ذلك تستقر عليهم الرحمة والمحبة والألفة ، وترتكز فيهم القوة والشدة ، وتهجرهم السخطة والعداوة والنفرة ، وكل خصلة سيئة تؤدي إلى التفرق والتهلكة ، وختم الله تعالى الآية بقوله : ( يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) أي تتذكرون ، فتعلمون أن الذي يدعوكم إليه ، فيه حياتكم وسعادتكم (1) .
  ثم أمر سبحانه بالوفاء بالعهد وعدم نقص اليمين بعد أن جعلوا الله عليهم كفيلا ، لأن نقص اليمين إهانة وإرزاء بساحة العزة والكرامة ، مضافا إلى ما في نقص اليمين والعهد معا من الانقطاع والانفصال عنه سبحانه بعد توكيد الاتصال، ثم أمر سبحانه أن لا يتخذوا أيمانهم وسيلة للغدر والخدعة والخيانة ، يطيبون بها نفوس الناس ثم يخونون ويخدعونهم بنقضها ، لأن من يفعل ذلك تزل قدمه بعد الثبوت، ويذوق العذاب بما صد عن سبيل الله بإعراضه وامتناعه عن السنة الفطرية التي فطر الله الناس عليها ، ودعت الدعوة النبوية إليها من التزام الصدق والاستقامة ورعاية العهود والمواثيق والإيمان والتجنب عن الدغل والخدعة والخيانة والكذب والزور والغرور فمعنى الآية : ولا تتخذوا أيمانكم وسيلة دخل بينكم حتى يؤديكم ذلك إلى الزوال عما ثبتم عليه ونقض ما أبرمتموه ، وفيه إعراض عن سبيل الله الذي هو التزام الفطرة والتحرز عن الغدر والخدعة والخيانة وبالجملة الافساد في الأرض بعد إصلاحها ويؤديكم ذلك إلى أن تذوقوا السوء والشقاء في حياتكم ولكم عذاب عظيم في الآخرة (2) فمن هنا يبدأ المجتمع الصالح ولقد جهر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بآيات الله التي تدعو لإقامة المجتمع ، الصالح ولكن أبناء الانحراف كانوا يريدون كونا آخر يسير وفقا لأهوائهم ، وراحوا يحللون ويحرمون وفقا لمقاييس فقهاء الجمود والصد ، وعلى طريق الطمس رفعوا أصواتهم بأن الإسلام دين جمود لأنه لا يساير جماهيرهم وما جماهيرهم إلا جماهير الغدر والكذب والخيانة والفساد في الأرض، لقد حرم آباؤهم من قبل ما لم يحرمه الله فتلى عليهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) القرآن ردا عليهم وفي نفس الوقت كان رده لبنة من لبنات المجتمع الصالح قال له

-------------------------------
(1) الميزان : 333 / 12 .
(2) الميزان : 338 / 12 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 352 _
  تعالى : ( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ) (1) ففي هذه الآيات ردا على ما فعلوه وما قالوا به فيما سبق هذه الآية من آيات ، وفيها قواعد أساسية لإقامة المجتمع الصالح وفيها أخيرا ردا كافيا على من اتهم الإسلام بالجمود فيما بعد ، قال المفسرون : والمعنى : أن الله تعالى هدى الإنسان من طريق الفطرة إلى إيجاد أنواع الزينة التي يستحسنها مجتمعة ويستدعي انجذاب نفوسهم إليه وارتفاع نفرتهم واشمئزازهم عنه ، فالله يخرج لهم الزينة، قد كانت مخبية خفية ، بإظهارها لحواسهم ، ولو كان الإنسان يعيش في الدنيا وحده في غير مجتمع من أمثاله ، لم يحتاج إلى زينة يتزين بها قط ، ولا تنبه للزوم إيجادها ، لأن ملاك التنبيه هو الحاجة ، لكنه لما لم يسعه إلا الحياة في مجتمع من الأفراد ، وهم يعيشون بالإرادة والكراهة والحب والبغض ، والرضى والسخط ، فلا محيص لهم من العثور على ما يستحسنونه وما يستقبحونه من الهيئات والأزياء ، فيلهمهم المعلم الغيبي من وراء فطرتهم بما يصلح ما فسد منهم ويزين ما يشين منهم .
  وهذه المسماة بالزينة من أهم ما يعتمد عليه الاجتماع الإنساني ، وهي من الآداب العريقة التي تلازم المجتمعات ، وتترقى وتنزل على حسب تقدم المدنية والحضارة ، ولو فرض ارتفاعها من أصلها في مجتمع من المجتمعات ، انهدم الاجتماع ، وتلاشت أجزاءه من حينه ، لأن معنى بطلانها ، ارتفاع الحسن والقبيح ، والحب والبغض ، والإرداة والكراهة ، ولا مصداق للاجتماع الإنساني عندئذ ، وقوله : ( وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ) الطيب هو الملائم للطبع ، وهي الأنواع المختلفة مما يرتزق به الإنسان بالتغذي منه ، أو مطلق ما يستمد به في حياته وبقائه ، كأنواع الطعام والشراب والمنكح والمسكن ونحوها ، وقد جهز الله سبحانه الإنسان بما يحس بحاجته إلى أقسام الرزق، ويستدعي تناولها بأنواع من

-------------------------------
(1) سورة الأعراف ، الآيتان : 32 ـ 33 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 353 _
  الشهوات الهائجة في بطنه ، إلى ما يلائمها مما يرفع حاجته ، وهذا هو الطيب والملاءمة الطبيعية ، وبناء حياة الإنسان السعيدة على طيبات الرزق غني عن البيان ، فلا يسعد الإنسان في حياته من الرزق ، إلا بما يلائم طباع قواه وأدواته التي جهز بها ، ويساعده على بقاء تركيبه الذي ركب به ، وما جهز بشئ ولا ركب من جزء ، إلا لحاجة له إليه ، فلو تعدى في شئ مما يلائم فطرته إلى ما لا يلائمها طبعا ، اضطر إلى تتميم النقص الوارد عليه كالمنهوم الشره الذي يفرط في الأكل فيصيبه آفات الهضم ، فيضطر إلى استعمال الأدوية المصلحة لجهاز الهضم ، ولا يزال يستعمل ويفرط حتى يعتاد بها ، فلا تؤثر فيه ، فيصير إنسانا عليلا تشغله العلة عن عامة واجبات الحياة، وأهمها الفكر السالم الحر، والتعدي عن طيب الرزق يبدل الإنسان إلى شئ آخر، لا هو مخلوق لهذا العالم ولا هذا العالم مخلوق له .
  وأي خير يرجى في إنسان يتوخى أن يعيش في ظرف غير ظرفه الذي أعده له الكون ، ويسلك طريقا لم تهيئه له الفطرة ، وينال غاية غير غايته ، وهو أن يتوسع بالتمتع بكل ما تزينه له الشهوة والشره ، ويصور له الخيال بآخر ما يقدر وأقصى ما يمكن ، والله تعالى يذكر في هذه الآية ، أن هناك زينة أخرجها لعباده وأظهرها وبينها لهم من طريق الالهام الفطري ولا تلهم الفطرة إلا بشئ قامت حاجة الإنسان إليه ، ولا دليل على إباحة عمل من الأعمال وسلوك طريق من الطرق أقوى من الحاجة إليه ، بحسب الوجود والطبيعة الذي يدل على أن الله سبحانه ، وهو الرابط بين الإنسان المحتاج وبين ما يحتاج إليه ، بما أودع في نفسه من القوى والأدوات الباعثة له إليه ، بحسب الخلقة والتكوين ، والفطرة تقضي بالوسط العدل في الزينة وطيبات الرزق ، لأن التعدي إلى أحد جانبي الافراط والتفريط ، فيه تهديد المجتمع الإنساني بالانحطاط ، فما ظهر فساد في البر والبحر إلا عن إتراف الناس وإسرافهم في أمر الزينة أو الرزق (1)، إن الاسراف فساد وقال تعالى في صدر الآية التي نحن بصددها : ( وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ

-------------------------------
(1) الميزان : 80 ، 81 / 8 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 354 _
  يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ * قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ ... ) وقال فيما قبل ذلك : ( قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ ) .
  أما قوله تعالى :( قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ) قال المفسرون : بعد أن بين الزينة والرزق الطيب ، بين ما حرم الله، والفواحش هي المعاصي البالغة قبحا وشناعة ، كالزنا واللواط ونحوهما ، والإثم هو الذنب الذي يستعقب للإنسان تهلكة في جاهه وماله وعرضه ونفسه ونحو ذلك ، والبغي هو طلب الإنسان ما ليس له بحق ، كأنواع الظلم والتعدي على الناس والاستيلاء غير المشروع عليهم ، ولما كان صدر الآية إباحة الزينة وطيبات الرزق ويمكن أن يكون في هذا داعيا في نفس السامع ، إلى أن يحصل على ما حرمه الله ، ألقى الله سبحانه في هذه الآية جماع القول في ذلك ، ولا يشذ عما ذكره شئ من المحرمات الدينية ، وفي تنقسم بوجه إلى قسمين : ما يرجع إلى الأفعال وهي الثلاثة الأول ، وما يرجع إلى الأقوال والاعتقادات وهو الأخيران ، والقسم الأول منه : ما يرجع إلى الناس وهو البغي بغير الحق ، ومنه غيره وهو أما ذو قبح وشناعة فالفاحشة وأما غيره فالإثم ، والقسم الثاني : إما شرك بالله أو افتراء على الله سبحانه (1) .
  ما أعظم الرسالة الخاتمة ، بثلاث آيات من سورة النحل وآيتين من سورة الأعراف وضعت قوائم المجتمع الصالح فما بالك بباقي آيات القرآن الكريم ، وما ذكرناه من الآيات مكي فما بالك بالآيات التي أقامت دولة في المدينة ، ومنها قوله تعالى : ( قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا

-------------------------------
(1) الميزان : 86 / 8 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 355 _
  فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) (1) ، قال في الميزان : ومن شواهد أنها شرائع عامة ، أنا نجدها فيما نقله الله سبحانه من خطابات الأنبياء أممهم في تبليغاتهم الدينية كالذي نقل من نوح وهود وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب وموسى وعيسى وغيرهم عليهم السلام ... على أن المتأمل فيها يعطى أن الدين الإلهي لا يتم أمره ولا يستقيم حاله بدون شئ منها ، وإن بلغ من الاجمال والبساطة ما بلغ ، وبلغ الإنسان المنتحل به من السذاجة ما بلغ (2).
  فماذا كان موقف طابور الانحراف والصد من النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) في مكة ؟ ماذا فعلوا عندما كان يزيح أصنام التوثين من دائرة الفكر والوجدان كي يتدبروا في خلق السماوات والأرض بحرية الإنسان ، وماذا فعلوا وهو يدلهم على الطريق الحق الذي لم يبصره سلفهم الغير صالح ؟ هذا السلف الذي عكف على الفقه الشيطاني ليضع تعاريف لا تنتج إلا الإنسان المشوه روحيا ، إن طابور الانحراف واجه الرسالة الخاتمة بكل قواه للصد عن سبيل الله.

  7 ـ الصد عن سبيل الله :
   أولاً : طرح قضية البشر الرسول :

  لقد شكك الذين رفضوا الهدى في الرسول وفي القرآن وأثاروا قضية آبائهم التي ترفض البشر الرسول، يقول تعالى : ( وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا * أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَّسْحُورًا ) ثم يطيب الله تعالى خاطر رسوله بعد الذي قالوه فيقول سبحانه : ( انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا * تَبَارَكَ الَّذِي إِن شَاء جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِّن ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَل لَّكَ قُصُورًا ) (3) قال المفسرون :

-------------------------------
(1) سورة الأنعام ، الآيات : 151 ـ 153 .
(2) الميزان : 373 / 7 .
(3) سورة الفرقان ، الآيات : 7 ـ 10 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 356 _
  تعبيرهم عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) بقولهم : ( هذا الرسول ) مع تكذيبهم برسالته مبني على التهكم والاستهزاء ، وقولهم ، ( مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ ) إن الرسالة لا تجامع أكل الطعام والمشي في الأسواق لاكتساب المعاش ، فإنها اتصال غيبي لا يجامع التعلقات المادية وليست إلا من شؤون الملائكة ، وقولهم : ( لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا ) أي كيف يكون هذا المدعي للرسالة رسولا وهو يأكل الطعام ويمشي في السواق والرسول لا يكون إلا ملكا منزها عن هذه الخصال المادية ، فإن سلمنا برسالته وهو بشر .
  فلينزل إليه ملك يكون معه نذيرا ، ليتصل الانذار وتبليغ الرسالة بالغيب وسط الملك و ( أو يلقى إليه كنز ) أي إن لم ينزل إليه ملك ، واستقل بالرسالة وهو بشر ، فليلق إليه من السماء كنز ، حتى يصرف منه في وجوه حوائجه المادية ، و يكدح في الأسواق في اكتساب ما يعيش به ، ونزول الكنز إليه أسهل من نزول الملك إليه ليعينه في تبليغ الرسالة ( أو تكون له جنة يأكل منها ) وإن لم يلق إليه كنز ، فليكن له جنة يأكل منها ، ولا يحتاج إلى كسب المعاش وهذا أسهل من إلقاء الكنز إليه.
  ( وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَّسْحُورًا ) المراد بالظالمين هم المقترحون السابقوا الذكر ـ كما قيل ـ وقولهم : ( إن تتبعون ) خطاب منهم للمؤمنين ، تعبيرا لهم وإغواء عن طريق الحق، ومرادهم بالرجل المسحور النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، يريدون أنه مسحور ، سحره بعض السحرة ، فصار يخيل إليه أنه رسول ، يأتيه ملك بالرسالة والكتاب ، وقوله تعالى : ( انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا ) محصلة : أنظر كيف وصفوك .
  فضلوا فيك ضلالا لا يرجى معه اهتداؤهم إلى الحق ، كقولهم إنه يأكل الطعام ويمشي في الأسواق فلا يصلح للرسالة ، لأن الرسول يجب أن يكون شخصا غيبيا لا تعلق له بالمادة ! ولا أقل من عدم احتياجه إلى الأسباب العادية في تحصيل المعاش ، وكقولهم : إنه رجل مسحور ( فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا ) أي تفرع على هذه الأمثال التي ضربوها لك أنهم ضلوا ضلالا لا يستطيعون معه أن يردوا سبيل الحق ، ولا يرجى لهم معه ركوبها ثانيا ، وربما استدبرها فصار كلما أمعن في مسيره زاد منها بعدا ، ومن سمى كتاب الله بالأساطير ووصف رسوله بالمسحور ولم يزل

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 357 _
  يزيد تعنتا ولجاجا واستهزاء بالحق ، كيف يرجى اهتداؤه وحاله هذه ؟ وقوله تعالى : ( تَبَارَكَ الَّذِي إِن شَاء جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِّن ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَل لَّكَ قُصُورًا ) الإشارة في قوله : ( من ذلك ) إلى ما اقترحوه من قولهم : أو تكون له جنة يأكل منها ) أو إلى مجموع ما ذكروه من الكنز والجنة ، ولم يقل سبحانه : قل إن شاء ربي جعل كذا وكذا ، بل عدل إلى قوله :
  ( تبارك الذي إن شاء جل لك ... ) وفيه تلويح إلى أنهم لا يستحقون جوابا ، ولا يصلحون لأن يخاطبوا ، لأنهم على علم بفساد ما اقترحوا به عليه ، النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) ، لم يذكر لهم إلا أنه بشر مثلهم يوحى إليه ، ولم يدع أن له قدرة غيبية وسلطنة إلهية على كل ما يريد أو يراد منه ، أعرض سبحانه عن مخاطبتهم وعن الجواب عما اقترحوه ، وإنما ذكر لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) .
  أن ربه الذي اتخذه رسولا وأنزل عليه الفرقان ليكون للعالمين نذيرا ، قادر على أعظم مما يقترحونه ، فإن شاء جعل له خيرا من تلك جنات تجري من تحتها الأنهار، ويجعل له قصورا ، لا يبلغ وصفها واصف ، وذلك خير من أن يكون له جنة يأكل منها أو يلقى إليه كنز ليصرفه في حوائجه .
  وبهذا المقدار يتحصل جوابهم فيما اقترحوه من الكنز والجنة ، وأما نزول الملك إليه ليشاركه في الانذار ويعينه على التبليغ ، فلم يذكر جواب عنه لظهور بطلانه ، وقد أجاب تعالى في مواضع بأجوبة مختلفة (1) منها : ( وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَّقُضِيَ الأمْرُ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ * وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ ) (2) إن الله لو أنزل عليهم ملك بالرسالة لم ينفعهم ذلك في رفع حيرتهم ، فإن الله جاعل الملك عندئذ رجلا يماثل الرسول البشري ، وهم لابسون على أنفسهم معه يتشككون ، فإنهم لا يريدون بهذه المسألة إلا أن يتخلصوا من الرسول البشري ، الذي هو في صورة رجل ، ليبدلوا بذلك شكهم يقينا ، وإذا صار الملك على هذا النعت ، ولا محالة ـ فهم لا ينتفعون بذلك شيئا .

-------------------------------
(1) الميزان : 186 / 15 .
(2) سورة الأنعام ، الآيتان : 8 ـ 9 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 358 _
  وبالجملة فإن الدعوة الإلهية ، لا يستقيم أمرها إلا أن توضع على الاختيار الإنساني، من غير اضطرار وإلجاء ، فالدار دار اختيار لا تتم فيها للإنسان سعادته الحقيقية إلا مسلوك مسلك الاختيار ، واكتسابه لنفسه أو على نفسه ما ينفعه في سعادته ويضره ، وسلوك أي الطريقين رضى لنفسه أمضى الله سبحانه له ذلك قال تعالى : ( إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ) (1) فإنما هي هداية وإراءة للطريق ، ليختار ما يختاره لنفسه ، من التطرق والتمرد ، من غير أن يضطر إلى شئ من الطريقين ويلجأ إلى سلوكه بل يحرث لنفسه ثم يحصد ما حرث ، قال تعالى : ( وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الْأَوْفَى ) (2) فليس للإنسان إلا مقتضى سعيه ، فإن كان خيرا أراه الله ذلك ، وإن كان شرا أمضاه له ، قال تعالى : ( مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ ) (3) ولما كانت الدعوة الإلهية لا يستقيم أمرها إلا أن توضع على الاختيار الإنساني من غير اضطرار وإلجاء فلا محيص عن أن يكون الرسول الحامل لرسالات الله أحدا من الناس ، يكلمهم بلسانهم فيختاروا لأنفسهم السعادة بالطاعة ، أو الشقاء بالمخالفة والمعصية ، من غير أن يضطرهم الله إلى قبول الدعوة بآية سماوية يلجئهم إليه وإن قدر على ذلك كما قال : ( لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِم مِّن السَّمَاء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ ) (4) فلو أنزل الله إليهم ملكا رسولا ، لكان من واجب الحكمة أن يجعله رجلا مثلهم فيربح الرابحون باكتسابهم ويخسر الخاسرون ، فيلبسوا الحق بالباطل على أنفسهم وعلى أتباعهم كما يلبسون مع الرسول البشري ، فيمضي الله ذلك ويلبس عليهم كما لبسوا ، قال تعالى : ( فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ) (5).
  فإنزال الملك رسولا ، لا يترتب عليه من النفع والأثر أكثر مما يترتب على

-------------------------------
(1) سورة الإنسان ، الآية : 3 .
(2) سورة النجم ، الآيات : 39 ـ 41 .
(3) سورة الشورى ، الآية : 20 .
(4) سورة الشعراء ، الآيتان : 3 ـ 4 .
(5) سورة الصف ، الآية : 5 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 359 _
  إرسال الرسول البشري ، ويكون حينئذ لغوا ، فقول الذين كفروا : لولا أنزل إليه ملك ، ليس إلا سؤال لأمر لغو ، لا يترتب عليه بخصوصه أثر خاص جديد كما رجوا ، لقد أخرج كفار مكة ملفات بشرية الرسول التي دونتها الأمم السابقة ، ولم يتفكروا ماذا حدث للأمم السابقة ؟ لقد أخبرهم الرسول عن ربه : ( أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللّهُ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُواْ إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ * قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى قَالُواْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ) (1) لقد أخبرتهم الرسالة الخاتمة أن سؤالهم ورفضهم لبشرية الرسول ما هو إلا نسخة مكررة على لسان آبائهم من آلاف السنين وكانت الإجابة على ما طرحه آباؤهم تبدو بوضوح على ما تركوه من آثار ، ولكن الانحراف لا يفكر إلا بعقلية الانحراف لقد ركبوا سفينة سلفهم التي لا أمل في وصولها إلى بر الأمان وكما تمنى قوم نوح أن تكون الرسالة في واحد من الأفاضل والأشراف فكذلك فعل أبناؤهم في معسكر الانحراف الذي عاصر الدعوة الخاتمة يقول تعالى : ( قَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ) ثم يجيب تعالى على ما طلبوه فيقول لرسوله :
  ( أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ) (2) قال المفسرون : مرادهم أن الرسالة منزلة شريفة إلهية لا ينبغي أن يتلبس به إلا رجل شريف في نفسه عظيم في قومه والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في نظرهم فاقد لهذه الخصلة، فلو كان القرآن الذي جاء به وحيا نازلا من الله، فلو نزل على رجل عظيم من مكة أو الطائف كثير المال رفيع المنزلة، فرد الله تعالى قولهم ، ومحصله : أن قولهم هذا تحكم ظاهر ينبغي أن يتعجب منه .
  فإنهم يحكمون فيما لا يملكون ، هذه معيشتهم في الحياة الدنيا يعيشون ويرتزقون وهي رحمة منا ، لا قدر لها ولا منزلة عندنا ، وليس إلا متاعا زائلا ، نحن نقسمها بينهم وهي خارجة عن مقدرتهم ومشيئتهم ، فكيف يقسمون النبوة التي هي

-------------------------------
(1) سورة إبراهيم ، الآيتان : 9 ـ 10 .
(2) سورة الزخرف ، الآيتان ، 31 ـ 32 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 360 _
  الرحمة الكبرى ، وهي مفتاح سعادة البشر الدائمة والفلاح الخالد فيعطونها لمن شاؤوا ويمنعونها ممن شاؤوا ، إنهم لا يملكون النبوة التي هي رحمة لله خاصة به حتى يمنعوك يا محمد منها ويعطوها لمن هووا ، إن طابور الدفاع عن مقولات الآباء لم يفهم أن مقتضى العناية الإلهية هداية كل نوع من أنواع الخليقة إلى كماله وسعادته ، والإنسان الذي هو أحد هذه الأنواع غير مستثنى من هذه الكلمة ، ولا تتم سعادته في الحياة إلا بأن يعيش عيشة اجتماعية تحكم فيها قوانين وسنن تضمن سعادة حياته في الدنيا وبعدها ، وترفع الاختلافات الضرورية الناشئة بين الأفراد .
  وإذ كانت حياته حياة شعورية ، فلا بد أن يجهز بما يتلقى به هذه القوانين والسنن ، ولا يكفي في ذلك ما جهز به من العقل المميز بين خيره وشره ، فإن العقل يعينه ويهديه إلى الاختلاف ، فلا بد أن يجهز بشعور آخر يتلقى به ما يفيضه الله من المعارف والقوانين الرافعة للاختلاف الضامنة لسعادته وكماله ، وهو شعور الوحي ، الإنسان المتلبس به هو النبي (1) لم يفهم حملة أعلام السلف أن الذي يصلح لتلقي الوحي من الله هو الرسول ، وأما غيره فهم محرومون من ذلك لعدم استعدادهم لذلك .

  ثانياً : دفاعهم عن تيار السلف :
  خرج معسكر الانحراف من أجل الدفاع عن حجارته وأهوائه ومنهج شيطانه يقول تعالى : ( وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُّفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ ) ثم يطيب الله خاطر رسوله فيقول : ( وَمَا آتَيْنَاهُم مِّن كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِن نَّذِيرٍ * وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ * قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ * قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) (2) قال المفسرون: خطابهم هذا لعامتهم بعد استماع الآيات تنبيه لهم على الجد في التمسك بدين آبائهم ، وتحريض لهم عليه

-------------------------------
(1) الميزان : 206 / 15 .
(2) سورة سبأ ، الآيات : 43 ـ 47 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 361 _
  (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وفي توصيف الآيات بالبينات نوع عتبى كأنه قيل : إذا تتلى عليهم هذه الآيات ، وهي بينة لا ريب فيها ، فبدلا من أن يدعوا عامتهم إلى اتباعها ، حثوهم على الاصرار على تقليد آبائهم وحرضوا عليه ـ وفي إضافة الآباء إلى ضمير ( كم ) مبالغة في التحريض والإثارة وقالوا لأتباعهم : ليس هذا إلا كلاما مصروفا عن وجهه ، مكذوبا به على الله ، بدلا من أن يقولوا : إنها آيات بينات نازلة من عند الله تعالى ، والذين كفروا بعثهم الكفر إلى أن يقولوا للحق الصريح الذي بلغهم وظهر لهم ، هذا سحر ظاهر سحريته وبطلانه ، والحال أنا لم نعطهم كتبا يدرسونها حتى يميزوا بها الحق من الباطل ، ولم نرسل إليهم قبلك رسول ينذرهم ويبين لهم ذلك ، فيقولوا استنادا إلى الكتاب الإلهي أو إلى قول الرسول النذير : إنه حق أو باطل ( وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ) أي : وكذب بالحق من الآيات، الذين كانوا من قبل كفار قريش ، من الأمم الماضية ، ولم يبلغ كفار قريش عشر ما آتيناهم من القوة والشدة ، فكذب أولئك الأقوام رسلي ، فكيف كان أخذي بالعذاب ، وما أهون أمر قريش ، قل لهم : إنما أوصيكم بالعظة أن تنهضوا .
  وتنتصبوا لوجه الله، متفرقين حتى يصفوا فكركم ويستقيم رأيكم اثنين اثنين، وواحدا واحدا ، وتتفكروا في أمري ، فقد صاحبتكم طول عمري على سداد من الرأي ، وصدق وأمانة ، ليس في جنة ، ما أنا إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد يوم القيامة ، فأنا ناصح لكم غير خائن ( قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُم ... ) كناية عن عدم سؤال أجر على الدعوة ، فإنه إذا وهبهم كل ما سألهم من أجر.
  فليس له عليهم أجر مسؤول ، ولازمه أن لا يسألهم ، وهذا تطييب لنفوسهم ، أن لا يتهموه بأنه جعل الدعوة ذريعة إلى نيل مال أو جاه ، ثم تمم القول بقوله : ( إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) لئلا يرد عليه قوله بأنه دعوى غير مسموعة فإن الإنسان لا يروم عملا بغير غاية ، فدفعه ، بأن لعملي أجر ، لكنه على الله لا عليكم وهو يشهد عملي وهو على كل شئ شهيد (1).
  لقد أرادوا تهييج العامة والغوغاء ، فأمرهم الإسلام بالتفرق وتجنب التجمع والغوغاء ، فإن الغوغاء لا شعور لها ولا فكر ، وكثير ما تميت الحق وتحيي

-------------------------------
(1) الميزان : 389 / 16 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 362 _
  الباطل ، فهل فهم طابور الانحراف ما دعاهم إليه الإسلام ؟ لقد قابلوا العلم بالجهل ، وغاب عن طابور الانحراف عقله المميز ، الحاكم في الحسن والقبيح والممدوح والمذموم ، وانطلقوا نحو دوائر التحقير التي شرب منها سلفهم حتى ارتووا يقول تعالى : ( وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ قَبِيلاً * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ ) وبعد أن عرض أبناء السلف مطالبهم قال تعالى لرسوله : ( قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً * وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَن قَالُواْ أَبَعَثَ اللّهُ بَشَرًا رَّسُولاً * قُل لَّوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلآئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاء مَلَكًا رَّسُولاً * قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ) (1) قال المفسرون : قالت قريش : ( لن نؤمن لك ) يا محمد ( حتى تفجر ) وتشق ( لنا من الأرض ) من مكة لقلة مائها ( ينبوعا ) عينا لا ينضب ماؤها ( أو تكون ) بالإعجاز ( لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ ) أي تشقها وتجريها ( خلالها ) أي وسط تلك الجنة وأثناءها ( تفجيرا ) ( أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ ) أي مماثلا لما زعمت يشيرون به إلى قوله تعالى : ( أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِّنَ السَّمَاء ) (2) ( علينا كسفا ) وقطعا ( أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ قَبِيلاً ) مقابلا نعاينهم ونشاهدهم ، أو يكون لك ببيت من زخرف وذهب ( أو ترقى ) وتصعد ( في السماء ولن نؤمن لرقيك ) وصعودك ( حتى تنزل علينا ) منها كتابا ( نقرؤه ) ونتلوه(3).
  لقد أمسكوا بذيول السلف بكل قوة ورددوا مقولاتهم التي أرادوا بها التعجيز، ( قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً ) قال المفسرون : أمره الله تعالى أن يجيب عما اقترحوه عليه وينبههم على جهلهم مكابرتهم فيما لا

-------------------------------
(1) سورة الإسراء ، الآيات : 90 ـ 96 .
(2) سورة سبأ ، الآية : 9 ، والآية لا تخلو من دلالة على تقدم سورة سبأ على هذه السورة نزولا .
(3) الميزان : 202 / 13 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 363 _
  يخفى على ذي نظر ، فإنهم طالبوه بأمور عظام ، لا يقوى على أكثرها إلا القدرة الغيبية الإلهية، وفيها ما هو مستحيل بالذات كالإتيان بالله والملائكة قبيلا ، ولم يرضوا بهذا المقدار ولم يقنعوا به دون أن جعلوه هو المسؤول المتصدي لذلك ، المجيب لما سألوه ، فلم يقولوا لن نؤمن لك حتى تسأل ربك أن يفعل كذا وكذا ، بل قالوا : ( لن نؤمن لك حتى تفجر ) ( أو تكون لك ... ) ( أو تأتي بالله ) إن أرادوا منه ذلك بما أنه بشر ، فأين البشر من هذه القدرة المطلقة غير المتناهية ، المحيطة حتى بالمحال الذاتي ، وإن أدوا منه ذلك بما أنه يدعي الرسالة ، فالرسالة لا تقتضي إلا حمل ما حمله الله من أمره وبعثه لتبليغه بالإنذار والتبشير لا تفويض القدرة الغيبية إليه وإقداره أن يخلق كل ما يريد ، ويوجد كل ما شاؤوا ، وهو (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يدعي لنفسه ذلك ، فاقتراحهم ما اقترحوه مع ظهور الأمر من عجيب الاقتراح ، ولذلك أمره تعالى أن يبادر في جوابهم أولا إلى تنزيه ربه مما يلوح إليه اقتراحهم هذا ، من المجازفة وتفويض القدرة إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ولا يبعد أن يستفاد منه التعجب ، فالمقام صالح لذلك ، وثانيا ، إلى الجواب بقوله في صورة الاستفهام ( هل كنت إلا بشرا رسولا ) وهو يؤيد كون قوله : ( سبحان ربي ) واقعا موقع التعجب ، أي ، إن كنتم اقترحتم على هذه المور وطلبتموها مني بما أنا محمد ، فإنما أنا بشر ولا قدرة للبشر على شئ من هذه الأمور ، وإن كنتم اقترحتموها لأني رسول ادعي الرسالة ، فلا شأن للرسول إلا حمل الرسالة وتبليغها لا تقلد القدرة الغيبية المطلقة.
  قد ظهر بهذا البيان أن كلا من قوله ( بشرا ) و ( رسولا ) دخيل في استقامة الجواب عن اقتراحهم ، أما قوله : ( بشرا ) فليرد به اقتراحهم عيه أن يأتي بهذه لآيات عن قدرته في نفسه ، وأما قوله : ( بشرا ) فليرد به اقتراحهم عليه أن يأتي بهذه مكتسبة من ربه (1).

-------------------------------
(1) الميزان : 205 / 13 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 364 _
  ثالثاً : وجاءتهم كلمة العذاب :
  بعد أن بين لهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حقيقة الأمر وأنه لا يملك إلا ما يأذن فيه ربه أمره ربه جل وعلا أن يبلغهم أن الأمر بينه وبينهم إلى ربه يحكم فيه بما يشاء ( قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ) قال المفسرون : لما احتج عليهم بما احتج ، وبين لهم ما بين في أمر معجزة رسالته وهي القرآن الذي تحدى به وهم على عنادهم وجحودهم وعنتهم لا يعتنون به .
  ويقترحون عليه بأمور جزافية أخرى ، ولا يحترمون لحق ولا ينقطعون عن باطل ، أمر أن يرجع الأمر إلى شهادة الله، فهو شهيد بما وقع منه ومنهم ، فقد بلغ ما أرسل به ودعا واحتج وأعذر ، وقد سمعوا وتمت عليهم الحجة واستكبروا وعتوا والآية في معنى إعلام قطع المحاجة ، وترك المخاصمة ورد الأمر إلى مالك الأمر فليقض ما هو قاض (1) ( وَمَن يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاء مِن دُونِهِ ) (2) قال المفسرون : إن الهداية لله تعالى لا يشاركه فيها أحد فمن هداه فهو المهتدي لا غير ومن أضله ولم يهده فلن تجد يا محمد له أولياء من دونه يهدونه ، والله لا يهدي هؤلاء ، فانقطع عنهم ولا تكلف نفسك في دعوتهم رجاء أن يؤمنوا (3) .
  لقد دخل أبناء الانحراف داخل عباءة آبائهم ، لم يتبعوا النور الذي يهدي إلى صراط الله، واتبعوا طابور العمي الذي لا يهدي إلى الظلام والضلال ، كان النبي الأمي (صلى الله عليه وآله وسلم) يتلو عليهم آيات ربه فما يزيدهم إلا نفورا ، تحداهم بالقرآن وطالبهم أن يأتوا بمثله ولن يأتوا بمثله ولو كان الثقلان أعوانا لهم وأعضادا يمدونهم ، لكنهم هربوا من أمام المعجزة وطالبوا بالأنهار والحدائق وغير ذلك هربوا من أمام المعجزة كما هرب آباؤهم من قبل ، وعندما طالبوا بما طالب به الأوائل في طابور الانحراف تلى عليهم الرسول الأعظم قول ربه : ( قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي

-------------------------------
(1) الميزان : 208 / 15 .
(2) سورة السراء ، الآية : 97 .
(3) الميزان : 209 / 15 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 365 _
  مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ ) (1) قال المفسرون: ( إن أتبع ) ليدل على كونه مأمورا بتبليغ ما يوحى إليه ، ليس له إلا اتباع ذلك ( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ ) أي أني وإن ساويتكم في البشرية والعجز ، لكن ذلك لا يمنعني عن دعوتكم إلى اتباعي ، فإن ربي جعلني على بصيرة بما أوحى إلي دونكم ، فأنا وأنتم كالبصير والأعمى لا يستويان في الحكم ، وإن كانا متساويين في الإنسانية ، فإن التفكر في أمرهما يهدي الإنسان إلى القضاء بأن البصير يجب أن يتبعه الأعمى ، والعالم يجب أن يتبعه الجاهل (2) !
  وسارت قافلة الظلام تشق طريقها في غبار الضلال ( وَقَالُواْ يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ) (3) ! وبينما هم يقولون ذلك يقول تعالى لرسوله : ( مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ ) (4) وقال : ( وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون ) (5) وقال : ( قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ * وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا ) (6) وقال : ( وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا ) (7) لقد طيب الله تعالى خاطر رسوله وخاصة في السور المكية لشدة الأمر عليه وأخبره بأنه سبحانه نزل الذكر عليه وأنه تعالى يحفظه ، فلا يضيق صدره بما يقولون فإن ما يقولوه دأب المجرمين من الأمم الإنسانية ، وأن حال دعوته بالذكر المنزل عليه ، تشبه حال الرسالة من قبله ، فكلما أرسل الله من قبله رسولا ، قابلوا الرسالة بالصد والاستهزاء ، وهؤلاء المجرمين ، لو فتح الله عليهم بابا من السماء، ويسر لهم الدخول في عالمها ، فداموا فيه عروجا بعد عروج ، حتى يتكرر لهم مشاهدة ما

-------------------------------
(1) سورة الأنعام ، الآية : 50 .
(2) الميزان : 97 / 7 .
(3) سورة الحجر ، الآية : 6 .
(4) سورة القلم ، الآية : 2 .
(5) سورة الأنعام ، الآية : 10 .
(6) سورة الأنعام ، الآيتان: 33 ـ 34 .
(7) سورة الطور ، الآية : 48 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 366 _
  فيه من أسرار الغيب وملكوت الأشياء ، لقالوا : إنما غشيت أبصارنا ، فشاهدت أمورا لا حقيقة لها ، بل نحن قوم مسحورون وهو قوله تعالى : ( وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا مِّنَ السَّمَاء فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ ) (1) إن طابور الانحراف توغل بأقدامه داخل دروب الظلام ولن يأخذ بأسباب الهدى حتى ولو فتحت له أبواب السماء لينظر بأم عينيه معجزات الله الباهرة ، لقد بعث الله فيهم رسولا منهم ليهديهم ولكنهم أغلقوا الأبواب فحقت عليهم كلمة العذاب يقول تعالى لرسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) : ( إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ * لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ * وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ * وَسَوَاء عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ) (2) قال المفسرون : المعنى : إنما أرسلك وأنزل عليك القرآن لتنذر وتخوف قوما لم ينذر آباءهم فهم غافلون ، والمراد بالقوم هو قريش ومن يلحق بهم ، وذكرهم وحدهم لا ينفي من عداهم نظرا إلى عموم رسالته ، والمراد بالقول الذي حق عليهم ، أنه قد وجب العذاب على أكثرهم وذلك لأن الله قد ختم عليهم في أم الكتاب أنهم لا يؤمنون بالله ولا يصدقون رسله (3) ، وقال تعالى إنا جعلنا هؤلاء المحتوم عليهم بالشقاء نسبتهم إلى الوصول إلى الهدى كنسبة ممن جعل في عنقه غل فجمع يده مع عنقه تحت ذقنه وارتفع رأسه فصار مقمحا ولذا قال تعالى : ( فهم مقمحون ) أي رافعي رؤوسهم وأيديهم موضوعة على أفواههم فهم مغلولون عن كل خير ( وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا ) عن الحق ( ومن خلفهم سدا ) عن الحق فهم مترددون (4) ، و بالجملة غشينا أبصارهم عن الحق فلا ينتفعون بخير ولا يهتدون إليه ، أي ركبوا طريق الطمس باختيارهم

-------------------------------
(1) سورة الحجر ، الآيتان : 14 ـ 15 .
(2) سورة يس ، الآيات : 3 ـ 10 .
(3) تفسير ابن كثير : 564 / 3 .
(4) تفسير ابن كثير : 564 / 3 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 367 _
  فاستحقوا إضلال الله لهم ، و قال في الميزان : المراد بالقول الذي حق عليهم كلمة العذاب التي تكلم بها الله سبحانه في بدء الخلقة مخاطبا بها إبليس ( فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ * لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ ) (1) والمراد بتبعية إبليس طاعته بما يأمر به بالوسوسة والتسويل بحيث تثبت الغواية وترسخ في النفس كما يشير إليه قوله تعالى خطابا لا بليس : ( إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ ) (2) ولازمه الطغيان والاستكبار على الحق كما يشير إليه ما قاله تعالى من تساؤل المتبوعين والتابعين في النار ( بَلْ كُنتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ * فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ * فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ ) (3) وقوله : ( وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ * قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ) (4) .
  لازمه الانكباب على الدنيا والإعراض عن الآخرة بالمرة ورسوخ ذلك في نفوسهم قال تعالى : ( وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ) (5) فيطبع الله على قلوبهم ، ومن آثاره أن لا سبيل لهم إلى الإيمان قال تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ ) (6) بما تقدم ظهر أن الفاء في قوله : ( فهم لا يؤمنون ) للتقريع لا للتعليل كما احتمله بعضهم (7) وقوله تعالى : ( وَسَوَاء عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ) قال المفسرون : أي قد ختم الله عليهم بالضلالة فما يفيد فيهم الانذار ولا يتأثرون

-------------------------------
(1) سورة ص ، الآيتان : 84 ـ 85 .
(2) سورة الحجر ، الآيتان : 42 ـ 43 .
(3) سورة الصافات ، الآيات : 30 ـ 32 .
(4) سورة الزمر ، الآيتان : 71 ـ 72 .
(5) سورة النحل ، الآيات : 106 ـ 108 .
(6) سورة يونس ، الآية : 96 .
(7) الميزان : 64 / 17 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 368 _
  به ، وكما قال تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ ) (1) ولا منافاة بين إخباره بأنهم سواء أنذروا أم لم ينذروا وبين إنذارهم ، لأن في البلاغ إتماما للحجة (2) ( لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ ) (3) .
  لقد طالبهم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أن ينظروا في الكون نظر المتدبر البصير كي يحطموا الأصنام بأنفسهم تلك الأصنام القابعة على طريق عقولهم ووجدانهم ولكنهم أبوا إلا طريق الآباء يقول تعالى : ( وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ * وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ ) (4) فأهل هذه الآية هم الذين تعاموا عن آيات الله في الكون وأمسكوا ذيول سلفهم على طريق الانحراف ، والله تعالى كتب على نفسه أن يصرف عن آياته كل من يعرض عن سبيل الهدى قال تعالى : ( سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ ) (5) قال المفسرون : أي سأضع فهم الحجج والأدلة الدالة على عظمتي وشريعتي وأحكامي قلوب المتكبرين عن طاعتي ويتكبرون على الناس بغير حق ، وقال سفيان : أنزع عنهم فهم القرآن وأصرفهم عن آياتي ، وقال ابن جرير : هذا يدل على أن هذا الخطاب لهذه الأمة (6) وقال في الميزان : الآية تقييد التكبر في الأرض بغير الحق مع أن التكبر فيها لا يكون إلا بغير الحق ، كتقييد البغي في الأرض بغير الحق للتوضيح لا للاحتراز ، ويراد به الدلالة على وجه الذم ، وأن التكبر كالبغي مذموم لكونه بغير الحق وقوله : ( وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ) أي اعتنائهم الشديد ومراقبتهم الدقيقة على

-------------------------------
(1) ابن كثير : 565 / 3 .
(2) الميزان : 72 / 17 .
(3) سورة الأنفال ، الآية : 42 .
(4) سورة يوسف ، الآيتان : 105 ـ 106 .
(5) سورة الأعراف ، الآية : 146 .
(6) ابن كثير : 247 / 2 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 369 _
  مخالفة سبيل الرشد ، واتباع سبيل الغي، بحيث لا يعذرون بخطأ ولا تحتمل في حقهم جهل أو اشتباه (1)، لقد جلس معسكر الانحراف في المكان الذي اختاره لنفسه ، المكان الذي يكون فيه أضل من البهيمة، وذلك بعد أن صادر سمعه وبصره وفؤاده وألقى بنفسه في أحضان الشيطان يقول تعالى : ( إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ ) (2) قال المفسرون : وليست ولايتهم وتصرفهم في الإنسان إلا ولاية الفتنة والغرور ، فإذا افتتن واغتر بهم تصرفوا بما شاؤوا وكما أرادوا (3) لقد دعاهم الرسول الأعظم إلى الطهر والنقاء وسعادة الدارين ، ولكنهم تعاملوا مع الدعوة كتجار فاعتبروها سلعة كل منهم يحسب مكسبه منها في حالة الاقتراب أو الابتعاد عنها ، وفي جميع الحالات يتحرك التجار وفقا لسنة الآباء القومية.

  رابعاً : وفاتهم أن العقيدة لا تصلح للتجارة ولا تخضع لأكياس النقود :
  1 ـ استعجال العذاب :

  على أرض مكة تعالت أصوات طوابير الانحراف وأخذوا يؤذون رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وانهالت سياطهم وعصيهم على ظهور الضعفاء من الذين آمنوا ، وتقدم سادة خيام الانحراف ليسألوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يأتيهم بالعذاب إن كان من الصادقين ، آخذين في ذلك بسنة آبائهم في قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وأهل مدين ، كانوا يستعجلون أي عذاب ، سواء أكان عذاب في الدنيا أم عذاب الآخرة ، يقول تعالى : ( وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاء أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) (4) قال المفسرون: أي امطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب آخر غيره يكون أليما ، وإنما أفرد إمطار الحجارة من بين أفراد العذاب الأليم بالذكر ، لكون الرضخ بالحجارة مما يجتمع فيه عذاب الجسم بما فيه من تألم البدن وعذاب

-------------------------------
(1) الميزان : 247 / 8 .
(2) سورة الأعراف ، الآية : 27 .
(3) الميزان : 71 / 8 .
(4) سورة الأنفال ، الآية : 32 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 370 _
  الروح بما فيه من الذلة والإهانة (1) لقد استعجل طابور الانحراف العذاب أي عذاب كان ، يقول تعالى : ( وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُّسَمًّى لَجَاءهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ ) (2) قال المفسرون : إشارة إلى قولهم كقول متقدميهم :
  إئتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين ، وقال تعالى في استعجالهم للعذاب ( وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ ) (3) واستعجالهم للعذاب يدل على كمال جهلهم وفساد فهمهم ، لأن استعجالهم استعجال لأمر مؤجل لا معجل أولا، واستعجال لعذاب واقع لا صارف له عنهم ، لأنهم مجزيون بأعمالهم التي لا تفارقهم ثانيا ، والمراد بالأجل المسمى في الآية هو الذي قضاه الله تعالى لبني آدم ، حين أهبط آدم إلى الأرض فقال : ( وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ) (4) وقال : ( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ ) (5) وهذا العذاب الذي يحول بينه وبينهم الأجل المسمى ، هو الذي يستحقونه لمطلق أعمالهم السيئة ، كما قال تعالى :
  ( وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُوا مِن دُونِهِ مَوْئِلًا ) (6) ، ولا ينافي ذلك تعجيل العذاب بنزول الآيات المقترحة على الرسول من غير إمهال وإنظار (7)، قال تعالى : ( وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ ) (8)، وأمام استعجالهم للعذاب كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يجيبهم بما أجاب به أنبياء الله أقوامهم حين طالبوهم بالعذاب قال تعالى : ( قُلْ إِنْ أَدْرِي

-------------------------------
(1) الميزان : 67 / 9 .
(2) سورة العنكبوت ، الآيتان : 53 ـ 54 .
(3) سورة هود ، الآية : 8 .
(4) سورة البقرة ، الآية : 36 .
(5) سورة الأعراف ، الآية : 34 .
(6) سورة الكهف ، الآية : 58 .
(7) الميزان : 141 / 16 .
(8) سورة الإسراء ، الآية : 59 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 371 _
  أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا ) (1) وقال : ( إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ * قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدِّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ) (2) وقال : ( وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ * أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُم بِهِ آلآنَ وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ * ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذُوقُواْ عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ * وَيَسْتَنبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ ) (3) قال المفسرون : سؤال منهم عن وقت هذا القضاء الموعود .
  وهو القضاء بينهم في الدنيا، والسائلون هم بعض المشركين من معاصري النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، والدليل عليه أمره أن يجيبهم بقوله : ( قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ... ) الآية ، وقول البعض إن السؤال عن عذاب يوم القيامة ، أو أن السائلين بعض المشركين من الأمم السابقة لا يلتفت إليه (4)، فقولهم متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ، في معنى قولنا : أي وقت يفي ربك بما وعدك ، أو يأتي بما أوعدنا به إنه يقضي بيننا وبينك ، فيهلكنا وينجيك والمؤمنين بك ، فيصفوا لكم الجو، ويكون لكم الأرض وتخلصون من شرنا ؟
   فهل عجل لكم ذلك ؟ وذلك إن كلامهم مسوق سوق الاستعجال تعجيزا واستهزاء ، كما تدل على استعجالهم الآيات التالية في السورة ، وهذا نظير قولهم ، ( لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) (5) ، لقن سبحانه النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أن يبدأهم في الحواب ببيان ، إنه لا يملك لنفسه ضرا حتى يدفعه عنها ، ولا نفعا حتى يجلبه إليها ويستعجل ذلك إلا ما شاء الله أن

-------------------------------
(1) سورة الجن ، الآية 25 .
(2) سورة النعام ، الآيتان : 134 ـ 135 .
(3) سورة يونس ، الآيات : 48 ـ 53 .
(4) الميزان : 72 / 10 .
(5) سورة الحجر ، الآية : 7 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 372 _
  يملكه من ضر ونفع ، فالأمر لله سبحانه جميعا ، واقتراحهم عليه بأن يعجل لهم القضاء والعذاب من الجهل ، ثم يجيب عن سؤالهم عن أصل تعيين الوقت جوابا إجماليا ، بالإعراض عن تعيين الوقت والإقبال عن ذكر ضرورة الوقوع ، أما الأول: فإنه من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، وأمره الذي لا يتسلط عليه إلا هو .
  وأما الثاني : أعني ذكر ضرورة الوقوع فقد بين ذلك ، بالإشارة إلى حقيقة هي من النواميس العامة الجارية في الكون تنحل بها العقدة وتندفع بها الشبهة ، وهي أن لكل أمة أجلا لا يتخطاهم ولا يتخطونه ، فهو آتيهم لا محالة ، وإذا آتاهم لم يخبط في وقوعه موقعة ولا ساعة ، وهو قوله تعالى : ( لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ ) أي وأنتم أمة من الأمم فلا محالة لكم أيضا أجل كمثلهم فإذا جاءكم لا تستأخرون ساعة ولا تستقدمون .
  فإذا فقهوا هذا الكلام وتدبروه ، ظهر لهم أن لكل أمة حياة اجتماعية وراء الحياة الفردية التي لكل واحد من أفرادها ، ولحياتها من البقاء والعمر ما قضى به الله سبحانه لها ، ولها من السعادة والشقاوة والتكليف والرشد والغي والثواب والعقاب نصيبها ، وهي مما اعتنى بها التدبير الإلهي ، نظير الفرد من الإنسان.
  ويدلهم على ذلك ما يحدثهم به التاريخ ، ويفصح عنه الآثار من ديارهم الخربة ومساكنهم الخالية، وقد قص عليهم القرآن أخبار بعضهم كقوم نوح وعاد قوم هود ، وثمود قوم صالح ، وكلدة قوم إبراهيم وأهل سدوم وسائر المؤتفكات قوم لوط والقبط قوم فرعون وغيرهم ، فهؤلاء أمم منقرضة ، سكنت أجراسهم .
  وخمدت أنفاسهم ، ولم ينقرضوا إلا بعذاب وهلاك ، ولم يعذبوا إلا بعدما جاءتهم رسلهم بالبينات ، ولم يأت قوما منهم رسوله إلا واختلفوا في الحق الذي جاءهم. فمنهم من آمن و منهم من كذب به وهم الأكثرون .
  فهذا يدلهم على أن هذه الأمة ، وقد اختلفوا في الحق لما جاءهم ، سيقضي الله بين رسوله وبينهم فيأخذهم بما أخذ به من خلت من قبلهم من الأمم وإن الله لبالمرصاد ، وعلى الباحث المتدبر، أن يتنبه لأن الله سبحانه وإن بدأ في وعيده بالمشركين ، غير أنه تعالى هدد في آياته المجرمين فتعلق الوعيد بهم .
  ومن أهل القبلة مجرمون كغيرهم ، فلينتظروا عذابا واصبا يفصل به الله بينهم وبين نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ولينسوا ما يلقيه الشيطان في روعهم ، أن أمتهم

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 373 _
  هذه أمة مرحومة رفع الله عنهم عذاب الدنيا إكراما منه لنبيهم نبي الرحمة، فهم في أمن من عذاب الله وإن انهمكوا في كل إثم وخطيئة وهتكوا كل حجاب ، مع أنه لا كرامة عند الله إلا بالتقوى ، وقد خاطب المؤمنين من هذه الأمة بمثل قوله : ( لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ) (1) .
  وربما تعدى المتعدي فعطف عذاب الآخرة على عذاب الدنيا ، فذكر أن الأمة مغفور لها محسنهم ومسيئهم فلا يبقى لهم في الدنيا إلا كرامة أن لهم أن يفعلوا ما شاؤوا ، فقد أسدل الله عليهم حجاب الأمن ، ولا في الآخرة إلا المغفرة والجنة ؟ ! ولا يبقى على هذا للملة والشريعة ، إلا أنها تكاليف وأحكام جزافية لعب بها رب العالمين ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون ، تعالى عما يقولون علوا كبيرا ، فهذا كله من العراض عن ذكر الله وهجر كتابه ، وقال الرسول : يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا ، أما قوله تعالى : ( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ ) فإنهم لما استعجلوا آية العذاب قال تعالى ملقنا لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) : ( قل أرأيتم ) وأخبروني ( إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا ) ليلا ( أو نهارا ) فإنه عذاب لا يأتيكم إلا بغتة إذ لستم تعلمون وقت نزوله ( ماذا يستعجل منه ) من العذاب ( المجرمون ) أي ماذا تستعجلون منه ، وأنتم مجرمون لا يتخطاكم إذا آتاكم ، ثم وبخهم على تأخير إيمانهم إلى حين لا ينفعهم الإيمان فيه ، وهو حين نزول العذاب فقال تعالى : ( أثم إذا ما وقع ) العذاب ( آمنتم به ) أي بالقرآن أو بالدين أو بالله ، ( الآية ) أي أتؤمنون به في هذا ( الآن ) والوقت ( وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ) وكان معنى استعجالهم عدم الاعتناء بشأن هذا العذاب وتحقيره وبالإستهزاء به ...
  وقوله تعالى : ( ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذُوقُواْ عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ ) الأشبه أن تكون الآية متصلة بقوله تعالى : ( لكل أمة أجل ) الخ، فتكون الآية الأولى تبين تحقق وقوع العذاب عليهم وإهلاكهم إياهم ، والآية الثانية تبين أنه يقال لهم بعد الوقوع والهلاك : ذوقوا عذاب الخلد وهو عذاب الآخرة ، ولا تجزون إلا أعمالكم التي كنتم تكسبونها وذنوبكم التي

-------------------------------
(1) سورة النساء ، الآية : 123 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 374 _
  تحملونها (1)، لقد استعجلوا العذاب ولله في خلقه شؤون يقول تعالى : ( أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ * أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ ) (2) إن العذاب قادم ، أما كيف ومتى فهذا في علم الله ( فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ * أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِم مُّقْتَدِرُونَ * فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) (3) ( قُل رَّبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ * رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) (4) اللهم اغفر وارحم وأنت خير الراحمين ، اللهم باعد بيننا وبين القوم الظالمين وصلى الله على نبيك وآله وسلم ، لقد استعجلوا العذاب كما أخبر الله تعالى في كتابه في آيات نزلت بمكة واستعجلوه أيضا في آيات نزلت بالمدينة وسيكون لنا حديث آخر مع استعجال العذاب في موضعه بإذن الله تعالى .

  2 ـ الخروج من مكة :
  لم يدخر معسكر الانحراف جهدا من أجل الصد عن سبيل الله ، وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يحث المؤمنين به على الصبر ، في مواجهه جحافل الليل المغير تحت قيادة الجبابرة الذين ورثوا من قوم نوح تحقير عباد الله، ومن عاد الاستكبار بغير الحق ، كان معسكر الانحراف يضرب بالسيف وبالحجر وبلسانه ، والنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يدافع عن نفسه وعن المؤمنين إلا بالكلمة الطيبة وبالوحي ، وظلت جحافل الليل تكيد للإسلام ، ولكن كيدهم في كل مرة كان يذهب كما تذهب رغوة جوفاء في خلاء واسع عريض ، وتحداهم النبي الأعظم كما تحدى هود (عليه السلام )قومه أن يكيدوا له ، لقد سخر منهم ومن قوتهم لأنهم باطل لا يستند إلا على باطل ، وعلى أسماعهم تلى قوله تعالى :
  ( قُلِ ادْعُواْ شُرَكَاءكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ * إِنَّ وَلِيِّيَ اللّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ

-------------------------------
(1) الميزان : 75 / 10 .
(2) سورة الشعراء ، الآيات : 204 ـ 207 .
(3) سورة الزخرف ، الآيات : 41 ـ 43 .
(4) سورة المؤمنون ، الآيتان : 93 ـ 94 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 375 _
  يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ * وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلآ أَنفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ ) (1) قال المفسرون: أي قل لهم ادعوا شركاءكم لنصركم علي ، ثم كيدوني فلا تنظروني ولا تمهلوني ، إن ربي ينصرني ويدفع عني كيدكم ، فإنه الذي نزل الكتاب ليهدي به الناس، وهو يتولى الصالحين من عباده فينصرهم .
  وأنا من الصالحين فينصرني ولا محالة ، وأما أربابكم الذين تدعون من دونه ، فلا يستطيعون نصركم ولا نصر أنفسهم، ولا يسمعون ولا يبصرون فلا قدرة لهم ولا علم (2) وأمام هذا التحدي عجز طابور الانحراف في مكة على إحداث أي ضرر في الدعوة أو الداعية رغم محاولاتهم العديدة، يقول تعالى : ( وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِين ) (3) قال المفسرون : أذكر أو ليذكروا إذ يمكر بك الذين كفروا من قريش لإبطال دعوتك ، أن يوقعوا بك أحد أمور ثلاثة : إما أن يحبسوك وإما أن يقتلوك وإما أن يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين ، والترديد في الآية بين الحبس والقتل والإخراج ، بيانا لما كانوا يمكرونه من مكر يدل أنه كان بينهم شورى ، تشاور فيها مع بعضهم بعضا في أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وما كان يهمهم ويهتمون به من إطفاء نور دعوته (4) .
  لقد أرادوا أن تخرج هداية الله من بينهم ، والله تعالى لا يريد أن تخرج هدايته إلا بعد أن تبلغ حجته عليهم مداها ، فكان ما أراد الله ورد الله كيدهم في نحورهم ، وبعد أن أقامت الدعوة حجتها عليهم أمر تعالى رسوله بالخروج من مكة مهاجرا هو والذين آمنوا معه ... ليقف الذين مكروا من قبل لإخراج الرسول على أرضية إخراج الرسل ، تلك الأرضية التي ينال من يقف عليها عذاب الخزي في الحياة الدنيا والآخرة ، يقول تعالى في الطابور الذي أخرج الرسول ( وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ ) (5)

-------------------------------
(1) سورة الأعراف ، الآيات : 195 ـ 197 .
(2) الميزان : 378 / 8 .
(3) سورة الأنفال ، الآية : 30 .
(4) الميزان : 67 / 9 .
(5) سورة محمد ، الآية : 13 .