قال المفسرون : المراد بالقرية : أهل القرية ، بدليل قوله بعد ذلك :
  ( أهلكناهم ) وفي الآية تقوية لقلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وتهديد لأهل مكة وتحقير لأمرهم ، فلقد أخبر سبحانه ، أنه أهلك قرى كثيرة كل منها أشد قوة من قريتهم ولا ناصر لهم ينصرهم (1) وفي الآية تهديد شديد ووعيد أكيد لأهل مكة في تكذيبهم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فإذا كان الله عز وجل قد أهلك الأمم الذين كذبوا الرسل قبله بسببهم وكانوا أشد قوة من هؤلاء .
  فماذا ظن هؤلاء أن يفعل الله بهم في الدنيا والآخرة (2) وعلى الرغم من أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأخرج بعد أن رفض معسكر الانحراف الهدى ، فإن تلاميذ هذا المعسكر قاموا بوضوح الإسلام في صورة المعتدي من يومه الأول، لم يتبين التلاميذ أن طلائع النهار قد تركوا وراء ظهورهم الأرض والأموال وتركوا جحافل الليل تمتع بما تريد ، ولم يفهم التلاميذ أن الله كان يمكن أن يخزي أعداء دينه ويمكن لرسوله في مكة ، ولكنه تعالى لم يفعل ذلك لأن صراطه المستقيم يقوم على أن لا إكراه في الدين ، لقد رفضوا الدين وعندما أقيمت عليهم الحجة أخرج الرسول من باب الإخراج وليس من باب الخروج، لم يفهم التلاميذ ذلك لأنهم يسيرون في طريق الطمس وطريق القهقري الذي يتجه إلى الآباء وليس فيه علم يرى ، بل أهواء يلوكها ذئاب الطابور الأول ثم تتلقفها كلاب الطابور الأخير.

  خامساً : الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في المدينة :
  * 1 ـ الدعوة في المدينة :

  هاجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة بعد أن أخرجه الذين كفروا من مكة بغير حق ، وفي المدينة قام ببناء مسجده بعد أن آخا بين المهاجرين والأنصار بصورة لم يشهد لها التاريخ مثيلا ، فلقد قامت المؤاخاة بتذويب جميع الفوارق بين الإنسان وأخيه الإنسان ، في المدينة بدأ النبي صلى الله عليه وآله

-------------------------------
(1) الميزان 232 / 18 .
(2) ابن كثير : 175 / 4 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 377 _
  وسلم يهتم ببناء الفرد الذي هو أساس المجتمع فكان على صلة دائمة بالأفراد والقبائل يسألوه ويجيب ويبين لهم وأمور دينهم ، وفي عالم المدينة لم تختلف الدعوة كثيرا عنها في مكة ، لأن الأسس التي وضعها الإسلام لبناء الفرد والجماعة أسس واحدة تقبلها الفطرة في كل زمان ومكان ، فالرسول صلى الله عليه وآله وسلم نادى في المدينة بما نادى به في مكة وحث على طاعة الله ، وحفظ اللسان ومحاسبة النفس ، وحث على التفكر، وحث على الصبر والقناعة والحياة وحسن الخلق والوفاء بالوعد ، وحث على التواضع والتوبة والعفو ، وحث على مخالفة الهوى وعلى الإقتصاد في جميع الأمور ، ونهى عن الحسد وعن الكذب وعن الشماتة وعن الغرور ونهى عن الاستحقار وعن الحرص وعن العجب وحب الجاه والزور ونهى عن قتل النفس المحرمة وعقوق الوالدين وأكل مال اليتم ظلما ونهى عن قذف المرأة المحصنة وقطيعة الرحم ، ونهى عن السحر والإضرار بالآخرين ، ونهى عن الزنا واللواط السحاق ونهى عن السرقة وشرب الخمر وأكل الربا وأكل السحق وأكل لحم الميتة، ونهى عن البخس في المكيال وعن حبس الحقوق من غير عذر ، ونهى عن ترك الصلاة المفروضة ومنع الزكاة الواجبة.
  ونهى عن الاضلال عن سبيل الله والحكم بغير ما أنزل الله، ونهى عن النفاق والظلم إشاعة الفواحش ، ونهى عن الغيبة والنميمة والاشتغال بالملاهي ، ونهى عن الفتنة وعن التجسس على المسلمين ومحاربة المؤمنين وإيذائهم ونهى عن الرياء وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من دون عذر .
  كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقدم للنفس الدواء الشافي لها من أمراض الانحراف وكان يرفع عن الفطرة الأحمال الغليظة التي وضعها معسكر الانحراف من خلال ثقافته وتربيته ، وبعد أن خاطب النبي كل فرد في أعماق نفسه ودعاه إلى سعادة الحياة وطيب العيش تحت مظلة التوحيد ، نادى عليه الصلاة والسلام بالوحدة واعتنى بأمر الاجتماع قال تعالى : ( وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ ) (1) وقال : ( إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ) (2) لقد اهتم الإسلام من يومه الأول بالاجتماع ، وجعله موضوعا

-------------------------------
(1) سورة آل عمران ، الآية : 103 .
(2) سورة النعام ، الآية : 159 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 378 _
  مستقلا خارجا عن زاوية الاهمال وحكم التبعية ، والإسلام في تعاليمه لا ينتج إلا اجتماع قوي ، لأنه يبدأ بتربية الأخلاق والغرائز في الفرد الذي هو أصل وجود المجتمع ونتيجة لذلك يكون المجتمع قادرا على قهر القوى الفردية المشتتة الأهواء حتى ولو اجتمعت تحت راية واحدة ، والمجتع الإسلامي الذي يقوم على القرآن وسنة رسول الله ينطلق من قاعدته الأصلية التي شيدت على اتباع الحق وابتغاء الأجر والجزاء من الله، أما غيره من مجتمعات فيقوم على الأهواء ولا أجر ولا جزاء عند الأهواء إلا هباء ضائع في خلاء .

  * 2 ـ الصد عن سبيل الله :
  لم تكف أجهزة ومؤسسات الصد عن سبيل الله عن الكيد للدعوة الإسلامية بعد الهجرة، بل قامت هذه الأجهزة باستعمال أسلحة جديدة للقضاء على دعوة الحق ، منها سلاح أهل الكتاب وسلاح النفاق ، ولم تكف قريش يوما واحدا عن التحرش بأهل الإسلام من أجل جرهم إلى معركة حربية نظرا لما كانوا يعتقدون بأن المسلمين أمة جديدة لم يشتد ساعدها وعليهم ببتر هذا الساعد قبل أن يشتد ويطيح بخيام الانحراف التي تغذي الأهواء ، وأسلحة الصد التي استخدمها معسكر الانحراف كثيرة نكتفي منها بثلاثة :

  1 ـ الصد بالسلاح :
  بعد الهجرة بدأت أجهزة الصد في مكة ترصد كل من قال الله ربي ، فإذا أوقع في أيديهم إما أن يقتل وإما أن يخرجوه من الديار ، كما بدأوا يتحرشون بأهل المدينة فتارة يقطعون طرقهم وتارة يبثون عليهم ما يفتن الناس في دينهم ، وبعد أن قطع جبابرة الظلام شوطا كبيرا في هذا المجال ، أمر الله تعالى بالحرب ، وقال لرسوله في آيات كريمة : ( أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ) (1) قال المفسرون : أذن ـ من جانب الله ـ للذين يقاتلهم المشركون وهم المؤمنون بسبب أنهم ظلموا ـ من جانب المشركين ـ وإن الله على نصرهم لقدير ، ثم بين تعالى كونهم مظلومين ، وهو أنهم أخرجوا من ديارهم وقد أخرجهم المشركون من

-------------------------------
(1) سورة الحج ، الآيتان : 39 ـ 40 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 379 _
  ديارهم بمكة بغير حق يجوز لهم إخراجهم ، ولم يخرجوهم بحمل وتسفير ، بل آذوهم وبالغوا في إيذائهم وشددوا التعذيب والتفتين ، حتى اضطروهم إلى الهجرة من مكة والتغرب عن الوطن وترك الديار والأموال ، فقوم إلى الحبشة وآخرون إلى المدينة في هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فإخراجهم إياهم وألجؤهم إلى الخروج، ولقد أخرجوا بسبب أن يقولوا ربنا الله ، وفي هذا إشارة إلى أن المشركين انحرفوا في فهمهم وألحدوا عن الحق ، إلى حيث جعلوا قولة القائل ربنا الله ، وهي كلمة الحق يبيح لهم أن يخرجوه من داره (1) .
  والحرب في الإسلام غيرها تحت أي راية أخرى ففي الإسلام الله هو الذي يأمر والله هو الذي يحدد الأهداف والله هو الذي ينصر من التزم بتعاليمه ، أما الرايات الأخرى فالتاريخ يشهد أن القديم كان يحارب من أجل الأهواء والحديث يحارب من أجل الأهواء ، أهواء الفرد أو القبيلة أو الحزب والجميع في خدمة أهواء بني إسرائيل الذين ينقبون في الطين عن ميراث مزعوم ، والحرب في الإسلام تنطلق من قاعدة واحدة يقول تعالى : ( وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ ) (2) قال المفسرون : كون القتال في سبيل الله ، لأن الغرض منه إقامة الدين وإعلاء كلمة التوحيد ، فهو عبادة يقصد بها وجه الله تعالى دون الاستيلاء على أموال الناس وأعراضهم ، فالقتال في السلام دفاع يحفظ به حق الإنسانية المشروعة عند الفطرة السليمة وقوله تعالى : ( ولا تعتدوا ) الاعتداء هو الخروج عن الحد ، والنهي عن الاعتداء، مطلق يراد به كل ما يصدق عليه أنه اعتدى، كالقتال قبل أن يدعى إلى الحق ، والابتداء بالقتال ، وقتل النساء والصبيان ، وغير ذلك مما تبينه السنة النبوية (3) فحروب الإسلام لا اعتداء فيها ، لأن الذين يقومون بها يقومون من أجل من الدفاع عن الفطرة ، الفطرة لا تقبل الاعتداء ولأنهم يدافعون عن الفطرة طالبهم الله تعالى بأن يعدوا لأعدائهم الذين يريدون هدم الفطرة ، ما استطاعوا ليرهبوا به عدو الله الذي هو عدوهم .

-------------------------------
(1) الميزان : 384 / 14 .
(2) سورة البقرة ، الآية : 190 .
(3) الميزان : 61 / 2 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 380 _
  قال تعالى : ( وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ ) (1) قال المفسرون وجه تعالى الخطاب إلى الناس، وذلك لأن الحكومة الإسلامية حكومة إنسانية ، يحفظ فيها حقوق كل فرد ويراعي فيها مصلحة الضعيف والقوي والغني والفقير والحر والعبد والرجل والمرأة والفرد والجماعة والبعض والكل على حد سواء ، ولما كانت المنافع التي يهددها عدوهم هي منافع كل فرد ، فعلى كل فرد أن يقوم بالذب عنها ويعد ما استطاع من قوة لحفظها من الضيعة ، والإعداد وإن كان منه ما لا يقوم بأمره إلا الحكومات بما لها من الاستطاعة القوية والإمكانات البالغة ، لكن منها ما يقوم بالأفراد بفرديتهم كتعلم العلوم الحربية والتدريب بفنونها ، فالتكليف تكليف الجميع، وبالجملة فإن الإنفاق من أجل الإعداد فيه حفظ للمجتمع من العدو الذي يهدده في نفوسه وأعراضه وأمواله ، والإنفاق والإعداد فيه حفظ للدين الذي به يعبد الله في أرضه ، وكل فرد ينفق في سبيل الله مالا أو جاها أو أي نعمة يرجع إلى نفسه نفع ما أنفقه من نماء في الدنيا والآخرة إن الإسلام يدافع عن البشرية ويحافظ على التوازن لأن أي انحراف بشري هو في حقيقته انحراف عن دوران الكون، وأي انحراف ضد الكون يقابل إما بالطوفان وإما بالرياح وإما بالصيحة ، ولله جنود السماوات والأرض، والإسلام كما طالب كل صغير وكبير بأن يعد ما في استطاعته لدحر أعداء الكون ، وضع للجميع دستورا حربيا وفرض عليهم أن يتبعوه لأن النصر يتحقق به قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ * وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَرًا وَرِئَاء النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَاللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ) (2) قال المفسرون : أوجب الله على المؤمنين أمور ستة ، وطالبهم برعيتها في الحروب الإسلامية عند لقاء العدو وهي : الثبات، وذكر الله كثيرا ، وطاعة الله ورسوله ، وعدم التنازع ، وأن لا يخرجوا بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله، وقال صاحب الميزان ومجموع الأمور الستة دستورا حربيا جامع لا يفقد من مهام الدستورات الحربية

-------------------------------
(1) سورة الأنفال ، الآية : 60 .
(2) سورة الأنفال ، الآيات : 45 ـ 47 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 381 _
  شيئا ، والمتأمل الدقيق في تفاصيل الوقائع في تاريخ الحروب الإسلامية الواقعة في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كبدر وأحد والخندق وحنين وغير ذلك يوضح أن الأمر في الغلبة والهزيمة كان يدور مدار رعاية المسلمين مواد هذا الدستور الإلهي وعدم رعايتها والمراقبة لها والمساهلة فيها (1) .
  فأي حرب دفعت راية إسلامية ولم تلتزم في انطلاقها بقانون عدم الاعتداء ولم تأخذ بالأسباب لإعداد ما استطاعت من قوة ولم تلتزم بهذه الأمور الستة هي حرب للأهواء فيها نصيب كبير ، ولا تصب نتائجها إلا في وعاء الفتنة والإسلام برئ من كل من ارتكب تحت لافتته الجرائم يريد بها الحياة الدنيا ، وبرئ من كل اتهام اتهمه به طابور الانحراف الذي ليس عنده علم يرى ، بل ظلمات بعضها فوق بعض ، والإسلام كما أوضحنا لم يبدأ بقتال ، فالقرآن الكريم في مكة أمر المسلمين بالكف عن القتال والصبر على كل أذى في سبيل الله سبحانه وتعالى .
  ثم نزلت آيات القتال بعد أن خرجت طوابير الانحراف شاهرة أسلحتها ، فمنها آيات القتال مع مشركي مكة ومن معهم (2) ومنها آيات القتال مع أهل الكتاب (3) ومنها آيات القتال مع المشركين عامة وهم غير أهل الكتاب (4) .
  و آيات القتال هي آيات الدفاع عن الفطرة، فالإسلام هو دين التوحيد بناه الله تعالى على أساس الفطرة ، ومن أجل هذا فهو القيم على إصلاح الإنسانية فإقامة الإسلام والتحفظ عليه أهم حقوق الإنسانية المشروعة ، لأنه وحده يمثل الدفاع عن حق الإنسانية في حياتها ، فإذا كان في الشرك بالله هلاك الإنسانية وموت الفطرة ، فكذلك كانت معارك الإسلام إعادة لحياة الإنسانية وإحيائها بعد الموات ولما كان الإسلام دينا عالميا لا بد أن تصل دعوته إلى بني الإنسان ، ولأن العرب هم الطريق إلى العجم والعجم لا يؤمن حتى يؤمن العرب ، ولأن العرب لا تؤمن حتى تؤمن قريش ، كان لا بد من كسر شوكة قريش التي خرجت بها لتصد عن سبيل الله ، و الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم في جميع معاركه كان

-------------------------------
(1) الميزان : 96 / 9 .
(2) سورة الحج ، الآية : 40 .
(3) سورة التوبة ، الآية : 39 .
(4) سورة التوبة ، الآية : 31 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 382 _
  يوصي سراياه وعساكره بتقوى الله ويقول : ( اغزوا باسم الله وفي سبيل الله ).
  قاتلوا من كفر بالله ، ولا تغدروا ولا تغلوا ولا تقتلوا وليدا ، وإذا لقيتم عدوكم فادعوهم إلى إحدى ثلاث ، فإن أجابوكم إلى واحدة فاقبلوا منهم واكففوا عنهم :
  أدعوهم إلى الدخول في الإسلام ، فإن فعلوا فاقبلوا منهم واكففوا ، ثم أدعوهم إلى التحول إلى دار المهاجرين، فإن فعلوا ، فاخبروهم أن لهم ، ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين ، فإن أبوا فادعوهم إلى إعطاء الجزية ، فإن فعلوا فاقبلوا منهم واكففوا عنهم ، فإن أبوا فاستعينوا بالله وقاتلوهم والرسول الاكرام صلى الله عليه وآله وسلم لم يبدأ معركة قط إلا بعد أن يقيم الحجة ، ولم يبدأ بحرب قط من دائرة الاعتداء ، وفي حربه مع قريش لم يلجأ إلى السلاح في بداية الأمر وإنما رد اعتدائهم بمحاربتهم اقتصاديا بعد الهجرة ، فسد عليهم طرق التجارة ، رجاء أن يفيئوا إلى أمر الله تعالى ، لكن قريش تمادت في الاعتداء.
  فكان في السيف دواء ، كان السيف ضرورة لا بد منها ، لإفساح الطريق أمام الكلمة التي تقيم الحجة على الناس .
  وعندما أهلكت الحروب المتعاقبة قريش ، اضطروا إلى المعاهدة على ترك القتال ، وبعد توفيق معاهدة الحديبية بين المسلمين وقريش ، وجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم مجالا لنشر الدعوة الإسلامية ، فكتب إلى ملوك العرب والعجم والأساقفة وشيوخ القبائل يدعوهم إلى الله سبحانه ، وبث عليه الصلاة والسلام الدعاة في اليمن والبحرين واليمامة وبلاد غسان ، وأسلم جمع من العرب والعجم خلال هذه الهدنة ، بعد أن علموا أن ما قالته قريش في محمد صلى الله عليه وآله وسلم للصد عن دعوته ما هو إلا كذب وبهتان وأن مرماه الشريف حقن الدماء وصلة الأرحام ودعوته هي توحيد الله الواحد القهار ، وإذا كانت قريش هم أول من رفع السلاح للصد عن سبيل الله فإن اليهود بعد الهجرة لم تكن أيديهم بعيدة عن السلاح ، فلقد قاموا بتوجيه معسكر الانحراف نحو السلاح وباركوا خطواته ، وروت السيرة الشريفة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عندما دخل المدينة وأسلم أكثر الأوس والخزرج ، تقبل اليهود فكرة المهادنة بينهم وبين المسلمين والتعاون المشترك لمصلحة الطرفين ، وتعاهدوا مع النبي وكتب السيرة تحتوي على نصوص هذه المعاهدة التي وضعها النبي بينه وبين يهود المدينة وجوارها ، ولكن اتجاه الإسلام وأهدافه التي تقوم على التآخي والعدالة والمساواة

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 383 _
  وتحريم الربا والغش والاستغلال ، هذا الاتجاه الذي كان من أبرز سمات الإسلام ، لم يتفق مع أماني اليهود ورغباتهم ونواياهم السيئة التي كانوا يبيتونها لجميع الناس ، لا سيما وقد لمسوا أن محمدا لا يخدع ولا يستسلم لضغط من الضغوط مهما كان نوعها ، وإلا يمكن أن يستغل لصالح فريق على فريق ، ووجدوا أن الإسلام يغزو النفوس ويسيطر على العقول ويسير في شبه الجزيرة بسرعة غير عادية بالرغم من ضراوة خصومه ومواقفهم المتصلبة في وجهه ، فلم يعد لهم من سبيل حسب تقديرهم إلا أن يقفوا موقف الحذر الذي يستغل الفرصة للوقيعة بخصمه ، وعلى امتداد هذه المدة أسلم بعض أحبارهم وصدقوا في إسلامهم.
  كما تظاهر فريق منهم بالإسلام وأبطنوا الكفر والنفاق ، وبدأ أكثر اليهود يستغلون المناسبات لإثارة الفتن ويسألون النبي عن أشياء بقصد تعجيزه والسخرية منه أحيانا ، كما بدأوا يعملون من أجل إحداث فجوات بين المسلمين أنفسهم وانضم إلى اليهود جماعة من المنافقين الذين تظاهروا بالإسلام وأسروا النفاق (1) وبدأ الكيد اليهودي يتسع شيئا فشيئا ، وزجوا بنصارى نجران في ساحة الفتن فراحوا يبشرون بعقيدة المسيح الإله ، وكان اليهود يطمعون في إشعال نار الحرب بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبين الملك الذين يقولون بعقيدة المسيح الإله أو المسيح ابن الإله ، وعلى الرغم من أن الوحي كان يفضح سياسات اليهود ، إلا أنهم كانوا يتمادون في طغيانهم ، ونقضوا عهودهم ومواثيقهم التي أبرموها مع رسول الله و اصطفوا أمام الدعوة على خندق واحد ، الأمر الذي جعل السيف ضرورة لإفساح الطرق أمام الكلمة الحق التي تقيم الحجة على الناس أجمعين .
  وتحركت قوات الإسلام لرد الاعتداء ودكت حصون اليهود في بني قريظة وخيبر ، وبني إسرائيل يعلمون أن القتال في سبيل الله إذا حدث ، فهو ضرورة تحتمها الفطرة ولأنهم ضد الفطرة ، كان لا بد من حملهم على الكف عن الصد، لأن عملهم يفتح الأبواب لضربات الكون و فناء البشر ، ومن أنبياء بني إسرائيل عليهم السلام ، من حمل السلاح دفاعا عن الفطرة ، وكتب بني إسرائيل تشهد بذلك ، والقرآن يذكر طرفا من هذا ، يقول تعالى : ( وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ

-------------------------------
(1) سيرة المصطفى / هاشم معروف ط دار التعارف .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 384 _
  فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ) (1) .
  لقد أزاحت طلائع الإسلام اليهود من الطريق عندما صدوا عن سبيل الله، فراح تلاميذ اليهود يصفون الإسلام بالبربرية والوحشية ويصفون دعوته بأنها من أجل الامتلاك ! إمتلاك أي شئ يغذي الأهواء ، والتقط القردة في كل مكان ما قاله تلاميذ اليهود ، وراحوا يصفون سيف الفطرة بالعدوان ، في الوقت الذي يشيدون فيه بسيف عزرا الذي يبحث عن أرض الميعاد، تلك الأرض التي لا وجود لها إلا في عالم الطمس والقهقري .

  2 ـ الصد بتراث الآباء :
  في المدينة تاجر الانحراف بما بين أيديه من تراث الآباء ، فاليهود راحوا يدعون أنهم أبناء إبراهيم وأن دينهم هو الدين الأحق ، والنصارى الذين يقولون بألوهية المسيح ادعوا أن إبراهيم معهم وفي معسكرهم النصراني والمشركين وقفوا بين هؤلاء وهؤلاء ، واستقروا في نهاية المطاف على قلوب اليهود وما تحتويه وبالجملة : لم تقف حملات التشكيك بعد الهجرة ففي الآيات المدنية شككوا في القرآن وفي الرسول بنفس الحجج التي نسفها لهم الوحي في مكة ، والجديد في الأمر أن حججهم في المدينة كانت عليها بصمات أهل الكتاب مما يدل أن أهل الكتاب في هذه الآونة كانوا يتحركون ويبثون ثقافتهم على الأسماع بانتظام يقول تعالى : ( وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ ... ) (2) قال المفسرون : الذين لا يعلمون هم المشركون غير أهل الكتاب ، ويدل عليه المقابلة التي في الآية السابقة على هذه الآية وهي قوله تعالى : ( وقالت اليهود ليست النصارى على شئ ) إلى قوله : ( كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ ) أن أهل الكتاب ألحقهم الله بقولهم بالمشركين والكفار من العرب وألحق المشركين والكفار بهم ، فمن قبل اقتراح اليهود بمثل هذه الأقاويل على نبي الله موسى عليه السلام ، فهم والكفار متشابهون في أفكارهم وآرائهم يقول هؤلاء ما قاله أولئك وبالعكس ، تشابهت

-------------------------------
(1) سورة آل عمران ، الآية : 146 .
(2) سورة البقرة ، الآية : 118 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 385 _
  قلوبهم (1) ، وإذا كان المشركون قد التقطوا من اليهود أهواء آبائهم الأوائل وصدوا بها عن سبيل الله ، فأن النصارى الذين أمسكوا بذيل بولس تاجروا أيضا ببضاعة بولس في عهد المدينة المنورة ، والجدير بالذكر أن أهل الكتاب في العهد المكي كانوا يتحركون بصورة تكاد تكون خفية ، أما في أيام المدينة فلقد برزوا كعضو مؤثر في عالم الصد عن السبيل وهذا يبدو واضحا في عدد الآيات التي كشفت حقدهم وحسدهم وعنادهم ففي المدينة فضحهم الوحي أما في مكة فكان الوحي يقص عليهم قصصهم ويبين لهم كثيرا مما اختلفوا فيه لعلهم يتوبوا إلى الله ، وفي عهد المدينة خرجت من نجران قافلة ترفع لافتة المسيح الإله وسارت بهذه اللافتة على أرض التوحيد ، وقص الوحي عليهم القول الحق في المسيح عليه السلام .
  ولكنهم أبو إلا أن يمسكوا بتراث الآباء الذين يتقدمهم بولس ، وأمام هذا الاصرار تلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليهم قوله تعالى : ( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) (2) قال المفسرون :
  ( الآيات نازلة في الإحتجاج ومتعرضة بشأن وفد نصارى نجران ) ، ومعنى الآية :
  إن مثل عيسى عند الله ، أي وصفه الحاصل عنده تعالى ، أي ما يعلمه الله تعالى من كيفية خلق عيسى الجاري بيده ، إن كيفية خلقه يضاهي كيفية خلق آدم، وكيفية خلقه أنه جمع أجزائه من تراب ثم قال له كن فتكون تكوينا بشريا من غير أب ، فالبيان بحسب الأحقية منحل إلى حجتين ، تفي كل واحدة منهما على وحدتها بنفي الألوهية عند المسيح عليه السلام :
  إحداهما : أن عيسى مخلوق لله ـ على ما يعلمه الله ولا يضل في علمه ـ خلقه بشر وإن فقد الأب، ومن كان كذلك كان عبدا لا ربا .
  وثانيهما : إن خلقته لا تزيد على خلقة آدم فلو اقتضى خلقه أن يقال بألوهيته بوجه ، لاقتضى خلق آدم ذلك مع أنهم لا يقولون بها فيه ، فوجب أن لا

-------------------------------
(1) الميزان : 263 / 1 .
(2) سورة آل عمران ، الآية : 59 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 386 _
  يقولوا بها في عيسى عليه السلام أيضا لمكان المماثلة (1) ، ولم ينصت حملة التراث للحجة الدامغة ، ولم يكن هناك من سبيل إلا وضعهم أمام الموت ، بمعنى أن يقف الأطراف ويتلاعنوا ليأخذ الله تعالى الظالم منهم وعلى هذا فالذي على الحق ليس له أن يخاف لأن الردع الإلهي إذا جاء سيأخذ خصمه ، وكانت المبادرة بوضع الأطراف أمام الموت مبادرة إسلامية ، قال الله تعالى لرسوله : ( فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ) (2) قال المفسرون : المباهلة والملاعنة ، وإن كانت في الظاهر كالمحاجة بين رسول الله وبين رجال النصارى ، إلا أنها عمت الدعوة وشملت الأبناء والنساء ، ليكون ذلك أدل على اطمئنان الداعي بصدق دعواه ، وأنه على الحق ، فالمجئ بالأبناء و النساء فيه أن قلب الإنسان يميل إليهم ويحبهم ويشفق عليهم ، ويركب الأهوال والمخاطر في سبيل حمايتهم ، ولذلك قدم البناء على النساء لأن محبة الإنسان بالنسبة إليهم أشد وأدوم ، فالمجئ بالأولاد والأحباب فيه تحدي للباطل وبأن الحق واثق من النصر ، والنصارى بقبولهم هذا التحدي فإنما يضعون الحاضر والمستقبل فداء الماضي لا يعرفون عنه من كتبهم شيئا وهم في شك مريب من أحداثه ، باختصار كان قدومهم بالأطفال والنساء من أجل الدفاع عن تراث الآباء خسارة كبيرة لهم وعندما وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الدعوة للمباهلة ، جاء رحال النصارى ، وكان طرف المحجة عند رسول الله هو قوله : إن الله لا إله غيره وأن المسيح عيسى عبده ورسوله ، أما الطرف الآخر من المحجة فكان عند النصارى وهو قولهم : إن عيسى هو الله ، أو أنه ابن الله ، أو أن الله ثالث ثلاثة ، ولقد اتفقت الروايات وأصحاب التفاسير والتاريخ أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حضر للمباهلة ولم يحضر معه إلا علي بن أبي طالب وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام (3)، وأخرج ابن

-------------------------------
(1) الميزان : 212 / 3 .
(2) سورة آل عمران ، الآية : 61 .
(3) الحديث رواه الإمام أحمد ومسلم والترمذي ورواه أبو نعيم في الحلية والبيهقي في الدلائل، وأورده ابن جرير في تفسيره وابن كثير ( تفسير ابن كثير : 370 / 1 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 387 _
  جرير أنه لما نزلت الآية : ( قُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ ) الآية أرسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى علي وفاطمة وابنيهما الحسن والحسين ، ودعا النصارى ليلا عنهم ، فقال شاب منهم ويحكم أليس عهدتم بالأمس إخوانكم الذين مسخوا قردة وخنازير ؟ لا تلاعنوا ، فانتهوا ، وفي رواية أخرى قال لهم أسقف نجران : يا معشر النصارى إني أرى وجوها لو سألوا الله أن يزيل جبلا من مكانه لأزاله بها ، فلا تباهلوا فتهلكوا فقالوا : يا أبا القاسم رأينا أن لا نباهلك .
  وفي رواية قال كبيرهم : إني قد رأيت خيرا من ملاعنتك ، فقال النبي : وما هو ؟
  قال : حكمك اليوم إلى الليل وليلتك إلى الصباح ، فمهما حكمت فينا فهو جائز ، فرجع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يلاعنهم وصالحهم على الجزية (1) وفي رواية قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : والذي نفسي بيده إن الهلاك قد تدلى على أهل نجران ، ولو لاعنوا لمسخوا قردة وخنازير .
  ولاضطرم عليهم الوادي نارا ، ولاستأصل الله نجران وأهله حتى الطير على رؤوس الشجر (2) .
  ثم دعا الإسلام أهل الكتاب إلى كلمة سواء ، كلمة عدل يستوي فيها الإنسان صاحب الفطرة السوية وهي أن لا يعبدوا إلا الله ولا يشركوا به شيئا ولا وثنا ولا صليبا ولا صنما ولا طاغوتا ولا شئ بل يفرد الجميع العبادة لله وحده لا شريك له ، فإن رفض أهل الكتاب هذا فهم في طريقهم إلى عالم الطمس لا محالة ، وفي حالة الرفض ينقطع بذلك خصامهم وحجاجهم ، إذ لا حجة على الحق وأهله ، وأخبرهم الإسلام أن تمسكهم بإبراهيم وطريقته وهم في طريق القهقري لا يدل إلا على الغباء لأن العقل يحكم أن الطهر والنقاء لا مكان له في عالم الرجس والشياطين يقول تعالى : ( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّورَاةُ وَالإنجِيلُ إِلاَّ مِن بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ * هَاأَنتُمْ هَؤُلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ * مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ

-------------------------------
(1) الميزان : 234 / 3 .
(2) الميزان : 232 / 3 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 388 _
  الْمُشْرِكِينَ ) (1) قال المفسرون : ومحاجتهم في إبراهيم عليه السلام ، بضم كل طائفة إياه إلى نفسها ، كأن تقول اليهود : إن إبراهيم عليه السلام الذي أثنى الله عليه في كتابه منا ، فتقول النصارى: إن إبراهيم كان على الحق وقد ظهر الحق بظهور عيسى معه ، ثم تتبدل المحاجة إلى اللجاج والعصبية ، فتدعي اليهود أنه كان يهوديا وتدعي النصارى أنه كان نصرانيا ، ومن المعلوم أن اليهودية والنصرانية إنما نشأتا جميعا بعد نزول التوراة والإنجيل ، وقد نزلا جميعا بعد إبراهيم ، فكيف يمكن أن يكون عليه السلام يهوديا ، بمعنى المنتحل بالدين الذي يختص بموسى عليه السلام ، أو نصرانيا بمعنى المتعبد بشريعة عيسى عليه السلام ، فلو قيل في إبراهيم شئ لوجب أن يقال : إنه كان على الحق حنيفا من الباطل إلى الحق مسلما لله سبحانه .
  والخلاصة لقد تاجر الانحراف بالطهر والنقاء ، فاليهود قالوا كان إبراهيم يهوديا ، أما النصارى فنصرت إبراهيم ، وقد جهلوا أن دين الله واحد ، وهو الإسلام لله ، واليهودية والنصرانية شعبتان من شعب كمال الإسلام الذي هو أصل والأنبياء عليهم السلام بمنزلة بناة هذا البنيان ، لكل منهم موقعه فيما وضعه من الأساس ومما بنا عليه من هذا البنيان ، لكل منهم موقعه فيما وضعه من جهلوا أنه لا يلزم من كون إبراهيم مؤسسا للإسلام ، وهو الدين الأصيل الحق ثم ظهور دين حق باسم اليهودية أو النصرانية ، هو اسم شعبة من شعب كمال ومراتب تمامه ، أن يكون إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ، بل يكون مسلما حنيفا متلبسا باسم الإسلام ، الذي أسسه وهو أصل اليهودية والنصرانية دون نفسهما .
  والأصل لا تنتسب إلى فرعه ، بل ينبغي أن يعطف الفرع عليه (2) ، إن المتاجرة بورقة إبراهيم عليه السلام ، كان الهدف منها الوقوف في وجه النبي الأمي صلى الله عليه وآله وسلم الذي أعلن من يومه الأول أنه على خطى أبيه إبراهيم عليه السلام ، لقد رفعوا الأوراق أمام العامة يقولون فيها أنهم الأحق بإبراهيم ، وعندئذ قام القرآن بتعريتهم ، كي يعلم الخاص والعام ، أن المتاجرة

-------------------------------
(1) سورة آل عمران ، الآيات : 65 ـ 67 .
(2) الميزان : 353 / 3 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 389 _
  بإبراهيم وبإرث إبراهيم من النيل إلى الفرات ما هو إلا من علم الدجل الذي يصل إليه كل من ركب طريق الطمس .

  3 ـ الصد بالمنافقين :
  بعد أن تآكل معسكر الانحراف في ميادين القتال وبعد ن حطم القرآن حجج أصحاب الأهواء وتجار التراث الذي ليس فيه من الله سلطان ، لم يكن أمام معسكر الانحراف سوى ورقة النفاق ، وهذه الورقة كانت شر ورقة بل وأمضى سلاح استخدم في عالم الصد ، وذلك لأن المنافق يعيش بلسانه وسط المسلمين بينما ينبض قلبه فخيمة من خيام الانحراف التي يباركها الشيطان ، فهو بلسانه دخل المساجد يصبح من المصلين له ما لهم وعليه ما عليهم ، في نفس الوقت يحيط بقلبه غلالات الحقد والحسد وغلالات الأهواء المتنوعة التي تحمل بصمات سلف الانحراف في جميع الأجيال، لقد كانت ورقة النفاق التي استعملها معسكر الصد عن سبيل الله، تحمل بذرة ملعونة أنبتت شجرة ملعونة هي من أسوء أشجار معسكر الانحراف لأن المنافقين بملابس الإسلام قادوا أكثر من سبعين فريقا إلى النار ، بعد أن قاموا بتأويل الآيات وفقا لأهوائهم ، الأمر الذي أدى بهم في نهاية المطاف إلى اتباع سنن الذين من قبلهم شبرا بشبر وذراعا بذراع ، فشاركوهم الذل في الدنيا وفي الآخرة يشاركونهم ، عذاب السعير يوم يكونوا في الدرك الأسفل من النار ، والنفاق و إن كانت له معالم ضيقة في بداية الدعوة في مكة ، إلا أنه في المدينة اتسع وكان المنافقون يقفون مع أعداء السلام بصورة من الصور على الرغم من وجودهم في الخندق السلامي، والقرآن الكريم فضحهم في أكثر من موضع ، ولأن درب النفاق طويل ويحتاج بحثا منفصلا فإننا سنسلط الأضواء هنا على الخطوط الرئيسية للنفاق في صدر الإسلام ، تلك الخطوط التي سد عليها النبي صلى الله عليه وآله وسلم جميع المنافذ في حياته ، وعندما تغافل عنها المسلمون بعد مماته ، انطلقت للتاجر الشعار الخالي من كل شعور .
  (أ) المنافقين أعدى أعداء الحق :
  تكرر ذكر المنافقين في السور القرآنية كسورة البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنفال والتوبة والعنكبوت والأحزاب والفتح والحديد والحشر

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 390 _
  والمنافقون والتحريم ، وقد أوعدهم الله في كتابه أشد الوعيد ، ففي الدنيا بالطبع على قلوبهم وجعل الغشاوة على سمعهم وعلى أبصارهم، وإذهاب نورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون وفي الآخرة يجعلهم في الدرك الأسفل من النار .
  وليس ذلك إلا لشدة المصائب التي أصابت الإسلام والمسلمين من كيدهم ومكرهم وأنواع دسائسهم ، فلم ينل المشركون واليهود والنصارى من دين الله ما نالوه ، وناهيك فيهم قول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم يشير إليهم :
  ( هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ ) (1) وقد ظهر آثار دسائسهم ومكائدهم أوائل ما هاجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة فورد ذكرهم في سورة البقرة، وقد نزلت ـ على ما قيل ـ على رأس ستة أشهر من الهجرة ، ثم في السور الأخرى النازلة بعد بالإشارة إلى أمور من دسائسهم وفنون من مكائدهم .
  كانسلالهم من الجند السلامي يوم أحد وهم ثلثهم تقريبا ، وعقدهم الحلف مع اليهود واستنهاضهم على المسلمين وبنائهم مسجد ضرار واشاعتهم حديث الإفك إلى غير ذلك مما تشير إليه الآيات القرآنية حتى بلغ أمرهم في الفساد وتقليب الأمور على النبي صلى الله عليه وآله وسلم (2) إلى حيث هددهم الله تعالى بقوله :
  ( لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا ) (3) .
  وأجهزة ومؤسسات النفاق عملت على خطوط الصد عن سبيل الله في كل موضع نظرا لاختفاء جنودها تحت اللافتة الإسلامية ، وهذه الميزة جعلتهم يتسللون في كل مكان ، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يعرف بعضهم .
  والبعض الآخر لا يعلمهم ولا يعلمهم إلا الله، يقول تعالى لرسوله : ( وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ ) (4) قال المفسرون : أي من القوم الذين حول مدينتكم من الأعراب

-------------------------------
(1) سورة المنافقون ، الآية : 4 .
(2) الميزان : 288 / 19 .
(3) سورة الأحزاب ، الآيتان : 69 ـ 61 .
(4) سورة التوبة ، الآية 101 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 391 _
  منافقون ومن أهل مدينتكم أيضا أمثالهم أقوام منافقون ( مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ ) أي مرنوا عليه ودربوا به ، وقيل : مردوا على النفاق أي لجوا فيه وأبوا غيره ، لا تعلمهم أنت يا محمد ، وهؤلاء المنافقين الذين وصفت لك صفتهم نحن نعلمهم (1) فهذا الفريق الذي مرن على النفاق ودرب به ومارسه ، حتى اعتاده ، منه من أجاد التسلل بين الأحداث طمعا في الرئاسة والإمارة والعودة بروح القبيلة التي قضى عليها السلام بعد أن أرسى قاعدة إن أكرم الناس عند الله أتقاهم وهذا الصنف الذي وضع الإمارة أمام عينيه شق طريقه بالركوبة التي تنظم له الوصول إلى هدفه ، ومن المنافقين أيضا من ارتد كما في قوله تعالى : ( ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ ) (2) وكتم الارتداد لا يحمل إلا السوء للأمة والمتدبر في حوادث آخر عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم والفتن الواقعة بعد رحلته يجد صورا عديدة تبدو فيها ملامح أولئك الذين دربوا ومرنوا على النفاق .
  وطابور الانحراف الذي يحمل اسم النفاق ويعمل على خطوط الصد له هيئته وهيبته بين الناس ، فالفريق وإن كان بينه الأخساء وأولاد الزنا إلا أنه يجمع بين دفتيه الشراف وأصحاب الصوت المسموع والكعب العالي ، يقول تعالى :
  ( وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ) (3) قال المفسرون: المراد أنهم على صباحة من المنظر وتناسب من الأعضاء ، إذا رآهم الرائي أعجبته أجسامهم وفصاحة وبلاغة من القول إذا سمع السامع كلامهم مال إلى الاصغاء إلى قولهم لحلاوة ظاهره وحسن نظمه ، وقوله : ( كأنهم خشب مسندة ) ذم لهم ، والمراد أن لهم أجساما حسنة معجبة وقولا رائعا ذا حلاوة .
  لكنهم كالخشب المسندة ، أشباح بلا أرواح لا خير فيها ولا فائدة تعتريها لكونهم لا يفقهون ، وقوله : ( يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ ) ذم آخر لهم ، أي أنهم لإبطانهم الكفر وكتمانهم ذلك من المؤمنين يعيشون على خوف ووجل ووحشة .

-------------------------------
(1) ابن جري في تفسيره : 8 / 11 .
(2) سورة المنافقين ، الآية : 3 .
(3) سورة المنافقين ، الآية : 4 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 392 _
  يخافون ظهور أمرهم واطلاع الناس على باطنهم ، ويظنون أن كل صيحة سمعوها فهي كائنة عليهم وأنهم المقصودون بها وقوله : ( هم العدو فاحذرهم ) أي هم كاملون في العداوة ، بالغون فيها ، فإن أعدى أعداءك ، من يعاديك وأنت تحسبه صديقك (1)، فالفريق الانحرافي لهم مواهب عديدة دربوا عليها ولم يستعملوها إلا في مواضعها ، وما كانوا يحذروا إلا أن ينزل الله فيهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم ، ورغم حذرهم هذا إلا أن البعض منهم أقدم على أعمال من أجل عرقلة المسيرة.
  واضعين في اعتبارهم أن اكتشاف حقيقتهم يذوب أثره بمجرد أن يحلفوا بالله أنهم ما فعلوا أو إنهم فعلوا هذا من باب اللهو ، لقد كشفت آيات القرآن الكريم خطة المنافقين في استغلال القسم بالله للتمويه على جرائمهم في أكثر من سورة من سور القرآن منها قوله تعالى : ( وَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ ) (2) قال المفسرون : ويحلفون بالله لكم أيها المؤمنون كذبا وباطلا خوفا منكم إنهم لمنكم في الدين والملة ، وما هم منكم ، أي ليسوا من أهل دينكم وملتكم ، بل هم أهل شك ونفاق يخافونكم يقولون بألسنتهم إنا منكم ليأمنوا فيكم فلا يقتلون (3) وفي موضع آخر يقول تعالى : ( يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ) (4) ، فتحت دثار القسم هذا أرادوا لجرائمهم في حق الفطرة أن تعبر ، ولكن الوحي كان لهم بالمرصاد فكشف الجرائم وجعلهم عبرة يعتبر بها من أخذ بذيل آباء النفاق أولئك الذين تاجروا بآيات الله وبالمساجد وبكل شعار للإسلام بعد أن فرغوه من كل شعور وروح .
  (ب) من جرائم المنافقين :
  جرائم معسكر النفاق الذي تلحف بلحاف المسلمين لا تصب نتائجها إلا

-------------------------------
(1) الميزان : 281 / 19 .
(2) سورة التوبة ، الآية : 56 .
(3) ابن جرير في التفسير : 107 / 10 .
(4) سورة التوبة، الآية: 96.

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 393 _
  في صالح الذين كفروا بالإسلام ورسالته وذلك لأن المنافقين تربطهم بالذين كفروا أخوة الصد عن سبيل الله ، وهذه الأخوة سجلها كتاب الله في قوله تعالى : ( أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ ... ) (1) لقد وضعهم الله تعالى في كتابه في خرمة واحدة مع الذين كفروا لأن أهدافهم واحدة ، ولأن جرائم المنافقون في حق الفطرة عديدة فإننا نكتفي ، بإلقاء الضوء على ما نرى أنه يفي بالغرض ، وأول هذه الجرائم محاولة طابور النفاق اغتيال الرسول الأعظم محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولقد أفاضت كتب التفسير في وصف هذا الحدث، وقال بعض المفسرين في تفسير سورة التوبة أن اثنى عشر رجلا (2) وقفوا على العقبة ليفتكوا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند رجوعه وتبوك ، فأخبر جبرائيل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بذلك ، وأمره أن يرسل إليهم ويضرب وجوه رواحلهم ، وعمار بن ياسر كان يقود دابة رسول الله، وحذيفة يسوقها ، فقال لحذيفة : أضرب وجوه رواحلهم فضربها حتى نحاهم ، فلما نزل ، قال رسول الله لحذيفة : من عرفت من القول ؟ قال : لم أعرف منهم أحدا ، فقال رسول الله (ص) : إنه فلان وفلان حتى عدهم كلهم فقال حذيفة: ألا تبعث إليهم فنقتلهم ؟ فقال : أكره أن تقول العرب : لما ظفر بأصحابه أقبل يقتلهم .
  وفي رواية ... وأمر رسول الله حذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر فمشيا معه. وأمر عمارا أن يأخذ بزمام الناقة وحذيفة يسوقها ، فبينما هم يسيرون إذ سمعوا وكزة القوم من ورائهم قد غشوهم ، فغضب رسول الله ، وأمر حذيفة أن يراهم ويتعرف عليهم ، فرجع ومعه محجن فاستقبل وجوه رواحلهم وضربها بالمحجن ، وأبصر القوم وهم متلثمون فأرعبوا حين أبصروا حذيفة ، وظنوا أن مكرهم قد ظهر فأسرعوا حتى خالطوا الناس ، وأقبل حذيفة حتى أدرك رسول الله ، فلما أدركه قال : أضرب الناقة يا حذيفة وامش أنت يا عمار ، فأسرعوا وخرجوا من العقدة ينتظرون الناس ، فقال النبي : يا حذيفة : هل عرفت

-------------------------------
(1) سورة الحشر ، الآية : 11 .
(2) وفي رواية خمسة عشر رجلا .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 394 _
  أحدا منهم ؟ فقال : عرفت راحلة فلان وفلان ، وكانت ظلمة الليل قد غشيتهم وهم متلثمون ، فقال رسول الله: هل عرفت ما شأنهم ، ما يريدون ؟ قال : لا يا رسول الله قال : فإنهم فكروا أن يسيروا معي حتى إذا صرت في العقبة طرحوني فيها ، فقال : أهلا ترأف بهم إذا جاءك الناس ؟ قال : أكره أن يتحدث الناس ويقولوا إن محمدا قتل أصحابه ثم سماهم بأسمائهم .
  ومن المعلوم من سير الحوادث، أن المسألة إذا كانت تتعلق بكبار الصحابة، فلا ترد أسماؤهم صريحة فيها ، ويأتي التعبير عنهم بفلان وفلان .
  وكل مورد من هذا القبيل فهو يعني جماعة يخاف الراوي من التصريح بأسمائهم ،أما إذا لم يكن الحادث مع الكبار من الصحابة، فيأتي الاسم صريحا كما يبدو ذلك للمتتبع وسيأتي أمثلة ذلك فيما بعد وقصة المؤامرة في كتب التفسير بالمأثور وجوامع الحديث وذكر اليعقوبي في تاريخه بصورة مجملة وقال إن حذيفة كان يقول أنه يعرفهم بأسمائهم (1) وروي أن ثمانية منهم من قريش وأربعة من العرب ، وذكر الهيثمي في مجمع الزوائد أن عمار قال في الفريق الذي أراد اغتيال رسول الله : ( أشهد أن الاثني عشر الباقين منهم حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا ) (2) .
  إن طابور النفاق الذي أعد خطة اغتيال رسول الله لم يكن ليقدم على مثل هذه الخطوة إلا بعد أن تأكد أن بين صفوفه العديد من الذين إذا قالوا استمع الناس لأقوالهم وإذا رآهم الناس أعجبتهم أجسامهم ، فلو لم يكن الطابور على ثقة في كوادره وأنهم يتمتعون باللسان الطليق وبمقدرة على احتواء ما سيترتب عليه الحدث ما أقدموا على ذلك وخلاصة القول : لقد تحركوا لتنفيذ الجريمة من باب عدم الإيمان بالله والاستهزاء بآياته وانطلقوا في طريق الانحراف من أجل سد أبواب الطهارة عن الفطرة ، ولكن الله تعالى ردهم ولم ينالوا شيئا ، ووراء الجدران بدأوا يرتجفون خوفا من أن ينزل الله فيهم سورة تخبر المؤمنين بهم ، وأعدوا لهذا سيلا من الأعذار طمعا في النجاة ، ووراء الجدر عاشوا حياة الظلام

-------------------------------
(1) سيرة المصطفى / هاشم معروف : 633 .
(2) مجمع الزوائد : 195 / 6 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 395 _
  وإن كانوا تحت الشمس وحياة الخوف وإن كانوا بين الجند ، أما الجريمة الثانية التي نلقي عليها الضوء ، فهي جريمة بناء المسجد الضرار ، لقد أراد طابور الانحراف أن يشق الدعوة برموز الدعوة ، ففي عصر الرسالة لم يكن في استطاعة هذا المعسكر سوى أن يقيم بنيانا تقام فيه الصلاة وتبث منه ثقافة تمهد لمجئ الروم ، يقول تعالى : ( وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ) (1) قال المفسرون: إن الباعث لهم على هذا العمل ، كان أمورا أربعة :
  الأول : الضرار وهو المضارة أي إيصال الضرر .
  والثاني : الكفر بالإسلام وذلك أنهم أرادوا تقوية أهل النفاق .
  والثالث : التفريق بين المؤمنين، لأنهم أرادوا أن لا يحضروا في مسجد قباء ، فتقل جماعتهم ، ولا سيما إذا صلى النبي في مسجدهم ، فيؤدي ذلك إلى اختلاف الكلمة وبطلان الألفة .
  والرابع : قوله : ( وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ ) (2) ، هذه أعمدة مسجد طابور الانحراف ، أعمدة هدفها الصد عن سبيل الله، وبداية هذه العمل كما اتفق عليه أهل النقل : إن جماعة من بني عمرو بن عوف ، بنوا مسجد قبا ، وسألوا النبي أن يصلي فيه ، فصلى فيه فحسدهم جماعة من بني غنم بن عوف ، وهم منافقون ، فبنوا مسجدا إلى جنب مسجد قبا ليضروا به ويفرقوا المؤمنين منه وينتظروا أبي عامر الراهب الذي وعدهم أن يأتيهم بجيش من الروم ليخرجوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم من المدينة وأمرهم أن يستعدوا للقتال معهم ، ولما بنوا المسجد أتوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يتجهز إلى تبوك ، وسألوه أن يأتيه ويصلي فيه ، ويدعو لهم بالبركة ، فوعدهم إلى الفراغ من أمر تبوك والرجوع إلى المدينة ، فلما رجع النبي من تبوك نزلت الآيات ، وروي

-------------------------------
(1) سورة التوبة ، الآية : 107 .
(2) ابن جرير في التفسير : 17 / 11 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 396 _
  أن أحد المنافقين وهو أبو عامر الراهب قد أمرهم ببناء هذا المسجد ، وقد ترهب في الجاهلية ولبس المسوح ، فلما دخل النبي المدينة كان يشاغب عليه ، وبعد أن فتح النبي مكة التجأ أبو عامر إلى الطائف ، ولما أسلم أهل الطائف التحق ببلاد الشام وتنصر ، وقد أرسل إلى المنافقين أن يتموا بناء المسجد ويجدوا في أمرهم ، ووعدهم بأنه سيذهب إلى قيصر ، ويحرضه على إرسال جيش قوي إلى المدينة للقضاء على محمد ومن معه من المسلمين ، فكان المنافقون يتوقعون ذلك ، ولكنه هلك قبل أن يتصل بملك الروم ، ولما نزل الوحي على النبي.
  وقص عليه حديث هذا المسجد أمر النبي بإحراقه وأن يتخذوه مكانا للأوساخ والنفايات ، لقد تظاهروا بالدين وتاجروا بالشعارات وبناء المساجد، لأغراض تخدم أعداء الدين ، ويتخذون منها منطلقا للمؤامرة على الإسلام والمسلمين ، فجهاز النفاق كان يعد العدة لاغتيال الرسول وهو في طريق العودة من تبوك ، وفي نفس الوقت كان مسجدهم الضرار له مهمة أخرى في حال نجاة الرسول من القتل على طريق تبوك ، لكنهم لم يربحوا هنا أو هناك. وفضحتهم بصماتهم هناك على صفحات التاريخ وفضحهم مسجدهم هنا حيث أصبح محلا للأوساخ والنفايات .
  وفضح الله امتدادهم على مر الزمان ، كما فضح الذين اتخذوا العجل من بعد موسى عليه السلام، فالذين اتخذوا العجل قال فيهم سبحانه : ( وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ ) (1) قال المفسرون : الإشراب هو السقي ، والمراد بالعجل ، حب العجل ، وضع للمبالغة كأنهم قد أشربوا نفس العجل (2) لقد أشربوا العجل وناولوا كأسه لمن اتخذهم قدوة أو وقع هواه على هواهم أما الذين اتخذوا المسجد الضرار ففيهم يقول تعالى : ( لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) (3) قال المفسرون : أي شكا ونفاقا بسبب إقدامهم على هذا الصنيع الشنيع ، أورثهم نفاقا في قلوبهم كما

-------------------------------
(1) سورة البقرة ، الآية : 93 .
(2) الميزان : 123 / 1 .
(3) سورة التوبة ، الآية : 110 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 397 _
  أشرب عابدوا العجل حبه (1) لقد أتموا البناء وحلفوا بالله ما أرادوا ببنائهم إلا خيرا ورفقا بالناس والله يشهد أنهم لكاذبون فيما قصدوا وفيما نووا (2) لهذا جعلهم الله عبرة لمن أراد الاعتبار ولكي يتدبر في أحداثهم أولئك الذين يقيمون المساجد لأغراض لا تمت إلى الدين بصلة من الصلات ، ويعلموا أن البناء الذي يفرق بين المسلمين ويدس على الإسلام ما ليس منه ويستند على أكتاف أعداء الله، هو في حقيقة الأمر امتداد للبناء الأول والقائمون عليه شربوا من إناء سلفهم الأول وإن لم يروهم ، ومن جرائمهم أيضا في صدر الإسلام تثاقلهم عن الجهاد وانسحابهم من المعركة بلا سبب. وعند حركتهم أثناء القتال قال تعالى : ( لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ) (3) قال المفسرون : الخبال : هو الفساد واضطراب الرأي .
  والإيضاع : الاسراع في الشر والخلال : البين ، والبغي : هو الطلب ، فمعنى يبغونكم الفتنة : أي يطلبون لكم أو فيكم الفتنة ، والفتنة هي المحنة واختلاف الكلمة ، وقوله تعالى : ( وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ ) أي فيكم مطيعون لهم ومستجيبون لحديثهم وكلامهم ... وقيل : فيكم سماعون لهم : أي عيون يسمعون لهم الخبار وينقلونها إليهم (4) .
  فخط الصد الذي يحمل اسم النفاق يعمل من أجل اختلاف الكلمة في أشد الأوقات ولقد عمل من أجل تفرق الجماعة في غزوة أحد حين رجع عبد الله بن أبي سلول بثلث القوم وخذل النبي ، وتثاقلوا بعد ذلك في أكثر من غزوة وأرادوا بهذا الخذلان أن تأكل الحرب المسلمين ولم يكتف معسكر النفاق بانسحابه من المعارك بل استعان بخط ثان يتجسس لحسابه ويدعو إلى الخلاف والخذلان عن الجهاد ، وعلى الرغم من اختراق النفاق لأكثر من ساحة ، إلا أن الله رد كيدهم

-------------------------------
(1) ابن كثير في التفسير : 391 / 2 .
(2) ابن كثير في التفسير : 388 / 2 .
(3) سورة التوبة ، الآية : 47 .
(4) ابن كثير في التفسير : 361 / 2 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 398 _
  فلم يلحقوا بالدعوة في عهد النبوة أي ضرر ، ولم يستطيعوا النيل من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رغم محاولاتهم العديدة لقضاء عليه ، لم يستطيعوا هم أو غيرهم ، لأن الله تعالى عصم رسوله منهم قال سبحانه : ( وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) (1) وتحدى سبحانه الناس أن يكيدوا لرسول الله وأن يضروه إن استطاعوا ولن يستطيعوا فقال جل شأنه : ( قُلِ ادْعُواْ شُرَكَاءكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ )(2) لقد كانت عصمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم حجة بذاتها على أجهزة الكيد التي تخدم خطوط الانجراف ، فشلهم في كل مرة كان في حقيقة الأمر دعوة للتوبة والإيمان بالرسالة ، ولكن أهل التذبذب والنفاق لم يلتفتوا إلى هذه الحقيقة وتمادوا في طغيانهم ومكائدهم و سبحوا في التجاه المضاد لحركة الفطرة والكون ، وهذه السباحة وهذا التوغل في الظلام جعلهم غرضا لضربات الكون .
  وهذه الضربات كانت أيضا دعوة لهم كي يؤمنوا الإيمان الحق لكنهم لم يصححوا مسارهم نحو الاتجاه الصحيح يقول تعالى : ( أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ ) (3) قال المفسرون : اختلف أهل التأويل في معنى الفتنة التي ذكر الله في هذا الموضع، فقال بعضهم : ذلك اختبار الله إياهم بالقحط والشدة ، وقال آخرون : بالسنة والجوع (4) ومعنى الآية : أي ما لهم لا يتفكرون ولا يعتبرون ، وهم يرون أنهم يبتلون ويمتحنون كل عام مرة أو مرتين ، فيعصون الله ولا يخرجون من عهدة المحنة الإلهية وهم لا يتوبون ولا يتذكرون ، ولو تفكروا في ذلك انتبهوا لواجب أمرهم، وأيقنوا أن الاستمرار على هذا الشأن ينتهي بهم إلى تراكم الرجس على الرجس والهلاك الدائم والخسران المؤبد (5)، وطابور النفاق الذي خرج من معسكر الانحراف ليسير بين المسلمين .

-------------------------------
(1) سورة المائدة ، الآية : 67 .
(2) سورة الأعراف ، الآية : 195 .
(3) سورة التوبة ، الآية : 126 .
(4) ابن جرير : 54 / 11 .
(5) الميزان : 410 / 9 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 399 _
  جاهدهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفقا لحركة الدعوة ، فهو عليه الصلاة السلام كان يخشى أن يخرج معسكر الكفر بلافتات تقول بأن محمد يقتل أصحابه ، فهذا القول في حد ذاته لن يكون بحال في صالح الدعوة وعلى الأخص في صدرها الأول ، فالرسول جاهدهم وفقا لأمر الله تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ) (1) وقال المفسرون : المراد بجهادهم مطلق ما تقتضيه المصلحة من بذل غاية الجهد في مقاومتهم ، فإن اقتضت المصلحة هجروا ولم يخالطوا ولم يعاشروا وإن اقتضت وعظوا باللسان وإن اقتضت أخرجوا وشردوا إلى غير الأرض (2) .
  والخلاصة : أن معسكر النفاق كان من أكبر الأخطار على الدعوة وعلى الفطرة الإنسانية ، وتوعدهم الله تعالى بالعذاب في الدنيا وبالدرك الأسفل من النار في الآخرة ، وهذا المعسكر سيكون لأبنائه الذين ساروا على طريقه وراء راية المسيح الدجال ، الذي أخبرت الأحاديث الشريفة بظهوره آخر الزمان ، وتحت قيادة الدجال سيتجرعون الذل تحت ضربات عذاب الاستئصال ، لأنهم في الحقيقة تلاميذ الشيطان الذين يضعون العراقيل على الصراط المستقيم .

  سادساً : عذاب في بطن الغيب :
  في عهد الرسالة الخاتمة عمل طابور النفاق في الخفاء ، وتوارى أهل الكفر وراء الجدر في انتظار الوقت المناسب الذي ينقضون فيه على طلائع النهار، وعلى الرغم من ذلك لم يضربهم الله بالطوفان أو بالريح العقيم أو بالصيحة ، كما ضرب سبحانه الأمم السابقة من قبل ، وذلك لأن القافلة البشرية لها أجل ، وهذا الأجل لا ينتهي بانتهاء حياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، فرسول الله قام بتبليغ الرسالة عن ربه ، وهذه الرسالة صالحة لقيادة القافلة البشرية حتى قيام الساعة ، ومعنى أن العذاب لم يضرب جحافل الكفر ضربة الاستئصال في حياة الرسول ، أن هذا العذاب مدخر في بطن الغيب ، وله صورته وموعده ولا يعلمهما

-------------------------------
(1) سورة التوبة ، الآية : 73 .
(2) ابن جرير : 126 / 10 ، الميزان : 339 / 6 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 400 _
  إلا الله تعالى ، وآيات القرآن الكريم تصرح في أكثر من موضع بهذا العذاب الذي يحمله المستقبل ، وذلك لعلم الله تعالى بما ستقترفه الأمة من آثام بعد تبليغ رسوله صلى الله عليه وآله وسلم الدعوة ، فالأمة التي انحرفت عن كتاب الله واتبعت أبناء الطمس شبرا بشبر وذراعا بذراع لا بد وأن يطول عذاب المنحرفين منهم قبل يوم القيامة ليكون لهم ذل في الدنيا ، قال تعالى : ( وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ ) (1) قال ابن كثير في التفسير : قال الحسن : عذاب في الدنيا وعذاب في القبر ... وقال قتادة : عذاب الدنيا وعذاب القبر ، ثم يردون إلى عذاب عظيم ، وذكر أن نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم .
  أسر إلى حذيفة بإثني عشر رجلا من المنافقين فقال : ستة منهم تكفيهم الدبيلة سراج من نار جهنم ، يأخذ في كتف أحدهم حتى يفضي إلى صدره وستة يموتون موتا (2)، والعذاب المدخر في بطن الغيب ورد أيضا في قوله تعالى : ( فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ ) (3) قال المفسرون : أي لا بد أن ننتقم منهم ونعاقبهم ولو ذهبت أنت (4) وقيل : أي محالة سيقع بهم الذاب ، والدليل على أن عذاب الاستئصال مؤجل أن الله تعالى أمر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم في آية من الآيات المدنية أن يصبر ولا يستعجل لهم ، قال تعالى : ( فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ ) (5) قال المفسرون: لا تستعجل لهم حلول العقوبة، كقوله تعالى : ( ذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا ) (6) وقال تعالى لرسوله أيضا في آية مدنية أخرى : ( وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا

-------------------------------
(1) سورة التوبة : الآية : 101 .
(2) تفسير ابن كثير : 385 / 2 .
(3) سورة الزخرف ، الآية : 41 .
(4) ابن كثير : 128 / 4 وتفسير البغوي : 399 / 7 .
(5) سورة الأحقاف ، الآية : 35 .
(6) تفسير ابن كثير : 172 / 4 .