وفي قوله تعالى ( فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ ) (1) يقول الشريف الرضي ( المراد ـ والله أعلم ـ بتفتيح أبواب السماء تسهيل سبل الأمطار حتى لا يحبسها حابس ، ولا يلفتها لافت ، مفهوم ذلك إزالة العوائق عن مجاري العيون من السماء ، حتى تصير بمنزلة حبيس فتح عنه باب ، أو معقول أطلق عنه عقال ، وقوله ( فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ ) أي : اختلط ماء الأمطار المنهمرة ، بماء العيون المتفجرة ، فالتقى ماءاهما على ماقدره الله سبحانه ، من غير زيادة ولا نقصان ، وهذا من أفصح الكلام ، وأوقع العبارات عن هذه الحال ) (2) .
  5 ـ وأظهر مما تقدم في مجاز القرآن عند الشريف الرضي نسبة الخشوع والتصدع الى الجبل في قوله تعالى : ( لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) (3) قال الشريف الرضي : ( وهذا القول على سبيل المجاز ، والمعنى أن الجبل لو كان مما يعي القرآن ويعرف البيان لخشع في سماعه ، ولتصدع من عظم شأنه ، وعلى غلظ أجرامه ، وخشونة أكنافه ، فالإنسان أحق بذلك منه ، إذ كان واعيا لقوارعه ، وعالما بصوادعه ) (4) .
  وهذا الملحظ الدقيق في مجازية الآية عند الشريف الرضي مصدره : أن لازم الخشوع والتصدع والخشية ، والإدراك والمعرفة والسماع ، والجبل لا يسمع ولا يعي ، فتأمل أيها الإنسان وتفكّر بما ضربه الله لك من الأمثال .
  6 ـ قلنا فيما سبق أن أغلب ما أورده الرضي في تلخيص البيان عبارة عما يقابل الحقيقة في الأستعمال ، والاستعارة عندهم كالمجاز باعتبارها استعمالا مجازيا وخلاف الأصل اللغوي ، لهذا كان ( تلخيص البيان ) حافلا

--------------------
(1) القمر : 11 ـ 12 .
(2) الشريف الرضي ، تلخيص البيان : 318 .
(3) الحشر : 21 .
(4) الشريف الرضي ، تلخيص البيان : 330 .

مجاز القرآن وخصائصه الفنية وبلاغته العربية ـ 32 ـ
  في صنوف الاستعارات القرآنية ولعل من أبلغ ما أورده تعقيبا وشرحا وبيانا ، تلك الاستعارات التي كشف فيها عن ذائقته الفطرية في استحياء المراد القرآني وسأكتفي بإيراد بعض النماذج في ذلك :
  أ ـ في قوله تعالى ( وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ ) (1) قال الرضي : ( وهذه استعارة ، والمراد بها : أنهم تفرقوا في الأهواء واختلفوا في الآراء ، وتقسمتهم المذاهب ، وتشعبت بهم الولائج (2) ومع ذلك فجميعهم راجع الى الله سبحانه ، على أحد وجهين : إما أن يكون رجوعا في الدنيا ، فيكون المعنى : انهم وإن اختلفوا في الاعتقادات صائرون الى الإقرار بأن الله سبحانه خالقهم ورازقهم ، ومصرفهم ومدبرهم .
  أو يكون ذلك رجوعا في الآخرة ، فيكون المعنى أنهم راجعون الى الدار التي جعلها الله تعالى مكان الجزاء على الأعمال ، وموفّى الثواب والعقاب ، والى حيث لا يحكم فيهم ، ولا يملك أمرهم إلا الله سبحانه .
  وشبّه تخالفهم في المذاهب ، وتفرقهم في الطرائق ، مع أن أصلهم واحد ، وخالقهم واحد ، بقوم كانت بينهم ، وسائل متناسجة ، وعلائق متشابكة ، ثم تباعدوا تباعدا قطع تلك العلائق ، وشذب تلك الوصائل ، فصاروا أخيافا (3) مختلفين ، وأوزاعا مفترقين ) (4) .
  ب ـ وفي قوله تعالى ( وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ ) (5) يحمل الرضي الآية على التصوير الاستعاري ، ويعطيك معنى عبادة المرء ربه على حرف ، تشبيها بالقائم على جرف هار ، وحرف هاو ، يقول : ( والمراد بها ـ والله أعلم ـ صفة الإنسان المضطرب الدين ، الضعيف اليقين ، الذي لم تثبت في الحق قدمه ، ولا استمرت عليه مريرته ، فأوهى شبهة تعرض له ينقاد معها ،

--------------------
(1) الأنبياء : 93 .
(2) الولائج : جمع وليجة ، وهي بطانة الإنسان .
(3) يقال : هم أخوة أخياف ، بمعنى : أمهم واحدة وآباءهم متعددون .
(4) الشريف الرضي ، تلخيص البيان : 232 ـ 233 .
(5) الحج : 11 .

مجاز القرآن وخصائصه الفنية وبلاغته العربية ـ 33 ـ
  ويفارق دينه لها ، تشبيها بالقائم على حرف مهواة ، فأدنى عارض يزلقه ، وأضعف دافع يطرحه ) (1) .
  ج ـ وفي قوله تعالى ( والذين تبوّءو الدار والإيمان من قبلهم ) (2) ، تبرز استقلالية الشريف الرضي في الرأي ، وشخصيته في النّقد ، واعتداده بصميم بلاغة العرب فيقول : ( وهذه استعارة لأن تبوؤ الدار هو استيطانها والتمكن فيها ، ولا يصح حمل ذلك على حقيقته في الإيمان ، فلا بد إذن من حمله على المجاز والاتساع ، فيكون المعنى أنهم استقروا في الإيمان كاستقرارهم في الأوطان .
  وهذا من صميم البلاغة ، ولباب الفصاحة ، وقد زاد اللفظ المستعار ههنا معنى الكلام رونقا ، إلا ترى كم بين قولنا : استقروا في الإيمان ، وبين قولنا : تبوؤا ، وأنا أقول أبدا : إن الألفاظ خدم للمعاني ، لأنها تعمل في تحسين معارضها ، وتنميق مطالعها ) (3) .
  وحديثنا عن ( تلخيص البيان ) قد يطول لو استرسلنا فيه ، وفيما قدمناه من نماذج غناء في إقرار منهج هذه الدراسة القائمة على سبيل الإشارة والتلميح العابر لجهود المؤصلين .
  والأمر المنظور لدى الشريف الرضي في تلخيص البيان يتجلى في عدة حقائق نشير إليها :
  1 ـ استقلاليتة في المنهج والفكر ، وأولويته في أولية هذا المنهج البلاغي كتابا مستقلا ، وكيانا قائما في مجاز القرآن .
  2 ـ تورعه في ذات الله عن الجزم في المعنى القرآني ، إذ طالما نجده يبدأ تعقيبه على الآية بعبارة : والله أعلم .
  3 ـ هذه العبارة المشرقة ، وهذا الأسلوب الحديث ، وذلك التدافع في الألفاظ ، وكأنك تقرأ فيه بلاغي اليوم لا بلاغي القرن الرابع الهجري .

--------------------
(1) الشريف الرضي ، تلخيص البيان : 237 .
(2) الحشر : 9 .
(3) الشريف الرضي ، تلخيص البيان : 330 .

مجاز القرآن وخصائصه الفنية وبلاغته العربية ـ 34 ـ
  لهذا فقد كان سليما ما قرره الدكتور محمد عبد الغني حسين في مقارنته بينه وبين سابقيه : أبي عبيدة وابن قتيبة ، في التعبير البلاغي ، والأداء الأدبي ، والذائقة الفنية ، فقال : ( وخذ أي آية شئت من كتاب الله العزيز ، وتتبعها عند أبي عبيدة في مجازه ، وعند ابن قتيبة في مشكله ، وعند الشريف الرضي في تلخيص بيانه ، فإنك مؤمن معنا في النهاية بأن سليل البيت النبوي الكريم ، كان أغزر الثلاثة بيانا ، وأفصحهم لسانا ، وأبلغهم في التعبير عن مرامي القرآن بعبارة أدبية مشرقة ناصعة ، يتضح فيها ذوق الأديب ، ورقة الشاعر ، وحسن البليغ ، أكثر مما يتضح فيها فقه اللغوي ، وعلم النحوي ) (1) .
  3 ـ وأما الحديث عن الشيخ عبد القاهر الجرجاني ( ت : 471 هـ ) فقد سبق لنا القول أنه مطور البحث البلاغي ، وواضع أصوله الفينة (2) في كتابين الجليلين : ( دلائل الإعجاز ) (3) ، و ( أسرار البلاغة ) (4) .
  فقد سبر فيهما أغوار الفن القولي شرحا وإيضاحا وتطبيقا ، اعتنى باللباب من هذا العلم ، وأكد فيه على الجانب الحي النابض ، وابتعد عن الفهم العشوائي ، والخلط الغوغائي بين النظرية البلاغية وتطبيقاتها ، لم يعتن بالحدود المقيدة في علم المنطق ، ولم يعر للقوقعة اللفظية أهمية مطلقا ، كان وكده منصبا حول ما يقدمه من نتاج فياض إبداعي ينهض بهذا الفن الأصيل الى أوج عظمته ويدفع به الى ذروة مشاركته في بناء الهرم الحضاري ، فماذا يجني الباحث والمتعلم ، وهذا العلم نفسه ، من الجفاف في الحد ، او الغلظة في الرسم ، أو الصرامة المضنية في القاعدة .

--------------------
(1) محمد عبد الغني حسن ، مقدمة تلخيص البيان : 48 .
(2) المؤلف ، أصول البيان العربي ، رؤية بلاغية معاصرة : 18 .
(3) حققه لأول مرة كل من الأستاذ محمد عبدة ، ومحمد محمود الشنقيطي ، القاهرة ، 1921 وصدرت مؤخرا طبعة منقحة ، بتحقيق محمود محمد شاكر ، مكتبة الخانجي ، القاهرة 1984 .
(4) حققه ، وخرج آياته ، وضبطه ضبطا علميا فريدا الأستاذ الدكتور هلموت ريتر ، مطبعة المعارف ، استانبول ، 1954 م .

مجاز القرآن وخصائصه الفنية وبلاغته العربية ـ 35 ـ
  انظر إليه وهو يتحدث عن أصالة ( علم البيان ) والمجاز أساسه وقاعدته الصلبة ببيان ساحر ، ومنطق جزل ، وهو يصرح باسمه اصطلاحا فيقول : ( ثم إنك لا ترى علما هو أرسخ أصلا ، وأبسق فرعا ، وأحلى جنى ، وأعذب وردا ، وأكرم نتاجا وأنور سراجا من ) علم البيان ( الذي لولاه لم تر لسانا يحوك الوشي ، ويصوغ الحلي ، ويلفظ الدرر ، وينفث السحر ويقري الشهد ، ويريك بدائع من الزهر ، ويجنيك الحلو اليانع من الثمر ، والذي لولا تحفيه بالعلوم وعنايته بها ، وتصويره إياها ، لبقيت كامنة مستورة ، ولما استبنت لها ـ يد الدهر ـ صورة ، ولاستمر السرار بأهلتها ، واستولى الخفاء على جملتها ، الى فوائد لا يدركها الإحصاء ، ومحاسن لا يحصرها الاستقصاء ) (1) .
  لقد بحث عبد القاهر في أسرار البلاغة مفردات ( علم البيان ) وفي طليعتها المجاز ، وبحث في دلائل الإعجاز أغلب مفرجات علم المعاني ، وكرّ أيضا على المجاز .
  والسبب في هذا واصح لأن المجاز القرآني من أسرار البلاغة ودلائل الإعجاز .
  فالمجاز عنده في أسرار البلاغة نوعان : مجاز عن طريق اللغة ، وهو المجاز اللغوي ، ومضماره الاستعارة والكلمة المفردة .
  ومجاز عن طريق المعنى والمعقول ، وهو المجاز الحكمي ، وتوصف به الجمل في التأليف والإسناد (2) .
  وحد المجاز الحكمي أن كل جملة أخرجت الحكم المفاد بها عن موضعه من العقل لضرب من التأويل فهي مجاز (3) .
  وقد فرّق بين المجاز العقلي واللغوي في الحدود والاستعمال والإرادة ، وقال : ( أنه إذا وقع في الإثبات فهو متلقى من العقل ، وإذا عرض في المثبت فهو متلقى من اللغة ) (4) ، وكل من المجازين اللغوي

--------------------
(1) عبد القاهر ، دلائل الإعجاز : 4 .
(2) ظ : عبد القاهر ، أسرار البلاغة : 376 .
(3) المصدر نفسه : 356 .
(4) ظ : المصدر نفسه : 344 .


مجاز القرآن وخصائصه الفنية وبلاغته العربية ـ 36 ـ
  والعقلي لا يدرك الا في التركيب ، ووراء كل منهما معان غير ما يفهم من تكوين الجملة النحوي في الإيحاءات النفسية التي يستند إليها التصوير القرآني (1) .
  وهذا التقسيم لم يكن واضحا بدقته هذه قبل عبد القاهر بل كان المجاز بجملته يشمل صور البيان بعامة ، وقد يتخصص بالاستعارة والمجاز كما هي الحال عند الشريف الرضي كما أسلفنا .
  وقد استنار بهذه التسمية كل من فخر الدين الرازي ( ت : 606 هـ ) وأبي يعقوب السكاكي ( ت : 626 هـ ) بل هما قد نسخا رأي عبد القاهر نسخا حرفيا .
  فالرازي يقسم المجاز الى قسمين : مجاز في الإثبات ، ومجاز في المثبت ، وهما العقلي واللغوي ، وعنده أن المجاز في الإثبات إنما يقع في الجملة ، وأن المجاز في المثبت إنما يقع في المفرد (2) .
  والسكاكي يقسم المجاز الى قسمين : لغوي وعقلي ، واللغوي الى قسمين : خال من الفائدة ، ومتضمن لها ويسميها الاستعارة ، إلا أنه يغض النظر عن المجاز العقلي ، ويؤكد على اللغوي ، وكأنه يميل الى عدّه أساس المجاز (3) .
  وفي ( دلائل الإعجاز ) نجد عبد القاهر يحقق القول الدقيق في المجال الحكمي عنده ، والعقلي عنده وعند غيره ممّن تبعه فيه حتى في التسمية ، وهو برؤيته الثاقبة يلمس أن وراء الكناية والاستعارة في البيان مجازا آخر غير المجاز اللغوي ، وهو المجاز الحكمي المستفاد من طريق العقل في أحكام تجريها على اللفظ وهو متروك على ظاهره (4) .
  والقول عنده في التفريق بين المجاز والاستعارة ، أن المجاز هو

--------------------
(1) ظ : فتحي أحمد عامر ، فكرة النظم بين وجوه الإعجاز : 123 .
(2) ظ : الرازي ، نهاية الإيجاز : 48 .
(3) ظ : السكاكي ، مفتاح العلوم : 194 ـ 198 .
(4) ظ : عبد القاهر ، دلائل الإعجاز : 293 وما بعدها ، تحقيق : محمود شاكر .


مجاز القرآن وخصائصه الفنية وبلاغته العربية ـ 37 ـ
  الاستعارة ، لأنه ليس هو بشيء غيرها ، وإنما الفرق أن ( المجاز ) أعم ، من حيث أن كل استعارة مجاز ، وليس كل مجاز استعارة (1) .
  ان الوعي المجازي الذي أدركه عبد القاهر ، وميّز فروقه وخصائصه من أبلغ ما توصل إليه العمق البلاغي للمجاز ، ومن أفضل ما أنتجه النقد الموضوعي في صياغة المنهج المتطور لدقائق الاصطلاح المجازي .
  وستجد ـ فيما بعد ـ في كل من فصلي ( المجاز العقلي في القرآن ) و ( المجاز اللغوي في القرآن ) سبرا لنظريته البلاغية في المجاز القرآني ، وإشارة مغنية لطائفة من آرائه التطبيقية في الموضوع ، فهناك موضعها الطبيعي من البحث .
  والذي نؤكد عليه هنا أن تنظير عبد القاهر في المجاز جاء طافحا بآيات القرآن المجيد فهي أصل ، وجاء الشعر والأمثال فرعا فيه ، لأنه معنيّ ببيان إعجاز القرآن ، فهو يستدل عليه بآياته الكريمة .
  انظر إليه وهو يتحدث عن المجاز العقلي .
  ( وهذا الضرب من المجاز كثير في القرآن ، فمنه قوله تعالى : ( تؤتي أُكلها كلّ حين بإِذن ربّها ) (2) ، وقوله عز إسمه : ( وإذا تُليت عليهم ءاياته زادتهم إيمانا ) (3) ، وفي الأخرى : ( فمنهم من يقول أيّكم زادته هذه إيمانا ) (4) ، وقوله : ( وأخرجت الأرض أثقالها ) (5) ، وقوله عزّ وجلّ : ( حتى إذا أقلّت سحابا ثقالا سقناه لبلد مّيّت ) (6) .
  أثبت الفعل في جميع ذلك لما لا يثبت له فعل إذا رجعنا الى المعقول على معنى السبب ، وإلا فمعلوم أن النخلة ليست تحدث الأكل ،

--------------------
(1) ظ : عبد القاهر ، دلائل الإعجاز : 462 تحقيق : محمود شاكر .
(2) إبراهيم : 25 .
(3) الأنفال : 2 .
(4) التوبة : 124 .
(5) الزلزلة : 2 .
(6) الأعراف : 57 .

مجاز القرآن وخصائصه الفنية وبلاغته العربية ـ 38 ـ
  التأويل (1) .
  أما الأول ، فقد رتبه على أساس جديد من الأعمال المعجمية الرائدة ، فاتبع طريقة ( الألفباء ) في ترتيب مفرداته اللغوية ، وهو يورد الكلمة الواحدة في استعمالها الحقيقي تارة ، وباستعمالها المجازي تارة أخرى ، ويعطي معنى كل منهما ، والذي يبدوا لنا من عمله هذا أنه يميل الى أن معظم مفردات العربية مجاز وان الباقي هو الحقيقة ، وهو بهذا يحقق جهدا تراثيا عظيما إزاء هذه الغاية ، ويقوم بفهرسة إحصائية لمجاز اللغة ، ولدى ذكر خصائص كتابه الفنية نجده يشير الى هذه الحقيقة بقوله : ( ومنها تأسيس قوانين فصل الخطاب والكلام الفصيح ، بإفراد المجاز عن الحقيقة ، والكناية عن التصريح ) (2) .
  ولم ينس الغرض من تأليف هذا الكتاب في بيان بلاغة القرآن هدفا رئيسا ، والوقوف عند وجوه إعجازه ، ولطائف أسراره فقال : ( ولما أنزل الله تعالى كتابه مختصا من بين الكتب السماوية بصفة البلاغة التي تقطعت عليها أعناق العتاق السبّق ، وونت عنها خطا الجياد القرّح ، كان الموفق من العلماء الأعلام ... من كانت مطامح نظره ، ومطارح فكره ، الجهات التي توصل الى تبين مراسم البلغاء ، والعثور على مناظم الفصحاء ، والمخابرة بين متداولات ألفاظهم ، متعاورات أقوالهم ... والنظر فيما كان الناظر فيه على وجوه الإعجاز أوقف ، وبأسراره ولطائفه أعرف ، حتى يكون صدر يقينه أثلج ، وسهم احتجاجه أفلج ، وحتى يقال : هو من علم البيان حظي ، وفهمه فيه جاحظي ، والى هذا الصوب ذهب عبد الله الفقير اليه محمود بن عمر الزمخشري ، عفا الله تعالى عنه في تصنيف كتاب أساس البلاغة ) (3) .
  ويرى الأستاذ أمين الخولي في تصديره لأساس البلاغة : أن الزمخشري لم يستقص تتبع المجازات اللغوية بالنص عليها في أساسه ،

--------------------
(1) طبع عدة طبعات ، وصورت طبعاته بالأوفست ، وبين يدي طبعة دار المعرفة ، بيروت ( د . ت ) وبحاشيتها كتاب الإنصاف لأحمد بن المنير .
  (2) ظ : الزمخشري ، أساس البلاغة ، المقدمة .
(3) ظ : المصدر نفسه : مقدمة المؤلف .

مجاز القرآن وخصائصه الفنية وبلاغته العربية ـ 40 ـ
  الذي زعم له نفسه هذه الميزة (1) .
  وقد يكون هذا الرأي صحيحا بحدود ، إذ لم يكن أساس البلاغة موسوعيا كبقية المعاجم المطولة ، ولكنه بعمله قد جاء بشيء جديد من ناحيتين :
  الأولى : التأكيد على الاستعمال المجازي في القرآن وعند العرب في معجمه هذا في أغلب المفردات وهو ما لم يفعله سواه .
  الثانية : أنه اتبع الطريقة المعجمية السمحة بالنسبة لطلاب البحث العلمي ، فالتزم طريقة ( الألفباء ) كما صنع الراغب ( ت : 502 هـ ) في المفردات من ذي قبل ، ورفض طريقة المخارج في دقتها ، والأبنية في تعقيدها ، والباب والفصل في كل حرف كما هو شأن غيره .
  ( وقد رتب الكتاب على أشهر ترتيب متداولا ، وأسهله متناولا ، يهجم فيه الطالب على طلبته موضوعة على طرف الثمام وحبل الذراع ، من غير أن يحتاج في التقتير عنها الى الإيجاف والإيضاح ، والى النظر فيما لا يوصل الا بإعمال الفكر اليه ، وفيما دقق النظر فيه الخليل وسيبويه ) (2) .
  بهذا يختتم الزمخشري مقدمة كتابه ، ومهمته فيه التيسير ، وتهيئة المناخ العلمي للبحث دون عناء ، وهو إنجاز ضخم من الناحيتين العلمية والفنية ، وأما الكشاف ، فهو التفسير البياني الذي تلمس فيه مدى جمال المجاز القرآني ، وطلاوة رونقه ، وعذوبة مخارجه ، ودقائق استعمالاته ، أو هو الكتاب الذي تبصر به المجاز حيا نابضا متكلما بمعناه الاصطلاحي ومناخه الأدبي معا ، في ضوء ما أشار إليه ابن قتيبة ، وما ابتكره الشريف الرضي وما أسسه عبد القاهر الجرجاني .
  لقد فتح الزمخشري في الكشاف عمق دراسة رقيقة مهذبة في المجاز العربي بعامة ، والقرآني بخاصة ، فزاد ما شاءت له الزيادة من نكت بلاغية ، وصيغ جمالية ، ومعان إعجازية ، وسيرورة بيانية ، عاد فيها الكشاف كنزا لا

--------------------
(1) ظ : أمين الخولي : أساس البلاغة بين المعجم ، تعريف بالكتاب في أوله .
(2) ظ : الزمخشري ، أساس البلاغة ، مقدمة المؤلف .

مجاز القرآن وخصائصه الفنية وبلاغته العربية ـ 41 ـ
  تفنى فرائده ، وبحرا فنيا لا تدرك سواحله .
  وقد تجلى في الكشاف ما أضافه الزمخشري من دلالات جمالية في نظم المعاني ، وما بحثه من المعاني الثانوية في المجاز القرآني ، والتي توصل اليها بفكره النير ، من خلال نظره الفاحص في تقديم المتأخر ، وعائدية الضمائر ، وأسلوب العبارة ، والتركيب الجملي ، لرصد المضمون البياني في القرآن المتمثل لديه في التمثيل والتشبيه والإستعارة وأصناف المجاز ، وهو كثيرا التنقل بالألفاظ القرأنية من الحقيقة الى المجاز مستعينا على ذلك بشؤون الكلام العربي في الحذف والإظهار ، والتقدير والإضمار ، ذلك بإزاء استجلاء إعجاز القرآن فنيا والتأكيد عليه لفظيا ومعنويا من خلال معطيات الشكل ومميزات المضمون .
  صحيح أن الهدف الجانبي عند الزمخشري قد يكون كلاميا كما أسلفنا ، ولكن هذا لا يمانع من أن يكون كتابه هذا جوهرة نحن بأمس الحاجة الى امثالها في تبيين روعة القرآن ، وجمال عبارته ، ودقة بلاغته .
  ولست هنا في مجال الحديث عن الكشاف إلا إجمالا ، ومن خلال هذا الإجمال ، أضع نموذجين لتحقيقه المجازي بين يدي البحث : الأول ، تعقيبه على قوله تعالى ( الرحمن على العرش أستوى ) (1) ، فهو يبحثها بلاغيا في ضوء ما تستعمله العرب مجازا أو كناية في معنى العرش والأستواء ، ويضرب لذلك الأشباه والنظائر من القرآن الكريم والموروث العربي ، فيقول : ( ولما كان الأستواء على العرش ، وهو سرير الملك مما يردف الملك ، جعلوه كناية عن الملك فقالوا : استوى فلان على العرش ، يريدون ملك ، وإن لم يقعد على السرير البتة ، وقالوا أيضا ـ لشهرته في ذلك المعنى ومساواته ـ : ملك ، في مؤداه وإن كان أشرح وأبسط أدل على صورة الأمر ، ونحوه قولك : يد فلان مبسوطة ويد فلان مغلولة ، بمعنى أنه جواد أو بخيل لا فرق بين العبارتين إلا فيما قلت : حتى أن من لم يبسط يده بالنوال قط ، أو لم تكن له يد رأسا ، قيل فيه : يده مبسوطة لمساواته

--------------------
(1) طه : 5 .

مجاز القرآن وخصائصه الفنية وبلاغته العربية ـ 42 ـ
  عندهم قولهم هو جواد ، ومنه قوله تعالى : ( وقالت اليهود يد الله مغلولة ) ، أي هو بخيل ( بل يداه مبسوطتان ) (1) ، أي هو جواد من غير تصور يد ، ولا غل ، ولا بسط ، والتفسير بالنغمة ، والتمحل للتثنية من ضيق العطف ، والمسافرة عن علم البيان مسيرة أعوام ) (2) .
  الثاني : تعقيبه على قوله تعالى : ( فما ربحت تجارتهم ... ) (3) ، قال : ( فإن قلت : كيف أسند الخسران الى التجارة وهو لأصحابها ؟ قلت : هو من الإسناد المجازي ، وهو أن يسند الفعل الى شيء يتلبس بالذي هو في الحقيقة له كما تلبست التجارة بالمشترين ... فإن قلت : هب أن شراء الضلالة بالهدى وقع مجازا في معنى الاستبدال ، فما معنى ذكر الربح والتجارة كأن تم مبايعة على الحقيقة ؟ قلت : هذا من الصنعة البديعة التي تبلغ بالمجاز الذروة العليا ، وهو أن تنساق كلمة مساق المجاز ثم تقفى بأشكال لها وأخوات إذا تلاحقن لم تر كلاما أحسن منه ديباجة ، وأكثر ماءً ورونقا وهو المجاز المرشح ... فكذلك لما ذكر سبحانه الشراء ( أولئك الذين أشتروا الضلالة بالهدى ) (4) ، أتبعه بما يشاكله ويواخيه ، وما يكتمل ويتم بانضمامه إليه ، تمثيلا لخسارهم وتصويرا لحقيقته ) (5) .
  وفيما عدا الزمخشري بتوسعه في ذكر مجازات القرآن ، بمعانيها الاصطلاحية فيما يبدوا لي ، فإننا لا نجد نظيرا لهذا التفسير من هذا الوجه فحسب . نعم هناك شذرات مجازية في الجزء الخامس من ( حقائق التأويل )للشريف الرضي ( ت : 406 هـ ) أشرنا إليها ضمن البحث فيما يأتي ، ولو وصلنا حقائق التأويل كاملا لحصلنا على علم كثير .

--------------------
(1) المائدة : 64 .
(2) الزمخشري ، الكشاف 2 : 530 .
(3) البقرة : 16 .
(4) الزمخشري ، الكشاف : 1/191 وما بعدها .
(5) توفي ظهر الأربعاء : 9/3/1966م عن واحد وسبعين عاما ، وكان آخر لقائنا به في بغداد بتاريخ : 11/2/1966 م حينما اشتركنا معا في مهرجان تأبين علامة العراق الشيخ محمد رضا الشبيبي في جامع براثا ببغداد .

مجاز القرآن وخصائصه الفنية وبلاغته العربية ـ 43 ـ
  وهناك لمحات مجازية عند السيد المرتضى ( ت : 436 هـ ) في أماليه ( غرر الفوائد ودرر القلائد ) وعند أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي ( ت : 406 هـ ) في التبيان ، وعند أبي علي الطبرسي ( ت : 548 هـ ) في مجمع البيان ، وعند فخر الدين الرازي ( ت : 606 هـ ) في مفاتيح الغيب ، وعند أمثالهم من الأكابر ، ولكنها لا تشكل عملا مجازيا تكامليا كما هي الحال في الكشاف .
  وأما الحديث عن ابن رشيق ( ت : 463 هـ ) في العمدة ، وابن سنان ( ت : 466 هـ ) في سر الفصاحة ، وابن الزملكاني ( ت : 651 هـ ) في كل من البرهان والتبيان ، وابن أبي الأصبع ( ت : 654 هـ ) في بديع القرآن ، وابن الأثير ( ت : 637 هـ ) في المثل السائر ، وسليمان بن علي الطوفي البغدادي ( ت : 716 هـ ) في الأكسير في علم التفسير ، وشهاب الدين محمود الحلبي ( ت : 725 هـ ) في حسن التوسل ، ويحيى بن حمزة العلوي ( ت : 749 هـ ) في الطراز المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز ، وبدر الدين الزركشي ( ت : 794 هـ ) في البرهان ، وجلال الدين السيوطي ( ت : 911 هـ ) في الاتقان ، وأمثالهم من فطاحل البلاغيين والنقاد القدامى والتراثيين ، فلهم في المجاز نظرات متفاوتة ، إلا أن الملحظ لديهم الاستناد على أساس متين منه وهو مجاز القرآن ، ولكنهم لم يكتبوا فيه كتابا قائما بذاته ، أو جهدا موسوعيا كمن أسلفنا ، بل جاء جزءا من كل ، وتقاطيع في أبواب ، لذا أشرنا إليهم ، وستجد جملة من آراء بعضهم في الكتاب .
  وهنا يجب أن نشير الى حقيقة مؤكدة هي أن كلا من أبي يعقوب السكاكي ( ت : 626 هـ ) والخطيب القزويني ( ت : 739 هـ ) وسعد الدين التفتازاني ( ت : 791 هـ ) وأضرابهم من علماء البلاغة كالسبكي والطيبي ، قد كرسوا جهودهم التطبيقية في الحديث عن المجاز في البيان العربي على التمثل والاستشهاد والتنظير أولا بأول ـ بآيات المجاز في القرآن ، فكان ذلك دون شك : سراجهم الهادي ودليلهم الأمين .
  ولا بد لي من الإشارة الهادفة الى ما قدمه أبو حيان ، أثير الدين ، محمد بن يوسف الأندلسي ( ت : 754 هـ ) في تفسيره : ( البحر المحيط ) من جهد متميز يقتفي فيه آثار الشريف الرضي والزمخشري في تتبع اللمسات

مجاز القرآن وخصائصه الفنية وبلاغته العربية ـ 44 ـ
  البلاغية في القرآن ، والتأكيد على المجاز فنا بيانيا ، وبذلك فهو مشارك مشاركة جيدة في هذا المضمار دون ابتكار أو تزيد فيما يبدوا لي .

4 ـ مجاز القرآن في دراسات المحدثين
  كان لتعيين استاذنا العلامة الشيخ أمين الخولي رحمه الله (1) أستاذا للدراسات القرآنية والبلاغية والنقدية في كلية الآداب في الجامعة المصرية في أواخر الربع الأول من القرن العشرين ، كان له أثره الجليل في قلب المفاهيم التدرسية ، ونقد المناهج العلمية ، وتجديد الأساليب التفسيرية والبلاغية ، كان ذلك إيذانا بحياة قرآنية في الجامعة لا عهد لها بها ، وكان صاحبنا ذا منهج محدد يتحدث هو عنه : ( فدخلت ميدان التجديد الأول ، على خبرة به ، ورأي ثابت عنه ، وخطة بينة فيه ، أدرت عليها عملي في درس البلاغة ، وسواها ... طفقت أتعرف معالم الدراسة الفنية الحديثة بعامة ، والأدبي منها بخاصة ، وأرجع الى كل ما يجدي في ذلك ، من عمل الغربيين وكتبهم ، واوازن بينه وبين صنيع اسلافنا ، وأبناء عصرنا في هذا كله ... وكانت نظرتي الى القديم ـ تلك النظرة غير اليائسة ـ دافعة الى التأمل الناقد فيه ، والى العناية بتأريخ هذه البلاغة ، أسأله عن خطوات سيرها ، ومتحرجات طريقها ، أستعين بذلك على تبين عقدها ، وتفهم مشكلاتها ، ومعرفة أوجه الحاجة الى الإصلاح فيها ... وبذلك كانت الطريقة التأريخية ، مع الأستفادة بالحديث : منهج درسي للبلاغة في الجامعة ... مضيت في هذا الدرس المتأني ، أمس مسائل البلاغة مسا رفيقا جريئا معاً ، أقابل فيه القديم بالجديد ، فأنقد القديم وأنفي غثه ، وأضم سمينه الى صالح جديد ... وتلك خطة لا تدوم في دراسة جامعية ، اساسها التجدد ، وحياتها في نماء متصل ، لذا قاربت أن أفرغ من النظر في القديم ، بعدما ضممت خياره الى الجديد ، فألفت منها نسقا كاملا ، يرجى أن يكون دستور البلاغة في درسها ) .
  فالخولي أستاذ للبلاغة قد وضع خطتاً لتطويرها ، ورسم منهجا في تجديد معالمها ، واستنّ طريقا لإغناء درسها .
  وكانت الجامعة المصرية أول نشأتها ، قد وجدت الحاجة في درس

--------------------
(1) أمين الخولي ، فن القول : 8 وما بعدها .

مجاز القرآن وخصائصه الفنية وبلاغته العربية ـ 45 ـ
  الأدب وتأريخه الى القول في القرآن ، بما هو مادة لذلك التاريخ الأدبي ، فجاء إذ ذاك أمين الخولي ، وهو من شيوخ المدرسة القديمة فيما يرى في ختام حياته التعليمية ، وغيّر في مناهجها ما غيّر ، وجعل تفسير القرآن مادة دراسية فيها ، وكان مفهوم التفسير عنده أو عند أمثاله لا يجاوز كثيرا تلك الكتب المتداولة فيه ... وكلها يمكن أن يقال فيه : أنه لا يستطيع الوفاء ببيان ما في القرآن من قوة بلاغية ، وكانت الحياة الأدبية الجامعية خصبة ، متجددة ، متطلعة ، مستشرقة ، فاتبعت وراء ما استشرف إليه المفسرون من حسّ العربية وذوقها ، وبلاغة هذا الأسلوب ، ماهو وراء ذلك وأبعد ، على أن يكون لهذا التطلع ضابط من طبيعة اللغة وحيويتها ، فراحت الجامعة تحول التفسير درسا أدبيا محضا ، ويستعين بكل ما بلغته وستبلغه الثقافة الإنسانية الفنية من دقة وتطلع (1) .
  وكان صاحب هذا المنهج الجديد هو أمين الخولي باعتباره مدرسا لتفسير القرآن ، وواضعا لمفرداته العلمية ، فاستعان على ذلك بما كتبه في القرآن ، وكان ( تاريخ القرآن ) مجموعة محاضراته فيه ـ ولم ينشر ـ وكان ( التفسير ... معالم حياته ... منهجه اليوم ) من أروع البحوث في دائرة المعارف الإسلامية / المجلد الخامس ، وقد اشتمل عليه كتاب ( مناهج تجديد ) وكانت دراسته للقرآن العظيم بين هذا وذاك تشمل : حياة الألفاظ القرآنية ، وتدرج دلالتها ، وتأريخ ظهور المعاني المختلفة للكلمة ، الواحدة ، وكانت البلاغة القرآنية في مطابقة الكلام لمقتضى الحال : اساس الدرس التفسيري مضافا إليها الغرض الديني والبعد العقائدي (2) .
  وكان بحثه الفريد ( القرآن الكريم ) في دائرة معارف الشعب المصرية في 1959 م مستوفيا لجملة من خصائص القرآن الأسلوبية في كل من المكي والمدني ، وما يتميز به كل منهما بتمييز حال المخاطبين .
  وكانت محاضراته في ( أمثال القرآن ) ـ وقد أملاها على طلاب الدراسات العليا في كلية الآداب بجامعة القاهرة ـ جوهرة ثمينة إجرى فيها تحقيقا لغويا لكلمة ( المثل ) وجمع الآيات التي تضمنت لفظ المثل ، وقام

--------------------
(1) ظ : كامل سعفان في كتابه : أمين الخولي ، 113 وما بعدها وانظر مصادره .
(2) ظ : أمين الخولي ، مناهج تجديد : 293 .

مجاز القرآن وخصائصه الفنية وبلاغته العربية ـ 46 ـ
  بتصنيف بعض الأمثال وإرجاعها الى موضوعاتها مكتفيا بتمثيل الحياة الدنيا ، والعمل الطيّب والخبيث ، وصفات الله سبحانه وتعالى ، وتمثيل المؤمنين والكفار واليهود والمنافقين ، ومثل الجنة (1) .
  وكانت نتيجة هذا الجهد المتواصل للأستاذ أمين الخولي وأمثاله من الأساتذة ذوي الحمية على كتاب العربية الأكبر ، أن أدخلوا ( القرآن ) في مختلف شؤونه الجمالية موضوعا بلاغيا وتفسيريا في الدراسات العليا بجامعة القاهرة ، وفي كلية الأداب منها ، وفي قسم اللغة العربية وآدابها بخاصة ، فكتبت عشرات الرسائل بإشرافهم ، وهي تتناول مجاز القرآن وبيان القرآن ، واستعارة القرآن ، وكناية القرآن ، وإعجاز القرآن ، وقصص القرآن ، ومجموعة الصور الفنية في جمالياته بعامة إضافة الى التفسير وعلوم القرآن .
  وقد فتح بهذا الباب مغالق البلاغة المتطورة الحقة في ضوء القرآن الكريم ، فكانت رسائل الماجستير والدكتوراه بداية عصر جديد في النهضة العلمية في الجامعات العربية ، إذ اتخذت القرآن منهجا لاستنباط شتى مقومات البلاغة العربية .
  لقد أفادت المكتبة القرآنية من هذا المنعطف الجديد بداية صالحة ـ على يد علماء متخصصين ـ لدراسات المحدثين في بلاغة القرآن .
  وكان منهج الخولي يميل الى دراسة القرآن ( موضوعا موضوعا ، لا أن يفسر على ترتبيه في المصحف سورا ، أو قطعا ، وأن تجمع آياته الخاصة بالموضوع الواحد جمعا إحصائيا مستفيضا ، ويعرف بترتيبها الزمني ، ومناسباتها وملابساتها الحافة بها ، ثم ينظر فيما بعد لتفسّر وتفهم ، فيكون ذلك التفسير أهدى الى المعنى ، وأوثق في تجديده ) (2) .
  وهذا يعني قيام ( التفسير الموضوعي للقرآن الكريم ) وأن يعنى المتخصصون بدراسة شذرات ونجوم من القرآن كل بحسب تخصصه ، فيجمع الباحث مادة موضوع من موضوعات القرآن ، ويستقصيها إحصاءً

--------------------
(1) ظ : المؤلف : الصور الفنية في المثل القرآني ، 406 ، محمد جابر الفياض ، الأمثال في القرآن الكريم ، المقدمة : 10 .
(2) ظ : أمين الخولي ، دائرة المعارف الإسلامية ، مادة : تفسيره : 368 .

مجاز القرآن وخصائصه الفنية وبلاغته العربية ـ 47 ـ
  لتكون هيكلا مترابطا يشكل وحدة موضوعية متكاملة ، ثم يقوم بتفسيرها ودراستها بحسب منهجه العلمي .
  وحينما عهد برئاسة قسم اللغة العربية وآدابها في كلية الآداب بجامعة القاهرة الى الأستاذ العلامة يوسف عبد القادر خليف في السبعينات ، استجاب سيادته وأمثاله من الأساتذة الى هذا المنهج فوجهوا طلابهم هذا الوجه ، فتخصص معظم البلاغيين العرب بجزء مهم من القرآن الكريم ، فبحث إعجازه حينا ، وقراءاته حينا آخر ، وتشبيهاته تارة أخرى ، وبلاغته وصوره الفنية تارة اخرى ، وكان لي الشرف إن كنت أحدهم في هذا المضمار الكريم (1) .
  ان هذه الجهود التي أرسى أسسها أمين الخولي ، قد وجدت آذانا واعية لدى الشباب المتحفز ، فاتّسمت بحوث طائفة منهم بإشارات قيمة الى جملة من الصنوف البيانية في القرآن ، واعتماد المنهج البلاغي في الكشف عن وجود الإعجاز القرآني ، وكان ذلك متمثلا بالبحث حينا ، وبالتطبيق حينا آخر .
  وأما على سبيل الأستشهاد والتمثيل فلا أعلم بحثا قرآنيا يخلو من الأستناد الى مجازات القرآن وكناياته وتشبيهاته واستعاراته ، إلا أن الذي يحز بالنفس إن لم أوفق على الوقوف على عمل مستقل بمجاز القرآن ، نعم يمكن القول بأن جهود المحدثين في هذا المجال قد اتخذت طابعا ذا شعبتين في التوجه نحو بيان القرآن بعامة ، ومجازه بخاصة : مجال التهيئة والدعوة الى خوض عباب القرآن ، والكشف عن كنوزه وأسراره كما صنع الخولي ، ومجال التأليف الجزئي في المجاز أو البيان ـ وصور القرآن الجمالية .
  وسأقف عند هذين الجانبين بحدود ما لمسته حسيا ، وتابعت أضواءه شخصيا ، مما شكل انطباعا خاصا ، قد يضاف غيره إليه .


--------------------
(1) كتب المؤلف رسالته للدكتوراه ( الصور الفنية في المثل القرآني : دراسة نقدية وبلاغية ) بإشراف الأستاذ الدكتور يوسف عبد القادر خليف في قسم اللغة العربية وأدبها في كلية الآداب بجامعة القاهرة .

مجاز القرآن وخصائصه الفنية وبلاغته العربية ـ 48 ـ
  ففي الجانب الأول ، يبرز في الجامعات العراقية ـ مثلا ـ دور كل من :
  1 ـ الدكتور أحمد عبد الستار الجواري ، فما زلت أتذكر ـ قبل ربع قرن أو أكثر ـ ونحن طلاب في الدراسات الأولية الجامعية ، أنه كان يأخذنا أخذا شديدا في مدارسة النحو في ضوء القرآن كاشفا عن بلاغته ووجوه إعجازه ، ومطابقة عباراته من خلال نظم المعاني لمقتضى الحال ، وربما ضاق بعضنا ذرعا من جديته هذه فيتذرع بالقول : إن الغاية من النحو صون اللسان عن الخطأ في المقال أو الكلام ، فكان ـ رحمه الله ـ (1) يجيب : بأن هذا صحيح بالنسبة لعامة الطلاب ، أما بالنسبة لكم فالغاية : خدمة القرآن العظيم .
  وكان الجواري في هذا المنهج يصدر عن رأي استاذه الخولي ، فما شوهد متحدثا إلا وآيات القرآن على شفتيه ، ولا درّس إلا وشواهده من القرآن ، وألف وهو معني بالنحو والقرآن معا : ( نحو التيسير ) ( نحو القرأن ) و ( نحو الفعل ) و ( نحو المعاني ) وفي كتبه شذرات قيمة من معاني القرآن وبيانه كالاستعارة والتشبيه والتمثيل والمجاز العقلي واللغوي وإن كان النحو مضمارها .
  2 ـ الدكتور جميل سعيد ـ عضو المجمع العلمي العراقي ، وقد عني عناية خاصة بتدريس إعجاز القرآن وتصوير أبعاده الفنية والجمالية ، وتمخض لهذا الجانب في الدراسات العربية العليا ، وكان ( دلائل الأعجاز ) و ( أسرار البلاغة ) مضماره الأول في مظان التدريس ، وهو بإزاء كشف البيان القرآني ، وطالما كان يحث الكثيرين من تلامذة الدراسات العليا ـ وأنا منهم ـ على متابعة الاستنارة في القرآن ، وعلى تحرير الرسائل الجامعية في ضوء هداه ، وإبراز الوجهة الأدبية والبلاغية للبيان العربي من خلال معطياته البيانية الفريدة ، وفضلا عن هذا المنهج فإن بحوثه العلمية غنية بالموروث القرآني العظيم .

--------------------
(1) توفي الدكتور الجواري فجأة عند باب داره ظهر الجمعة : 22 /1 / 1988 م وهو في طريقه لأداء الصلاة ، عن عمر يناهز خمسة وستين عاما .

مجاز القرآن وخصائصه الفنية وبلاغته العربية ـ 49 ـ
  وفي الجانب الثاني من هذا المجال يجب أن نشير بإعجاب الى ما حققه الدكتور مصطفى صادق الرافعي في كتاباته عن إعجاز القرآن ، فقد كان من الرواد في بدايات النهضة الأدبية لهذا القرن في المقام ، والى ما أنتجه بأصالة وعمق الدكتور بدوي أحمد طبانة في كتاباته البيانية المتشعبة ، والى ما قدمه الدكتور مصطفى الصاوي الجويني في متابعاته البلاغية والتفسيرية والخدمات القرآنية ، والى ما أبقاه السيد قطب في كل من ( ظلال القرآن ) و ( مشاهد القيامة في القرآن ) و ( التصوير الفني في القرآن ) .
  والى ما أضافه الدكتور محمد عبد الله دراز في الشؤون الإعجازية والقرآنية ، والى ما حققه الدكتور محمد المبارك في منهل الأدب الخالد ، والى ما اكتشفه الأستاذ مالك بن نبي في ( الظاهرة القرآنية ) ، والدكتور أحمد أحمد بدوي في كتابه ( من بلاغة القرآن ) والدكتور بكري الشيخ أمين في ( التعبير الفني في القرآن ) .
  فكل من هؤلاء قد أفرغ ما في كنانته من سهام مضيئة في التنوير العام بين يدي القرآن وأسلوبه البياني ، وكان المجاز جزءا رصينا مما كتبوا ، جزاهم الله خيرا عن كتابه المجيد .
  وأقف عن كثب بمتابعة المجاز القرآني عند كل من :
  1 ـ الدكتورة عائشة عبد الرحمن ( بنت الشاطئ ) الأستاذة في كلية الآداب / جامعة عين شمس في القاهرة .
  اقتفت بنت الشاطئ آثار زوجها وأستاذها الراحل أمين الخولي من منهج التفسير الأدبي للنص القرآني ، وكانت موفقة الى حد كبير يطمئن اليه ، وسياق جليل في الاهتداء الى استجلاء ظواهر القرآن الأسلوبية وتحديد دلالته البلاغية في ( التفسير البياني للقرآن الكريم ) وكان المجاز الإسنادي والمجاز اللغوي حافلا به في رصد جديد ، وبأسلوب جديد ، فيه ملاحقة لنماذجه في طائفة من سور القرآن عملت على تفسيرها في جزئين اشتملا على تحقيق القول البياني في أربع عشرة سورة مكية حيث العناية بالأصول الكبرى للإسلام ، وحرصت فيها أن تخلص لفهم النص القرآني فهما مستشفاً لروح العربية ومزاجها ، مستأنسا في كل لفظ ، بل في كل حركة ونبرة ، بأسلوب القرآن نفسه ، محتكمة اليه وحده عندما يشجر الخلاف ،

مجاز القرآن وخصائصه الفنية وبلاغته العربية ـ 50 ـ
  ويلتوي الطريق ، وتتكاثف الظلال ، على هدي التتبع الدقيق لمعجم ألفاظ القرآن ، والتدبر الواعي لدلالة سياقه ، والإصغاء المتأمل الى إيحاء التعبير في ذلك النمط الفذ من البيان المعجز ... وقد قصدت بهذا الاتجاه الى توصيح الفرق بين الطريقة المعهودة في التفسير ، وبين منهجها الحديث الذي يتناول النص القرآني في جوه الإعجازي ، ويلتزم في دقة بالغة بقول السلف : ( القرآن يفسر بعضه بعضا ) (1) .
  تقول بنت الشاطئ : ( فكنت كلما اجتليت باهر أسراره البيانية ، ألفيت من الصعب أن أقدمه على النحو الذي يفي بجلالها ، وتهيبت أن أؤدي بالمألوف من تعبيرنا ، أسرارا من البيان المعجز تدق وتشف ، حتى لتجل عن الوصف ، وتبدو كلماتنا حيالها عاجزة صماء ) (2) .
  وكان هذا التفسير ثمرة صالحة لجهود سابقة في جملة من قضايا البيان القرآني ، توجتها بنت الشاطئ ببحوث لاحقة في الموضوع نفسه في جولات متعددة بين مشرق الإسلام ومغربه ضمن مؤتمرات علمية أشير الى بعضها :
  أ ـ في مؤتمر المستشرقين الدولي في نيودلهي عام 1964 قدمت بحثا بعنوان : ( مشكلة الترادف اللغوي في ضوء التفسير البياني للقرآن الكريم ) .
  ب ـ في كلية الآداب بجامعة بغداد ، في مارس 1965 قدمت بحثا بعنوان ( من أسرار العربية في القرآن الكريم ) .
  ج ـ في الكويت ، في نوفمبر 1965 م حاضرت ببحث عن : ( القرآن الكريم وحرية الإرادة ) .
  د ـ في كلية الشريعة بجامعة بغداد عام 1965 ، قدمت تفسيرا منهجيا لسورة العصر .
  هـ ـ في عام 1968 قدمت محاضرات في البيان القرآني في جامعتي الرباط وفاس بالمغرب ، وجامعة الجزائر .

--------------------
(1) ظ : بنت الشاطئ ، التفسير البياني للقرآن الكريم : 1/18 .
(2) المصدر نفسه : 2/7 .

مجاز القرآن وخصائصه الفنية وبلاغته العربية ـ 51 ـ
  وكان كتابها ( الإعجاز البياني للقرآن ) موضع إعجاب الباحثين ، وقد أعطت فيه مجالا رحبا لمجاز القرآن .
  2 ـ الدكتور أحمد مطلوب استاذ في كلية الآداب / جامعة بغداد ، هذا الشاب المتحفّز ، الذي يعتبر من شيوخ الصناعة اليوم ، فقد تعقب في كتبه البلاغية كل أصناف البلاغة القرآنية ، حتى يكاد لا يستشهد في نظرياته التطبيقية وآرائه البيانية ، وتقسيماته للبلاغة العربية إلا بآيات القرآن الكريم باعتباره نصا إلهيا مقدسا من وجه ، وباعتباره كتاب العربية الأكبرمن وجه آخر ، عرض للمجاز القرآني وأثبت وقوعه في القرآن وفي اللغة العربية على حد سواء ( لأن أية لغة لا يمكن أن تبقى محصورة في ألفاظها الوضعية وأنه لا بد من انتقالها للدلالة على معان جديدة تتطلبها الحياة وتطورها ، والمجاز كثير في اللغة العربية ويعد من مفاخرها ، وهو دليل الفصاحة ورأس البلاغة ، وفي القرآن الكريم كثير من هذا الفن وإن اختلف الباحثون في ذلك فرأى بعضهم أن كتاب الله كله حقيقة ، وإذا كان معنى الحقيقة الصدق فذلك صحيح ، أما إذا كان معنى المجاز العدول في اللفظ من معنى الى آخر ، فليس الأمر كذلك لأنه جاء الكثير منه في كتاب الله ... وعليه معظم البلاغيين ) (1) .
  بحث الدكتور أحمد مطلوب المجاز في القرآن وفي العربية في أغلب كتبه القيمة ، فاشتملت عليه ( مصطلحات بلاغية ) و ( البلاغة عند السكاكي ) و ( القزويني وشروح التلخيص ) ووقف عنده موقف الناقد البصير والعارض المنصف في ( فنون بلاغية ) وأعطى لتقسيماته الفنية بعدا إحصائيا مبتكرا على أساس معجمي حديث في ( معجم المصطلحات البلاغية وتطورها ) ، وكرس جهدا قيما للموضوع في ( مناهج بلاغية ) .
  أخذ الله بيده لإكمال مسيرته البلاغية في ضوء القرآن الكريم ، وهكذا نجد في دراسات المحدثين لقطات نادرة من أمثال المجاز القرآني ، يستقطب بعضها البحث المشرق ، ويسترشد بعضها الآخر الاستشهاد

--------------------
(1) أحمد مطلوب ، فنون بلاغية : 84 ـ 86 .

مجاز القرآن وخصائصه الفنية وبلاغته العربية ـ 52 ـ
  السائر ، ويستخلص منها آخرون قواعد البلاغة وأسس البيان فتعرض على القرآن وتخضع له ، ومع كل هذه الجهود المتناثرة فلم أقف على عمل خاص ، وجهد قائم بذاته في مصنف منفرد في مجاز القرآن ـ كما أسلفنا ـ فجاء هذا البحث ـ بعون الله تعالى ـ متمحضا لهذا الغرض ، ومتخصصا فيه .
  وقد زعم الدكتور أحمد بدوي : ( إن كثيرا ممن تعرضوا لدراسة المجاز في القرآن الكريم ، قد مضوا يلتمسون أمثلته ، يبوّبونه ويذكرون أقساما كثيرة له ، حتى بلغوا من ذلك حد التفاهة ، ومخالفة الذوق اللغوي ) (1) .
  وهذا الزعم منحصر في جملة من النماذج التي لا تنهض دليلا قاطعا على صحة الرأي ؛ إذ يعارضه : أن ما كتب في مجاز القرآن بمعناه الاصطلاحي لا يتجاوز الدراسات الأنموذجية القائمة على سبيل المثال لا الحصر والاستقصاء ، والمثال قد يتكلف به ، وقد يأتي طيعا متساوقا ، وإذا كان الامر كذلك ، فأختيار بعض البلاغيين للنماذج المقحمة لا يشكل حكما عاما بهذه السهولة ، وكما لا نوافق على هذا الزعم ، فكذلك لا نميل أيضا الى ما ذهب اليه الأستاذ عباس محمود العقاد من أن المجاز قد انتقل في اللغة العربية من الكتابة الهيروغليفية الى الكتابة بالحروف الأبجدية (2) .
  فلا دليل على هذا من أثر أو تاريخ ، ولا وضوح في هذا الملحظ ، وهو شبيه بادّعاء الأثر الإغريقي واليوناني في البلاغة العربية ، فكلاهما لا يصدر عن نص موثوق ، أو دليل قاطع ، بل هي تكهنات لا تنهض مقياسا على صحة دعوى وأصالة رأي .
  فالمجاز وإن استعمل في اللغات العالمية الحية ولكنه يدور معها في حدود معينة ، وهو بخلاف هذا في لغة القرآن ، إذ الاستعمال المجازي فيها أساسي وليس أمرا عارضا ، لأنه أحد شقي الكلام وطرفيه ، وهما الحقيقة

--------------------
(1) أحمد أحمد بدوي ، من بلاغة القرآن : 224 .
(2) ظ : عباس محمود العقاد ، اللغة الشاعرة : 26 .

مجاز القرآن وخصائصه الفنية وبلاغته العربية ـ 53 ـ
  والمجاز ، ولما كان القرآن الكريم جاريا على سنن العرب كان المجاز فيه أحد قسيمي الكلام .
  وها هي مسيرة المجاز القرآن لا تقف عند حدّ ، ولا يستوعبها أحد ، فهي تشق طريقها في عباب اللغة تارة ، وترسخ أصالتها في صنوف البيان تارة أخرى ، تلتقط من هذا وذاك جواهره ولآليه ، تغذي العقول ، وتربّ الأفئدة ، خاشعة لها الأبصار ؛ بدرا يدور به فلك من المعارف لا تنتهي فرائده ، وسراجا تهتدي به العربية في ليل سراها الطويل ، ولعل في هذا الكتاب ألقا من ذلك السّنا ، ووهجا من تلك الأضواء ، يصور جزئيات منتظمة ، ويعكس نظريات قد تتبلور ، والله المستعان .

الفصل الثاني : مجاز القرآن وأبعاده الموضوعية
  1 ـ حقيقة المجاز بين اللغة والاصطلاح
  2 ـ وقوع المجاز في القرآن
  3 ـ تقسيم المجاز القرآني
  4 ـ مجاز القرآن : عقلي ولغوي

--------------------
(1) سورة مريم آية : 95.

مجاز القرآن وخصائصه الفنية وبلاغته العربية ـ 57 ـ
1 ـ حقيقة المجاز بين اللغة والاصطلاح
  يبدو أن المعنى الاصطلاحي لحقيقة المجاز مستمد من الأصل اللغوي ، فلقد نقل ابن منظور ( ت : 711 هـ ) قول اللغويين : ( جزت الطريق ، وجاز الموضع جوازا ومجازا : سار فيه وسلكه ، وجاوزت الموضع بمعنى جزته ، والمجاز والمجازة الموضع (1) .
  وكان عبد القاهر الجرجاني ( ت : 471 هـ ) قد كشف العلاقة بين اللغة والاصطلاح في اشتقاق لفظ المجاز ، فالمجاز عنده : ( مفعل من جاز الشيء يجوزه إذا تعداه ، وإذا عدل باللفظ عما نوجبه أصل اللغة ، وصف بأنه مجاز على معنى أنهم جازوا به موضعه الأصلي ، أو جاز هو مكان الذي وضع به أولا ) (2) .
  وهو لايكتفي بذلك حتى يحدد العلاقة بين الأصل والفرع في عملية العدول عن أصل اللغة ، أو النقل الذي يثبت إرادة المجاز لهذا اللفظ أو ذاك دون الاستعمال الحقيقي فيقول : ( ثم إعلم بعد : إن في إطلاق المجاز على اللفظ المنقول عن أصله شرطا ؛ وهو أن الأسم يقع لما تقول أنه مجاز فيه بسبب بينه وبين الذي تجعله فيه ) (3) .
  وهذا يعني مضافا لما سبق : مجانسة المعنى المنقول له اللفظ الى معناه الأولي حيث توافر المناسبة في وجه النقل كتسمية الاعتدال غصنا ،

--------------------
(1) ابن منظور ، لسان العرب ، مادة : جاز .
(2) عبد القاهر ، أسرار البلاغة : 365 .
(3) المصدر نفسه : 365 .

مجاز القرآن وخصائصه الفنية وبلاغته العربية ـ 58 ـ
  والقوام بانا ، والحلم طودا ، لافتراع الغصن استقامة ، ورشاقة البان طولا ، ورسوخ الطود ثباتا ، فجاء النقل متساوقا في مناسبته مع المعاني الجديدة دون النبو عنها في شيء .
  والطريف عند عبد القاهر أن يعود ليؤكد المناسبة القائمة بين اللغة والاصطلاح في اشتقاق المجاز ، متناولا قضية الوضع الحقيقي ، وتجاوزه الى المعنى الثانوي المستجد في المجاز ، فيقول : ( وأما المجاز فكل كلمة أريد بها غير ما وقعت له في وضع واضعها لملاحظة بين الثاني والأول ، فهي مجاز ، وإن شئت قلت : كل كلمة جزت بها ، ما وقعت له في وضع الواضع الى ما لم توضع له من غير أن تستأنف فيها وضعا لملاحظة بين ما تجوز إليه وبين أصلها الذي وضعت له في وضع واضعها ، فهي مجاز ) (1) .
  وهذا التعقيب لرأي عبد القاهر في الموضوع ليس عبثا ، بل منطلق من اعتبار عبد القاهر مرجعا في هذا النص ، ومصدرا من مصادر التفريق بين الجزئيات المتقاربة في الحدود والتعريفات ومتمرسا في اكتشاف ما بين الأصول والفروع من أواصر وصلات .
  ومن هنا يبدوا أن التقرير اللغوي متحدر من التبادر الذهني للفظ المجاز ، وأن التحديد الاصطلاحي له نابع من الأصل اللغوي ، وذلك فيما وضعه أبو يعقوب السكاكي ( ت : 626 هـ ) موضع القانون الذي لا يعدل ولا يناقش ، فيقول : ( المجاز هنا هو الكلمة المستعملة في غير ما هي موضوعة له بالتحقيق استعمالا في الغير بالنسبة الى نوع حقيقتها مع قرينة مانعة عن إرادة معناه في ذلك النوع ) (2) .
  وهذا التحديد ـ كما تراه ـ لا يخلو من بعد منطقي في التعبير ، وأثر علم المنطق واضح في تخريجات السكاكي في هذا وسواه .

--------------------
(1) عبد القاهر ، أسرار البلاغة : 325 .
(2) السكاكي ، مفتاح العلوم : 170 .

مجاز القرآن وخصائصه الفنية وبلاغته العربية ـ 59 ـ
  ويبدوا أن اللغويين والبلاغيين معا ، لم يأتوا بجديد في الموضوع ، وإنما تمايزوا بالأداء المختلف ، واتفقوا على الأصل ، وقد سبقهم أبو الفتح عثمان بن جني ( ت : 392 هـ ) في التوصل الى كنه هذا الأصل حينما عرف الحقيقة ببساطة ، وحدد المجاز بما يقابلها بقوله : ( فالحقيقة ما أقر في الاستعمال على أصل وضعه في اللغة ، والمجاز : ما كان بضد ذلك ) (1) .
  ويترجح عندي وجود علاقة قائمة بين التعريف لغة واصطلاحا ؛ وذلك لتقارب الأسر اللغوي للمعنى الاصطلاحي ، وانبثاق الحد الاصطلاحي عنه ، وهو الاجتياز والتخطي من موضع الى موضع ، وهذا ما يكشف عن سر العلاقة المدعاة بين استعمال المجاز لغة واستعماله اصطلاحا ، فكما يجتاز الإنسان ، ويتنقل في خطاه من موضع الى موضع ، فكذلك تجتاز الكلمة وتتخطى حدودها بمرونتها الاستعمالية من موقع الى موقع ، ويتجاوز اللفظ محله من معنى الى معنى ، مع إرادة المعنى الجديد بقرينة تدل على ذلك ؛ فيكون أصل الوضع باقيا على معناه اللغوي ، والنقل إضافة لغوية جديدة في معنى جديد ، وبهذا يبدو لنا أن المجاز يتضمن عملية تطوير لدلالة اللفظ المنقول المعنى ، وتحميله المعنى المستحدث بما لا يستوعبه اللفظ نفسه لو ترك واصل وضعه الحقيقي (2) .
  وكان التحرر من الضيق اللفظي ، والانطلاق في مجالات الخيال ، والتأثر بالوجدان النفسي ، والحنين الى العاطفة الصادقة ، والاتساع في رحاب اللغة ، والتوجه نحو الحياة الحرة الطليقة : أساس هذا الاستعمال ، فرارا من الجمود ، وتهربا من التقوقع في فلك واحد ، حول محور واحد .
  وفي ضوء هذا الفهم جديدا كان أو مسبوقا ، فإن ما يقال عن المجاز في تعبيره الموحي بالمعاني الجديدة ، وتركيزه على استكناه الصور الإبداعية ، فإنه ينطبق على التشبيه والاستعارة باعتبارهما استعمالين مجازيين ، مع فرض وجود العلاقة الدالة على المعنى المستحدث .
  وليس هذا الفهم جديدا ، بل هو مفهوم الأوائل للاستعمال المجازي ،

--------------------
(1) ابن جني ، الخصائص : 2/442 .
(2) ظ : المؤلف ، أصول البيان العربي : 35 .