الفصل الرابع
قراءات القرآن

تاريخ القرآن _94 _

تاريخ القرآن _95 _
   هناك اتجاهان رئيسيان في شأن نشوء القراءات القرآنية ومصادرها .
   الأول : أن المصحف العثماني قد كتب مجردا عن الشكل والنقط والإعجام ، فبدا محتمل النطق بأحد الحروف المتشابهة في وجوه مختلفة ، فنشأت نتيجة ذلك القراءات المتعددة للوصول إلى حقيقة التلفظ بتلك الألفاظ المكتوبة ، ضبطا لقراءة القرآن على وجه الصحة وكما نزل . وفي هذا الضوء تكون القراءات القرآنية اجتهادية فيما احتمل موافقته للصحة من جهة الرسم القرآني أو العربية ، وقد تكون روائية في إيصال النص القرآني مشافهة عن طريق الإسناد ، فيصحح الرسم القرآني في ضوء الإسناد الروائي .
   الثاني : أن منشأ ذلك هو التوصل بالرواية المسندة القطعية المرفوعة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في كيفية القراءة القرآنية إلى النطق بآيات القرآن الكريم كما نطقها ، وكما نزلت عليه وحيا من الله تعالى ، بغض النظر عن كتابة المصحف الشريف ، وفي هذا الضوء فهي الطرق المؤدية بأسانيدها المختلفة حتى تتصل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وإذا كان الأمر كذلك ، وتحققت هذه الطرق بالأسانيد الصحيحة الثابتة ، فالقراءات متواترة وليس اجتهادية .
   وقد ادعى المستشرق المجري جولد تسهير أن نشأة القراءات كانت بسبب تجرد الخط العربي من علامات الحركات ، وخلوه من نقط الإعجام (1) .
--------------------
(1) ظ : جولد تسهير ، مذاهب التفسير الإسلامي : 8 وما بعدها .

تاريخ القرآن _96 _
   وتابعه على هذا المستشرق الألماني الأستاذ كارل بروكلمان فقال :
   « حقا فتحت الكتابة التي لم تكن قد وصلت بعد إلى درجة الكمال ، مجالا لبعض الاختلاف في القراءة ، لا سيما إذا كانت غير كاملة النقط ، ولا مشتملة على رسوم الحركات ، فاشتغل القراء على هذا الأساس بتصحيح القراءات واختلافها » (1) .
   وقد أكد بروكلمان هذا المعنى فيما بعد وقال : « جمع عثمان المسلمين على نص قرآني موحد ، وهذا النص الذي لم يكن كاملا في شكله ونقطه ، كان سببا في إيجاد اختلافات كثيرة ، ولذلك ظهرت عدة مدارس في بعض مدن الدولة الإسلامية ، وبخاصة في مكة والمدينة والبصرة والكوفة ، استمرت كل منها في رواية طريقة للقراءة والنطق ، معتمدة في ذلك على أحد الشيوخ ... ولقد تبين على مر الزمن أن الدقة في الرواية الشفوية ، التي كانت مرعية في بادىء الأمر ، لا يمكن اتباعها دائما بسبب عدد من الأشياء الصغيرة التي وجب المحافظة عليها » (2) .
   ومع أن هذا الرأي قد لقي نقدا وتجريحا من قبل بعض الدارسين العرب (3) . إلا أنه لقي بالوقت نفسه تأييدا من قبل آخرين أمثال الدكتور جواد علي والدكتور صلاح الدين المنجد (4) . لما يحمله في طياته من بعض وجوه الصحة .
   لقد كان الاختلاف في القراءة شائعا ، فأراد النص التدويني للمصحف العثماني ، قطع ذلك الاختلاف ، فكان سبيلا إلى التوحيد ، وهذا لا يمانع أن ينشأ بعد هذا التوحيد بعض الخلاف الذي جاء اجتهادا في أصول الخط المكتوب ، فنشأ عنه قسم من القراءات .
   إن ما يستدل به حول تفنيد موقع الكتابة المصحفية من نشوء بعض
--------------------
(1) بروكلمان ، تاريخ الأدب العربي : 1 | 140 .
(2) المصدر نفسه : 4 | 1 وما بعدها .
(3) ظ : عبد الوهاب حمودة ، القراءات واللهجات + عبد الصبور شاهين ، تأريخ القرآن : .
(4) ظ : جواد علي ، لهجة القرآن : الكريم ، مجلة المجمع العلمي العراقي : 1955 + صلاح الدين المنجد ، دراسات في تأريخ الخط العربي : 42 .

تاريخ القرآن _97 _
القراءات يكاد ينحصر بالاستدلال بحديث : ( إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف ، فاقرأوا ما تيسر منه ) (1) ليقال بأن الاختلاف روائي وليس كتابيا ، والحق أن المسلمين إلى اليوم لم يصلوا إلى مؤدى هذه الرواية ، ولا يمكن أن يحتج بغير الواضح ، فما زال الخلاف قائما في معنى هذا الحديث وترجمته ، على أنه معارض ـ كما سترى ـ بحديث إنزال القرآن على حرف واحد . على أنه لا دلالة في هذه الحروف السبعة على القراءات السبعة إطلاقا ، وإذا كان القرآن قد نزل على سبعة أحرف . فالإنزال ـ حينئذ ـ توقيفي ، ووجب على الله تعالى حفظه وصيانته ، لأنه ذكر ، والذكر قرآن ، والقرآن مصان لقوله تعالى : ( إنا نحن نزّلنا الذكر وإنا له لحافظون ) (2) .
   ولقائل أن يتساءل : أين هذه الأحرف السبعة في القرآن ، وهلا يدلنا أحد عليها ، ولم يتفق المفسرون بل المسلمون على المعنى المراد من هذه الأحرف ، ولا يصح الاحتجاج بما لا يفهم معناه ، ولا يقطع بمؤداه ، إذ هو احتجاج بما لا يعرف ، وأخذ بما لا يراد ، واعتماد على ما لا يبين ، والالتزام بهذا باطل دون ريب .
   وإذا كانت الأحرف السبعة منزلة من قبل الله تعالى بواسطة الوحي الذي أوحاه الروح الأمين جبرائيل عليه السلام ، فمعنى ذلك أنها من القرآن الإلهي ، وإلا فمن التشريع الإلهي الذي لا يرد ولا ينقض إلا أن ينسخ ، وما ادعى أحد بنسخ ذلك من القائلين به .
   وقد يقال ـ مع عدم وضوح الدلالة ـ أن هذه الأحرف مما خفف به عن الأمة لوجود الشيخ والصبي والعجوز وما إلى ذلك كما في بعض الروايات (3) .
   وإذا كان ذلك مما خفف به عن الأمة ، فكيف يجوز لأحد أن يشدد عليها ، وإذا كان ذلك للرحمة فكيف صح لعثمان ( رض ) أن يتجاوز هذه
--------------------
(1) ظ : الطبري ، جامع البيان : 1 | 11 ـ 20 + البخاري ، الجامع الصحيح 6 | 227 .
(2) الحجر : 9 .
(3) ظ : أبو شامة ، المرشد الوجيز : 77 ـ 89 .

تاريخ القرآن _98 _
الرحمة ، ويجمع المسلمين على حرف واحد ، ثم ما عدا مما بدا ؟ فإن كان في المسلمين الأوائل من يعجز عن تلاوة القرآن حق تلاوته ، أو أن ينطق به كما نزل فتجوّز بالأحرف السبعة تيسيرا ، وهم أبلغ العرب ، فما بال المسلمين في عصر عثمان ، وما ذنبنا نحن في هذا العصر الذي انطمست به خصائص العربية حتى شدد علينا في حرف واحد .
   ولسنا بصدد دفع هذا الحديث الآن ، ولكننا بصدد رد دعوى من لا يرى للخط المصحفي أي أثر في تعدد القراءات واختلافها ، إذ لو كان الأمر كذلك لما كانت موافقة خط المصحف أساسا لقراءات عدة ، وميزانا للرضا والقبول والاعتبار ، وما ذلك إلا لتحكم الخط بالقراءة . ولا نريد أن نتطرف فنحكم بأن الخط المصحفي هو السبب الأول والأخير في تفرع القراءات القرآنية ، ولكن نرى أن جزءا كبيرا من اختلاف القراءات قد نشأ عن الخط المصحفي القديم ، باعتباره محتملا للنطق بوجوه متعددة .
   قال القسطلاني ( ت : 923 هـ ) مشيرا إلى ذلك : « ثم لما كثر الاختلاف فيما يحتمله الرسم ، وقرأ أهل البدع والأهواء بما لا يحل لأحد تلاوته ، وفاقا لبدعتهم ... رأى المسلمون أن يجمعوا على قراءات أئمة ثقات تجردوا للأغنياء بشأن القرآن العظيم » (1) .
   وتابعه على هذا الدمياطي البنا ( ت : 1117 هـ ) وصرح بالأسباب ذاتها (2) .
   فقد كان لاحتمال الرسم ، ما تطاول به أهل البدع فيقرؤون بما لا تحل تلاوته ، ولا تصح قراءته ، ومعنى هذا أن قراءات ما قد نشأت عن هذا الملحظ ، فاحتاط المسلمون لأنفسهم بقراءات أئمة ثقات لدفع القراءات المبتدعة .
   وقد يقال : بأن الاختلاف في القراءات مما شاع في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذكره ، وأن هذه القراءات السبع أو العشر أو الأكثر إنما تبرز بالمشافهة تلك
--------------------
(1) القسطلاني ، لطائف الإشارات : 1 | 66 .
(2) الدمياطي ، اتحاف فضلاء البشر : 5 .

تاريخ القرآن _99 _
القراءات كما كانت في عهد الرسول الأعظم ، ونحن وإن كنا لا ننكر جزءا ضئيلا من هذا ، إلا أن الواقع المرير لتلك الروايات القائلة باختلاف القراءات في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا تستند إلى حقيقة تأريخية معينة يصرح فيها بنوعية هذا الاختلاف في القراءة ، ولا تعطينا نماذج مقنعة بكيفية هذه القراءات المختلفة ، بل تذهب مذاهب التعميم الفضفاض الذي لا يقره المنهج العلمي ، وذلك أن الاختلاف المدعي في القراءات بعهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعرض بروايات ، تنقصها الدقة والوضوح والتحديد ، فتارة يطلق فيها التجوز بالأحرف السبعة بما لا دلالة فيه كما تقدم ، وتارة تنسب الاختلاف إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكأنه مصدر من مصادر الفرقة في القراءات بينما العكس هو الصحيح لما رأيناه ـ فيما سبق ـ أن الاختلاف في القراءات جر المسلمين إلى صراع داخلي ونزاع هامشي تحسس الصحابة إلى خطره على القرآن فجمعوهم على قراءة واحدة (1) .
   وتارة تدعي هذه الروايات أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أقرأ هذا بقراءة ، وغيره بقراءة أخرى ، وحينا يدعى بأن أحد الصحابة قد سمع من صحابي مثله قراءة ما ، لسورة ما ، تختلف عما سمعه هو من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم تحاكموا للرسول صلى الله عليه وآله وسلم فصحح القراءتين ، أما : ما هي هذه السورة المختلفة الحروف ، وما هو عدد آياتها المتعددة القراءة ، وما هي كيفية هذا الاختلاف ونوعية فروقه ، فلم يصرح بجميع ذلك ، مما يجعلها روايات قابلة للشك ، ومع حسن الظن بالرواة فإن رواياتهم تلك قد تعبر عن السهو والاشتباه .
   إننا لا ننكر الاختلاف في القراءات بعهد مبكر ، فباستعراض تأريخ الموضوع يبدو أن تمايز القراءات كان موجودا قبل توحيد القراءة زمن عثمان ، فقد أشير إلى كثرة الاختلاف بعهده ، حتى قال الناس : قراءة ابن مسعود ، وقراءة أبي وقراءة سالم (2) .
   ولكننا نبقى مصرين أن وجهة التعميم في الروايات تبقى هي المسيطرة ، وعدم وضوح الرؤية يظل مخيما ، إذ أننا نحتاج بمثل هذا
--------------------
(1) ظ : فيما سبق ، جمع القرآن : .
(2) ظ : مقدمتان في علوم القرآن : 44 .

تاريخ القرآن _100 _
الموضوع الخطير إلى الجزئيات والدقائق لنضع النقاط على الحروف ، لهذا نرفض جملة هذه الروايات ، ونتهم أصحابها ، كما اتهمهم من سبقنا إلى الموضوع .
   أورد أبو شامة عن زيد بن أرقم قال : « جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : أقرأني عبد الله بن مسعود سورة أقرأنيها زيد ، وأقرأنيها أُبيّ بن كعب ، فاختلفت قراءتهم ، بقراءة أيهم آخذ ؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : وعلي عليه السلام إلى جنبه ، فقال علي : ليقرأ كل إنسان كما علم ، كل حسن جميل .. » (1) .
   وقد ذكر الطبري هذه الرواية ، وتعقبه الأستاذ أحمد محمد شاكر في تعليقه فقال :
   « هذا حديث لا أصل له ، رواه رجل كذاب ، هو عيسى بن قرطاس ، قال فيه ابن معين : ليس بشيء لا يحل لأحد أن يروي عنه . وقال ابن حبّان : يروي الموضوعات عن الثقات ، لا يحل الاحتجاج به . وقد اخترع هذا الكذاب شيخا له روى عنه وسماه : زيد القصار ، ولم نجد لهذا الشيخ ترجمة ولا ذكرا في شيء من المراجع .. »(2).
   وبعد هذا ، فليس هناك مسوغ على الإطلاق أن نأخذ بكل رواية على علاتها دون تمحيص ، ودون تجويز الافتراء على الضعفاء من الرواة .
   قال الإمام محمد الباقر عليه السلام : « إن القرآن واحد نزل من عند واحد ولكن الاختلاف يجيء من قبل الرواة » (3) .
   وفي شأن الحروف السبعة المدعاة ، وإن كان لا علاقة لها بالقراءات ، إلا أن البعض حملها على ذلك ، بينما ورد عن الفضل بن يسار قال : قلت لأبي عبد الله عليه السلام ( يعني الإمام جعفر الصادق ) : إن الناس يقولون : إن القرآن نزل على سبعة أحرف ، فقال : كذبوا ، أعداء الله ،
--------------------
(1) أبو شامة ، المرشد الوجيز : 85 .
(2) الطبري ، جامع البيان : 1 | 24 الهامش .
(3) الكليني ، أصول الكافي : 2 | 630 .

تاريخ القرآن _101 _
ولكنه نزل على حرف واحد من عند الواحد » (1) .
   وقد يقال بأن مصدر القراءات هو اللهجات ، ولا علاقة لها إذن بصحة السند ، وموافقة كتابة المصحف ، بل الأساس ارتباطها ببعض العرب في لغاتهم القبلية ، وإلى هذا المعنى يشير السيوطي بما أورده أبو شامة عن بعضهم :
   « أنزل القرآن بلسان قريش ثم أبيح للعرب أن يقرؤوه بلغاتهم التي جرت عاداتهم باستعمالها على اختلافهم في الألفاظ والأعراب » (2) .
   وقد سبق بذلك ابن قتيبة بما تحدث به عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : فكان من تيسيره أن أمره الله بأن يقرىء كل قوم بلغتهم ، وما جرت عليه عادتهم ... ولو أن كل فريق من هؤلاء أمر أن يزول عن لغته وما جرى عليه اعتياده طفلا وناشئا وكهلا ، لاشتد ذلك عليه ، وعظمت المحنة فيه » (3) .
   وقد تبنى هذا الرأي الدكتور طه حسين ، فاعتبر اختلاف اللهجات بين قبائل العرب التي لم تستطع أن تغير حناجرها وألسنتها وشفاهها لتقرأ القرآن كما كان يتلوه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعشيرته قريش ، اعتبر ذلك اساسا لاختلاف القراءات ، فقرأته هذه القبائل كما كانت تتكلم ، فأمالت حيث لم تكن تميل قريش ، ومرت حيث لم تكن تمر ، وقصرت حيث لم تكن تقصر ، وسكنت ، وأدغمت ، وأخفت ، ونقلت (4) .
   وهو بهذا يريد أن ينتهي إلى أن اللهجات هي مصدر القراءات ، وهو ينكر تواترها ، وينعى على من رتب أحكاما عريضة على نكرانها ، فيقول : « وهنا وقفة لا بد منها ، ذلك أن قوما من رجال الدين فهموا أن هذه القراءات السبع متواترة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نزل بها جبريل على قلبه ، فمنكرها كافر من غير شك ولا ريبة ... والحق أن ليست هذه القراءات السبع من
--------------------
(1) المصدر نفسه : 2 | 630 .
(2) السيوطي ، الاتقان : 1 | 47 .
(3) ابن قتيبة ، تأويل القرآن : 30 .
(4) ظ : طه حسين ، في الأدب الجاهلي : 95 .

تاريخ القرآن _102 _
الوحي في قليل ولا كثير ، وليس منكرها كافرا ، ولا فاسقا ، ولا مغتمزا في دينه ، وإنما هي : قراءات مصدرها اللهجات واختلافها ... فأنت ترى أن هذه القراءات إنما هي مظهر من مظاهر اختلاف اللهجات » (1) .
   ولقد جهد المحققون منذ القرن الأول للهجرة حتى عهد ابن مجاهد ( ت : 324 هـ ) وهو موحد القراءات أو مسبعها إن صح التعبير ، في دراسة ظواهر القراءات القرآنية ، متواترها ، ومشهورها ، وشاذها ، فارجعوا جزءا من الاختلاف في القراءة إلى مظهر من مظاهر اللهجات العربية المختلفة ، وعادوا بجملة من الألفاظ إلى استعمال جملة من القبائل ، ذلك مما يؤيد وجهة النظر في عامل اللهجات ، والاستئناس به عاملا مساعدا في تعدد القراءات ، وللسبب ذاته فإن تلاشى اللهجات وتوحيدها بلهجة قريش ، قد ساعد أيضا على تلاشي واضمحلال كثير من جزئيات هذه القراءات وعدم إساغتها منذ عهد مبكر ، بل إن توحيد القرآن للغة العرب على لغة قريش ، وقصرهم عليها كان أساسا جوهريا في إذابة ما عداها من لغات ، مما أزاح تراكما لغويا يبتعد عن الفصحى ابتعادا كليا ، فلا تجد بعد ذلك عنعنة تميم ، ولا عجرمية قيس ، ولا كشكشة أسد ، ولا ثلثلة نهراء ، ولا كسكسة ربيعة ، ولا إمالة أسد وقيس ، ولا طمطمانية حمير .
   وفي ضوء ما تقدم يمكننا أن نخرج برأي جديد نخالف فيه من سبقنا إلى الموضوع ، فنعتبر كلا من شكل المصحف ، وطريق الرواية إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وتعدد اللهجات العربية ، قضايا ذات أهمية متكافئة باعتبارها مصادر من مصادر القراءات ، كلا لا يتجزأ ، وإلا فهي ـ على الأقل ـ أسباب عريضة في نشوء القراءات ومناهج اختلافها .
   وللتدليل على صحة هذا لا بد لنا من الوقوف عند أدلته وقفة مقنعة ، إن لم تكن دامغة .
   لا شك أن اختلاف مصاحف الأمصار في الرسم ، وما نشأ عنه من اختلاف أهل المدينة وأهل الكوفة ، وأهل البصرة ، وأهل الشام في القراءة ،
--------------------
(1) طه حسين ، في الأدب الجاهلي : 95 ـ 96 .

تاريخ القرآن _103 _
إنما كان مصدره الشكل المصحفي الذي استنسخ عن المصحف الإمام . وهي اختلافات لا نقطع بمصدرها الكتابي ، بل نرجحه ، لما ثبت تأريخيا من تواتر نقله ، وقد أحصى أبو داود ذلك في كتاب المصاحف إحصاء دقيقا (1) .
   وقد أيد هذا الرأي محمد بن جرير الطبري ( في 310 هـ ) بما نقله عنه أبو شامة فقال :
   « لما خلت تلك المصاحف من الشكل والإعجام وحصر الحروف المحتملة على أحد الوجوه ، وكان أهل كل ناحية من النواحي التي وجهت إليها المصاحف ، قد كان لهم في مصرهم ذلك من الصحابة معلمون ... فانتقلوا عما بان لهم أنهم أمروا بالانتقال عنه مما كان بأيديهم ، وثبتوا على ما لم يكن في المصاحف الموجهة إليهم ، مما يستدلون به على انتقالهم عنه » (2) .
   وما دامت الروايات مختلفة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ـ كما يقولون ـ فما المانع أن يكون الحدب على وصول هذه الروايات من مختلف الأسانيد سببا من تعدد هذه القراءات ، سواء أكانت تلك الروايات صحيحة أم ضعيفة ، وقد أورد من هذا القبيل أبو شامة شواهد على الموضوع ، يتحمل عهدتها (3) . وقد سبقه ابن عطية فأورد عدة روايات تؤكد كثرة الروايات عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم على علاتها ، وانتهى فيها إلى القول :
   « ثم إن هذه الروايات الكثيرة لما انتشرت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وافترق الصحابة في البلدان ، وجاء الخلف ، وقرأ كثير من غير العرب ، ووقع بين أهل الشام وأهل العراق ما ذكر حذيفة ... فقرأت كل طائفة بما روي لها » (4) .
   وما دام للعرب لهجات ولغات ، فلا ينتفي أن تكون هذه اللغات سببا
--------------------
(1) ظ : ابن أبي داود ، كتاب المصاحف : 39 ـ 49 .
(2) أبو شامة ، المرشد الوجيز : 149 وما بعدها .
(3) أبو شامة ، المرشد الوجيز : 86 وما بعدها .
(4) ابن عطية ، مقدمته ، ضمن مقدمتان في علوم القرآن : 271 .

تاريخ القرآن _104 _
مباشرا في جزء من هذه القراءات ، وقد قال عمر بن الخطاب ( رض ) مشيرا إلى قراءة أبيّ بن كعب : « إنا لنرغب عن كثير من لحن أُبيّ » (1) .
   وقد أورد أبو شامة عن ابن جرير الطبري في (310 هـ ) ما يؤيد فيه هذا العامل فقال :
   « فإن قيل : فما تقولون في هذه القراءات السبع التي ألفت بالكتب ؟ قلنا : إنما أرسل أمير المؤمنين المصاحف إلى الأمصار الخمسة بعد أن كتبت بلغة قريش ، فإن القرآن إنما نزل بلغتها ، ثم أذن رحمة من الله تعالى ، لكل طائفة من العرب أن تقرأ بلغتها على قدر استطاعتها ، فلما صارت المصاحف في الآفاق غير مضبوطة ولا معجمة قرأها الناس فما أنفذوه منها نفذ ، وما احتمل وجهين طلبوا فيه السماع حتى وجدوه » (2) .
   والطريف في رأي الطبري ، وهو من قدامى المفسرين ، أن يجمع هذه العوامل الثلاثة ، فينص على اختلاف اللهجات ، ويشير إلى شكل المصحف وإعجامه ، ويؤكد جانب السماع في الروايات التي توصلوا فيها إلى نطق القرآن .
   وعامل اللهجات ، وإن محصّ متأخرا ، وتمحض له الدكتور طه حسين ، إلا أنه عامل جدير بالتلبث والترصد والاستقراء في إثرائه جانب القراءات ، ومواكبته لمسيرتها اللغوية . فما من شك أن القرآن قد نزل بلغة قريش ، وهي أفصح لغات العرب ، وحينما اختار الله تعالى لكتابه اللغة العربية ، فلا ريب ان يقع الاختيار على الأفصح ، والأفصح لغة قريش ، وهو الموروث اللغوي المقروء في القرآن ، ويؤيده وصية عثمان للرهط القرشيين لدى استنساخ المصحف : « إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت بشيء من القرآن ، فاكتبوه بلسان قريش ، فإنما نزل بلسانهم » (3) .
   وفي هذا الضوء يبدو أن عبد الله بن مسعود ( رض ) كان يقرىء الناس
--------------------
(1) ابن ابي داود ، كتاب المصاحف : 32 .
(2) أبو شامة ، المرشد الوجيز : 150 .
(3) البخاري ، الجامع الصحيح : 6 | 224 .

تاريخ القرآن _105 _
بلغة قومه ، وهم هذيل ، وقد نهاه عمر ( رض ) عن ذلك بما ذكره أبو داود في سننه : « إن عمر كتب إلى ابن مسعود : أما بعد ، فإن الله تعالى أنزل القرآن بلغة قريش ، فإذا أتاك كتابي هذا فأقرىء الناس بلغة قريش ، ولا تقرئهم بلغة هذيل » (1) .
   ويبدو أن مسألة اللهجات متسالم على أثرها في نشوء القراءات ، ولكن سرعان ما توحدت هذه اللهجات بلغة القرآن ، وهذا من بركات القرآن في الوحدة .
   وتعدد القراءات أنى كان مصدره ، مهما كان مقياسه صحة أو شذوذا ، فقد حدده الشيخ محمد بن الهيصم ، وقال : « أما القراءات فإنها على ثلاثة أوجه :
   1 ـ أن يغلط القارىء فيقرأ على خلاف ما هو الخف ، وذلك ما لا يجوز أن يعتد به في قراءات القرآن ، وإنما يرجع لومه على الغالط به ...
   2 ـ أن يكون القرآن قد نزل على لغة ، ثم خرج بعض القراء فيه إلى لغة من لغات العرب مما لا يقع فيه خلاف في المعنى ، ترك النكير عليه تيسيرا وتوسعة ، فنقل ذلك ، وقرأ به بعض القراء ...
   3 ـ والوجه الثالث من القراءات هو ما اختلف باختلاف النزول بما كان يعرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم القرآن على جبريل في كل شهر رمضان ... فكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتلقفون منه حروف كل عرض ، فمنهم من يقرأ على حرف ، ومنهم من يقرأ على آخر ، إلى أن لطف الله عز وجل بهم ، فجمعهم على آخر العرض ، أو على ما تأخر من عرضين أو ثلاثة ، حتى لم يقع في ذلك اختلاف إلا في أحرف قليلة ، وألفاظ متقاربة » (2) .
   والوجه الثالث لا دلالة فيه إذ معارضة القرآن تعني تدقيقه وتوثيقه ، وقد سبق في هذا الفصل رأينا في الحروف التي ادعى نزول القرآن عليها .
--------------------
(1) أبو شامة ، المرشد الوجيز : 101 .
(2) مقدمتان في علوم القرآن : 170 وما بعدها .