فيأتيه أخ له مؤمن ـ قد كان أحسن إليه في الدنيا ـ فيقول له : قد وهبت لك جميع حسناتي بازاء ماكان منك إلي في الدنيا ، فيغفر الله له بها ، ويقول لهذا المؤمن : فأنت بماذا تدخل جنتي ؟ فيقول : برحمتك يا رب ! فيقول الله: عزوجل : جدت عليه بجميع حسناتك ، ونحن أولى بالجود منك والكرم ، قد تقبلتها عن أخيك وقد رددتها عليك وأضعفتها لك .
فهو من أفاضل أهل الجنان (1) .
قوله عزوجل :( وقالوا لن يدخل الجنة الا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم ان كنتم صادقين بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله اجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يخزنون ) 111 و 112 321 ـ قال الامام (عليه السلام ) : قال أمير المؤمنين (عليه السلام) ( وقالوا ) يعني اليهود والنصارى : قالت اليهود ( لن يدخل الجنة إلا من كان هودا ) أي يهوديا .
وقوله ( أو نصارى ) يعني وقالت النصارى : لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانيا .
قال امير المؤمنين (عليه السلام) : وقد قال غيرهم : قالت الدهرية : الاشياء لا بدء لها ، وهي دائمة ، ومن خالفنا في هذا ضال مخطئ ـ مفصل ـ (2) .
--------------------
(1) عنه البحار : 7/ 300 ضمن ح 51 : وج 74/ 310 ذ ح 63 ، وج 84/ 244 ح 34 قطعة وج 96/ 9 ح 6 قطعة ، ومستدرك السوائل : 1/ 406 باب 24 ح 1 قطعة وص 506 باب 1 ح 14 قطعة .
(2) من البحار والبرهان ، ذهبت الدهرية إلى أن العالم قديم زمانى ، وقالوا : ان الاشياء دائمة الوجود لم تزل ولا تزال ، بل بعضهم أنكروا الحوادث اليومية أيضا وذهبوا إلى الكمون والبروز لتصحيح قدم الحوادث اليومية ، وأنكروا وجود مالم تدركه الحواس الخمس ، ولذا أنكروا وجود الصانع لعدم ادراك الحواس له تعالى ، وقالوا وجود < (*)
تفسير الإمام العسكري (عليه السلام)_ 527 _
وقالت الثنوية : النور والظلمة هما المدبران ، ومن خالفنا في هذا ضل .
وقال مشركو العرب : إن أوثاننا آلهة ، من خالفنا في هذا ضل (1) .
فقال الله تعالى : ( تلك أمانيهم ) التي يتمنونها ( قل ـ لهم ـ هاتوا برهانكم ) على مقالتكم ( إن كنتم صادقين ) (2) .
في ان الجدال على قسمين :
322 ـ وقال الصادق (عليه السلام) ـ وقد ذكرنا عنده الجدال في الدين ، وأن رسول الله والائمة (عليهم السلام) قد نهوا عنه ـ فقال الصادق (عليه السلام) : لم ينه عنه مطلقا ، ولكنه نهى عن الجدال بغير التي هي أحسن أما تسمعون الله عزوجل يقول : ( ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن (3) ) وقوله تعالى : ( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن) (4) .
فالجدال بالتي هي أحسن قد قرنه (5) العلماء بالدين ، والجدال بغير التي هي أحسن محرم حرمه الله تعالى على شيعتنا ، وكيف يحرم الله الجدال جملة وهو يقول :( وقالوا لن يدخل الجنة الا من كان هودا او نصارى ) وقال الله تعالى :( تلك امانيهم قل هاتوا برهانكم ان كنتم صادقين ) ؟ فجعل علم الصدق والايمان بالبرهان ، وهل يؤتى بالبرهان إلا في الجدال بالتي هي أحسن ؟
--------------------
> الموجودات من الطبائع المتعاقبة لا إلى نهاية ، اذا تقرر هذا فاعلم أن الظاهر أن المطلوب أولا اثبات الحدوث الزمانى ، فان الظاهر من ( البدء ) البدء الزمانى ، ويؤيده قوله ـ كما سيأتى ـ ( وهى دائمة لم تزل ولا تزال ) ، ذكره المجلسى ـ رحمه الله .
(1) لزيادة الاطلاع ، راجع الملل والنحل : 1/ 244 ، وج 2/ 235 .
(2) عنه البحار : 9/ 255 صدر ح 1 ، والبرهان : 1/ 143 صدر ح 1 .
(3) العنكبوت : 46 .
(4) النحل : 125 .
(5) ( ذكره ) ص . (*)
تفسير الإمام العسكري (عليه السلام)
_ 528 _
فقيل : يابن رسول الله فما الجدال بالتي هي أحسن ، والتي ليست بأحسن ؟ قال : أما الجدال بغير التي هي أحسن ، فان تجادل مبطلا ، فيورد عليك باطلا فلا ترده بحجة قد نصبها الله، ولكن تجحد قوله أو تجحد حقا يريد ذلك المبطل أن يعين به باطله ، فتجحد ذلك الحق مخافة أن يكون له عليك فيه حجة ، لانك لا تدري كيف التخلص منه ، فذلك حرام على شيعتنا أن يصيروا فتنة على ضعفاء إخوانهم وعلى المبطلين .
أما المبطلون فيجعلون ضعف الضعيف منكم إذا تعاطى مجادلته وضعف ما في يده حجة له على باطله (1) .
وأما الضعفاء فتغم (2) قلوبهم لما يرون من ضعف المحق في يد المبطل .
وأما الجدال بالتي هي أحسن فهو ما أمر الله تعالى به نبيه أن يجادل به من جحد البعث بعد الموت وإحياءه له ، فقال الله تعالى حاكيا عنه : (وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم) .
فقال الله في الرد عليه : (قل ـ يا محمد ـ يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم الذي جعل لكم من الشجر الاخضر نارا فاذا أنتم منه توقدون) (3) .
فأراد الله من نبيه أن يجادل المبطل الذي قال : كيف يجوز أن يبعث هذه العظام وهي رميم ؟ قال الله تعالى : (قل يحييها الذي أنشأها أول مرة) أفيعجز من ابتدأ به لا من شئ أن يعيده بعد أن يبلى ؟ بل ابتداؤه أصعب عندكم من أعادته .
ثم قال : (الذي جعل لكم من الشجر الاخضر نارا) أي إذا كان قد كمن (4)
--------------------
(1) ( لهم على باطلهم ) أ ، ط .
(2) ( فتعمى ) البحار : 9 .
(3) زاد في الاصل والاحتجاج ( إلى آخر السورة ) ، والايات : 78 ـ 80 من سورة يس .
(4) كمن الشئ : خفى ، ضد برز . (*)
تفسير الإمام العسكري (عليه السلام)
_ 529 _
النار الحارة في الشجر الاخضر الرطب يستخرجها ، فعرفكم أنه على إعادة ما بلى أقدر (1) .
ثم قال : (أو ليس الذي خلق السموات والارض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم) (2) أي إذا كان خلق السماوات والارض أعظم (3) وأبعد في أوهامكم وقدركم (4) أن تقدروا عليه من إعادة البالي (5) فكيف جوزتم من الله خلق هذا الاعجب عندكم والاصعب لديكم ولم تجوزوا ماهو أسهل عندكم من إعادة البالي ؟ فقال الصادق (عليه السلام) : فهذا الجدال بالتي هي أحسن ، لان فيها قطع عذر (6) الكافرين وإزالة شبههم .
وأما الجدال بغير التي هي أحسن فأن تجحد حقا لا يمكنك أن تفرق بينه وبين باطل من تجادله ، وإنما تدفعه عن باطله بأن تجحد الحق ، فهذا هو المحرم لانك مثله ، جحد هو حقا ، وجحدت أنت حقا آخر .
قال ـ أبومحمد الحسن العسكرى (عليه السلام) ـ : فقام إليه رجل وقال : يابن رسول الله أفجادل رسول الله (صلى الله عليه وآله) ؟ فقال الصادق (عليه السلام) : مهما ظننت برسول الله من شئ فلا تظن به مخالفة الله، أو ليس الله تعالى قد قال :
(وجادلهم بالتي هي أحسن) ؟ وقال : (قل يحييها الذي أنشأها أول مرة) .
--------------------
(1) قال الطبرسى ـ رحمه الله ـ بصدر الاية : أى جعل لكم من الشجر الرطب المطفئ للنار نارا محرقة يعنى بذلك ( المرخ والعفار ) وهما شجران تتخذ الاعراب زنودها منها فبين سبحانه أن من قدر على أن يجعل في الشجر الاخضر الذى هو في غاية الرطوبة نارا حامية مع مضادة النار للرطوبة حتى اذا احتاج الانسان حك بعضه ببعض فخرج منه النار ، وينقدح ، قدر على الاعادة ، وتقول العرب : في كل شجر نار ، واستمجد المرخ والعفار ، قال الكلبى : كل شجر تنقدح منه النار الا العناب ، (مجمع البيان : 8/ 435) .
(2) يس : 81 .
(3) ( أعظم درجة ) ب ، ط .
(4) ـ محركة ـ أى طاقتكم ، أو بسكون الدال أى : قوتكم .
(5) ( الثانى ) أ ، وكذا التى بعدها .
(6) ( عرى ) أ ، ب ، ق ، د ) دعوى ص. (*)
تفسير الإمام العسكري (عليه السلام)
_530 _
لمن ضرب الله مثلا ، أفتظن أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) خالف ما أمره الله، فلم يجادل بما أمره الله به ، ولم يخبر عن الله بما أمره أن يخبر به ؟
احتجاج الرسول (صلى الله عليه وآله) وجداله ومناظرته :
323 ـ ولقد حدثني أبي الباقر (عليه السلام) ، عن جدي علي بن الحسين زين العابدين عن أبيه الحسين بن علي سيد الشهداء ، عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليهم أجمعين أنه اجتمع يوما عند رسول الله (صلى الله عليه وآله) أهل خمسة أديان : اليهود والنصارى ، والدهرية ، والثنوية ومشركوا العرب .
فقالت اليهود : نحن نقول : عزير ابن الله، وقد جئناك يا محمد لننظر ما تقول فان تبعتنا فنحن أسبق إلى الصواب منك وأفضل ، وإن خالفتنا خصمناك .
وقالت النصارى : نحن نقول ، إن المسيح ابن الله اتحد به ، وقد جئناك لننظر ما تقول ، فان تبعتنا فنحن أسبق إلى الصواب منك وأفضل ، وإن خالفتنا خصمناك .
وقالت الدهرية : نحن نقول : الاشياء لابدء لها وهي دائمة ، وقد جئناك لتنظر ما تقول ، فان تبعتنا فنحن أسبق إلى الصواب منك وأفضل ، وإن خالفتنا خصمناك .
وقالت الثنوية : نحن نقول : إن النور والظلمة هما المدبران ، وقد جئناك للنظر ماتقول ، فان تبعتنا فنحن أسبق إلى الصواب منك وأفضل ، وإن خالفتنا خصمناك .
وقال مشركو العرب : نحن نقول إن أوثاننا آلهة (1) وقد جئناك للنظر ما تقول فان تبعتنا فنحن أسبق إلى الصواب منك وأفضل ، وإن خالفتنا خصمناك .
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : آمنت بالله وحده لا شريك له ، وكفرت بكل (2) معبود سواه .
ثم قال لهم : إن الله تعالى بعثني كافة للناس (3) بشيرا ونذيرا ، حجة على العالمين
--------------------
(1) ( الهتنا ) ب ، ط .
(2) ( بالجبت ـ والطاغوت ـ وبكل ) ط ، والاحتجاج .
(3) ( قد بعثنى إلى الخلق كافة ) أ . (*)
تفسير الإمام العسكري (عليه السلام)
_ 531_
وسيرد الله كيد من يكيد دينه في نحره .
ثم قال لليهود : أجئتموني لاقبل قولكم بغير حجة ؟ قالوا : لا .
قال : فما الذي دعاكم إلى القول بأن عزيرا ابن الله ؟ قالوا : لانه أحيا لبني إسرائيل التوراة بعد ما ذهبت ، ولم يفعل به هذا إلا لانه ابنه .
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : فكيف صار عزير ابن الله دون موسى وهو الذي جاءهم بالتوراة ورئي منه من المعجزات ما قد علمتم ؟ ولئن كان عزير ابن الله لما ظهر من إكرامه باحياء التوراة ، فلقد كان موسى بالبنوة أحق وأولى، ولئن كان هذا المقدار من إكرامه لعزير يوجب أنه ابنه ، فأضعاف هذه الكرامة لموسى توجب له منزلة أجل من البنوة ، لانكم إن كنتم إنما تريدون بالبنوة الولادة (1) على سبيل ما تشاهدونه في دنياكم هذه من ولادة الامهات الاولاد بوطئ آبائهم لهن ، فقد كفرتم بالله وشبهتموه بخلقه ، وأوجبتم فيه صفات المحدثين ، ووجب عندكم أن يكون محدثا مخلوقا ، وأن له خالقا صنعه وابتدعه .
قالوا : لسنا نعني هذا ، فان هذا كفر كما ذكرت ، ولكنا نعني أنه ابنه على معنى (2) الكرامة ، وإن لم يكن هناك ولادة، كما قد يقول بعض علمائنا لمن يريد إكرامه وإبانته بالمنزلة من غيره : يا بني ، وإنه ابني .
لا على إثبات ولادته منه ، لانه قد يقول ذلك لمن هو أجنبي لا نسب بينه وبينه وكذلك لما فعل بعزير ما فعل ، كان قد اتخذه ابنا على الكرامة لا على الولادة .
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : فهذا ما قلته لكم : إنه إن وجب على هذا الوجه أن يكون عزير ابنه فان هذه المنزلة لموسى أولى، وإن الله تعالى يفضح كل مبطل باقراره ويقلب عليه حجته .
إن ما احتججتم به يؤديكم إلى ما هو أكبر مما ذكرته لكم ، لانكم قلتم (3) :
إن عظيما من عظمائكم قد يقول لاجنبي لانسب بينه وبينه : يا بني ، وهذا ابني لا على طريق الولادة ، فقد تجدون أيضا هذا العظيم يقول لاجنبي آخر : هذا أخي ولآخر : هذا شيخي ، وأبي ، ولآخر : هذا سيدي ، على سبيل الاكرام ، وإن من زاده في الكرامة زاده في مثل هذا القول ، فاذا يجوز عندكم أن يكون موسى أخا لله أو شيخا له أو أبا أو سيدا لانه قد زاده في الكرامة على ما لعزيز ، كما أن من زاد رجلا في الاكرام فقال له : يا سيدي ويا شيخي وياعمي ويا رئيسي ويا أميري على طريق الاكرام ، وإن من زاده في الكرامة زاده في مثل هذا القول ، أفيجوز عندكم أن يكون موسى أخا لله ، أو شيخا ، أو عما أو رئيسا ، أو سيدا أو أميرا ؟ لانه قد زاده في الاكرام على من قال له : يا شيخي أو يا سيدي أو يا عمي ، أو يا رئيسي ، أو يا أميري .
قال : فبهت القوم وتحيروا وقالوا : يا محمد أجلنا نتفكر فيما قلته لنا .
فقال : انظروا فيه بقلوب معتقدة للانصاف ، يهدكم الله.
ثم أقبل (صلى الله عليه وآله) على النصارى فقال لهم : وأنتم قلتم : إن القديم عزوجل اتحد بالمسيح ابنه (1) ما الذي أردتموه بهذا القول ؟ أردتم أن القديم صار محدثا لوجود هذا المحدث الذي هو عيسى ؟ أو المحدث الذي هو عيسى صار قديما لوجود القديم الذي هو الله ؟ أو معنى (2) قولكم : ( إنه اتحدبه ) أنه اختصه بكرامة لم يكرم بها أحدا سواه ؟ فان أردتم أن القديم تعالى صار محدثا فقد أبطلتم ، لآن القديم محال أن ينقلب فيصير محدثا ، وإن أردتم أن المحدث صار قديما فقد أحلتم (3) لان المحدث أيضا محال أن يصير قديما ، وإن أردتم أنه اتحد به بأن اختصه واصطفاه
--------------------
(1) ( اتخذ المسيح (ابنه) ابنا ) أ ، ص ، والبرهان .
(2) ( معناكم في ) الاصل ، وما في المتن كما في الاحتجاج والبحار .
(3) ( أبطلتم ) أ ، والبرهان ، أحال الرجل : أتى بالمحال وتكلم به . (*)
تفسير الإمام العسكري (عليه السلام)
_ 533 _
على سائر عباده ، فقد أقررتم بحدوث عيسى ، وبحدوث المعنى الذي اتحد به من أجله ، لانه إذا كان عيسى محدثا وكان الله اتحد به بأن أحدث به معنى صار به أكرم الخلق عنده ، فقد صار عيسى وذلك المعنى محدثين ، وهذا خلاف مابدأتم تقولونه .
قال : فقالت النصارى : يا محمد إن الله تعالى لما أظهر على يد عيسى من الاشياء العجيبة ما أظهر ، فقد اتخذه ولد ا على جهة الكرامة .
فقال لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) : فقد سمعتم ما قلته لليهود في هذا المعنى الذي ذكرتموه .
ثم أعاد (صلى الله عليه وآله) ذلك كله ، فسكتوا إلا رجلا واحد منهم ، فقال له : يا محمد أو لستم تقولون : إن إبراهيم خليل الله ؟ ـ قال : قد قلنا ذلك .
فقال : ـ فاذا قلتم ذلك فلم منعتمونا من أن نقول : إن عيسى ابن الله ؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : إنهما لم يشتبها ، لان قولنا : إن إبراهيم خليل الله، فانما هو مشتق من الخلة والخلة (1) : فأما الخلة فانما معناها الفقر والفاقة ، فقد كان خليلا إلى ربه فقيرا ، وإليه منقطعا ، وعن غيره متعففا معرضا مستغنيا ، وذلك لما أريد قذفه في النار ، فرمي به في المنجنيق فبعث الله تعالى جبرئيل (عليه السلام) وقال له : أدرك عبدي .
فجاءه فلقيه في الهواء ، فقال : كلفني ما بدا لك فقد بعثني الله لنصرتك .
فقال : بل حسبي الله ونعم الوكيل ، إني لا أسأل غيره ولا حاجة لي إلا إليه .
فسماه خليله أي ، فقيره ومحتاجه ، والمنقطع إليه عمن سواه .
وإذا جعل معنى ذلك من الخلة وهو أنه قد تخلل ـ به ـ معانيه ، ووقف على أسرار لم (2) يقف عليها غيره كان معناه العالم به وباموره ، ولا يوجب ذلك تشبيه الله
--------------------
(1) قال المجلسى ـ رحمه الله ـ : ( الخلة والخلة ) الاولى ـ بالفتح ـ وهى بمعنى الفقر والحاجة والثانية ـ بالضم ـ وهى بمعنى غاية الصداقة والمحبة ، اشتق من الخلال لان المحبة تخللت قلبه فصارت خلاله ، أى في باطنه ، وقد ذكر اللغويون أنه يحتمل كون الخليل مشتقا من الخلة ـ بالفتح والضم ـ .
(2) ( أسراره ولم) أ ، س ، ص ، والبرهان . (*)
تفسير الإمام العسكري (عليه السلام)
_ 534 _
بخلقه ، ألا ترون أنه إذا لم ينقطع إليه لم يكن خليله ؟ وإذا لم يعلم بأسراره لم يكن خليله ؟ وأن من يلده الرجل ، وإن أهانه وأقصاه ، لم يخرج عن أن يكون ولده ؟ لان معنى الولادة قائم .
ثم إن وجب ـ لانه قال الله: ابراهيم خليلي ـ أن تقيسوا أنتم فتقولوا : إن عيسى ابنه ، وجب أيضا كذلك أن تقولوا لموسى : إنه ابنه ، فان الذي معه من المعجزات لم يكن بدون ما كان مع عيسى ، فقولوا إن موسى أيضا ابنه ، وإنه يجوز أن تقولوا على هذا المعنى : شيخه وسيده وعمه ورئيسه وأميره كما قد ذكرته لليهود .
فقال بعضهم : وفي الكتب المنزلة أن عيسى قال : أذهب إلى أبي .
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : فان كنتم بذلك الكتاب تعملون ، فان فيه : ( أذهب إلى أبي وأبيكم ) فقولوا : إن جميع الذين خاطبهم كانوا أبناء الله، كما كان عيسى ابنه من الوجه الذي كان عيسى ابنه ، ثم إن ما في هذا الكتاب يبطل عليكم هذا ـ المعنى ـ الذي زعمتم أن عيسى من جهة الاختصاص كان ابنا له ، لانكم قلتم : إنما قلنا : إنه ابنه لانه تعالى اختصه بما لم يختص به غيره ، وأنتم تعلمون أن الذي خص به عيسى لم يخص به هؤلاء القوم الذين قال لهم عيسى : ( أذهب إلى أبي وأبيكم ) فبطل أن يكون الاختصاص (1) لعيسى ، لانه قد ثبت عندكم بقول عيسى لمن لم يكن له مثل اختصاص عيسى ، وأنتم إنما حكيتم لفظة عيسى وتأولتموها على غير وجهها لانه إذا قال : ( أبي وأبيكم ) فقد أراد غير ما ذهبتم إليه ونحلتموه ، وما يدريكم لعله عنى : أذهب إلى آدم وإلى نوح إن الله يرفعني إليهم ويجمعني معهم ، وآدم أبي وأبوكم وكذلك نوح ، بل ما أراد غير هذا قال : فسكتت النصارى ، وقالوا : ما رأينا كاليوم مجادلا ولا مخاصما وسننظر في أمورنا .
ثم اقبل رسول الله (صلى الله عليه وآله) على الدهرية فقال : وأنتم فما الذي دعاكم إلى القول
بأن الاشياء لابدء لها وهي دائمة لم تزل ، ولا تزال ؟ فقالوا : لانا لا نحكم إلا بما نشاهد ، ولم نجد للاشياء حدثا فحكمنا بأنها لم تزل ولم نجد لها انقضاء ولا فناء فحكمنا بأنها لا تزال .
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : أفوجدتم لها قدما ، أم وجدتم لها بقاء أبد الآباد ؟ فان قلتم : إنكم قد وجدتم ذلك أثبتم (1) لانفسكم أنكم لم تزالوا على هيئتكم وعقولكم بلا نهاية ، ولا تزالون كذلك ولئن قلتم هذا دفعتم العيان وكذبكم (2) العالمون الذين يشاهدونكم .
قالوا : بل لم نشاهد لها قدما ولا بقاء أبد الاباد .
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : فلم صرتم بأن تحكموا بالقدم والبقاء دائما ؟ لانكم لم تشاهدوا حدوثها ، وانقضاءها أولى من تارك التميز لها مثلكم ، يحكم لها بالحدوث والانقضاء والانقطاع لانه لم يشاهد لها قدما ولا بقاء أبد الآباد (3) .
أو لستم تشاهدون الليل والنهار وأحدهما بعد الآخر ؟ فقالوا : نعم .
فقال : أترونهما لم يزالا ولا يزالان ؟ فقالوا : نعم .
قال : أفيجوز عندكم اجتماع الليل والنهار ؟ فقالوا : لا .
فقال (صلى الله عليه وآله) : فاذا ينقطع أحدهما عن الآخر فيسبق أحدهما ، ويكون الثاني جاريا (4) بعده .
قالوا : كذلك هو .
فقال : قد حكمتم بحدوث ما تقدم من ليل ونهار (5) .
لم تشاهدوهما ، فلا تنكروا
--------------------
(1) ( اتهمتم ) أ ، ( أنهضتم ) الاحتجاج ، ( أفهمتم ) البرهان .
(2) ( وكذبتم ) أ ، ب ، ص .
(3) ( منقطع ) أ ، ص .
(4) ( حادثا ) أ ، ب ، ط .
(5) قال العلامة المجلسى ـ رحمه الله ـ تدرج (صلى الله عليه وآله) في الاحتجاج فنزلهم أولا عن مرتبة الانكار إلى مدرجة الشك بهذا الكلام ، وحاصله : أنكم كثيرا ما تحكمون بأشياء لم تروها كحكمكم هذا بعدم اجتماع الليل والنهار فيما سبق من الازمان ، فليس لكم أن تجعلوا عدم مشاهدتكم لشئ حجة للجزم بانكاره . (*)
تفسير الإمام العسكري (عليه السلام)
_ 536 _
لله قدرة (1) ثم قال (صلى الله عليه وآله) : أتقولون ما قبلكم (2) من الليل والنهار متناه أم غير متناه ؟ فان قلتم : غير متناه فكيف (3) وصل إليكم آخر بلا نهاية لاوله ؟ وإن قلتم : إنه متناه أم غير فقد كان ولا (4) شئ منهما بقديم .
قالوا : نعم .
--------------------
(1) قال المجلسى ـ رحمه الله ـ أى فلا تنكروا أن الاشياء مقدورة لله تعالى ، وأن الله خالقها أولا تنكروا قدرة الله على احداثها من كتم العدم ومن غير مادة ، ثم أخذ (صلى الله عليه وآله) في اقامة البرهان على حدوثها وهو يحتمل وجهين : الاول: أن يكون إلى آخر الكلام برهانا واحدا ، حاصله أنه لا يخلو من أن يكون الليل والنهار أى الزمان غير متناه من طرف الازل منتهيا الينا ، أو متناهيا من طرف الازل أيضا ، فعلى الثانى فالاشياء لحدوثها لابد لها من صانع يتقدمها ضرورة فهذا معنى قوله ـ وسيأتى تباعا ـ : ( فقد كان ولا شئ منهما ) أى كان الصانع قبل وجود شئ منهما ، ثم أخذ (صلى الله عليه وآله) في ابطال الشق الاول بأنكم انما حكمتم بقدمها لئلا تحتاج إلى صانع ، والعقل السليم يحكم بأن القديم الذى لا يحتاج إلى صانع لابد أن يكون مباينا في الصفات والحالات للحادث الذى يحتاج إلى الصانع ، والعقل السليم يحكم بأن القديم الذى لايحتاج إلى صانع لابد أن يكون مباينا في الصفات والحالات للحادث الذى يحتاج إلى الصانع ، مع أن ما حكمتم بقدمه لم يتميز عن الحادث في شئ من التغيرات والصفات والحالات ، أو المعنى أن ما يوجب الحكم في الحادث بكونه محتاجا إلى الصانع من التركب واعتوار الصفات المتضادة عليه وكونها في معرض الانحلال والزوال كلها موجودة فيما حكمتم بقدمه وعدم احتياجه إلى الصانع : فيجب أن يكون هذا أيضا حادثا مصنوعا ، الثانى : أن يكون قوله : (أتقولون) إلى قوله : (قال لهم أقلتم) برهانا واحدا بأن يكون قوله : (فقد وصل اليكم آخر بلا نهاية لاوله) ابطالا للشق الاول بالاحالة على الدلائل التى اقيمت على ابطال الامور الغير المتناهية المترتبة ، بناء على عدم اشتراط وجودها معا في اجرائها كما زعمه أكثر المتكلمين ، ويكون بعد ذلك دليلا واحدا كما مر سياقه ويمكن أن يقرر ما قبله أيضا برهانا ثالثا على اثبات الصانع بأن يكون المراد بقوله (صلى الله عليه وآله) : (حكمتم بحدوث ماتقدم من ليل ونهار) لبيان أن حكمهم بحدوث كل ليل ونهار يكفى لاحتياجها إلى الصانع ولا ينفعكم قدم طبيعة الزمان ، فان كل ليل وكل نهار لحدوثه بشخصه يكفى لاثبات ذلك .
(2) ( تقدم ) أ ، ص ، والبرهان .
(3) ( فقد ) الاحتجاج
(4) ( حادثا فلا ) أ . (*)
تفسير الإمام العسكري (عليه السلام)
_ 537_
قال لهم : أقلتم أن العالم قديم ليس بمحدث وأنتم عارفون بمعنى ما أقررتم به ، وبمعنى ما جحدتموه ؟ قالوا : نعم .
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : فهذا الذي نشاهده من الاشياء بعضها إلى بعض مفتخر ، لانه لا قوام للبعض الا بما يتصل به ، ألا ترى أن البناء محتاجا بعض أجزائه إلى بعض والا لم يتسق ، ولم يستحكم ، وكذلك سائر ما ترون .
وقال (صلى الله عليه وآله) : فاذا كان هذا المحتاج ـ بعضه إلى بعض لقوته (1) وتمامه ـ هو القديم ، فأخبروني أن لو كان محدثا كيف كان يكون ؟ وماذا كانت تكون صفته ؟ قال : فبهتوا ـ وتحيروا ـ وعلموا أنهم لا يجدون للمحدث صفة يصفونه بها الا وهي موجودة في هذا الذي زعموا أنه قديم ، فوجموا (2) وقالوا : سننظر في أمرنا .
ثم أقبل رسول الله (صلى الله عليه وآله) على الثنوية ـ الذين قالوا : النور والظلمة هما المدبران ـ فقال : وأنتم فما الذي دعاكم إلى ما قلتموه من هذا ؟ فقالوا : لانا وجدنا العالم صنفين : خيرا وشرا ، ووجدنا الخير ضد الشر ، فأنكرنا أن يكون فاعل ـ واحد ـ يفعل الشئ وضده ، بل لكل واحد منهما فاعل ، ألا ترى أن الثلج محال أن يسخن كما أن النار محال أن تبرد ، فأثبتنا لذلك صانعين قديمين : ظلمة ونورا .
فقال لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) : أفلستم قد وجدتم سوادا وبياضا ، وحمرة وصفرة ، وخضرة وزرقة ؟ وكل واحدة ضد لسائرها لاستحالة اجتماع اثنين منهما في محل واحد ، كما كان الحر والبرد ضدين لاستحالة اجتماعهما في محل واحد ؟ قالوا : نعم .
قال : فهلا أثبتم بعدد كل لون صانعا قديما ليكون فاعل كل ضد من هذه الالوان غير فاعل الضد الاخر ؟! قال : فسكتوا .
ثم قال : وكيف اختلط النور والظلمة (1) ، وهذا من طبعه الصعود ، وهذه من طبعها النزول ؟ أرأيتم لو أن رجلا أخذ شرفا يمشي اليه والاخر غربا أكان يجوز ـ عندكم ـ (2) أن يلتقيا ماداما سائرين على وجوههما ؟ قالوا : لا .
قال : فوجب أن لا يختلط النور والظلمة ، لذهاب كل واحد منهما في غير جهة الاخر ، فكيف حدث هذا العالم من امتزاج ماهو محال أن يمتزج ؟ بل هما مدبران جميعا مخلوقان ، فقالوا : سننظر في امورنا .
ثم أقبل على مشركي العرب فقال : وأنتم فلم عبدتم الاصنام من دون الله ؟ فقالوا : نتقرب بذلك إلى الله تعالى .
فقال : أو هي سامعة مطيعة لربها ، عابدة له ، حتى تتقربوا بتعظيمها إلى الله ؟ قالوا : لا .
--------------------
(1) قال العلامة المجلسى ره : قوله (صلى الله عليه وآله) : (وكيف اختلط هذا النور والظلمة) اشارة إلى ماذكره المانوية من الثنوية وهو أن العالم مصنوع مركب من أصلين قديمين ، أحدهما نور ، والاخر ظلمة ، وانهما أبديان لم يزالا ولا يزالان ، ثم اختلفوا في المزاج وسببه فقال بعضهم : كان ذلك بالخبط والاتفاق ، وقال بعضهم وجوها ركيكة اخرى ، وقالوا : جميع أجزاء النور أبدا في الصعود والارتفاع ، وأجزاء الظلمة أبدا في النزول والتسفل ، فرد النبى (صلى الله عليه وآله) عليهم بأنكم اذا اعترفتم بأن النور يقتضى بطبعه الصعود والظلمة تقتضى بطبعها النزول ولا تعترفون بصانع يقسرهما على الاجتماع والامتزاج فمن أين جاء امتزاجهما واختلاطهما ليحصل هذا العالم ؟ وكيف يتأتى الخبط والاتفاق مع كون الطبيعتين قاسرتين لهما على الافتراق ؟ وتفصيل القول وبسط الكلام في أمثال ذلك يوجب الخروج عن موضوع الكتاب ، وانما نكتفى باشارات مقنعة لاولى الالباب .
(2) من الاحتجاج. (*)
تفسير الإمام العسكري (عليه السلام)
_ 539 _
قال : فأنتم الذين تنحتونها بأيديكم ؟ ـ قالوا : نعم .
قال : ـ فلئن تعبدكم هي ـ لو كان يجوز منها العبادة ـ أحرى من أن تعبدوها اذا لم يكن أمركم بتعظيمها من هو العارف بمصالحكم وعواقبكم والحكيم فيما يكلفكم ؟ قال : فلما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) هذا اختلفوا : فقال بعضهم : ان الله قد يحل في هياكل رجال كانوا على هذه الصور التي صورناها ، فصورنا هذه ، نعظمها لتعظيمنا تلك الصور التي حل فيها ربنا .
وقال آخرون منهم : ان هذه صور أقوام سلفوا كانوا مطيعين لله قبلنا ، فمثلنا صورهم وعبدناها تعظيما لله .
وقال آخرون ـ منهم ـ : ان الله لما خلق آدم ، وأمر الملائكة بالسجود له (1) ، كنا نحن أحق بالسجود لادم من الملائكة ، ففاتنا ذلك ، فصورنا صورته فسجدنا لها تقربا إلى الله كما تقربت الملائكة بالسجود لادم إلى الله تعالى ، وكما أمرتم بالسجود ـ بزعمكم ـ إلى جهة مكة ففعلتم ، ثم نصبتم في غير ذلك البلد ـ بأيديكم ـ محاريب سجدتم اليها، وقصدتم الكعبة لا محاريبكم ، وقصدكم في الكعبة إلى الله تعالى لا اليها .
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : أخطأتم الطريق وضللتم ، أما أنتم ـ وهو (صلى الله عليه وآله) يخاطب الذين قالوا : ان الله يحل في هياكل رجال كانوا على هذه الصور التي صورناها ، فصورنا هذه نعظمها لتعظيمنا لتلك الصور التي حل فيها ربنا ـ فقد وصفتم ربكم بصفة المخلوقات ، أو يحل ربكم في شئ حتى يحيط به ذلك الشئ ؟ فأي فرق بينه اذن وبين سائر مايحل فيه من لونه وطعمه ورائحته ولينه وخشونته وثقله وخفته ؟
--------------------
(1) زاد في ص ، والاحتجاج : فسجدوا تقربا الله. (*)
تفسير الإمام العسكري (عليه السلام)
_540 _
ولم صار (هذا المحلول) (1) فيه محدثا وذلك قديما دون أن يكون ذلك محدثا وهذا قديما وكيف يحتاج إلى المحال من لم يزل قبل المحال وهو عزوجل لا يزال كما لم يزل ؟ فاذا وصفتموه بصفة المحدثات في الحلول فقد لزمكم (2) أن تصفوه بالزوال ـ والحدوث ـ .
وأما ما وصفتموه بالزوال والحدوث فصفوه بالفناء ، فان ذلك أجمع من صفات الحال والمحلول فيه ، وجميع ذلك يغير (3) الذات ، فان (جاز أن يتغير) (4) ذات الباري تعالى بحلوله في شئ جاز أن يتغير (5) بأن يتحرك ويسكن ويسود ويبيض ويحمر ويصفر وتحله الصفات التى تتعاقب على الموصوف بها حتى يكون فيه جميع صفات المحدثين ، ويكون محدثا ـ عن الله تعالى عن ذلك ـ .
ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : فاذا بطل ما ظننتموه من أن الله يحل في شئ فقد فسد ما بنيتم عليه قولكم .
قال : فسكت القوم ، وقالوا : سننظر في أمورنا .
ثم أقبل على الفريق الثاني فقال لهم : أخبرونا عنكم اذا عبدتم صور من كان يعبد الله فسجدتم لها وصليتم ، فوضعتم الوجوه الكريمة على التراب ـ بالسجود لها ـ فما الذي أبقيتم لرب العالمين ؟ أما علمتم أن من حق من يلزم تعظيمه وعبادته أن لايساوى به عبده ؟ أرأيتم ملكا عظيما اذا ساويتموه بعبيده في التعظيم والخشوع والخضوع أيكون في ذلك وضع للكبير كما يكون زيادة في تعظيم الصغير ؟ فقالوا : نعم .
قال : أفلا تعلمون أنكم من حيث تعظمون الله بتعظيم صور عباده المطيعين له
تزرون (1) على رب العالمين ؟ قال : فسكت القوم بعد أن قالوا : سننظر في امورنا .
ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) للفريق الثالث : لقد ضربتم لنا مثلا ، وشبهتمونا بأنفسكم ولا سواء ، وذلك أنا عباد الله مخلوقون مربوبون نأتمر له فيما أمرنا ، وننزجر عما زجرنا ، ونعبده من حيث يريده منا ، فاذا أمرنا بوجه من الوجوه أطعناه ولم نتعد إلى غيره مما لم يأمرنا ولم يأذن لنا ، لانا لا ندري لعله ـ ان ـ أراد منا الاول فهو يكره الثاني ، وقد نهانا أن نتقدم بين يديه ، فلما أمرنا أن نعبده بالتوجه إلى الكعبة أطعنا ، ثم أمرنا بعبادته بالتوجه نحوها في سائر البلدان التي نكون بها فأطعنا ، فلم نخرج في شئ من ذلك من اتباع أمره ، والله عزوجل حيث أمر بالسجود لادم لم يأمر بالسجود لصورته التي هي غيره ، فليس لكم أن تقيسوا ذلك عليه ، لانكم لا تدرون لعله يكره ما تفعلون اذ لم يأمركم به .
وقال لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) أرأيتم لو أذن لكم (2) رجل دخول داره يوما بعينه ألكم أن تدخلوها بعد ذلك بغير أمره ؟ أو لكم أن تدخلوا دارا له اخرى مثلها بغير أمره؟ أو وهب لكم رجل ثوبا من ثيابه ، أو عبدا من عبيده ، أو دابة من دوابه ، ألكم أن تأخذوا ذلك ؟ ـ قالوا : نعم .
قال : ـ (3) فان لم تأخذوه (4) ، أخذتم آخر مثله ؟ قالوا : لا ، لانه لم يأذن لنا في الثاني كما أذن لنا في الاول.
قال (صلى الله عليه وآله) : فأخبروني الله تعالى أولى بأن لا يتقدم على ملكه بغير أمره أو (5) بعض المملوكين ؟ قالوا : بل الله أولى بأن لا يتصرف في ملكه بغير أمره واذنه .
قال : فلم فعلتم ، ومتى (1) أمركم أن تسجدوا لهذه الصور ؟ قال : فقال القوم : سننظر في امورنا ، ثم سكتوا .
وقال الصادق (عليه السلام) : فوالذي بعثه بالحق نبيا ما أتت على جماعتهم ثلاثة أيام حتى أتوا رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأسلموا ، وكانوا خمسة وعشرين رجلا من كل فرقة خمسة وقالوا : ما رأينا مثل حجتك يا محمد ، نشهد أنك رسول الله (2) .
324 ـ وقال الصادق (عليه السلام) : قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : فأنزل الله: (الحمد لله الذي خلق السموات والارض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون) (3) فكان في هذه الاية ردا على ثلاثة أصناف منهم : لما قال : (الحمد لله الذي خلق السموات والارض) .
فكان ردا على الدهرية الذين قالوا : الاشياء لابدء لها وهي دائمة .
ثم قال (وجعل الظلمات والنور) فكان ردا على الثنوية الذين قالوا : ان النور والظلمة هما المدبران .
ثم قال (ثم الذين كفروا بربهم يعدلون) فكان ردا على مشركي العرب الذين قالوا : ان أوثاننا آلهة .
ثم أنزل الله تعالى (قل هو الله أحد) إلى آخرها ، فكان فيها ردا على كل
--------------------
(1)( من ) ص ، والبرهان .
(2) عنه البحار : 2/ 126 ملحق ح 2 قطعة ، وج 73/ 402 قطعة ، والبرهان : 1/ 143 ضمن ح 1 قطعة وج 2/ 116 ضمن ح 1 ، وص 388 ح 2 قطعة ، وج 4/ 13 ح 4 قطعة ، وعوالم العلوم/ العلم : 447 ح 59 ، وعنه البحار : 9/ 255 ـ 267 ضمن ح 1 ، وج 57/ 68 ح 45 قطعة ، وج 84/ 71 ح 30 قطعة ، وعن الاحتجاج : 1/ 14 ـ 24 باسناده عن أبى محمد الحسن العسكرى (عليه السلام) ، وأخرج قطعة منه في الوسائل : 3/ 219 ح 14 ، ج 4/ 984 ح 3 ، والبحار : 2/ 125 ح 2 ، وعوالم العلوم/ العلم : 446 ح 58 عن الاحتجاج .
(3) الانعام : 1 . (*)
تفسير الإمام العسكري (عليه السلام)
_ 543_
من ادعى من دون الله ضدا أو ندا .
قال : فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لاصحابه : قولوا : (اياك نعبد) أي نعبد واحدا لا نقول كما قالت الدهرية : ان الاشياء لابدء لها وهي دائمة ، ولا كما قالت الثنوية الذين قالوا : ان النور والظلمة هما المدبران ، ولا كما قال مشركو العرب : ان أوثاننا آلهة ، فلا نشرك بك شيئا ، ولا ندعو (1) من دونك الها كما يقول هؤلاء الكفار ، ولا نقول كما قالت اليهود والنصارى : ان لك ولدا ، تعاليت عن ذلك ـ علوا كبيرا ـ .
قال : فذلك قوله : (وقالوا لن يدخل الجنة الا من كان هودا أو نصارى) .
وقال غيرهم من هؤلاء الكفار ما قالوا ، قال الله تعالى : يا محمد (تلك أمانيهم) التي يتمنونها بلا حجة (قل هاتوا برهانكم) و (2) حجتكم على دعواكم (ان كنتم صادقين) كما أتى محمد ببراهينه التي سمعتموها .
ثم قال : (بلى من أسلم وجهه لله) يعنى كما فعل هؤلاء الذين آمنوا برسول الله (صلى الله عليه وآله) لما سمعوا براهينه وحججه (وهو محسن) في عمله لله .
(فله أجره ـ ثوابه ـ عند ربه) يوم فصل القضاء (ولا خوف عليهم) حين يخاف الكافرون مما يشاهدونه من العقاب (3) (ولا هم يحزنون) عند الموت لان البشارة بالجنان تأتيهم (4) .
قوله عزوجل : ( وقالت اليهود ليست النصارى على شئ وقالت النصارى ليست اليهود على شئ وهم يتلون الكتاب كذلك قال الذين
لا يعلمون مثل قولهم فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون : ) 113 .
325 ـ قال الامام (عليه السلام) : قال الله تعالى (وقالت اليهود ليست النصارى على شئ) من الدين بل دينهم باطل وكفر ، (وقالت النصارى ليست اليهود على شئ) من الدين بل دينهم باطل وكفر (وهم يتلون ـ اليهود ـ الكتاب) التوراة .
فقال : هؤلاء وهؤلاء مقلدون بلا حجة وهم يتلون الكتاب فلا يتأملونه ليعملوا بما (1) يوجبه فيتخلصوا من الضلالة .
ثم قال (كذلك قال الذين لا يعلمون) الحق ولم ينظروا فيه من حيث أمرهم الله فقال بعضهم لبعض ـ وهم مختلفون ـ كقول اليهود والنصارى بعضهم لبعض ، هؤلاء يكفر هؤلاء ، وهؤلاء يكفر هؤلاء .
ثم قال الله تعالى (فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون) في الدنيا يبين ضلالهم وفسقهم ، ويجازي كل واحد منهم بقدر استحقاقه .
وقال الحسن بن علي بن أبي طالب (عليهما السلام) : انما انزلت الاية لان قوما من اليهود ، وقوما من النصارى جاءوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقالوا : يا محمد اقض بيننا .
فقال (صلى الله عليه وآله) : قصوا علي قصتكم .
فقالت اليهود : نحن المؤمنون بالاله الواحد الحكيم وأوليائه ، وليست النصارى على شئ من الدين والحق .
وقالت النصارى : بل نحن المؤمنون بالاله الواحد الحكيم وأوليائه وليست هؤلاء اليهود على شئ من الحق والدين .
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : كلكم مخطئون مبطلون فاسقون عن دين الله وأمره .
فقالت اليهود : كيف نكون كافرين وفينا كتاب الله التوراة نقرأه ؟ وقالت النصارى : كيف نكون كافرين وفينا كتاب الله الانجيل نقرأه ؟ فقال رسول
--------------------
(1) ( ليعلموا ما ) أ . (*)
تفسير الإمام العسكري (عليه السلام)
_ 545 _
الله (صلى الله عليه وآله) : انكم خالفتم أيها اليهود والنصارى كتاب الله ولم تعملوا به ، فلو كنتم عاملين بالكتابين لما كفر بعضكم بعضا بغير حجة ، لان كتب الله أنزلها شفاء من العمى ، وبيانا من الضلالة ، يهدي العاملين بها إلى صراط مستقيم ، كتاب الله اذا لم تعملوا به كان وبالا عليكم ، وحجة الله اذا لم تنقادوا لها كنتم لله عاصين ولسخطه متعرضين .
ثم أقبل رسول الله (صلى الله عليه وآله) على اليهود فقال : احذروا أن ينالكم بخلاف أمر الله وبخلاف كتابه ماأصاب أوائلكم الذين قال الله تعالى فيهم (فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم) وأمروا بأن يقولوه .
قال الله تعالى (فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء) عذابا من السماء طاعونا نزل بهم ، فمات منهم مائة وعشرون ألفا ، ثم أخذهم بعد قباع (1) فمات منهم مائة وعشرون ألفا أيضا ، وكان خلافهم أنهم لما بلغوا الباب رأوا بابا مرتفعا فقالوا : ما بالنا نحتاج إلى أن نركع عند الدخول هاهنا ، ظننا أنه باب متطامن (2) لابد من الركوع فيه ، وهذا باب مرتفع ، والى متى يسخربنا هؤلاء ؟ ـ يعنون موسى ثم يوشع بن نون ـ ويسجدوننا في الاباطيل ، وجعلوا أستاهم نحو الباب ، وقالوا بدل قولهم حطة الذي أمروا به : هطا سمقانا (3) ، يعنون حنطة حمراء ، فذلك تبديلهم (4) .
--------------------
(1) قال ابن زكريا : قبع : أصل صحيح يدل على شبه أن يختبئ الانسان وغيره ، يقال قبع الخنزير أو غيره اذا أدخل رأسه في عنقه ، وقبع الرجل : أعيا وانبهر ، وسمى قابعا لانه يتقبض عند اعيائه عن الحركة ، (معجم مقاييس اللغة : 51) ، وفى ( ص ) أخذتهم بعد .
(2) أى منخفض .
(3) ( حطا شمقاتا ) بعض النسخ ، وقد تقدم تفصيل القصة ص 250 .
(4) عنه البحار : 9/ 184 ح 14 ، ج 13/ 185 ح 21 (قطعة) ، والبرهان : 1/ 143 صدر ح 1 . (*)
تفسير الإمام العسكري (عليه السلام)
_ 546_
326 ـ وقال أمير المؤمنين (عليه السلام) : فهؤلاء بنو اسرائيل نصب لهم باب حطة وأنتم يا معشر أمة محمد نصب لكم باب حطة أهل بيت محمد (صلى الله عليه وآله) ، وأمرتم باتباع هداهم ولزوم طريقتهم ، ليغفر ـ لكم ـ بذلك خطاياكم وذنوبكم ، وليزداد المحسنون منكم ، وباب حطتكم أفضل من باب حطتهم ، لان ذلك ـ كان ـ باب خشب ، ونحن الناطقون الصادقون المرتضون (1) الهادون الفاضلون ، كما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : ( ان النجوم في السماء أمان من الغرق ، وان أهل بيتي أمان لامتي من الضلالة في أديانهم ، لا يهلكون (فيها مادام فيهم) (2) من يتبعون هديه (3) وسنته ) (4) .
أما أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد قال : ( من أراد أن يحيا حياتي ، وأن يموت مماتي ، أن يسكن الجنة (5) التي وعدني ربي ، وأن يمسك قضيبا غرسه بيده وقال له : كن فكان ، فليتول علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، وليوال وليه ، وليعاد عدوه ، وليتول ذريته الفاضلين المطيعين لله من بعده ، فانهم خلقوا من طينتي ، ورزقوا فهمي وعلمي ، فويل للمكذب (6) بفضلهم من أمتي القاطعين فيهم صلتي (7) ، لا أنالهم الله شفاعتي ) (8) ، (9)
--------------------
(1) ( المؤمنون ) ص ، والبحار .
(2) ( مادام منهم ) البحار .
(3) هدى هديه : أى سار سيرته .
(4) وهذا حديث متواتر مشهور روته الخاصة والعامة بألفاظ مختلفة وأسانيد شتى ، للاطلاع ، انظر احقاق الحق : 9/ 294 ـ 308 ، وج 18/ 324 ـ 330 .
(5) ( جنة عدن ) البحار ، والبرهان .
(6) ( المكذبين ) ص ، والبحار .
(7) ( مسألتى ) أ ، س ، ط ، وزاد في بعض النسخ : ومن عصاهم .
(8) وهذا أيضا حديث متواتر مشهور روته الخاصة والعامة بأسانيد عديدة ، استقصينا بعضها عند تحقيقنا كتاب الامامة والتبصرة : 42 ح 23 وص 45 ح 27 ، وانظر احقاق الحق : 5/ 106 ـ 110 ؟ وج 7/ 269 وج 17/ 245 ـ 248 ، وج 18/ 526 ـ 527 .
(9) عنه البحار : 23/ 122 ح 47 ، والبرهان : 1/ 144 ذ ح 1 . (*)
تفسير الإمام العسكري (عليه السلام)
_ 547_
327 ـ وقال أمير المؤمنين (عليه السلام) : فكما أن بعض بني اسرائيل أطاعوا فأكرموا ، وبعضهم عصوا فعذبوا ، فكذلك تكونون أنتم .
قالوا : فمن العصاة يا أمير المؤمنين ؟ قال (عليه السلام) : الذين أمروا بتعظيمنا أهل البيت ، وتعظيم حقوقنا ، فخالفوا (1) ذلك ، وعصوا وجحدوا حقوقنا واستخفوا بها ، وقتلوا أولاد رسول الله (صلى الله عليه وآله) الذين أمروا بأكرامهم ومحبتهم ، قالوا : يا أمير المؤمنين وان ذلك لكائن ؟ قال (عليه السلام) : بلى خبرا حقا ، وأمرا كائنا ، سيقتلون ولدي هذين الحسن الحسين (عليهما السلام) .
ثم قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : وسيصيب ـ أكثر ـ الذين ظلموا رجزا في الدنيا بسيوف ـ بعض ـ من يسلط الله تعالى عليهم للانتقام بما كانوا يفسقون كما أصاب بني اسرائيل الرجز .
قيل : ومن هو ؟ قال : غلام من ثقيف ، يقال له ( المختار بن أبي عبيد (2) ) .
وقال على بن الحسين (عليهما السلام) : فكان (3) ذلك بعد قوله هذا بزمان (4) .
وان هذا الخبر اتصل بالحجاج بن يوسف عليه لعائن الله من قول علي بن
--------------------
(1) ( فخانوا وخالفوا ) البحار .
(2) ( عبيدة نسخ الاصل ، وهو تصحيف .
(3) أى ولد المختار بعد قول أمير المؤمنين (عليه السلام) هذا بزمان ، قاله المجلسى ره .
(4) الظاهر أن ما بعده من كلام ، إلى قوله : وقال على بن الحسين ، هو ليس من ضمن حديث الامام زين العابدين (عليه السلام) بقرينة عبارة ( من قول على بن الحسين (عليهما السلام) ) كما أنه لم يصرح بأنه من كلام الامام العسكرى (عليه السلام) لخلوه من لفظ ( قال الامام (عليه السلام) ) فهل يحتمل غيره ؟ فتدبر .
زد على ذلك أن الاحداث التاريخية مشوهة ومرتبكة ، فعند التحليل نجد أن التاريخ يشهد بأن ظهور المختار على قتلة الحسين سنة ( 64 ) ، وأن المختار قتل في فتنة ابن الزبير سنة ( 67 ) ، وأن سلطنة عبدالملك بن مروان على العراق كانت بعد قتل ابن الزبير سنة ( 73 ) وأن توليته للحجاج على العراق سنة ( 75 ) (*) .
تفسير الإمام العسكري (عليه السلام)
_548_
الحسين (عليهما السلام) فقال : أما رسول الله فما قال هذا ، وأما علي بن أبي طالب فأنا أشك هل (1) حكاه عن رسول الله، وأما علي بن الحسين فصبي مغرور ، يقول الاباطيل ويغربها متبعوه ، اطلبوا الي المختار .
فطلب ، وأخذ فقال : قدموه إلى النطع واضربوا عنقه فأتي بالنطع فبسط وأنزل (2) عليه المختار ، ثم جعل الغلمان يجيئون ويذهبون لا يأتون بالسيف .
قال الحجاج : مالكم ؟ قالوا : لسنا نجد مفتاح الخزانة ، وقد ضاع منا ، والسيف في الخزانة .
فقال المختار : لن تقتلني ، ولن يكذب رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، ولئن قتلتني ليحييني الله حتى أقتل منكم ثلاثمائة وثلاثة وثمانين ألفا .
--------------------
فلم يكن المختار في حبس الحجاج أيام عبدالملك بن مروان ، وانما حبسه عبيدالله ابن زياد ، ولم يزل في الحبس حتى قتل الحسين (عليه السلام) ، ثم بعث إلى زائدة ابن قدامة ، فسأله أن يسير إلى عبدالله بن عمر بالمدينة فيسأله أن يكتب إلى يزيد ابن معاوية ، فيكتب إلى ابن زياد بتخلية سبيله ، فركب زائدة إلى ابن عمر ، فقدم عليه فبلغه رساله المختار ، وعلمت صفيه اخت المختار بمحبس أخيها ، وهى تحت ابن عمر فبكت وجزعت ، فلما راى ذلك عبدالله بن عمر ، كتب مع زائدة إلى يزيد بن معاوية :( أما بعد فان عبيد الله بن زياد حبس المختار وهو صهرى ، فان رأيت رحمنا الله واياك أن تكتب إلى ابن زياد فتأمره بتخليته فعلت ، والسلام ).
فلما قرأه ضحك ثم قال : يشفع أبو عبدالرحمن وأهل ذلك هو ... فدعا ابن زياد بالمختار فأخرجه ، ثم قال له : قد أجلتك ثلاثا ، فان أدركتك بالكوفة بعدها قد برئت منك الذمه ، راجع تاريخ الطبرى : 4/ 441 ، والكامل لابن الاثير : 4/ 169 ، اقول : فلابد من تحقيق أوسع في هذا الموضوع ، فتدبر وكن على بينة ، وقف عند الشبهة .
(1) ( فيما ) ب ، ط .
(2) ( أبرك ) البحار ، أبركه : أناخه . (*)
تفسير الإمام العسكري (عليه السلام)
_ 549 _
فقال الحجاج لبعض حجابه : أعط السياف سيفك يقتله به .
فأخذ السياف بسيفه فجاء ليقتله به ، والحجاج يحثه ويستعجله ، فبينا هو في تدبيره اذ عثر (1) والسيف في يده ، وأصاب السيف بطنه ، فشقه ومات ، وجاء بسياف آخر ، وأعطاه السيف فلما رفع يده ليضرب عنقه لدغته عقرب وسقط فمات ، فنظروا واذا العقرب ، فقتلوه .
فقال المختار : يا حجاج انك لن تقدر على قتلي ، ويحك يا حجاج أما تذكر ما قال نزار (2) بن معد بن عدنان لسابور (3) ذي الاكتاف حين ـ كان ـ يقتل العرب ، ويصطلمهم فأمر نزار ـ ولده ـ فوضع في زنبيل في طريقه ، فلما رآه قال له : من أنت ؟
--------------------
(1) ( اذا عبر ) أ ، ( اذا تعسر ) ص ، ق ، د ، ( اذ نعس ) ب ، س ، ط .
(2) أنت أيها القارئ ـ الكريم سترى أن سابور أطلق عليه ذلك بقوله ( صدق ، هذا نزار ـ يعنى المهزول ) فهو نزار ، وأنه ابن معد بن عدنان ، هذا وان من واضحات التاريخ أن سابور كان في زمان أولاد اياد بن نزار بن معد بن عدنان لا في عصر نزار بن معد :
قال السويدى في سبائك الذهب في معرفة قبائل العرب ص : 20 ـ بعد أن ذكر عددا من القبائل والبطون (أياد بن نزار بن معد بن عدنان) ـ : ... لى أن تكاثر بنو اسماعيل وانفردت مضر برئاسة الحرم، وخرج بنو اياد إلى العراق ، وكان لهم في الاكاسرة آثار مشهورة إلى أن غلبهم سابور ذو الاكتاف فأبادهم ، وقال : ولم يشتهر أحد من ولده ـ أى اياد ـ بالنسبة اليه ، ولذلك جعلهم أكثر النسابين حشرة في مضر ... وذكر المسعودى في مروج الذهب : ان الذى تكلم مع سابور كان اسمه ( عمرو بن تميم بن مر ) وله يومئذ ثلاثمائة سنة ، وكان يعلق في عمود البيت في قفة قد اتخذت له ... (انظر مروج الذهب : 1/ 181) فكان نزارا أى مهزولا ، فالظاهر أنه لم يصرح بالاسم بل اكتفى باسم الصفة التى أطلقها سابور : ( نزار ) - يعنى مهزول ـ ، فلا قطع بالمناناة ، فتدبر .
(3) ( شابور ) أ ، ص ، ط . (*)
تفسير الإمام العسكري (عليه السلام)
_ 550 _
قال : أنا رجل من العرب ، أريد أن أسألك لم نقتل هؤلاء العرب ولا ذنوب لهم اليك ، وقد قتلت الذين كانوا مذنبين (1) وفي عملك مفسدين ؟ قال : لاني وجدت في الكتب (2) أنه يخرج منهم رجل يقال له ( محمد ) يدعي النبوة ، فيزيل دولة ملوك الاعاجم ويفنيها ، فأما أقتلهم حتى لا يكون منهم ذلك الرجل .
ـ قال : ـ فقال له نزار ، لئن كان من وجدته من كتب الكذابين ، فلما أولاك أن تقتل البراء غير المذنبين ـ بقول الكاذبين ـ! (3) وان كان ذلك من قول الصادقين ، فان الله سبحانه سيحفظ ذلك الاصل الذي يخرج منه هذا الرجل ، ولن تقدر على ابطاله ويجري قضاءه ، وينفذ أمره ، ولو لم يبق من جميع العرب الا واحد .
فقال سابور : صدق (4) ، هذا نزار ـ بالفارسية يعني المهزول ـ ، كفوا عن العرب فكفوا عنهم .
ولكن يا حجاج ان الله قد قضى أن أقتل منكم ثلاثمائة وثلاثة وثمانين ألف رجل ، فان شئت فتعاط قتلي ، وان شئت فلا تتعاط ، فان الله تعالى أما أن يمنعك عني ، واما أن يحييني بعد قتلك ، فان قول رسول الله (صلى الله عليه وآله) حق لامرية فيه .
فقال للسياف : اضرب عنقه .
فقال المختار : ان هذا لن يقدر على ذلك ، وكنت أحب أن تكون أنت المتولي لما تأمره ، فكان يسلط عليك أفعى كما سلط على هذا الاول عقربا .
فلما هم السياف بضرب عنقه اذا برجل من خواص عبدالملك بن مروان قد دخل فصاح: يا سياف كف عنه ويحك ، ومعه كتاب من عبدالملك بن مروان ، فاذا فيه : بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد يا حجاج بن يوسف فانه سقط الينا طائر
--------------------
(1) ( متمردين ) ط .
(2) ( الكتاب ) البحار .
(3) ليس في البحار
(4) ( صدقت ) البحار . (*)