فالجاحظ ( ت : 255 هـ ) كمعاصريه يعبر عن الاستعارة والتشبيه والتمثيل جميعا بالمجاز ، ويبدو هذا جليا في أغلب استعمالات الجاحظ البيانية التي يطلق عليها اسم المجاز ، وهي عبارة عن مجموعة العناصر البلاغية في النص الأدبي التي تكون المفهوم النقدي الحديث للصور الفنية (1) .
  ولا يعتبر هذا رجوعا الى الوراء في التماس حقائق الأشياء ، ولكنه إفادة موضوعية من القديم لرصد الجديد وتحقيقه ، لذلك فقد يلتبس الأمر بين المجاز والتشبيه والاستعارة ، ولكن التمييز الدقيق يقتضي الفصل والتفريق بين هذه الظواهر البيانية المتجاورة ، ويتم ذلك بالنظر الى الكلام العربي عن كثب :
  أ ـ فإن أريد فيه التوسع مطلقا دون سواه فهو المجاز .
  ب ـ وإن أريد فيه التشبيه التام في ذكر المشبه والمشبه به وأداة التشبيه مع وجود وجه الشبه ، أو حذف أداة التشبيه مع ذكر وجه الشبه ، أو انعدام أوجه التشبيه من جهة وتوافقه من جهة أخرى مع ذكر أداة التشبيه ، أو حذفهما معا فهو التشبيه دون ريب .
  ج ـ وإن أريد التشبيه في ذكر الشبه وحذف المشبه به ، فهو الاستعارة (2) .
  إذن فالتحديد المانع هو الذي يقتضي الفصل بين هذه المتقاربات ، لأن في المجاز توسعا ونقلا وتجوزا في الألفاظ يختلف عما يراه في التشبيه والاستعارة .
  وعلى هذا فالمجاز حدث لغوي فضلا عن كونه عنصرا بلاغيا نابضا بالاستنارة والعطاء ، هذا الحدث يفسر لنا تطور اللغة العربية الفصحى بتطور دلالة ألفاظها على المعاني الجديدة ، والمعاني الجديدة في عملية ابتداعها لا يمكن إدراكها الا بالتعبير عنها ، والتصوير اللفظي لها ، وذلك لا يتحدد بزمن أو بيئة أو إقليم ، وإنما هو متسع للعربية في أعصارها وأدوارها

--------------------
(1) الجاحظ في استعمالاته لإطلاق المجاز ، الحيوان 5 : 23 ـ 34 .
(2) ظ : المؤلف ، أصول البيان العربي : 40 .

مجاز القرآن وخصائصه الفنية وبلاغته العربية _ 61 _

  وتواجدها ، وتنقلها في تخطي حدودها الجغرافية الى بقاع الأرض المختلفة ، والمجاز خير وسيلة للتعبير عن هذا الاتساع بما يضيفه من قرائن ، وبما يضفيه من علاقات لغوية مبتكرة ، توازن بين الألفاظ والمعاني في الشكل والمضمون ، وتلائم بين عمليتي الإبداع والتجديد في دلالة اللفظ الواحد للخروج في اللغة الى ميدان أوسع .
  والتطلع بها نحو أفق رحيب .
  ولما كان القرآن العظيم اساس العربية ودستورها ، كان المجاز فيه أحد قسيمي الكلام ، وهما : الحقيقة والمجاز .
  وسنرصد في الصفحات التالية وقوعه في القرآن بشكل لا يقبل الشك استقراء ومجانسة وبيانا

2 ـ وقوع المجاز في القرآن
  ومجاز القرآن في الذروة من البيان العربي ، فالقرآن كتاب العربية الأكبر ، وهو ناموسها الاعظم ، يحرس لغتها من التدهور ، ويحفظ أمدادها من النضوب ، ويقوّم أودها من الانحطاط ، وقد كان إعجازه البياني موردا متأصلا من موارد إعجازه الكلي ، وتفوقه البلاغي حقيقة ناصعة من تفوقه في الفن القولي ، وقد وقف العرب عاجزين أمام حسّه المجازي ، وبعده التشبيهي ، ورصده الاستعاري ، وتهذيبه الكنائي ، وأعجبوا أيما إعجاب بوضع ألفاظه من المعنى المراد حيث يشاء البيان السّمح ، والإرادة الاستعمالية المثلى ، تأنقا في العبارة ، وتحيزا للمعاني ، فلا غرابة أن يكون القرآن مصدرا للثروة البلاغية الكبرى عند العرب ، وأصلا لتفجير طاقات تلك البلاغة ، والمجاز منها عقدها الفريد .
  ولذلك يرى بعض البلاغيين : ( إن المجاز هو علم البيان بأجمعه ، وأنه أولى بالاستعمال من الحقيقة في باب الفصاحة والبلاغة ، لأن العبارة المجازية تنقل السامع عن خلقه الطبيعي في بعض الأحوال حتى أنه ليسمح بها البخيل ويشجع الجبان ) (1) .

--------------------
(1) أحمد مطلوب ، فنون بلاغية : 84 وانظر مصادره .

مجاز القرآن وخصائصه الفنية وبلاغته العربية _ 62 _
  ومن نافلة القول التوسع في بحث إمكان وقوع المجاز في القرآن دون طائل ، فقد ثبت وقوعه دون أدنى شك في كوكبة متناثرة من ألفاظه تعد في القمة من الأستعمال البياني .
  فقد رد عبد القاهر ( ت : 471 هـ ) القول بحمل اللفظ على ظاهره في كل من قوله تعالى :
  أ ـ ( هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمْ اللَّهُ ) (1) .
  ب ـ ( وَجَاءَ رَبُّكَ ) (2) .
  ج ـ ( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ) (3) .
  وأوجب أن يكون مجازا لا محالة لأن الإتيان والمجيء انتقال من مكان الى مكان ، وصفة من صفات الأجسام ، وأن الاستواء إن حمل على ظاهره لم يصح الا في جسم يشغل حيّزا ، ويأخذ مكانا ، والله عزّوجلّ خالق الأماكن والأزمنة ، ومنشيء كل ما تصح عليه الحركة والنقلة والتمكن والسكون والانفصال والاتصال والمماسة والمحاذاة (4) .
  إن ما أوّله عبد القاهر في مقارنته بين معاني هذه الآيات الظاهرة ، ومعانيها الإيحائية الأخرى ، قد دلّه بالنظر العقلي الى مواطن الضرورة في القول بوقوع المجاز في القرآن ، وإلا وقعنا بالتجسيد تارة ، واصطدمنا بإشغال المكان بالنسبة اليه تارة أخرى ، وهذا باطل من الأساس في العقيدة ، كما أننا قد نقع في لبس وحيف عظيمين لو لم نقل بالمجاز ، ولنسبنا الظلم لله تعالى دون دراية وبدراية بهذه النسبة المفتراة .
  انظر الى قوله تعالى : ( وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً ) (5) .

--------------------
(1) البقرة : 210 .
(2) الفجر : 22 .
(3) طه : 5 .
(4) ظ : عبد القاهر ، أسرار البلاغة : 362 .
(5) الإسراء : 72 .

مجاز القرآن وخصائصه الفنية وبلاغته العربية _ 63 _
  فإن حملنا هذه الآية على ظاهرها ، وهو عمى العين ، فيكون المعنى من كان في الحياة الدنيا أعمى فهو في الآخرة أعمى العين ، بل وأضل سبيلا !!
  وفي هذا نسبة عين الظلم له تعالى عن ذلك علوا كبيرا ، فما هو ذنب من خلقه أعمى في الدنيا أن يحشره أعمى في الآخرة ؟ وما هو المراد حينئذ بـ : أضل سبيلا ، فهل هذا مكافأة على عماه البصري في الدنيا ، فإن حملنا هذا على الظاهر فالأعمى في الدنيا ضال عن السبيل ، وهو أضل له في الآخرة ، ولا ملازمة بين العمى البصري وبين الضلال عن الدين على الاطلاق ، إذن لا بد من حمل العمى على الاستعمال المجازي في الموردين ، ليناسب مع الضلال ، فيستقيم المعنى القرآني ، وينزه الله تعالى ، فيكون المعنى الثانوي هو المراد ، وهو ـ والله العالم ـ من كان في حياته الدنيا ضالا عن الحق ، متعاميا عن الصراط المستقيم ، زائغا عن سنن رب العالمين ، مكذبا لأنبيائه ورسله ، مستهزئا بتعليماته وتشريعاته ، فقد كتب له الضلال في الدنيا نتيجة تصرفه وسلوكه ، فهو كالأعمى الذي لا يبصر ما حوله ، وأبصار الدين بين واضح ولكنه تعامى عنه ، وإذا كانت هذه حالة في الدنيا ، فهو في الآخرة أضل سبيلا فلا يهتدي الى نور يستنقذه ، أو الى شفيع يأخذ بيده ، فهو في ظلمات متعاقبة ، متداخلة ، كمن وهب حاسة البصر ولم يعملها ويستفد منها في تمييز المرئيات فشأنه شأن فاقدها ، فهو أعمى كما كان ذلك أعمى ، وأذا عمي الانسان عن السبيل الحق في الدنيا ، ولم يعمل عمله ، كان في الآخرة أشد حيرة وضلالا ، إذ قدم على ما عمل فوجده هباءً منثورا ، ولما يقدم لنفسه في حياته ما يستنير به بعد وفاته .
  وهذا ما يوضح مجازية الآية ، وبدلالة القرآن نفسه في قوله تعالى : ( وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى ) (1) .

--------------------
(1) طه : 124 ـ 126 .

مجاز القرآن وخصائصه الفنية وبلاغته العربية _ 64 _
  وفي الآيات هذه عدة شواهد على مجازية الآية السابقة ، وعلى مجازية الآيات نفسها في عدة دلائل منها :
  1 ـ إن المعنى : يحشر أعمى البصر ، وقيل أعمى عن الحجة ، أي لا حجة يهتدي إليها .
  قال الفراء : ( يقال أنه يخرج من قبره بصيرا في حشره ) (1) .
  وفي ذلك دلالة على أن لا ملازمة بين العمى الحقيقي ـ في الآية السابقة ـ وبين الضلال .
  فقد يحشر البصير في هذه الدنيا أعمى في الآخرة ، وهذا العمى قد يكون على ظاهره كما حمله أبو زكريا الفراء وقد يكون مجازه كما روى ذلك معاوية بن عمار قال : سألت أبا عبد الله عليه السلام ـ يعني الإمام جعفر بن محمد الصادق ـ عن رجل لم يحج وله مال ، قال هو ممن قال الله ( وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ) فقلت سبحان الله أعمى ، قال أعماه الله عن طريق الحق (2) .
  قال الطبرسي ( ت : 548 هـ ) فهذا يطابق قول من قال : إن المعنى في الآية أعمى عن جهات الخير لا يهتدي لشيء منها (3) .
  2 ـ وكما حشر أعمى حينما أعرض في حياته الدنيا عن القرآن ودلائل الشريعة ، وسنن النبوة ، ونسي آيات الله ، فقد صكّ ( وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى ) أيها الناسي ، فتصير بمنزلة من ترك كالمنسي بعذاب لا يفنى .
  3 ـ وقيل معناه : كما حشرتك أعمى ، لتكون فصيحة ، كنت أعمى القلب ، فتركت آياتي ولم تنظر فيها ، وكما تركت أوامرنا فجعلتها كالشيء المنسي ، تترك اليوم في العذاب كالشيء المنسي (4) .
  فالمجازية في إضراب هذه الألفاظ متواترة الورود في الروايات ومقتضاة لضرورة المعاني .
  والطريف أننا لو رجعنا الى المصادر التراثية في تفسير تلك الألفاظ وأمثلها ، لكان ذلك وحده كافيا للاستدلال بوقوع المجاز في القرآن ، وانظر الى جمهرة الأقوال في شتى شؤونها بالنسبة للآية موضوع البحث ، وإنما أكدنا عليها لأن دلالتها واضحة تكاد لا تخفى على السواد ، فكيف

--------------------
(1 ـ 4 ) ظ : الطبرسي ، مجمع البيان : 4/34 ـ 35 .

مجاز القرآن وخصائصه الفنية وبلاغته العربية _ 65 _
  بالعلماء ، وهذه بعض مميزات النص القرآني أن يكون بعضه مفهوما بين الناس دون عناء .
  ذكر في معنى قوله تعالى : ( وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً ) (1) عدة أقوال : إن هذه إشارة الى ما تقدم ذكره من النعم ، ومعناه : أن من كان في هذه النعم ، وعن هذه العبر أعمى ، فهو عما غيّب عنه من أمر الآخرة أعمى ، روي ذلك عن ابن عباس .
  2 ـ إن هذه الإشارة الى الدنيا ومعناه : من كان في هذه الدنيا أعمى عن آيات الله ضالا عن الحق ، ذاهبا عن الدين ، فهو في الآخرة أشد تحيرا وذهابا عن طريق الجنة ، أو عن الحجة إذا سئل ، فإن من ضل عن معرفة الله في الدنيا ، يكون يوم القيامة منقطع الحجة ، فالأول اسم ، والثاني فعل من العمى .
  3 ـ إن معناها من كان في الدنيا أعمى القلب ، فإنه في الآخرة أعمى العين ، يحشر كذلك عقوبة له على ضلالته في الدنيا ، روي ذلك عن أبي مسلم ، محمد بن بحر ، قال فهذا كقوله تعالى : ( وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ) (2) ... وعلى هذا فليس يكون قوله ( فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى ) على سبيل المبالغة والتعجب وإن عطف عليه بقوله : ( وَأَضَلُّ سَبِيلاً ) ويكون التقدير : وهو أضل سبيلا ، قال : ويجوز أن يكون أعمى : عبارة عما يلحقه من الغم المفرط ، فإنه إذا لم ير إلا ما يسوء فكأنه أعمى ، كما يقال : فلان سخين العين .
  4 ـ وقيل معناه : من كان في الدنيا ضالا ، فهو في الآخرة أضل ، لأنه لا تقبل توبته ، واختار هذا الرأي أبو إسحاق الزجاج : وقال تأويله أنه إذا عمي الدنيا وقد عرّفه الله الهدى ، وجعل له الى التوبة وصلة ، فعمي عن رشده ولم يثب فهو في الآخرة أشد عمى ، وأضل سبيلا ، لأنه لا يجد طريقا الى الهداية (3) .

--------------------
(1) الإسراء : 72 .
(2) طه : 124 .
(3) ظ : الطبرسي ، مجمع البيان 3/ 430 .

مجاز القرآن وخصائصه الفنية وبلاغته العربية _ 66 _
  فكل هذه المعاني ـ كما رأيت ـ قد اشتملت على الإرادة المجازية وهو كاف للاستدلال على أصالة الاستعمال المجازي في القرآن .
  ( ومن قدح في المجاز ، وهم أن يصفه بغير الصدق ، فقد خبط خبطا عظيما ، ويهدف لما لا يخفى ) (1) .
  فهناك من أنكر المجاز في القرآن ، وهناك من حمل جملة من الاستعمال الحقيقي على المجاز ، وكلاهما قد تجاوز القصد ، وجانب الاعتدال في المذهب .
  وقد ناقش عبد القاهر الجرجاني ( ت : 471 هـ ) هؤلاء وهؤلاء : ( وأقل ما كان ينبغي أن تعرفه الطائفة الأولى ، وهم المنكرون للمجاز : إن التنزيل كما لم يقلب اللغة في أوضاعها المفردة عن أصولها ، ولم يخرج الألفاظ عن دلالتها ، كذلك لم يقض بتبديل عادات أهلها ، ولم ينقلهم عن أساليبهم وطرقهم ، ولم يمنعهم ما يتعارفونه من التشبيه والتمثيل والحذف والاتساع .
  وكذلك كان من حق الطائفة الأخرى ، أن تعلم أنه عزّ وجلّ لم يرض لنظم كتابه الذي سماه هدىً وشفاء ، ونورا وضياء ، وحياة تحيا بها القلوب ، وروحا تنشرح عنه الصدور ، ما هو عند القوم الذي خوطبوا به خلاف البيان ، وفي حد الإغلاق ، والبعد عن التبيان ، وأنه تعالى لم يكن ليعجز بكتابه من طريق الإلباس والتعمية ، كما يتعاطاه الملغز من الشعراء ، والمحاجي من الناس ، كيف وقد وصفوه بأنه : ( عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ) (2) (3) .
  وعبد القادر في هذا يشير الى الخلاف التقليدي في هذه المسألة ، أهي واردة أم هي منتفية ؟ كقضية لها بعدها الكلامي عند المتكلمين ، فلقد رفض أهل الظاهر استعمال صيغ المجاز في القرآن ، ووافقهم على هذا بعض الشافعية ، وقسم من المالكية ، وأبو مسلم الأصبهاني من المعتزلة (4) .

--------------------
(1) عبد القاهر ، أسرار البلاغة : 361 .
(2) النحل : 103 .
(3) عبد القاهر ، أسرار البلاغة : 363 .
(4) ظ : الزركشي ، البرهان في علوم القرآن : 2/255 .

مجاز القرآن وخصائصه الفنية وبلاغته العربية _ 67 _
  وقد جاء هذا الرفض بحجة أن المجاز أخو الكذب ، والقرآن منزّه عنه ، فإن المتكلم لا يعدل اليه الا اذا ضاقت به الحقيقة فيستعير ، وذلك محال على الله تعالى (1) .
  وقد ثبت لدينا في ضوء ما تقدم ، وفي ظلال ما سيأتي بيانه ، أن المورد المجازي في الاستعمال القرآني لا تضيق في الحقيقة ، أو عجز عن تسخيرها في تحقيق المعنى المراد ، بل لغاية التحرر في الالفاظ ، وإرادة المعاني الثانوية البكر ، فيكون بذلك قد أضاف الى الحقيقية في الألفاظ إضاءة جديدة ، والألفاظ هي هي ، وهذا بعيد عن ملحظ الكذب في التقرير ، أو العجز عن تسخير الحقيقة ، ولو خلا منه القرآن لكان مجردا عن هذه الإضافات البيانية الاصيلة ، وليس الأمر كذلك .
  ويؤكد هذا الملحظ تعقيب الزركشي ( ت : 794 هـ ) على القول بمنع استعمال المجاز القرآني بقوله : ( وهذا باطل ولو وجب خلو القرآن من المجاز لوجب خلوه من التوكيد والحذف وتثنية القصص وغيره ، ولو سقط المجاز من القرآن سقط شطر الحسن ) (2) .
  فاستعمال المجاز في القرآن نابع من الحاجة اليه في بيان محسنات القرآن البلاغية ، فهو والحقيقة يتقاسمان شطري الحسن في الذائقة البيانية كما أشار الزركشي .
  ويبدو ضعف هذا المذهب ـ وهو يرفض وجود المجاز في القرآن ـ حينما نشاهد حرص الجمهور والإمامية ، وأغلب المعتزلة ، ومن وافقهم من المتكلمين على إثبات وقوعه في القرآن (3) .
  حقا إن ابن قتيبة ( ت : 276 هـ ) قد أشار منذ عهد مبكر الى مسألة

--------------------
(1) ظ : السيوطي ، الاتقان في علوم القرآن : 3/109 .
(2) الزركشي ، البرهان في علوم القرآن : 2/255 .
(3) ظ في هذا الشأن : الجاحظ ، الحيوان : 1/212 ، ابن جني ، الخصائص : 2/447 ـ 457 ، الرضي ، تلخيص البيان في جملة نصوصه ، المرتضى في الأمالي ، الزمخشري ، الكشاف في أغلب مواضعه .

مجاز القرآن وخصائصه الفنية وبلاغته العربية _ 68 _
  الطعن على القرآن في هذه القضية ، وناقشها مناقشة أدبية ونقدية بارعة ، مؤيدا ذلك بموافقات اللسان العربي ، ومستدلا على ما يراه بسنن القول عند العرب في سائر الاستعمالات حتى الساذجة البسيطة منها .
  يقول ابن قتيبة : ( وأما الطاعنون على القرآن بالمجاز ، فإنهم زعموا أنه كذب ، لأن الجدار لا يريد ، والقرية لا تسأل ، وهذا من أشنع جهالاتهم ، وأدلها على سوء نظرهم ، وقلة إفهامهم ، ولو كان المجاز كذبا ، وكل فعل ينسب الى غير الحيوان باطلا ، كان أغلب كلامنا فاسدا ، لأنا نقول : نبت البقل ، طالت الشجرة ، أينعت الثمرة ، أقام الجبل ، رخص السعر ) (1) .
  وقد أيد هذا المنحى عبد القاهر الجرجاني ( ت : 471 هـ ) بقوله : ( وأنت ترى في نص القرآن ما جرى فيه اللفظ على إضافة الهلاك الى الريح مع استحالة أن تكون فاعلة ، وذلك قوله عزّ وجلّ : ( مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ ) (2) وأمثال ذلك كثير ) (3) .
  وقد أفرد المجاز بالتصنيف من الشافعية الشيخ عز الدين بن عبد السلام ( ت : 660 هـ ) في كتابه ( الإشارة الى الإيجاز في بعض أنواع المجاز ) (4) .
  وهناك كتاب قديم ذكره ابن النديم في الفهرست يخص هذا الجزء من البحث اسمه ( الرد على من نفى المجاز من القرآن ) للحسن بن جعفر (5) ، ولم أعثر فيما لدي من فهارس المخطوطات على إشارة الى مكان وجوده في مكتبات العالم ، ولعله فقد فيما فقد من عيون التراث ، ويبدوا أنه قد ألف لغرض إثبات وقوع المجاز في القرآن ردا على من نفى ذلك عنه ، كما هو واضح من العنوان .

--------------------
(1) ابن قتيبة ، تأويل مشكل القرآن : 99 .
(2) آل عمران : 117 .
(3) عبد القاهر ، أسرار البلاغة : 361 .
(4) طبع في استانبول ، دار الطباعة العامرة ، 1312 هـ .
(5) ابن النديم ، الفهرست : 63 ، دار المعرفة ، بيروت ، 1978 م .

مجاز القرآن وخصائصه الفنية وبلاغته العربية _ 69 _
  والحق أن المجاز واقع في القرآن باعتباره عنصرا أساسيا من عناصر بلاغته الإعجازية ، كما سنشاهد هذا فيما بعد ، عند التطبيق المجازي على عبارات القرآن الحكيم .

3 ـ تقسيم المجاز القرآني
  لم يكن المجاز القرآني بمنأى عن الإطار العام لتقسيم المجاز في البيان العربي ، شأنه بذلك شأن الأركان البلاغية الاخرى التي يقوم على أساسها الفن القولي ، فقد استقطب القرآن الكريم شتى صنوفها ومختلف تقسيماتها ، وحفلت سوره وآياته بأبرز ملامحها وأصدق مظاهرها ، حتى عاد تقسيمها خاضعا لأحكام القرآن البلاغية ، ولم يكن القرآن خاضعا لتلك التقسيمات في حال من الأحوال ، لأنها مستمدة من هديه ، وسائرة بركاب مسيرته البيانية المعجزة ، وهكذا بالنسبة للمجاز فهو عند البلاغيين نوعان ، لأنه في القرآن نوعان : مجاز لغوي ومجاز عقلي ، بغض النظر عن التفريعات الأخرى التي لا تتعدى حدود التقسيم العام ، أو هي جزئيات تابعة لكلي المجاز باعتباره عقليا أو لغويا .
  هناك بعض الإضافات والمسميات عند القدامى تجاوزت هذا التحديد في نهجه البلاغي ، نعرض إليه ونردّه الى أصوله : هناك مجاز الحذف عند سيبويه ( ت : 180 هـ ) وعند الفراء ( ت : 207 هـ ) اورداه على سبيل الاتساع في الكلام كأخذ المضاف اليه إعراب المضاف (1) .
  وقد مثلوا له بقوله تعالى : ( وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ ) (2) ، وقد أضاف عز الدين إبن عبد السلام ( ت : 660 هـ ) نوعين للمجاز سمّى الأول مجاز التشبيه ، وهو التشبيه المحذوف الأداة ، وأوضح رأيه هذا بقوله : ( العرب إذا شبهوا جرما بجرم ، أو معنى بمعنى ، أو معنى بجرم ، فإن أتوا بأداة التشبيه كان ذلك تشبيها حقيقيا ، وإن أسقطوا أداة التشبيه كان

--------------------
(1) ظ : سيبويه ، الكتاب : 1/212 ، الفراء ، معاني القرآن 1/363 .
(2) يوسف : 82 .

مجاز القرآن وخصائصه الفنية وبلاغته العربية _ 70 _
  ذلك تشبيها مجازيا ) (1) .
  والثاني : مجاز التضمين ، وهو أن تضمن اسما معنى إسم لإفادة معنى الإسمين ، فتعديه تعديته في بعض المواطن (2) .
  ولقد قسم القزويني المجاز الى مفرد والى مركب ، والمفرد الى لغوي وشرعي وعرفي ، والمركب وهو التمثيل على سبيل الأستعارة الى مرسل واستعارة (3) .
  وهنا نعقب على هذه الإضافات ناظرين أصول المجاز في التقسيم .
  فأما مجاز الحذف فشأنه كشأن مجاز الزيادة ، والأول أشار إليه سيبويه والفراء ، وقد أفاد من هذه التسمية القزوني ( ت : 739 هـ ) فضم إليها مجاز الزيادة ، وعقد لذلك فصلا في الإيضاج سمّاه : المجاز بالحذف والزيادة (4) .
  أما مجاز الحذف ، فتسميته بالإيجاز هي اللائقة بالمقام ، والإيجاز جار في القرآن مجرى المساوات والأطناب في موضوعهما ، ولا داع الى تكلف القول في الآية ( وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ ) (5) .
  ان حكم القرية في الأصل هو الجر ، والنصب فيها مجاز ، باعتبار ان المضاف محذوف ، وأعطي للمضاف إليه حكم المضاف فأصبح منصوبا وحقه الجر أصلا .
  وأما مجاز الزيادة ، وقد مثلوا له بقوله تعالى : ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) (6) ، على القول بزيادة الكاف ، أي ليس مثله شيء ، فإعراب ( مثله ) في الأصل هو النصب ، فزيدت الكاف ، فصار الحكم جرا ، وهذا الجر مجازي على ما يصفون .
  والذي أميل إليه أن لا زيادة في الاستعمال القرآني قط ، بل هو من

--------------------
(1) عز الدين بن عبد السلام ، الإشارة الى الإيجاز : 85 .
(2) المصدر نفسه : 74 .
(3) ظ : القزويني ، الإيضاح : 268 ، التلخيص : 293 .
(4) ظ : القزويني ، الإيضاح : 454 ، تحقيق : الخفاجي : 82 .
(5) يوسف : 82 .
(6) الشورى : 11 .

مجاز القرآن وخصائصه الفنية وبلاغته العربية _ 71 _
  باب زيادة المعنى في زيادة المبنى ، فإن العبارة لا تعطي دقتها ومرادها لو استعملت مجردة عن الكاف ، ووجود الكاف وهو أداة للتشبيه في الآية قد نفى أن يكون لله ما يشبه به ، وإذا لم نستطع أن نحصل على ما يشبّه به ، فأنى يكون له مثيل أو شبيه فيكون المراد ـ والله العالم ـ ليس لما يمثل به مثيل ، فمن باب أولى أن لا يكون له مثيل ، وبهذا ينتفي فرض الزيادة جملة وتفصيلا .
  ويبدو أن مسألة مجاز الحذف والزيادة قد سبقت القزويني بقرون إذ تعقب عبد القاهر ( ت : 471 هـ ) فبالغ في إنكار هذا القول مجاز الحذف والزيادة ، إذ لا يسمى كل حذف مجازا ، ولا كل زيادة كذلك ، إذ لم يؤد هذا أو ذاك الى تغيير حكم الكلام (1) .
  وأما ما أضافه عز الدين فليس من المجاز عند البلاغيين ، فمجاز التشبيه عنده هو التشبيه المحذوف الأداة ، فيسمى تشبيها بليغا ، أو هو جار على سبيل الاستعارة لو حذف المشبه به مع أداة التشبيه .
  وأما مجاز التضمين ، فليس من المجاز في شيء ، بل هو إضافة معنى جديد للفظ لا علاقة لها بالنقل عن المعنى الأصلي ، بل المراد به : إرادته وإرادة غيره بوقت واحد كقوله تعالى : ( وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ ) (2) ، فأنه على ما قالوا تضمن معنى أنابوا مضافا الى الإخبات ، لإفادة الإخبات معنى الإنابة والإخبات معا .
  وأما ما أبداه القزويني فلا يعدو كونه تفريعا على أصلي المجاز وهما المجاز العقلي واللغوي ، فالمجاز المفرد يكون ، عقليا ويكون لغويا ، فالمفرد في المجاز العقلي ما كان جاريا على الكلمة بالإضافة الى ما بعدها ، وتكتشف بالإسناد ، كقوله تعالى : ( وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى ) (3) فكلمة ( سجا ) بالنسبة الى اللّيل مجاز عقلي مفرد ، والليل لا يهدأ ، وإنما ينسب الهدوء فيه الى غيره ، ولما كان الليل زمانا لهذا الهدوء ،

--------------------
(1) ظ : عبد القاهر ، أسرار البلاغة : 383 وما بعدها .
(2) هود : 23 .
(3) الضحى : 1 ـ 2 .

مجاز القرآن وخصائصه الفنية وبلاغته العربية _ 72 _
  عبر عنه بـ ( سجا ) وسجا بمعنى هدأ وسكن وما شابه ذلك .
  والمفرد في المجاز اللغوي هو الكلمة المستعملة في غير ما وضعت له في اصطلاح التخاطب على وجه يصح مع قرينة عدك إرادته .
  والمجاز المفرد على أقسام : لغوي ، وشرعي ، وعرفي ، كالأسد في الرجل الشجاع مثالا للغوي لفظ ( صلاة ) إذا استعمله المخاطب بعرف الشرع في الدعاء .
  والعرفي نوعان : العرفي الخاص كلفظ ( فعل ) إذا استعمله المخاطب بعرف النحو في الحديث ، والعرفي العام كلفظ ( دابة ) إذا استعمله المخاطب بالعرفي العام في الإنسان (1) .
  وأما المجاز المركب فهو اللفظ المركب المستعمل فيما شبه بمعناه الأصلي بشبيه التمثيل للمبالغة في التشبيه ، أي : بشبيه إحدى صورتين منتزعتين من أمرين أو أمور ، لأمر واحد كما في قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ) (2) .
  فإنه لما كان التقدم بين يدي الرجل خارجا عن صفة المتابع له ، صار النهي عن التقدم متعلقا باليدين مثلا للنهي عن ترك الأتبعاع (3) .
  وهذا جار في الجاز المرسل الذي هو جزء من المجاز اللغوي .
  إذن ما ابداه القزويني في هذا التفريع يعود الى الأصل في المجازين المذكورين ليس غير .
  نعم هناك ادعاء مجاز جديد أرجأنا الحديث عنه الى هذا الموضع من البحث ، لأن لها معه متابعة قد تطول ، ولأن تشعباته وأنواعه كثيرة متشابكة ، ولا بد لنا من الإشارة إليها جميعا لإثبات أنها ليست أنواعا جديدة على المجاز ، ولا تخرج عن شقيه الأصليين العقلي واللغوي ، هذا المجاز ذكره عز الدين بن عبد السلام ( ت : 660 هـ ) وسماه ( مجاز

--------------------
(1) ظ : القزويني ، الإيضاح : 395 تحقيق الخفاجي .
(2) الحجرات : 1 .
(3) ظ : القزويني ، الإيضاح : 438 وما بعدها .

مجاز القرآن وخصائصه الفنية وبلاغته العربية _ 73 _
  اللزوم ) (1) ، ونحن نذكر أنواعه عنده وتعقب على كل نوع .
  وقد أطنب في دكر أنواعه وتعدادها ، وبعد مدارستها وجدناها من أجزاء المجازين العقلي واللغوي ، واشتمل بعضها على جزء من الكناية ، وهو يرفض أن تكون الكناية من المجاز (2) .
  أما أنواع ( مجاز اللزوم ) فهي عنده (3) .
  1 ـ التعبير بالإذن عن المشيئة ، لأن الغالب أن الإذن في الشيء لا يقع إلا بمشيئة الإذن واختياره ، والملازمة الغالبة مصححة للمجاز ، ومن ذلك قوله تعالى : ( وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ ) (4) .
  أي بمشيئة الله ، ويجوز في هذا أن يراد بالاذن أمر التكوين ، والمعنى ( وما كان لنفس أن تموت الا بقول الله موتي ) .
  وهذا من المجاز العقلي ، وعلاقته السببية كما هو واصح ، أو أنه من المجاز المرسل باعتبار الإذن تعبيرا عن المشيئة وعلاقته السببية أيضا .
  2 ـ التعبير بالإذن عن التيسير والتسهيل في مثل قوله تعالى : ( وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ ) (5) .
  أي بتسهيله وتيسيره ، وهذا من المجاز اللغوي المرسل ، وعلاقته السببية ، أي بسبب من مشيئة الله تعالى وتيسيره وتسهيله .
  3 ـ تسمية ابن السبيل في قوله تعالى : ( وَابْنِ السَّبِيلِ ) (6) لملازمته الطريق ، وهذا من المجاز العقلي ، ووجهه وعلاقته من باب تسمية الحال باسم المحل ، وذلك لكونه موجود في السبيل .
  4 ـ نفي الشيء لانتفاء ثمرته وفائدته للزومهما عنه غالبا في مثل قوله

--------------------
(1) عز الدين بن عبد السلام ، الإشارة الى الإيجاز : 79 .
(2) المصدر نفسه : 85 .
(3) المصدر نفسه : 79 ـ 85 .
(4) آل عمران : 145 .
(5) البقرة : 221 .
(6) البقرة : 177 .

مجاز القرآن وخصائصه الفنية وبلاغته العربية _ 74 _
  تعالى : ( كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ ) (1) .
  أي وفاء عهد أو تمام عهد ، فنفى العهد لانتفاء ثمرته ، وهو الوفاء والاتمام .
  وهذا التعليل وإن كان واردا ، ولكن المراد قد يكون ـ والله العالم ـ من باب الكناية ، أي أن المشركون غدرة ، فعبّر بعدم الوفاء بالعهد كناية عن الغدر الذي اتصفوا له ، والكناية ليست من المجاز حتى عند المصنف رحمه الله .
  5 ـ التجوز بلفظ الريب عن الشك ، لملازمة الشك القلق والاضطراب ، فإن حقيقة الريب قلق النفس ، ومن ذلك قوله تعالى : ( لا رَيْبَ فِيهِ ) (2) أي لا شك في إنزاله أو في هدايته .
  وهذا ـ والله العالم ـ من باب الكناية ، أي اطمئنوا للقرآن ، ولا تقلقوا ، ولا تضطربوا ، فإن من شأن الريب القلق والاضطراب .
  والريب مصدر من رابني ، بمعنى الشك ، وهو أن نتوهم بالشيء أمرا مريبا فينكشف الأمر عما تتوهم ، وبمعنى الريبة ، وحقيقتها : قلق النفس واضطرابها وعدم اطمئنانها ، ومنه ما أورده الزمخشري عن الإمام الحسن بن علي عليهما السلام أنه قال : ( سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : ( دع ما يريبك الى ما لا يريبك ) ، فإن الشك ريبة ، وإن الصدق طمأنينة ، اي فإن كون الأمر مشكوكا فيه مما تقلق له النفس ولا تستقر ، وكونه صحيحا صادقا مما تطمئن له وتسكن ) (3) .
  6 ـ التعبير بالمسافحة عن الزنا لأن السفح صب المني ، وهو ملازم للجماع غالبا ، ولكنه خص بالزنا إذ لا غرض فيه سوى صب المني ، بخلاف النكاح فإن مقصوده الولد والتعاضد والتناصر بالاختان والأصهار ، والأولاد والأحفاد ، ومثاله في قوله تعالى :

--------------------
(1) التوبة : 7 .
(2) البقرة : 2 .
(3) الزمخشري ، الكشاف : 1/ 113 .

مجاز القرآن وخصائصه الفنية وبلاغته العربية _ 75 _
  ( مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ ) (1) أي : غير مزانين .
  وهذا أن كان الأمر كما ذكره ، فهو تعبير بالكناية المهذبة فقد ذكر المسافحة وأراد لازمها .
  7 ـ التعبير بالمحل عن الحال لما بينهما من الملازمة الغالبة كالتعبير : باليد عن القدرة والاستيلاء ، والعين عن الإدراك ، والصدر عن القلب وبالقلب عن العقل ، وبالأفواه عن الألسن ، وبالالسن عن اللغات ، وبالقرية عو قاطنيها ، وبالساحة عن نازليها ، وبالنادي والندي عن أقلهما ، وقد ورد كل ذلك في القرآن الكريم .
  وهذا كله قسيم بين المجازين اللغوي والعقلي في القرآن الكريم ، وهما جوهر المجاز القرآني ، فالتعبير باليد عن القدرة والاستيلاء ، وبالعين عن الإدراك ، وبالصدر عن القلب ، وبالقلب عن العقل ، وبالأفواه عن الالسن ، وبالألسن عن اللغات ، كله من المجاز اللغوي المرسل ، باعتباره نقلا عن الأصل اللغوي بقرينة لإرادة المجاز ، مع بقاء المعنى اللغوي على ماهيته ، وإضافة المعنى الجديد إليه .
  والتعبير بالقرية عن قاطنيها ، وتوابع ذلك ، كله من المجاز العقلي ، فالقرية لا تسأل جدرانها بل سكانها ، فيكون التقدير أهل القرية ، وما استفيد هنا لم يكن بقرينة لفظية مقالية ، وإنما بقرينة معنوية حالية ، حكم بها العقل في الإسناد .
  8 ـ التعبير بالإرادة عن المقاربة ، لأن من أراد شيئا قربت مواقعته إياه غالبا ، ومن ذلك قوله تعالى : ( فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ ... ) (2) .
  وهذا من المجاز العقلي ، فليس الجدار كائنا مريدا ، ولا هو بقادر على هذا الفعل ، وقد أدركنا بالضرورة العقلية ، ومن سياق الإسناد الجملي ، أن المجاز هو الذي أشاع روح الإرادة في الجدار ، وكأنه يريد .

--------------------
(1) النساء : 24 ، المائدة : 5 .
(2) الكهف : 77 .

مجاز القرآن وخصائصه الفنية وبلاغته العربية _ 76 _
  قال أبو عبيدة : ( وليس للحائط إرادة ، ولا للموات ، ولكنه إذ كان في هذه الحال من ربّه فهو إرادته ) (1) .
  9 ـ التجوز بترك الكلام عن الغضب ، لأن الهجران وترك الكلام يلازمان الغضب غالبا ، ومنه قوله تعالى : ( وَلا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ ) (2) .
  وهذا ـ والله العالم ـ تعبير بالكناية ، ولا علاقة له بالمجاز ، فعبّر بعدم الكلام عن الغضب والانتقام والمجازاة .
  10 ـ التجوز بنفي النظر عن الإذلال والاحتقار ، كقوله تعالى : ( وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) (3) .
  وهذا من الكناية أيضا للتعبير عن ازدرائهم ، وعدم رضاه عنهم ، وليس لله جارحة فينظر بها إليهم ، فهو بصير بغير عين ، وسميع بغير أذن وهو على العكس من قوله تعالى : ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ) (4) فهؤلاء قد أنعم الله عليهم بنضرة النعيم ، فنظروا الى رحمته ورأفته ، وتطلعوا الى حسن ثوابه ومجازاته ، وتوقعوا لطف عنايته ورعايته ، فكان ذلك نظرا الى عظيم إحسانه ، وكريم أنعامه ، إذ ليس الله جسما ، أو قالبا ، أو مثالا ، حتى ينظروا إليه ، فعدم نظره تعالى الى الكافرين متقارب من نظر المؤمنين إليه من جهة الكناية الهادفة .
  وقد يكون ذلك مجازا مرسلا بإضافة عدم العناية والرعاية ، وإرادة الإحتقار والإذلال ، معنى جديدا الى عدم النظر ، وهو عكسه في الآيتين التاليتين .
  11 ـ الحادي عشر : التجوز باليأس عن العلم ، لأن اليأس من نقيض العلوم ملازم للعلم غير منفك عنه ، كقوله تعالى : ( أَفَلَمْ يَيْئَسْ الَّذِينَ آمَنُوا

--------------------
(1) أبو عبيدة ، مجاز القرآن 1/ 410 .
(2) البقرة : 174 .
(3) آل عمران : 77 .
(4) القيامة : 22 ـ 23 .

مجاز القرآن وخصائصه الفنية وبلاغته العربية _ 77 _
  أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً ) (1) فإن كان هذا مجازا فهو مجاز مرسل إذ أضاف معنى ثانويا للفظ اللغوي ، أو هو ـ والله العالم ـ من قبيل استعمال الأضداد باللغة ، فيأتي التيئيس بمعنى العلم ، وبمعنى عدم العلم وانقطاع الأمل ، وعلى هذا فلا علاقة له بالمجاز .
  12 ـ التعبير بالدخول عن الوطء لأن الغالب من الرجل إذا دخل بإمرأته أنه يطؤها في ليلة عرسها ، ومنه قوله تعالى : ( وَرَبَائِبُكُمْ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ ... ) (2) .
  وهذا من باب التعبير بالكناية المهذبة ، وليس من المجاز في شيء فاستعمل الدخول ، وأراد لازمه وهو الوطء ، تهذيبا للعبارة ، وصونا للحرمات .
  13 ـ وصف الزمان بصفة ما يشتمل عليه ويقع فيه كقوله تعالى : ( فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ ) (3) .
  وهذا من الجاز اللغوي / المرسل ، وهو من باب إسناد الفاعلية ، أو الصفة الثبوتية للزمان لمشابهته الفاعل الحقيقي ، فقد أسند العسرة الى اليوم ووصفه بها ، واليوم دال على زمن من الأزمان ، ولا تستند اليه صفة الفاعلية إلا مجازا ، وكأنه يريد فذلك يومئذ يوم ذو عسرة ، تعبيرا عما يجري فيه من المكاره والشدائد ، والله سبحانه هو العالم .
  14 ـ وصف المكان بصفة ما يشتمل عليه ويقع فيها ، كقوله تعالى : ( رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً ) (4) .
  وهذا هو المجاز العقلي فيما يظهر لي ، فالأمن لا يلحق بالبلد وإنما بأهل البلد ، وما قيل في قوله تعالى : ( وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ ) (5) ، يقال هنا .

--------------------
(1) الرعد : 31 .
(2) النساء : 23 .
(3) المدثر : 9 .
(4) إبراهيم : 35 .
(5) يوسف : 82 .

مجاز القرآن وخصائصه الفنية وبلاغته العربية _ 78 _
  15 ـ ( وصف الأعراض بصفة من قامت به ، كقوله تعالى : ( فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ ) (1) ، والعزم صفة لذوي الأمر ، وقوله تعالى : ( فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ ) (2) وصف التجارة ، وهو صفة للتاجر ) .
  وهذا من المجاز العقلي في الآيتين الكريمتين : فالمراد من الآية الأولى ـ والله العالم ـ عزم ذوي الأمر على تنفيذ الأمر ، فليس للأمر إرادة على العزم ، وليس العزم مما يسند فعله الى الأمر ، وفي الآية الثانية : الربح مجازي فيها ، ولا يراد به الزيادة على رأس المال في المتاجرة ، والتجارة فيها مجازفة ، فلا يراد بها المعاملات السوقية في شتى البضائع ، وإنما المراد بالربم تحقيق المعنى المجازي منه بالفائدة المتوخاة في إنفاق الأعمار وعدم خسرانها ، والمراد بالتجارة المعنى المجازي منها بالإثابة والمثابرة وصالح الأعمال ، وهذا إنما يدرك بأحكام العقل من خلال إسناد الجملة ، فهو هناكما في الآية الأولى : مجاز عقلي .
  16 ـ الكنايات كقول طرفة :

ولـست بـحلال الـتلاع iiمـخافة      ولكن متى يسترفد القوم أرفد
  وقد أقر أن هذا من الكناية وعقب عليه بقوله : ( والظاهر أن الكناية ليست من المجاز ، لأنك استعملت اللفظ فيما وضع له ، وأردت به الدلالة على غيره ، ولم تخرجه عن أن يكون مستعملا فيما وضع له ) (3) .
  وبعد هذه الجولة مع توجيهات صاحب الإشارة الى الإيجاز ( فمجاز اللزوم ) لا لزوم له ، لأنه ـ كما رايت ـ إما أن يكون خارجا من باب المجاز ، وإما أن يكون تفريعا عن شقي المجاز ، كما يبدو هذا من التعقيل على كل نوع من أنواعه .

--------------------
(1) محمد : 21 .
(2) البقرة : 16 .
(3) عز الدين بن عبد السلام ، الإشارة الى الإيجاز : 85 .

مجاز القرآن وخصائصه الفنية وبلاغته العربية _ 79 _
  وهنالك أقسام أخرى تدور في هذا الفلك أعرضنا عن إيرادها ، لأنها لا تعدو القسيمين المجازيين .

4 ـ مجاز القرآن : عقلي ولغوي
  بعد هذا العرض والتحقيق نتمكن أن نقول مطمئنين ان المجاز في القرآن قسمان : لغوي وعقلي ، فاللغوي ما استفيد فهمه عن طريق اللغة وأقل اللسان بما يتبادر اليه الذهن العربي عن الإطلاق في نقل اللفظ من معناه الأولي الى معنى ثانوي جديد ، والعقلي ما استفيد فهمه عن طريق العقل ، وسبيل الفطرة من خلال أحكام طارئة ، وقضايا يحكم بها العقل لدى إسناد الجملة ، وسيأتي التحقيق في القسمين في موضعهما المناسب (1) .
  والطريف أن نشاهد السكاكي ( ت : 626 هـ ) منكرا للمجاز العقلي تارة ومثبتا له تارة أخرى (2) .
  وقد وافقه على ذلك القزويني ( ت : 739 هـ ) وعدّه مجازا بالإسناد ، وقد أخرجه من علم البيان ، وأدخله في علم المعاني ، متناسيا أن المجاز العقلي إنما يدرك بالإسناد بينما نجده معترفا به ، ومعقبا لأقسامه وتشعباته بعد حين ، مما يعني عدم وضوحه لديه (3) .
  وقد تابع هذا التأرجح صاحب الطراز فقال : ( والمختار أن المجاز لا مدخل له في الأحكام العقلية ، ولا وجه لتسمية المجاز بكونه عقليا ، لأن ما هذا حاله إنما يتعلق بالأوضاع اللغوية دون الأحكام العقلية ) (4) .
  وهذا الإخراج للمجاز العقلي لا يستند الى قاعدة بلاغية ، وتعارضه دلائل الاحوال ، لأن المجاز العقلي هو طريق البلاغيين في الأستنباط ، وسبيلهم الى اكتشاف المجهول بنوع من التأول والحمل العقلي ، ويتم ذلك

--------------------
(1) ظ : فيما بعد الفصل الرابع والفصل الخامس .
(2) ظ : السكاكي ، مفتاح العلوم : 194 ـ 198 .
(3) ظ : القزويني ، الإيضاح : 97 وما بعدها .
(4) العلوي ، الطراز : 1/ 25 .

مجاز القرآن وخصائصه الفنية وبلاغته العربية _ 80 _
  بالاستجلاء لأحكام الجملة في التراكيب ، وإن بقيت الكلمات على حقيقتها اللغوية دون تجوز ، وإليه يميل الزركشي ( ت : 794 هـ )بعده المجاز العقلي هو الذي يتكلم به أهل الصنعة بقوله عنه : ( وهو أن تستند الكلمة الى غير ما هي له أصالة لضرب من التأويل ، وهو الذي يتكلم به أهل اللسان ) (1) .
  وقد كان عبد القاهر ـ كما سنرى فيما بعد ـ قد أولى هذا النوع من المجاز عناية فائقة ، واعتبر كنزا من كنوز البلاغة ، وهو مادة الإبداع عند الكتاب والشاعر ، وسبيل الاتساع في طرق البيان ، قال : ( وهذا الضرب من المجاز على جدته كنز من كنوز البلاغة ،ومادة الشاعر المفلق ، والكتاب البليغ في الإبداع والإحسان ، والاتساع في طرق البيان ، وأن يجيء بالكلام مطبوعا مصنوعا ، وأن يضعه بعيد المرام ، قريبا من الإفهام ) (2) .
  وليس ملزما لأحد ما ذهب بعضهم من أن المجاز العقلي من مباحث علم الكلام ، وأولى أن يضم إليه ، لأنه من كما اتضح من تفصيلات عبد القاهر ، وإشارات القزويني ، يعد كنزا من كنوز البلاغة ، وذخرا يعمد إليه الكاتب البليغ والشاعر المفلق والخطيب المصقع ، وليس أدل على ذلك من أن القدماء استعملوا في كلامهم ، وأن القرآن الكريم حفل بألوان شتى منه ، وأن البلاغيين والنقاد أشاروا إليه وذكروا أمثلته ، وإن لم يطلق عليه الإسم إلا موخرا على يد عبد القاهر ، وهذا كله يدل على أن المجاز العقلي لون من ألوان التعبير ، وأسلوب من أساليب التفنن في القول ، ولا يخرجه من البلاغة إفساد المتأخرين له ، وإدخال مباحث المتكلمين فيه عند تعرضهم للفاعل الحقيقي (3) .
  وقد كان سعد الدين التفتازاني ( ت : 791 هـ ) موضوعيا حينما رد القزويني لإدخاله المجاز العقلي في مباحث علام المعاني فقال : ( لان علم المعاني إنما يبحث عن الأحوال المذكورة من حيث أنها يطابق بها اللفظ مقتضى الحال ، وظاهر أن البحث في الحقيقة والمجاز العقليين ليس من

--------------------
(1) الزركشي ، البرهان : 2/ 256 .
(2) عبد القاهر ، دلائل الإعجاز : 295 تحقيق : محمود محمد شاكر .
(3) أحمد مطلوب ، فنون بلاغية : 109 .

مجاز القرآن وخصائصه الفنية وبلاغته العربية _ 81 _
  هذه الحيثية فلا يكون داخلا في علم المعاني ، وإلا فالحقيقة والمجاز اللغويان أيضا من أحوال المسند إليه أو المسند ) (1) .
  وأما المجاز اللغوي فلا يختلف إثنان بأنه الأصل الموضوعي للمجاز ، ولما كان المجاز اللغوي ـ كما أسلفنا ـ ذا فرعين في التقسيم البلاغي ، لأن مجاله رحاب اللغة في مرونة الاستعمال ، وصلاحيتها في الانتقال من معنى مع وجود القرينة الدالة على المعنى الجديد لوجود المناسبة بينه وبينها ، وتوافر الصلة بين المعنى الأولي والمعنى الثانوي ، فأن كانت العلاقة المشابهة بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي ، فهو الاستعارة ، ولا حديث لنا معها إلا لماما لأن التفريق الدقيق يقتضي رصدها بمفردها ، لأنه حقيقة بذاتها ، فهي استعارة وكفى ، وإن لم يكن العلاقة بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي هي المشابهة ، فهو المجاز المرسل ، وحديثنا عن المجاز اللغوي حديث عنه ، وحديثنا عن المجاز القرآني سيكون مقتصرا عليه وعلى المجاز العقلي ، لأننا قد وجدنا القرآن بحق قد استوعب نوعي المجاز العقلي واللغوي لدى التنظير ، أو عندما تستخرج جواهرها من بحره المحيط .
  وسنقف عند هذين النوعين وقفة الراصد المتأني ، بعد أن نعطي صورة واضحة بقدر المستطاع عن الخصائص الفنية في مجاز القرآن بعامة .

--------------------
(1) التفتازاني ، المطول : 54 .

مجاز القرآن وخصائصه الفنية وبلاغته العربية _ 83 _
الفصل الثالث : مجاز القرآن وخصائصه الفنية
  1 ـ خصائص المجاز الفنية
  2 ـ الخصائص الأسلوبية في مجاز القرآن
  3 ـ الخصائص النفسية في مجاز القرآن
  4 ـ الخصائص العقلية في مجاز القرآن

مجاز القرآن وخصائصه الفنية وبلاغته العربية _ 85 _
1 ـ خصائص المجاز الفنية
  لاشك أن اللغة العربية الفصحى تتمتع بخصائص ومزايا بلاغية متعددة ، تتمثل بالمعاني تارة ، وإن حملنا المعاين على معاني النحو بخاصة ، وبالبيان العربي تارة أخرى ، ونريد به أركانه الكبرى كما سيأتي ، وبجرس الألفاظ ومصطلحات البديع والمحسنات لفظية ومعنوية أحيانا إلا أن علم البيان بأركانه الأربعة : المجاز ، التشبيه ، الاستعارة ، الكناية هو ملتقى هذه الخصائص ، وعماد تلك المزايا .
  فالمجاز بقسمة : العقلي واللغوي ، والتشبيه بأسسه : المشبه ، المشبه به ، وجه الشبه ، أداة التشبيه ، والاستعارة بأصول الشبه الاستعاري : الحسيين ، العقليين ، الحسي في المشبه والعقلي في المشبه به ، وبالعكس ، مضافا الى أقسام الاستعارة ، التمثلية ، والتصريحة ، والمكنية والأصلية ، والتبعية ... الخ .
  والكناية بتعبيرها المهذب ، في أقسامها كافة ، كناية الصفة ، كناية الموصوف ، كناية النسبة ، وبأرتباطها الفني والبلاغي في كل من التعريض والرمز .
  هذه المفردات والتوابع والفروع والأقسام والأصناف المتشبعة المتطاولة ، لو أردنا رطها واحد متميز ، ولو حاولنا حصرها بفن من الفنون لكان ذلك المجاز بل المجاز وحده ، إذ يصح إطلاقه ـ بإطاره العام ـ عليها ، كما هي الحال عند الرواد من الأعلام لذلك فالمجاز يحتل الصدارة في إطار هذه الفنون ، ويشكل الظل المكثف في أفياء هذه الخيمة البلاغية ، حتى ليصح لنا أن نسمي لغتنا العربية بلغة المجاز بالمعنى الذي أشار إليه المرحوم الأستاذ العقاد بقوله : ( اللغة العربية لغة المجاز ،

مجاز القرآن وخصائصه الفنية وبلاغته العربية _ 86 _
  لا لأنها تستعمل المجاز ، فكثير من اللغات تستعمل المجاز كما تستعمله اللغة العربية ، ولكن اللغة العربية تسمى لغة المجاز لأنها تجاوزت بتعبيرات المجاز حدود الصور المحسوسة الى المعاني المجردة ، فيستمع العربي الى التشبيه فلا يشغل ذهنه بأشكاله المحسوسة إلا ريثما ينتقل منها الى المقصود من معناه ) (1) .
  لذلك نميل الى أن اللغة العربية ـ دون سواها من لغات العالم ـ تتميز بخصائص بلاغية ، والبلاغة العربية ـ وهي الأصل في البلاغة العالمية دون تأثير إغريقي أو أجنبي ـ تتمتع بخصائص فنية ، والمجاز في صيغيته البيانية يحتضن كلا من الخصائص في اللغة والبلاغة معا ، لأن أصل البلاغة المجاز ، واللغة العربية لغة المجاز ، فصغروية المقارنة بكبرويتها أوصلت الى هذه النتيجة البديهية ضرورة كما هو تعبير المناطقة في استخلاص الحقائق وبرمجتها منطقيا في شؤون الاستدلال قياسيا أو بديهيا .
  ولا غرابة في هذا الملحظ الاستقرائي لطبيعة الأشياء ، فالمجاز فن أصيل في لغة العرب ، له مقاييسه الفنية ، ومعاييره القولية عند العرب بخاصة ، لأنه يعنى بإرادة المعاني المختلفة ، وهم يميلون الى هذا الموروث الحضاري ، وهو يعنى أيضا بتقليب وجوه اللفظ الواحد لا في الأشياء والنظائر بل في المعاني الثانوية ، فينتقل باللفظ من وضعه الأصلي المحدد له مركزيا ، الى وضع جديد طارىء عليه تجدده العلاقات الفنية ، وهذا من أهم الخصائص التي يمتاز بها المجاز ويؤهله للتوسع في اللغة ، وذلك بإضافة المعاني الجديدة الى نفس اللغة بنفس الألفاظ مرتبطة بأصول بلاغية لا تخرجها عن دلالتها الأولى في جذورها اللغوية في أصل الوضع ، بل تضيفها اليها توسعا بإرادة المعاني الثانوية هذه ، ولا تكون هذه الإرادة إلا بمناسبة ، ولا المعاني المستحدثة إلا بقرينة ، وبذلك يتحدد الاستعمال المجازي وتحدد دلالته أيضا بضوابط أساسية تدفع عنه النبو والارتجال ، وتحفظه من الأغراب والابتعاد عن الذائقة الفطرية عند المتلقي ، فقد يكون القمر وجها ، والجبل وقارا ، والغصن اعتدالا ، والبان قواما ، ولكن لا

--------------------
(1) عباس محمود العقاد ، اللغة الشاعرة : 40 .