وقد عدد ابن أبي داود منها : مصحف عمر بن الخطاب ، مصحف علي بن أبي طالب ، مصحف أُبَيّ بن أبي كعب ، مصحف عبد الله بن مسعود ، مصحف عبد الله بن عباس ، مصحف عبد الله بن الزبير ، مصحف عبد الله بن عمرو بن العاص ، مصحف عائشة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، مصحف حفصة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم مصحف أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم (1) .
   قال الآمدي ( ت : 617 هـ ) في كتابه ( الأفكار الأبكار ) : « إن المصاحف المشهورة في زمن الصحابة كانت مقروءة عليه ومعروضة » (2) .
   فالآمدي يجيبنا على سؤال دقيق هو : متى كتبت هذه المصاحف ؟ ومتى جمعت ؟ وكيف أقرت ؟ والجواب أنها كتبت في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وقرئت عليه ، بل هي معروضة عليه للضبط والدقة والاتقان .
   وهناك دليل جوهري ، آخر وهو أن الروايات في قراءة القرآن كله ، وختمه ، في عهد رسول الله تنطق بوجود جمعي له ، إذ كيف يقرأ فيه من لم يحصل عليه .
   1 ـ « عن عبد الله بن عمرو ، قال : قلت : يا رسول الله ، في كم أقرأ القرآن ؟ قال اختمه في شهر ، قلت إني أطيق أفضل من ذلك ، قال : اختمه في عشرين ، قلت إني اطيق أفضل من ذلك ، قال : إختمه في خمس عشرة ، قلت إني أطيق أفضل من ذلك ، قال : إختمه في عشر . قلت إني أطيق أفضل من ذلك ، قال : إختمه في خمس ، قلت إني أطيق أفضل من ذلك فما رخص لي » (3) .
   وقد روي في غير هذا الحديث ، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال له أول مرة ، إقرأ القرآن في أربعين (4) .
   2 ـ وروي عنه صلى الله عليه وآله وسلم قوله : « لم يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث » (5) . فأي قرآن يشير إليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إن لم يكن مجموعا ، ومتداولا بما تتيسر قراءته عند المسلمين .
--------------------
(1) المصدر نفسه : والصفحات .
(2) الزنجاني ، تأريخ القرآن : 39 .
(3) ، (4) ، (5) مقدمتان في علوم القرآن : 27 ـ 28 .

تاريخ القرآن _74 _
   3 ـ ومن المشهور الذي لا يجهل أن عمر بن الخطاب ( رض ) أقام من صلى التراويح بالناس في ليالي رمضان ، وأمره أن يقرأ في الركعة الواحدة نحوا من عشرين آية ، فكان يحيى القرآن في الشهر مرتين . ومعلوم أن ذلك لم يكن من المصحف الذي كتبه زيد ، لأن المصاحف لم تنسخ منه (1) .
   وهذا تصريح بوجود المصاحف المغايرة لما استنسخه زيد ، وأن سيرة المسلمين عليها إذ لم يعمم مصحف زيد .
   وصاحب الرأي السابق يذهب صراحة أن القرآن كان منظوما ومجموعا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (2) .

*  *  *

   وقد يقال بأن الكتابة كانت محدودة في عصر الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم وقد يحول هذا دون تدوين القرآن ، فيقال إن عصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعصر أبي بكر واحد ، فما يقال هناك يقال هنا . على أن موضوع الكتابة لا يخلو من مبالغة ، فهي وإن كانت محدودة النطاق ، ومقتصرة على طبقة من الناس ، فإننا نشكك كثيرا في تحديد الأرقام التي أوردها المؤرخون ، ولنا عليها مؤاخذات ليس هذا موطن بحثها ، ويزداد شكنا حينما نلمح البلاذري يقول : « دخل الإسلام وفي قريش سبعة عشر رجلا يكتب » (3) .
   أو ما أورده ابن عبد ربه الأندلسي « لم يكن أحد يكتب بالعربية حين جاء الإسلام ، إلا بضعة عشر رجلا » (4) .
   لا ريب أن العرب كانت أمة أمية ، إلا أن هذه الأرقام لا تتناسب مع ذكر القرآن للكتابة وأدواتها ومشتقاتها بهذه الكثرة . على أن للأمية دلالات أخرى لعل من أفضلها تعليلا ما رواه ابن أبي عمير ، عن معاوية بن عمار ، عن الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام في تفسير قوله تعالى ( هو الذي بعث
--------------------
(1) ، (2) المصدر نفسه : 31 .
(3) البلاذري ، فتوح البلدان : 477 .
(4) ابن عبد ربه ، العقد الفريد : 4 | 242 .

تاريخ القرآن _75 _
   قال الصادق : « كانوا يكتبون ، ولكن لم يكن معهم كتاب من عند الله ولا بُعث إليهم رسول فنسبهم الله إلى الأميين » (2) .
   ومهما يكن من أمر فأمية من أسلم ، وقلة الكتبة ، وتضاؤل وسائل الكتابة ، لم تكن موانع تحول دون تدوين القرآن .
   فلقد اتخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم عددا من الكتاب للقرآن الكريم في كل من مكة والمدينة في طليعتهم الخلفاء الأربعة ، وزيد ، وأبي (3) .
   قال القاضي أبو بكر الباقلاني : « وما على جديد الأرض أجهل ممن يظن بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه أهمل في القرآن أو ضيعه ، مع أن له كتّابا أفاضل معروفين بالانتصاب لذلك من المهاجرين والأنصار ، فممن كتب له من قريش من المهاجرين : أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، وزيد بن أرقم ، وخالد بن سعيد ، وذكر أهل التفسير أنه كان يملي على خالد بن سعيد ثم يأمره بطي ما كتب وختمه .. ومنهم الزبير بن العوام ، وحنظلة ، وخالد بن أسد ، وجهم بن الصلت ، وغير هؤلاء .. » (4) .
   ولا شك أن الكتابة كانت تخضع للإشراف المباشر من قبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالذات ، ليكون النص مطابقا للوحي ، كما مر في حديث خالد بن سعيد ، وكما روى زيد بن ثابت : « كنت أكتب الوحي عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يملي عليّ ، فإذا فرغت ، قال : إقرأه ، فأقرأه ، فإن كان فيه سقط أقامه ، ثم أخرج به إلى الناس » (5) .
   ولقد كان العرب في جاهليتهم يهتمون اهتماما كبيرا في تقييد المأثور الديني ، ففي حديث سويد بن الصامت :
--------------------
(1) الجمعة : 2 .
(2) ظ : الطباطبائي ، الميزان : وانظر مصدره .
(3) ظ : الجهشياري ، الوزراء والكتاب : 14 .
(4) الباقلاني ، نكت الانتصار : 100 .
(5) الصولي ، أدب الكتاب : 165 .

تاريخ القرآن _76 _
   أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعل الذي معك مثل الذي معي ، فقال : وما الذي معك ؟ قال سويد : مجلة لقمان ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إعرضها عليّ فعرضها عليه ، فقال له : إن هذا الكلام حسن ، والذي معي أفضل من هذا ، قرآن أنزله الله تعالى ، هو هدى ونور (1) .
   وإذا كان اهتمام العرب في الجاهلية ، بمثل هذا المستوى من الجمع والتدوين للموروث الثقافي أو الديني ، فكيف يكون اهتمامها بالقرآن الكريم ، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم بين ظهرانيهم يدعوهم إلى حفظه ومدارسته والقيام به . لكأنني بالآية حينما يتلوها الرسول الأعظم تتلاقفها الصدور لتدونها في السطور ، ولقد كان من سيرته متى ما أسلم أحد من العرب دفعه إلى الذين معه ، فعلموه القرآن . وإذا هاجر له أحد من أصحابه أوكله إلى من يعلمه القرآن : « فكان الرجل إذا هاجر دفعه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى رجل من الصحابة يعلمه القرآن ، وكان يسمع لمسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ضجة بتلاوة القرآن ، حتى أمرهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يخفضوا أصواتهم لئلا يتغالطوا » (2) .
   إذن ، كيف كان يتم تعليم القرآن ؟ وكيف كانت تلاوته ؟ لا أشك أن ذلك كان في مدون ما ، ولا يمنع ذلك من الحفظ في الصدور .
   يقول محمد عبد الله دراز : « إن النص المنزل لم يقتصر على كونه ( قرآنا ) أو مجموعة من الآيات تتلى أو تقرأ ، وتحفظ في الصدور ، وإنما كان أيضا ( كتابا ) مدونا بأعداد . فهاتان الصورتان تتضافران وتصحح كل منهما الأخرى . ولهذا كان الرسول كلما جاءه الوحي وتلاه على الحاضرين أملاه من فوره على كتبة الوحي » (3) .
   ومما يدل على تدوينه وكتابته مجموعا في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ مضافا إلى ما سبق بيانه ـ ما يلي :
   1 ـ كان صلى الله عليه وآله وسلم إذا نزلت عليه الآية من السورة دعا من يكتب له فيقول : ضعها في موضع كذا وكذا من السورة . وهذا من أوضح الأدلة على أن
--------------------
(1) ظ : ابن هشام ، السيرة النبوية : 2 | 68 + الزمخشري ، الفائق : 1 | 206 .
(2) الزرقاني ، مناهل العرفان : 1 | 234 .
(3) محمد عبد الله دراز ، مدخل إلى القرآن : الكريم : 34 .

تاريخ القرآن _77 _
هذا الترتيب الذي رتبه الله عليه . ولأجله كان صلى الله عليه وآله وسلم يدلهم على موضع السور من القرآن ، والآية من السورة ، ليكتب ويحفظ على نظمه وترتيبه (1) .
   2 ـ لقد ورد لفظ الكتاب في القرآن والسنة النبوية القطعية الصدور ، للدلالة على ماله كيان جمعي محفوظ ، والإشارة بل التصريح في ذلك الكتاب إلى القرآن الكريم ، فقد استعمل لفظ الكتاب في القرآن بهذا الملحظ في أكثر من مائة موضع ، ونضرب لذلك بعض النماذج :
   أ ـ ( ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين ... ) ـ البقرة | 2 .
   ب ـ ( نزل عليك الكتاب بالحق ... ) ـ آل عمران | 3 .
   ج ـ ( هو الذي أنزل عليك الكتاب ... ) ـ آل عمران |7 .
   د ـ ( إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق ...) ـ النساء | 105 .
   هـ ـ ( وأنزلنا إليك الكتاب بالحق ... ) ـ المائدة | 48 .
   و ـ ( وهذا كتاب أنزلناه مبارك ... ) ـ الأنعام | 92 .
   ز ـ ( كتاب أنزل إليك ... ) ـ الأعراف | 2 .
   ح ـ ( الر تلك آيات أحكمت ءاياته ... ) ـ يونس | 1 .
   ط ـ ( الر كتاب أحكمت ءاياته ... ) ـ هود | 1 .
   ي ـ ( الر كتاب أنزلناه إليك ... ) إبراهيم | 1 .
   أفلا يدل هذا الحشد الهائل إلى أن القرآن كان كتابا مجموعا يشار إليه . ومما يعضده ما ورد في السنة الشريفة من التصريح بالكتاب في عدة مواضع أبرزها :
   أ ـ قوله صلى الله عليه وآله وسلم : « إني تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا كتاب الله
--------------------
(1) مقدمتان في علوم القرآن : 41 .

تاريخ القرآن _78 _
وعترتي أهل بيتي » (1) .
   ب ـ قوله صلى الله عليه وآله وسلم : « إني مخلف فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا كتاب الله وعترتي أهل بيتي » (2) .
   فهل يعني استخلاف الكتاب أن يترك بين عسب ورقاع وألواح تارة ، أو بين أقتاب وأكتاف ولخاف تارة أخرى ، أم أن استخلافه له ينبغي أن يكون مجموعا منظما صالحا لمعنى الخلافة .
   3 ـ مما لا شك فيه أن الاسم البارز والأمثل لسورة الحمد هو ( فاتحة الكتاب ) ، ولو لم يكن القرآن مدونا من قبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بوحي من جبرئيل عليه السلام : « لما كان لتسميته هذه السورة فاتحة الكتاب معنى ، إذ قد ثبت بالإجماع أن هذه السورة ليست بفاتحة سور القرآن نزولا ، فثبت أنها فاتحته نظما وترتيبا وتكلما » (3) .
   4 ـ قد يقال بأن جمع القرآن في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو حفظه في الصدور ، وهذا وإن كان دعوى لا دليل عليها ، فإن من أبسط لوازمها أن الحفظ في الصدور مما يستدعي توافر النص بين الأيدي وتداوله للمعارضة بين ما يحفظ وبين ما هو مثبت ، ولا دليل أنهم كانوا يحفظونه مباشرة عند تلاوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم له ، إذ هذه الميزة من مميزات الرسول الأعظم فبمعارضة جبرئيل عليه السلام له يحفظ النص القرآني ويستظهره وبتعهد من الله له كما دل على ذلك قوله تعالى :
   ( لا تحرك به لسانك لتجعل به * إن علينا جمعه وقرءانه ) (4) .
   والكثرة الكاثرة كانت تحفظ القرآن بمدارسته وتكرار تلاوته ، وأقل ما في ذلك أن تقارن الحفظ والإستظهار بما لديها من نصوص قرآنية ، وهذا هو المتعين من قبل المسلمين نظرا لورعهم واحتياطهم من جهة ، وتعبيرا
--------------------
(1) ابن الأثير ، جامع الأصول : 1 | 187 .
(2) الطوسي ، التبيان : 1 | 3 .
(3) مقدمتان في علوم القرآن : 41 وما بعدها .
(4) القيامة : 16 ـ 17 .

تاريخ القرآن _79 _
عن شغفهم بالقرآن وحبهم لمتابعته من جهة أخرى ، فقد يظهر من كثير من الروايات كونهم يتحلقون لتلاوته ليلا ، فقد رفع إليه :
   « إني لأعرف أصوات الرفقة الأشعريين بالليل حين يدخلون وأعرف منازلهم من أصواتهم بالقرآن بالليل وإن كنت لم أر منازلهم حين نزلوا بالنهار » (1) .
   5 ـ « ومن المعلوم الذي لا خفاء به أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد كان يؤم أصحابه في الصلوات الخمس لا يخل بذلك في سفر ولا حضر ، فقرأ في الركعتين من كل صلاة بسورة مع فاتحة الكتاب ، ويسمعهم ذلك في الغداة والعشي . فماذا كان يسمعهم ليت شعري ، إن كانت آيات القرآن متفرقة ولم تنظم السور حتى أنها نظمت في أيام أبي بكر وعثمان ، فبماذا كان يقرع العرب حيث يقول الله تعالى : ( فأتوا بعشر سور مثله مفتريات ... ) (2) . وذلك مما نزل بمكة ، ثم قال تعالى : ( فأتوا بسورة من مثله ... ) (3) . ونزل ذلك بالمدينة ، ولو كان على ما خيلوا لم يكن العباس ابن عبد المطلب يهرب يوم حنين حيث انهزم القول فيقول : يا أصحاب سورة البقرة ، وسورة آل عمران ، هذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . يستدعيهم بذلك إليه » (4) .
   6 ـ أورد ابن حجر ما أخرجه أحمد وأبو داود عن أوس بن أبي أوس ، وكان في الوفد الذين أسلموا على يد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : فسألنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قلنا : كيف تحزبون القرآن ؟ قالوا : نُحزّبه ثلاث سور ، وخمس سور ، وسبع سور ، وتسع سور ، وإحدى عشرة ، وثلاث عشرة ، وحزب المفصل من ( ق ) حتى نختم ( يعني القرآن ) .
   قال ابن حجر : ( فهذا يدل على أن ترتيب السور على ما هو عليه في المصحف الآن كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ) (5) .
--------------------
(1) الزرقاني ، مناهل العرفان : 1 | 313 .
(2) هود : 13 .
(3) البقرة : 23 .
(4) مقدمتان في علوم القرآن : 27 .
(5) ابن حجر ، فتح الباري : 9 | 42 .