الدكتور
محمد حسين علي الصغير
استاذ الدراسات القرآنية في جامعة الكوفة




المقدمة :

   مهمة النقد الادبي تعنى بتمييز جيد القول من رديئه شعراً كان أو نثراً ، والنص الادبي هو المضمار الذي يرتاده فن النقد ، والناقد الموضوعي هو الذي يخضع هذا النص في التمييز لمقاييس فنية تحكم على جودته أو رداءته ، فلا يكون حكمه اعتباطياً ، ولا تقويمه كيفياً ، وإنما يخلص إليه بموازين ومعايير تتكفل بالأصالة والإنصاف .
   النص الأدبي عبارة عن لفظ ومعنى ، وهناك من النقاد من تعصب للفظ وهناك من فضل المعنى ، وهناك من ترك هذا وذاك ، وقال بالعلاقة القائمة بين الفظ والمعنى وهي الصورة ، وهناك من بحث دلالة الألفاظ في ضوء المعاني . كل ذلك من أجل تقويم النص الأدبي ، ومقايسة الفن القولي .
   هذه الاعتبارات المختلفة كانت مجالاً خصباً لآراء علماء العروبة والإسلام في النقد فنشأت عنها جملة من المدارس النقدية الملتزمة حيناً ، والمتطرفة حيناً آخر ، والسائرة بين بعض الأحيان .
   لقد أدى هذا التنوع في الآراء ، والتعدد في وجهات النظر ، إلى تنوع وتعدد المذاهب النقدية القديمة والمعاصرة ، وحينما ألقينا نظرة فاحصة على الموضوع ، وجدنا النص الأدبي إما خاضعاً لصورته الفنية ، فبحثناها في فصل قائم بذاته ، وإما أن يكون مقترناً بجودة اللفظ ودقة المعنى ، فخصصنا لذلك فصلاً متميزاً ، وإما أن يكون معتمداً على دلالة اللفظ وما توحي من معنى فكان فصل دلالة الألفاظ .

نظرية النقد العربي رؤية قرآنية معاصرة _ 2 _

   هذا البحث إذن في فصول ثلاثة تمثل المظاهر الأولى للنقد العربي :
1 ـ مصطلح الصورة الفنية .
2 ـ قضية اللفظ والمعنى .
3 ـ دلالة الألفاظ .

   ولقد عرضت في الفصل الأول للصورة في اصطلاح النقاد العرب القدامى والمحدثين وقارنتها بآراء الغربيين من أوروبيين ومستشرقين فانتهيت إلى أنها جزء لا يتجزأ من حضارة الأمة العربية في الوقت الذي كان فيه أبناء الغرب والشرق يدرسون ويتلقون العلم في حواضرنا العربية في كل من القاهرة والقيروان وأشبيلية وغرناطة وبغداد والبصرة والكوفة والموصل ودمشق ، وكان ذلك في حدود القرن الخامس الهجري .
   وعرضت لقضية اللفظ والمعنى بأبعادهما المختلفة عند النقاد العرب القدامى والمحدثين وعند الأوروبيين وانتهيت فيها إلى ما تجده من نتائج في الموضوع تنتهي بوحدة اللفظ والمعنى بإطار متميز لا ينفصل .
   وعرضت لدلالة الألفاظ بأقسامها وأخصصت نماذجها وأمثلتها عند التطبيق لآيات القرآن الكريم ونماذج أمثال القرآن بخاصة اعتماداً على ما استنبطته من رسالتي « الصورة الفنية في المثل القرآني : دراسة نقدية وبلاغية » مع الإضافة للطروح المعاصرة بعيدة عن الفهم الدلالي اللغوي عند الأوروبيين ، فهي شيء والنظر الأوروبي شيء آخر ، إذ يتعلق بالقضية اللغوية دون النظرية النقدية التي تتحدث عنها .
   لقد اتسمت هذه المحاضرات الثلاث على وجزاتها بالدقة والشمول والتجديد الذي سيعين على البحث الجامعي في مستقبل حياته العلمية ، وسيقربه شوطاً من الدراسات الأكاديمية المتطورة ، ولا سيما وأن هذه المباحث هي خلاصة ما توصل إليه الفكر النقدي عند العرب وفي أوروبا قديماً وحديثاً . فهي محاور ثلاثة متأصلة يبدو لي سبق العرب في التوصل إليها ، وإرساء قواعدها في ضوء القرآن الكريم ، وما توفيقي إلا بالله العلي العظيم توكلت وإليه أنيب ، وهو حسبنا ونعم الوكيل .
الجامعة المستنصرية       
كلية الفقه / النجف الاشرف   
الدكتور محمد حسين علي الصغير

نظرية النقد العربي رؤية قرآنية معاصرة _ 3 _

أهمية الصورة الفنية :
   تنشأ أهمية الصورة الفنية من خلال معركة النقاد والبلاغيين في الفصل بين اللفظ والمعنى ، فاللفظ هو الصياغة الشكلية والهيكل التركيبي في العمل الادبي ، والمعنى هو الفكرة المجردة التي تفي بالغرض .
   وقد أوجد هذا الفصل تقسيماً ظاهراً في النص الأدبي وجعله ذا دلالتين : خارجية تتصل بالشكل ، وداخلية تقترن بالمضمون ، ولعل المطور لهذا الفصل هو المذهب المعتزلي في فهمه للنص القرآني ، فهو ذو بعدين : البعد الأول ، يتمثل بالفن القولي في دلالته المحسوسة من اللفظ التي تتشكل بكل صنوف التعابير المجازية والمحسنات البديعية .
   والبعد الثاني ، ويتمثل بالمعنى الذهني المجرد الذي يترصده المتلقى في النفس من خلال معنى ذلك اللفظ ، فهما ـ إذن ـ شيئان مستقلان ، ليخلصوا من وراء هذا إلى القول بأن هذه الاشكال عارضة متغيرة فهي محدثة ، وأن القرآن إنما هو المعنى لاتصاله بذات الخالق ، وذات الخالق قديمة ، فالقرآن ليس بقديم ، لأنه خلاف ذاته تعالى (1) .
   بل هو من خلقه وصنعته ، فهو محدث ، إذن : اللفظ والمعنى في القرآن محدثان ، ولا علاقة لهما بالقدم ، وكان هذا بداية للبحث عن الألفاظ مرة ، وعن المعاني مرة أخرى .

--------------------
(1) ظ : تفصيل ذلك في : محمد عبد الهادي أبو ريدة ، نصوص فلسفية عربية : 21 ـ 23 ، علي سامي النشار ، نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام : 142 ، جابر عصفور ، الصورة الفنية : 382 .

نظرية النقد العربي رؤية قرآنية معاصرة _ 4 _
   ثم تبلورت الفكرة أكثر فأكثر فعاد المحفز لها هو القول بإعجاز القرآن ، وأين يكمن هذا الإعجاز ، أفي لفظه ، أم في معناه ، أم في العلاقة القائمة بين اللفظ والمعنى ، فذهب عبد القاهر الجرجاني ـ وهو من أئمة الأشاعرة ـ إلى القول بالعلاقة بينهما ، ومن ثم جرد اللفظ قالباً ، والمعنى ذهناً ، وصهرهما سوية بأحداث عملية الإعجاز من خلال النظم وحسن التأليف ، وكأنه يلمح بل يصرح بأسبقية المعاني في النفس على الألفاظ (1) .
   ومهما يكن من أمر فإن هذه المعركة قد انتهت بفصل العلاقات بين الفكر واللغة فعادت اللغة رموزاً تحتاج إلى الحل بما اشار إليه عبد القاهر : إن اللغة تجري مجرى العلامات والسمات ، ولا معنى للعلامة أو السمة حتى يحتمل الشيء ما جعلت العلامة دليلاً عليه (2) ، وعاد الفكر بهذا التقسيم مستقلاً في تصوره المعاني .
   ومن هنا نشأت الحاجة إلى الصورة الفنية باعتبارها أداة لها طريقتها الخاصة في عرض المعاني مقترنة بألفاظ ليتفاعل المتلقي للنص الأدبي وهو مرتبط بجزئيه في وقت واحد ، فلا فصل بينهما ولا يتميز أحدهما عن الآخر ، فيكتسب ـ حينذاك ـ العمل الأدبي مناخاً يشعرك بالتئام اللغة والفكر بإطار موحد ينهض بسبب النص وتحديده ، ويلفت الانتباه إلى طبيعة المعنى في عرضه وأسلوبه منسجماً مع سلسلة الألفاظ المشيرة إلى المعاني ، غير منفصل عنها في حال من الأحوال ، وهنا يندفع المتلقي نحو السير وراء الصورة في استكناه العلاقات القائمة بين اللغة والفكرة ، أو اللفظ والمعنى .

--------------------
(1) ظ . في تفصيل ذلك المؤلف : الصورة الأدبية في الشعر الأموي : المعركة بين اللفظ والمعنى : 20 ـ 35 .
(2) الجرجاني ، عبد القاهر ـ أسرار البلاغة : 347 .


نظرية النقد العربي رؤية قرآنية معاصرة _ 5 _
   أو الشكل والمضمون ، ويكون طريق كشف هذه العلاقات هو التنقل في استنباط المعاني من سبل صياغتها في التشبيه والاستعارة والتمثيل والمجاز ، لتقيم الدليل على الذهني بالحسي وتلخص إلى القيمة من خلال الظاهر إلى الواقع ، ومن مجاز القول إلى الحقيقة ، ومن التعبير الاستعاري إلى الأصل الاستعمالي ، ومن النظر في المشبه به لإدراك شأن المشبه ، ومن التمثيل إلى كنه الشيء ، وهذه هي مجموعة العلاقات في التناسب واللحمة التي تبنى عليها أصول الصورة الفنية .
   أما تأثير هذا الكشف في المتلقى ، فيتوقف على المجهود العقلي والفكري الذي يبذله في استخراج الصورة من خلال نظره إلى هذه الخصائص والمميزات .

الصورة في اصطلاح النقاد القدامى (1) :
   ورد ذكر الصورة وبعض مشتقاتها على ألسنة بعض النقاد القدامى ، وأقدم من وقفنا على قول له في هذا الشأن هو أبو عثمان الجاحظ ( ت 255 هـ ) الذي استعمل مادة الصورة في مجال الأدب بهيئة أخرى فقال ـ ( هو يتحدث عن الشعر ) ـ بأنه : ضرب من النسج ، وجنس من التصوير (2) ، وكأنه أراد بالتصوير هنا العملية الذهنية التي تصنع الشعر .

--------------------
(1) تحدثنا عن « الصورة الأدبية وأبعادها النقدية » في مدخل رسالتنا للماجستير « الصورة الأدبية في الشعر الأموي » بكثير من التفصيل وكشفنا موقعها من مسألة اللفظ والمعنى ، بما لا مسوغ لإعادته بتفصيلاته المكثفة .
وهنا أرى لزاماً عليّ أنألخص بعض ما توصلت إليه هناك : مضيفاً له ما استجد لدي في المصطلح لما تقتضيه الضرورة من الإحاطة بمصطلح الصورة الفنية بين يدي البحث ، ( ظ : تفصيل ذلك في : الصورة الأدبية في الشعر الأموي : 10 | 350 ـ الصورة الفنية الأدبية في الشعر الأموي : 10 | 350 ، الصورة الفنية في المثل القرآني : 25 ـ 38 ) .
(2) الجاحظ : الحيوان : 3 | 132 .


نظرية النقد العربي رؤية قرآنية معاصرة _ 6 _
   إلا أن قدامة بن جعفر ( ت 337 هـ ) قد استعملها نصاً ، واعتبرها الهيكل والشكل في مقابل المادة والمضمون ، فقال ـ متحدثاً عن الشعر ـ « معاني بمنزلة المادة الموضوعة ، والشعر فيها كالصورة ، كما يوجد في كل صناعة من أنه لا بدّ فيها من شيء موضوع يقبل تأثير الصور » (1) .
   فهو ينأى بها عن فهم الجاحظ لها ، فالجاحظ يذهب ـ في حدود فهمنا لكلامه ـ إلى أنها العملية الذهنية التي تهيئ النص الشعري ، بينما يرى قدامة فيها الإطار الخارجي العام لشكل هذا الشعر .
   وذكر أبو هلال العسكري ( ت 395 هـ تقريباً ) الصورة في أقسام التشبيه فجعل من أقسامه : تشبيه الشيء صورة ، وتشبيهه به لوناً وصورة اراد بهما المثال والهيكل .
   وجاء عبد القاهر الجرجاني ( ت 471 هـ ) فأعطى للصورة في المجالات النقدية حلولاً خاصة شرحها بقوله : واعلم أن قولنا : الصورة إنما هو تمثيل وقياس لما نعلمه بعقولنا على الذي نراه بأبصارنا فما رأينا البينونة بين أحاد الأجناس تكون من جهة الصورة ، فكان بين إنسان من إنسان ، وفرس من فرس ، بخصوصية تكون في صورة هذا لا تكون في صورة ذاك ، وكذلك الأمر في المصنوعات فكان بين خاتم من خاتم ، سواراً من سوار بذلك ، ثم وجدنا بين المعنى في أحد البيتين وبينه في الآخر بينونة في عقولنا وفرقاً ، عبرنا عن ذلك الفرق وتلك البينونة بأن قلنا : المعنى في هذا صورة غير صورته في ذلك .

--------------------
(1) قدامة بن جعفر ، نقد الشعر ، تحد : أ . بونييكر ، 4 .

نظرية النقد العربي رؤية قرآنية معاصرة _ 7 _
   وليس العبارة عن ذلك بالصورة شيئاً نحن ابتدأناه فينكره منكر ، بل هو مستعمل مشهور في كلام العلماء ، ويكفيك قول الجاحظ : وإنما الشعر صناعة وضرب من التصوير (1) .
   واطلق ابن الأثير ( ت 637 هـ ) كلمة الصورة على خصوص الأمر المحسوس ، وقابل بينهما وبين المعنى ، فقال ـ وهو يعدد أقسام التشبيه الأربعة : « أما تشبيه معنى بمعنى . . . وأما تشبيه صورة بصورة كقوله تعالى : ( وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ * كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ * ) (2) ، وأما تشبيه معنى بصورة كقوله تعالى : ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ ) (3) وهذا القسم أبلغ الأقسام الاربعة ، لتمثيله المعاني الموهومة بالصور المشاهدة ، وأما تشبيه صورة بمعنى كقول أبي تمام :

وفتكت بالمال الجزيل وبالعدا      فتك  الصبابة بالمحب المغرم
   فشبه فتكة المال بالعدا وذلك صورة مرئية ، بفتك الصبابة وهو فتك معنوي ، وهذا القسم الطف الأقسام الأربعة ، لأنه نقل صورة إلى غير صورة (4) .
   وكان ابن الأثير يعتبر التشبيه التمثيلي في تجسيده المعنويات بالحسيات وتصوير الماديات بالذهنيات ـ طرداً وعكساً ـ هو الصورة المتكونة في العمل الأدبي ، وقد اعتبر التهانوي ( من علماء القرن الثاني عشر الهجري ) الصورة ذات طبيعتين خارجية وذهنية فعد الصورة « ما يتميز به الشيء مطلقاً ، سواء كان في الخارج ويسمى صورة خارجية أو في الذهن ويسمى صورة ذهنية » (5) .

--------------------
(1) الجرجاني ، دلائل الإعجاز : 365 .
(2) الصافات : 48 ـ 49 .
(3) النور : 39 .
(4) ابن الأثير : المثل السائر 1 | 297 وما بعدها .
(5) التهانوي ، كشاف اصطلاحات الفنون : 1 | 911 .

نظرية النقد العربي رؤية قرآنية معاصرة _ 8 _
   ثم فرق بينهما فأعطى الأهمية للصورة الذهنية ، واعتبر الصورة الخارجية من الأعيان ، فقال : الصورة : ما به يتميز الشيء في الذهن ، فإن الأشياء في الخارج أعيان ، وفي الذهن صور (1) .
   ثم حذا حذو عبد القاهر ، واستنار برايه باحثاً عن الفروق والمميزات في حصول صورة الشيء في الذهن لا في تواجدها في الخارج فقال : صورة الشيء ما يؤخذ منه عند جذب الشخصيات ، أي الخارجية ، وأما الذهنية فلا بد منها ، لأن كل ما هو حاصل في العقل فلا بدّ له من تشخيص عقلي ضرورة أنه متمايز عن سائر المعلومات (2) .
   هذه أهم النصوص التي لا حظناها عند النقاد والبلاغين القدامى في حديثهم عن الصورة ، ولا بد لنا من الوقوف قليلاً عند استعمالهم هذا ، لرصد مفهوم الصورة ، وبث دلالتها لديهم .
   أما قدامة ، فله فضل السبق ـ وتبعه أبو هلال ـ باستعمال الكلمة نصاً دون الجاحظ الذي استعمل المادة في هيئة أخرى ، وهي التصوير فقد اعتبراها أداة للتعبير عن الإطار الخارجي لمثال الشيء وهيئته وصفته ، وقد امتد هذا الاستعمال إلى عصر عبد القادر الذي يقول : تشبيه الشيء بالشيء من جهة الصورة والشكل . أو جمع الصورة واللون (3) .

--------------------
(1) التهانوي ، كشاف اصطلاحات الفنون : 1 | 912 .
(2) المصدر نفسه : 1 | 912 .
(3) الجرجاني ، اسرار البلاغة : 81 .

نظرية النقد العربي رؤية قرآنية معاصرة _ 9 _
   يريد بذلك الهيئة والصفة مقابل المادة والجوهر ، وأما ابن الأثير فقد تأثر نسبياً بقدامة ، وجعل الصورة قسيماً للمعنى ، أو في مقابلة أي اعتبرها الشكل ، واعتبر المعنى مادة لهذا الشكل ، وقوم الصورة فرأى تشبيه المعنى بالصورة ابلغ أقسام التشبيه الأربعة ، لتصويره المعنى الوهمي المجرد بالصور المشاهدة عياناً ورأى تشبيه الصورة بالمعنى ألطف الأقسام لأنه تصرف حي ينقل الصورة المحسوسة إلى الصورة المعنوية المتخيلة .
   ويبدو أن الصورة في حدود ما عرضوه لا تتعدى ما ذكر لها في مداليل لغوية ، وإن توسع فيه إلى ما يشمل الصورة المتخيلة في أقسام التشبيه ، وإنما ارادوا بذلك الشكل كما أراد ذلك اللغويون ، فهذا ابن سيده ( ت 458 هـ ) يقول : « الصورة في الشكل » (1) وهو يريد بالشكل الهيئة الخارجية التي يتمثل فيها الشيء .
   وقد تطلق عند اللغويين على الحقيقة والهيئة معاً ، قال ابن الأثير : الصورة ترد في كلام العرب على ظاهرها ، وعلى معنى حقيقة الشيء وهيئته ، وعلى معنى صفته ، يقال صورة الفعل كذا وكذا أي هيئته ، وصورة الأمر كذا وكذا أي صفته (2) .
   ولعل عبد القادر الجرجاني هو أول من أعطى للصورة دلالة اصطلاحية وهي تعني لديه الفروق المميزة بين معنى ومعنى ، وشبهها بالفروق التي تميز هيكل إنسان ما عن إنسان ، وخاتم عن خاتم ، وسوار عن سوار ، ولكن هذه الفروق بوقت انطباعها على هيئة الشيء فإنها يستدل بها على حقيقته .

--------------------
(1) ابن منظور ، لسان العرب : 6 | 143 .
(2) المصدر نفسه : 6 | 144 .

نظرية النقد العربي رؤية قرآنية معاصرة _ 10 _
   وقد وجد عبد القادر في استعماله لهذا الاصطلاح غرابة نظراً نظراً لجدته في مجاله الخاص به ، وخشي أن ينكر عليه النقاد ذلك فتستر بالجاحظ كلمة التصوير لم تكن واضحة تماماً ، إذ التصوير عند الجاحظ ـ كما يبدو من سياق تعبيره ـ لا يتعدى حدود الجهد العقلي أو العملي الذهني في صياغة الشعر ، وهو أجنبي عن مصطلح عبد القاهر الذي استعمله مبتكراً له ومبتدعاً لمدلوله ، فالجرجاني بهذا قد أعطى للصورة رؤية جديدة ، وما ذكره دقيق جداً ، فالصورة عنده ليست هي نفس الشيء ، وإنما هي مميزاته المفرقة له عن غيره ، وهذه المميزات قد تكون في الشكل وقد تكون في المضمون ، لأن الصورة مستوعبة لهما ، والنظرة لأحدهما لا بد أن تنعكس على الآخر .
   لهذا فإن ما أبداه عبد القاهر ، يصلح أن يكون نواة لما استقر عليه المصطلح النقدي الأصيل للصورة لدى المحدثين . وليس هنا مجال للتفصيل في الاستدلال على صحة هذا الرأي ، لأننا سبق وأن بحثناه في خطوطه العريضة (1) ، إلا أننا سنلمح له في المقارنة كما سيأتي .
   وأما ما أبداه التهانوي ، وهو من المتأخرين عن عصر عبد القاهر كثيراً ، فقد ترجم رأي عبد القاهر في استجلاء الفروق والمميزات فيما يحصل في الذهن من معلومات ، هذا لو أراد الصورة في مصطلحها الفني ، أو لو حملنا كلامه على الصورة في اصطلاح الفلاسفة ـ وهي تعني الهيولي في مقابل المادة عند القوم ـ فحديثه لا يعنينا حينئذ ، ويحمل كلامه على ما حمل عليه كلام من سبقه .

--------------------
(1) ظ المؤلف : الصورة الأدبية في الشعر الأموي : 20 ـ 35 .

نظرية النقد العربي رؤية قرآنية معاصرة _ 11 _
الصورة عند النقاد المحدثين :
   على الرغم من الاتجاه السائد عند النقاد المعاصرين من العرب والغربيين والمستشرقين في محاولة دراسة الصورة الفنية لأي عمل أدبي ، فإن حقيقة الصورة ما زالت موضع اختلاف لديهم في مجالات التحديد ، ويذهبون بذلك مذاهب هي أقرب إلى الغموض منها إلى الوضوح .
   لقد عرف ( فان van ) الصورة بقوله : « الصورة كلام مشحون شحناً قوياً ، يتألف عادة من عناصر محسوسة ، خطوط ، ألوان ، حركة ، ظلال ، تحمل في تضاعيفها فكرة أو عاطفة أي إنها توحي بأكثر من المعنى الظاهر ، وأكثر من انعكاس الواقع الخارجي ، وتؤلف في مجموعها كلاً منسجماً » (1) .
   وهذا يعني أنها مجموعة العناصر المحسوسة التي ينطوي عليها الكلام ، وتوحي بأكثر مما تحمله من تضاعيف المعنى الظاهر ، وإنها تنحصر في جانبين :
1 ـ الجانب الحسي المرتكز على الفكرة والعاطفة والمشاهدة .
2 ـ الجانب الإيحائي الذي يضفي على الشكل أكثر من تفسيره الظاهري .
   وعرف « بوند » الصورة بأنها « ما ينقل عقدة فكرية أو عاطفية في لحظة زمنية » (2) ، فهي عنده الوسيلة التي تعبر في طريقة عرضها من مركب فكري ، أو إحساس عاطفي مرتبطين بلحظة زمنية معينة .

--------------------
(1) روز غريب ، تمهيد في النقد الحديث : 192 وما بعدها .
(2) إحسان عباس ، فن الشعر : 90 .

نظرية النقد العربي رؤية قرآنية معاصرة _ 12 _
   ويعرف البعض الصورة بأنها « مشهد أو رسم قوامه الكلمات » (1) ، فهي عنده لوحة فنية تتضافر على إخراجها الألفاظ ، سواء بمدلولها الحسي ، أم بمدلولها الإيحائي متناسياً أن كثيراً من المشاهد والرسوم تبدو مفتقرة إلى الصورة الفنية وإن تقومت بالكلمات .
   ويعبر عنها البعض الآخر بأنها « حركة متصلة في قلب العمل الأدبي تتبصر بها في دوائره ومحاوره ومنعطفاته ، وننتقل بها داخل العمل الأدبي في مستوى تعبيري إلى مستوى تعبيري آخر ، حتى يتكامل لدينا البناء الأدبي كائناً عضوياً حياً (2) .
   ولا يخلو هذا التعريف من غرابة وطرافة وإيهام ، لأنه مجموعة من الألفاظ المتشابهة والمعاني المترادفة التي لا نصل معها إلى تحديد ، ولا تكشف لنا عن جديد ، إلا في إرادة التنقل من تعبير حقيقي ـ فيما يبدو ـ الى تعبير استعاري .
   ويعتبر الأستاذ أحمد الشايب « الوسائل التي يحاول بها الأديب نقل فكرته وعاطفته معاً إلى قرائه وسامعيه (3) هي الصورة الفنية » ثم يذكر أن لها معنيين :
الأول : ما يقابل المادة الأدبية ، ويظهر في الخيال والعبارة .
الثاني : ما يقابل الأسلوب ، ويتحقق بالوحدة ، وهي تقوم على الكمال والتأليف والتناسب (4) .

--------------------
(1) أحمد نصيف الجابي ، في الرؤية الشعرية المعاصرة : 119 .
(2) محمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس ، في الثقافة المصرية : 58 .
(3) أحمد الشايب ، أصول النقد الأدبي : 242 .
(4) المصدر نفسه : 259 .

نظرية النقد العربي رؤية قرآنية معاصرة _ 13 _
   ومقياس الصورة عنده « هو قدرتها على نقل الفكرة والعاطفة بأمانة ودقة ـ فالصورة هي العبارة الخارجية للحالة الداخلية ـ وهذا هو مقياسها الاصيل ، وكذا ما نصفها به من روعة وقوة إنما مرجعه هذا التناسب بينها وبين ما تصور من عقل الكاتب ومزاجه تصويراً دقيقاً خالياً من الجفوة والتعقيد ، فيه روح الأديب وقلبه ، بحيث نقرؤه ، كأنا نحادثه ، ونسمعه كأنا نعامله » .
   وهذا القياس ذو أهمية جديرة بالتأمل ، فالصورة من جانب قوة خلاقة قادرة على نقل الفكرة ، وإبراز العاطفة ، وهي الشكل الخارجي المعبر عن الحالة النفسية للمنشئ وعن تفاعله الداخلي ، وهي الضوء الكاشف عن كفاءة المبدع الفنية ، وروحه الشفافة الرقيقة ـ نتيجة لإيجاده الملاءمة بين نقل الفكرة وتعبيرها النفسي أسلوبياً ـ وبها يتميز عقل المتكلم ويحكم عليها بالدقة والإبداع والتطوير دون وساطة أخرى ، وإنما نقرؤه تجسيداً ، ونسمعه تشخيصاً وإدراكاً من خلال هذا التناسب والارتباط الذي حققه في هذا العمل الأدبي أو ذاك ، وهو الصورة ، فالصورة عنده إيجاد للملاءمة والتناسب بين الفكر والأسلوب ، أو اللغة والأحاسيس .
   ولعل هذا التحديد للصورة في تعريفها ومعناها ورؤية هويتها ومقياسها من أفضل التعاريف الفنية نظراً لما يحمله في تضاعيفه من الوضوح والمرونة والدقة العلمية ، ولأنه جامع مانع كما يقول المناطقة ، ويقول الدكتور داود سلوم « إن امتزاج المعنى والألفاظ والخيال كلها هو الذي يسمى بالصورة الأدبية ، ومن ترابطها وتلاؤمها والنظر إليها مرة واحدة عند نقد النص يقوم التقدير الأدبي السليم » (1) .
   فمقياس الصورة عند الدكتور داود سلوم يقوم على أساس تجسيد الفكرة العامة للعلاقات الجزئية في النص الأدبي لتشكل كلاً فنياً واحداً ، وتقول روز غريب « الصورة في أبسط وصف لها تعبير عن حالة أو حدث بأجزائهما أو مظاهرهما المحسوسة ، هي لوحة مؤلفة من كلمات ، أو مقطوعة وصفية في الظاهر لكنها في التعبير الشعري توحي بأكثر من المظاهر ، وقيمتها ترتكز على طاقتها الإيحائية ، فهي ذات جمال تستمده من اجتماع الخطوط والألوان والحركة ونحو ذلك من عناصر حسية ، وهي ذات قوة إيحائية تفوق قوة الإيقاع لأنها توحي بالفكرة كما توحي بالجو والعاطفة » (2) .

--------------------
(1) داود سلوم ، النقد الأدبي : 1 | 81 .
(2) روز غريب ، تمهيد في النقد الحديث : 190 .

نظرية النقد العربي رؤية قرآنية معاصرة _ 14 _
   وهذا التعريف ـ في كثير من ابعاده ـ تعريب تقليدي لتعريف « وليم فان » السابق ، وشرح له ، وكشف لدوافعه ، وإن أعوزته جودة التركيب وقوة الصياغة ، ولكنه يشير من طرف خفي إلى البعد الرمزي في الصورة بكونها تعبيراً يوحي بأكثر من الظاهر ، والكاتبة هنا تلاحظ في الجانب الإيحائي قوة تفوق الإيقاع والنغم وصنوف المحسنات البيانية ، ولكنها قد تعارض هذا الرأي الذي نقلته في خطوطه العامة دون إدراك لهذه المعارضة ، فهي تعتبر الصورة تتخطى حدود الاستعارة والمجاز والتشبيه ، وتتعدى الخيال والعاطفة فقد تنشأ عن أصل واقعي بعيد عن الخيال من جهة ، وضروب البيان من جهة أخرى ، وهما الجانب الإيحائي في الصورة والذي أكدته في الرأي نفسه ، ثم تعود للتعبير عنه بقولها : « الصورة الشعرية لا تنحصر في التشابيه والاستعارات وسواها من ضروب المجاز ، ولكنها كل صورة توحي بأكثر من معناها الظاهر ، ولو جاءت منقولة عن الواقع » (1) متناسية أن الإيحاء بأكثر من المعنى الظاهر لا يتم إلا باللحن ، أو الرمز ، أو التعريض ، أو الكناية ، أو التشبيه أو الاستعارة ، وكلها من ضروب المجاز بمعناه العام .
   ويرى الدكتور مصطفى ناصف أن الصورة تستعمل عادة : « للدلالة على كل ما له صلة بالتعبير الحسي ، وتطلق أحياناً ، مرادفة للاستعمال الاستعاري » (2) ، فالصورة عنده ما استدل بها على التعبير الشاخص الذي يوصلنا إلى إدراك حقيقة الشيء من جهة ، وعلى دلالة الكلمة الاستعارية من جهة أخرى ، فالشق الأول من كلامه يعني بإيحاء الصورة ، والثاني يعني بشكلها الخارجي في الدلالات المجازية .

--------------------
(1) المصدر نفسه : 203 .
(2) مصطفى ناصف ، الصورة الأدبية : 3 .

نظرية النقد العربي رؤية قرآنية معاصرة _ 15 _
   ثم يأتي بعد هذا فيحدد الصورة بأنها : « منهج ـ فوق المنطق ـ لبيان حقيقة الأشياء » (1) وهذا التحديد لمفهوم لصورة يكاد ينتقل بنا من المجال الأدبي إلى التدقيق الفلسفي ، فلا يعلم ماذا يراد منه بالضبط ـ هل يراد بالمنهج طريقة العرض والأسلوب ، أو مجموعة العلاقات الاستعارية في النص ؟ وما هي طبيعة هذه الحقائق التي تبينها الصورة ؟ أحقيقة اللفظ ، أم المعنى ، أم الحس ، أم العلاقة القائمة بين الجميع (2) .
   ويرى الدكتور جابر أحمد عصفور أن الصورة « طريقة خاصة من طرق التعبير ، أو وجه من أوجه الدلالة ، تنحصر أهميتها فيما تحدثه في معنى من المعاني من خصوصية وتأثير ، ولكن أياً كانت هذه الخصوصية أو ذاك التأثير ، فإن الصورة لن تغير من طبيعة المعنى في ذاته ، إنها لا تغير إلا من طريقة عرضه ، وكيفية تقديمه » (3) .
   فالصورة عنده عرض أسلوبي يحافظ على سلامة النص من التشويه ، ويقدم المعنى بتعبير رتيب ، وهي بعد طريقة لاستحداث خصوصية التأثير في ذهن المتلقي بمختلف وجوه الدلالة التي يستقيها من النص في منهج تقديمه ، وكيفية تلقيه ، وما يحدثه ذلك عنده من متعة ذهنية ، أو تصور تخييلي نتيجة لهذا الغرض السليم .

--------------------
(1) المصدر نفسه : 8 .
(2) المؤلف ، الصورة الأدبية في الشعر الأموي : 18 .
(3) جابر أحمد عصفور ، الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي : 392 .

نظرية النقد العربي رؤية قرآنية معاصرة _ 16 _
مقارنة وتحديد :
   وخلاصة ما تقدم من جولتي مع القدامى والمحدثين من النقاد ، أكاد أخرج بنتيجة تمليها المقارنة بين النصوص هي :
أ ـ إن النقاد القدامى لم ينهضوا بمفهوم الصورة إلى المجال الاصطلاحي الدقيق ، ولم يخرجوا بها عن مدلولها اللغوي ، ولم يتبلور عندهم بعدها النقدي الأصيل باستثناء عبد القاهر الذي ابتدع لنا في استعمال الصورة دلالة اصطلاحية جديدة ، فكان ما أعطاه ـ وحده ـ جديراً بتحديد الاصطلاح في خطوطه الاولى .
   ولا يعطينا ذلك استعمال الجاحظ لها ، وقدامة ، والعسكري ، وابن الأثير ، لأمرين مهمين هما :

الأول : أن كل مصطلح مهما كان عريقاً في القدم فإنه لا يأخذ من قدمه هذا صيغة نهائية ، ولا بد له من الصقل والتطوير والتهذيب ، وذلك لتقلب الرواد عليه ، وتمحيصهم له ، وتفريعهم عن أصوله حتى يصل إلى حد التكامل ، والصورة إحدى هذه المصطلحات في تكوينها البدائي وقد كان صقلها وبلورتها مما انفرد به عبد القاهر دون سواه ، وقد كان بهذا الصقل والتهذيب موضع تأثير كبير في نظريات النقاد المحدثين من العرب والغربيين والمستشرقين (1) .

--------------------
(1) ظ : في تفصيل ذلك : المؤلف ، الصورة الأدبية في الشعر الأموي : 28 ـ 31 .

نظرية النقد العربي رؤية قرآنية معاصرة _ 17 _
الثاني : إن القدامى في معركتهم البلاغية لم يفرغوا من التفريق أو التوفيق بين اللفظ والمعنى ، أو الشكل والمضمون ، أو الصورة والمادة ، للوصول إلى مقياس فني يعتمد عليه في التمييز بين أساليب الكلام الجمالية ، وفي الرجوع بذلك المقياس إلى الصيغة والتركيب ، أو إلى المادة والمضمون ، أو لهما معاً ، مما جعل عبد القاهر يرفض التطرف في الرأيين وينفرد بإدراك العلاقة القائمة بين الشكل والمحتوى ، فيعود بذلك إلى ما أسماه بالنظم تارة ، وبالتأليف تارة أخرى (1) ، وهو لا يريد بهذا إلا الصورة الفنية في كثير من حدود صيغتها الاصطلاحية وليستدل من بعد هذا على أن الصورة غير منفردة دون فن ، وإنما تشمل فنون القول بعامة ، أي إنها لا تنطبق على الشعر فحسب بل تتعداه إلى العمل الأدبي بشقيه ، إذا توافقت أصوله ، وحسن تأليفه وتناسب نظمه ، وبذلك تستوعب الصورة صنوف البيان ، بدليل إخضاع مفهومها عنده لآيات القرآن الكريم ، وإثبات إعجازه ، كما هو واضح لمن استقرأ دلائل الإعجاز ، وأسرار البلاغة ، فعبد القاهر الجرجاني أول منظر لمصطلح الصورة ، وأول قائل بها .
   وعليه فالصورة الفنية جزء لا يتجزأ من حضارة الأمة العربية في القرنين الرابع والخامس قبل الهجرة ، قبل أن تستحدث دلالتها المعاصرة عند الأوروبيين بعدة قرون .

ب ـ إن مصطلح الصورة عند النقاد المحدثين لا سيما الأوروبيين ممن عرضنا لآرائهم وتعاريفهم قد بدا متأرجحاً بين مداليل لا التقاء بين أكثرها وقد يتخلل تعبيرها الغموض وعدم التحديد ، وألفاظها وإن كانت لا تخلو من طرافة ونعومة إلا أنها عاجزة عن تحديد المصطلح تحديداً علمياً ، فالضلال ، والألوان ، والحركة ، والحس ، والرسم ، والمشهد ، والعشوى ، الكائن ، والحي ، والإيحاء ، والشحن ، والعاطفة ، والفكرة ، وفوق المنطق . . . كل أولئك من الكلمات التي حشرت لتفسير معنى الصورة ، ولا يتم معها الضبط العلمي ، ولا يعلم المراد منها على وجه التحقيق ، إلا إنها تحوم حول المصطلح ولا تفصح عنه .

--------------------
(1) الجرجاني : أسرار البلاغة : 7 .

نظرية النقد العربي رؤية قرآنية معاصرة _ 18 _
   ولعل أقرب التعاريف وجهاً ـ فيما يبدو لي ـ وهو تعريف الأستاذ أحمد الشايب ، وأن استنبطه عن الشكل والمضمون ، وبحث عن العنصر الثالث المفقود واعتبره الصورة ، ولا شك أن تعريف الدكتور داود سلوم للصورة امتداد طبيعي لنظرية الامام عبد القاهر الجرجاني ، وعصري يجمع بين الدلالتين اللفظة والمعنوية في مدى تلاؤمها بتصور ذهني .
   ولعل أحدث مقياس لدلالتها ما أكده الدكتور جابر أحمد عصفور باعتبارها طريقة من طرق التعبير الذي تحدث في المعنى ميزة ، وتكسبه طابعاً تأثيرياً في منهج أسلوبه عند تقديم العمل الأدبي ، إلا أنه بهذا يلصقها بالمعنى دون النظر لأهمية الشكل ، ولعله بذلك يفصل بين اللفظ والمعنى ، أو اللغة والفكرة ، قصد لذلك أو لم يقصد .
   فالصورة ـ كما تبدو لي من خلال هذه المقارنة ـ عبارة عن العلاقة القائمة بين اللفظ والمعنى في نص أدبي ، والحصيلة عن اقترانهما ، فهي غيرهما منفصلين ، وهي امتداد لهما مجتمعين ، فليست هي اللفظ بمفرده شكلاً فارغاً رناناً ، ولا المعنى بذاته مضموناً ذهنياً مجرداً ، ولكنها الخصائص المشتركة بينهما ، والتي تتقوم بها شخصية النص الأدبي ، وتتميز عن غيرها من النصوص بما تحمله من أحاسيس وانفعالات قد لا يوحي ظاهر اللفظ ، ولا يحققها مجرد المعنى ، ولكنها مزيج بين دلائل اللفظ ، وإيحائية المعنى في تحقيق نموذج أدبي ، أو تمييز نص عن نص ، بما تضفيه صياغة الشكل في علاقاته الاستعارية ، وما تمليه خصائص المعنى في تأثيره وأحاسيسه .
   أو هي ـ بإيجاز ـ مجموعة العلاقات اللغوية والبيانية والإيحائية القائمة بين اللفظ والمعنى ، أو الشكل والمضمون ، وعلى هذا فالصورة أداة فنية لاستيعاب أبعاد الشكل والمضمون بما لهما من مميزات ، وما بينهما من وشائج تجعل الفصل بينهما مستحيلاً ، فالصورة ـ إذن ـ وحدة لا تنفصم ، ذات طرفين : إطار ومادة ، ولا يتقوم الجهد الأدبي إلا بلحاظ طرفيه ، ولا يتم تفسيره إلا بمواجهتهما معاً ، وإلا فالنتاج الأدبي عمل جاف لا ينبض بالحس ، ولا يتسم بالحياة ، والجفاف لا يكون أثراً صالحاً في مقياس فني .

نظرية النقد العربي رؤية قرآنية معاصرة _ 19 _
ابعاد هذه المعركة النقدية :
   من المسائل الكبرى عند النقاد القدامى ، مسألة اللفظ والمعنى ، فقد قامت المعركة بينهم على أشدها في تحديد دور كل منهما في إعطاء النص الأدبي قيمته الفنية ، ومن ثم في تقويم شخصية كل منهما في السيادة والأولوية .
   ولعل المحفز لهذه المعركة الإعجاز القرآني ، أو لفكرة الإعجاز في القرآن وارتباط الفكر النقدي والبلاغي بمضامينها ، باعتباره عريباً إسلامياً ، فكان النزاع محتدماً في أين يكمن الإعجاز ، في اللفظ وتأليفه ، أو المعنى ودلالته ، أو بهما معاً ، أم بالعلاقة المتولدة بين ذا وذا .

   ويمكن حصر أبعاد هذه المعركة بأربعة فرقاء :
1 ـ فريق اللفظ ، ويمثله الجاحظ ( ت 255 هـ ) وأبو هلال العسكري ( ت 395 هـ ) .
2 ـ فريق اللفظ والمعنى ، ويمثله ابن قتيبة ( ت 276 هـ ) ، وقدامة بن جعفر ( ت 337 هـ ) .
3 ـ فريق لم يفصل بين اللفظ والمعنى ، ويمثله ابن رشيق ( ت 414 هـ ) وابن الأثير ( ت 637 هـ ) .
4 ـ فريق جرد اللفظ والمعنى ، وقال بالعلاقة القائمة بينهما ، ويمثله عبد القاهر ( ت 471 هـ ) .

   ولا بد لنا من المسير شوطاً في غمار هذه المعركة للكشف عن مراميها ، وسبر أغوارها ، لنصل بعد هذا المسير إلى الميناء الذي ترسو عليه الصورة الأدبية .

نظرية النقد العربي رؤية قرآنية معاصرة _ 20 _
الفريق الأول : تفضيل الالفاظ
   ما من شك أن الجاحظ ( ت 255 هـ ) هو أول من ألقح شرارة هذه المعركة ، تعلقاً منه بمذهب الصيغة ، وتعصباً للفظ ، ومشايعة للصياغة سواء فيما رآه وقرره ، أو بما نقله وأقحمه من آراء العلماء والأدباء والنقاد ، وهو في كل ذلك يضع الأناقة والجودة والجمال في الألفاظ ، فالمقياس عنده للقيمة الأدبية إنما يتقوم في جزالة اللفظ ، وجودة السبك ، وحسن التركيب لأن « المعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والقروي ، والبدوي والقروي ، إنما الشأن في إقامة الوزن ، وتخير اللفظ ، وسهولة المخرج ، وفي صحة الطبع وجودة السبك » (1) .
   وتبعه على هذا الرأي أبو هلال العسكري ، فحذا حذوه ، وسلك منهجه حتى تقاربت الألفاظ ، وتشابهت العبارات ، فنراه في فصل يعقده لذلك ، وهو الفصل الأول من الباب الثاني من الصناعتين ، يقول : الكلام ـ أيدك الله ـ يحسن بسلاسته ، وسهولته ، ونصاعته ، وتخير ألفاظه ، وإصابة معناه ، وجودة مطالعه ، وليس مقاطعه ، واستواء تقاسيمه ، وتعادل أطرافه ، وتشابه بواديه ، وموافقة أخيره فباديه ، حتى لا يكون في الألفاظ أثر ، فتجد المنظوم مثل المنثور في سهولة مطلعه ، وجودة مقطعه ، وحسن رصفه وتأليفه ، وكمال صوغه وتركيبه ، فإذا كان الكلام كذلك كان بالقبول حقيقاً ، وبالتحفظ خليقاً ) (2) .
   فعيار سلامة الكلام عنده تنحصر في سلامة اللفظ وسهولته ونصاعته ، وجودة مطالعه ، ورقة مقاطعه ، وتشابه أطرافه ، وما نسجه على هذا المنوال وفي هذا الهدف ، أما إصابة المعنى ( فليس يطلب من المعنى إلا أن يكون صوابا ) (3) .

--------------------
(1) الجاحظ ، الحيوان : 3 | 131 ـ 132 .
(2) الصناعتين : 61 .
(3) المصدر نفسه : 64 .

نظرية النقد العربي رؤية قرآنية معاصرة _ 21 _
   ثم يعزز رأيه بشواهد وأمثلة يختارها تعنى بالصياغة اللفظية ، تاركاً وراءه المعاني ، عازفاً عن قبولها قبولاً حسناً ، فهي مبتذلة يعرفها العربي والعجمي والقروي والبدوي ـ كما عبر عن ذلك الجاحظ بالنص ـ فيقول « وليس الشأن في إيراد المعاني ، لأن المعاني يعرفها العربي والعجمي والقروي والبدوي ، وإنما هو جودة اللفظ وصفائه ، وحسنه وبهائه ، ونزاهته ونقائه ، وكثرة طلاوته ومائه ، مع صحة السبك والتركيب ، والخلو من أود النظم والتأليف » (1) .
   فالعسكري معني بالهيكل وأناقته ، ومفتتن بالألفاظ وإطارها باعتبارها الوسائل التي يتفاضل بحسن اختيارها الأدباء ، وهو يحكي ما قرره الجاحظ ويتناوله بالكشف والإيضاح ، ولا جديد عنده عليه ، فهما إذن يصدران عن قاعدة واحدة تشكل هذا الرأي الخاص ، ولعل مرد هذا الرأي في تعصبهما الظاهر للفظ إنما يرجع إلى دوافع نفسية وسياسية وعصبية قبلية ، وإن صح هذا فهذه الدوافع لا تشكل حكماً علمياً مجرداً ، ولنقف عندها قليلاً :
أ ـ الدافع النفسي : لا شك أن اللفظ الرقيق ، والجرس الناغم ، والتركيب الناصع ، مظاهر تسيطر على النفوس فتنجذب نحوها انجذاباً ، وجزالة الأسلوب تهيمن على القلوب فتبهر بها وتنساق إليها ، سيراً وراء هذا المظهر البراق ، ولعل الجاحظ والعسكري قد افتتنا بهذا فسيطر عليهما نفسياً ، حتى عاد ذلك قناعة ورأياً ، فكانت أراؤهما تعبيراً عما يعتقدان .

--------------------
(1) المصدر نفسه : 63 ـ 64 .

نظرية النقد العربي رؤية قرآنية معاصرة _ 22 _
ب ـ الدافع السياسي : كانت السلطة الزمنية في الفترة ما بين عصري الجاحظ والعسكري فترة مزدهرة بالترجمة والتأليف والكتابة وصولة البيان ، وكان الخط السياسي معنياً بتقييم الكتاب ، فعليهم تقوم أركان الدولة ، وبهم ينهض مجد الحكم ، ومنهم يخرج عطاء الناس ، وبهم تتفاخر الأمراء والوزراء والولاة ، والكتاب إنما يتميزون بالأداة الصالحة والمهارة الفنية ، وهما يستقيمان باللفظ والتحكم فيه ، وإخضاع تلك المهارة لأغراض الدولة ومتطلبات السلطان ، وليست أغراض الدولة أغراضاً علمية فتحتاج إلى عميق المعاني وموضوعية البيان ، وإنما هي أغراض سياسية تحققها قعقعة الألفاظ وزبرجة الهياكل ، فإذا أضفنا إلى هذا مكانة الجاحظ وشخصية العسكري وما يقتضي مركزهما من التريث والتدبر حفاظاً على النفس ، وقضاء للمصالح ، فما المانع أن يندفعا هذا الاندفاع إرضاء لأولئك الكتاب ، أو حذراً من ولاة الأمور ، ولكن هذا التعليل يقضي بأن الجاحظ والعسكري وأنصارهما قد تجاهلوا كيانهم الحضاري ومجدهم العلمي ، وفرطوا بذوقهم الأدبي وتراثهم العقلي راغبين أو راهبين .

ج ـ الدافع القومي : ومرده في إعطاء هذا الرأي وبخاصة من قبل الجاحظ هو محاولة دحض مزاعم الشعوبيين الذين حاولوا تفضيل نصوصهم الأدبية على النصوص العربية بكثرة معانيها ، وتدفق أغراضها ، و تعدد موضوعاتها ، فكان رد الفعل لدى النقاد العرب هو التقليل من قيمة المعاني وإعطاء القيمة للصناعة اللفظية .

نظرية النقد العربي رؤية قرآنية معاصرة _ 23 _
الفريق الثاني : الجمع بين اللفظ والمعنى :
   وذهب الفريق الثاني وفي طليعته ابن قتيبة ( ت 276 هـ ) إلى القول بالجمع بين اللفظ والمعنى مقياساً في البلاغة ، وميزاناً للقيمة الفنية ، فرأى أن الشعر يسمو بسموهما وينخفض تبعاً لهما ، وقد قسم الشعر إلى أربعة أضراب :
1 ـ ضرب حسن لفظه وجاد معناه .
2 ـ ضرب منه حسن لفظه وحلا ، فإذا فتشته لم تجد هناك فائدة في المعنى .
3 ـ ضرب منه جاد معناه ، وقصرت ألفاظه .
4 ـ ضرب منه تأخر معناه ، وتأخر لفظه (1) .

   فاللفظ والمعنى عند ابن قتيبه يتعرضان معاً للجودة والقبح ، ولا مزية لأحدهما على الآخر ، ولا استئثار بالأولوية لأحد القسيمين ، فقد يكون اللفظ حسناً وكذلك المعنى ، وقد يتساويان في القبح ، وقد يفترقان .
   ولم يعدم ابن قتيبة الموافقين له على رأيه ، وفيه من الوجاهة ما يدعمه ، فقد سار على منهاجه قدامة بن جعفر في نقد الشعر وتحدث عن اللفظ والمعنى ، وجعلهما قسيمين في تحمل مظاهر القبح وملامح الجودة فيما أورده من آراء في عيوب الالفاظ والمعاني (2) .

--------------------
(1) ابن قتيبة ، الشعر والشعراء : 7 ـ 9 .
(2) قدامة ، نقد الشعر ، الفصل الثالث : 194 ـ 214 .

نظرية النقد العربي رؤية قرآنية معاصرة _ 24 _
   وإذا وافقنا ابن قتيبة في تقرير الموضوع الأصل وهو سليم جداً ، فإننا نخالفه في طبيعة فهمه ، وتطبيق الحكم على النماذج التي أختارها دليلاً على صحة دعواه ، ولا سيما في الضرب الثاني الذي حسن لفظه وقصر معناه ، فإنه يستشهد بهذه الأبيات (1) .
ولـما قـضينا مـن مـنى كل iiحاجة      ومـسح  بـالاركان مـن هـو iiماسح
وشــدت  عـلى حـدب iiالـمهاري      رحالنا ولا ينظر الغادي الذي هو رائح
أخــذنـا بـأطـراف iiالأحـاديـث      بـينا وسـالت بأعناق المطي iiالأباطح
   ثم يعقب عليها ناقداً ومعلقاً بقوله « هذه الألفاظ كما ترى أحسن شيء مخارج ومطالع ومقاطع ، وإن نظرت إلى ما تحتها من المعنى وجدته : ولما قطعنا أيام متى ، واستلمنا الاركان ، وعالينا إبلنا الانضاء ، ومضى الناس لا ينتظر الغادي منهم الرائح ، ابتدأنا في الحديث وسارت المطي في الأبطح (2) .

   فابن قتيبة ببساطة يحكم على سذاجة المعنى ، ويدعي في الألفاظ سلس العبارة ، وجودة المخارج ، وحسن المقاطع ، ولكنني ألمس مخالفته في الموضعين :
أ ـ اعتبر الألفاظ في سياقها جيدة المخارج والمقاطع والمطالع ، وقد يكون بعضهما كما رأى ، ولكن أقل ما قبح البعض الآخر مجتمعاً توالي حروف الحلق في حاءاتها وهاءاتها والعين والغين مما يمنع تقاطرها في النطق وانصبابها في التحدث إلا بتكلف ، وهي على وجه الضبط : حاجة ، ومسح ، هو ، ماسح ، على ، حدب ، المهارى ، رحالنا ، الغادي ، هو ، رائح ، الأحاديث ، أعناق ، الأباطح ، فما رأيك في أبيات عدة ألفاظها ثلاثون لفظاً اشتمل منها أربعة عشر لفظاً على حروف مخرجها واحد لا يتعداه وهو الحلق أو أقسى الحلق ؟ فأين حسن المخارج والمقاطع يا ترى ؟ .

--------------------
(1) تنسب الأبيات إلى كثير غزة كما في الديوان : 525 ، وقيل لابن الطثرية وقيل للمضرب كما في معاهد التنصيص : 241 . وتنسب للمضرب وحده كما في أمالي المرتضى : 1 | 458 ، وإلى هؤلاء وغيرهم كما في تخريج هامش أسرار البلاغة : 21 ، رقم 25 .
(2) ابن قتيبة ، الشعر والشعراء : 8 .

نظرية النقد العربي رؤية قرآنية معاصرة _ 25 _
ب ـ أما المعاني وقد عابها ، ونثرها نثراً سوقياً ، فلا حاجة إلى بيان ما اشتملت عليه من رقة وزهو وسلاسة لا سيما في البيت الثالث منها ، ويكفي أن أحيلك على عبد القاهر في كشف جمالها وبيان روعتها ، فقد تناولها بالتعليق في قوله : إن أول ما يتلقاك من محاسن هذا الشعر أنه قال : ( ولما قضينا من منى كل حاجة ) فعبر عن قضاء المناسك بأجمعها والخروج من فروضها وسنتها من طريق أمكنه أن يقصر سعة اللفظ وهو طريقة العموم : ثم نبه بقوله : ( ومسح بالأركان من هو ماسح ) على طواف الوداع الذي هو آخر الأمر ، ودليل المسير الذي هو مقصوده من الشعر ، ثم قال ( أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا ) فوصل بذكر مسح الأركان ما وليه من زم الركاب وركوب الركبان ، ثم دل بلفظة ( الأطراف ) على الصفة التي يختص بها الرفاق في السفر من التصرف في فنون القول وشجون الحديث ، أو ما هو عادة المتطوفين من الإشارة والتلويح والرمز والإيماء ، وأنبأ بذلك عن طيب النفوس ، وقوة النشاط ، وفضل الاغتباط ، كما توجبه إلفة الأصحاب ، وأنسة الأحباب ، وكيف يليق بحال من وفق لقضاء العبادة الشريفة ورجا حسن الإياب . . . ثم زان ذلك كله باستعارة لطيفة طبق بها معضل التشبيه . . . فصرخ أولاً بما أومأ إليه في الأخذ بأطراف الأحاديث من أنهم تنازعوا أحاديثهم على ظهور الرواحل ، وفي حالة التوجه إلى المنازل وأخبر بعد بسرعة السير ، ووطأة الظهر ، إذ جعل سلاسة سيرها بهم كالماء تسيل به الأباطح . . . » (1) .
   وما أبديناه بالنسبة للألفاظ ، وما قرره عبد القاهر بالنسبة للمعاني ، كان سبب مخالفتنا لابن قتيبة في التطبيق ، وموافقتنا له في الحكم وعموم الأصل .

--------------------
(1) الجرجاني ، أسرار البلاغة : 22 ـ 23 .