هذا البحث إذن في فصول ثلاثة تمثل المظاهر الأولى للنقد العربي :
1 ـ مصطلح الصورة الفنية .
2 ـ قضية اللفظ والمعنى .
3 ـ دلالة الألفاظ .
ولقد عرضت في الفصل الأول للصورة في اصطلاح النقاد العرب القدامى والمحدثين وقارنتها بآراء الغربيين من أوروبيين ومستشرقين فانتهيت إلى أنها جزء لا يتجزأ من حضارة الأمة العربية في الوقت الذي كان فيه أبناء الغرب والشرق يدرسون ويتلقون العلم في حواضرنا العربية في كل من القاهرة والقيروان وأشبيلية وغرناطة وبغداد والبصرة والكوفة والموصل ودمشق ، وكان ذلك في حدود القرن الخامس الهجري .
وعرضت لقضية اللفظ والمعنى بأبعادهما المختلفة عند النقاد العرب القدامى والمحدثين وعند الأوروبيين وانتهيت فيها إلى ما تجده من نتائج في الموضوع تنتهي بوحدة اللفظ والمعنى بإطار متميز لا ينفصل .
وعرضت لدلالة الألفاظ بأقسامها وأخصصت نماذجها وأمثلتها عند التطبيق لآيات القرآن الكريم ونماذج أمثال القرآن بخاصة اعتماداً على ما استنبطته من رسالتي « الصورة الفنية في المثل القرآني : دراسة نقدية وبلاغية » مع الإضافة للطروح المعاصرة بعيدة عن الفهم الدلالي اللغوي عند الأوروبيين ، فهي شيء والنظر الأوروبي شيء آخر ، إذ يتعلق بالقضية اللغوية دون النظرية النقدية التي تتحدث عنها .
لقد اتسمت هذه المحاضرات الثلاث على وجزاتها بالدقة والشمول والتجديد الذي سيعين على البحث الجامعي في مستقبل حياته العلمية ، وسيقربه شوطاً من الدراسات الأكاديمية المتطورة ، ولا سيما وأن هذه المباحث هي خلاصة ما توصل إليه الفكر النقدي عند العرب وفي أوروبا قديماً وحديثاً . فهي محاور ثلاثة متأصلة يبدو لي سبق العرب في التوصل إليها ، وإرساء قواعدها في ضوء القرآن الكريم ، وما توفيقي إلا بالله العلي العظيم توكلت وإليه أنيب ، وهو حسبنا ونعم الوكيل .
الجامعة المستنصرية
كلية الفقه / النجف الاشرف
الدكتور محمد حسين علي الصغير
نظرية النقد العربي رؤية قرآنية معاصرة
_ 3 _
أهمية الصورة الفنية :
تنشأ أهمية الصورة الفنية من خلال معركة النقاد والبلاغيين في الفصل بين اللفظ والمعنى ، فاللفظ هو الصياغة الشكلية والهيكل التركيبي في العمل الادبي ، والمعنى هو الفكرة المجردة التي تفي بالغرض .
وقد أوجد هذا الفصل تقسيماً ظاهراً في النص الأدبي وجعله ذا دلالتين : خارجية تتصل بالشكل ، وداخلية تقترن بالمضمون ، ولعل المطور لهذا الفصل هو المذهب المعتزلي في فهمه للنص القرآني ، فهو ذو بعدين : البعد الأول ، يتمثل بالفن القولي في دلالته المحسوسة من اللفظ التي تتشكل بكل صنوف التعابير المجازية والمحسنات البديعية .
والبعد الثاني ، ويتمثل بالمعنى الذهني المجرد الذي يترصده المتلقى في النفس من خلال معنى ذلك اللفظ ، فهما ـ إذن ـ شيئان مستقلان ، ليخلصوا من وراء هذا إلى القول بأن هذه الاشكال عارضة متغيرة فهي محدثة ، وأن القرآن إنما هو المعنى لاتصاله بذات الخالق ، وذات الخالق قديمة ، فالقرآن ليس بقديم ، لأنه خلاف ذاته تعالى (1) .
بل هو من خلقه وصنعته ، فهو محدث ، إذن : اللفظ والمعنى في القرآن محدثان ، ولا علاقة لهما بالقدم ، وكان هذا بداية للبحث عن الألفاظ مرة ، وعن المعاني مرة أخرى .
--------------------
(1) ظ : تفصيل ذلك في : محمد عبد الهادي أبو ريدة ، نصوص فلسفية عربية : 21 ـ 23 ، علي سامي النشار ، نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام : 142 ، جابر عصفور ، الصورة الفنية : 382 .
نظرية النقد العربي رؤية قرآنية معاصرة
_ 4 _
ثم تبلورت الفكرة أكثر فأكثر فعاد المحفز لها هو القول بإعجاز القرآن ، وأين يكمن هذا الإعجاز ، أفي لفظه ، أم في معناه ، أم في العلاقة القائمة بين اللفظ والمعنى ، فذهب عبد القاهر الجرجاني ـ وهو من أئمة الأشاعرة ـ إلى القول بالعلاقة بينهما ، ومن ثم جرد اللفظ قالباً ، والمعنى ذهناً ، وصهرهما سوية بأحداث عملية الإعجاز من خلال النظم وحسن التأليف ، وكأنه يلمح بل يصرح بأسبقية المعاني في النفس على الألفاظ (1) .
ومهما يكن من أمر فإن هذه المعركة قد انتهت بفصل العلاقات بين الفكر واللغة فعادت اللغة رموزاً تحتاج إلى الحل بما اشار إليه عبد القاهر : إن اللغة تجري مجرى العلامات والسمات ، ولا معنى للعلامة أو السمة حتى يحتمل الشيء ما جعلت العلامة دليلاً عليه (2) ، وعاد الفكر بهذا التقسيم مستقلاً في تصوره المعاني .
ومن هنا نشأت الحاجة إلى الصورة الفنية باعتبارها أداة لها طريقتها الخاصة في عرض المعاني مقترنة بألفاظ ليتفاعل المتلقي للنص الأدبي وهو مرتبط بجزئيه في وقت واحد ، فلا فصل بينهما ولا يتميز أحدهما عن الآخر ، فيكتسب ـ حينذاك ـ العمل الأدبي مناخاً يشعرك بالتئام اللغة والفكر بإطار موحد ينهض بسبب النص وتحديده ، ويلفت الانتباه إلى طبيعة المعنى في عرضه وأسلوبه منسجماً مع سلسلة الألفاظ المشيرة إلى المعاني ، غير منفصل عنها في حال من الأحوال ، وهنا يندفع المتلقي نحو السير وراء الصورة في استكناه العلاقات القائمة بين اللغة والفكرة ، أو اللفظ والمعنى .
--------------------
(1) ظ . في تفصيل ذلك المؤلف : الصورة الأدبية في الشعر الأموي : المعركة بين اللفظ والمعنى : 20 ـ 35 .
(2) الجرجاني ، عبد القاهر ـ أسرار البلاغة : 347 .
نظرية النقد العربي رؤية قرآنية معاصرة
_ 5 _
أو الشكل والمضمون ، ويكون طريق كشف هذه العلاقات هو التنقل في استنباط المعاني من سبل صياغتها في التشبيه والاستعارة والتمثيل والمجاز ، لتقيم الدليل على الذهني بالحسي وتلخص إلى القيمة من خلال الظاهر إلى الواقع ، ومن مجاز القول إلى الحقيقة ، ومن التعبير الاستعاري إلى الأصل الاستعمالي ، ومن النظر في المشبه به لإدراك شأن المشبه ، ومن التمثيل إلى كنه الشيء ، وهذه هي مجموعة العلاقات في التناسب واللحمة التي تبنى عليها أصول الصورة الفنية .
أما تأثير هذا الكشف في المتلقى ، فيتوقف على المجهود العقلي والفكري الذي يبذله في استخراج الصورة من خلال نظره إلى هذه الخصائص والمميزات .
الصورة في اصطلاح النقاد القدامى (1) :
ورد ذكر الصورة وبعض مشتقاتها على ألسنة بعض النقاد القدامى ، وأقدم من وقفنا على قول له في هذا الشأن هو أبو عثمان الجاحظ ( ت 255 هـ ) الذي استعمل مادة الصورة في مجال الأدب بهيئة أخرى فقال ـ ( هو يتحدث عن الشعر ) ـ بأنه : ضرب من النسج ، وجنس من التصوير (2) ، وكأنه أراد بالتصوير هنا العملية الذهنية التي تصنع الشعر .
--------------------
(1) تحدثنا عن « الصورة الأدبية وأبعادها النقدية » في مدخل رسالتنا للماجستير « الصورة الأدبية في الشعر الأموي » بكثير من التفصيل وكشفنا موقعها من مسألة اللفظ والمعنى ، بما لا مسوغ لإعادته بتفصيلاته المكثفة .
وهنا أرى لزاماً عليّ أنألخص بعض ما توصلت إليه هناك : مضيفاً له ما استجد لدي في المصطلح لما تقتضيه الضرورة من الإحاطة بمصطلح الصورة الفنية بين يدي البحث ، ( ظ : تفصيل ذلك في : الصورة الأدبية في الشعر الأموي : 10 | 350 ـ الصورة الفنية الأدبية في الشعر الأموي : 10 | 350 ، الصورة الفنية في المثل القرآني : 25 ـ 38 ) .
(2) الجاحظ : الحيوان : 3 | 132 .
نظرية النقد العربي رؤية قرآنية معاصرة
_ 6 _
إلا أن قدامة بن جعفر ( ت 337 هـ ) قد استعملها نصاً ، واعتبرها الهيكل والشكل في مقابل المادة والمضمون ، فقال ـ متحدثاً عن الشعر ـ « معاني بمنزلة المادة الموضوعة ، والشعر فيها كالصورة ، كما يوجد في كل صناعة من أنه لا بدّ فيها من شيء موضوع يقبل تأثير الصور » (1) .
فهو ينأى بها عن فهم الجاحظ لها ، فالجاحظ يذهب ـ في حدود فهمنا لكلامه ـ إلى أنها العملية الذهنية التي تهيئ النص الشعري ، بينما يرى قدامة فيها الإطار الخارجي العام لشكل هذا الشعر .
وذكر أبو هلال العسكري ( ت 395 هـ تقريباً ) الصورة في أقسام التشبيه فجعل من أقسامه : تشبيه الشيء صورة ، وتشبيهه به لوناً وصورة اراد بهما المثال والهيكل .
وجاء عبد القاهر الجرجاني ( ت 471 هـ ) فأعطى للصورة في المجالات النقدية حلولاً خاصة شرحها بقوله : واعلم أن قولنا : الصورة إنما هو تمثيل وقياس لما نعلمه بعقولنا على الذي نراه بأبصارنا فما رأينا البينونة بين أحاد الأجناس تكون من جهة الصورة ، فكان بين إنسان من إنسان ، وفرس من فرس ، بخصوصية تكون في صورة هذا لا تكون في صورة ذاك ، وكذلك الأمر في المصنوعات فكان بين خاتم من خاتم ، سواراً من سوار بذلك ، ثم وجدنا بين المعنى في أحد البيتين وبينه في الآخر بينونة في عقولنا وفرقاً ، عبرنا عن ذلك الفرق وتلك البينونة بأن قلنا : المعنى في هذا صورة غير صورته في ذلك .
--------------------
(1) قدامة بن جعفر ، نقد الشعر ، تحد : أ . بونييكر ، 4 .
نظرية النقد العربي رؤية قرآنية معاصرة
_ 7 _
وليس العبارة عن ذلك بالصورة شيئاً نحن ابتدأناه فينكره منكر ، بل هو مستعمل مشهور في كلام العلماء ، ويكفيك قول الجاحظ : وإنما الشعر صناعة وضرب من التصوير (1) .
واطلق ابن الأثير ( ت 637 هـ ) كلمة الصورة على خصوص الأمر المحسوس ، وقابل بينهما وبين المعنى ، فقال ـ وهو يعدد أقسام التشبيه الأربعة : « أما تشبيه معنى بمعنى . . . وأما تشبيه صورة بصورة كقوله تعالى : ( وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ * كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ * ) (2) ، وأما تشبيه معنى بصورة كقوله تعالى : ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ ) (3) وهذا القسم أبلغ الأقسام الاربعة ، لتمثيله المعاني الموهومة بالصور المشاهدة ، وأما تشبيه صورة بمعنى كقول أبي تمام :
وفتكت بالمال الجزيل وبالعدا فتك الصبابة بالمحب المغرم |
فشبه فتكة المال بالعدا وذلك صورة مرئية ، بفتك الصبابة وهو فتك معنوي ، وهذا القسم الطف الأقسام الأربعة ، لأنه نقل صورة إلى غير صورة (4) .
وكان ابن الأثير يعتبر التشبيه التمثيلي في تجسيده المعنويات بالحسيات وتصوير الماديات بالذهنيات ـ طرداً وعكساً ـ هو الصورة المتكونة في العمل الأدبي ، وقد اعتبر التهانوي ( من علماء القرن الثاني عشر الهجري ) الصورة ذات طبيعتين خارجية وذهنية فعد الصورة « ما يتميز به الشيء مطلقاً ، سواء كان في الخارج ويسمى صورة خارجية أو في الذهن ويسمى صورة ذهنية » (5) .
--------------------
(1) الجرجاني ، دلائل الإعجاز : 365 .
(2) الصافات : 48 ـ 49 .
(3) النور : 39 .
(4) ابن الأثير : المثل السائر 1 | 297 وما بعدها .
(5) التهانوي ، كشاف اصطلاحات الفنون : 1 | 911 .
نظرية النقد العربي رؤية قرآنية معاصرة
_ 8 _
ثم فرق بينهما فأعطى الأهمية للصورة الذهنية ، واعتبر الصورة الخارجية من الأعيان ، فقال : الصورة : ما به يتميز الشيء في الذهن ، فإن الأشياء في الخارج أعيان ، وفي الذهن صور (1) .
ثم حذا حذو عبد القاهر ، واستنار برايه باحثاً عن الفروق والمميزات في حصول صورة الشيء في الذهن لا في تواجدها في الخارج فقال : صورة الشيء ما يؤخذ منه عند جذب الشخصيات ، أي الخارجية ، وأما الذهنية فلا بد منها ، لأن كل ما هو حاصل في العقل فلا بدّ له من تشخيص عقلي ضرورة أنه متمايز عن سائر المعلومات (2) .
هذه أهم النصوص التي لا حظناها عند النقاد والبلاغين القدامى في حديثهم عن الصورة ، ولا بد لنا من الوقوف قليلاً عند استعمالهم هذا ، لرصد مفهوم الصورة ، وبث دلالتها لديهم .
أما قدامة ، فله فضل السبق ـ وتبعه أبو هلال ـ باستعمال الكلمة نصاً دون الجاحظ الذي استعمل المادة في هيئة أخرى ، وهي التصوير فقد اعتبراها أداة للتعبير عن الإطار الخارجي لمثال الشيء وهيئته وصفته ، وقد امتد هذا الاستعمال إلى عصر عبد القادر الذي يقول : تشبيه الشيء بالشيء من جهة الصورة والشكل . أو جمع الصورة واللون (3) .
--------------------
(1) التهانوي ، كشاف اصطلاحات الفنون : 1 | 912 .
(2) المصدر نفسه : 1 | 912 .
(3) الجرجاني ، اسرار البلاغة : 81 .
نظرية النقد العربي رؤية قرآنية معاصرة
_ 9 _
يريد بذلك الهيئة والصفة مقابل المادة والجوهر ، وأما ابن الأثير فقد تأثر نسبياً بقدامة ، وجعل الصورة قسيماً للمعنى ، أو في مقابلة أي اعتبرها الشكل ، واعتبر المعنى مادة لهذا الشكل ، وقوم الصورة فرأى تشبيه المعنى بالصورة ابلغ أقسام التشبيه الأربعة ، لتصويره المعنى الوهمي المجرد بالصور المشاهدة عياناً ورأى تشبيه الصورة بالمعنى ألطف الأقسام لأنه تصرف حي ينقل الصورة المحسوسة إلى الصورة المعنوية المتخيلة .
ويبدو أن الصورة في حدود ما عرضوه لا تتعدى ما ذكر لها في مداليل لغوية ، وإن توسع فيه إلى ما يشمل الصورة المتخيلة في أقسام التشبيه ، وإنما ارادوا بذلك الشكل كما أراد ذلك اللغويون ، فهذا ابن سيده ( ت 458 هـ ) يقول : « الصورة في الشكل » (1) وهو يريد بالشكل الهيئة الخارجية التي يتمثل فيها الشيء .
وقد تطلق عند اللغويين على الحقيقة والهيئة معاً ، قال ابن الأثير : الصورة ترد في كلام العرب على ظاهرها ، وعلى معنى حقيقة الشيء وهيئته ، وعلى معنى صفته ، يقال صورة الفعل كذا وكذا أي هيئته ، وصورة الأمر كذا وكذا أي صفته (2) .
ولعل عبد القادر الجرجاني هو أول من أعطى للصورة دلالة اصطلاحية وهي تعني لديه الفروق المميزة بين معنى ومعنى ، وشبهها بالفروق التي تميز هيكل إنسان ما عن إنسان ، وخاتم عن خاتم ، وسوار عن سوار ، ولكن هذه الفروق بوقت انطباعها على هيئة الشيء فإنها يستدل بها على حقيقته .
--------------------
(1) ابن منظور ، لسان العرب : 6 | 143 .
(2) المصدر نفسه : 6 | 144 .
نظرية النقد العربي رؤية قرآنية معاصرة
_ 10 _
وقد وجد عبد القادر في استعماله لهذا الاصطلاح غرابة نظراً نظراً لجدته في مجاله الخاص به ، وخشي أن ينكر عليه النقاد ذلك فتستر بالجاحظ كلمة التصوير لم تكن واضحة تماماً ، إذ التصوير عند الجاحظ ـ كما يبدو من سياق تعبيره ـ لا يتعدى حدود الجهد العقلي أو العملي الذهني في صياغة الشعر ، وهو أجنبي عن مصطلح عبد القاهر الذي استعمله مبتكراً له ومبتدعاً لمدلوله ، فالجرجاني بهذا قد أعطى للصورة رؤية جديدة ، وما ذكره دقيق جداً ، فالصورة عنده ليست هي نفس الشيء ، وإنما هي مميزاته المفرقة له عن غيره ، وهذه المميزات قد تكون في الشكل وقد تكون في المضمون ، لأن الصورة مستوعبة لهما ، والنظرة لأحدهما لا بد أن تنعكس على الآخر .
لهذا فإن ما أبداه عبد القاهر ، يصلح أن يكون نواة لما استقر عليه المصطلح النقدي الأصيل للصورة لدى المحدثين . وليس هنا مجال للتفصيل في الاستدلال على صحة هذا الرأي ، لأننا سبق وأن بحثناه في خطوطه العريضة (1) ، إلا أننا سنلمح له في المقارنة كما سيأتي .
وأما ما أبداه التهانوي ، وهو من المتأخرين عن عصر عبد القاهر كثيراً ، فقد ترجم رأي عبد القاهر في استجلاء الفروق والمميزات فيما يحصل في الذهن من معلومات ، هذا لو أراد الصورة في مصطلحها الفني ، أو لو حملنا كلامه على الصورة في اصطلاح الفلاسفة ـ وهي تعني الهيولي في مقابل المادة عند القوم ـ فحديثه لا يعنينا حينئذ ، ويحمل كلامه على ما حمل عليه كلام من سبقه .
--------------------
(1) ظ المؤلف : الصورة الأدبية في الشعر الأموي : 20 ـ 35 .
نظرية النقد العربي رؤية قرآنية معاصرة
_ 11 _
الصورة عند النقاد المحدثين :
على الرغم من الاتجاه السائد عند النقاد المعاصرين من العرب والغربيين والمستشرقين في محاولة دراسة الصورة الفنية لأي عمل أدبي ، فإن حقيقة الصورة ما زالت موضع اختلاف لديهم في مجالات التحديد ، ويذهبون بذلك مذاهب هي أقرب إلى الغموض منها إلى الوضوح .
لقد عرف ( فان van ) الصورة بقوله : « الصورة كلام مشحون شحناً قوياً ، يتألف عادة من عناصر محسوسة ، خطوط ، ألوان ، حركة ، ظلال ، تحمل في تضاعيفها فكرة أو عاطفة أي إنها توحي بأكثر من المعنى الظاهر ، وأكثر من انعكاس الواقع الخارجي ، وتؤلف في مجموعها كلاً منسجماً » (1) .
وهذا يعني أنها مجموعة العناصر المحسوسة التي ينطوي عليها الكلام ، وتوحي بأكثر مما تحمله من تضاعيف المعنى الظاهر ، وإنها تنحصر في جانبين :
1 ـ الجانب الحسي المرتكز على الفكرة والعاطفة والمشاهدة .
2 ـ الجانب الإيحائي الذي يضفي على الشكل أكثر من تفسيره الظاهري .
وعرف « بوند » الصورة بأنها « ما ينقل عقدة فكرية أو عاطفية في لحظة زمنية » (2) ، فهي عنده الوسيلة التي تعبر في طريقة عرضها من مركب فكري ، أو إحساس عاطفي مرتبطين بلحظة زمنية معينة .
--------------------
(1) روز غريب ، تمهيد في النقد الحديث : 192 وما بعدها .
(2) إحسان عباس ، فن الشعر : 90 .
نظرية النقد العربي رؤية قرآنية معاصرة
_ 12 _
ويعرف البعض الصورة بأنها « مشهد أو رسم قوامه الكلمات » (1) ، فهي عنده لوحة فنية تتضافر على إخراجها الألفاظ ، سواء بمدلولها الحسي ، أم بمدلولها الإيحائي متناسياً أن كثيراً من المشاهد والرسوم تبدو مفتقرة إلى الصورة الفنية وإن تقومت بالكلمات .
ويعبر عنها البعض الآخر بأنها « حركة متصلة في قلب العمل الأدبي تتبصر بها في دوائره ومحاوره ومنعطفاته ، وننتقل بها داخل العمل الأدبي في مستوى تعبيري إلى مستوى تعبيري آخر ، حتى يتكامل لدينا البناء الأدبي كائناً عضوياً حياً (2) .
ولا يخلو هذا التعريف من غرابة وطرافة وإيهام ، لأنه مجموعة من الألفاظ المتشابهة والمعاني المترادفة التي لا نصل معها إلى تحديد ، ولا تكشف لنا عن جديد ، إلا في إرادة التنقل من تعبير حقيقي ـ فيما يبدو ـ الى تعبير استعاري .
ويعتبر الأستاذ أحمد الشايب « الوسائل التي يحاول بها الأديب نقل فكرته وعاطفته معاً إلى قرائه وسامعيه (3) هي الصورة الفنية » ثم يذكر أن لها معنيين :
الأول : ما يقابل المادة الأدبية ، ويظهر في الخيال والعبارة .
الثاني : ما يقابل الأسلوب ، ويتحقق بالوحدة ، وهي تقوم على الكمال والتأليف والتناسب (4) .
--------------------
(1) أحمد نصيف الجابي ، في الرؤية الشعرية المعاصرة : 119 .
(2) محمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس ، في الثقافة المصرية : 58 .
(3) أحمد الشايب ، أصول النقد الأدبي : 242 .
(4) المصدر نفسه : 259 .
نظرية النقد العربي رؤية قرآنية معاصرة
_ 13 _