الفريق الثالث : وحدة اللفظ والمعنى :
   ويتمثل بابن رشيق ( ت 456 هـ ) فقد اعتبر اللفظ والمعنى شيئاً واحداً متلازماً ملازمة الروح للجسد ، فلا يمكن الفصل بينهما بحال ، قال : « اللفظ جسم ، وروحه المعنى ، وارتباطه كارتباط الروح بالجسم : يضعف بضعفه ، ويقوى بقوته ، فإذا سلم المعنى واختل بعض اللفظ كان نقصاً للشعر وهجنة عليه . . . فإن اختل المعنى كله وفسد بقي اللفظ مواتاً لا فائدة فيه » (1) .
   ويبدو لي أن هذا النوع من التعقيد والتقرير أقرب إلى القصد والاعتدال منه إلى التمحل والتعقيد ، فالصورة عند ابن رشيق لا تكون واضحة الرؤية خصبة التخطيط إلا من خلال عنايتها باللفظ لتجعله الوسيط الدال على المعنى المراد لأكيد الصلة ووشيج النسب بينهما « لأن التفكير في اللفظ والمعنى تفكير جملي يفكر فيه الأديب مرة واحدة وبحركة عقلية واحدة ، فإذا رتبت المعاني في الذهن ترتيباً منطقياً ، وإذا تحددت في الفكر تحديداً يجمعه ترابط المعاني وتداعيها ، هذا الترابط وهذا التداعي الذي يرضاه المنطق أو يرضاه حسن الأديب ، انحدرت هذه المعاني على اللسان بألفاظها الملائمة بها خطابة ، وانحدرت على القلم بألفاظها المطاوعة لها كتابة وشعراً من غير تهذيب واختيار لهذه الألفاظ » (2) .

--------------------
(1) العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده : 1 | 124 .
(2) إبراهيم سلامة ، بلاغة ارسطو بين العرب واليونان : 151 ـ 152 .

نظرية النقد العربي رؤية قرآنية معاصرةـ 27 ـ
   وهذا المنهج الذي اختطه ابن رشيق تكاد تنجذب له نفوس قسم من النقاد القدامى والمعاصرين ، ففي طليعة القدماء ابن الأثير ، الذي يرى أن عناية العرب بالفاظها إنما هو عناية بمعانيها ، لانها أركز عندها وأكرم عليها ، وإن كان يسوغ بل يعترف أن عناية الشعراء منصبة على الجانب اللفظي ، ولكنها وسيلة لغاية محمودة وهي إبراز المعنى صقيلاً ، فإذا رايت العرب قد أصلحوا ألفاظهم وحسنوها ، ورققوا حواشيها ، وصقلوا أطرافها ، فلا تظن أن العناية إذ ذاك إنما هي بألفاظ فقط ، بل هي خدمة منهم للمعاني (1) .
   ولا تفسر هذه المحاولة من ابن الأثير بالاقتداء بخطوة ابن رشيق وهي وإن لم تصرح بمزج اللفظ والمعنى في قالب واحد ، ولكنها تشير إلى قيمة المضمون والشكل معاً في صقل الصورة ، وتلمح إلى طبيعة التلاؤم بينهما .
   وقد لاقى هذا الاتجاه سيرورة وانتشاراً عند كثير من النقاد المحدثين ـ وإن لم يثبت اطلاعهم عليه ، لأنهم لا يشيرون إلى مصدره وكأنهم مبتكرون ـ فربطوا بين اللفظ والمعنى حتى ليخيل إليك أنهما شيء واحد ، وحدبوا على تطوير نظرتهم هذه وصعدوا بها إلى مستوى الحقائق الثابتة من خلال إشباع البحوث استدلالاً لها ، ونسجاً على منوالها ، حتى أخذت طريقها إلى مستوى النظريات والصيغ النهائية .

--------------------
(1) ابن الأثير ، المثل السائر : 1 | 353 .

نظرية النقد العربي رؤية قرآنية معاصرة ـ 28 ـ
   يرى الناقد الفرنسي دي جورمون « أن الأسلوب والفكر شيء واحد ، وإن من الخطأ محاولة فصل الشكل عن المادة » (1) .
   وطبيعي أنه ينظر إلى الألفاظ بأنها أساليب وإلى المعاني بأنها أفكار ، ثم يخطئ القائلين بفصل تلك الألفاظ عن هذه المعاني ، ويقول ( دونالد استوفر ) باتحاد الشكل والمحتوى ، ويرى فيهما شخصية واحدة لا يمكن أن ينظر إلى أجزائها في استيعابها وتحديد النظرة الفاحصة إليها فيقول : إن القصيدة تتمتع بشخصية متماسكة حية ، وأنها وحدة تتألف من عناصر مختلفة كثيرة ، وهي متماسكة ومتوازنة ، من حيث الشكل والمحتوى بل يتداخل فيها الشكل والمحتوى على نحو لا يمكن معه تصور كل منهما على حد » (2) .
   ويعتقد الناقد الأمريكي « كلينث بروكس » باستحالة فصل المادة عن الشكل وبالعكس في أي حال من الأحوال لأن تركيبها قد اتحد فلا يبرز إلا كلا موحداً فيقول « إن جوهر القصيدة لا يبرز إلا كلاً موحداً ، أي يستحيل علينا تجريد الجوهر وصياغته في شكل آخر ، لأن الجوهر في هذه الحالة هو المركب الجديد من بناء لا ينفصل عن موسيقاه ، والصور والدلالات المتشابكة والمواقف المعينة ، أي القصيدة ذاتها » (3) .

--------------------
(1) وليم فان أوكونور ، النقد الأدبي : 102 .
(2) حياة جاسم ، وحدة القصيدة في الشعر العربي حتى نهاية العصر العباسي : 151 .
(3) محمد محمد ، النقد التحليلي : 114 .

نظرية النقد العربي رؤية قرآنية معاصرة ـ 29 ـ
   هكذا كانت النظرة بالنسبة للنقاد الغربيين ، فإذا استقبلنا النقاد العرب المعاصرين وجدنا الفكرة أعمق رسوخاً ، وأصلب عوداً ، والنظرة أفحص إمعاناً ، وأكثر ذيوعاً ، تارة بالاتحاد بينهما ، وأخرى بعدم الانفصال ، وثالثة بوحدة المؤدى بين الشكل والمحتوى .
   يرى الأستاذ أحمد الشايب عدم إمكانية فصل القيمة الفنية بين اللفظ والمعنى ويرى كلاً منهما انعكاساً للآخر بسبب « شدة الارتباط بين المادة والصورة أو بين اللفظ والمعنى ، أو بين الفكرة والعاطفة من ناحية ، والخيال واللفظ من ناحية ثانية ، إذ كان هذان صورة لذينك ، وأي تغيير في المادة يستتبع نظيره في الصورة والعكس صحيح » (1) .
   ويرى الدكتور بدوي طبانة أن اللفظ والمعنى حقيقتان متحدتان ، ومنزلتهما واحدة لا تمايز بينهما ، والعناية بأحدهما عناية بالطرف الآخر ، والاهتمام يجب أن يقسم عليهما بالتساوي لأنه اهتمام بالعمل الأدبي وزنة للقيمة الفنية فيقول : « وليست منزلة المعنى دون منزلة اللفظ في تقدير القيمة الفنية للعمل الأدبي ، ولا شك عند المنصفين أن وجوب مراعات جانب المعنى لا يقل شأناً عن وجوب الاهتمام بالالفاظ » (2) .

--------------------
(1) أحمد الشايب ، أصول النقد الأدبي : 246 .
(2) بدوي طبانة ، دراسات في نقد الأدب العربي من الجاهلية إلى نهاية القرن الثالث : 138 ـ 139 .

نظرية النقد العربي رؤية قرآنية معاصرة ـ 30 ـ
   وقد أبدى الدكتور شوقي ضيف اهتماماً كبيراً بالمسألة ، ووجه لها عنايته الفائقة ، وأعار لها الصفحات العديدة في كتابه « النقد الأدبي » وتوصل إلى أن الفصل بين اللفظ والمعنى ، أو الشكل والمضمون أمر مستحيل . . . « فليس هناك محتوى وصورة ، بل هما شيء واحد ، ووحدة واحدة ، إذ تتجمع في نفس الأديب الفنان مجموعة من الأحاسيس ويأخذ تصويرها بعبارات يتم بها عمل نموذج أدبي ، وأنت لا تستطيع أن تتصور مضمون هذا النموذج أو معناه بدون قراءته ، وكذلك لا تستطيع أن تتصور صورته أو شكله أو لفظه ، دون أن تقرأه ، فهو يعبر عن الجانبين جميعاً مرة واحدة ، وليسا هما جانبين ، بل هما شيء واحد ، أو جوهر واحد ممتزج متلاحم ، ولا يتم نموذج فني باحدهما دون الآخر . . . وإذن فلا فارق بين المعنى والصورة أو اللفظ في نموذج أدبي . . . ومعنى ذلك أن مادة النموذج الأدبي وصورته لا تفترقان فهما كل واحد .
   وهو كل يتألف من خصائص جمالية مختلفة ، قد يردها النظر السريع إلى الخارج أو الشكل ، ولكننا إن أنعمنا النظر وجدناها ترد إلى الداخل والمضمون ، فهي تنطوي فيه ، أو قل تنمو فيه . . . وإذن فكل ما نلقاه في كتب البلاغة من وصف اللفظ إن تأملنا فيه وجدناه في حقيقته يرد إلى المعنى ، حتى الجناس وجرس الألفاظ ، فضلاً عما توصف به الكلمات من ابتذال أو غرابة ، والمضمون بهذا المعنى يتحد مع الشكل ، فهو البناء الأدبي كله وهو الحقائق والأحاسيس النفسية الكامنة فيه » (1) .

--------------------
(1) شوقي ضيف ، في النقد الأدبي : 163 ـ 165 .

نظرية النقد العربي رؤية قرآنية معاصرة ـ 31 ـ
   وهذه اللقطات مما خطط له شوقي ضيف ، وعزاه إلى أصحاب الفلسفة الجمالية ، يفتح آفاقاً جديدة في مفهوم الصورة الأدبية ودلالتها ، إذ يتخطى بها الشكل إلى المضمون ، فيعتبرها وحدة متماسكة الأجزاء ، متناسقة الأعظاء . والطريف فيه أن يعود بالمحسنات البديعية وأجناس التصنيع على المعنى في خلق الصورة ، ويرتبط بين موسيقية اللفظ وجرس الكلمة وبين إرادة المعنى في بناء الهيكل الأدبي للنص .
   ومن هنا ـ ويتحدد انطلاقنا مع الصورة الأدبية في أبعادها ـ كان لزاماً علينا أن نبحث بناء القصيدة في شكلها الخارجي باعتباره الإطار التكويني لمادة القصيدة ، ومادة القصيدة باعتبارها المحتوى الذي ازدحمت ـ نتيجة له ـ الأشكال والرسوم الأولية لهيكل القصيدة العام الذي يتبلور به الجمال التخطيطي لها ، بغية أن تكون معالم الرؤية بينة السمات للصورة الأدبية من خلال هذا التلاحم العضوي والاتصال الفعلي بين الصيغة الظاهرية والقيم الكامنة في المعاني التي جسدت حقيقتها الألفاظ .
   وقد يبدو هذا بعيداً عن مجال الصورة الأدبية ، باعتبارها الشكل الناطق والمعبر ، ولكن نظرة فاحصة لبناء القصيدة ـ في هذا الشكل الناطق والمعبر ـ تغني عن الأطناب ، وتكفي دلالة في التأكيد أن هذا الشكل نطق وعبر بما احتوى من مادة ولم يكن هيكلاً فارغاً عقيم الاصداء ، وإنما استقام سوياً متكاملاً بهذه العلاقة واللحمة الطبيعية بينه وبين المضمون فعاد متجاوب الأجراس .
   وامر آخر يقرب من الموضوع ويتابع من خطوه ، هو أن الإيقاع الموسيقي والميزان العروضي ، ليسا من المعاني والألفاظ في شيء فهما خارجان عن هاتين الحقيقتين ، ولكنهما متداخلان معهما ، وملازمان لهما ، ولا ينعدمان في الدلالة على الصورة في القصيدة ، وإن كانا شيئاً والقصيدة في محتواها شيئاً آخر ، والحق أن إدراك هذه العلاقة بين اللفظ والمعنى ، واعتبارهما وحدة متجانسة في دلالتها على الصورة ، يمكن اعتباره امتداداً منطقياً لجزء مهم من رأى الفريق الرابع من فرقاء المعركة .

نظرية النقد العربي رؤية قرآنية معاصرة ـ 32 ـ
الفريق الرابع : العلاقة القائمة بين اللفظ والمعنى :
   وهذا الفريق يتمثل في عبد القاهر الجرجاني ( ت 471 هـ ) في كتابيه « دلائل الإعجاز » و « أسرار البلاغة » فقد هذب عبد القاهر من المفاهيم المرتجلة لدلالة الألفاظ والمعارف وأقامها على أصل لغوي وعلمي رصين ، وأدرك مسبقاً سر العلاقة القائمة بين اللفظ والمعنى ، ورفض القول بإيثار أحدهما على الآخر ، واعتبرهما بما لهما من مميزات وخصائص واسطة تكشف عن الصورة ، فقال بالنظم تارة ، وبالتأليف تارة أخرى ، مما لم يوفق إليه الفرقاء في النزاع ، والملاحظة عنده أن النظم عبارة عن العلاقة بين الالفاظ والمعاني ، وأنها تناسقت دلالتها وتلاقت معانيها على الوجه الذي اقتضاه العقل (1) .
   وقد يخيل للبعض أن عبد القاهر من أنصار المعنى دون اللفظ نظراً لتهجمه على القائلين بأولوية اللفظ ، وليست الألفاظ عنده « إلا خدم المعاني » (2) ، ولكن عبد القاهر يشن هذه الحملات ، ويصول ويجول في قلمه وما يضربه من أمثلة وشواهد ، وما يقرره من قواعد ، لا انتصاراً للمعنى ، وإنما هو تفنيد لآراء القوم وتدليل على مفهوم الصورة عنده بالنظم ، ولا نظم في الكلم وترتيب حتى يعلق بعضها ببعض ، ويبنى بعضها على بعض ، وتجعل هذه بسبب من تلك » (3) .

--------------------
(1) الجرجاني ، دلائل الإعجاز : 40 .
(2) المصدر نفسه ، وأسرار البلاغة : 5 .
(3) دلائل الإعجاز : 43 .

نظرية النقد العربي رؤية قرآنية معاصرة ـ 33 ـ
   ويعود عبد القاهر بالنظم إلى أصل قائم على أساس من علم النحو ، وطبيعي أن النحو يعني ببناء الكلمة وإعرابها ، ومعرفة هذه الصيغة ـ وإن كانت منصبة على اللفظ ـ فإنها ترتبط بمعنى اللفظ في وضعه بمكانه من المعنى المراد ، لأن المعاني لا يحل إبهامها ما لم يقصد إليها من خلال الألفاظ ، والألفاظ لا يفهم مؤداها مالم تضبط صياغة وتصريفاً ونحواً بناء وإعراباً على حد سواء ، وهما متعاونان معاً على كشف العلاقة التي عبر عنها بالنظم و « ليس النظم إلا أن تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه على النحو ، وتعمل على قوانينه وأصوله ، وتعرف منهاجه التي نهجت فلا تزيغ عنها ، وتحفظ الرسوم التي رسمت لك فلا تخل بشيء » (1) متخذاً بالإضافة إلى هذا التشبيه والمجاز والاستعارة مضماراً لشرح آرائه ، وميداناً لاستدراكاته على أصحاب اللفظ ، وأن النظر إلى هذه المقومات اللفظية بأقسامها وأنواعها لا يعود لألفاظها فحسب ، وإنما للمعاني وما تضفيه على الألفاظ مما يكون حسن النظام وجوده التأليف ، وهو العلاقة المترتبة على فهم القسيمين اللفظ والمعنى (2) .
   وحقاً إنك لتجد عبد لقاهر قوي الحجة ، عجيب المناظرة ، في جولته النقدية هذه ، فلا تكاد تنتهي من فصل سفرية حتى تقع في فصل مثله ، يزيدك سخرية بأولئك جرحاً وتقويماً ، وإرجاعاً بآرائهم إلى ما اعتادوه دون روية وتمييز من شغف بالبديع وتعلق بالصناعة ، حتى ليصعب فهم ما يقصدون من الكلام ، فالسامع يخبط في عشواء ، من كثرة التكلف وشدة التمحل ، وهو يقرر هذا المعنى بقوله : إن في كلام المتأخرين كلاماً حمل صاحبه فرط شغفه بأمور ترجع إلى ما له اسم في البديع ، إلى أن ينسى أنه يتكلم ليفهم ، ويقول ليبين ، ويخيل إليه أنه إذا جمع بين أقسام البديع في بيت فلا ضير أن يقع ما عناه في عمياء ، وأن يوقع السامع من طلبه خبط عشواء ، وربما طمس بكثرة ما يتكلفه على المعنى وأفسده كمن يثقل العروس بأصناف الحلي حتى ينالها من ذلك مكروه في نفسهم .

--------------------
(1) المصدر نفسه : 61 .
(2) الجرجاني ، أسرار البلاغة : 6 .

نظرية النقد العربي رؤية قرآنية معاصرة ـ 34 ـ
   والحملة على المحسنات البديعية لا تقلل من أهمية اللفظ ، ومنزلته في تقويم المعنى ، ولكن الإغراق بأصناف البديع يجعل اللفظ فارغاً إلا من جمال الهيئة الذي قد يعود وبالاً على اللفظ ، كما تعود أشتات الحلي ثقلاً على الحسناء يوردها التلف .
   ومن خلال ما تقدم تتضح أبعاد المعركة النقدية بين اللفظ والمعنى ، وقد تجلى فيها أن الجاحظ والعسكري معنيان بحسن الصياغة وجزالة الألفاظ وقد عللنا هذا الرأي بصدوره عن دوافع نفسية وسياسية وقومية ، انتهت بأناقة اللفظ وجرس الكلمة ، ولا حظنا بعد ذلك المقاييس النقدية عند ابن قتيبة بإرجاعها القيمة الفنية إلى القسيمين اللفظ والمعنى ، واتفقنا معه في أصل الحكم والموضوع وناقشنا عن صحة تطبيقه لهذا الحكم .
   ووقفنا عند رأي ابن رشيق في عدم الفصل بين اللفظ والمعنى وتكوينهما للوحدة الفنية في أي نموذج أدبي ، وصاحبنا سيرورة هذا الرأي عند القدامى والمحدثين الغربيين والعرب ، واستأنسنا بآراء ثلاثة من النقاد العرب : الشايب وطبانة وضيف ، ووقفنا مع الأخير وقفة المقوم لرأيه والقائل بتفصيله ورسمنا من خلال ذلك انطلاقنا في تحديد أبعاد القضية ، ثم عرضنا لرأي عبد القاهر ، واختتمنا الموضوع بلقطات من كلامه وشذرات من تحقيقاته ، ورأينا أن له الفضل في كشف العلاقة بين اللفظ والمعنى بما لهما من مميزات متنافرة ، وانتهينا عنده بالتعبير بالنظم وحسن التاليف عن الصورة الأدبية .

نظرية النقد العربي رؤية قرآنية معاصرة ـ 35 ـ

أنواع الدلالة :
   الالفاظ مقترنة بمعانيها ، قد نستوحي منها دلالات معينة لها قيمتها الجمالية تارة ، ومفهومها البنائي تارة أخرى ، ووقعها الموسيقي والصوتي ثالثاً ، تتعرف من خلال هذا المنظور على ما يوحيه كل لفظ من صورة ذهنية تختلف عن سواها شدة وضعفاً ، وتتباين وضوحاً وإبهاماً ، وتدرك به العلة بين استعمال هذا اللفظ دون ذاك إزاء المعنى المحدد له بدقة متناهية ، وهذا السر الدلالي في الألفاظ لا يكون واضحاً ـ في جزء منه ـ بحد ذاته مالم يستعن عليه بدلالة الجملة أو العبارة ، إذ لا يمكن أن يتم التعبير عادة عن الغرض الفني بكلمة مفردة ، ومع هذا الغرض ، فالكلمة الواحدة أو اللفظة المفردة كانت لها دلالتها في أبعاد مختلفة ، أحاول أن أجملها بما يلي :

1 ـ الدلالة الصوتية : وهي التي تستمد من طبيعة الأصوات نغمها وجرسها (1) فتوحي بوقع موسيقي خاص ، يستنبط من ضم الحروف بعضها إلى البعض الآخر .

2 ـ الدلالة الإجماعية : وهي الدلالة التي تستقل بها الكلمة عما سواها من فهم معين خاص بها (2) ، فهي دلالة لغوية في حدود العرف العام بما يكون متبادراً إلى الذهن منها عند الإطلاق ، على نحو ما تعارف عليه المجتمع في بيئته الكلامية ( التخاطبية أو التفاهمية ) والألسنية ، فهي نتاج فهم مشترك عند الأفراد ، وبذلك تتكون اللغة ، فهي إذن دلالة لغوية ، وقد يطلق عليها اسم الدلالة المركزية التي يسجلها اللغوي في معجمه .

--------------------
(1) إبراهيم أنيس : دلالة الألفاظ : 46 .
(2) المصدر نفسه : 48 .

نظرية النقد العربي رؤية قرآنية معاصرة ـ 36 ـ
3 ـ الدلالة الإيحائية : وهي الدلالة التي يوحي بها اللفظ بالأصداء والمؤثرات في النفس فيكون له وقع خاص يسيطر على النفس ، لا يوحيه لفظ يوازيه لغة ، فهو مجال الانفعالات النفسية والتأثر الداخلي للإنسان . وقد أدرك النقاد القدامى حقيقة اللفظ الإيحائي « وإن لم يحددوا للإفصاح عنه عبارة كالتي نستخدمها في عصرنا الحاضر » (1) .

4 ـ الدلالة الهامشية : وهي الدلالة التي تصاحب اللفظ عند إطلاقه فيكسب دلالة معينة يفيدها كل سامع بحسب تجاربه (2) .
   وهذه الدلالة تختلف رصداً بحسب اختلاف الثقافة عند المتلقي ، ويتفاوت فهمها نوعية عند كل مستفيد ، فهي تجري مجرى الفهم الخاص عند كل مفسر للنص الأدبي ، وقد توحي بهذا بما لا يدل عليه ظاهر اللفظ في بقية دلالاته ، وإنما يكشف مدلولها إخضاعاً لطبيعة المؤول في التخصص ، فهي ذات علاقة وثيقة بفهم من يستخرجها ، ولكنها لا تخلو من وجه من وجوه الصحة في التفسير ، نلمس كل هذه اللقطات في المباحث التالية .

1 ـ الدلالة الصوتية : لا شك أن استقلال أية كلمة بحروف معينة بكسبها ذائقة سمعية قد تختلف عن سواها من الكلمات التي تؤدي نفس المعنى بما يجعل كلمة دون كلمة ـ وإن اتحدا معنى ـ مؤثرة في النفس ، أما بتكثيف المعنى ، وإما بإقبال العاطفة ، وإما بزيادة التوقع .

--------------------
(1) أحمد أحمد بدوي ، أسس النقد الأدبي عند العرب : 424 .
(2) إبراهيم أنيس ، دلالة الألفاظ : 107 .

نظرية النقد العربي رؤية قرآنية معاصرة ـ 37 ـ
   فهي حيناً تصك السمع ، وحيناً تهيئ النفس وحيناً آخر تضفي صيغة التاثر : فزعاً من شيء أو توجهاً لشيء ، أو رغبة في شيء . . . هذا المناخ الحافل تضفيه الدلالة الصوتية ، ونماذجها في المقل القرآني تتجلى مختارة منه ، وحروف صاحبت بعض الكلمات ، فعاد لهما الوقع الخاص من النفس ، بما لا تعطيه كلمة أخرى ، مقاربة للمعنى ، أو لا تفرغه صيغة مماثلة من التركيب .
   وهذا باب متسع بحدود في دلالة ألفاظ المثل الصوتية ، وأثرها في السمع وجلجلتها في الحس ، هدوءاً وإثارة ، وقد يستوعب جملة من ألفاظه في الجرس والنغمة والصدى والإيقاع ، بيد أنني سأحاول عرض أظهرها دلالة من خلال بعض الأمثلة :
أولاً : الكلمة « متشاكسون » في قوله تعالى : ( ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَّجُلًا فِيهِ شُرَكَاء مُتَشَاكِسُونَ . . . ) (1) .
   تعتبر لغة عن المخاصمة والعناد والجدل في أخذ ورد لا يستقران ، وقد تعطي بعض معناها الكلمة « متخاصمون » ولكن المثل لم يستعملها حفاظاً على الدلالة الصوتية التي جمعت في الكلمة حروف الأسنان والشفة في التاء والشين والسين تعاقبان ، تتخللها الكاف ، فأعطت هذه الحروف مجتمعة نغماً موسيقياً خاصاً حملها أكثر من معنى الخصوصية والجدل والنقاش بما أكسبها من أزيز في الأذن يبلغ السامع إلى أن الخصام قد بلغ درجة الفورة والعنف من جهة ، كما أحاطه بجرس مهموس خاص يؤثر في الحس والوجدان من جهة أخرى .

ثانياً : الكلمة « أوهن » من قوله تعالى : ( وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ . . . ) (2) .

--------------------
(1) الزمر : 29 .
(2) العنكبوت : 41 .

نظرية النقد العربي رؤية قرآنية معاصرة ـ 38 ـ
   تعطي معنى الضعف ، وقد تحقق هذا المعنى كلمة « أوهى » ولكن المثل استعملها دون سواها لما يعطيه ضم حروف الحلق وأقصى الحلق على النون من التصاق وانطباق وغنة لا تتأتى بضم الألف المقصورة إليها ، حينئذ تصل الكلمة إلى السمع وهي تحمل لوناً باهتاً مؤكداً بضم هذه النون إلى تلك الحروف لتحدث وقعاً يشعر بالضعف المتناهي لا مجرد الضعف وحده .

ثالثاً : الكلمة ( كل ) من قوله تعالى : ( وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ . . . ) (1) .
   فإنها توحي عادة بمعنى العالة ، ولكن المثل استعملها دون سواها لإضاءة المعنى بما فيها من غلظة وشدة وثقل ، لهذا الصدى الخاص المتولد بأطباق اللسان على اللهاة في ضم الكاف إلى الكلام المشددة . وما ينجم عن ذلك من رنة في النفس ، ووقع على السمع ، من وراء ذلك بأن هذا العبد شؤم لا خير معه وبهيمة لا أمل بإصلاحه ، فهو عالة عادة بل هو « كل » وكفى .

رابعاً : الكلمة « صر » في قوله تعالى : ( كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ . . . ) (2) .
   إنها كلمة لا يسد غيرها مسدها في المعجم بهذه الدلالة الصوتية الخاصة لما تحمله من وقع تصطك به الأسنان ، ويشتد معه اللسان ، فالصاد الصارخة مع الراء المضعفة قد ولدتا جرسا يضفي صيغة الفزع ، وصورة الرهبة ، فلا الدفء يستنزل ، ولا الوقاية تتجمع ، بما يزلزل وقعه كيان الإنسان .

--------------------
(1) النحل : 76 .
(2) آل عمران : 117 .

نظرية النقد العربي رؤية قرآنية معاصرة ـ 39 ـ
خامساً : « تمسه » في قوله تعالى : ( وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ . . . ) (1) .
   لها أزيزها الحالم ، وصوتها المهموس ، ونغمها الرقيق ، نتيجة لالتقاء حرفي السين متجاورين بما لا نحققه كلمة أخرى تؤدي نفس المعنى ، ولكنها لا تؤدي هذه الدلالة الصوتية التي وفرتها هذه الكلمة برقة وبساطة .
   وكما دلت الالفاظ دلالة صوتية معينة في الاستعمال المثلي في القرآن فكذلك لمسنا لبعض الحروف دلالة صوتية معينة يتعاقبها في سلك بعض الألفاظ حتى عادت ذات وقع خاص على السمع ، وطبيعة مواتية في الحس من خلال ترادفها وتناظرها واحتشادها ، وسنختار منها « الفاء » العاطفة ، نظراً لاختيار المثل لها دون سواها في دلالته الصوتية كما يلي :

أولاً : الفاء في كل من « اختلط » و « أصبح » في قوله تعالى : ( فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا . . . ) (2) .
   فيها ترتيب وتعقيب يصك السمع في دلالة وقع الأمر دون حائل وبلا فاصل تعبيراً عن الخسران النهائي ، والحرمان المتواصل دفعة واحدة ، وهنا تلتقي الدلالة الصوتية بالدلالة الاجتماعية بما يستفاد من معنى لغوي .

ثانياً : ويتمثل هذا التوالي عطفاً بالفاء دالاً على سرعة الإيقاع ، وعدم الإمهال ، بما يوحيه للسمع وللذهن كلاً غير منفصل بقوله تعالى : ( فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ . . . ) (3) .
   فلا حائل ولا زمن بين الإصابة والاحتراق ، إذ تختفي الحدود الزمنية فما هي إلا لحظات حتى تعود الجنة رميماً بمفاجأة الإصابة وشدة الاحتراق ونفاذ الأمر .

--------------------
(1) النور : 35 .
(2) الكهف : 45 .
(3) البقرة : 266 .

نظرية النقد العربي رؤية قرآنية معاصرة ـ 40 ـ
ثالثاً : وما يقال آنفاً يجري تطبيقه على كل من قوله تعالى : ( فاصابه وابل فتركـه صلدا . . . ) (1) ، وقوله تعالى : ( فان لم يصبها وابل فطل ... (265) ) (2) .
   فوجود الفاء مكرورة على هذا النمط سواء أكان الحرف عاطفاً أم رابطاً فإن له دخلاً كبيراً في الوقع الموسيقي على الأذن .

رابعاً : ويبلغ هذا الترتيب في التعاقب دورته بقوله تعالى : ( فأزره فاستغلظ فاستوى على سوقه ) (3) .
   فالتوالي هنا زيادة على جرسه السمعي ليوحي إلى النفس نقطة الانتهاء من حقيقة الأمر حتى عاد واقعاً دون شك مقترناً بالدلالة الإيحائية في كشف تماسك هذه الجماعة وترابطها ، وكذا الزرع في شدة أسره ، وقوة تشابكه .

2 ـ الدلالة الاجتماعية : تتوافر دلالة الألفاظ الاجتماعية في استعمالها اللغوي في عدة مجالات من المثل القرآني ، ومرجع هذه الدلالة هو التبادر العام في العرف العربي بما يعطي للكلمة من دلالة خاصة بها ، ومراعات هذا العرف ذو أثر مهم في الدلالة المعينة للكلمة ولهذا اعتبر الخطابي ( ت 383 ـ 388 هـ ) إن الكلام إنما يقوم بأشياء ثلاثة « لفظ حاصل ، ومعنى به قائم ، ورباط لهما ناظم . وإذا تأملت القرآن وجدت هذه الأمور منه في غاية الشرف والفضيلة ، حتى لا ترى شيئاً من الألفاظ أفصح ولا أجزل ولا أعذب من ألفاظه » (4) .

--------------------
(1) البقرة : 264 .
(2) البقرة : 265 .
(3) الفتح : 29 .
(4) الخطابي ، بيان إعجاز القرآن ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن : 24 .

نظرية النقد العربي رؤية قرآنية معاصرة ـ 41 ـ
   وقد جرى المثل القرآني وهو جزء من القرآن على هذا المجرى فأعطاه أهميته في تخير ألفاظه للدلالة على المعنى المراد ، وسنختار بعض المفردات منه منفردة بنفسها ، أو مضمومة لغيرها ، من أجل تحقيق الفكرة بأصولها .

أولاً : الكلمة « صفوان » من قوله تعالى : ( كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ . . . ) (1) .
   وتعطي صورة الحجر المتكلس الذي يجتمع من ذرات غير قابلة للانفصال يتماسك ويتوافر بعد أن يخالطه التراب المهيل من هنا وهناك ، فبعبارة تقاطر المطر وتدافع السيول ، بدلاً من أن يهش ويلين ويتفتت وإذا به يعود كتلة حجرية واحدة ، صلباً لا ينفذ ، ومتحجراً لا ينفذ ، فإذا طالعتنا اللغة بأنه : « الحجر الأملس » (2) اتضح مدلول الكلمة في عمقها عدم ثبات شيء عليها .

ثانياً : والكلمة « وابل » من الآية نفسها ( فَأَصَابَهُ وَابِلٌ . . . ) (3) .
   تدل لغوياً ، على الغيث المنهمر ، والمطر المتدافع ، وتلمح مجازاً إلى الجود المتناهي في العطاء فهل يا ترى أن سيؤدي معناها بضم هذه الصفات جميعاً لغظ سواها ، قد يؤدي معناها بعدة كلمات وإذا تم هذا فهو يعني الخروج عن الإيجاز المتوافر في وابل إلى الأطناب الذي لا مسوغ له في عدة ألفاظ أخر .

--------------------
(1) البقرة : 264 .
(2) الطريحي ، مجمع البحرين 1 | 264 .
(3) البقرة : 264 .

نظرية النقد العربي رؤية قرآنية معاصرة ـ 42 ـ
ثالثاً : والكلمة « لا يقدرون » .
   بضمها إلى « ما كسبوا » في قوله تعالى : ( لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ ) (1) ، فيها من الدلالة على ما يلي : تصوير لحالة الحرمان ، وإيذان بحلول الفقر ، فلا المال المجموع بنافع ، ولا الآمال الموهومة بمتحققة ، يأس وادقاع مادي من تلك الأموال ، وفقر معنوي من تلك الآمال سواء في الجزاء أو في الثواب الذين توهموا حصولهما ، وعي متواصل يصلب القدرة والكسب معاً ، وهذا إنما يتأتى فهمه بحسب العرف العام في تبادره لفهم معاني الألفاظ عند إطلاقها .

رابعاً : والكلمة « مشكاة » في قوله تعالى : ( مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ . . . ) (2) .
   ذات دلالة اجتماعية خاصة ، وإن تداولتها عدة لغات ، واتفقت استعمالاً بين لسانين عند جيلين من البشر ، لأن المشكاة عند العرب : « الكوة التي لا منفذ لها ، وقيل هي في لسان الحبشة : الكوة » .
   قيل : كيف جاز أن تخاطب العرب بذلك مع قوله تبارك وتعالى : ( عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ ) فالجواب : أنه جائز اتفاق الاسم الواحد في لغتين لا ينكر مثل ذلك فيما يقع من الوفاق بين أهل اللسانين ، ويجوز أن تكون المشكاة من جملة ما أعربته العرب من اللغات فغيرته ونطقت به فصار كلغتها (3) .
   والحق أن العربية قد أعطت هذه الكلمة غرضاً لغوياً خاصاً بها (4) ، لذا وجدنا أن الكوة لا تعطي دقائق معنى المشكاة بما فيها من بهاء وجمال ، وتبادر ذهني عام إلى المدلول منها في كل الوجوه المحتملة .

--------------------
(1) البقرة : 264 .
(2) النور : 35 .
(3) ابن ناقيا ، الجمان في تشبيهات القرآن ، 166 .
(4) ظ : تفصيل القول معاني المشكاة ، الطبري جامع البيان : 18 | 137 ـ 140 ، ط الحلبي .

نظرية النقد العربي رؤية قرآنية معاصرة ـ 43 ـ
خامساً : والكلمة « الضمآن » في قوله تعالى : ( يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء . . . ) (1) ذات دلالة لغوية خاصة بها ، لا تمثلها كلمة الرائي مثلاً ، ولو استعملها المثل لأصاب المعنى في جزء منه ، ولكنها لا تقع موقع الظمان ، فلو قال ، يحسب الرائي ماء لم يقع موقع قوله « الظمآن » لأن الظمان أشد فاقة إليه ، وأعظم حرصاً عليه (2) .

سادساً : والكلمة « لجي » في قوله تعالى : ( أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ . . . ) (3) تشعرك مركزياً يتدافع الأمواج ، وتتابع الأمداد فأنت أمام فيض من السيول ، وكثافة من الأزباد ، ومهما أجال اللغوي فكره في معجمه فإنه لن يصل إلى كلمة تسد مسدها في الدلالة على صورة المعاني النابعة منها .
   وفي هذا الضوء فإنني أميل إلى ما ذهب إليه زميلنا الدكتور العزاوي بقوله « إن في استقرار اللغة ، وثبات صيغتها ، قيمة عظمى ، ونفعاً محموداً ، وذلك في أكثر من وجه ، فبعض الصيغ الموروثة ، والتراكيب المتداولة ، تؤدي المراد منها بدقة لأنها اكتسبت دلالة خاصة تعارف عليها الناس وأصبح من العسير أن تقوم مقامها أو تؤدي مؤداها عبارات أخرى قد يبتدعها أهل اللغة ، ويحلونها محل تلك العبارات (4) ، والدليل على صحة هذه الدعوى ما لمسناه من استعمال المثل القرآني للألفاظ المتقدمة : صفوان ، وابل ، مشكاة ، الظمان ، لجي .

--------------------
(1) النور : 39 .
(2) العسكري ، الصناعتين : 246 .
(3) النور : 40 .
(4) نعمة رحيم العزاوي ، النقد اللغوي عند العرب : 321 .

نظرية النقد العربي رؤية قرآنية معاصرة ـ 44 ـ
سابعاً : وفي « لم يكد يراها » من قوله تعالى : ( إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا ) (1) دلالة لغوية على إرادة عدم الرؤية الحقيقية ونفيها إطلاقاً ، بما أثبته النقاد اللغويون ، تخطئة لابن شبرمة وتصحيحاً لقول ذي الرمة ، حين بلغ هذا البيت (2) :

إذا غـير الـنأي المحبين لم iiيكد      رسيس الهوى من حب مية يبرح
   فقال له ابن شبرمة ، يا ذا الرمة أراه قد برح ، ففكر ساعة ثم قال :
إذا  غـير الناي المحبين لم أجد      رسيس الهوى من حب مية برح
   قال الراوي : فرجعت إلى أبي الحكم بن البحتري فأخبرته الخبر ، فقال : أخطأ ابن شبرمة حيث أنكر عليه ، وأخطأ ذو الرمة حيث رجع إلى قوله ، إنما هذا كقول الله عز وجل : ( أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ * ) (3) ، أي لم يرها ولم يكد (4) .

--------------------
(1) النور : 40 .
(2) ذو الرمة ، ديوان شعر ذي الرمة : 90 .
(3) النور : 40 .
(4) المرزباني ، الموشح في مآخذ العلماء على الشعراء : 283 .

نظرية النقد العربي رؤية قرآنية معاصرة ـ 45 ـ
   وأيد ذلك السيد المرتضى ( ت 436 هـ ) وازاد من تفصيل الدلالة الاجتماعية فيه ، وعرض لجملة من الآراء في التأكيد على نوعية الظلمات وتدافعها بما استخرجه من « لم يكد يراها » قال المرتضى : « أي لم يرها أصلاً ، لأنه عز وجل قال : ( أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ * ) (1) كان بعض هذه الظلمات يحول بين العين وبين النظر إلى اليد وسائر المناظر فـ ( يكد ) على هذا التأويل زيدت للتوكيد ، والمعنى إذا أخرج يده لم يرها » .
   وقال قوم : معنى الآية : إذا أخرج يده رآها بعد إبطاء وعسر لتكاثف الظلمة ، وترادف الموانع من الرؤية ، وقال آخرون : معنى الآية إذا أخرج يده لم يرد أن يراها ، لأن الذي شاهد من تكاثف الظلمات بأسه من تأمل يده ، وقرر في نفسه أنه لا يدركها ببصره (2) .
   وأياً كان التفسير فدلالة الكلمة المركزية ظاهرة لدى التحقيق ، إلا أن هناك شبهة في هذا الفهم المتقابل للكلمة مصدره العرف العام ، وقد أوضح سبب هذه الشبهة ابن الزملكاني ( ت 651 هـ ) بقوله : « وما سبب هذا الشبهة إلا أنه قد جرى في العرف أن يقال : « ما كاد يفعل » و « لم يكد يفعل » في فعل قد فعل على معنى أنه لم يفعل إلا بعد جهد . فمن هنا وهم ابن شبرمة في زعمه أن الهوى قد برح ، وظن ذو الرمة مثل ذلك ، وإنما هو في الحقيقة على نفي المقاربة فإن « كاد » موضوعة للدلالة على قرب الوجود بمحال أن يكون نفيها موجباً وجود الفعل » (3) .

--------------------
(1) النور : 40 .
(2) المرتضى ، أمالي المرتضى : 1 | 331 .
(3) ابن الزملكاني : البرهان الكاشف عن إعجاز القرآن : 154 .

نظرية النقد العربي رؤية قرآنية معاصرة ـ 46 ـ
ثامناً : وفي كل كلمتي « ذهب » و « بنورهم » من قوله تعالى : ( مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ ) (1) ، دلالة مركزية في انسحاب أثر نفي العام على نفي الخاص ، ولم يستعمل المثل : « الضوء » بدل « النور » ولا « اذهب » « ذهب » إلا مراعاة لذلك بما أشار إليه الزركشي ( ت 794 هـ ) بقوله : ولم يقل : « بضوئهم » بعد قوله ( اضاءت ) لأن النور أهم من الضوء ، إذ يقال على القليل والكثير ، وإنما يقال الضوء على الكثير ، ولذلك قال تعالى : ( هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُورًا ) (2) .
   ففي الضوء دلالة على الزيادة ، فهو أخص من النور ، وعدمه لا يوجب عدم الضوء ، لاستلزم عدم العام عدم الخاص ، فهو أبلغ من الأول ، والغرض إزالة النور عنهم أصلاً ، ألا ترى ذكره بعده ( تركهم في ظلمات ) وهنا دقيقة ، وهي أنه قال : ( ذهب الله بنورهم ) ولم يقل « أذهب نورهم » لأن الإذهاب بالشيء إشعار له يمنع عودته ، بخلاف الذهاب ، إذ يفهم من الكثير استصحابه في الذهاب ، ومقتضى من الرجوع » (3) .

تاسعاً : والكلمة « عبدا » بتقييدها « مملوكاً » في ( ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً عَبْدًا مَّمْلُوكًا . . . ) (4) قد يتبادر لأول وهلة في الذهن أن العبد دون تقييد فيه دلالة على عدم الحرية فلماذا هذا التقييد إذن ، ولكن الفهم الدقيق يقتضي التقييد ، لأن الحر والعبد سواء أمام الله تعالى ، فهما عبدان له ، اتصفا بالحرية أو العبودية ، فاراد الاحتراز من هذه الناحية بأنه عبد مملوك وليس بحر مقيد .

--------------------
(1) البقرة : 17 .
(2) يونس : 5 .
(3) الزركشي ، البرهان في علوم القرآن : 3 | 402 .
(4) النحل : 75 .

نظرية النقد العربي رؤية قرآنية معاصرة ـ 47 ـ
عاشراً : واستعمال كلمة « امرأة » بدل « زوج » بالنسبة لامرأة نوح ولوط ، وهما زوجتان لهما ، وبالنسبة لامرأة فرعون ، وهي زوجته دون ريب في كل من ( اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ . . . ) (1) وقوله ( اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ ) (2) هذا الاستعمال الدقيق ذو دلالة اجتماعية رائعة ، توضحها الدكتورة عائشة عبد الرحمن بقولها : ونتدبر استعمال القرآن للكلمتين ، فيهدينا إلى سر الدلالة ، كلمة زوج تأتي حيث تكون الزوجية هي مناط الموقف : حكمة وآية ، أو تشريعاً وحكماً ( وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ) (3) فإذا تعطلت آيتها من السكن والمودة والرحمة ، بخيانة أو تباين في العقيدة فامرأة لا زوج (4) .
   وهذا بين بامرأتي نوح ولوط ، ففي الخيانة الدينية التي أحدثاها انفصلت عرى الزوجية ، وعاد كل زوج منهما امرأة فحسب ، وفي امرأة فرعون تعطلت آية الزوجية بكفره وإيمانها ، فعادا حقيقتين مختلفتين ، لا تربطهما رابطة من سكن ، ولا صلة من مودة ، فعادت زوجته امرأة .
   وزيادة على ما سبق بيانه ، فإن الدلالة الاجتماعية تكشف بعمق ما يحيط بمؤدى اللفظ من إبهام وغموض ليعود جلياً مشرقاً ، ففي قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ . . . ) (5) تبدو كلمة « مثل » موهمة بأن لا مثل في العبارات التالية للمادة ، حتى قال الأخفش : إن قيل أين المثل ؟ فالجواب أنه ليس ها هنا مثل ، وإنما المعنى : يا أيها الناس ضرب لي مثل : أي شبهت بي الأوثان فاستمعوا لهذا المثل (6) .

--------------------
(1) الستحريم : 10 .
(2) التحريم : 11 .
(3) الروم : 21 .
(4) بنت الشاطي ، الإعجاز البياني للقرآن ومسائل ابن الأزرق : 312 ـ 213 .
(5) الحج : 73 .
(6) ابن الجوزي ، زاد المسير : 5 | 451 .

نظرية النقد العربي رؤية قرآنية معاصرة ـ 48 ـ
   ولكن الدلالة الاجتماعية تؤكد وجود المثل بمدلوله اللغوي أو بنقله الاستعاري بما عبر عنه الزمخشري بقوله : « فإن قلت الذي جاء به ليس بمثل ، فكيف سماه مثلاً ؟ قلت : قد سميت الصفة أو القصة الرائعة الملتقاة بالاستحسان والاستغراب : مثلاً » (1) .
   فارجع الفصل بالموضوع إلى اللغة لتنفي الشبهة والإشكال ، ويبدو مما سلف أن الدلالة الاجتماعية في حدود ما عرضنا له من ألفاظ المثل القرآني قد روعي فيها الفهم المتبادر عنه الهيئة الاجتماعية في تحديد معنى اللفظ ، وضبط مدلوله ، فهي وسيلة مهمة لكشف الغموض والإبهام عن الألفاظ ، وإليها يرجع في معرفة النص من خلال المعجم اللغوي .

3 ـ الدلالة الإيحائية :
   وتبرز ملامح الدلالة الإيحائية في استيعاب المثل القرآني لصيغ ألفاظ معينة ، وكلمات مؤثرة ، توحي بأكثر من مدلولها الظاهري ، وتنطوي على جملة من المعاني الأخرى ، فهي المقياس الفني لتقدير قيمة اللفظ بقدر ما ينتجه ذلك اللفظ من إيحائية خاصة به ، فقيمة اللفظ تتأثر بهذه الإيحائية ونوعيتها قوة وضعفاً ، فكلما كانت إيحائية الكلمة عالية ، كانت قيمة تلك الكلمة فنياً عالية أيضاً والعكس بالعكس .
   وإذا كان المثل القرآني قد امتاز بتخير الألفاظ وانتقائها فإنه يرصد بذلك ما لهذه الألفاظ دون تلك « من قوة تعبيرية ، بحيث يؤدي بها فضلاً عن معانيها العقلية ، كل ما تحمل في أحشائها من صور مدخرة ، ومشاعر كامنة ، لفت نفسها لفاً حول ذلك المعنى العقلي » (2) .

--------------------
(1) الزمخشري : الكشاف : 3|171 .
(2) هـ . ب . تشارلتن ، فنون الأدب : 76 .

نظرية النقد العربي رؤية قرآنية معاصرة ـ 49 ـ
   وفي هذا الضوء نرصد إيحائية ألفاظ المثل القرآني في جزء منها :
أولاً : الكلمة « تثبيتاً » في قوله تعالى : ( وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ . . . ) (1) فيها من الدلالة الإيحائية ، الانتقال بمشاعر الإنسان في الغبطة والسرور إلى عالم روحي محض يحمل بين برديه جميع مقومات الرضا من اللنفس المطمئنة ، التي لا تأمل إلا التثبيت والاستقامة .

ثانياً : والكلمة « ربوة » في قوله تعالى : ( كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ . . . ) (2) ، تحمل صورة فريدة في تخيل الجنان تتساقط عليها الأمطار فتمسح سطحها ، وهي سامقة شامخة فتزيل القذى عن أشجارها ، وتثبت جذورها ، وتمنحها القوة والحياة والاستمرار ، وهي على نشز من الأرض تباكرها هذه الهبات ، وما يوحي ذلك من مناخ نفسي يسكن إليه الضمير .

ثالثاً : والكلمة « بصير » في قوله تعالى : ( وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * ) (3) توحي هنا بدقة الملاحظة وشدة الرقابة والإحاطة الشاملة بجزئيات الأمور كلياتها ، وحيثيات الإنسان وتصرفاته ، فعمله منظور لا يغفل عنه ، ووجوده في رصد لا يترك ، وأعماله في سبر وإحصاء . وهذا الإيحاء نفسه يوحي بإيحاء آخر هو : إن الله بصير لا بالعين الناظرة ، لأن العين لها ما شاهدت والله يرصد ما يشاهد ما يخفى وما تجن الصدور ، إن هذه الإيحائية تحتمها دلالة اللفظ .

--------------------
(1) (2) (3) البقرة : 265 .

نظرية النقد العربي رؤية قرآنية معاصرة ـ 50 ـ
رابعاً : واختيار كلمة « تراب » بدلاً من « طين » في قوله تعالى : ( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ . . . * ) (1) ذو طبيعة إيحائية تضفي على اللفظ أكثر من المعنى الظاهر الذي يتبادر له الذهن ، فقد أريد بها هنا أن الإنسان خلق من أدنى القسيمين الطين والتراب ، فاختار التراب ليومي إلى هذه الدلالة ، وقد اعتبرها الزركشي ( ت 794 هـ ) من مشاكلة اللفظ للمعنى ، ومتى كان اللفظ جزلاً كان المعنى كذلك ، وتابع في تعليله ابن أبي الاصبع فيما تقدم (2) .
   قال الزركشي « إنما عدل عن الطين الذي هو مجموع الماء والتراب إلى ذكر مجرد التراب لمعنى لطيف ، وذلك أنه أدنى العنصرين وأكثفهما ، لما كان المقصود مقابلة من ادعى في المسيح الإلهية بما يصغر خلقه عند من ادعى ذلك ، فلهذا كان الاتيان بلفظ التراب أمس في المعنى من غيره من العناصر » (3) .

خامساً : والكلمة « فجرنا » في قوله تعالى : ( وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا ) (4) توحي زيادة على الوقع الهائل في تصور التفجير وما يصاحبه من صخب وتموج ـ بعدم المعاناة في السقي ، والإجهاد في الإرواء ، فالمياه متسلطة ، والأنهار جارية ، دون مشقة أو عناء ، فلا كراء مرير ، ولا توجيه لمجاري المياه ولا انتظار لهطول الأمطار ، فالتفجير حاصل متيقن ، وحاصله المياه الغزيرة .

سادساً : وفي تكرار الكلمة نفسها ، واللفظ في صيغ معينة له دلالته على المعاني الموحية ففي الآيات ( 13 ، 14 ، 16 ، 20 ) من سورة ياسين ، تكرار لكلمة « المرسلين » ففي الآية الأولى أخبار عن مجيئهم ، وفي الثانية تأكيد لإرسالهم بـ« انا » وفي الثالثة تأكيد مضاعف « بانا » واللام ، وفي الرابعة تحلية بالألف واللام الهدية .

--------------------
(1) آل عمران : 59 .
(2) ظ : فيما تقدم : القيمة اللفظية من هذا الفصل .
(3) الزركشي ، البرهان : 3 | 378 .
(4) الكهف : 33 .