فيما تقدم من روايات وأدلة وإمارات يقطع العقل بصحتها ، والتحقيق العلمي يقتضي أن يكون القرآن كله قد كتب وجمع في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما يرى ذلك إبن حجر (2) .
   أما تعليله عدم جمع القرآن في مصحف بنسخ التلاوة ، فمعارض ومطروح بمناقشة المسألة أصلا وموضوعا ، إذ لا نسخ تلاوة في الكتاب الكريم ، والقول بنسخ التلاوة هو عين القول بالتحريف ، ولا تحريف بالكتاب إجماعا ، فالآية حينما تنزل فهي قرآن سواء نسخت أو لم تنسخ ، ورفعها من القرآن يعني ما هو قرآن .
   وعلى فرض وجود النسخ المدعى ، فالإشكال نفسه يرد بالنسبة للحفظ والاستظهار ، فحفاظ القرآن أكثر من أن يحصوا ، فإذا نزل الناسخ للتلاوة وقع ذات الإشكال ، وصعب إزالة ما هو محفوظ في الصدور ، بينما لو ثبت كتابة ، لكان الرفع والإزالة أيسر ذلك بالإشارة إلى مواضعها وهو أبرم للأمر كما هو ظاهر .
   وفي ضوء ما تقدم ، لا نميل إلى الرأي القائل بأن القرآن لم يجمع في مصحف واحد ، لئلا يرد الناسخ فيؤدي إلى الاختلاف .

*  *  *

   والذي يلفت النظر حقا من جراء الإعتقاد أوالتصور بأن أبا بكر ( رض ) قد جمع القرآن في مصحف ، هو مصير هذا القرآن المجموع ، فليس بين أيدينا رواية واحدة تتحدث عن هذا القرآن بأنه قد جمع للمسلمين ، أو
--------------------
(1) الزركشي ، البرهان : 1 | 235 .
(2) ابن حجر ، فتح الباري : 9 | 12 .

تاريخ القرآن _82 _
جعل قيد الاستعمال ، أو استنسخ منه ولو نسخة واحدة إلى مكة مثلا ، وهي حرم الله ، وقد بقي هذا الحرم فيما يزعم دون قرآن يقرأ أو يتعلم أو يستظهر فيه .
   وأغلب الظن إذا صحت روايات الجمع المدعى ، فإن أبا بكر قد جمع لنفسه قرآنا في مصحف كما جمع غيره من الصحابة ، وإلا فلو جمعه للمسلمين ، وليس للمسلمين في قرآن مجموع لكان من الضرورة الملحة بمكان أن لا يغيب عن ظنه احتياج المسلمين لعدة نسخ منه على الأقل ، كما فعل عثمان فيما بعد ، أو لأوضح بأنه القرآن الرسمي للدولة التي يقوم على رأسها ، ولو اعتذر بأن حياته لم تطل ، لكان من الواجب على عمر تنفيذ ذلك .
   والأغرب من هذا كله أنه لم يحدثنا التأريخ أن أحدا في عهد أبي بكر وعمر قد استنتسخ من هذا القرآن شيئا ، مما اضطر فيه الدكتور دراز أن يعبر عن رأيه فيه بقوله : « ولكن رغم قيمة هذا المصحف العظيمة ، ورغم ما يستحقه من العناية التي بذلت في جمعه ، فإن مجرد بقائه محفوظا بعناية عند الخليفتين الأولين أسبغ عليه الطابع الفردي أوالشخصي بعض الشيء ، ولم يصبح وثيقة للبشر كافة إلا من يوم نشره ، ولكن فرصة نشره لم تتح إلا في خلافة عثمان بعد معارك أرمينية وأذربيجان » (1) .
   على أن ما صرح به الحاكم في المستدرك أن ذلك كان جمعا في المصحف لا في المصحف إذ قال : « فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله ثم عند عمر حياته ، ثم عند حفصة بنت عمر » (2) .
   وقد قطع ابن أبي داود بأنها صحف في عدة مواضع من كتابه (3) .
   ودراز وإن اعتبر ما جمعه أبو بكر بحسب الروايات التي ناقشناها ، مصحفا إلا أنه أرجعه إلى عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالطريقة التي عبر عنها بقوله :
--------------------
(1) محمد عبد الله دراز ، مدخل إلى القرآن : الكريم : 38 .
(2) السيوطي ، الاتقان : 1 | 165 .
(3) ابن أبي داود ، المصاحف : 19 ، 21 ، 23 ، 24 ، 25 ... إلخ .

تاريخ القرآن _83 _
« ولا يفوتنا أن ننبه هنا إلى أن آيات مصحف حفصة لا ترجع إلى الخليفة الأول ، وإنما ترجع بنصها الكامل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم » (1) .
   ومهما يكن من أمر ، فقد أورد ابن حجر ، بناء على صحة بعض الروايات في شأن الكتابة قوله : « ولم يأمر أبو بكر إلا بكتابه ما كان مكتوبا » (2) .
   وهذا هو الاستنساخ بعينه ، ولا مانع أن يستنسخ أبو بكر لنفسه مصحفا شأن بقية الصحابة . وقد أيد ذلك ابن شهاب بقوله : « إن أبا بكر الصديق كان جمع القرآن في قراطيس ، وقد سأل زيد بن ثابت النظر في ذلك فأبى حتى استعان عليه بعمر ففعل » (3) .
   فهذه الرواية تدل صراحة أن أبا بكر قد جمعه في قراطيس ، وقد طلب من زيد باعتباره من كتاب الوحي أن ينظر فيه لتقويمه ، ولا دلالة فيه على جمع مصحفي ، وإلى تصديه لذلك .
   ولا يفوتنا التنبيه أن جملة من الرواة يعتبرون الجمع إنما تم في عهد عمر لا أبي بكر . ومنه ما أخرجه بن أبي داود عن طريق الحسين ، أن عمر سأل عن آية من كتاب الله ، فقيل : كانت مع فلان ، قتل يوم اليمامة ، فقال : « إنا لله ثم أمر بالقرآن فجمع ، فكان أول من جمعه في المصحف » (4) .
   وفي رواية أخرى ، قال ابن اسحاق : لما جمع عمر بن الخطاب المصحف . وفي نص آخر : لما أراد عمر أن يكتب الإمام.. (5) .
   ولم يكتف هؤلاء بترك القرآن متناثرا في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبي
--------------------
(1) دراز ، مدخل إلى القرآن : الكريم 46 .
(2) ابن حجر ، فتح الباري : 9 | 13 .
(3) الخوئي ، البيان : 242 وانظر مصدره .
(4) المصاحف : 10 + السيوطي ، الإتقان : 1 | 166 .
(5) الخوئي : البيان : 244 وانظر مصدره .

تاريخ القرآن _84 _
بكر ، حتى قالوا بجمعه في عهد عمر ، مما فتح باب القول للمستشرقين في ذلك ، فقد أيد « شواللي » الشك في صحة الرواية القائلة : بأن أبابكر هو الذي أمر بجمع القرآن (1) .
   وقال بروكلمان : « ومما يحتمل كثيرا من الشك ما ذكرته الرواية من أن معركة اليمامة الحاسمة مع مسيلمة سنة 12 هـ | 663 م التي قتل فيها عدد كبير من قراء الصحابة ، هي التي قدمت الداعي إلى جمع القرآن ... على أن الخليفة عمر هو الذي أمر زيد بن ثابت ـ وكان شابا مدنيا كتب كثيرا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ـ أن يقوم بجمع القرآن وكتابات الوحي . وبقي هذا المجموع في حوزة عمر ، ثم ورثته حفصة . ولعل هذا المجموع الأول كان صحفا متناثرة » (2) .
   وأغرب مما تقدم ما أخرجه بن أشته ، قال : « مات أبو بكر ولم يجمع القرآن ، وقتل عمر ولم يجمع القرآن » (3) .
   وكل هذه الاعتبارات بما فيها ما أكد المستشرقون تتضمن تلويحا خفيا بل تصريحا جليا بأن القرآن قد مرت عليه عهود وعصور وهو بعد لم يدون ، وإنما دون بعد ذلك اعتمادا على نصوص قد تكون ناقصة أو ممزقة ، وعلى روايات شفوية قابلة للخطأ والسهو والنسيان ، للقول من وراء هذا بالتحريف وهو ما نرفضه جملة وتفصيلا .
   وإذا سلمنا بأن جمع القرآن قد تم بعهد الصحابة ، وأنهم قد استشهدوا على إثباته بشاهدين (4) وأن آيات لم يجدوها إلا مع معينين بالذات ، « فعن زيد قال : كتبت المصاحف فقدت آية كنت أسمعها من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فوجدتها عند خزيمة بن ثابت الأنصاري .
   ( من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه ... ) (5) وكذلك آية
--------------------
(1) (2) بروكلمان تأريخ الأدب العربي : 1 | 139 وما بعدها .
(3) السيوطي : الاتقان : 1 | 202 .
(4) المصدر نفسه : 1 | 167 .
(5) الأحزاب : 23 .

تاريخ القرآن _85 _
( لقد جاءكم رسول من أنفسكم ... ) (1) وغيرها وغيرها (2) .
   فلا يصح حينئذ عد آيات القرآن في أماكنها من السور ، ولا السور من المصحف توقيفيا ، وإنما هو باجتهاد من الصحابة ، كما تدل عليه تضافر روايات الجمع في ذلك ، وإذا قلنا بتوقيف الآيات في السور ، والسور من المصحف ، فلا بد أن نقول إن القرآن قد جمع على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو ما نميل إليه ونرجحه في ضوء ما تقدم .
   قال البيهقي : وأحسن ما يحتج به أن يقال : إن هذا التأليف لكتاب الله مأخوذ من جهة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأخذه عن جبرائيل عليه السلام (3) .
   وهناك ثلاثة مواقف تجلب الانتباه عند جملة من أرباب علوم القرآن ، فهي تقدم رجلا وتؤخر أخرى ، فلا تريد أن تقول إن القرآن لم يجمع بعهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ولا تريد أن تقول إن أبا بكر قد جمع القرآن سابقا إلى الموضوع .
   الأول : عملية الاستنساخ التي صرح بها أبو عبد الله الحارث بن أسد المحاسبي ( ت : 243 هـ ) بقوله : « كتابة القرآن ليست بمحدثة فإنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يأمر بكتابته ، ولكنه كان مفرقا في الرقاع والأكتاف والعسب ، وإنما أمر الصديق بنسخها من مكان إلى مكان ، وكان ذلك بمنزلة أوراق وجدت في بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيها القرآن منتشر ، فجمعها جامع ، وربطها بخيط حتى لا يضيع منها شيء » (4) .
   الثاني : ما ورد في المقدمة الأولى في علوم القرآن بإجمال على شكل فتوى تارة ، وتحذير تارة أخرى ، في قوله : « ومن زعم أن بعض القرآن سقط على المسلمين وقت جمع المصحف ، وأن السور ضم بعضها إلى بعض بالمشورة والرأي فقد أعظم على الله الفرية ، لأن الرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يملي كلما نزل من القرآن على كتابه أولا بأول ، ميلا إلى حفظه
--------------------
(1) التوبة : 128 .
(2) ابن أبي داود ، المصاحف : 31 .
(3) السوطي ، الاتقان : 1 | 309 .
(4) الزركشي ، البرهان : 1 | 238 .

تاريخ القرآن _86 _
وصيانته ، فحفظ القرآن من آوله إلى آخره على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم » (1) .
   الثالث : موقف الزركشي المتردد بين السلب والإيجاب فيما رد به توهم بعض الناس أن القرآن لم يجمع بعهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم متبينا رأي الحارث المحاسبي بقوله : وفي قول زيد بن ثابت : فجمعته من الرقاع والأكتاف وصدور الرجال ما أوهم بعض الناس أن أحدا لم يجمع القرآن في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأن من قال : إنه جمع القرآن أُبيّ بن كعب وزيد ليس بمحفوظ . وليس الأمر على ما أوهم ، وإنما طلب القرآن متفرقا ليعارض بالمجتمع عند من بقي ممن جمع القرآن ليشترك الجميع في علم ما جمع فلا نصيب أحد عنده منه شيء ، ولا يرتاب أحد فيما يودع المصحف ، ولا يشكو في أنه جمع عن ملأ منهم » (2) .
   وفي ضوء ما تقدم يجب أن ندع التشريق والتغريب جانبا ، في قضية جمع القرآن ، وأن نخضع للواقع الموضوعي والجرأة العلمية فنقول إن القرآن جمع ودوّن كاملا بكل حيثياته وجزئياته في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وبأمر من الوحي ، وبإشارة من القرآن نفسه ، ما دام هناك أثر قطعي من كتاب أو سنة أو عقل أو جماع ، فلا نركن إلى روايات آحاد لا تبلغ حد الشهرة فضلا عن التواتر الذي لا يثبت القرآن إلا به بإجماع المسلمين ، وأن نعتبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم مسؤولا أمام الوحي عن جمع القرآن وتدوينه ، كمسؤوليته عن نشره وتبليغه ، وفيما قدمناه من دلائل وبراهين وروايات إثبات لما نتبناه .
   نعم لا شك أن عثمان قد جمع القرآن في زمانه ، لا بمعنى أنه جمع الآيات والسور في مصحف ، بل بمعنى أنه جمع المسلمين على قراءة إمام واحد ، وأحرق المصاحف الأخرى التي تخالف مصحفه ، وكتب إلى البلدان أن يحرقوا ما عندهم منها ، ونهى المسلمين عن الاختلاف في القراءة (3) .
--------------------
(1) مقدمتان في علوم القرآن : 58 .
(2) الزركشي ، البرهان : 1 | 238 .
(3) ظ : الخوئي ، البيان : 258
.

تاريخ القرآن _87 _
   فقد أخرج ابن أشته قال : اختلفوا في القراءة على عهد عثمان حتى اقتتل الغلمان والمعلمون ، فبلغ ذلك عثمان بن عفان ، فقال : عندي تكذبون به وتلحنون فيه ، فمن نأى عني كان أشد تكذيبا ، وأكثر لحنا . يا أصحاب محمد اجتمعوا فاكتبوا للناس إماما ، فاجتمعوا فكتبوا (1) .
   هذا فيما شاهد عثمان في المدينة المنورة من الاختلاف في القراءات والوجوه واللغات ، فاقتصر من سائرها على لغة قريش لأن القرآن نزل بلغتهم .
   وقد يبدو من رواية أخرى أكثر شيوعا أن الاختلاف امتد إلى الثغور بين الأجناد فطعن بعضهم البعض بقراءة البعض الآخر ، فهال هذا الأمر حذيفة بن اليمان ، وكان يغازي أهل الشام في أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق ، فأشار على عثمان أن يدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب كما اختلف اليهود والنصارى ففزع عثمان لذلك وصمم على جمع الناس على إمام واحد (2) .
   وكان هذا الأمر غيرة من حذيفة على القرآن ، واستجابة من عثمان لصيانة القرآن .
   وسأل عثمان : أي الناس أفصح ؟ قالوا : سعيد بن العاص ، قال : أي الناس أكتب ؟ قالوا زيد بن ثابت ، قال : فليكتب زيد ، وليمل سعيد ، فكتب مصاحف فقسمها في الأمصار (3) .
   ويستدل في كثير من الروايات أن هذا الترتيب والجمع على قراءة واحدة وفي مصحف واحد كان على ملأ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وبمشاورة من أهل القرآن (4) .
--------------------
(1) السيوطي ، الاتقان : 1 | 170 .
(2) ظ : ابن أبي داود ، المصاحف : 18 وما بعدها .
(3) ظ : الطبري ، جامع البيان : 1 | 62 + ابن أبي داود ، المصاحف : 24 + أبو شامة ، المرشد الوجيز : 58 .
(4) ظ : ابن أبي داود : المصاحف : 12 + المرشد الوجيز : 64 .

تاريخ القرآن _88 _
   وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يلقن أصحابه ويعلمهم ما ينزل عليه من القرآن على الترتيب الذي هو الآن في مصاحفنا بتوقيف جبريل عليه السلام إياه على ذلك ، وإعلامه عند نزول كل آية أن هذه الآية تكتب عقيب آية كذا في السورة التي يذكر فيها كذا ، وروي معنى هذا عن عثمان بالذات (1) .
   قال الحارث بن أسد المحاسبي ( ت : 243 هـ ) :
   « والمشهور عند الناس أن جامع القرآن عثمان رضي الله منه ، وليس كذلك ، إنما حمل عثمان الناس على القراءة بوجه واحد على اختيار وقع بينه وبين من شهده من المهاجرين والأنصار لما خشي الفتنة عند اختلاف أهل العراق والشام في حروف القراءات والقرآن . وأما قبل ذلك فقد كانت المصاحف بوجوه من القراءات المطلقات على الحروف السبعة التي أنزل بها القرآن » (2) .
   وفي عقيدتي أن أهم الأعمال التي قام بها عثمان هو جمع الناس على حرف واحد ، فقد قطع به دابر الفتنة والخلاف ، وفيه جرأة كبيرة تحدى بها كثيرا من الصعوبات .
   يقول الدكتور طه حسين :
   « وليس من شك في أن ما أقدم عليه عثمان من توحيد المصحف وحسم هذا الاختلاف ، وحمل المسلمين على حرف واحد ، أو لغة واحدة يقرؤون بها القرآن ، عمل فيه كثير من الجراءة ، ولكن فيه من النصح للمسلمين أكثر مما فيه من الجراءة . فلو قد ترك عثمان الناس يقرؤون القرآن قراءات مختلفة بلغات متباينة في ألفاظها ، لكان هذا مصدر فرقة لا شك فيها ، ولكان من المحقق أن هذه الفرقة حول الألفاظ ستؤدي إلى فرقة شر منها حول المعاني بعد أن كان الفتح ، وبعد أن استعرب الأعاجم ، وبعد أن أخذ الأعراب يقرؤون القرآن » (3) .
--------------------
(1) أبو شامة ، المرشد الوجيز .
(2) الزركشي ، البرهان : 9 | 239 + السيوطي ، الاتقان : 1 | 171 .
(3) طه حسين ، الفتنة الكبرى : 1 | 182 وما بعدها .

تاريخ القرآن _89 _
   وحينما تم توحيد المصحف على الشكل المقرر استنسخ عثمان منه عدة مصاحف أرسل بها إلى الأمصار .
   واختلف في عدة هذه المصاحف ، فقيل أربعة ، والمشهور أنها خمسة (1) وأخرج أبو داود عن أبي حاتم السجستاني : أنها سبعة مصاحف ، فأرسل إلى مكة وإلى الشام وإلى اليمن وإلى البحرين وإلى البصرة وإلى الكوفة ، وحبس بالمدينة واحدا » (2) .
   وهذا العدد أوعى في توحيد القراءة لاستيعابه كبريات الآفاق الإسلامية آنذاك ، فيما دامت المهمة بهذا الاتجاه ، فالأنسب التوسع في استنساخ جملة من المصاحف تؤدي الهدف بعناية شمولية .
   وأيا كان عدد هذه المصاحف ، فقد كانت الأساس لاستنساخ آلاف المصاحف في الديار المترامية الأطراف ، موحدة منظمة مؤصلة ، اشتملت على القرآن بجزئياته وحيثياته كافة ، دون زيادة أو نقصان ، أو تغيير أو تحريف ، بل هي من الوثوق بكونها عين القرآن الذي أنزل على الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم بجميع خصوصياته في التنزيل والترتيب والتوقيف .
   وليس أدل على ذلك من شهادة أعلام المستشرقين في تأكيد هذه الحقيقة العلمية مع إبتعادهم عن كثير من ضروريات الإسلام ، ولكنه الحق الذي يفرض ذاتيته وموضوعيته في أغلب الأحيان .
   قال السير وليم موير : « أن المصحف الذي جمعه عثمان قد تواتر انتقاله من يد ليد حتى وصل إلينا بدون أي تحريف . ولقد حفظ بعناية شديدة بحيث لم يطرأ عليه أي تغيير يذكر ، بل نستطيع أن نقول إنه لم يطرأ عليه أي تغيير على الإطلاق في النسخ التي لا حصر لها والمتداولة في البلاد الإسلامية الواسعة » (3) .
   ولم يكن اختلاف المسلمين في الفروع والجزئيات مانعا من إجماعهم
--------------------
(1) ظ : السيوطي ، الاتقان : 1 | 172 .
(2) ظ : ابن داود ، المصاحف : 34 .
(3) محمد عبد الله دراز ، المدخل إلى القرآن : الكريم : 40 وانظر مصدره .

تاريخ القرآن _90 _
المنقطع النظير على توثيق كل تفاصيل القرآن من ألفه إلى يائه .
   ولقد كان الأستاذ لوبلوا موضوعيا حينما أكد بقوله : « إن القرآن هو اليوم الكتاب الرباني الوحيد الذي ليس فيه أي تغيير يذكر » (1) .
   وحينما تم إقرار المصحف الإمام ، واستنسخت المصاحف في ضوئه ، وسيرت إلى الآفاق ـ وكان ذلك في سنة خمس وعشرين من الهجرة النبوية (2) . ـ أنس عثمان بصنيعه هذا ، وعمد إلى توثيقه وتفرده بصيغتين :
   الأولى : إرساله من يثق المسلمون بحفظه وإقرائه مع مصحف كل إقليم بما يوافق قراءته وكان ذلك موضع اهتمام منه في أشهر الأقاليم ، فكان زيد بن ثابت مقرىء المصحف المدني ، وعبد الله بن السائب مقرىء المصحف المكي ، والمغيرة بن شهاب مقرىء المصحف الشامي ، وأبو عبد الرحمن السلمي مقرىء المصحف الكوفي ، وعامر بن عبد القيس مقرىء المصحف البصري (3) .
   الثانية : أمره بما سواه من القرآن في كل صحيفة ومصحف أن يحرق (4) .
   وكان هذا العمل مدعاة للنقد حينا ، ومجالا للتشهير به حينا آخر حتى قال الخوئي :
   « ولكن الأمر الذي انتقد عليه هو إحراقه لبقية المصاحف ، وأمره أهالي الأمصار بإحراق ما عندهم من المصاحف ، وقد اعترض على عثمان في ذلك جماعة من المسلمين ، حتى سموه بحراق المصاحف » (5) .
   وقد عقب على ذلك الدكتور طه حسين بقوله : « وربما تحرج بعض المسلمين من تحريق ما حرّق عثمان من المصحف ، ولم يقبلوا اعتذاره
--------------------
(1) المصدر نفسه : والصفحة .
(2) السيوطي ، الاتقان : 1 | 170 .
(3) ظ : الزرقاني ، مناهل العرفان : 1 | 396 وما بعدها .
(4) السيوطي ، الاتقان : 1 | 169 .
(5) الخوئي ، البيان : 258 .

تاريخ القرآن _91 _
بحسم الفتنة وقطع الخلاف . ولو قد كانت الحضارة تقدمت بالمسلمين شيئا لكان من الممكن أن يحتفظ عثمان بهذه الصحف التي حرقها على أنها نصوص محفوظة لا تتاح للعامة ، بل لا تكاد تتاح للخاصة ، وإنما هي صحف تحفظ ضنا بها على الضياع . ولكن المسلمين لم يكونوا قد بلغوا في ذلك العصر من الحضارة ما يتيح لهم تنظيم المكتبات وحفظ المحفوظات ، وإذا لم يكن على عثمان جناح فيما فعل لا من جهة الدين ولا من جهة السياسة ، فقد يكون لنا أن نأسى لتحريق تلك الصحف ؛ لأنه إن لم يكن قد أضاع على المسلمين شيئا من دينهم ، فقد أضاع على العلماء والباحثين كثيرا من العلم بلغات العرب ولهجاتها ، على أن الأمر أعظم خطرا وأرفع شأنا من علم العلماء ، وبحث الباحثين عن اللغات واللهجات » (1) .
   ومهما يكن من رأي حول هذا الموضوع ، فإن من المقطوع به أن المصحف العثماني هو النص القرآني الوحيد الذي عليه عمل المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها ، وهو الكتاب المقدس الوحيد الذي أحيط بعناية ورعاية خاصة ، حتى نقل بالتواتر القطعي جيلا بعد جيل .
   ويبدو أن بعض نسخ المصحف العثماني ، قد كانت معروفة في القرن الثامن الهجري ، فالحافظ ابن كثير ( ت : 774 هـ ) يقول :
   « أما المصاحف العثمانية الأئمة فأشهرها اليوم الذي في الشام بجامع دمشق عند الركن شرقي المقصورة المعمورة بذكر الله ، وقد كان قديما بمدينة طبرية ثم نقل منها إلى دمشق في حدود 518 هـ ، وقد رأيته كتابا عزيزا جليلا عظيما ضخما بخط حسن مبين قوي ، بحبر محكم ، في رق أظنه من جلود الإبل » (2) .
   قال أبو عبد الله الزنجاني : « ومصحف الشام رآه ابن فضل الله العمري في أواسط القرن الثامن الهجري فهو يقول في وصف مسجد دمشق : ( وإلى جانبه الأيسر المصحف العثماني ) ويُظن قويا أن هذا
--------------------
(1) طه حسين ، الفتنة الكبرى : 1 | 183 وما بعدها .
(2) ابن كثير ، فضائل القرآن : 49 ، طبعة المنار ، القاهرة 1348 هـ .

تاريخ القرآن _92 _
المصحف هو الذي كان موجودا في دار الكتب في لينين غراد وانتقل إلى إنكلترا » (1) .
   وقد تتبعت هذا الأمر في المتحف البريطاني فلم أظفره بحصيلة يطمئن إليها بوجود هذا المصحف .
   نعم هناك عدة مصاحف في دار الكتب المصرية ، مكتوبة بالخط الكوفي ، ولكن الزخارف والنقوش توحي بأنها لا علاقة لها بأية نسخة من المصاحف العثمانية .
--------------------
(1) الزنجاني ، تاريخ القرآن : 67 .