وتمم به المكارم ، وكمل به المحاسن ، فقالوا : فبما ذا أمركم محمد ؟ فقالوا : أمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئا ، وأن نقيم (1) الصلاة ، ونؤتي الزكاة ، ونصل الارحام، وننصف للانام ، ولا نأتي إلى عباد الله بما لا نحب أن يأتوا به إلينا ، وأن نعتقد ونعترف أن محمدا سيد الاولين والآخرين ، وأن عليا (عليه السلام) أخاه سيد الوصيين ، وأن الطيبين من ذريته المخصوصين بالامامة هم الائمة على جميع المكلفين الذين أوجب الله تعالى طاعتهم وألزم متابعتهم وموالاتهم .
  فقالوا : يا هؤلاء هذه أمور لا تعرف إلا بحجج ظاهرة ، ودلائل باهرة ، وأمور بينة ليس لاحد أن يلزمها أحدا بلا أمارة (2) تدل عليها ، ولا علامة صحيحة تهدي إليها ، أفرأيتم له آيات بهرتكم ، وعلامات ألزمتكم ؟ قالوا : بلى والله، لقد رأينا ما لامحيص عنه ، ولا معدل (3) ولا ملجأ ، ولا منجا لجاحده من عذاب الله، ولا موئل (4) فعلمنا أنه المخصوص برسالات الله المؤيد بآيات الله، المشرف بما اختصه الله به من علم الله، قالوا : فما الذي رأيتموه ؟ قال عمار بن ياسر : أما الذي رأيته أنا ، فاني قصدته وأنا فيه شاك ، فقلت : يا محمد لا سبيل إلى التصديق بك مع استيلاء الشك فيك على قلبي ، فهل من دلالة ؟ قال : بلى .
   قلت : ما هي ؟ قال : إذا رجعت إلى منزلك فاسأل عني ما لقيت من الاحجار والاشجار تصدقني برسالتي ، وتشهد عندك بنبوتي .
  فرجعت فما من حجر لقيته ، ولا شجر رأيته إلا ناديته : يا أيها الحجر ، يا أيها الشجر ، إن محمدا يدعي شهادتك بنبوته ، وتصديقك له برسالته ، فبماذا تشهد له ؟

--------------------
(1) ( نتم ) أ .
(2) أى علامة .
(3) يقال : أخذ معدل الباطل : أى طريقه .
(4) أى ملجأ ، وفى بعض النسخ ( مؤمل ) . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام)_ 602 _

  فنطق الحجر والشجر : أشهد أن محمدا (صلى الله عليه وآله) رسول ربنا (1) .
  ـ هذا آخر ما وجد من هذا التفسير في هذا الموضع ، ونرجو من الله أن يرزقنا تمام هذا التفسير ، وجملة ذلك الكتاب الكبير سيما هذا الحديث الشريف المشتمل على المعجزات الظاهرة والآيات الباهرة الشاهدة على حقية نبوة البشير النذير والسراج المنير ، عليه وعلى آله صلوات الله الملك الكبير ـ (2) .

--------------------
(1) عنه البحار : 2/ 12 ح 24 وج 17/ 383 ح 51 (من قوله : قال عمار بن ياسر) ، وعوالم العلوم : 3/ 289 ح 80 واثبات الهداة : 2/ 164 ح 616 قطعة ، ورواه في الاحتجاج : 2/ 50 باسناده عن العسكرى (عليه السلام) عنه الوسائل : 19/ 38 ح 7 قطعة .
(2) ( من قوله تعالى (كتب عليكم اذ حضر أحدكم الموت ـ إلى قوله ـ فاذا أفضتم من عرفات) اثنتان وعشرون آية تفسيرها مفقود ، رزقنا الله تمامه بجاه محمد وآله ( أ ، س ، ص . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 603 _
  بسم الله الرحمن الرحيم شئ آخر ـ مما وقع إلينا ـ من هذا التفسير من موضع آخر من هذه السورة أيضا ـ وهو آخر تفسير قوله تعالى : ( ليس عليكم جناح ان تبتغوا فضلا من ربكم ) الاية : 198 .
  357 ـ قال (صلى الله عليه وآله) : فكيف (1) تجد قلبك لا خوانك المؤمنين الموافقين لك في محبتهما (2) وعداوة أعدائهما ؟ قال : أراهم كنفسي ، يؤلمني ما يؤلمهم ، ويسرني ما يسرهم ، ويهمني ما يهمهم .
  فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : فأنت إذا ولي الله لا تبال ، فانك قد توفر عليك ما ذكرت ما أعلم أحدا من خلق الله له ربح كربحك (3) إلا من كان على مثل حالك ، فليكن لك ما أنت عليه بدلا من الاموال فافرح به ، وبدلا من الولد والعيال فأبشر به ، فانك من أغنى الاغنياء ، وأحي أوقاتك بالصلاة على محمد وعلى وآلهما الطيبين .
   ففرح الرجل وجعل يقولها .
  فقال ابن أبي هقاقم (4) ـ وقد رآه ـ : يا فلان قد زودك محمد الجوع والعطش .
  وقال له أبوالشرور : قد زودك محمد الاماني الباطلة ، ما أكثر ما تقولها

--------------------
(1) ( جاء رجل من المؤمنين إلى النبى (صلى الله عليه وآله) فقال له : كيف ) البحار .
(2) ( محبة محمد وعلى ) البحار .
(3) ( ريح كريحك ) ص ، الريح : الرحمة ، النصرة ، الغلبة ، القوة .
(4) لعل المراد بابن أبي هقاقم وأبى الدواهى ـ كما سيأتى ـ كليهما عمر : ويحتمل أن يكون المراد بابن أبى هقاقم عثمان ، يقال : هقم ـ كفرح ـ اشتد جوعه ، فهو هقم ـ ككتف ـ والهقم ـ بكسر الهاء وفتح القاف المشددة ـ : الكثير الاكل ، قاله المجلسى (ره) وقد تقدم بيان في ذلك ص : 149 (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 604 _
  ولا يجئ بطائل (1) .
  وقد حضر الرجل السوق في غدو ، وقد حضرا ، فقال أحدهما للاخر : هلم نطنز (2) بهذا المغرور بمحمد .
  فقال له أبوالشرور : يا عبدالله قد اتجر الناس اليوم وربحوا ، فماذا كانت تجارتك ؟ قال الرجل : كنت من النظارة ، ولم يكن لي ما أشتري ولا ما أبيع ، لكني كنت أصلي على محمد وعلي وآلهما الطيبين .
  فقال له أبوالشرور : قد ربحت الخيبة ، واكتسبت الخرقة (3) والحرمان ، وسبقك إلى منزلك مائدة الجوع عليها طعام من التمني (4) وإدام وألوان من أطعمة الخيبة التي تتخذها لك الملائكة الذين ينزلون على أصحاب محمد بالخيبة والجوع والعطش والعري والذلة .
  فقال الرجل : كلا والله إن محمدا رسول الله، وإن من آمن به فمن المحقين السعيدين ، سيوفر (5) الله من آمن به بما يشاء من سعة يكون بها متفضلا ، ومن (6) ضيق يكون به عادلا ومحسنا للنظر له ، وأفضلهم عنده أحسنهم تسليما لحكمه .
  فلم يلبث الرجل أن مر بهم رجل بيده سمكة قد أراحت (7) ، فقال ، أبوالشرور وهو يطنز : بع هذه السمكة من صاحبنا هذا .
  يعني صاحب رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال الرجل : اشترها مني فقد بارت (8) علي .
  فقال : لا شئ معي .
  فقال أبوالشرور : اشترها ليؤدي ثمنها رسول الله ـ وهو يطنز ـ ألست تثق برسول

--------------------
(1) الطائل : الفضل الغنى ، ( ولا تحلى هلم بطائل ب ، ولا يحلى بطائل ) البحار ، قال المجلسى (ره) : قال الجوهرى : لم يحل منه بطائل : أل لم يستفد منه كبير فائدة ، ولا يتكلم به الا مع الجحد .
(2) طنز به : سخر .
(3) أى سوء التصرف وضعف الراى ، ( الحرمة ) ب ، ط .
(4) ( المنى ) ب ، ط ، والبحار .
(5) ( سيؤمن ) ب ، وفر الله حظه من كذا : أسبغه .
(6) ( منفصلا من ) أ .
(7) أى أنتنت .
(8) أى كسدت . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _605 _
  الله ؟ أفلا تبسط (1) إليه في هذا القدر ؟ فقال : نعم بعنيها .
  فقال الرجل : قد بعتكها بدانق (2) .
  فاشتراها بدانقين على أن يحيله (3) على رسول الله (صلى الله عليه وآله) .
  فبعث به إلى رسول الله، فأمر رسول الله اسامة ـ بن حارث ـ أن يعطيه درهما .
  فجاء الرجل فرحا مسرورا بالدرهم وقال : إنه أضعاف (4) قيمه سمكتي .
  فشقها الرجل بين أيديهم ، فوجد فيها جوهرتين نفيستين قومتا مائتي ألف (5) درهم فعظم ذلك على أبي الشرور وابن أبي هقاقم ، فسعيا (6) إلى الرجل صاحب السمكة وقالا له : ألم تر الجوهرتي إنما بعته السمكة لا ما في جوفها فخذهما منه ، فتناولهما الرجل من المشتري ، فأخذ إحديهما بيمينه ، والآخرى بشماله ، فحولهما الله عقربين لدغتاه ، فأوه وصاح ورمى بهما من يده ، فقال (7) : ما أعجب سحر محمد .
  ثم أعاد الرجل نظره إلى بطن السمكة ، فاذا جوهرتان أخريان ، فأخذهما ، فقالا لصاحب السمكة : خذهما فهما لك أيضا .
  فذهب يأخذهما فتحولتا حيتين ، ووثبتا عليه ولسعتاه ، فصاح وتأوه وصرخ ، وفال للرجل : خذهما عني .
  فقال الرجل : هما لك على ما زعمت ، وأنت أولى بهما .
  فقال الرجل : خذ والله جعلتهما لك .
  فتناولهما الرجل عنه ، وخلصه منهما ، فاذا هما قد عادتا جوهرتين وتناول العقربين فعادتا جوهرتين .
  فقال أبوالشرور لابي الدواهي : أما ترى سحر محمد ومهارته فيه وحذقه به ؟ فقال الرجل المسلم : ياعدو الله أو سحرا ترى هذا ؟ لئن كان هذا سحرا فالجنة والنار أيضا تكونان بالسحر ؟! فالويل لكما في مقامكما على تكذيب من يسحر بمثل

--------------------
(1) تبسط وانبسط : تجرأ وترك الاحتشام .
(2) ( بدانقين ) البحار ، والدانق : سدس الدرهم .
(3) ( يجعله ) البحار .
(4) ( أتينا بأضعاف ) ب .
(5) ( ما بين (ألفى) ) أ ، س ، ص .
(6) ( فتبعا ) أ ، س ، ص ، والبحار ، سعى : مشى وعدا .
(7) ( فقالا ) البحار . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 606_
  الجنة والنار .
  فانصرف الرجل صاحب السمكة وترك الجواهر الاربعة على الرجل .
  فقال الرجل لابي الشرور ولابي الدواهي : يا ويلكما آمنا بمن آثر نعم الله عليه (صلى الله عليه وآله) وعلى من يؤمن به ، أما رأيتما العجب العجيب ؟ ثم جاء بالجواهر الاربعة إلى رسول الله، وجاء تجار غرباء ، يتجرون فاشتروها منه بأربعمائة ألف درهم .
  فقال الرجل : ما كان أعظم بركة سوقي اليوم يا رسول الله! فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : هذا بتوقيرك محمدا رسول الله، وتعظميك عليا (عليه السلام) ، أخا رسول الله ووصيه ، وهو عاجل (1) ثواب الله لك ، وربح عملك الذي عملته ، أفتحب أن أدلك على تجارة تشغل (2) هذه الاموال بها ؟ قال : بلى يا رسول الله.
  قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : اجعلها بذور أشجار الجنان .
  قال : كيف أجعله ا ؟ قال : واس منها إخوانك المؤمنين ـ المساوين لك في موالاتنا وموالاة أوليائنا ومعاداة أعدائنا ، وآثر بها إخوانك المؤمنين ـ المقصرين عنك في رتب محبتنا ، وساو فيها إخوانك المؤمنين الفاضلين عليك في المعرفة بحقنا ، والتوقير لشأننا ، والتعظيم لامرنا ، ومعاداة أعدئنا ، ليكون ذلك بذور شجر الجنان .
  أما إن كل حبة تنفقها على إخوانك المؤمنين الذين ذكرتهم لتربى (3) لك حتى تجعل كألف ضعف أبي قبيس ، وألف ضعف أحد وثور وثبير (4) فتبنى لك بها قصور في الجنة شرفها الياقوت ، وقصور الجنة (5) شرفها الزبرجد .
  فقام رجل وقال : يا رسول الله فأنا فقير ، ولم أجد مثل ما وجد هذا ، فما لي ؟

--------------------
(1) ( جاء على ) أ ، س ، ص ، ط ، ( جاعل ) ب ، والبحار ، أقول : لعل الثانية تصحيف ( جعل ) وهو أجر العامل أو ما يعطى للمحارب اذا حارب .
(2) ( تستغل ) س .
(3) ( لترقى ) أ ، س ، ص .
(4) أسماء جبال بمكة .
(5) ( الذهب ) أ ، ب ، ط ، والبحار . أى ستبنى له تلك القصور مضافا إلى ما هو موجود أصلا . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _607 _
  فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : لك منا الحب الخالص ، والشفاعة النافعة المبلغة أرفع درجات العلى بموالاتك لنا أهل البيت ، ومعاداتك أعداءنا (1) .
  قوله عزوجل : ( فاذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هديكم وان كنتم من قبله لمن الضالين * ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله ان الله غفور رحيم * فاذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وماله في الاخرة من خلاق * ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفى الاخرة حسنة وقنا عذاب النار * اولئك لهم نصيب مما كسبوا والله سريع الحساب ) 198 ـ 202
  358 ـ قال الامام (عليه السلام) : قال الله عزوجل للحاج : (فاذا أفضتم من عرفات) ومضيتم إلى المزدلفة (فاذكروا الله عند المشعر الحرام) بآلائه ونعمائه ، والصلاة على محمد سيد أنبيائه ، وعلى علي سيد أصفيائه ، واذكروا الله (كما هديكم) لدينه والايمان برسوله (وإن كنتم من قبله لمن الضالين) عن دينه من قبل أن يهديكم إلى دينه .
  (ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس) ارجعوا من المشعر الحرام من حيث رجع الناس من ( جمع ) والناس ههنا في هذا الموضع الحاج غير الحمس (2) فان الحمس كانوا لا يفيضون من جمع .
  (واستغفروا الله) لذنوبكم (إن الله غفور رحيم) للتائبين .

--------------------
(1) عنه الوسائل : 6/ 361 ح 5 قطعة ، والبحار : 17/ 383 ح 52 ، واثبات الهداة : 2/ 165 ح 617 قطعه .
(2) الحمس ـ بالضم ـ : قريش لانهم كانوا يتشددون في دينهم ، وقيل : كانوا لا يستظلون أيام منى ، ولايدلخون البيوت من أبوابها وهم محرمون ... وكانوا لا يخرجون أيام الموسم إلى عرفات انما يقفون بالمزدلفة ويقولون : نحن أهل الله، ولا نخرج من الحرم وصارت بنو عامر من الحمس ... (لسان العرب : 6/ 57 و 58) . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 608_
  (فاذا قضيتم مناسككم) التي سنت لكم في حجكم (فاذكروا الله كذكركم آباءكم) اذكروا الله بآلائه لديكم وإحسانه إليكم فيما وفقكم له من الايمان بنبوة محمد (صلى الله عليه وآله) سيد الانام واعتقاد وصيه أخيه علي زين أهل الاسلام كذكركم آباءكم بأفعالهم ومآثرهم التي تذكرونها (أو أشد ذكرا) خيرهم بين ذلك ولم يلزمهم أن يكونوا له أشد ذكرا منهم لآبائهم وإن كانت نعم الله عليهم أكثر وأعظم من نعم أبائهم .
  ثم قال ـ الله ـ عزوجل (فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا) أموالها وخيراتها (وماله في الاخرة من خلاق) نصيب لانه لا يعمل لها عملا ولا يطلب فيها خيرا .
  (ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة) خيراتها (وفي الاخرة حسنة) من نعم جناتها (وقنا عذاب النار) نجنا من عذاب النار وهم بالله مؤمنون وبطاعته عاملون ولمعاصيه مجانبون (أولئك) الداعون بهذا الدعاء على هذا الوصف (لهم نصيب مما كسبوا) من ثواب ما كسبوا في الدنيا وفي الآخرة .
  (والله سريع الحساب) لانه لا يشغله شأن عن شأن ، ولا محاسبة أحد من محاسبة آخر ، فاذا حاسب واحدا فهو في تلك الحال محاسب للكل ، يتم حساب الكل بتمام حساب واحد ، وهو كقوله (ماخلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة) (1) لا يشغله خلق واحد عن خلق (2) آخر ـ ولا بعث واحد عن بعث آخر ـ (3) .
  ـ في أن الحاج هم الموالون لمحمد وعلى (عليهما السلام) :
  359 ـ قال على بن الحسين (عليهما السلام) وهو واقف بعرفات للزهري : كم تقدر ههنا من الناس ؟.
  قال : اقدر أربعة آلاف ألف وخمسمائة ألف كلهم حجاج قصدوا الله بأمالهم ويدعونه بضجيج أصواتهم .

--------------------
(1) لقمان : 28 .
(2) ( بعث ) أ ، ص .
(3) عنه البحار : 99/ 257 صدر ح 36 . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 609 _
  ـ فقال له : يا زهري ما أكثر الضجيج وأقل الحجيج ! فقال الزهري : كلهم حجاج ، أفهم قليل ؟ .
  فقال له : يا زهري أدن لي وجهك .
  فأدناه إليه ، فمسح بيده وجهه ، ثم قال : انظر .
  ـ فنظر ـ إلى الناس ، قال الزهري : فرأيت أولئك الخلق كلهم قردة ، لا أرى فيهم إنسانا إلا في كل عشرة آلاف واحدا من الناس .
  ثم قال لي : ادن مني يا زهري .
  فدنوت منه ، فمسح بيده وجهي ثم قال : أنظر .
  فنظرت إلى الناس ، قال الزهري : فرأيت اولئك الخلق كلهم ـ خنازير ، ثم قال لي : ادن لي وجهك .
  فأدنيت منه ، فمسح بيده وجهي ، فاذا هم كلهم ـ (1) ذئبة إلا تلك الخصائص من الناس نفرا يسيرا .
  فقلت : بأبي وامي يابن رسول الله قد أدهشتني آياتك ، وحيرتني عجائبك ! قال : يا زهري ماالحجيج من هؤلاء إلا النفر اليسير الذين رأيتهم بين هذا الخلق الجم الغفير .
  ثم قال لي : امسح يدك على وجهك .
  ففعلت ، فعاد اولئك الخلق في عيني ناسا كما كانوا أولا.
  ثم قال لي : من حج ووالى موالينا ، وهجر معادينا ، ووطن نفسه على طاعتنا ، ثم حضر هذا الموقف مسلما إلى الحجر الاسود ما قلده الله من أماناتنا ، ووفيا بما ألزمه (2) من عهودنا ، فذلك هو الحاج ، والباقون هم من قد رأيتهم .
  يا زهري حدثني أبي عن جدي رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال : ليس الحاج المنافقين المعادين (3) لمحمد وعلي ومحبيهما الموالين (4) لشانئهما .
  وإنما الحاج المؤمنون المخلصون الموالون لمحمد وعلي ومحبيهما ،

--------------------
(1) كذا في بعض النسخ ، ولعلها زيادة من النساخ .
(2) ( لزمه ) أ .
(3) ( المعاندون ) ب ، س ، ط ، والبحار .
(4) ( المحبون ) أ ، ب ، ط . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 610_
  المعادون لشانئهما ، إن هؤلاء المؤمنين الموالين لنا ، المعادين لاعدائنا لتسطع أنوارهم في عرصات القيامة على قدر موالاتهم لنا .
  فمنهم من يسطع نوره مسيرة ألف سنة .
  ومنهم من يسطع نوره مسيرة ثلاثمائة ألف سنة وهو جميع مسافة تلك العرصات .
  ومنهم من يسطع نوره إلى مسافات بين ذلك يزيد بعضها على بعض على قدر مراتبهم في موالاتنا ومعاداة أعدائنا ، يعرفهم أهل العرصات من المسلمين والكافرين بأنهم الموالون المتولون والمتبرؤون .
  يقال لكل واحد منهم : يا ولي الله انظر في هذه العرصات إلى كل من أسدى إليك في الدنيا معروفا ، أو نفس عنك كربا ، أو أغاثك إذ كنت ملهوفا ، أو كف عنك عدوا ، أو أحسن إليك في معاملته ، فأنت شفيعه .
  فان كان من المؤمنين المحقين زيد بشفاعته في نعم الله عليه ، وإن كان من المقصرين كفى تقصيره بشفاعته ، وإن كان من الكافرين خفف من عذابه بقدر إحسانه إليه .
  وكأني بشيعتنا هولاء يطيرون في تلك العرصات كالبزاة والصقور ، فينقضون على من أحسن في الدنيا إليهم انقضاض البزاة والصقور على اللحوم تتلقفها وتحفظها (1) فكذلك يلتقطون من شدائد العرصات من كان أحسن إليهم في الدنيا فيرفعونهم إلى جنات النعيم .
  ـ و ـ قال رجل لعلي بن الحسين (عليهما السلام) : يا بن رسول الله (صلى الله عليه وآله) إنا إذا وقفنا بعرفات وبمنى ، ذكرنا الله ومجدناه ، وصلينا على محمد وآله الطيبين الطاهرين ، وذكرنا آباءنا أيضا بمآثرهم ومناقبهم وشريف أعمالهم (2) نريد بذلك قضاء حقوقهم فقال على بن الحسين (عليهما السلام) : أولا أنبئكم بما هو أبلغ في قضاء الحقوق من ذلك ؟ قالوا : بلى يابن رسول الله.

--------------------
(1) ( تخطفها ) أ ، س ، والبحار ، خطف الشئ : استلبه بسرعة .
(2) ( أفعالهم ) ، ب ، ط . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 611 _
  قال : أفضل من ذلك أن تجددوا على أنفسكم ذكر توحيد الله والشهادة به ، وذكر محمد (صلى الله عليه وآله) رسول الله، والشهادة له بأنه سيد النبيين (1) ، وذكر علي (عليه السلام) ولي الله، والشهادة له بأنه سيد الوصيين ، وذكر الائمة الطاهرين من آل محمد الطيبين بأنهم عباد الله المخلصين .

فضل الوقوف بعرفة :

  إن الله تعالى إذا كان عشية عرفة وضحوة يوم منى ، باهى كرام ملائكته بالواقفين بعرفات ومنى وقال لهم : هؤلاء عبادي وإمائي حضروني ههنا من البلاد السحيقة، شعثا غبرا ، قد فارقوا شهواتهم ، وبلادهم وأوطانهم ، وأخوانهم ابتغاء مرضاتي ، ألا فانظروا إلى قلوبهم وما فيها ، فقد قويت أبصاركم (2) يا ملائكتي على الاطلاع عليها .
  قال : فتطلع الملائكة على قلوبهم ، فيقولون : يا ربنا اطلعنا عليها ، وبعضها سود مدلهمة يرتفع عنها دخان كدخان جهنم .
  فيقول ـ الله ـ (3) : اولئك الاشقياء الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا ، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ؟ تلك قلوب خاوية من الخيرات ، خاليا من الطاعات ، مصرة على المرديات المحرمات ، تعتقد تعظيم من أهناه ، وتصغير من فخمناه وبجلناه ، لئن وافوني كذلك لاشددن عذابهم ، ولاطيلن حسابهم .
  تلك قلوب اعتقدت أن محمدا رسول ـ الله (صلى الله عليه وآله) ـ كذب على الله أو غلط عن الله في تقليده أخاه ووصيه إقامة أود (4) عباد الله، والقيام بسياساتهم ، حتى يروا الامن في إقامة الدين في انقاذ ؟ (5) الهالكين ، وتعليم الجاهلين ، وتنبيه الغافلين الذين بئس

--------------------
(1) ( المرسلين ) أ ، س .
(2) ( بصائركم ) ص .
(3) من البحار والمستدرك .
(4) أى عوج .
(5) ( انقياد ) الاصل . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 612_
  المطايا إلى جهنم مطاياهم .
  ثم يقول الله عزوجل : يا ملائكتي انظروا .
  فينظرون فيقولون : يا ربنا قد اطلعنا على قلوب هؤلاء الآخرين ، وهي بيض مضيئة ترفع عنها الانوار إلى السماوات والحجب ، وتخرقها إلى أن تستقر عند ساق عرشك يا رحمن .
  يقول الله عزوجل : اولئك السعداء الذين تقبل الله أعمالهم وشكر سعيهم في الحياة الدنيا ، فانهم قد أحسنوا فيها صنعا تلك قلوب حاوية للخيرات ، مشتملة على الطاعات ، مدمنة على المنجيات المشرفات ، تفتقد تعظيم من عظمناه ، وإهانة من أرذلناه ، لئن وافوني كذلك لاثقلن من جهة الحسنات موازينهم ، ولا خففن من جهة السيئات موازينهم ، ولا عظمن أنوارهم ، ولاجعلن في دار كرامتي ومستقر رحمتي محلهم وقرارهم .
  تلك قلوب اعتقدت أن محمدا رسول الله (صلى الله عليه وآله) هو الصادق في كل أقواله (1)، المحق في كل أفعاله ، الشريف في كل خلاله ، المبرز بالفضل في جميع خصاله وأنه قد أصاب في نصبه أمير المؤمنين عليا إماما ، وعلما على دين الله واضحا ، واتخذوا أمير المؤمنين (عليه السلام) إمام هدى ، واقيا من الردى ، الحق ما دعا إليه ، والصواب والحكمة ما دل عليه ، والسعيد من وصل حبله بحبله ، والشقي الهالك من خرج من جملة (2) المؤمنين به والمطيعين له .
  نعم المطايا إلى الجنان مطاياهم ، سوف ننزلهم منها أشرف غرف الجنان ، ونسقيهم من الرحيق المختوم من أيدي الوصائف والولدان ، وسوف نجعلهم في دار السلام من رفقاء محمد نبيهم (3) زين أهل الاسلام ، وسوف يضمهم الله تعالى إلى جملة شيعة علي القرم (4) الهمام ، فنجعلهم بذلك ـ من ـ ملوك جنات النعيم ، الخالدين

--------------------
(1) ( أحواله ) أ .
(2) ( عن جهة ) ا ، س .
(3) ( نبيه ) الاصل والمستدرك .
(4) أى السيد العظيم . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _613_
  في العيش السليم ، والنعيم المقيم .
  هنيئا لهم هنيئا جزاءا بما اعتقدوه وقالوا ، بفضل ـ الله ـ الكريم الرحيم نالوا ما نالوه (1) .
  قوله عزوجل : ( واذكروا الله في أيام معدودات ، فمن تعجل في يومين فلا اثم عليه ومن تأخر فلا اثم عليه لمن اتقى واتقوا الله واعلموا أنكم اليه تحشرون ) 203 .
  360 ـ قال الامام (عليه السلام) : (واذكروا الله في أيام معدودات) (2) وهي الايام الثلاثة التي هي أيام التشريق بعد يوم النحر ، وهذا الذكر هو التكبير بعد الصلوات المكتوبات يبتدئ من صلاة الظهر يوم النحر إلى صلاة الظهر من آخر أيام التشريق : ( الله أكبر ، الله أكبر ، لا إله إلا الله، والله أكبر ، الله أكبر ولله الحمد ) (3) (4) .
  (فمن تعجل في يومين من أيام التشريق فانصرف من حجه إلى بلاده التي هو

--------------------
(1) عنه البحار : 99/ 257 ح 36 و 37 ، واثبات الهداة : 3/ 577 ح 672 (قطعة) ، ومستدرك الوسائل : 2/ 167 باب 24 ح 2 .
(2) يظهر ـ من قوله تعالى ( فاذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله... ) البقرة : 200 ، ومن قوله ( أذن في الناس بالحج يأتوك ... ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الانعام في أيام معلومات ) الحج : 22 ـ أن ذكر الله مرة عند رمى الجمرات في كل يوم من الايام المعدوات ، ومرة بالتسمية على واجب الهدى في أيام معلومات : أولها يوم النحر .
(3) زاد في ( س ) : الله أكبر على ما هدانا ، الله أكبر على ما رزقنا .
(4) عنه البحار : 99/ 311 ح 36 ، ومستدرك الوسائل : 1/ 431 باب 17 ح 3 . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 614 _
  منها فلا إثم (1) عليه ) (2) .

--------------------
(1) الاثم هو الاثر الحاصل من الذنب الذى يكسبه الاثم على نفسه ، كما قال تعالى ( ومن يكسب اثما فانما يكسبه على نفسه ) النساء 111 ، فارتكاب الحرام يورث رينا على القلب فيبطئ عن الخيرات، والتوبة تزيله وتطهره ، ويأتى في الهامش رقم (2) أن في قوله ( لا اثم عليه ) اطلاقا بمعنى أنه قد يراد في مورد نفى الحرج ، واخرى نفى الذنب ، وأخرى يراد كلاهما .
(2) قوله ( لا اثم عليه ) ـ اطلاقا ـ برفع الحرج المتوقع ، أو يرفع الذنوب السالفة وغفرانها أو بجامعهما معا ، فانه قد يراد منه في قوله تعالى : ( فمن اضطر... فلا اثم عليه ) رفع الحرج الذى كان في أكل الميتة من المضطر ، وقد يراد نفى ما اكتسب اثما ورينا على نفسه في قوله تعالى : ( من يكسب اثما فانما يكسب على نفسه ) وذلك بمغفرته لناسك الحج تماما ، سواء توفى أو نفر في اليوم الثالث ، فصار مغفورا له كن كان طاهرا؟ ؟ يوم ولد أو معتصما بالله لم يكسب على نفسه اثما ، وهذا نظير ماقال يوسف لاخوته ( لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم ) ، وقد يراد بهما جميعا كما في قوله تعالى ( فمن تعجل في يومين ) أى لا في تمام اليوم الثانى ( فلا اثم عليه ) فان الجامع أنه لا اثم عليه ، أى شئ كان وبأى شئ رفع ، وليس هذا من باب استعمال اللفظ في أكثر من واحد بل في الواحد الكلى المنطبق على مختلف الموارد ، وعلى هذا ترى في قوله ( من أتى؟ ؟ النساء في احرامه لم يكن له أن ينفر في النفر الاول ) وقوله ( اذا أصاب المحرم الصيد فليس له أن ينفر في النفر الاول ) وقوله : من نفر في النفر الاول فليس له أن يصيب الصيد حتى ينفر الثانى وهو قول الله ( فمن تعجل في يومين فلا اثم عليه لمن اتقى ) قال : اتقى الصيد جامع الاحاديث 12/ 198 ـ 205 ، وترى أيضا في باب فضل الحج والعمرة قال: لا اثم عليه تعجل أن تاخر : غفر له ذنبه فيما تقدم ( وما تأخر ) جامع الاحاديث ج 10/ 149 ـ 195 وهذا لا ينافى اختلاف أصنافهم الثلاثة ودرجاتهم ، فمنهم لا اثم عليه فيما سلف من ذنبه < (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _615 _
  ( ومن تأخر ) إلى تمام اليوم الثالث (1) .

--------------------
> ومنهم من لا اثم عليه فيما تقدم وتأخر إلى السنة القادمة وأفضلهم الثالث وهو المغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر إلى ما بقى من عمره ، فانه بتمام حجه غفر له ما تقدم من ذنبه الذى كسبه على نفسه وران على قلبه ، واذا اتقى لما تأخر فلا يأثم إلى ما بقى من عمره ، فهذا معنى ( لا اثم عليه ) اطلاقا ، وبهذا أشار في هذا التفسير بقوله ( لمن اتقى من أن يوقع الموبقات بعدها ) تفسير لقوله ( لا اثم عليه لمن اتقى ) بنفى الحرج والذنوب مع خصوص من يريد النفر متعجلا وقد اتقى ، وثبوت الحرج لمن اتقى ولكن أراد أن يتعجل وقت الغروب بعد تمام اليوم الثانى أو لمن لم يتق فهو ينفر حيت يصبح في اليوم الثالث ، فيرمى ثم ينفر متى شاء ، وان كان في اليوم الثالث ، والذى يدل على ما قلنا من الاطلاق لقوله ( لا اثم عليه ) ما ورد في الفقيه 2/ 482 : ( سئل الصادق عن قول الله عزوجل ) فمن تعجل فلا اثم عليه ومن تأخر فلا اثم عليه لمن اتقى ( قال : ليس هو على أن ذلك واسع : ان شاء صنع وان شاء صنع ذا ، ولكنه يرجع مغفورا له لا اثم عليه ولا ذنب له ) بيان ذلك : أنه لا يريد نفى ما يثبته الكتاب من نفى الحرج في التعجيل والتاخير ، بل يريد نفى انحصار الدلالة على المعنى الاول بل اثباته مع نفى الاثم عليهما ، وفي بعض النسخ (ليبين) أى ليعلم أنه مع التقديم والتأخر مغفور له ، وقرأها الفاضل التفرشى ( لينبنن ) أى ليخبر هو ـ أى الحاج ـ بتلك البشارة ، وفي بعض النسخ ( ليبشر ) من التبشير ، وفى بعضها ( ليبين ) من التبيين والمعنى واحد .
(1) وهى كما في الاخبار والاحكام الفقهية المعمول بها ـ في ضرورة المسلمين ـ بمعنى أنه اذا أصبح اليوم الثالث ورمى الجمرات فله أن ينفر أى ساعة شاء إلى تمام الثالث ، فانه اذا لم ينفر إلى تمامه فليس عليه أن يبيت ليلة الرابع عشر ، وعلى ذلك فمن ذكر الله بالنهار ثم تأخر النفر إلى تمام الثالث كما قال تعالى : ( فاذكروا الله ) في ( أيام معدودات فلا حرج ولا اثم عليه ، فان الحاج اذا أصبح في الثالث ورمى بالجمرات أتم حجة ثم ينفر متى شاء ، وهذا قبال من تعجل في يومين فلا ينفر حتى تزول الشمس أى ساعة شاء لا إلى تمام اليوم < (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 616_
  ( فلا إثم عليه ) ـ أي لا إثم عليه ـ من ذنوبه السالفة، لانها قد غفرت له كلها بحجته هذه المقارنة لندمه عليها وتوقيه منها .
  ( لمن اتقى ) (1) أن يواقع الموبقات بعدها ، فانه إن واقعها كان عليه إثمها .

--------------------
> الثانى ، فانه اذا بقى إلى تمام اليوم الثانى وقت الغروب كان عليه أن يبيت بمنى ، وبالجملة ففي التعجيل في اليوم الثانى حرجان : الاول: اذا لم يتق فليس له أن يخرج في اليوم الثانى ، الثانى : اذا اتقى وبقى إلى تمام اليوم الثانى فعليه أن يبيت إلى اليوم الثالث ، هذا في قبال من تأخر فانه اتقى أو لم يتق فله أن ينفر بعد رمى الجمرات ، كان ذلك قبل الزوال أو بعده ، إلى تمام اليوم الثالث أو بعده .
(1) قال : ( لمن اتقى ) ولم يقل ( ان اتقى ) وذلك بمعنى أن هذا الفضل والثواب ( نفى الاثم - اطلاقيا ـ عليه) مختص بمن حج واتقى ، سواء تعجل أو تاخر ، لا مشروط به ، وان كان يرجع اليه لتحصيل النفع ، وهذا واضح ، ويجوز تقدير لفظ ( ذلك ) فيه ، نظير ما قال تعالى في آيات : ( ذلك لمن لم يكن أهله حاضرى المسجد الحرام ) البقرة 198 ( ذلك لمن خشى العنت ) النساء : 25 ، ( ذلك لمن خاف مقامى ) ابراهيم : 14 ، وفيه امران : الاول: أنه اطلق وقت الاتقاء ، ولم يقل اتقى الصيد في احرامه قبلا ، ولم يقل اتقى الصيد من اليوم الثانى إلى اليوم الثالث أى بعدا ، ولا أن يواقع الموبقات مستقبلا ، فعلى ذلك هو قابل للانطباق بمعناه العالم عليها في مختلف الروايات فلاحظ ، الثانى : أنه أطلق ما يتقى منه ، ولم يصرح بشئ من ماذكره في كتابه كثيرا ، ولا بما ذكر في الرويات تارة : الله، الصيد ، النساء ، الرفت ، الفسوق ، الجدال ، ما حرم الله في الاحرام ، الكبائر ، وفى بعضها ( أن يكون مبرءا من الكبر وهو أن يجهل الحق ويطعن على أهله ) وفى هذا التفسير قال : اتقى أن يواقع الموبقات بعدها ( وفى بعض أن يتقى الصيد إلى أن ينفر الناس من منى ـ أى في النفر الثانى ـ راجع جامع الاحاديث 12/ وفى بعضها قال ) هن لكم والناس سواد ، وأنتم الحاج بمعنى أنها خاصة للمتقين أهل < (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 617 _
  ولم تغفر له ـ (1).
  تلك الذنوب السالفة بتوبة قد أبطلها بموبقات بعدها ، وإنما يغفرها بتوبة يجددها .
( واتقوا الله ) يا أيها الحاج المغفور لهم سالف ذنوبهم بحجهم المقرون بتوبتهم ، فلا تعاودوا الموبقات فيعود إليكم أثقالها ، ويثقلكم احتمالها ، فلا يغفر لكم إلا بتوبة بعدها ، ( واعلموا أنكم إليه تحشرون) فينظر في أعمالكم فيجازيكم عليها (2) .
  361 ـ قال على بن الحسين (عليهما السلام) : عباد الله اجعلوا حجتكم مقبولة مبرورة ، وإياكم وأن تجعلوها مردودة علكيم أقبح الرد ، وأن تصدوا عن جنة الله يوم القيامة أقبح الصد ألا وإن ما يحلها محل القبول ما يقترن بها من موالاة محمد وعلي وآلهما الطيبين

--------------------
(1) الولاية ، وفيه اشارة إلى قوله تعالى انما يتقبل الله من المتقين والى أحاديث دعائم الاسلام خمسة خامسها : الولاية، وبها يشترط قبول الاعمال ، وأما توجيه من تعجل على أهل البادية ومن تأخر على أهل الحضر فلا شاهد له ، ثم أنه قد مر عليك : 613 في ذيل قوله ( لا اثم عليه لمن اتقى ) بيانا للاطلاق بنفى الاثم عليه سواء كان من الذنوب السالفة أو الحرج المتوقع بالتعجيل ، فراجع يكون نافعا في بيان الاطلاق هناك في الامرين ، ان المراد واضح ، واللفظ ناقص ، ولعله كان هكذا : ( ولم تغفر له (مع) تلك الذنوب السالفة ) فان قبول التوبة المقارنة للندامه وقصد التوقى من الموبقات كالعلة لمحو الذنوب ، وهى بمنزلة ماء البحر يزيل الدنس ، ما لم يتنجس بقذارة جديدة ، هذا بضرورة العقل والنقل ، فعلى هذا من تاب واتقى ولم يكسب اثما فلا اثم عليه اطلاقا ، وأما من تاب ولم يتق الموبقات بعدها وعمل سوءا فلا يغفر له الا بتوبة يجددها .
(2) عنه البحار : 70/ 268 (قطعة) ، ج 99/ 316 ح 10 ، ومستدرك الوسائل : 2/ 185 باب 9 ح 3 ، (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 618_
  وإن ما يسفلها ويرذلها ما يقترن بها من اتخاذ الانداد من دون أئمة الحق وولاة الصدق : علي بن أبي طالب (عليه السلام) والمنتجبين ممن يختاره من ذريته وذويه . ثم قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : طوبى للموالين عليا إيمانا بمحمد وتصديقا لمقاله كيف يذكرهم الله بأشرف الذكر من فوق عرشه .
  وكيف يصلي عليهم ملائكة العرش والكرسي والحجب والسماوات والارض والهواء ، وما بين ذلك ، وما تحتها إلى الثرى .
  وكيف يصلي عليهم أملاك الغيوم والامطار ، وأملاك البراري والبحار ، وشمس السماء وقمرها ونجومها ، وحصباء الارض ورمالها ، وسائر ما يدب من الحيوانات فيشرف الله تعالى بصلاة كل واحد منها لديه محالهم ، ويعظم عنده جلالهم حتى يردوا عليه يوم القيامة .
  وقد شهروا بكرمات الله على رؤوس الاشهاد ، وجعلوا من رفقاء محمد وعلي صفي رب العالمين .
  والويل للمعاندين عليا كفرا بمحمد وتكذيبا بمقاله كيف يلعنهم الله بأخزى اللعن من فوق عرشه .
  وكيف يلعنهم حملة العرش والكرسي والحجب والسماوات والارض والهواء ، وما بين ذلك ، وما تحتها إلى الثرى .
  وكيف يلعنهم أملاك الغيوم والامطار ، وأملاك البراري والبحار ، وشمس السماء وقمرها ونجومها ، وحصباء الارض ورمالها ، وسائر ما يدب من الحيوانات ، فيسفل الله بلعن كل واحد منهم لديه محالهم ، ويقبح عنده أحوالهم ، حتى يردوا عليه يوم القيامة وقد شهروا بلعن (1) الله ومقته على رؤوس الاشهاد ، وجعلوا من رفقاء إبليس ونمرود وفرعون ـ و ـ أعداء رب العالمين .
  و ـ إن ـ من عظيم ما يتقرب به خيار أملاك الحجب والسماوات الصلاة على

--------------------
(1) ( للعن ) أ ، ص . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 619 _
  محبينا أهل البيت واللعن لشانئينا (1) .
  قوله عزوجل : ( ومن الناس من يعجبك قوله في الحيوة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام ، واذا تولى سعى في الارض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد ، واذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالاثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد ) : 204 ـ 206 .
  362 ـ قال الامام (عليه السلام) : فلما أمر الله عزوجل في الآية المتقدمة لهذه الآيات بالتقوى سرأ وعلانية ، أخبر محمدا (صلى الله عليه وآله) أن في الناس من يظهرها ويسر خلافها ، وينطوي على معاصي الله، فقال : يا محمد (ومن الناس من يعجبك قوله في الحيوة الدنيا) باظهاره لك الدين والاسلام ، وتزينه بحضرتك بالورع والاحسان (ويشهد الله على ما في قلبه) بأن يحلف لك بأنه مؤمن مخلص مصدق لقوله بعمله (وهو ألد الخصام) شديد العداوة والجدال للمسلمين .
  (وإذا تولى) عنك أدبر (2) (سعى في الارض ليفسد فيها) يعصي بالكفر المخالف لما أظهر لك ، والظلم المباين لما وعد من نفسه بحضرتك .
  (ويهلك الحرث) بأن يحرقه أو يفسده ، ( والنسل ) بأن يقتل الحيوان فينقطع نسله (والله لا يحب الفساد) لا يرضى به ولا يترك أن يعاقب عليه .
  (وإذا قيل له) لهذا الذى يعجبك قوله (اتق الله) ودع سوء صنيعك .
  (أخذته العزة بالاثم) الذي هو محتقبه ، (3) فيزداد إلى شره شرا ، ويضيف إلى ظلمه ظلما .

--------------------
(1) عنه البحار : 68/ 37 ح 79 .
(2) ( أدبر وانصرف عنك ) س .
(3) احتقب الاثم: جمعه ، ( مخفيه ) س . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _620_
  (فحسبه جهنم) جزاءا له على سوء فعله ، وعذابا .
  (ولبئس المهاد) يمهدها ويكون دائما فيها (1) .
  363 ـ قال على بن الحسين (عليهما السلام) : ذم الله تعالى هذا الظالم المعتدي ـ من (2) المخالفين ـ وهو على خلاف ما يقول منطوي ، والاساءة إلى المؤمنين مضمر ، فاتقوا الله عباد الله (3) ـ المنتحلين لمحبتنا ـ (4) وإياكم والذنوب التي قل ما أصر عليها صاحبها إلا أداه إلى الخذلان المؤدي إلى الخروج عن ولاية محمد وعلي والطيبين من آلهما ، والدخول في موالاة أعدائهما ، فان من أصر على ذلك فأدى خذلانه إلى الشقاء الاشقى من مفارقة ولاية سيد اولى النهى ، فهو من أخسر الخاسرين .
  قالوا : يا بن رسول الله وما الذنوب المؤدية إلى الخذلان العظيم ؟ قال : ظلمكم لاخوانكم الذين هم لكم في تفضيل علي (عليه السلام) ، والقول بامامته ، وإمامة من انتجبه ـ الله ـ من ذريته موافقون ومعاونتكم الناصبين عليهم ، ولا تغتروا بحلم الله عنكم ، وطول إمهاله لكم ، فتكونوا كمن قال الله عزوجل : (كمثل الشيطان إذ قال للانسان (5) اكفر فلما كفر قال إني برئ منك إني أخاف الله رب العالمين) (6) .

--------------------
(1) عنه البحار : 9/ 188 ح 20 ، وج 73 ، 183 قطعة ، وج 75/ 317 صدر ح 41 .
(2) ( على ) الاصل .
(3) ( معشر ) س .
(4) ليس في البحار .
(5) اللام قى قوله تعالى ( للانسان ) هى للعهد بالفرد الخاص ـ لا للجنس ـ بدلالة التمثيل الواقع خارجا لا فرضا ، لقوله (قال الشيطان) ولم يقل ـ يقول ـ ( اكفر ـ أنت ـ فلما كفر - هو ـ وتحقق بالماضى كفر هذا الفرد، لا جميعا ـ قال ـ له ـ انى برئ منك ) لا منكم ، والقصة مشهورة ، اوردها الطبرسى في مجمع البيان : 9/ 265 برواية ابن عباس ، (عنه البحار : 14/ 486) ، والسيوطى في الدر المنثور : 6/ 199 من طرق متعددة ، وأشار اليها البيضاوى في تفسيره : 4/ 197 ، و ...
(6) الحشر : 160 . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 621_
قصة عابد بنى اسرائيل :
  كان هذا رجل (1) فيمن كان قبلكم في زمان بني إسرائيل ـ يتعاطى الزهد والعبادة وقد كان قيل له : إن أفضل الزهد ، الزهد في ظلم إخوانك المؤمنين بمحمد وعلي (عليهما السلام) والطيبين من آلهما ، وإن أشرف العبادة خدمتك إخوانك المؤمنين ، الموافقين لك على تفضيل سادة الورى محمد المصطفى ، وعلي المرتضى ، والمنتجبين المختارين للقيام بسياسة الورى .
  فعرف الرجل بما كان يظهر ـ من ـ الزهد ، فكان إخوانه المؤمنون يودعونه فيدعى ـ بها ـ أنها سرقت ، ويفوز بها ، وإذا لم يمكنه دعوى السرقه جحدها وذهب بها .
  وما زال هكذا والدعاوى لا تقبل فيه ، والظنون تحسن به ، ويقتصر منه على أيمانه الفاجرة إلى أن خذله الله تعالى ، وفوضعت عنده جارية من أجمل النساء قد جنت ليرقيها برقية فتبرأ ، أو يعالجها بدواء ، فحمله الخذلان عند غلبة الجنون عليها على وطيها، فأحبلها .
  فلما اقترب وضعها جاءه الشيطان ، فأخطر بباله أنها تلد وتعرف (2) بالزنا بها فتقتل ، فاقتلها وادفنها تحت مصلاك ، فقتلها ودفنها ، وطلبها أهلها فقال : زاد بها جنونها فماتت .
   فاتهموه وحفروا تحت مصلاه ، فوجدوها مقتولة مدفونة حبلى مقربة (3) فأخذوه وانضاف إلى هذه الخطيئة دعاوى القوم الكثيرة الذين جحدهم ، فقويت عليه التهمة وضويق ـ على الطريق ـ فاعترف على نفسه بالخطيئة بالزنا بها ، وقتلها فملئ بطنه وظهره سياطا ، وصلب على شجرة .
  فجاءه بعض شياطين الانس وقال له : ما الذي أغنى عنك عبادة من كنت تعبده

--------------------
(1) اسمه ( برصيصا ) كما في رواية ابن عباس .
(2) ( تقرن ) أ ، س ، ص .
(3) المقرب من الحوامل : التى قرب ولادها . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 622_
  ومولاة من كنت تواليه من محمد وعلي الطيبين (1) من آلهما الذين زعموا أنهم في الشدائد أنصارك ، وفي الملمات أعوانك .
  وذهب ما كنت تؤمل هباءا منثورا ، وانكشف أحاديثهم لك ، وأطماعهم إياك (2) من أعظم الغرور ، وأبطل الاباطيل ، وأنا الامام الذي كنت تدعي إليه ، وصاحب الحق الذي كنت تدل عليه ، وقد كنت باعتقاد إمامة غيري من قبل مغرورا فان أردت أن اخلصك من هؤلاء ، وأذهب بك إلى بلاد نازحة (3) ، وأجعلك هناك رئيسا سيدا فاسجد لي على خشبتك هذه سجدة معترف بأني أنا الملك لا نقادك ، لانقذك .
  فغلب عليه الشقاء والخذلان ، واعتقد قوله وسحد له ، ثم قال : انقذني .
  فقال له : إني برئ منك ، إني أخاف الله رب العالمين .
  وجعل يسخر ويطنز به ، وتحير المصلوب ، واضطرب عليه اعتقاده ، ومات بأسوأ عاقبة ، فذلك الذي أداه إلى هذا الخذلان (4) .
  قوله عزوجل : ( ومن الناس من يشرى نفسه ابتغاء مرضات الله والله رؤف بالعباد ) 207 .
  364 ـ قال الامام (عليه السلام) : (ومن الناس يشري نفسه) (5) يبيعها (ابتغاء مرضات

--------------------
(1) اقول : لاحظ أن الشيطان هنا هو في مقام الاغواء لمن صلب وبه رمق ، فهو بالتالى لابد أن يسالمه ويسايره على ما يدعى اعتقاده من دون أن يجرحه في شئ من ذلك ، حتى يقول له ( ... والطيبين من آلهما الذين زعموا ... ذهب ما كنت تؤمل ... ) فتدبر .
(2) ( اطاعتك اياهم ) البحار .
(3) أى بعيدة .
(4) عنه البحار : 75/ 318 ضمن ح 41 ، وقصة العابد مروية في مصادر عديدة كما ذكرنا ، فراجع .
(5) أقول : اتفقت روايات الفريقين على أن الاية نزلت بحق مولانا أمير المؤمنين على بن أبى طالب (عليه السلام) ( ليلة المبيت ) حين اتفق المشركون على قتل رسول الله صلى الله < (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _623_
  الله) عزوجل فيعمل بطاعة الله، ويأمر الناس بها ، ويصبر على ما يلحقه من الاذى فيها ، فيكون كمن باع نفسه ، وسلمها مرضاة الله عوضا منها ، فلا يبالى ما حل بها بعد أن يحصل لها رضاء ربها (والله رؤف بالعباد) كلهم .
  أما الطالبون لرضاه ، فيبلغهم أقصى أمانيهم ، ويزيدهم عليها ما لم تبلغه آمالهم وأما الفاجرون في دينه فيتأناهم ، ويرفق بهم ، ويدعوهم إلى طاعته ، ولا يقطع من علم أنه سيتوب عن ذنوبه التوبة الموجبة له عظيم كرامته (1) .
  ـ ذكر جلاله قدر بلال ـ 365 ـ قال على بن الحسين (عليهما السلام) : وهؤلاء (2) خيار من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) عذبهم أهل مكة ليفتنوهم عن دينهم ، منهم بلال ، وصهيب ، وخباب ، وعمار بن ياسر وأبواه : فأما بلال ، فاشتراه أبوبكر بن أبي قحافة بعبدين له أسودين ، ورجع إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فكان تعظيمه لعلي بن أبي طالب (عليه السلام) أضعاف تعظيمه لابي بكر .
  فقال المفسدون : يا بلال كفرت النعمة ، ونقضت ترتيب الفضل ، أبوبكر مولاك

--------------------
(1) > عليه وآله فخرج إلى الغار ، وبات (عليه السلام) في فراشه ، ولبس ثوبه... وهو لا ينافى أن يكون مفهوم الاية عاما لتضم تحت لوائها اولئك المخلصون الذين شروا أنفسهم ابتغاء مرضاة الله، ومصداقه ذيل الاية المباركة ( والله رؤف بالعباد ) ولا منافات اذن ، فتدبر
(1) عنه البحار : 22/ 338 صدر ح 50 ، وج 70/ 217 .
(2) لا يخفى أن لذيل الاية الكريمة معنى عاما ، ومفهوما واسعا ، ينطبق على غير واحد من المؤمنين وعلى رأسهم أميرهم على بن أبى طالب (عليه السلام) ، ومن ظهر وأتم ما ينطبق عليه سيد الشهداء من الاولين والاخرين ( الحسين بن على بن أبى طالب ) (عليهما السلام) وأصحابه الذين بذلوا مهجم ابتغاء مرضاة الله تعالى ، وهذا لا ينافى أن يكون فضل نزول الاية خاصا بيعسوب الدين أمير المؤمنين ، عليه وعلى أولاده المعصومين أفضل صلوات المصلين . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 624 _
  الذي اشتراك وأعتقك ، وأنقذك من العذاب ، ووفر (1) عليك نفسك وكسبك ، وعلي ابن أبي طالب (عليه السلام) لم يفعل بك شيئا من هذه ، وأنت توقر أبا الحسن عليا بما لا توقر أبا بكر ، إن هذا كفر للنعمة وجهل بالترتيب .
  فقال بلال : أفيلزمني أن أوقر أبابكر فوق توقيري لرسول الله (صلى الله عليه وآله) ؟ قالوا : معاذ الله .
  قال : قد خالف قولكم هذا قولكم الاول، إن كان لا يجوز لي أن افضل عليا (عليه السلام) على أبى بكر ، لان أبابكر أعتقني ، فكذلك لا يجوز أن افضل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي بكر ، لان أبا بكر أعتقني ، قالوا : لا سواء إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أفضل خلق الله.
  قال بلال ولا سواء أيضا أبوبكر وعلي ، إن عليا ـ هو ـ نفس أفضل خلق الله، فهو ـ أيضا ـ أفضل خلق الله بعد نبيه (صلى الله عليه وآله) ، وأحب الخلق إلى الله تعالى لاكله الطير مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) الذي دعا : ( اللهم ائتني بأحب خلقك إليك ) (2) وهو أشبه خلق الله برسول الله لما جعله أخاه في دين الله.
  وأبوبكر لا يلتمس ـ مني ـ ما تلتمسون ، لانه يعرف من فضل علي (عليه السلام) ما تجهلون أي يعرف أن حق علي ـ علي ـ أعظم من حقه ، لانه أنقذني من رق عذاب الذي لو دام علي وصبرت عليه لصرت إلى جنات عدن ، وعلي أنقذني من رق عذاب الابد ، وأوجب لي بموالاتي له وتفضيلي إياه نعيم الابد .

--------------------
(1) يقال : وفر عليه؟ ؟ حقه : أعطاه حقه كله ، ووفر عرض فلان : صانه ولم يشتمه ، وفر العطاء رده ( رد ) البحار ، ( وقر ) أ ، ط ، تصحيف . ظ
(2) حديث الطير ، من الاحاديث المتواترة روته الخاصة والعامة بأسانيد متعددة وألفاظ شتى راجع المجلد الخاص به من عبقات الانوار ، ج 1 . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 625 _
فضيلة لصهيب :
  قال (عليه السلام) : وأما صهيب (1) ، فقال : أنا شيخ كبير لا يضركم كنت معكم أو عليكم فخذوا مالي ودعوني ودينى .
  فأخذوا ماله وتركوه فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله) ـ لما جاء إليه ـ : يا صهيب كم كان مالك الذي سلمته ؟ قال : سبعة آلاف.
  قال : طابت نفسك بتسليمه ؟ قال : يا رسول الله ـ والذي بعثك بالحق نبيا ـ لو كانت الدنيا كلها ذهبة حمراء لجعلتها عوضا عن نظره أنظرها إليك ، ونظرة أنظرها إلى أخيك ووصيك علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : يا صهيب قد أعجزت خزان الجنان عن إحصاء مالك فيها بمالك هذا واعتقادك ، فلا يحصيها (2) إلا خالقها .

فضيلة لخباب بن الارت:
وأما خباب بن الارت، فكانوا قد قيدوه بقيد وغل (3) فدعا الله تعالى بمحمد

--------------------
(1) هذا يروى عن صهيب ـ مولى رسول الله (صلى الله عليه وآله) في أول عهده به أيام حياته ـ ودرجة جهاده وحبه ، والنظر اليه والى وصيه ، فكيف بالايمان القلبى برسالته ووصيه ، وهذا الشيخ الكبير ـ على ما ادعاه ـ فالى متى بقى وعاش ومتى توفى ، وبعد فهل بقى على العهد الذى كان في أيام حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله) كما كان بلال ، أو انقلب على عقبيه ـ كما في ظاهر رواية الكشى : 38 ح 79 ، والاختصاص : 68 ، وعليك بمراجعة السند فيهما ، وترجمته في كتب التراجم ـ أو تظاهر به تقية ؟ واذا شككت فقف عنده ، وذره في بقعة الامكان ، ولا تقف ما ليس لك به علم ، فانا رأينا مختلف الرواية ، وبعض الطعون على بعض أصحابنا ، وأصحابنا رفضوها .
(2) هذا من فضل الله ورحمته ، وكان فضله عظيما ، وكم له نظير في المثوبات ، ومنه ما آثرناه في فضل صلاة الجماعة اذا كان عددهم كثيرا ، والله العالم .
(3) طوق من حديد يجعل في اليد أو العنق . (*)