ثم قال : أو لست تعلم أن الله تعالى لم يخل الدنيا قط من نبي أو إمام من البشر ؟ أو ليس الله يقول : (وما أرسلنا من قبلك ـ يعني إلى الخلق ـ إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى) (1) فأخبر الله أنه لم يبعث الملائكة إلى الارض ليكونوا أئمة وحكاما ، وإنما ارسلو إلى أنبياء الله.
  قالا : قلنا له (عليه السلام) : فعلى هذا لم يكن إبليس أيضا ملكا ؟ فقال : لا ، بل كان من الجن ، أما تسمعان أن الله تعالى يقول : (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن) (2) .
  فأخبر أنه كان من الجن ، وهو الذي قال الله تعالى : (والجان خلقناه من قبل من نار السموم) (3) .
  وقال الامام (عليه السلام) : حدثني أبي ، عن جدي ، عن الرضا ، عن آبائه (عليهم السلام) ، عن علي (عليه السلام) ، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن الله اختارنا معاشر آل محمد ، واختار النبيين واختار الملائكة المقربين ، وما اختارهم إلا على علم منه بهم أنهم لا يواقعون ما يخرجون به عن ولايته ، وينقطعون به عن عصمته ، وينضمون (4) به إلى المستحقين لعذابه ونقمته .
  قالا : فقلنا له : فقد روي لنا أن عليا (عليه السلام) لما نص عليه رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالولاية والامامة ، عرض الله في السماوات ولايته على فئام (5) وفئام من الملائكة ، فأبوها فمسخهم الله ضفادع .

--------------------
(1) يوسف : 109 .
(2) الكهف : 50 .
(3) الحجر : 27
(4) ( ينتسبون ) العيون ، والبحار .
(5) ( فئام من الناس ) العيون والبحار ، وذكرها ثلاثا في ق ، د . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام)_ 477 _

  فقال : معاذ الله هؤلاء المكذبون ـ لنا ، المفترون ـ (1) علينا ، الملائكة هم رسل الله فهم كسائر أنبياء الله إلى الخلق ، أفيكون منهم الكفر بالله ؟ قلنا : لا .
  قال : فكذلك الملائكة ، إن شأن الملائكة عظيم ، وإن خطبهم لجليل .
  (2) قوله عزوجل ( يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا وللكافرين عذاب أليم ) : 104 305 ـ قال الامام (عليه السلام) : قال موسى بن جعفر (عليهما السلام) : إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لما قدم المدينة كثر حوله المهاجرون والانصار ، وكثرت عليه المسائل ، وكانوا يخاطبونه بالخطاب الشريف العظيم الذي يليق به (صلى الله عليه وآله) ، وذلك أن الله تعالى كان قال لهم : (يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون) (3) .
  وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) بهم رحيما ، وعليهم عطوفا ، وفي إزالة الآثام عنهم مجتهدا حتى أنه كان ينظر إلى كل من يخاطبه ، فيعمل (4) على أن يكون صوته (صلى الله عليه وآله) مرتفعا على صوته ليزيل عنه ما توعده الله ـ به ـ من إحباط أعماله ، حتى أن رجلا أعرابيا ناداه يوما وهو خلف حائط بصوت له جهوري : يا محمد ، فأجابه بأرفع من صوته ، يريد أن لا يأثم الاعرابي بارتفاع صوته

--------------------
(1) من العيون والبحار .
(2) عنه البحار : 9/ 330 ح 17 قطعة وج 63/ 95 ح 55 وص 212 ح 47 قطعة ، والبرهان : 1/ 135 ح 1 وص 136 ح 1 ، وعنه البحار : 59/ 319 ح 3 وعن عيون أخبار الرضا : 1/ 266 ح 1 باسناده عن المفسر الجرجانى ، عن...، عن الصادق (عليه السلام) وأخرجه في البرهان : 2/ 276 ح 1 (قطعة) عن العيون .
(3) الحجرات : 2 .
(4) ( فيعمد ) ص ، ط . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 478 _
  فقال له الاعرابي : أخبرني عن التوبة إلى متى تقبل ؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : يا أخا العرب إن بابها مفتوح لابن آدم لا يسد حتى تطلع الشمس من مغربها ، وذلك قوله تعالى : (هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك ، يوم يأتي بعض آيات ربك ـ وهو طلوع الشمس من مغربها ـ لا ينفع نفس إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا) (1) .
  وقال موسى بن جعفر (عليهما السلام) : وكانت هذه اللفظة : (راعنا) من ألفاظ المسلمين الذين يخاطبون بها رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقولون : راعنا ، أي إرع أحوالنا ، واسمع منا كما نسمع منك .
  وكان في لغة اليهود معناها : اسمع .
   لا سمعت .
  فلما سمع اليهود ، المسلمين يخاطبون بها رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقولون : راعنا ويخاطبون بها ، قالوا : إنا كنا نشتم محمدا إلى الآن سرا ، فتعالوا الآن نشتمه جهرا .
  وكانوا يخاطبون رسول الله (صلى الله عليه وآله) ويقولون : راعنا ، ويريدون شتمه .
  ففطن (2) لهم سعد بن معاذ الانصاري ، فقال : يا أعداء الله عليكم لعنة الله، أراكم تريدون سب رسول الله (صلى الله عليه وآله) وتوهمونا أنكم تجرون في مخاطبته مجرانا ، والله لاسمعتها من أحد منكم إلا ضربت عنقه ، ولو لا أني أكره أن أقدم عليكم قبل التقدم والاستيذان له ولاخيه ووصيه على بن أبي طالب (عليه السلام) القيم بامور الامة نائبا عنه فيها ، لضربت عنق من قد سمعته منكم يقول هذا .
  فأنزل الله: يا محمد (من الذين هادوا يحرقون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين ـ إلى قوله ـ فلا يؤمنون إلا قليلا) (3) .
  وأنزل (يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا) يعنى فانها لفظة (4) يتوصل بها

--------------------
(1) الانعام : 158 .
(2) فطن للامر وبه واليه : أدركه ، فهمه .
(3) النساء : 46 .
(4) ( بأنها اللفظة التى ) ق . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 479 _
  أعداؤكم من اليهود إلى شتم رسول الله (صلى الله عليه وآله) وشتمكم . وقولوا : (انظرنا) ، أي قولوا بهذه اللفظة ، لا بلفظة راعنا ، فأنه ليس فيها ما في قولكم : راعنا ، ولا يمكنهم أن يتوصلوا بها إلى الشتم كما يمكنهم بقولهم راعنا (واسمعوا) إذا قال لكم رسول الله (صلى الله عليه وآله) قولا وأطيعوا .
  (وللكافرين) يعنى اليهود الشاتمين لرسول الله (صلى الله عليه وآله) (عذاب أليم) وجيع في الدنيا إن عادوا بشتمهم ، وفي الآخرة بالخلود في النار (1) .
  ـ مدح سعد بن معاذ ـ 306 ـ ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : يا عباد الله هذا سعد بن معاذ من خيار عباد الله آثر رضى الله على سخط قراباته وأصهاره من اليهود ، وأمر بالمعروف ، ونهى عن المنكر ، وغضب لمحمد رسول الله، ولعلي ولي الله ووصي رسول الله، أن يخاطبا بما لا يليق بجلالتهما ، فشكر الله له تعصبه (2) لمحمد وعلي ، وبوأه في الجنة منازل كريمة ، وهيأ له فيها خيرات واسعة لا تأتي الالسن على وصفها ، ولا القلوب على توهمها (3) والفكر فيها ، ولسلكة من مناديل موائده (4) في الجنة خير من الدنيا بما فيها من زينتها ولجينها وجواهرها ، وسائر أموالها ونعيمها .
  فمن أراد أن يكون فيها رفيقه وخليطه ، فليتحمل (5) غضب الاصدقاء والقرابات وليؤثر عليهم رضى الله في الغضب لرسول الله ـ محمد ـ .

--------------------
(1) عنه البحار : 6/ 34 ح 46 قطعة ، ج 9/ 331 ح 18 ، والبرهان : 1/ 138 ح 1 ، ومستدرك الوسائل : 1/ 351 ح 4 باب 92 .
(2) ( لغضبه ) ص .
(3) ( توسمها ) خ ل ، توسم الشئ : تفرسه .
(4) ( وموائد نعمتها ) أ ، ب ، ط ، والبرهان .
(5) ( فليحتمل ) س ، ص ، د . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _480 _
  وليغضب إذا رأى الحق متروكا ، ورأى الباطل معمولا به ، وإياكم والتهون (1) فيه مع التمكن القدرة وزوال التقية ، فان الله تعالى لا يقبل لكم عذرا عند ذلك (2).

في ذم ترك الامر بالمعروف :

   307 ـ ولقد أوحى الله فيما مضى قبلكم إلى جبرئيل ، وأمره أن يخسف ببلد يشتمل على الكفار والفجار فقال جبرئيل : يارب أخسف بهم إلا بفلان الزاهد ؟ ليعرف ماذا يأمر الله به .
  فقال الله عزوجل : بل اخسف بفلان قبلهم .
  فسأل ربه ، فقال : يا رب عرفني لم ذلك وهو زاهد عابد ؟ قال : مكنت له وأقدرته ، فهو لا يأمر بالمعروف ، ولا ينهى عن المنكر ، وكان يتوفر على حبهم في غضبي لهم .
  فقالوا : يا رسول الله وكيف بنا ونحن لا نقدر على إنكار ما نشاهده من منكر ؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر ، أو ليعمنكم عقاب الله، ثم قال : من رأى منكم منكرا فلينكره بيده إن استطاع ، فان لم يستطع فبلسانه فان لم يستطع فبقلبه ، فحسبه أن يعلم الله من قلبه إنه لذلك كاره (3) .
  308 ـ فلما مات سعد بن معاذ بعد أن شفى من بني قريظة بأن قتلوا أجمعين ، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : يرحمك الله يا سعد ، فلقد كنت شجا (4) في حلوق الكافرين ، لو بقيت لكففت العجل الذي يراد نصبه في بيضة المسلمين (5) كعجل قوم موسى .

--------------------
(1) ( الهوينا ) ب ، س ، ص ، ق ، والبحار ، هون عليه الامر : سهله وخففه ، والهوينا : التؤدة والرفق .
(2) عنه البحار : 9/ 333 ذ ح 18 ، وج 22/ 114 ضمن ح 85 (قطعة) .
(3) عنه الوسائل : 11/ 406 ح 12 ، والبحار : 100/ 85 ح 57 .
(4) الشجا : ما اعترض في الحلق من عظم ونحوه ، والهم والحزن .
(5) ( الاسلام ) ص ، والبحار ، بيضة القوم : ساحتهم . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 481_
  قالوا : يا رسول الله أو عجل يراد أن يتخذ في مدينتك هذه ! قال : بلى ، والله يراد ، ولو كان سعد فيهم حيا لما استمر تدبيرهم ، ويستمرون ببعض تدبيرهم ، ثم الله تعالى يبطله .
  قالوا : أخبرنا كيف يكون ذلك ؟ قال : دعوا ذلك لما يريد الله أن يدبره (1) .
  309 ـ وقال موسى بن جعفر (عليه السلام) : ولقد اتخذ المنافقون من امة محمد (صلى الله عليه وآله) بعد موت سعد بن معاذ ، وبعد انطلاق محمد (صلى الله عليه وآله) إلى تبوك أبا عامر الراهب (2) ، اتخذوه أميرا ورئيسا ، وبايعوا له ، وتواطأوا على انهاب المدينة ، وسبي ذراري رسول الله وسائر أهله وصحابته ، ودبروا التبييت على محمد (صلى الله عليه وآله) ليقتلوه في طريقه إلى تبوك ، فأحسن الله الدفاع عن محمد (صلى الله عليه وآله) وفضح المنافقين وأخزاهم ، وذلك أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال : ( لتسلكن سبيل من كان قبلكم حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة حتى أن أحدهم لو دخل جحر ضب لدخلتموه ) .
  قالوا : يا بن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وماكان هذا العجل ؟ وماكان هذا التدبير ؟ فقال : اعلموا أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان تأتيه الاخبار عن صاحب دومة الجندل - وكانت تلك النواحي ـ له ـ مملكة عظيمة ممايلي الشام ـ وكان يهدد رسول الله (صلى الله عليه وآله) بأن يقصده ويقتل أصحابه ، ويبيد خضراءهم (3) ، وكان أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) خائفين وجلين من قبله ، حتى كانوا يتناوبون على رسول الله (صلى الله عليه وآله) كل يوم عشرون منهم ، كلما صاح صائح ظنوا أن قد طلع أوائل رجاله وأصحابه ، وأكثر المنافقون

--------------------
(1) عنه البحار : 21/ 257 وج 22/ 114 ضمن ح 85 (قطعة) .
(2) واسمه عبد عمرو بن صيفى بن النعمان ، من بنى عمرو بن عوف ، من الاوس، وهو أبو ( حنظلة ) غسيل الملائكة ، وكان سيدا قد ترهب في الجاهلية ولبس المسوح ، فلما قدم النبى (صلى الله عليه وآله) المدينة كان له معه خطب طويل ، فخرج في خمسين غلاما فمات على النصرانية بالشام ، (مروج الذهب : 1/ 88)
(3) أباد الله خضراءهم ، أى سوادهم ومعظمهم . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _482 _
  الاراجيف والاكاذيب ، وجعلوا يتخللون أصحاب محمد (صلى الله عليه وآله) ، ويقولون : إن ( اكيدر (1) ) قد أعد ـ لكم ـ من الرجال كذا ، ومن الكراع (2) كذا ، ومن المال كذا وقد نادى ـ فيما يليه من ولايته ـ ألا قد أبحتكم النهب والغارة في المدينة .
  ثم يوسوسون إلى ضعفاء المسلمين يقولون لهم : وأين يقع أصحاب محمد من أصحاب اكيدر ؟ يوشك أن يقصد المدينة ، فيقتل رجالها ، ويسبي ذراريها ونساءها .
  حتى آذى ذلك قلوب المؤمنين ، فشكوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) ماهم عليه من الجزع (3) .
  ثم ان المنافقين اتفقوا وبايعوا لابي عامر الراهب الذي سماه رسول الله (صلى الله عليه وآله) ( الفاسق ) ، وجعلوه أميرا عليهم ، وبخعوا (4) له بالطاعة ، فقال لهم : الرأي أن أغيب عن المدينة ، لئلا ااتهم ، إلى أن يتم تدبيركم .
  وكاتبوا اكيدر في دومة الجندل ليقصد المدينة ليكونوا هم عليه ، وهو يقصدهم فيصطلموه .
  فأوحى الله تعالى إلى محمد (صلى الله عليه وآله) وعرفه ما أجمعوا عليه من أمره (5) ، وأمره بالمسير إلى تبوك .
  وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) كلما (6) أراد غزوا ورى بغيره ، إلا غزاة تبوك ، فانه أظهر ماكان يريده ، وأمرهم أن يتزودوا لها ، وهي الغزاة التي افتضح فيها المنافقون ، وذمهم الله في تثبيطهم (7) عنها ، وأظهر رسول الله (صلى الله عليه وآله)

--------------------
(1) هو اكيدر بن عبدالملك صاحب دومة الجندل ، (انظر قصته في دلائل النبوة : 5/ 250 والكامل لابن الاثير : 2/ 281) .
(2) قال ابن الاثير في النهاية : 4/ 165 : وفى حديث ابن مسعود ( كانوا لا يحبسون الا الكراع والسلاح ) الكراع ـ بضم الكاف ـ اسم لجميع الخيل .
(3) جزع منه : لم يصبر عليه ، فأظهر الحزن أو الكدر .
(4) أى أذعنوا وأقروا ، ( خضعوا ) ق .
(5) ( أمرهم ) البحار .
(6) ( اذا ) ص ، والبحار ، والمراد : ستره وكنى عنه وأوهم أنه يريد غيره لئلا ينتهى خبره إلى مقصده فيستعدوا لقتاله . رواه الصدوق باسناده عن الصادق (عليه السلام) في معانى الاخبار ، 386 ضمن ح 20 .
(7) ثبطه عن الامر : عوقه وشغلهم عنه . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 483 _
  ما أوحى الله تعالى إليه أن الله سيظهره (1) باكيدر حتى يأخذه ، ويصالحه على ألف اوقية ذهب في صفر ، وألف اوقيته ذهب في رجب ، ومائتي حلة في رجب ، ومائتي حلة في صفر ، وينصرف سالما إلى ثمانين يوما .
  فقال لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) : إن موسى وعد قومه أربعين ليلة ، وإني أعدكم ثمانين ليلة ، أرجع سالما غانما ظافرا بلا حرب تكون ، ولا أحد يستأسر (2) من المؤمنين .
  فقال المنافقون : لا والله، ولكنها آخر كراته (3) التي لا ينجبر بعدها ، وإن أصحابه ليموت بعضهم في هذا الحر ، ورياح البوادي ، ومياه المواضع المؤذية الفاسدة ومن سلم من ذلك فبين أسير في يد اكيدر ، وقتيل وجريح .
  واستأذنه المنافقون بعلل ذكروها : بعضهم يعتل بالحر ، وبعضهم بمرض جسده (4) وبعضهم بمرض عياله ، فكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يأذن لهم .

بيان بناء مسجد ضرار :

   فلما صح (5) عزم رسول الله (صلى الله عليه وآله) على الرحلة إلى تبوك ، عمد هؤلاء المنافقون فبنوا خارج المدينة مسجدا ، وهو مسجد ضرار ، يريدون الاجتماع فيه ، ويوهمون أنه للصلاة ، وإنما كان ليجتمعوا فيه لعلة الصلاة فيتم تدبيرهم ، ويقع هناك ما يسهل لهم به ما يريدون .
  ثم جاء جماعة منهم إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقالوا : يا رسول الله إن بيوتنا قاصية عن مسجدك، وإنا نكره الصلاة في غير جماعة، ويصعب علينا الحضور ، وقد بنينا مسجدا ، فان رأيت أن تقصده وتصلي فيه لنتيمن (6) ونتبرك بالصلاة في موضع

--------------------
(1) ظهر بفلان وعليه : غلبه .
(2) ( يشتاك ) أ ، ( يشاك ) ب ، س ، ط ، د يقال : لا تشوكك منى شوكة أى لا يلحقك منى أذى .
(3) ( كسراته ) ب ، س ، ق ، د ، والبحار .
(4) ( يجده ) خ ل ، والبحار .
(5) ( أصبح صح ) أ ، س ، ص ، صح : ثبت .
(6) تيمن بكذا : تبرك به . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 484 _
  مصلاك ، فلم يعرفهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) ما عرفه الله تعالى من أمرهم ونفاقهم .
  فقال (صلى الله عليه وآله) : ائتوني بحماري ، فاتي باليعفور فركبه يريد نحو مسجدهم ، فكلما بعثه ـ هو وأصحابه ـ لم ينبعث ولم يمش ، وإذا صرف رأسه عنه إلى غيره سار أحسن سير وأطيبه ، قالوا : لعل هذا الحمار قد رأى في هذا الطريق شيئا كرهه ولذلك لا ينبعث بحوه .
  فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : ائتوني بفرس .
  فاتي بفرس فركبه ، فكلما بعثه نحو مسجدهم لم ينبعث ، وكلما حركوه نحوه لم يتحرك حتى إذا ولوا (1) رأسه إلى غيره سار أحسن سير ، فقالوا : ولعل هذا الفرس قد كره شيئا في هذا الطريق .
  فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : تعالوا نمشي إليه فلما تعاطى هو (صلى الله عليه وآله) ومن معه المشي نحو المسجد جفوا (2) في مواضعهم ولم يقدروا على الحركة ، وإذا هموا بغيره من المواضع خفت حركاتهم وخفت (3) أبدانهم ، ونشطت قلوبهم .
  فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : إن هذا أمر قد كرهه الله، فليس يريده الآن، وأنا على جناح سفر ، فأمهلوا حتى أرجع ـ إن شاء الله ـ ثم أنظر في هذا نظرا يرضاه الله تعالى .
  وجد في العزم على الخروج إلى تبوك ، وعزم المنافقون على اصطلام مخلفيهم إذا خرجوا .

--------------------
(1) ( أقاموا ) ط ، ( زاولوا ) ب ، س ، ولى الشئ وعن الشئ : أعرض وابتعد عنه ، وزاوله : حاوله .
(2) جفا عليه كذا : ثقل ، ( جثوا ) ص .
(3) ( خبث ) س ، ( حنت ) ق ، د ، البحار ، قال المجلسى (ره) : حنت أبدانهم لعله من الحنين بمعنى الشوق ، وفى بعض النسخ بالخاء المعجمه والباء الموحدة ، ولعله من الخبب وهو ضرب من العدو . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 485_
حديث المنزلة :
  فأوحى الله تعالى إليه : يا محمد إن العلي الاعلى يقرأ عليك السلام ويقول : إما أن تخرج أنت ويقيم علي ، وإما أن يخرج علي وتقيم أنت .
  فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : ذاك لعلي ، فقال علي (عليه السلام) : السمع والطاعة لامر الله تعالى وأمر رسوله ، وإن كنت احب ألا أتخلف عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) في حال من الاحوال .
  فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : ( أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لانبي بعدي ) ؟ (1) قال (عليه السلام) : رضيت يا رسول الله.
  فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله) : يا أبا الحسن إن لك أجر خروجك معي في مقامك بالمدينة وإن الله قد جعلك امة وحدك كما جعل إبراهيم (عليه السلام) امة ، تمنع جماعة المنافقين والكفار هيبتك عن الحركة على المسلمين .
  فلما خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله) وشيعه علي (عليه السلام) خاض المنافقون فقالوا : إنما خلفه محمد بالمدينة لبغضه له ، ولملالته منه ، وما أراد بذلك إلا أن يلقيه (2) المنافقون فيقتلوه ويحاربوه فيهلكوه .
  فاتصل ذلك برسول الله (صلى الله عليه وآله) .
  فقال علي (عليه السلام) : تسمع ما يقولون يا رسول الله ؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : أما يكفيك أنك جلدة ما بين عيني ونور بصري ، وكالروح في بدني .
  ثم سار رسول الله (صلى الله عليه وآله) بأصحابه ، وأقام علي (عليه السلام) بالمدينة ، فكان كلما دبر المنافقون أن يوقعوا بالمسلمين ، فزعوا من علي وخافوا أن يقوم معه عليهم من يدفعهم عن ذلك ، وجعلوا يقولون فيما بينهم : هي كرة محمد التي لا يؤوب (3) منها .

--------------------
(1) تقدم في ص 380 مع بيان ، فراجع .
(2) ( ببيته ) ص ، ق ، والبحار ، بيت ـ بالياء المشددة ـ العدو : هجم ليلا .
(3) أى يرجع . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 486 _
  فلما صار بين رسول الله (صلى الله عليه وآله) وبين ( اكيدر ) مرحلة قال : تلك العشية : يا زبير بن العوام ، يا سماك بن خرشة (1) امضيا في عشرين (2) من المسلمين إلى باب قصر ( اكيدر) فخذاه ، وأتياني به .
  فقال الزبير : يا رسول الله وكيف نأتيك به ومعه من الجيوش الذي قد علمت ، ومعه في قصره سوى حشمه ألف ومائتان عبد وأمة وخادم ؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : تحتالان عليه فتأخذانه ، قال : يا رسول الله وكيف ـ نأخذه ـ وهذه ليلة قمراء ، وطريقنا أرض ملساء ، ونحن في الصحراء لا نخفى ؟! فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : أتحبان أن يستركما الله من عيونهم ، ولا يجعل لكما ظلا إذا سرتما ، ويجعل لكما نورا كنور القمر لا تتبينان منه ؟ قالا : بلى .
  قال : عليكما بالصلاة على محمد وآله الطيبين معتقدين أن أفضل آله علي بن أبي طالب عليه اسلام ، وتعتقد أنت يا زبير خاصة أنه لا يكون علي في قوم إلا كان هو أحق بالولاية عليهم ، ليس لاحد أن يتقدمه ، فأذا أنتما فعلتما ذلك وبلغتما الظل الذي بين يدي قصره من حائط قصره فأن الله تعالى سيبعث الغزلان ، والاوعال (3) إلى بابه فتحتك (4) قرونها به فيقول : من لمحمد في مثل هذا ؟ ويركب فرسه لينزل فيصطاد .
  فتقول امرأته : إياك والخروج فان محمدا قد أناخ بفنائك وليست تأمن أن يكون قد احتال ، ودس عليك من يقع بك .
  فيقول لها : إليك عني ، فلو كان أحد انفصل

--------------------
(1) هو سماك بن خرشة بن لوذان بن عبدود الساعدى ، وقيل : سماك بن أوس بن خرشة عرف واشتهر بأبى دجانة الانصارى ، ( سماك بن حارث ) أ ، ـ وهو تصحيف ، انظر سير أعلام النبلاء : 1/ 243 رقم 39 ، واسد الغابة : 2/ 352 وج 5/ 184 .
(2) أقول : لم يصرح بذكر أسمائهم ، والظاهر أن خالد بن الوليد أحدهم كما ترى ذلك في كتب التاريخ .
(3) جمع وعل : وهو تيس الجبل .
(4) ( فتحك ) ص ، والبحار . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 487_
  عنه في هذه الليلة ، ليلقاه ـ في هذا القمر ـ عيون أصحابنا في الطريق ، وهذه الدنيا بيضاء لا أحد فيها ، ولو كان في ظل قصرنا هذا إنسى لنفرت منه الوحوش .
  فينزل ليصطاد الغزلان والاوعال ـ فتهرب ـ (1) من بين يديه ويتبعها ، فتحيطان به وأصحابكما ، فتأخذانه .
  فكان كما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأخذوه ، فقال : لي إليكم حاجة .
  قالوا : وما هي ؟ فانا نقضيها إلا أن تسألنا أن نخليك .
  فقال : تنزعون عني ثوبي هذا ، وسيفي ـ هذا ـ ومنطقتي وتحملونها إليه ، وتحملونني إليه في قميصي لئلا يراني في هذا الزي ، بل يراني في زي التواضع فلعله يرحمني .
  ففعلوا ذلك ، فجعل المسلمون والاعراب يلبسون ذلك الثوب ـ وهو في القمر ـ فيقولون : هذا من حلل الجنة ، وهذا من حلي الجنة يا رسول الله ؟ قال : لا ، ولكنه ثوب اكيدر وسيفه ومنطقته ، ولمنديل ابن عمتي الزبير وسماك في الجنة أفضل من هذا إن (2) استقاما على ما أمضيا من عهدي إلى أن يلقياني (3) عند حوضي في المحشر .
  قالوا : وذلك أفضل من هذا ؟ قال (صلى الله عليه وآله) : بل خيط من منديل مائدتهما في الجنة أفضل من ملء الارض إلى السماء مثل هذا الذهب .
  فلما اتي به رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال له : يا محمد أقلني وخلني على أن أدفع عنك من ورائي من أعدائك .
  فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله) : فان لم تف بذلك ؟ قال : يا محمد إن لم أف بذلك ، فان كنت رسول الله فسيظفرك بي من منع ظلال أصحابك أن تقع على الارض حتى أخذوني ، ومن ساق الغزلان إلى بابي حتى استخرجني من قصري وأوقعني في أيدي أصحابك ، وإن كنت غير نبي فان دولتك

--------------------
(1) من البحار .
(2) أمعن النظر في الشرط ، وتدبر معناه ... وفى الكامل لابن الاثير : 2/ 281 بلفظ ( لمناديل سعد بن معاذ (عبادة خ) أحسن من هذا ) انتهى .
(3) ( يلتقيان ) أ . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 488_
  التي أوقعتني في يدك بهذه الخصلة العجيبة والسبب اللطيف ستوقعني في يدك بمثلها .
  قال : فصالحه رسول الله (صلى الله عليه وآله) على ألف اوقية ـ من ـ ذهب في رجب ومائتي حلة وألف اوقية في صفر ومائتي حلة ، وعلي أنهم يضيفون من مر بهم من المسلمين ثلاثة أيام ويزودونه إلى المرحلة التي تليها ، على أنهم إن نقضوا شيئا من ذلك فقد برأت منهم ذمة الله، وذمة محمد رسول الله، ثم كر رسول الله (صلى الله عليه وآله) راجعا .
  وقال موسى بن جعفر (عليهما السلام) : فهذا العجل في زمان النبي هو أبوعامر الراهب الذي سماه رسول الله (صلى الله عليه وآله) : ( الفاسق ) وعاد رسول الله (صلى الله عليه وآله) غانما ظافرا ، وأبطل ـ الله تعالى ـ كيد المنافقين ، وأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) باحراق مسجد الضرار ، وأنزل الله تعالى : (والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا) (1) الآيات .
  وقال موسى بن جعفر (عليهما السلام) : فهذا العجل ـ في حياته (صلى الله عليه وآله) ـ دمر الله عليه وأصابه بقولنج ـ وبرص ـ وجذام وفالج ولقوة ، وبقي أربعين صباحا في أشد عذاب ، ثم صار إلى عذاب الله تعالى (2) (3) .
  قوله عزوجل : ( ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم ) : 105 .
  310 ـ قال الامام (عليه السلام) : قال علي بن موسى الرضا (عليهما السلام) : إن الله تعالى ذم اليهود ـ والنصارى ـ والمشركين والنواصب فقال : (ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب) اليهود والنصارى (ولا المشركين)

--------------------
(1) التوبة : 107 ، وفى ( أ ) : الاية بدل ( الايات) .
(2) ( نار جحيم ) ق .
(3) عنه البحار : 21/ 257 ح 7 ، ومقاطع منه في البرهان : 1/ 161 ح 2 ، واثبات الهداة : 2/ 162 ح 611 . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 489 _
  ولا من المشركين الذين هم نواصب يغتاظون لذكر الله وذكر محمد وفضائل علي (عليه السلام) وإبانته عن شريف ـ فضله و ـ (1) محله (أن ينزل عليكم) ـ لا يودون أن ينزل عليكم ـ (من خير من ربكم) من الآيات الزائدات في شرف محمد وعلي وآلهما الطيبين (عليهم السلام) ولا يودون أن ينزل دليل معجز (2) من السماء يبين عن محمد وعلي وآلهما .
  فهم لاجل ذلك يمنعون أهل دينهم من أن يحاجوك مخافة أن تبهرهم حجتك وتفحمهم معجزتك ، فيؤمن بك عوامهم ، ويضطربون على رؤسائهم .
  فلذلك يصدون من يريد لقاءك يا محمد ، ليعرف أمرك بأنه لطيف خلاق (3) سار اللسان ، لا تراه ولا يراك خير لك وأسلم لدينك ودنياك .
  فهم بمثل هذا يصدون العوام عنك .
  ثم قال الله تعالى : (والله يختص برحمته) وتوفيقه لدين الاسلام وموالاة محمد وعلي (عليهما السلام) (من يشاء والله ذو الفضل العظيم) على من يوفقه لدينه ويهديه لموالاتك وموالاة أخيك علي بن أبي طالب (عليه السلام) .
  قال : فلما قرعهم (4) بهذا رسول الله (صلى الله عليه وآله) حضره منهم جماعة فعاندوه وقالوا : يا محمد إنك تدعي على قلوبنا خلاف ما فيها ما نكره أن تنزل عليك حجة تلزم الانقياد لها فننقاد .
  فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : لئن عاندتم هاهنا محمدا ، فستعاندون رب العالمين إذ أنطق صحائفكم بأعمالكم ، وتقولون : ظلمتنا الحفظة ، فكتبوا علينا مالم نفعل (5) فعند ذلك يستشهد جوارحكم فتشهد عليكم .
  فقالوا : لا تبعد شاهدك ، فانه فعل الكذابين ، بيننا وبين القيامة بعد ، أرنا في

--------------------
(1) من البحار والبرهان .
(2) ( معجزاتهم ) ب ، س ، ص ، ط .
(3) تخلق ـ بتشديد اللام ـ : تكلف ما ليس من خلقه .
(4) أى عنقهم .
(5) ( نجن ) أ ، ( نخبر ) ص ، ( نجترمه ) البحار ، جنى جناية : ارتكب ذنبا . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _490 _
  أنفسنا ماتدعي لنعلم صدقك ، ولن تفعله لانك من الكذابين .
  فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام) : استشهد جوارحهم .
  فاستشهدها علي (عليه السلام) ، فشهدت كلها عليهم أنهم لا يودون أن ينزل على امة محمد على لسان محمد خير من عند ربكم آية بينة ، وحجة معجزة لنبوته ، وإمامة أخيه علي (عليه السلام) مخافة أن تبهرهم حجته ، ويؤمن به عوامهم ، ويضطرب عليهم كثير منهم .
  فقالوا : يا محمد لسنا نسمع هذه الشهادة التي تدعي أن جوارحنا تشهد بها .
  فقال : يا علي هؤلاء من الذين قال الله تعالى : (إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية) (1) .
  ادع عليهم بالهلاك .
  فدعا عليهم علي (عليه السلام) بالهلاك ، فكل جارحة نطقت بالشهادة على صاحبها انفتت (2) حتى مات مكانه .
  فقال قوم آخرون حضروا من اليهود : ما أقساك يا محمد قتلتهم أجمعين ! فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : ما كنت لالين على من اشتد عليه غضب الله تعالى أما إنهم لو سألوا الله تعالى بمحمد وعلي وآلهما الطيبين أن يمهلهم ويقيلهم لفعل بهم كما كان فعل بمن كان من قبل من عبدة العجل لما سألوا الله بمحمد وعلي وآلهما الطيبين ، وقال الله لهم على لسان موسى : لو كان دعا بذلك على من قد قتل لاعفاه الله من القتل كرامة لمحمد وعلي وآلهما الطيبين (عليهم السلام) ، (3)

--------------------
(1) يونس : 96 ـ 7 9 .
(2) ( انفتقت ) ق ، والبحار ، ومدينة المعاجز ، فت الشئ : دقه ، الفتيت : الشئ يسقط فيتقطع ويتفتت .
(3) عنه البحار : 9/ 333 ، والبرهان : 1/ 139 ح 1 ، ومدينة المعاجز : 74 ح 186 . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 491_
  قوله عزووجل : ( ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شئ قدير * ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والارض ومالكم من دون الله من ولى ولا نصير ) : 106 ـ 107 311 ـ قال الامام (عليه السلام) : قال محمد بن علي بن موسى الرضا (عليهم السلام) : (ما ننسخ من آية) بأن نرفع حكمها (أو ننسها) بأن نرفع رسمها ، ونزيل عن القلوب حفظها وعن قلبك يا محمد كما قال الله تعالى (سنقرئك فلا تنسى إلا ماشاء الله) (1) أن ينسيك فرفع ذكره عن قلبك .
  (نأت بخير منها) يعني بخير لكم ، فهذه (2) الثانية أعظم لثوابكم ، وأجل لصلاحكم من الآية الاولى المنسوخة (أو مثلها) من الصلاح لكم ، أي إنا لا ننسخ ولا نبدل إلا وغرضنا في ذلك مصالحكم .
  ثم قال : يا محمد (ألم تعلم أن الله على كل شئ قدير) فانه قدير يقدر على النسخ وغيره .
  (ألم تعلم ـ يا محمد ـ أن الله له ملك السماوات والارض) وهو العالم بتدبيرها ومصالحها فهو يدبركم بعلمه (وما لكم من دون الله من ولي) (3) يلي صلاحكم إذ كان العالم بالمصالح هو الله عزوجل دون غيره (ولا نصير) ومالكم ـ من ـ ناصر ينصركم من مكروه إن أراد ـ الله ـ (4) إنزاله بكم ، أو عقاب إن أراد إحلاله بكم .
  وقال محمد بن على (5) (عليهما السلام) : وربما (6) قدر عليه النسخ والتبديل (7) لمصالحكم

--------------------
(1) الاعلى : 6 ـ 7 .
(2) ( عملكم بهذه (فهذه) ) الاصل ، وما في المتن من البحار .
(3) ولى يلى ولاية : قام به وملك أمره .
(4) من البحار .
(5) زاد في البحار والبرهان : الباقر .
(6) ( مما ) ص ، ق ، د ، والبحار .
(7) ( التنزيل ) أ ، ق ، البحار ، والبرهان . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 492 _
  ومنافعكم ، لتؤمنوا بها ، ويتوفر عليكم الثواب بالتصديق بها ، فهو يفعل من ذلك ما فيه صلاحكم والخيرة لكم .
  ثم قال : (ألم تعلم ـ يا محمد ـ أن الله له ملك السماوات والارض) فهو يملكها بقدرته ويصرفها بحسب (1) مشيته لا مقدم لما أخر ، ولا مؤخر لما قدم .
  ثم قال : (ومالكم) يا معشر اليهود والمكذبين بمحمد (صلى الله عليه وآله) والجاحدين بنسخ الشرائع (من دون الله) سوى الله (من ولي) يلي مصالحكم إن لم يل لكم (2) ربكم المصالح (ولا نصير) ينصركم من دون الله فيدفع عنكم عذابه (3) .
  312 ـ قال (عليه السلام) : وذلك أن رسول الله لما كان بمكة أمره الله تعالى أن يتوجه نحو بيت المقدس في صلاته ، ويجعل الكعبة بينه وبينها إذا أمكن ، وإذا لم يتمكن استقبل بيت المقدس كيف كان .
  وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يفعل ذلك طول مقامه بها ثلاث عشرة سنة .
  فلما كان بالمدينة ، وكان متعبدا باستقبال بيت المقدس استقبله وانحرف عن الكعبة سبعة عشر شهرا (4) ، وجعل قوم من مردة اليهود يقولون : والله ما درى محمد كيف صلى حتى صار يتوجه إلى قبلتنا ، ويأخذ في صلاته بهدينا (5) ونسكنا .
  فاشتد ذلك على رسول الله (صلى الله عليه وآله) لما اتصل به عنهم ، وكره قبلتهم وأحب الكعبة فجاءه جبرئيل (عليه السلام) فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله) : يا جبرئيل لوددت لو صرفني الله عن بيت المقدس إلى الكعبة ، فقد تأذيت بما يتصل بي من قبل اليهود من قبلتهم .
  فقال جبرئيل عيه السلام : فاسأل ربك ان يحولك

--------------------
(1) ( تحت ) س ، ص ، ق ، د ، والبحار .
(2) ( يدلكم ) البحار .
(3) عنه البحار : 4/ 104 صدر ح 18 ، والبرهان : 1/ 140 ح 1 .
(4) زاد في بعض النسخ والاحتجاج والبحار والمستدرك : أو ستة عشر شهرا ، قال المجلسى رحمه الله: ليس هذا في بعض النسخ ، وعلى تقديره الترديد اما من الراوى ، أو منه (عليه السلام) مشيرا إلى اختلاف العامة فيه .
(5) هدى هديه : سار سيرته . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 493_
  إليها فانه لا يردك عن طلبتك ، ولا يخيبك عن بغيتك .
  فلما استتم دعاءه صعد جبرئيل (عليه السلام) ثم عاد (1) من ساعته فقال : اقرأ يا محمد : (قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره) (2) الايات .
  فقالت اليهود عند ذلك : (ما ولاهم عن قلتهم التي كانوا عليها ؟) فأجابهم الله أحسن جواب فقال : (قل لله المشرق والمغرب) وهو يملكهما وتكليفه التحول إلى جانب كتحويله لكم إلى جانب آخر (يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) (3) وهو مصلحتهم (4) ، وتؤديهم طاعتهم إلى جنات النعيم .
  ـ قال أبومحمد (عليه السلام) : ـ (5) وجاء قوم من اليهود إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقالوا : يا محمد هذه القبلة بيت المقدس قد صليت إليها أربع عشرة سنة ثم تركتها الآن أفحقا كان ماكنت عليه ؟ فقد تركته إلى باطل ، فان ما يخالف الحق فهو باطل .
  أو باطلا كان ذلك ؟ فقد كنت عليه طول هذه المدة ، فما يؤمننا أن تكون ـ إلى ـ الآن على باطل ؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : بل ذلك كان حقا ، وهذا حق ، يقول الله: (قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) إذا عرف صلاحكم يا أيها العباد في استقبال المشرق أمركم به ، وإذا عرف صلاحكم في استقبال المغرب أمركم به ، وإن عرف صلاحكم في غيرهما أمركم به فلا تنكروا تدبير الله تعالى في عباده وقصده إلى مصالحكم (6) .
  ثم قال لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) : لقد تركتم العمل يوم السبت ، ثم عملتم بعده من سائر الايام ، ثم تركتموه في السبت ، ثم عملتم بعده ، أفتركتم الحق إلى الباطل

--------------------
(1) ( جاء ) أ ، ط .
(2) البقرة : 144 .
(3) البقرة : 142 .
(4) ( هو أعلم بمصلحتهم ) الاحتجاج ، ( هو مصلحهم ) المستدرك .
(5) من الاحتجاج والبحار المستدرك .
(6) ( مصالحهم ) أ ، ب ، س ، ط . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 494 _
  أو الباطل إلى حق ؟ أو الباطل إلى باطل أو الحق إلى حق ؟ قولوا كيف شئتم فهو قول محمد وجوابه لكم .
  قالوا : بل ترك العمل في السبت حق والعمل بعده حق .
  فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : فكذلك قبلة بيت المقدس في وقته حق ، ثم قبلة الكعبة في وقته حق .
  فقالوا له : يا محمد أفبدا لربك فيما كان أمرك به بزعمك من الصلاة إلى بيت المقدس حين نقلك إلى الكعبة ؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : ما بدا له عن ذلك ، فانه العالم بالعواقب ، والقادر على المصالح ، لا يستدرك على نفسه غلطا ، ولا يستحدث رأيا بخلاف المتقدم ، جل عن ذلك ، ولا يقع أيضا عليه مانع يمنعه من مراده ، وليس يبدو إلا لمن كان هذا وصفه وهو عزوجل يتعالى عن هذه الصفات علوا كبيرا .
  ثم قال لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) : أيها اليهود أخبروني عن الله، أليس يمرض ثم يصح ، ويصح ثم يمرض ؟ أبدا له في ذلك ؟ أليس يحيي ويميت أبدا له ؟ أليس يأتي بالليل في أثر النهار ، والنهار في أثر الليل ؟ أبدا له في كل واحد من ذلك؟ فقالوا : لا .
  قال : فكذلك الله تعالى تعبد نبيه محمدا بالصلاة إلى الكعبة بعد أن ـ كان ـ تعبده بالصلاة إلى بيت المقدس ، وما بدا له في الاول.
  ثم قال : أليس الله يأتي بالشتاء في أثر الصيف ، والصيف في أثر الشتاء ؟ أبدا له في كل واحد من ذلك ؟ قالوا : لا .
  قال : فكذلك لم يبد له في القبلة .
  قال ، ثم قال : أليس قد ألزمكم في الشتاء أو تحترزوا من البرد بالثياب الغليظة ؟ وألزمكم في الصيف أن تحترزوا من الحر ؟ أفبدا له في الصيف حتى أمركم بخلاف ماكان أمركم به في الشتاء ؟ قالوا : لا .
  فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : فكذلكم الله تعالى تعبدكم في وقت لصلاح يعلمه بشئ ثم بعده في وقت آخر لصلاح آخر يعلمه بشئ آخر ، فاذا أطعتم الله في الحالين

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 495 _
  استحققتم ثوابه .
  وأنزل الله: (ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله) (1) .
  أي إذا توجهتم بأمره ، فثم الوجه الذي تقصدون منه الله وتأملون ثوابه .
  ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : يا عباد الله أنتم كالمريض (2) والله رب العالمين كالطبيب فصلاح المريض فيما يعلمه الطبيب ويدبره به ، لا فيما يشتهيه المريض ويقترحه ألا فسلموا لله أمره تكونوا (3) من الفائزين .
  فقيل : يابن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، فلم أمر بالقبلة الاولى ؟ فقال : لما قال الله عزوجل : (وما جعلنا القبلة التي كنت عليها ـ وهي بيت المقدس ـ إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه) (4) إلا لنعلم ذلك ـ منه ـ موجودا (5) بعد أن علمناه سيوجد .
  وذلك أن هوى أهل مكة كان في الكعبة ، فأراد الله أن يبين متبع محمد من مخالفه باتباع القبلة التى كرهها ، ومحمد يأمر بها ، ولما كان هوى أهل المدينة في بيت المقدس ، أمرهم بمخالفتها والتوجه إلى الكعبة ليتبين من يوافق محمدا فيما يكرهه ، فهو مصدقه وموافقه .
  ثم قال : (وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله) أي كان التوجه إلى بيت المقدس في ذلك الوقت كبيرة (6) إلا على من يهدي الله، فعرف أن الله يتعبد بخلاف ما يريده المرء ليبتلي طاعته في مخالفة (7) هواه ، (8)

--------------------
(1) البقرة 115 .
(2) من خ ل ، ( كالمرضى ) الاصل والبحار . وكذا بعدها .
(3) ( وكونوا ) أ ، ب ، ط .
(4) البقرة : 143 .
(5) ( وجودا ) ق ، د ، والبحار : 4 ، والمستدرك .
(6) ( كبيرا ) ب ، س ، ص ، ط .
(7) ( مخالفته ) ص ، والمستدرك .
(8) عنه البحار : 4 ، 104 ح 18 ، والبرهان : 1/ 158 ح 3 ، ووراه في الاحتجاج : 1/ 43 باسناده عن أبى محمد الحسن العسكرى (عليه السلام) ، عنه البحار : 84/ 59 ح 12 ، واثبات الهداة : 2/ 18 ح 310 قطعة ، ومستدرك الوسائل : 1/ 197 ح 8 و 9 . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 496 _
  قوله عزوجل : ( أم تريدون أن تسئلوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ومن يتبدل الكفر بالايمان فقد ضل سواء السبيل ) : 108 .
  313 ـ قال الامام (عليه السلام) : قال علي بن محمد بن علي بن موسى الرضا (عليهم السلام) : (أم تريدون) بل تريدون يا كفار قريش واليهود (أن تسئلوا رسولكم) ما تقترحونه من الآيات التي لا تعلمون هل فيها صلاحكم أو فسادكم (كما سئل موسى من قبل) واقترح عليه لما قيل له (لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة) (1) .
  (ومن يتبدل الكفر بالايمان) بعد جواب الرسول له إن ما سأله لا يصلح إقتراحه على الله (2) وبعدما يظهر الله تعالى له ما اقترح إن كان صوابا .
( ومن يتبدل الكفر بالايمان ) بأن لا يؤمن عند مشاهدة مايقترح من الآيات أو لا يؤمن إذا عرف أنه ليس له أن يقترح ، وأنه يجب أن يكتفي بما قد أقامه الله تعالى من الدلالات ، وأوضحه من الآيات البينات ، فيتبدل الكفر بالايمان بان يعاند ولا يلتزم الحجة القائمة عليه (فقد ضل سواء السبيل) أخطأ قصد الطرق المؤدية إلى الجنان ، وأخذ في الطرق المؤدية إلى النيران .
  قال (عليه السلام) : قال تعالى ـ لليهود ـ : يا أيها اليهود (أم تريدون) بل تريدون من بعد ما آتيناكم (أن تسئلوا رسولكم) .
  وذلك أن النبى (صلى الله عليه وآله) قصده عشرة من اليهود يريدون أن يتعنتوه (3) ويسألوه عن أشياء يريدون أن يتعانتوه بها ، فبيناهم كذلك إذ جاء أعرابي كأنما يدفع في قفاه ، قد علق على عصا ـ على عاتقه ـ جرابا مشدود الرأس ، فيه شئ قد ملاه لا يدرون ما هو فقال : يا محمد أجبني عما أسألك .

--------------------
(1) البقرة : 55 .
(2) ( الانبياء ) البحار : 9 ، وفى ( ب ، س ، ص ) : أو بدل ( و )
(3) فلان يتعنت فلانا ويعنته : بشدد عليه ، ويلزمه بما يصعب عليه اداؤه . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 497_
  فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : يا أخا العرب قد سبقك اليهود ـ ليسألوا ـ أفتأذن لهم حتى أبدأ بهم ؟ فقال الاعرابي : لا ، فاني غريب مجتاز .
  فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : فأنت إذا أحق منهم لغربتك واجتيازك .
  فقال الاعرابي : ولفظة اخرى .
  قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : ماهي ؟ قال : إن هؤلاء أهل كتاب (1) ، يدعونه ويزعمونه حقا ، ولست آمن أن تقول شيئا يواطؤنك عليه ويصدقونك ، ليفتنوا الناس عن دينهم ، وأنا لا أقنع بمثل هذا ، لا أقنع إلا بأمر بين (2) .

في أن عليا (عليه السلام) باب مدينة الحكمة :

  فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : أين علي بن أبي طالب (عليه السلام) ؟ فدعي بعلي : فجاء حتى قرب من رسول الله (صلى الله عليه وآله) .
  فقال الاعرابي : يا محمد وما تصنع بهذا في محاورتي إياك ؟ قال : يا أعرابي سألت البيان ، وهذا البيان الشافي ، وصاحب العلم الكافي ، أنا مدينة الحكمة وهذا بابها ، فمن أراد الحكمة والعلم فليأت الباب (3) .
  ـ في شباهته (عليه السلام) بالانبياء (عليهم السلام) : ـ فلما مثل بين يدي رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) بأعلى صوته : يا عباد الله من أراد أن ينظر إلى آدم في جلالته ، وإلى شيث في حكمته ، وإلى

--------------------
(1) ( لهؤلاء كتابا ) ب ، ص ، ط ، ق .
(2) ( مبين ) أ .
(3) هذا الحديث هو مما روته الخاصة والعامة (مستقلا أو ضمن حديث) بأسانيد عديدة استقصينا أكثرها عند تحقيقنا كتاب ( مائة منقبة ) المنقبة : 18 ، انظر كذلك احقاق الحق : 5/ 502 ، وج 16/ 298 . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 498_
  إدريس في نباهته ومهابته ، وإلى نوح في شكره لربه وعبادته ، وإلى إبراهيم في خلته ووفائه ، وإلى موسى في بغض كل عدو لله ومنابذته ، وإلى عيسى في حب كل مؤمن وحسن معاشرته ، فلينظر إلى علي بن أبي طالب هذا (1) .
  فأما المؤمنون فازدادوا بذلك إيمانا ، وأما المنافقون فازداد نفاقهم .
  فقال الاعرابي : يا محمد هكذا (2) مدحك لابن عمك .
   إن شرفه شرفك ، وعزه عزك ، ولست أقبل من هذا شيئا إلا بشهادة من لا تحتمل شهادته بطلانا ولا فسادا بشهادة هذا الضب ! .
  فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : يا أخا العرب فأخرجه ، من جرابك لتستشهده ، فيشهد لي بالنبوة ، ولاخي هذا بالفضيلة .
  فقال الاعرابي : لقد تعبت في اصطياده ، وأنا خائف أن يطفر (3) ويهرب .
  فقال رسول الله: لا تخف فانه لا يطفر ـ ولا يهرب ـ بل يقف ، ويشهد لنا بتصديقنا وتفضيلنا ، فقال الاعرابي : ـ إني ـ أخاف أن يطفر .
  فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : فان طفر فقد كفاك به تكذيبا لنا ، واحتجاجا علينا ، ولن يطفر ، ولكنه سيشهد لنا بشهادة الحق ، فاذا فعل ذلك فخل سبيله ، فان محمدا يعوضك عنه ماهو خير لك منه .
  فأخرجه الاعرابي من الجراب ، ووضعه على الارض، فوقف واستقبل رسول

--------------------
(1) وهذا أيضا حديث متواتر روته الخاصة والعامة بألفاظ مختلفة وأسانيد شتى ، رواه الصدوق في أماليه : 524 ح 11 ، وفى كمال الدين : 1/ 25 ، والمفيد في أماليه : 7 والطوسى في أماليه : 266 ، بأسانيدهم من عدة طرق ، ولزيادة الاطلاع انظر البحار : 39/ 35 ـ 87 باب 73 ، واحقاق الحق : 4/ 392 ـ 406 ، وج 5/ 4 ـ 6 ، وج 15/ 610 ـ 622 .
(2) ( هذا ) خ ل .
(3) طفر : وثب في ارتفاع ، ( يظفر ) س ، والبرهان ق ، د ، وكذا ما يأتى . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 499 _
  الله (صلى الله عليه وآله) ، ومرغ خديه في التراب ثم رفع رأسه ، وأنطقه الله تعالى فقال : أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وصفيه و (1) سيد المرسلين ، وأفضل الخلق أجمعين ، وخاتم النبيين ، وقائد الغر المحجلين .
  وأشهد أن أخاك هذا علي بن أبي طالب على الوصف الذي وصفته ، وبالفضل الذي ذكرته ، وأن أولياءه في الجنان يكرمون ، وأن أعداه في النار يهانون (2) .
  فقال الاعرابى وهو يبكى : يا رسول الله وأنا أشهد بما شهد به هذا الضب ، فقد رأيت وشاهدت وسمعت ما ليس لي عنه معدل ولا محيص .
  ثم أقبل الاعرابي إلى اليهود فقال : ويلكم أي آية بعد هذه تريدون ؟ ومعجزة بعد هذه تقترحون ؟ ليس إلا أن تؤمنوا أو تهلكوا أجمعين .
  فآمن أولئك اليهود كلهم وقالوا : عظمت بركة ضبك علينا يا أخا العرب .
  ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : خل الضب على أن يعوضك الله عزوجل ـ عنه ما هو خير ـ منه ، فانه ضب مؤمن بالله وبرسوله وبأخي رسوله شاهد بالحق ، ما ينبغي أن يكون مصيدا ولا أسيرا ، ولكنه يكون مخلى سربه (3) ـ تكون له مزية ـ على سائر الضباب بما فضله الله أميرا .
  فناداه الضب : يا رسول الله فخلني وولني تعويضه لا عوضه .
  فقال الاعرابي : وما عساك تعوضني ؟ قال : تذهب إلى الجحر الذي أخذتني منه ففيه عشرة آلاف دينار خسروانية ، وثلاثمائة ألف درهم ، فخذها .
  قال الاعرابي : كيف أصنع ؟ قد سمع هذا ـ من هذا الضب ـ جماعات الحاضرين هاهنا ، وأنا متعب ، فلن آمن ممن (4) هو مستريح يذهب إلى هناك فيأخذه .
  فقال الضب : يا أخا العرب إن الله تعالى قد جعله لك عوضا مني ، فما كان ليترك

--------------------
(1) زاد في الاصل : ( أن ذلك العبد الرسول ) .
(2) ( خالدون ) ص ، ق ، البحار ، والبرهان .
(3) أى غير مضيق عليه .
(4) ( فان من ) س ، ص ، البحار ، والبرهان . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 500 _
  أحدا يسبقك إليه ، ولا يروم أحد أخذه إلا أهلكه الله.
  وكان الاعرابي تعبا ، فمشى قليلا ، وسبقه إلى الجحر جماعة من المنافقين كانوا بحضرة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، فأدخلوا أيديهم إلى الجحر ليتناولوا منه ما سمعوا ، فخرجت عليهم أفعى عظيمة ، فلسعتهم وقتلتهم ، ووقفت حتى حضر الاعرابي .
  فقالت له (1) : يا أخا العرب ، انظر إلى هؤلاء كيف أمرني الله بقتلهم دون مالك - الذي هو عوض ضبك ـ وجعلني حافظته (2) فتناوله .
  فاستخرج الاعرابي الدراهم والدنانير ، فلم يطق احتمالها ، فنادته الافعى : خذ (3) الحبل الذي في وسطك ، وشده بالكيسين ، ثم شد الحبل في ذنبي فاني سأجره لك إلى منزلك ، وأنا فيه حارسك (4) وحارس مالك هذا .
  فجاءت الافعى ، فما زالت تحرسه والمال إلى أن فرقه الاعرابي في ضياع وعقار وبساتين اشتراها ، ثم انصرفت الافعى ، (5)

احتجاجاته (صلى الله عليه وآله) على المشركين والزامهم :

  314 ـ قال الحسن بن على (عليهما السلام) : فقلت لابي علي بن محمد (6) (عليهما السلام) : فهل كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يناظرهم (7) إذا عانتوه (8) ويحاجهم ؟ قال : بلى مرارا كثيرة منها : ما حكى الله من قولهم :

--------------------
(1) ( فنادته ) س ، ص ، ق ، د البحار ، والبرهان .
(2) ( هو حائطا / حائطه / حافظه ) أ ، ط ، د ، ق .
(3) ( حل ) ق ، حل العقدة : فكها .
(4) ( خادمك ) ص ، البحار ، والبرهان .
(5) عنه البحار : 9/ 183 ح 12 (قطعة) وج 17/ 418 ح 47 ، والبرهان : 1/ 141 ح 1 ومدينة المعاجز : 41 ح ، 73 .
(6) ( قال الحسين ... على بن أبى طالب ) ق .
(7) ( يناظر اليهود والمشركين ) الاحتجاج ، والبحار .
(8) ( عاتبوه ) ب ، س ، ص ، ق ، د ، الاحتجاج ، والبحار . (*)