تأليف
الدكتور محمد حسين علي الصغير
اُستاذ الدّراسات القرآنية في جامعة الكوفة




بسم الله الرحمن الرحيم

المقدمة
  هذه دراسة منهجية لمعلم بارز من معالم البلاغة القرآنية ، تحتضن ( مجاز القرآن ) في خصائصه الفنية وبلاغته العربية ، وتمتد لجذوره الأولى بالبحث والكشف ، وتستوعب أصنافه البيانية بالإيضاح والإبانة ، أخذت من القديم أصالته وروعته ، واستلهمت من الحديث تطوره ومرونته ، فانتظم هذا وذاك في مناخ تصويري متكامل ، يعنى من مجاز القرآن بالعبارة حينا ، وبالأسلوب حينا آخر ، وبألفاظ فيما بينهما ، ويخلص في مهمته الى رصد القدرة الإبداعية الناصعة ، ولمس الأداء التعبيري المتطور في لغة القرآن العظيم .
  ويعود السبب في اختيارنا ( مجاز القرآن ) مادة لهذا البحث ، جدة موضوعة ، ودقة أبعاده ، ووفرة خصائصه ، مما يوصلنا الى المغلق في هذا الفن ، ويوقفنا على المجهول من هذا المنظور . لقد بحث مجاز القرآن على صعيد لغوي خالص عند القدامى ، ولم تمتد يد الباحثين الى قيمته البلاغية عملا مستقلا ، ولم نجد من حقق القول في حدّه الاصطلاحي أو بعده الموضوعي ، أو أصالته البيانية ، بل كان موضوعه في البحث باعتباره أصلا لغويا في المفردات ، ومعبرا تفسيريا للكلمات تلك مظنة كتب معاني القرآن ، ومعاجم غريب القرآن .
  وكان لا بد لهذه القاعدة أن تشذ ، ولهذا الإطراد أن يتزلزل ، فجاء ( تلخيص البيان ) للشريف الرضي ( ت : 406 هـ ) متخصصا في مجازات القرآن ، ولكنه المجاز بالمعنى العام الذي يشمل الأستعارة والتمثيل والتشبيه والكناية والتورية في جملة ما ورد عرضه فيه مؤكدا الأستعارة ان لم يكن

مجاز القرآن وخصائصه الفنية وبلاغته العربية _ 6 _

  قاصدا اليها بالذات باسطلاح المجاز ، وباستثناء هذه البادرة التي أفردت المجاز القرآني بالمعنى الموما إليه في كتاب خاص ، فقد وجدنا ( مجاز القرآن ) في مصنفات الرواد الأوائل ، قد ورد عرضا في الاستطراد ، أو جاء فصلا من باب ، أو استغرق بابا في كتاب .
  ومن هنا كانت القيمة الفنية لم تتوافر مظاهرها على الأقل في جهد متميز في ( مجاز القرآن ) فلم تتضح أجزاؤه البلاغية في كتب المفسرين والبيانيين معا ، لأنه يبحث جزءا من كلي إعجاز القرآن ، وحسن نظمه ، وجودة تأليفه ، واشتماله على مفردات بلاغة العرب في أفضل الوجوه ، وذلك عند علماء التفسير وإعجاز القرآن ، وقد يفرد في فصل عائم في الخضم البلاغي المتلاطم باعتباره أحد أمثلة البيان ، والبيان والمعاني والبديع أركان البلاغة عند البالغيين القدامى .
  أما الدراسات الحديثة فمع اهتمامها بالقرآن ، الا أنها فيما يبدو لي أهملت مجازه إهمالا ملحوظا يحسّ به الباحث لدى الأستقراء ، وقد لا يكون هذا الإهمال مقصودا اليه ، وإنما جاء نتيجة طبيعية لدراسته ضمن فصول البيان العربي وهي : المجاز والتشبيه والأستعارة والكناية ، فكان فرعا من أصل ، ومفردة من علم ، ولم يحظ بدراسة مستقلة تهدف الى سبر حسّه النقدي ، وإيحائه اللفظي ، وثروته اللغوية ، وعمقه البياني ، وتنميته الجمالية ، وهو ما تحاوله هذه الدراسة .
  وكانت منهجية هذه الدراسة تتمثل في خمسة فصول :
  الفصل الأول : وهو بعنوان : مجاز القرآن في الدراسات المنهجية ، وهو فصل تاريخي بلاغي بآن واحد ، تتبع مجاز القرآن عند الروّاد الأوائل ، وتمحض له بإطاره البلاغي العام ، ووقف عند ثمراته في مرحلة التأصيل ، وتحدث عنه في جهود المحدثين .
  الفصل الثاني : وهو بعنوان : مجاز القرآن وأبعاده الموضوعية ، وهو فصل تحليلي في ضوء النقد الموضوعي ، بحث : حقيقة المجاز بين اللغة والاصطلاح ، ووقوع المجاز في القرآن الكريم ، وتقسيم المجاز القرآني وتعدد القول فيه ، والخلوص الى ان مجاز القرآن : عقلي ولغوي فحسب ،

مجاز القرآن وخصائصه الفنية وبلاغته العربية _ 7 _
  وحدد بذلك هويته ، وأرسى أسس منهجيته .
  الفصل الثالث : وهو بعنوان : مجاز القرآن والخصائص الفنية ، وكان هذا الفصل غنيا بالأصول النقدية ، وحافلا بالاستنباط البياني ، فبحث بعمق وتنظير : خصائص المجاز الفنية ، وكانت تلك الخصائص في مجاز القرآن : أسلبية ونفسية وعقلية .
  الفصل الرابع : وهو بعنوان : المجاز العقلي في القرآن ، وكان هذا الفصل ثريا ببيان وبلاغة المجاز القرآني في ضوء : تشخيص المجاز العقلي في القرآن وعند العرب ، ورصد المجاز العقلي في القرآن بين الإثبات والإسناد ومعانيه قرينة المجاز العقلي في القرآن ، وتوجيه علاقات المجاز العقلي في القرآن .
  الفصل الخامس : وهو بعنوان : المجاز اللغوي في القرآن ، وكان هذا الفصل ميزانا لقيمة الثروة الإضافية التي سيّرها مجاز القرآن ، ومعيارا لسيرورة البلاغة العربية التي حفل بها مجاز القرآن ، وذلك من خلال مباحثه التطبيقية : المجاز اللغوي بين الأستعارة والإرسال ، انتشار المجاز اللغوي المرسل في القرآن ، ملامح عن علاقة المجاز اللغوي المرسل في القرآن .
  هذه الفصول الخمسة بما اعتمدته من منهج عربي تراثي ، اختص الأول منها بمسيرة المجاز القرآني منذ نشوء الحديث عنه حتى العصر الحاضر ، واستلهم الفصل الثاني منها حدود المجاز الاصطلاحية ، وتقسيماته البيانية ، وأبعاده الموضوعية ، ووقف الفصل الثالث منها عند الخصائص الفنية الكلية في مجاز القرآن ، وتمحض الرابع والخامس لشؤون البلاغة العربية في مجاز القرآن ، فطرح ما هو طارىء عليها ، وأكد على الموروث القرآني بخاصة .
  وكانت مصادر هذا البحث ومراجعه ، تهتم بالأصيل عند القدامى والجديد عند المحدثين ، فكانت كتب البلاغة والتفسير واللغة واليقد والأدب وعلوم القرآن ، رافدا يستمد منه البحث ريادته في استقراء الحقائق ، واستكناه المجهول ، وإضاءة المنهج .

مجاز القرآن وخصائصه الفنية وبلاغته العربية _ 8 _
  ولا أدعي لهذا البحث الكمال ، فالكمال لله وحده ، ولكنه ألق من شعاع القرآن ، ونفح من عبير أياته ، وقبس من رصين عباراته ، أخلصت فيه القصد لله عزّ وجلّ ، عسى أن ينتفع به الناس وأنتفع : ( يَوْمَ لا ينفع مَالٌ وَلا بَنُونَ * إلاّ مَنْ أتى الله بِقَلّبِ سَلِيمِ ) .
  وما توفيقي إلا بالله العلي العظيم عليه توكلت وإليه أنيب ، وهو حسبنا ونعم الوكيل .
  النجف الأشرف .
  الدكتور محمد حسين علي الصغير
  أستاذ في جامعة الكوفة

مجاز القرآن وخصائصه الفنية وبلاغته العربية _ 9 _
الفصل الأول : مجاز القرآن في الدراسات المنهجية
  1 ـ مجاز القرآن عند الروّاد الأوائل
  2 ـ مجاز القرآن بإطاره البلاغي العام
  3 ـ مجاز القرآن في مرحلة التأصيل
  4 ـ مجاز القرآن في دراسات المحدثين

مجاز القرآن وخصائصه الفنية وبلاغته العربية _ 11 _
1 ـ مجاز القرآن عند الروّاد الأوائل :
  سحر العرب بجمال القرآن وجلالته ، وبهروا بروعته وحسن بيانه ، ووقفوا عند جزئياته البلاغية ، واستعذبوا نوادر استعمالاته في فن القول ، ذلك ما شكل عندهم ذائقة لغوية متأصلة ، وأمدّهم بحاسة نقدية متمكنة تتجه بالبيان العربي الى موكب الزحف الدلالي المتطور ، وتدفع بالمنهج البلاغي الى المناخ الموضوعي المطمئن ، فحدب علماؤهم على هذا العطاء ، الجديد يقتطفون ثماره ، وعمدوا الى هذا السبيل يجددون آثاره ، فكان نتيجة لهذا الجهد المتواصل البنّاء ... رصد المخزون الحضاري في تراث القرآن البلاغي واللغوي ، وبدأ التصنيف في هذا المخزون يتجدد ، والتأليف بين متفرقاته يأخذ صيغة الموضوعية ، فنشأ عن هذا وذاك حشد بياني من المصطلحات ، وتبلور فضل تدقيق في شتى المعارف الإنسانية ، وتوارث الخلف عن السلف محور الأصالة في التحقيق ، كانت عائديته الأبتعاد بالتراث اللغوي عن التعقيد والغرابة والأسفاف ، والصيانة له عن الانحطاط والتدهور والضياع ، والأزدلاف به عن الوحشي والتنافر والدخيل .
  وكان القرآن الحكيم أساس هذا الإصلاح ، ومادة هذا التطور في مثله اللغوية وأسراره العربية ، وما دام الأمر هكذا فالعرب والمسلمون بإزاء الكشف عن خبايا هذا الكتاب وكنوزه ، ودراسة مختلف قضاياه الفنية .
  وقد كان الأمر كذلك ، وكان التوجه للقرآن الكريم بهذه النظرة الفاحصة منذ عهد مبكر ، فعكف المسلمون على جمعه وتدوينه وتوحيد قراءاته ، وكان أن ضمّت جميع آياته الى سوره ، وجمعت كل سوره في المصحف وبدأ تدارسه في نزوله وأسبابه وتشكيله ، وحفظه في الصدور وعلى السطور ، فكان ما فيه متواترا دون ريب ، وسليما دون منازع ، تحقيقا

مجاز القرآن وخصائصه الفنية وبلاغته العربية _ 12 _
  لقوله تعالى ( إنا نحن نزّلنا الذّكر وإنّا له لحافظون ) (1) .
  وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا .
  كان هذا الجهد المتميز قد بدأه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالذات ، فكان الأثر مصانا ، والتنزيل ، كما هو ـ لا زيادة فيه ولا نقصان ، والكتاب في سلامة بكل تفصيلاته التدوينية والجمعية والشكلية (2) .
  وبدأت مدارس التفسير الأولى في كل من مكة والمدينة والكوفة والبصرة ، ترفد العالم الإسلامي بسيل من المعارف لا ينضب ، وتنير أمام الدارسين الدرب بمصابيح من الهداية لا تخبو .
  وكان الأئمة والصحابة والتابعون ومن اتبعهم بإحسان ، يعبّدون الطريق بين يدي المتعلمين والباحثين والمصنفين ، حتى اتسع مجال التفسير ، وتعدد منهج التأويل ، وكثر طلاب العلم ، وأخذ كل بمبادرة التّحصيل ، فوضح السبيل ، وانتشرت الثقافات (3) .
  وكان وراء هؤلاء جهابذة اللغة ، وفحول العربية يحققون ويتتبّعون ، غير عابئين بثقل الأمانة وفداحة الأمر ، مشمرين السواعد لا يعرفون لينا ولا هوادة ، متناثرين حلقات وجماعات وأفرادا ، يسددون الخطى ، ويباركون السعي ، فبين مستشهد بالموروث المثلي عند العرب ، وبين منظّر بالشعر الجاهلي ، وبين مقتنص للشوارد والأوابد من كلمات القوم وحكمهم ، وبين متنقل في الحواضر والبوادي والقصبات ومساقط المياه ، يسأل ويدون ، ويصنف ويستجمع ، ويقارن ويقعّد ، كل ذلك بهدف واحد هو الاعتداد بالقرآن وتراثيته ، فضلا عن قدسيته وعظمته : كونه كتاب هداية وتشريع ، ودستور السماء في الأرض الى يوم يبعثون .
  كان ما أسلفنا موروثا حضاريا في القرنين الأول والثاني من الهجرة النبوية المباركة ، حتى إذا أطل القرن الثالث وجدنا التوجه منصبا حول لغة

--------------------
(1) الحجر : 9 .
(2) ظ : المؤلف ، تاريخ القرآن ، الفصول : جمع القرآن ، نزول القرآن ، سلامة القرآن .
الدار العالمية ، بيروت ، 1983 .
(3) ظ : المؤلف ، المبادئ العامة لتفسير القرآن الكريم ، مراحل التفسير : 131 ـ 141 .

مجاز القرآن وخصائصه الفنية وبلاغته العربية _ 13 _
  القرآن ، ومعاني مفرداته ، وسيرورة ألفاظه ، وكانت دائرة هذا الجهد اللغوي ، متشعبة في بدايات مسيرتها التصنيفية ، وإن كانت متحدة في مظاهرها الدلالية ، فالأسماء مختلفة والإنجازات متقاربة ، حتى كأن العطاء واحد في جوهره ، وإن تعددت عناوينه التي استقطبت الصيغ الآتية : ( معاني القرآن ) و ( ومجاز القرآن ) و ( غريب القرآن ) .
  وهذه الكتب على وفرتها تتحدث عن مسار اللفظ القرآني ، ودلالته لغة ، وتبادره مفهوما عربيا خالصا ، فكان ذلك معنى : مجاز القرآن وغريبه ومعانيه في سيرورة مؤدي الألفاظ في حنايا الذهن العربي ، دون إرادة الاستعمال البلاغي ، ودون التأكيد على ( المجاز ) أو ( المعاني ) في الصيغة الاصطلاحية ، أو الحدود المرسومة لدى علماء المعاني والبيان .
  لقد امتازت هذه الحقبة بالتدوين المنظّم لغريب القرآن وشوارده ، وأثرت فيما بعد بالحركة التأليفية المتفتحة في اللغة والمجاز القرآني بمئات المصنفات القيمة ، ولكن بالمعنى المشار اليه آنفا ، دون المعنى البياني .
  هناك جمهرة لامعة من كتب المعاني لأعلام العرب ، وأئمة اللغة ، وفطاحل النحو ، تتوجه تلك الحقبة الذهبية ، ويمكن ترتيبها على النحو الآتي :
  1 ـ معاني القرآن ... لأبي جعفر الرؤاسي
  2 ـ معاني القرآن ... لعلي بن حمزة الكسائي
  3 ـ معاني القرآن ... ليونس بن حبيب النحوي
  4 ـ معاني القرآن ... ليحيى بن زياد الفراء
  5 ـ معاني القرآن ... لمحمد بن يزيد المبرد
  6 ـ معاني القرآن ... لأبي فيد مؤرج السدوسي
  7 ـ معاني القرآن ... لثعلب ، أحمد بن يحيى
  8 ـ معاني القرآن ... للأخفش ، سعيد بن مسعدة
  9 ـ معاني القرآن ... للمفضل بن سلمة الكوفي
  10 ـ معاني القرآن ... لأبن كيسان

مجاز القرآن وخصائصه الفنية وبلاغته العربية _ 14 _
  11 ـ معاني القرآن ... لابن الأنباري
  12 ـ معاني القرآن ... لأبي إسحاق الزجاج
  13 ـ معاني القرآن ... لخلف النحوي
  14 ـ معاني القرآن ... لأبي معاذ بن خلف النحوي
  15 ـ معاني القرآن ... لعلي بن عيسى الجراح
  16 ـ معاني القرآن ... لأبي عيينة بن المنهال (1) .
  وكل هذه الكتب لا علاقة لها بعلم المعاني ، وإنما تبحث عن المعنى اللغوي .
  وقد احتفظ لنا ابن النديم بطائفة من أسماء من ألفوا بغريب القرآن ، وعلى نهج معاني القرآن بالضبط ، وقد نجد من بين هذه المصنّفات من يسمي كتابه معاني القرآن ويسمى غريب القرآن أيضا ، وذلك لعدم الفرق بين الإسمين عندهم :
  1 ـ غريب القرآن ... لابن قتيبة ، عبد الله بن مسلم
  2 ـ غريب القرآن ... لأبي فيد مؤرج السدوسي
  3 ـ غريب القرآن ... لمحمد بن سلام الجمحي
  4 ـ غريب القرآن ... لأبي عبد الرحمن اليزيدي
  5 ـ غريب القرآن ... لأبي زيد البلخي
  6 ـ غريب القرآن ... لأبي جعفر بن رستم الطبري
  7 ـ غريب القرآن ... لأبي عبيد ، القاسم بن سلام
  8 ـ غريب القرآن ... لمحمد بن عزيز السجستاني
  9 ـ غريب القرآن ... لأبي الحسن العروضي
  10 ـ غريب القرآن ... لمحمد بن دينار الأحول (2) .

--------------------
(1) ظ : ابن النديم ، الفهرست : 51 ـ 52 .
(2) ظ : المصدر نفسه : 52 .

مجاز القرآن وخصائصه الفنية وبلاغته العربية _ 15 _
  وقبل هؤلاء كان أبان بن تغلب الكوفي ( ت : 141 هـ ) قد ألف كتاب ( الغريب في القرآن ) وذكر شواهده من الشعر (1) .
  وبعد هذه الجريدة في معاني القرآن وغريب القرآن ، يبقى ( مجاز القرآن ) ، ويبدو أن التسمية بهذا العنوان كانت من سبق أبي عبيدة ، معمّر بن المثنى الليثي ( ت : 210 هـ ) فكان من أوائل من كتبوا في هذا الأسم بالذات بالمؤشر الذي أوضحناه ، فوضع كتابه ( مجاز القرآن ) على هذا النحو ، وهو كتاب لغة وتفسير مفردات ، لا كتاب بلاغة وبيان ، والدليل على ذلك أنه قد يسمى ( غريب القرآن ) باعتباره ترادف الغريب والمجاز عندهم ، كترادف الغريب والمعاني ، وقد نص على تسميته بهذا الإسم ( غريب القرآن ) ابن النديم (2) .
  وقال إبن خير الأشبيلي : ( وأول كتاب جمع في غريب القرآن ومعانيه : كتاب أبي عبيدة : معمر بن المثنى ، وهو كتاب المجاز ) (3) .
  وقد أيّد الزبيدي هذا الاتجاه فقال : ( سألت أبا حاتم عن غريب القرآن لأبي عبيدة الذي يقال له المجاز ) (4) .
  وهذان النصان يؤيدان ما نذهب اليه أن لا علاقة لمجاز أبي عبيدة بالمجاز الصطلاحي ، حتى قال محققه الدكتور سزكين : ( ومهما كان من أمر فإن ابا عبيدة يستعمل في تفسيره للآيات هذه الكلمات : ( مجاز ) كذا ( و ) تفسير كذا ( و ) معناه كذا ( و ) وغريبه ( و ) تقديره ( و ) تأوليه ) على أن معانيها واحدة أو تكاد .
  ومعنى هذا أن كلمة ( المجاز عنده عبارة عن الطريق التي يسلكها

--------------------
(1) ظ : الخوئي ، معجم رجال الحديث : 1/ 32 .
(2) ظ : ابن النديم ، الفهرست : 52 .
(3) ابن خير ، الفهرست : 134 .
(4) الزبيدي ، طبقات النحويين :125 .

مجاز القرآن وخصائصه الفنية وبلاغته العربية _ 16 _
  القرآن في تعبيراته ، وهذا المعنى أعم بطبيعة الحال من المعنى الذي حدده علماء البلاغة لكلمة المجاز ) (1) .
  ولا أدلّ على هذا المذهب من قول أبي عبيدة نفسه وهو بإزاء تحرير مجاز القرأن ( وفي القرآن ما في الكلام العربي من وجوه الأعراب ، ومن الغريب والمعاني ) (2) .
  فهو بصدد هذا الملحظ الذي ذكره ، وإن اشتمل مجموع ما أفاضه ( مجاز القرآن ) على جملة من أنواع المجاز الاصطلاحي ، ولكنه إنما يقصد بالمجاز معناه اللغوي ، وقد يقصد به أحيانا : الميزان الصرفي ، وقد يعني به نحو العرب وطريقتهم في التفسير والتعبير ، وهو الأعم الأغلب في مراده .
  وبعد هذا ( نستطيع ـ مطمئنين ـ ان نقرر أن كلمة ( مجاز ) إنما هي تسمية لغوية تعني التفسير ، فالمعرفة بأساليب العرب ، ودلالات ألفاظها ، ومعاني أشعارها ، وأوزان ألفاظها ، ووجوه إعرابها ، وطريق قراءاتها ، كل ذلك سبيل موصلة الى المعنى ، فمجاز القرآن يقصد أبو عبيدة به ( المعبر ) الى فهمه ، فالتسمية لغوية وليست إصطلاحية ) (3) .
  ومهما يكن من أمر فقد عالج ابو عبيدة في ( مجاز القرآن ) كيفية التوصل الى فهم المعاني القرآنية باحتذاء أساليب العرب في كلامهم وسننهم في وسائل الإبانة عن المعاني ، ولم يعن بالمجاز ما هو قسيم للحقيقة ، وإنما عني بمجاز الآية : ما يعبر به عن الآية (4) .
  وكان سبيل أبي عبيدة في مجاز القرآن نفسه سبيل معاصره أبي زكريا الفرّاء ( ت : 207 هـ ) في ( معاني القرآن ) وجزءا من سبيل إبن قتيبة في ( تأويل مشكل القرآن ) في حدود معينة ، لأن كتاب ابن قتيبة ( ت : 276 هـ ) قد اشتمل على مباحث مجازية مهمة ، كما سنشاهد هذا في مرحلة التأصيل ، اذ عقد للمجاز ـ بمعناه العام حينا وبمعناه الاصطلاحي الدقيق

--------------------
(1) فؤاد سزكين ، مجاز القرآن ، المقدمة : 1 / 18 .
(2) أبو عبيدة ، مجاز القرآن : 1 / 8 .
(3) مصطفى الصاوي الجويني ، مناهج في التفسير : 77 .
(4) ظ : أحمد مطلوب ، فنون بلاغية : 92 .

مجاز القرآن وخصائصه الفنية وبلاغته العربية _ 17 _
  حينا آخر ـ بابا خاصا تناول فيه فصولا من المأهول المجازي في الاستعارة والمجاز والتمثيل (1) .
  والذي يبدو لي من تعقب هذه الحقبة أن الاتجاه المنظور اليه لدى العلماء في مصنفاتهم التي أوردناها كان البحث المنظّم والمفهرس في غريب القرآن ، ومعانيه اللغوية ، وشوارده العربية ، ولم يكن لمجاز القرآن ولا لمعاينه بالاصطلاح البلاغي فيها أي إرادة مسبقة ، وإن وردت بعض الإشارات البلاغية بإطارها العام مما لا بد منه في إيضاح المعنى اللغوي فالبلاغة جزء من علم اللغة .

2 ـ مجاز القرآن بإطاره البلاغي العام :
  يبدو أن الجاحظ ( ت : 255 هـ ) هو أول من استعمل المجاز للدلالة على جميع الصور البيانية تارة ، أو على المعنى المقابل للحقيقة تارة أخرى ، بل على معالم الصورة الفنية المستخلصة من اقتران الألفاظ بالمعاني ، فهو كمعاصريه يعبر عن جمهرة الفنون البلاغية كالاستعارة والتشبيه والتمثيل والمجاز نفسه ، يعبر عنها جميعا بالمجاز ، ويتضح هذا جليا في أغلب استعمالات الجاحظ البلاغية التي يطلق عليها اسم المجاز ، وقد انسحب هذا على المجاز القرآني لديه (2) .
  ويعلل هذا التواضع عند الجاحظ ومعاصريه بأمرين :
  الأول : إرجاع صنوف البيان العربي وتفريعاته الى الأصل ، وهو عندهم : المجاز بمعناه الواسع .
  الثاني : عدم وضوح استقلالية هذه المصطلحات بالمراد الدقيق منها في مفهومها ودلالتها كما هي الحال في جلائها بحدود معينة بعد عصر الجاحظ عند كل من ابن قتيبة ( ت : 276 هـ ) وعلي بن عبد العزيز المعروف بالقاضي الجرجاني ( ت : 366 هـ ) وعلي بن عيسى الرماني ( ت : 386 هـ ) وسليمان بن حمد الخطابي ( ت : 388 هـ ) وأبي هلال العسكري

--------------------
(1) ظ : ابن قتيبة ، تأويل مشكل القرآن : 76 وما بعدها .
(2) ظ : استعمالات الجاحظ لاطلاقات المجاز ، الحيوان : 5 / 23 ـ 34 .

مجاز القرآن وخصائصه الفنية وبلاغته العربية _ 18 _
  ( ت : 395 هـ ) مما قد يعتبر بدايات إصطلاحية في إطار ضيق ، ولكنه قد يحدد بعض معالم الرؤية .
  فالجاحظ حينما يتحدث عن المجاز القرآني فإنه ينظر له بقوله تعالى : ( إنّ الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا ) (1) .
  ويعد هذا من باب المجاز والتشبيه على شاكلة قوله تعالى : ( أكّالون للسّحت ) (2) ، وعنده أن هذا قد يقال لهم ، وإن شربوا بتلك الأموال الأنبدة ، ولبسوا الحلل ، وركبوا الدواب ، ولم ينفقوا منها درهما واحدا في سبيل الأكل ، وتمام الآية ( إنّما يأكلون في بطونهم نارا ) مجاز آخر ... فهذا كله مختلف ، وهو كله مجاز (3) .
  والجاحظ هنا ينظر الى المجاز باعتباره في قبال الحقيقة ، وهو قسيم لها ، في تنظيره له ، وتلك بداية لها قيمتها الفنية .
  ويرى البعض أن إطلاق المجاز في معناه الدقيق إنما بدأ مع المعتزلة ، وهم مجوزون له لوروده في القرآن ، وقد أشار الى ذلك ابن تيمية ، واعتبر المجاز دون مبرر أمرا حادثا ، وفنا عارضا ، لم يتكلم به الأوائل من الأئمة والصحابة والتابعين ، فقال : ( وتقسيم الألفاظ الدالة على معانيها الى حقيقة ومجاز ، وتقسيم دلالتها أو المعاني المدلول عليها إن استعمل لفظا الحقيقة والمجاز في المدلول أو الدّلالة ، فإن هذا كله قد يقع في كلام المتأخرين ، ولكن المشهور أن الحقيقة والمجاز من عوارض الألفاظ ، وبكل حال فهذا التقسيم إصطلاح حادث بعد انقضاء القرون الثالثة الأولى ... وأول من عرف أنه تكلم بلفظ المجاز ، هو أبو عبيدة معمّر ابن المثنى في كتابه ،

--------------------
(1) النساء : 10 .
(2) المائدة : 42 .
(3) ظ : الجاحظ ، الحيوان : 5 / 25 وما بعدها .

مجاز القرآن وخصائصه الفنية وبلاغته العربية _ 19 _
  ولكنه لم يعن بالمجاز ما هو قسيم الحقيقة ، وإنما عني بمجاز الآية ما يعبر عن الآية ... وإنما هذا إصطلاح حادث ، والغالب أنه كان من جهة المعتزلة ونحوهم من المتكلمين (1) .
  ولا نريد أن نناقش إبن تيمية في نفيه لمصطلح المجاز في القرون الثلاثة الأولى ، في حين استعمله بمعناه الاصطلاحي العام كل من الجاحظ ( ت : 255 هـ ) وابن قتيبة ( ت : 276 هـ ) وهما من أعلام القرن الثالث ، لا نجادله يهذا لوضوح وروده ، بقدر ما نؤيده في حدود أن المعتزلة كانوا مجدين في هذا المنحى ، وإن كان الفضل الحقيقي في إرساء اسسه ، واستكمال مناهجه يعود الى الشيخ عبد القاهر وهو ليس معتزليا .
  وكان محمد بن يزيد المبرد ( ت : 285 هـ ) قد استعمل المجاز بالمؤدى نفسه الذي استعمله به أبو عبيدة من ذي قبل للدلالة على ما يعبر به عن تفسير لفظ الآية أو ألفاظها ، ولا دلالة إصطلاحية عنده فيه (2) .
  على أن إبن جني ( ت : 392 هـ ) قد أشار الى حقيقة وقوع الكلام مجازا في عدة مواضع من ( الخصائص ) ونصّ عليه بل ذهب الى أولويته في الكلام ، ووافق إبن قتيبة في موارد منه ، وأخذ ذلك عنه ، كما سنرى ، يقول إبن جني في هذا السياق : ( إعلم أن أكثر اللغة مع تأمله مجاز لا حقيقة ، وذلك عامة الأفعال ، نحو : قام زيد ، وقعد عمر ، وانطلق بشر ، وجاء الصيف ، وانهزم الشتاء ، ألا ترى أن الفعل يفاد منه معنى الجنسية .
  فقولك : قام زيد معناه : كان منه القيام ، وكيف يكون ذلك وهو جنس ، والجنس يطبق جميع الماضي وجميع الحاضر ، وجميع الآتي الكائنات من كل من وجد منه القيام ، ومعلوم انه لا يجتمع لأنسان واحد في وقت ولا في مئة ألف سنة مضاعفة القيام كله الداخل تحت الوهم ، هذا محال عند كل ذي لبّ ، فإذا كان كذلك علمت أن ( قام زيد ) مجاز لا حقيقة ، وإنما هو وضع الكل موضع البعض للاتساع والمبالغة وتشبيه القليل بالكثير (3) .

--------------------
(1) ابن تيمية ، كتاب الأيمان : 34 .
(2) ظ : المبرد : المقتضب في أغلب استعمالاته لإطلاق المجاز .
(3) ابن جني ، الخصائص : 2 / 448 .

مجاز القرآن وخصائصه الفنية وبلاغته العربية _ 20 _
  وهذا التعليل من ابن جني قائم على أساس نظرة الموحدين وأهل العدل في مقولتهم ( لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين ) ، فالله سبحانه وتعالى موجد القوة في الإنسان على القيام ، والإنسان يؤدي ذلك القيام ، ولكن لا بحوله ولا قوته ، فليس هو قائما في الحقيقة ، بل الطاقة التي أوجدها الله تعالى عنده ، هي وما خوله إياه كانا عاملين أساسين في القيام ، فلا هو بمفرده قائم ،ولا القيام بمنفي عنه ، وإنما هو أمر بين أمرين ، فكان القيام بالنسبة اليه مجازا .
  ولا يهمنا هذا بقدر ما يهمنا إشلرة إبن جني الى المجاز في عدة مواضع من الخصائص ، لعل أهمها من يجعل فيه المجاز بعامة قسيما للحقيقة ، متحدثا عنه وعن خصائصة بإطار بلاغي عام قد يريد به التشبيه والاستعارة والمجاز بوقت واحد ، وذلك قوله : ( إن الكلام لا يقع في الكلام ويعدل عن الحقيقة إليه إلا لمعان ثلاثة هي : الاتساع والتوكيد والتشبيه ، فإن عدمت هذه الأوصاف الثلاثة كانت الحقيقة البتة ) (1) .
  ولا نريد ان ننقاقش إبن جني في هذا الاتساع وذلك التوكيد أو التشبيه كما فعل إبن الأثير ( ت : 637 هـ ) في متابعته هذه الوجوه ، فذلك مما يخرج البحث عن دائرته الى قضايا هامشية لا ضرورة اليها ، بل نقول أن المجاز في قيمته الفنية لا يختلف عن الحقيقة في قيمتها الفنية ، فكلاهما يهدف الى الفائدة المتوخاة من الكلام .
  قال الحسن بن بشير الآمدي ( ت : 370 هـ ) ( الكلام إنما هو مبني على الفائدة في حقيقته ومجازه ) (2) .
  وكان علي بن عيسى الرماني ( ت : 386 هـ ) وهو ممن عاصر ابن جني ، ينظر الى الاستعارة باعتبارها استعمالا مجازيا ، وعدّها أحد أقسام البلاغة العشرة ، واكتفى بذكرها عن ذكر المجاز (3) ، مما يعني أنه يرى فيما هو قسيم للحقيقة مجازا وذلك صريح قوله : ( وكل استعارة حسنة فهي توجب بيان ما لا تنوب منابه الحقيقة ، وذلك أنه لو كان تقوم مقامه

--------------------
(1) المصدر نفسه : 2 / 442 .
(2) الآمدي ، الموازنة بين الطائيين : 179 .
(3) ظ : الرماني ، النكت في إجاز القرآن : 76 .

مجاز القرآن وخصائصه الفنية وبلاغته العربية _ 21 _
  الحقيقة ، كانت أولى به ، ولم تجز ، وكل استعارة فلا بد لها من حقيقة ، وهي أصل الدلالة على المعنى ... ونحن نذكر ما جاء في القرآن من الأستعارة على جهة البلاغة ) (1) .
  ومن هذا يبدوا أن الرماني قد لحظ المجاز بإطاره البلاغي العام ، فكل ما كان غير حقيقي سواء أكان إستعارة أم مجازا فهو استعمال مجازي ، وينظر لهذا بعشرات الآيات القرآنية ، ويعطي المعنى الحقيقي ، والمجازي بهذا المنظور الذي أوضحناه ، شأنه بهذا شأن من سبقه الى النظرة نفسها ، ففي قوله تعالى ( وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ ) (2) .
  قال الرماني ( وحقيقته إنتفاء الغضب ، والأستعارة أبلغ لأنه انتفى انتفاء مراصد بالعودة ، فهو كالسكوت على مراصدة الكلام بما توجبه الحكمة في الحال ، فانتفى الغضب بالسكوت عما يكره ، والمعنى الجامع بينهما الإمساك عما يكره ) (3) .
  وفي قوله تعالى ( لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمْ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ ) ، (4) ينظر الرماني إلى المجاز في ( ريبة ) إلى أنه استعارة ، مما يعني عدم وضوح التمييز بين المجاز والاستعارة عنده ، وكلاهما مجاز بالمعنى العام عنده ، إذ عبر الله عن البنيان بأنه ريبة ، وإنما هو ذو ريبة كما يرى ذلك الرماني ، وإذا صير هذا الاطلاق عليه فهو مجاز ، والتعبير عنه بالاستعارة عند الرماني يعني أن النظرة للاستعارة والمجاز على حد سواء .
  يقول الرماني في تعقيبه على الآية الكريمة ( وأصل البنيان إنما هو للحيطان وما أشبهها ، وحقيقيته إعتقادهم الذي عملوا عليه ، والاستعارة أبلغ لما فيهامن البينان بما يحس ويتصور ، وجعل البنيان ريبة وإنما هو ذو ريبة ، كما تقول : هو خبث كله ، وذلك أبلغ من أن يجعله ممتزجا ، لأن قوة الذم للريبة ، فجاء على البلاغة لا على الحذف الذي إنما يراد به الإيجاز في العبارة فقط ) (5) .

--------------------
(1) المصدر نفسه : 86 .
(2) الأعراف : 154 .
(3) الرماني : النكت في إعجاز القرآن : 87 .
(4) التوبة : 110 .
(5) الرماني ، النكت في إعجاز القرآن : 91 .

مجاز القرآن وخصائصه الفنية وبلاغته العربية _ 22 _
  فالرماني الذي يعبر عن المجاز بالاستعارة ، ويضع الاستعارة في التطبيق موضع البحث ، إنما ينظر اليها باعتبارها عملا مجازيا يستدل به على وقوع المجاز في القرآن من وجه ، وعلى دلائل الإعجاز القرآني من وجه آخر .
  ويبدو ان نظرة البلاغيين في القرن الرابع من الهجرة كانت متحدة في هذا المقياس بأطاره العام ، فهذا أبو هلال العسكري ( ت : 395 هـ ) قد أشار الى المجاز بمعناه الواسع ونظر له من القرآن الكريم في صنوف الاستعارات القرآنية ، وقد أوضح رأيه في التنصيص على ذلك بقوله : ( ولا بد لكل استعارة ومجاز من حقيقة ، وهي أصل الدلالة علة المعنى في اللغة ) (1) .
  ويهمنا من هذا القول أنه جعل المجاز قسيما للحقيقة ، واعتبر الاستعارة كذلك لا فرق بينهما وبين المجاز ، وكانت تطبيقاته في هذا المنهج إستعارات القرآن .
  والحق أن أبا هلال كان ذا حدس إستعاري ، وحس بياني ، وذائقة بلاغية ناضجة فيما أورده من شواهد قرآنية في هذا المقام ، ففي قوله تعالى : ( وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً ) (2) .
  يقول أبو هلال : ( حقيقته عمدنا ، وقدمنا أبلغ ، لأنه دلّ فيه على ماكان من إمهاله لهم ، حتى كأنه كان غائبا عنهم ، ثم قدم فأطلع على غير ما ينبغي فجازاهم بحسبه ، والمعنى الجامع بينهما العدل في شدة النكير ، لأن العمد الى إبطال الفاسد عدل ، وأما قوله ( هَبَاءً مَنْثُوراً ) فحقيقته أبطلناه ، حتى لم يحصل منه شيء ، والاستعارة أبلغ ، لأنه إخراج ما لا يرى الى ما يرى ) (3) .
  وكان السيد الشريف الرضي ( ت : 406 هـ ) قد ألف كتابين في المجاز : لهما أهمية نقدية وبلاغية في البحث البياني في القرآن وعند العرب وهما : ( تلخيص البيان في مجازات القرآن ) و ( والمجازات النبوية ) ، وكان

--------------------
(1) العسكري ، كتاب الصناعتين : 276 .
(2) الفرقان : 23 .
(3) العسكري ، كتاب الصناعتين : 277 .

مجاز القرآن وخصائصه الفنية وبلاغته العربية _ 23 _
  إطلاق المجاز في هذين الأثرين يشمل الاستعارة والتشبيه والتمثيل والمجاز نفسه ، كما سيتضح فيما بعد ، لكنه في عرضه الاصطلاحي أضيق دائرة من فضفاضية الاستعمال الجاحظي ، وعموميته عند الرماني ، واتساعه عند إبن جني والوقوف به عند الاستعارة فحسب عند أبي هلال .
  وقد عبر إبن رشيق القيرواني ( ت : 456 هـ ) أن العرب كثيرا ما تستعمل المجاز وتعده من مفاخر كلامها (1) .
  ونظرته في هذا نظرة من سبقه في المعنى العام .
  إذن فمصطلح المجاز بمعناه الواسع عريق من ناحيتين :
  الأولى : استعمال النقاد والبلاغيين العرب له من قبل أن تتبلور دلالته الاصطلاحية الدقيقة .
  الثانية : وروده في المظان البيانية واللغوية والتفسيرية بمعنى يقابل الحقيقة ، وإن اشتمل على جملة من أنواع البيان ، أو قصدت به الاستعارة باعتبارها تقابل الحقيقة لأنها استعمال مجازي .
  والذي نريد أن ننوه به أن هذا الأصل معرّف بالأصالة منذ عهد مبكر في خطوطه الأولى ، وليس هو من ابتكار المعتزلة ، بقدر ما لهم من فضل في المساهمة فيه شأنهم بذلك شأن البلاغيين فيما بعد عصر الرضي وعبد القاهر .

3 ـ مجاز القرآن في مرحلة التأصيل :
  يبدو أن إبن قتيبة ( ت : 276 هـ ) كان سباقا الى بحث المجاز في ضوء القرآن في كتابه ( تأويل مشكل القرآن ) ولكن التحقيق في الموضوع لديه لم يمثل عملا مستقلا في هذا الباب ، بل شكّل بابا في الكتاب .
  وكان الدور الذي قام به الشريف الرضي ( ت : 406 هـ ) دورا حافلا ، إذ كتب ( تلخيص البيان في مجازات القرآن ) فكان بحثا متفردا ومتخصصا في الموضوع .

--------------------
(1) ابن رشيق ، العمدة في محاسن الشعر : 1 / 265 .

مجاز القرآن وخصائصه الفنية وبلاغته العربية _ 24 _
  وجاء الشيخ عبد القاهر الجرجاني ( ت : 472 هـ ) فسلط الأضواء على المجاز في كتابيه ( دلائل الإعجاز ) و ( أسرار البلاغة ) فكان المنظّر البياني في التطبيق القرآني للمجاز ، حتى بلغ البحث المجازي على يديه مرحلة النضج العلمي والتجديد البلاغي ، فعاد كلا منسجما ، وقالبا واحدا متجانسا بالمعنى الاصطلاحي الدقيق لمفهوم المجاز .
  وأتى بعد هؤلاء جار الله محمود بن عمر الزمخشري ( ت : 538 هـ ) فاعترف من بحري الرضي والجرجاني ، ما قوّم به أوده ، وصحّح منهجه ، وأضاف دقة الأختيار ، ولطف التنظير .
  فكان الزمخشري وهؤلاء الأقطاب الثلاثة قد دفعوا بمجاز القرآن فنا الى مرحلة التأصيل ، وبلغوا به شوطا الى قمة التأهيل ، فعاد معلما بارزا في التشخيص ، وعلما قائما يشار إليه بالبنان .
  وسنقتصر في الحديث عند هذه المرحلة على هؤلاء الأعلام ضمن حدود مقتضبة ، ولمسات إشارية عاجلة ، مهمتها إعلام الجهود ، وإنارة المعالم ليس غير .
  ولا يعني التأكيد على هؤلاء الأعلام : الغض من منزلة الآخرين ، أو بخس البلاغيين حقوقهم ، ولكن التوسع في ( مجاز القرآن ) عند إبن قتيبة والشريف الرضي وعبد القاهر والزمخشري ، قد فاق في مرحلة التأصيل ، واستقرار المصطلح المجازي ، حدود الإشارة والاختصار عند غيرهم ، وهو ما وقفنا عليه ، لهذا فإن حديثنا عنهم أمس صلة ، وألصق لحمة ، بمرحلة التأصيل منه عند سواهم .
  ومع هذا فقد أشرنا في نهاية هذا المبحث الى طائفة من الأعلام الذين ساهموا بإمكانات متفاوتة في هذا المجال :
  1 ـ عقد إبن قتيبة ( ت : 276 هـ ) بابا خاصا للمجاز في كتابه : ( تأويل مشكل القرآن ) (1) .
  ويبدوا أن الهدف من ذلك كان كلاميا ، لأن أكثر

--------------------
(1) حققه في طبعة منقحة الدكتور السيد أحمد صقر وطبع عدة مرات : مطبعة الحلبي .

مجاز القرآن وخصائصه الفنية وبلاغته العربية _ 25 _
  غلط المتأولين كان من جهة المجاز في التأويل ، فتشعبت بهم الطرق ، واختلفت النحل ، وكان بإمكان هؤلاء أن يرجعوا الى سعة المجاز ، فيحسم الأمر ، وتتبسط الدلالات ، لا أن يحملوا ماورد منه في القرآن على الحقيقة فتضلّهم الشبهات .
  وقد عمد أبن قتيبة لأبعاض من آيات القرآن الكريم ، وشرح في ضوئها ما يذهب اليه أهل التأويل القائلين بالحقيقة دون المجاز ، ليعود بذلك الى دائرة المجاز فينفي ما قالوا جملة وتفصيلا .
  وسيمر علينا في مجال التطبيق لآيات القرآن المزيد من رده على القائلين ببطلان المجاز في القرآن ، ومستشهدا على صحة القول به من خلال الأستعمال الميداني عند العرب في حياتهم اليومية لألفاظ متداولة ، وعبارات قائمة لا يمكن تأويله إلا بالمجاز .
  ولكن الملاحظ عند أبن قتيبة أنه قد يخلط الحقيقة بالمجاز ، فتحار باعتباره المجاز أحيانا ، والحقيقة مجازا ، ويحشر لذلك جملة من الآيات القرآنية دليلا على الموضوع .
  فهو كما يرى أستاذنا الدكتور بدوي طبانة : لا يرى في إرادة الحقيقة عجبا في مثل قوله تعالى للسماء والأرض : ( اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً ) وقولهما : ( أَتَيْنَا طَائِعِينَ ) (1) ، أو قوله لجهنم ( هَلْ امْتَلأْتِ ) فتقول : ( هَلْ مِنْ مَزِيدٍ ) (2) .
  لأن الله تبارك وتعالى ينطق الجلود والأيدي والأرجل ويسخّر الجبال والطير بالتسبيح (3) .
  والحق أن ابن قتيبة صاحب مدرسة إجتهادية في استنباط المجاز من القرآن ، فهو يجيل فكره ، ويستعمل حدسه البلاغي في استكناه المجاز القرآني ليحقق مذهبه الكلامي في إثبات المجاز خلافا لفهم الطاعنين بوقوعه في القرآن .
  ففي قوله تعالى ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمْ الرَّحْمَنُ

--------------------
(1) فصلت : 11 .
(2) ق : 30 .
(3) ظ : بدوي طبانة ، البيان العربي : 27 وانظر مصادره .

مجاز القرآن وخصائصه الفنية وبلاغته العربية _ 26 _
  وُدّاً ) (1) يرى أنه ليس كما يتأولون ، وإنما أراد أنه يجعل لهم في قلوب العباد محبة ، فأنت ترى المخلص المجتهد محببا الى البر والفاجر ، مهيبا ، مذكورا بالجميل ، ونحوه قول الله سبحانه وتعالى في قصة موسى عليه السلام : ( وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي ) (2) ، لم يرد في هذا الموضوع أني أحببتك ، وإن كان يحبه ، وإنما أراد أنه حببه إلى القلوب ، وقرّبه من النفوس ، فكان ذلك سببا لنجاته من فرعون ، حتى استحياه في السنة التي يقتل فيها الولدان (3) .
  ويستمر أين قتيبة في عمليتي الاستنباط والاستدلال عليه من خلال ذائقته الفنية ، وتمرسه في طلاقة البيان العربي ، فيذهب بالمجاز الى ابعد حدوده الاصطلاحية ، وكأنه فنّ قد تأصّل من ذي قبل ، وهذا من مميزات ابن قتيبة في استقراء البعد المجازي .
  ولعل من طريف ما استدلّ عليه بسجيته الفطرية قوله تعالى : ( وجعلنا نومكم سباتا ) (4) .
  فيذهب أن ليس السبات هنا النوم ، فيكون معناه فجعلنا نومكم نوما ، ولكن السبات الراحة ، أي جعلنا النوم راحة لأبدانكم ، ومنه قيل : يوم السبت ، لأن الخلق اجتمع يوم الجمعة ، وكان الفراغ منه يوم السبت ، فقيل لبني إسرائيل : استريحوا في هذا اليوم ، ولا تعملوا شيئا ، فسمي يوم السبت ، أي : يوم الراحة ، وأصل السبت التمدد ، ومن تمدد استراح ، ومنه قيل : رجل مسبوت ، يقال : سبتت المرأة شعرها ، إذا نفضته من العقص وأرسلته ، ثم قد يسمى النوم سباتا ، لأنه بالتمدد يكون (5) .
  بهذا التذوق الدلالي ، والنظر الموضوعي ، فهم ابن قتيبة مجاز القرآن ، فهل كان من المؤصلين له ، هذا ما اعتقده بحدود غير مبالغ فيها ، شاهدها عشرات الصفحات في تأويل مشكل القرآن وقد خصصها لمجاز

--------------------
(1) مريم : 96 .
(2) طه : 39 .
(3) ظ : ابن قتيبة ، تأويل مشكل القرآن .
(4) النبأ : 9 .
(5) ظ : ابن قتيبة ، تأويل مشكل القرآن .

مجاز القرآن وخصائصه الفنية وبلاغته العربية _ 27 _
  القرآن بما يعد من أروع البحوث المنجزة في الموضوع ، وستقرأه في جزئيات متناثرة في هذا الكتاب ، قد سبق الى نقطتين مهمتين في خدمة مجاز القرآن :
  الأولى : إشارته منذ عهد مبكر الى مسألة الطعن على القرآن في وقوع المجاز فيه ، ومناقشته ذلك ورده على الطاعنين بالموروث المجازي عند العرب وفي القرآن الكريم .
  الثانية : إيراده مفردات علمي المعاني والبيان في صدر كتابه بأسمائها الاصطلاحية الدقيقة التي تعارف عليها المتأخرون عن عصره ، وإن استخدام كلمة المجاز بمفهومها العام (1) .
  وزيادة على ما تقدم فقد جعل المجاز قسيما للحقيقة ، لأنه قسم الكلام الى حقيقة ومجاز (2) .
  وذهب الى أن أكثر الكلام إنما يقع في باب الاستعارة (3) .
  وهكذا شأن كل ما هو أصيل أن يعطيك الدقة قدر المستطاع .
  2 ـ وليس جديدا أن يكون أبو الحسن الشريف الرضي ( ت : 406 هـ ) عالما موسوعيا في المجاز بعامة ، والمجاز النبوي والقرآني بخاصة ، فقد كان ضليعا ببلاغة العرب ، وعلوم القرآن ، واللغة ، والشعر ، والنثر ، وحسن اختياره لطائفة هائلة من خطب وحكم ورسائل أمير المؤمنين الإمام علي عليه السلام ، وتسميته لذلك بـ ( نهج البلاغة ) (4) وتعليقاته وشروحه ووقفاته ولمساته البلاغية عليه ، دليل ريادته الأولى في الفن البلاغي ، وتمرسه الاستقرائي لأبعاده المختلفة .
  وكتابه القيم تلخيص البيان في مجازات القرآن (5) حافل بالمجاز

--------------------
(1) ظ : ابن قتيبة ، تأويل مشكل القرآن : 15 .
(2) المصدر نفسه : 78 .
(3) المصدر نفسه : 101 .
(4) طبع مستقلا بتحقيق محمد عبده ، وطبع بشرح ابن أبي الحديد بتحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم .
(5) حققه الأستاد محمد عبد الغني حسن ، دار إحياء الكتب العربية ، القاهرة ، 1955 .

مجاز القرآن وخصائصه الفنية وبلاغته العربية _ 28 _
  اللغوي من القرآن وضروبه المتشعبة ، ولكنه يؤكد فيه ( الاستعارة ) والاستعارة جزء من المجاز تكون علاقة المشابهة ، وهكذا الاستعارة في القرآن .
  ويرى الدكتور بدوي طبانة أن نقصا كبيرا قد طرأ على الكتاب من أوله ، فلا تقرأ في بدئه ما اعتدنا رؤية مثله في أكثر المؤلفات من خطبة الكتاب ، وما حفز صاحبه على تأليفه ، ومنهجه في التأليف ، ولكن أول هذا المطبوع تمام لكلام سابق يتعلق بالمجاز الذي في أوائل سورة البقرة الى قوله تعالى ( وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ ) (1) .
  وكان يمكن لو عثر على هذا المفقودة ، أن يتبين بالنص معنى المجاز عند الشريف الرضي ، وعلى كل حال فإنه يقصر الدراسة على البحث في مجازات القرآن ، أي الألفاظ المستعملة في غير ما وضعت له ، وأكثر كلامه عن الاستعارات الواردة في القرآن (2) .
  ويبدو ان الأمر قد التبس على الدكتور بدوي طبانة في بدايات المطبوع من تلخيص البيان ، والذي يتضح بجلاء أن البداية الموجودة كانت من قوله تعالى ( خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ ) (3) ، وهي الآية السابعة من البقرة ، و ( َطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ ) هي الآية السابعة والثمانون من التوبة ، وكانت شاهدا على ما أورده الشريف الرضي من معنى الختم ومعنى الطبع ، ( لأن الطبع من الطابع ، والختم من الخاتم ، وهما بمعنى واحد ) (4) فكان كلام الرضي متعلقا بمجاز الختم الى قوله تعالى ( وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ ) (5) .
  وطريقة الشريف الرضي في معالجاته لمجاز القرآن في تلخيص البيان إستقراء القرآن على ترتيبه المصحفي ، فيتعقب الآيات في السور القرآنية بحسب تسلسلها آية آية فإذا لمح المجاز وقف عنده وقفة الفاحص الخبير ،

--------------------
(1) التوبة : 87 .
(2) ظ : بدوي طبانة ، البيان العربي : 30 .
(3) البقرة : 7 .
(4) الشريف الرضي : تلخيص البيان : 113 .
(5) البقرة : 7 .

مجاز القرآن وخصائصه الفنية وبلاغته العربية _ 29 _
  وأجرى لقلمه العنان في حدود الأستعمال المجازي دون إيجاز مخل أو إطناب مملّ كما يقال .
  وهو في ذلك منظر ومطبّق في آن واحد ، ومعتدّ برأيه البياني دون تردد ، فهو يورد المجاز ويشرحه ويستشهد عليه ، ويناقش فيه ، ويثبت القول الصراح باجتهاده القائم على أساس الكشف والإبداع والتبادر الذهني من خلال عمقه اللغوي ، ومنهجه البلاغي ، ومخزونه الثقافي المستفيض .
  وكان هذا العمل سبقا فريدا الى الموضوع ، لم يشاركه فيه أحد قبله ، وقد سار على منواله من جاء بعده ولكن في حدود مقتضبة لم تنهض بكتاب مستقل فيما أعلم .
  ( ومن هنا كان ) تلخيص البيان ( أول كتاب كامل ألف لغرض واحد ، وهو متابعة المجازات والاستعارات في كلام الله كله سورة سورة وآية آية ، ومن هنا كانت القيمة العلمية لهذا الكتاب الذي لم يؤلف مثله لهذا الغرض ، فهو يقوم في التراث العربي الإسلامي وحده شاهدا على أن الشريف الرضي خطا أول خطوة في التأليف في مجازات القرآن واستعاراته تأليفا مستقلا بذاته ، ولم يأت عرضا في خلال كتاب ، أو بابا من أبواب مصنّف ) (1) .
  وإنك لتجد في منهجه هذا شذرات تلتقط وأنت ضنين بها .
  1 ـ ففي قوله تعالى ( فأينما تولوا فثم وجه الله ) (2) فإنه ينفي الجسمية والجهة عن الباري تعالى ويوجهها نحو المجاز بقوله ( أي جهة التقرب الى الله ، والطريق الدالة عليه ، ونواحي مقاصده ومعتمداته الهادية إليه ) (3) .
  2 ـ وفي قوله تعالى ( الله وليّ الذين ءامنوا يخرجهم من الظلمات الى النور والذين كفروا أوليآؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور الى الظلمات ) (4) .

--------------------
(1) محمد عبد الغني حسن ، مقدمة تلخيص البيان : 30 .
(2) البقرة : 115 .
(3) الشريف الرضي : تلخيص البيان : 118 .
(4) البقرة : 257 .

مجاز القرآن وخصائصه الفنية وبلاغته العربية _ 30 _
  فيذهب الرضي أن المراد منها ( إخراج المؤمنين من الكفر الى الأيمان ومن الغي الى الرشاد ، ومن عمياء الجهل الى بصائر العلم ، وكل ما في القرآن من ذكر الإخراج من الظلمات الى النور فالمراد به ماذكرنا ، وذلك من أحسن التشبيهات ، لأن الكفر كالظلمة التي يتسكع فيها الخابط ويضل القاصد ، والأيمان كالنور الذي يؤمه الحائر ، ويهتدي به الجائر ، لأن عاقبة الأيمان مضيئة بالأيمان والثواب ، وعاقبة الكفر مظلمة بالجحيم والعذاب ، وفي لسانهم : وصف الجهل بالعمى والعمه ، ووصف العلم بالبصر والجلية ) (1) .
  3 ـ ويحمل الرضي قوله تعالى ( وقيل ياأرض ابلعي مآءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر ) (2) على الاستعمال المجازي في صدور الأمر منه تعالى ، ويقول : ( لأن الأرض والسماء لايصح أن تؤمرا أو تخاطبا ، لأن الأمر والخطاب لا يكونان إلا لمن يعقل ، ولا يتوجهان إلا لمن يعي ويفهم ، فالمراد إذن بذلك ، الأخبار عن عظيم قدرة الله سبحانه ، وسرعة مضي أمره ، ونفاذ تدبيره نحو قوله ( انما قولنا لشيء إذا أردناه أن نّقول له كن فيكون ) (3) ، إخبار عن وقوع أوامره من غير معاناة ولا كلفة ، ولا لغوب ولا مشقة .
  وفي هذا الكلام أيضا فائدة أخرى لطيفة ، وهو أن قوله سبحانه ( يا أرض ابلعي مآءك ) أبلغ من قوله : يا أرض اذهبي بمائك ، لأن في الابتلاع دليلا على إذهاب الماء بسرعة ... وكذلك الكلام في قوله سبحانه ( ويا سماء أقلعي ) لأن لفظ الأقلاع ههنا أبلغ من لفظ الإنجلاء ، لأن في الإقلاع أيضا معنى الإسراع بإزالة السحاب ، كما قلنا في الابتلاع ، وذلك أدل على نفاذ القدرة ، وطواعية الأمور ، من غير وقفة ولا لبثة ، هذا الى ما في المزاوجة بين اللفظين من البلاغة العجيبة والفصاحة الشريفة ) (4) .

--------------------
(1) الشريف الرضي ، تلخيص البيان : 121 .
(2) هود : 44 .
(3) النحل : 40 .
(4) الشريف الرضي ، تلخيص البيان : 162 .