244 ـ وقال الحسن بن على (عليهما السلام) : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : إن الانبياء إنما فضلهم الله تعالى على خلقه أجمعين لشدة مداراتهم لاعداء دين الله، وحسن تقيتهم لاجل إخوانهم في الله
(1) .
245 ـ قال الزهرى : كان على بن الحسين (عليهما السلام) : ما عرفت له صديقا في السر ولا عدوا في العلانية ، لانه لا أحد يعرفه بفضائله الباهرة إلا ولا يجد بدا من تعظيمه من شدة مداراته وحسن معاشرته إياه ، وأخذه من التقية بأحسنها وأجملها .
ولا أحد ـ وإن كان يريه المودة في الظاهر ـ إلا وهو يحسده في الباطن لتضاعف فضائله على فضائل الخلق
(2) .
246 ـ وقال محمد بن على الباقر (عليهما السلام) : من أطاب الكلام مع موافقيه ليؤنسهم وبسط وجهه لمخالفيه ليأمنهم على نفسه وإخوانه ، فقد حوى من الخير والدرجات العاليه عند الله مالا يقادر قدره غيره
(3) .
247 ـ وقال بعض المخالفين
(4) بحضرة الصادق (عليه السلام) لرجل من الشيعة : ما تقول في العشرة من الصحابة ؟ قال : أقول فيهم الخير الجميل
(5) الذي يحط الله به سيئاتي ويرفع به درجاتي .
قال السائل : الحمد لله على ما
(6) أنقذني من بغضك كنت أظنك رافضيا تبغض الصحابة .
فقال الرجل : ألا من أبغض واحدا من الصحابة ، فعليه لعنة الله.
قال : لعلك تتأول ما تقول ؟ (قل : فمن)
(7) أبغض العشرة من الصحابة .
--------------------
(1 و 2 و 3) عنه البحار المتقدم ، ومستدرك الوسائل : 2/ 375 ح 3 ، 4 ، 5 .
(4) ( المنافقين ) أ .
(5) ( الحسن ) خ ل .
(6) ( الذى ) أ .
(7) ( فيمن ) ب ، س ، والبحار . (*)
تفسير الإمام العسكري (عليه السلام)
_357 _
فقال : من أبغض العشرة فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين .
فوثب الرجل فقبل رأسه ، وقال : اجعلني في حل مما قذفتك (1) به من الرفض قبل اليوم .
قال : ـ اليوم ـ أنت في حل وأنت أخي .
ثم انصرف السائل .
فقال له الصادق (عليه السلام) : جودت! لله درك (2) ، لقد عجبت الملائكة في السماوات من حسن توريتك ، وتلطف (3) بما خلصك ، ولم تثلم دينك ، وزاد الله في مخالفينا غما إلى غم ، وحجب عنهم مراد منتحلي مودتنا في تقيتهم .
فقال بعض أصحاب الصادق (عليه السلام) : يابن رسول الله ما عقلنا من كلام هذا إلا موافقة صاحبنا لهذا المتعنت الناصب ؟فقال الصادق (عليه السلام) : لئن كنتم لم تفهموا (4) ما عنى فقد فهمناه نحن ، وقد شكر الله له .
إن ولينا الموالي لاوليائنا المعادي لاعدائنا إذا ابتلاه الله بمن يمتحنه من مخالفيه وفقه لجواب يسلم معه دينه وعرضه ، ويعظم الله بالتقية ثوابه (5) إن صاحبكم هذا قال : من عاب (6) واحدا منهم فعليه لعنة الله، أي من عاب واحدا منهم هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) .
وقال في الثانية : من عابهم أو شتمهم (7) فعليه لعنة الله.
وقد صدق لان من عابهم فقد عاب (عليه السلام) ، لانه أحدهم ، فاذا لم يعب عليا (عليه السلام) ولم يذمه فلم يعبهم ، وإنما (8) عاب بعضهم .
ـ ولقد كان لحزقيل (9) المؤمن مع قوم فرعون الذين وشوا به إلى فرعون مثل هذه
--------------------
(1) ( قدمتك ) أ ، ب ، ( قرفتك ) ط ، قذف الرجل : رماه واتهمه بريبة ، وقرف فلانا بكذا : اتهمه به .
(2) أى لله ما خرج منك من خير ، وفى ( أ ) لله ودك .
(3) ( تلفظك ) البحار : 71 ، والبرهان .
(4) ( تفقهوا ) أ .
(5) ( ويعصمه الله بالتقية ) البرهان .
(6) ( أبغض ) ط ، وكذا بعدها .
(7) ( سبهم ) ب ، س ، ط .
(8) ( واذا عاب ) أ ، والمستدرك .
(9) ( لخربيل ) س ، ص ، والبحار : 75 وقصص الراوندى وكذا ما يأتى . (*)
تفسير الإمام العسكري (عليه السلام)
_ 358_
التورية ، كان حزقيل يدعوهم إلى توحيد الله ونبوة موسى وتفضيل محمد رسول الله (صلى الله عليه وآله) على جميع رسل الله وخلقه ، وتفضيل علي بن أبي طالب (عليه السلام) والخيار من الائمة على سائر أوصياء النبيين وإلى البراءة من ربوبية فرعون .
فوشى بن الواشون إلى فرعون ، وقالوا : إن حزقيل يدعو إلى مخالفتك ، ويعين أعداءك على مضادتك .
فقال لهم فرعون : إنه ابن عمي وخليفتي على ملكي (1) وولي عهدي ، إن فعل ما قلتم ، فقد استحق أشد العذاب على كفره لنعمتي ، وإن كنتم عليه كاذبين ، فقد استحققتم أشد العذاب (2) لايثاركم الدخول في مساءته (3).
فجاء بحزقيل ، وجاء بهم ، فكاشفوه ، وقالوا : أنت تجحد (4) ربوبية فرعون الملك وتكفر نعماءه ؟ فقال حزقيل : أيها الملك هل جربت علي كذبا قط ؟ قال : لا .
قال : فسلهم من ربهم ؟ قالوا : فرعون ـ هذا ـ.
قال لهم : ومن خالقكم ؟ قالوا : فرعون هذا .
قال لهم : ومن رازقكم ، الكافل لمعايشكم ، والدافع عنكم مكارهكم ؟ قالوا : فرعون هذا .
قال حزقيل : أيها الملك فاشهدك ، و ـ كل ـ من حضرك : أن ربهم هو ربي وخالقهم هو خالقي ، ورازقهم هو رازقي ، ومصلح معايشهم هو مصلح معايشي ، لا رب لي ولا خالق ولا رازق غير ربهم وخالقهم ورازقهم .
واشهدك ومن حضرك أن كل رب وخالق ورازق سوى ربهم وخالقهم ورازقهم فأنا برئ منه ومن ربوبيته ، وكافر بالهيته .
يقول حزقيل هذا ، وهو يعني إن ربهم هو الله ربي ( وهو لم يقل : إن الذي قالوا : هو (5) أنه ربهم هو ربي وخفي هذا المعنى على فرعون ومن حضره وتوهموا أنه يقول : فرعون ربي وخالقي ورازقي .
--------------------
(1) ( مملكتى ) البرهان .
(2) ( العقاب ) ب ، س ، والبحار .
(3) ( مكانه ) البحار : 13 .
(4) ( تكفر ) البحار : 75 .
(5) ( هم ) أ ، ق ، د . (*)
تفسير الإمام العسكري (عليه السلام)
_ 359 _
فقال لهم : يا رجال السوء ويا طلاب الفساد في ملكي ، ومريدي الفتنة بيني وبين ابن عمي ، وهو عضدي ، أنتم المستحقون لعذابي لارادتكم فساد أمري وهلاك ابن عمي ، والفت (1) في عضدي .
ثم أمر بالاوتاد ، فجعل في ساق كل واحد منهم وتد ، وفي صدره وتد ، وأمر أصحاب أمشاط الحديد ، فشقوا بها لحومهم من أبدانهم .
فذلك ما قال الله تعالى : (فوقيه الله) يعني حزقيل (2) (سيئات ما مكروا) ـ به
--------------------
(1) فت في عضده : أى كسر قوته ، وفرق عنه أعوانه .
(2) روى الراوندى قى قصص الانبياء (مخطوط) ، عنه البحار : 13/ 162 ح 6 ، قال : حزبيل هو مؤمن آل فرعون أرسل فرعون رجلين في طلبه فانطلقا في طلبه ... فلما رآهما أوجس في نفسه خيفة وقال ... أسألك يا الهى ان كان هذان الرجلان يريدان بى سوءا فسلط عليهما فرعون ، وعجل ذلك ، وان هما أرادانى بخير فاهدهما ، فلما دخل حزبيل ، قال فرعون ، للرجلين : من ربكما ؟ قالا : أنت ، فقال لحزبيل : ومن ربك ؟ قال : ربى ربهما ... فظن فرعون أنه يعنيه ، فوقاه الله سيئات ما مكروا ، وحاق بآل فرعون سوء العذاب ، وسر فرعون ، أقول : يجوز عند الجمع بين هذه الرواية وغيرها (انظر تخريجات الحديث) القول بأنه لم يقتل في هذه المرحلة ـ أى في بدء الوشاية ـ بل كان يحاجهم ويقول كما قال تعالى ( يا قوم مالى أدعوكم إلى النجاة وتدعوننى إلى النار ، تدعوننى لاكفر بالله
واشرك به ماليس لى به علم وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار ـ إلى أن قال تعالى ـ انا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الاشهاد ) غافر : 41 ـ 51 ،
فالقتل أولا كان من نصيب اولئك الساعين به ، وانما قتل في مرحلة اخرى عند ما حان أجله ، فقد روى الكلينى في الكافى : 2/ 215 ح 1 عن الصادق (عليه السلام) أنه قال في قوله تعالى ( فوقاه الله ) والله لقد سطوا عليه وقتلوه ، ولكن أتدرون ما وقاه ؟ وقاه أن يفتنوه في دينه ، وروى القمى في تفسيره : 586 عنه (عليه السلام) أنه قال ( والله لقد قطعوه اربا ، ولكن وقاه الله أن يفتنوه في دينه ) . < (*)
تفسير الإمام العسكري (عليه السلام)
_ 360_
لما وشوا به إلى فرعون ليهلكوه ـ (وحاق بآل فرعون) ـ حل بهم ـ (سوء العذاب) (1) وهم الذين وشوا بحزقيل إليه لما أوتد فيهم الاوتاد ومشط عن أبدانهم لحومها بالامشاط (2) .
248 ـ وقال رجل لموسى بن جعفر (عليها السلام) من خواص الشيعة ـ وهو يرتعد بعد ما خلا به ـ : يا بن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ما أخوفني أن يكون فلان بن فلان ينافقك في إظهاره اعتقاد وصيتك وإمامتك ؟ ! فقال موسى (عليه السلام) : وكيف ذاك ؟ قال : لاني حضرت معه اليوم في مجلس فلان ـ رجل من كبار أهل بغداد ـ فقال له صاحب المجلس : أنت تزعم أن موسى بن جعفر (عليه السلام) إمام دون هذا الخليفة القاعد على سريره ؟ فقال له صاحبك هذا : ما أقول هذا ، بل أزعم أن موسى بن جعفر (عليه السلام) غير إمام وإن لم أكن أعتقد أنه غير إمام ، فعلي وعلى من لم يعتقد ذلك لعنة الله، والملائكة والناس أجمعين .
فقال له صاحب المجلس : جزاك الله خيرا ، ولعن ـ الله ـ من وشى بك .
قال له موسى بن جعفر (عليه السلام) : ليس كما ظننت ، ولكن صاحبك أفقه منك ، إنما قال : إن موسى غير إمام ، أي إن الذي هو غير (3) إمام فموسى غيره ، فهو إذا إمام فانما أثبت بقوله هذا إمامتي ، ونفى إمامة غيري .
--------------------
> فمن المحتمل أنه قد وشى به أكثر من مرة ، للتأثير عليه حتى يشرك ويكفر بالله ، لكنه في كل مرة كان ينجو بدينه ونفسه ـ بوقاية الله ونصرته ـ حتى حان حينه ، فقطعوه اربا دون أن يفتنوه عن دينه .
(1) غافر : 45
(2) عنه البحار : 75/ 402 ضمن ح 42 ، والبرهان : 4/ 98 ح 3 ، ومستدرك الوسائل : 2/ 375 ح 6 ، وعنه في البحار : 13/ 160 ح 1 ، وعن الاحتجاج : 2/ 131 باسناده عن العسكرى (عليه السلام) ، وأخرجه في البحار : 71/ 11 ح 22 عن الاحتجاج .
(3) ( عندك ) البحار : 75 ، والمستدرك . (*)
تفسير الإمام العسكري (عليه السلام)
_ 361 _
يا عبدالله متى يزول عنك هذا الذي ظننته بأخيك هذا من النفاق : تب إلى الله.
ففهم الرجل ما قاله ، واغتم وقال : يابن رسول الله مالي مال فارضيه به ، ولكن قد وهبت له شطر عملي كله من تعبدي ، ومن صلاتي عليكم أهل البيت ، ومن لعنتي لاعدائكم .
قال موسى بن جعفر (عليه السلام) : الآن خرجت من النار (1) .
249 ـ وقال (2)
--------------------
(1) عنه البحار : 75/ 403 ضن ح 42 ، والمستدرك : 2/ 376 ح 7 ، وأخرجه في البحار :
71/ 14 ح 28 عن الاحتجاج : 2/ 169 باسناده عن العسكرى (عليه السلام) .
(2) أقول : انظر من أول البحث إلى آخره حول مداراة النواصب ، تجد : أ ـ قال الامام (عليه السلام) : كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) .
ب ـ وقال أمير المؤمنين (عليه السلام) ...
ج ـ وقالت فاطمة (عليها السلام) ...
د ـ وقال الحسن بن على (عليهما السلام) ...
ه ـ قال الزهرى : كان على بن الحسين ...
و ـ وقال بعض المخالفين بحضرة الصادق (عليه السلام) ... فقال الصادق (عليه السلام) ...
ز ـ وقال رجل لموسى بن جعفر (عليهما السلام) ... قال له موسى بن جعفر (عليهما السلام) ...
ح ـ وقال (...) عند الرضا (عليه السلام) ... فقال الرضا (عليه السلام) .
ط ـ قال : وقال رجل لمحمد بن على (عليهما السلام) ، فقال محمد بن على (عليهما السلام) ...
ى ـ قال أبويعقوب وعلى ـ راويا هذا الكتاب بألفاظه أو مضمونه ـ : حضرنا عند الحسن بن على أبى القائم (عليهم السلام) ، فقال له بعض أصحا به ... فقال له الحسن بن على (عليهما السلام) ... ثم أنه (عليه السلام) بعد ماذكر أحاديث النبى والائمة (عليهم السلام) ختم الكلام حول الموضوع بحديث من نفسه ، فالظاهر أن الراوى للكتاب يقول : قال (عليه السلام) ـ بهذا المضمون ـ : كان جماعة من الناس عند الرضا (عليه السلام) ، فدخل اليه رجل ، فقال له ... ويدل على ذلك قوله بعد ذلك : ( قال ) : وقال رجل لمحمد بن على (عليهما السلام) ... (*)
تفسير الإمام العسكري (عليه السلام)
_ 362_
(1) عند الرضا (عليه السلام) ، فدخل اليه رجل فقال : يابن رسول الله لقد رأيت اليوم شيئا ـ عجيبا ـ عجبت منه : رجل كان معنا يظهر لنا أنه من الموالين لآل محمد (صلى الله عليه وآله) المتبرئين من أعدائهم .
ورأيته اليوم ، وعليه ثياب قد خلعت عليه وهو ذا يطاف به ببغداد وينادي المنادون بين يديه ، معاشر الناس اسمعوا توبة هذا الرافضي .
ثم يقولون له : قل .
فيقول : خير الناس بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) ( أبا بكر ) (2) .
فاذا قال (3) ذلك ضجوا ، وقالوا : قد تاب ، وفضل أبا بكر على علي بن أبي طالب ابن عم رسول الله.
فقال الرضا (عليه السلام) : إذا خلوت فأعد علي هذا الحديث .
فلما أن خلا أعاد عليه فلقال له : إنما لم افسر لك معنى كلام ـ هذا ـ الرجل بحضرة هذا الخلق المنكوس ، كراهة أن ينقل إليهم ، فيعرفوه ويؤذوه .
--------------------
(1) في الاصل : ( كنا ) ، أقول : فيه تصحيف ما مضمونه ( كان الناس ) وذلك للتصريح في أول الكلام بأن مجلس الرضا (عليه السلام) هذا كان بحضرة الاعداء ، بقرينة ما قاله الرضا (عليه السلام) ـ كما سيأتى ـ ( اذا خلوت فأعد على هذا الحديث ... انما لم افسر بحضرة هذا الخلق المنكوس كراهة أن ينقل ، ( وعلى هذا فكيف يقول الراوى للحديث ـ عن مجلس الرضا (عليه السلام) ، وبحضور هؤلاء الخلق المنكوس من أعداء آل محمد ـ : ) كنا ! أضف إلى ذلك أن الراوى كان أعرف منا وأدرى بأنه ما كان الامام (عليه السلام) بحضرة الرضا أو معهم ، فلاحظ تعليقتنا السابقة ، وأما في الاحتجاج : 2/ 235 وعنه البحار فأخذه باليقين ، قال : وبالاسناد الذى تكرر عن أبى الحسن العسكرى (عليه السلام) قال : دخل على أبى الحسن الرضا (عليه السلام) رجل...
(2) نصب باعتباره نداءا لابى بكر ، وليس خبرا ( لخير الناس ) وهذا ما فسره الامام (عليه السلام) فلاحظ .
(3) ( فعل ) ب ، س ، ص ، ط ، والبحار : 75 (*)
تفسير الإمام العسكري (عليه السلام)
_ 363 _
لم يقل الرجل : خير الناس بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) ( أبوبكر ) فيكون قد فضل أبابكر على علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، ولكن قال : خير الناس بعد رسول الله ( أبابكر ) فجعله نداءا لابي بكر ، ليرضى به من يمشي بين يديه من بعض هؤلاء الجهلة ليتوارى من شرورهم ، إن الله تعالى جعل هذا التورية مما رحم به شيعتنا ومحبينا (1) .
250 ـ قال : وقال رجل لمحمد بن على (عليهما السلام) : يابن رسول الله (صلى الله عليه وآله) مررت اليوم بالكرخ فقالوا : هذا نديم محمد بن علي إمام الرافضة ، فاسألوه من خير الناس بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) ؟ فان قال : علي .
فاقتلوه ، وإن قال : أبوبكر .
فدعوه فانثال علي منهم خلق عظيم وقالوا لى : من خير الناس بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) ؟ فقلت مجيبا لهم : خير (2) الناس بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) أبوبكر وعمر وعثمان وسكت ولم أذكر عليا .
فقال بعضهم : قد زاد علينا ، نحن نقول ههنا : وعلي ! فقلت لهم : في هذا نظر ، لا أقول هذا .
فقالوا بينهم : إن هذا أشد تعصبا للسنة منا ، قد غلطنا عليه .
ونجوت هذا منهم فهل علي يابن رسول الله (صلى الله عليه وآله) في هذا حرج ؟ وإنما أردت أخير ـ الناس ـ ؟ أي أهو خير ؟ ـ إستفهاما لا إخبارا ـ .
فقال محمد بن على (عليهما السلام) : قد شكر الله لك بجوابك هذا ، وكتب لك أجره وأثبته لك في الكتاب الحكيم ، وأوجب لك بكل حرف من حروف ألفاظك بجوابك هذا لم ما يعجز عنه أماني المتمنين ولا يبلغه آمال الآملين (3) .
251 ـ قال : وجاء رجل إلى على بن محمد (عليهما السلام) وقال : يابن رسول الله (صلى الله عليه وآله) بليت اليوم بقوم من عوام البلد أخذوني فقالوا : أنت لا تقول بامامة أبي بكر بن أبي
--------------------
(1) عنه البحار : 75/ 404 ضمن ح 42 ، ومستدرك الوسائل : 2/ 376 ح 8 ، ورواه في الاحتجاج : 2/ 235 باسناده عن العسكرى (عليه السلام) ، عنه البحار : 71/ 15 ح 29 .
(2) ( أخير ) البحار : 75 .
(3) عنه البحار : 75/ 405 ضمن ح 42 ، ومستدرك الوسائل : 2/ 276 ضمن ح 9 . (*)
تفسير الإمام العسكري (عليه السلام)
_ 364 _
قحافة ؟ فخفتهم يا بن رسول الله (صلى الله عليه وآله)! وأردت أن أقول: ـ لا ، قلت : ـ بلى ، أقولها للتقية .
فقال لي بعضهم ـ ووضع يده على فمي ـ وقال : أنت لا تتكلم إلا بمخرقة (1) أجب عما القنك .
قلت : قل .
فقال لي : أتقول أن أبابكر بن أبي قحافة هو الامام بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) إمام حق عدل ، ولم يكن لعلي في الامامة حق البتة ؟ قلت : نعم ، وأنا اريد نعما من الانعام : الابل والبقر والغنم .
فقال : ـ لا ـ أقنع بهذا حتى تحلف ، قل : والله الذي لا إله إلا هو الطالب الغالب (العدل) المدرك المهلك العالم من السر ما يعلم من العلانية .
فقلت : نعم واريد نعما من الانعام .
فقال : لا أقنع منك إلا بأن تقول : أبوبكر بن أبي قحافة هو الامام والله الذي لا إله إلا هو .
وساق اليمين ، فقلت : أبوبكر بن أبي قحافة إمام ـ أي هو إمام من ائتم به واتخذه إماما ـ والله الذي لا إله إلا هو ، ومضيت في صفات الله.
فقنعوا بهذا مني وجزوني خيرا ونجوت منهم ، فكيف حالي عند الله ؟ قال : خير حال ، قد أوجب الله لك مرافقتنا في أعلى عليين لحسن تقيتك (2) .
252 ـ قال أبويعقوب وعلى (3) : حضرنا عند الحسن بن علي أبي القائم (عليهم السلام) فقال له بعض أصحابه : جاءني رجل من إخواننا الشيعة قد امتحن بجهال العامة يمتحنونه في الامامة ، ويحلفونه (وقال : كيف) (4) نصنع حتى نتخلص منهم ؟ فقلت له : كيف يقولون ؟ قال : يقولون لي أتقول : إن فلانا هو الامام بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) ؟ فلا بد لي من أن أقول : نعم .
وإلا أثخنوني ضربا ، فاذا قلت : نعم .
قالوا لي : ـ قل : ـ والله.
فقلت له : قل : نعم .
وتريد به نعما من الابل والبقر والغنم .
فاذا (5) قالوا : ـ قل ـ والله
--------------------
(1) ( بمخوفة ) أ ، والمستدرك ، المخرقة : الكذب والاختلاق .
(2) عنه البحار : والمستدركين السابقين .
(3) وهما راويا هذا التفسير .
(4) ( فكيف ) أ ، والمستدرك .
(5) ( (و) قلت فاذا ) ب ، ط ، والبحار : 71 . (*)
تفسير الإمام العسكري (عليه السلام)
_365 _
فقل : ولى (1) أي ولى ـ تريد ـ عن أمر كذا ، فانهم لا يميزون ، وقد سلمت .
فقال لي : فان حققوا علي وقالوا : قل : والله، وبين الهاء ؟ فقلت : قل : والله ـ برفع الهاء ـ فانه لايكون يمينا إذا لم يخفض الهاء .
فذهب ثم رجع إلي فقال : عرضوا علي وحلفوني ، وقلت كما لقنتني .
فقال له الحسن (عليه السلام) : أنت كما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) :( الدال على الخير كفاعله ) لقد كتب الله لصاحبك بتقيته بعدد كل من استعمل التقية من شيعتنا وموالينا ومحبينا حسنه ، وبعدد كل من ترك التقية منهم حسنة ، أدناها حسنة لو قوبل بها ذنوب مائة سنة لغفرت ، ولك بارشادك إياه مثل ماله (2) .
253 ـ وأما قوله عزوجل : (أقيموا الصلوة) فهو أقيموا الصلاة بتمام ركوعها وسجودها و ـ حفظ ـ (3) مواقيتها ، وأداء حقوقها التي إذا لم تؤد لم يتقبلها رب الخلائق أتدرون ما تلك الحقوق ؟ فهي إتباعها بالصلاة على محمد وعلي وآلهما (عليهم السلام) منطويا على الاعتقاد بأنهم أفضل خيرة الله، والقوام بحقوق الله، والنصار لدين الله (4) .
254 ـ ( وآتوا الزكاة ) من المال والجاه وقوة البدن : فمن المال مواساة إخوانكم المؤمنين ، ومن الجاه إيصالهم إلى ما يتقاعسون عنه لضعفهم عن حوائجهم المترددة (5) في صدورهم .
--------------------
(1) ( والله )البحار ، أى بالهاء الساكنة المضمرة ، فكأنك تقول : ولى .
(2) عنه البحار : 75/ 406 ضمن ح 42 ، ومستدرك الوسائل : 2/ 376 ح 10 ، وأخرجه في البحار : 71/ 16 ح 30 عن الاحتجاج : 2/ 266 .
(3) من التأويل .
(4) عنه تأويل الايات : 1/ 75 ح 50 ، والوسائل : 6/ 154 ضمن ح 13 ، والبحار : 85/ 285 صدر ح 12 ، والبرهان : 1/ 123 ح 18 ومستدرك الوسائل : 1/ 334 صدر ح 3 .
(5) ( المقررة ) البحار . (*)
تفسير الإمام العسكري (عليه السلام)
_ 366 _
وبالقوة معونة أخ لك قد سقط حماره أو جمله في صحراء أو طريق ، وهو يستغيث فلا يغاث تعينه حتى حمل عليه متاعه ، وتركبه ـ عليه ـ وتنهضه حتى تلحقه القافلة ، وأنت في ذلك كله معتقد لموالاة محمد وآله الطيبين (1) .
فان الله يزكي أعمالك ويضاعفها بموالاتك لهم ، وبراءتك من أعدائهم .
255 ـ قال الله تعالى : (ثم توليتم إلا قليلا منكم) يا معاشر اليهود المأخوذ عليكم (2) من هذه العهود كما أخذ على أسلافكم (وأنتم معرضون) عن أمر الله عزوجل الذي فرضه (3) .
256 ـ قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : إن العبد إذا أصبح ، أو الامة إذا أصبحت ، أقبل الله تعالى عليه وملائكته ـ ليستقبل ربه عزوجل بصلاته ـ فيوجه إليه رحمته ويفيض عليه كرامته ، فان وفى بما أخذ عليه ، فأدى الصلاة على ما فرضت ، قال الله تعالى للملائكة خزان جنانه وحملة عرشه : قد وفى عبدي هذا ، ففوا له .
وإن لم يف ، قال الله تعالى : لم يف عبدي هذا ، وأنا الحليم (4) الكريم ، فان تاب تبت عليه ، وإن أقبل على طاعتي أقبلت عليه برضواني ورحمتي .
ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : ـ قال الله تعالى : ـ وإن كسل عما اريد ، قصرت في قصوره حسنا وبهاءا وجلالا ، وشهرت في الجنان بأن صاحبها مقصر .
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : وذلك أن الله عزوجل أمر جبرئيل ليلة المعراج فعرض علي قصور الجنان ، فرأيتها من الذهب والفضة ، ملاطها المسك والعنبر ، غير أني رأيت لبعضها شرفا عالية ، ولم أر لبعضها .
فقلت : يا حبيبي جبرئيل ما بال هذه بلا شرف كما لسائر تلك القصور ؟
--------------------
(1) عنه البحار : 74/ 228 ح 23 ، وج 96/ 9 ح 5 ، والبرهان : 1/ 122 ح 20 ، ومستدرك الوسائل : 1/ 512 ح 1 .
(2) كذا استظهرناها ، وفى الاصل والبرهان : عليهم .
(3) عنه البرهان : 1/ 123 ح 21 .
(4) ( الحكيم ) ق ، د . (*)
تفسير الإمام العسكري (عليه السلام)
_ 367 _
فقال : يا محمد هذه قصور المصلين فرائضهم ، الذين يكسلون عن الصلاة عليك وعلى آلك بعدها .
فان بعث مادة لبناء الشرف من الصلاة على محمد وآله الطيبين ـ بنيت له الشرف ـ وإلا بقيت هكذا ، حتى (1) يعرف سكان الجنان أن القصر الذي لا شرف له هو الذي كسل صاحبه بعد صلاته عن الصلاة على محمد وآله الطيبين .
ورأيت فيها قصورا منيفة (2) مشرقة (3) عجيبة الحسن ، ليس لها أمامها دهليز ولا بين أيديها (4) بستان ، ولا خلفها ، فقلت : مابال هذه القصور لا دهيلز بين أيديها ؟ ولا بستان خلف قصرها ؟ فقال : يا محمد هذه قصور المصلين ـ الصلوات ـ الخمس ، الذين يبذلون بعض وسعهم في قضاء حقوق إخوانهم المؤمنين دون جميعها ، فلذلك قصورهم مسترة (5) بغير دهيلز أمامها ، وغير بستان خلفها .
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : ألا فلا تتكلوا على الولاية وحدها ، وأدوا ما بعدها من فرائض الله، وقضاء حقوق الاخوان ، واستعمال التقية ، فانهما اللذان يتممان الاعمال ويقصران بها (6)
--------------------
(1) ( فيقال حين ) ب ، س ، ط ، والبحار : 86 ، فيقال حتى ( ص ، البحار : 8 ، 85 ، والمستدرك .
(2) ( منيعه ) أ ، ب ، ط ، البحار ، والمستدرك ، جبل منيف : مرتفع مشرف ، وحصن منيع :
يتعذر الوصول اليه .
(3) ( مشرفة ) ق ، د .
(4) ( يديها ) أكثر النسخ والبحار والمستدرك وكذا التى بعدها ، واليد : الطريق .
(5) ( مستعمرة ) ط ،( مستترة ) المستدرك ، وليس في البحار : 8 ، استعمره في المكان : جعله يعمره .
(6) عنه البحار : 8/ 180 ضمن ح 137 ، وج 74/ 228 ح 23 ، وج 85/ 285 ضمن ح 12 وج 86/ 57 ح 61، ومستدرك الوسائل : 1/ 334 ضمن ح 3 ، ص 342 ح 3 . (*)
تفسير الإمام العسكري (عليه السلام)
_ 368_
قوله عزوجل : ( واذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولاتخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون * ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم و تخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالاثم والعدوان وان يأتوكم اسارى تفادهم وهو محرم عليكم اخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم الا خزى في الحيوة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون * اولئك الذين اشتروا الحيوة الدنيا بالاخرة فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون ) : 84 ـ 86 257 ـ قال الامام (عليه السلام) : (وإذ أخذنا ميثاقكم) واذكروا يا بني إسرائيل حين أخذنا ميثاقكم ـ أي أخذنا ميثاقكم ـ على أسلافكم ، وعلى كل من يصل إليه الخبر بذلك من أخلافهم الذين أنتم منهم (لا تسفكون دماءكم) لا يسفك بعضكم دماء بعض (ولا تخرجون أنفسكم من دياركم) ولا يخرج بعضكم بعضا من ديارهم (ثم أقررتم) بذلك الميثاق كما أقر به أسلافكم، والتزمتموه كما التزموه (وأنتم تشهدون) بذلك على أسلافكم وأنفسكم .
(ثم أنتم) معاشر اليهود (تقتلون أنفسكم) يقتل بعضكم بعضا ـ على إخراج من يخرجونه من ديارهم ـ (وتخرجون فريقا منكم من ديارهم) غصبا وقهرا (تظاهرون عليهم) تظاهر بعضكم بعضا على إخراج من تخرجونه من ديارهم ، وقتل من تقتلونه منهم بغير حق (بالاثم والعدوان) بالتعدي تتعاونون وتتظاهرون (1) .
(وإن يأتوكم) يعني هؤلاء الذين تخرجونهم ـ أن تروموا إخراجهم وقتلهم ظلما ـ إن يأتوكم (أسارى) قدأسرهم أعداؤكم وأعداؤهم (تفادوهم) من
--------------------
(1) ( تتظافرون ) أ ، ق ، د ، وكلاهما بمعنى واحد . (*)
تفسير الإمام العسكري (عليه السلام)
_ 369 _
الاعداء بأموالكم (وهو محرم عليكم إخراجهم) أعاد قوله عزوجل (إخراجهم) ولم يقتصر على أن يقول : ( وهو محرم عليكم ) لانه لو قال ذلك لرأى أن المحرم إنما هو مفاداتهم (1) .
ثم قال عزوجل : (أفتؤمنون ببعض الكتاب) وهو الذي أوجب عليكم المفادات (وتكفرون ببعض) وهو الذي حرم قتلهم وإخراجهم ، فقال : فاذا كان قد حرم الكتاب قتل النفوس والاخراج من الديار كما فرض فداء الاسراء ، فما بالكم تطيعون في بعض ، وتعصون في بعض ؟ كأنكم ببعض كافرون ، وببعض مؤمنون .
ثم قال عزوجل : (فما جزاء من يفعل ذلك منكم) يا معاشر اليهود (إلا خزي) ذل (في الحيوة الدنيا) جزية تضرب عليه ، يذل بها (ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب) إلى جنس أشد العذاب ، يتفاوت ذلك على قدر تفاوت معاصيهم (وما الله بغافل عما تعملون) يعمل (2) هؤلاء اليهود .
ثم وصفهم فقال عزوجل : (أولئك الذين اشتروا الحيوة الدنيا بالآخرة) رضوا بالدنيا وحطامها بدلا من نعيم الجنان المستحق بطاعات الله (فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون) لا ينصرهم أحد يرفع (3) عنهم العذاب (4) .
258 ـ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) ـ لما نزلت هذه الآية في اليهود ، هؤلاء اليهود ـ الذين ـ (5) نقضوا عهد الله، وكذبوا رسل الله، وقتلوا أولياء (6) الله ـ : أفلا أنبئكم
--------------------
(1) قيل ( وهو محرم ) الضمير للشأن أو مبهم يفسره ( اخراجهم ) أو لمصدر يخرجون ، واخراجهم تأكيد ( أو بدل ، أو بيان ) ، انظر تفسير البيضاوى : 1/ 168 ، تفسير الرازى : 3/ 173 تفسير شبر : 52 ، وغيرهم .
(2) ( أى بعمل ) أ .
(3) ( يدفع ) بعض النسخ والبحار .
(4) عنه البحار : 9/ 180 ح 8 ، وج 75/ 316 ح 40 ، والبرهان : 1/ 123 صدر ح 1 .
(5) من البحار .
(6) ( أنبياء ) ب ، ط . (*)
تفسير الإمام العسكري (عليه السلام)
_ 370 _
بمن يضاهيهم من يهود هذه الامة ؟ قالوا : بلى يا رسول الله.
قال : قوم من أمتي ينتحلون بأنهم من أهل ملتي ، يقتلون أفاضل ذريتي وأطائب أرومتي ، ويبدلون شريعتي وسنتي ، ويقتلون ولدي الحسن والحسين كما قتل أسلاف هؤلاء اليهود زكريا ويحيى .
ألا وإن الله يلعنهم كما لعنهم ، ويبعث على بقايا ذراريهم قبل يوم القيامة هاديا مهديا من ولد الحسين المظلوم ، يحرفهم (1) ـ بسيوف أوليائه ـ إلى نار جهنم .
ثواب الحزن والبكاء على الحسين (عليه السلام) :
ألا ولعن الله قتلة الحسين ومحبيهم وناصريهم ، والساكتين عن لعنهم من غير تقية تسكتهم .
ألا وصلى الله على الباكين على الحسين بن علي (عليهما السلام) رحمة وشفقة ، واللاعنبن لاعدائهم والمتلئين عليهم غيظا وحنقا ألا وإن الراضين بقتل الحسين (عليه السلام) شركاء قتلته .
ألا وإن قتلته وأعوانهم وأشياعهم والمقتدين بهم براء من دين الله.
ـ ألا ـ إن الله ليأمر الملائكة المقربين أن يتلقوا دموعهم المصبوبة لقتل الحسين (عليه السلام) إلى الخزان في الجنان ، فيمزجونها بماء الحيوان ، فيزيد في عذوبتها وطيبها ألف ضعفها .
وإن الملائكة ليتلقون دموع الفرحين الضاحكين
(2) لقتل الحسين (عليه السلام) ويلقونها
--------------------
(1) ( يحرقهم ) أ ، ص ، والبحار : 44 ، ( يجرفهم ) ب ، والبرهان ، يحرفهم : يميلهم ، ويجعلهم على حرف (أى جانب) ، والجرف : أخذك الشئ عن وجه الارض بالمجرفة .
(2) كما هو معروف فان البكاء والضحك ان هو الا سلسلة عمليات زفيرية يعقبها شهيق طويل تحت تأثير انفعالات نفسية معينة ، ولكل من البكاء والضحك تأثير على الغدد الخاصة ـ < (*)
تفسير الإمام العسكري (عليه السلام)
_ 371 _
في الهاوية ، ويمزجونها بحميمها وصديدها وغساقها وغسلينها ، فتزيد في شدة حرارتها وعظيم عذابها ألف ضعفها ، يشدد بها على المنقولين (1) إليها من أعداء آل محمد عذابهم (2) 259 ـ فقام ثوبان مولى رسول الله (صلى الله عليه وآله) : فقال : بأبي أنت وأمي يا رسول الله متى قيام الساعة ؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) ماذا أعددت لها إذ تسأل عنها ؟ فقال ثوبان : يا رسول الله ما أعددت لها كثير عمل إلا أني أحب الله ورسوله .
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : وإلى ماذا بلغ حبك لرسول الله ؟ قال : والذي بعثك بالحق نبيا إن في قلبي من محبتك مالو قطعت بالسيوف ، ونشرت لمناشير، وقرضت بالمقاريض ، واحرقت بالنيران ، وطحنت بأرحاء (3) الحجارة كان أحب إلي وأسهل علي من أن أجد لك في قلبي غشا أو دغلا (4) أو بغضا أو لاحد من أهل بيتك وأصحابك (5) .
وأحب الخلق إلي بعدك أحبهم لك ، وأبغضهم إلي من لا يحبك ـ ويبغضك ويبغض أحدا ممن تحبه (6) .
يا رسول الله هذا ما عندي من حبك وحب من يحبك ـ وبغض من يبغضك أو يبغض أحدا ممن تحبه ، فان قبل هذا مني فقد سعدت ، وإن أريد مني عمل غيره ، فما أعلم لي عملا أعتمده وأعتد به غير هذا ، وأحبكم جميعا
--------------------
> ـ بافراز الدمع ، فأصبح علامة للفرح والحزن حتى أن العرب زعمت أن دمع الباكلى من شدة السرور باردة ، ودمع الباكى من الحزن حارة (مجمع البحرين : 3/ 455) ، والعلم أثبت أن الملوحة تكون أكثر تركيزا في دموع البكاء منها في دموع الضحك ، أقول : فليس ان هملت العين في الفرح والحزن عجبا ، لكن العجب لمن أنكر ذلك .
(1) ( المقبولين ) أ ، س ، ص ، ( المقتولين ) ب ، ط ، وما في المتن من البحار .
(2) عنه البحار : 8/ 311 ح 79 (قطعة) ، وج 44/ 304 ح 17 ، والبرهان : 1/ 123 ذ ح1 .
(3) الرحا : التى يطحن بها .
(4) ( دخلا ) أ ، الدخل ـ بالخاء الساكنة ـ الريبة ، أدغل الشئ : أدخل فيه ما يخالفه ويفسده .
(5) ( أصحابك ومن أهل بيتك ومن غيرهم ) الاصل ، وما في المتن من البحار .
(6) ( من أصحابك ) س ، ص ، ق ، د ، والبحار . (*)
تفسير الإمام العسكري (عليه السلام)
_ 372 _
أنت وأصحابك ، وإن كنت لا اطيقهم في أعمالهم .
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : أبشر فان المرء يحشر يوم القيامة مع من أحب .
يا ثوبان لو أن عليك من الذنوب ملء ما بين الثرى إلى العرش لا نحسرت وزالت عنك يهذا الموالاة أسرع من انحدار الظل (1) عن الصخرة الملساء المستوية إذا طلعت عليها (2) الشمس ، ومن انحسار الشمس (3) إذا غابت عنها الشمس (4) .
قوله عزوجل : ( ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون ) 87 260 ـ قال الامام (عليه السلام) : قال الله عزوجل ـ وهو يخاطب هؤلاء اليهود الذين أظهر محمد (صلى الله عليه وآله) المعجزات لهم عند تلك الجبال ويوبخهم ـ : (ولقد آتينا موسى الكتاب) التوراة المشتمل على أحكامنا ، وعلى ذكر فضل محمد وعلي وآلهما الطيبين ، وإمامة علي بن أبي
طالب (عليه السلام) وخلفائه بعده ، وشرف أحوال المسلمين له ، وسوء أحوال المخالفين عليه .
(وقفينا من بعده بالرسل) جعلنا رسولا في أثر رسول .
(وآتينا) أعطينا (عيسى ابن مريم البينات) الايات الواضحات ـ مثل ـ:
إحياء الموتى ، وإبراء الاكمه والابرص ، والانباء بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم (وأيدناه بروح القدس) وهو جبرئيل (عليه السلام) ، وذلك حين رفعه من روزنة بيته
--------------------
(1) ( انحسار ) س ، ط ، ق ، د وهذا التشبيه الرائع يفسر ظاهرة فيزيائية تناولتها قوانين الضوء وسرعته بالتفصيل ومنها عكس الاجسام الصقيلة الضوء أسرع من غيرها ، علما أن سرعة الضوء هى (300000) كم/ ثانية .
(2) ( عليه ) البحار .
(3) أى ذهب شعاعها .
(4) عنه البحار : 27/ 100 ح 61 . (*)
تفسير الإمام العسكري (عليه السلام)
_ 373_
إلى السماء ، وألقى شبهه على من رام (1) قتله (2) فقتل بدلا منه ، وقيل : هو المسيح ، (3)
--------------------
(1) ( انظر إلى شبه عيسى وقتيله الذى رام أن يقتل دونه ) ( رام ) اما من ( روم ، يروم الشئ ) طلبه ، واما من ( رأم ، يرأم ) اذا أحب شيئا وألفه فقد رئمه ، ورام شيئا : أراد شيئا ، عطف عليه ، كما ترأم الام ولدها ، والناقة حوارها فتشمه وتترشفه ، واما من ( ريم، يريم ) اذا برح وزال من مكانه ، أقول : محصل ما يستفاد من الروايات في الاية : (شبه لهم ) النساء : 157 أن عيسى وحواريه اجتمعوا في بيت ، فاحاط بهم بعيث يهودا رأس اليهود ليقتلوا عيسى (عليه السلام) فاستنصرهم وطلب منهم فداء ، وقال (عليه السلام) : أيكم يشرى نفسه يلقى عليه شبحى فيقتل ويصلب ، بثمن الجنة ، ويكون معى في درجتى ؟ فقال شاب منهم : أنا يا روح الله ـ أى أنا أشرى نفسى فداءا لك ، ليلقى على شبحك واقتل واصلب ـ ، فقال (عليه السلام) : فانت هوذا ـ أى المجزى بالعهد ـ،
فرام ، وبرح من مكانه ، كما ترأم الام ولدها فتشمه وتترشفه ، وخرج اليهم ،
فالقى عليه شبح عيسى ، فشبه لهم ، فأخذوه ، وقتلوه ، وصلبوه ، فقتل بدلا منه ، وقيل : ( هو المسيح ) روى القمى في تفسيره : 93 عن أبيه ، عن ابن أبى عمير ، عن جميل بن صالح ، عن حمران بن أعين ، عن أبى جعفر (عليه السلام) قال : ( ان عيسى وعد أصحابه ليلة رفعه الله اليه فاجتمعوا اليه عند المساء ، وهم اثنا عشر رجلا ، فأدخلهم بيتا ، ثم خرج اليهم من عين في زاوية البيت ، وهو ينفض رأسه من الماء فقال : ان الله أوحى إلى أنه رافعى اليه الساعة ، ومطهرى من اليهود ، فأيكم يلقى عليه شبحى فيقتل ويصلب ، ويكون معى في درجتى ؟فقال شاب منهم : أنا يا روح الله، قال : فأنت هو ذا... وفى تفسير الطبرى : 6/ 12 عن وهب بن منبه : فقال عيسى (عليه السلام) لاصحابه : من يشرى نفسه منكم اليوم بالجنة ؟ فقال رجل منهم اسمه ( سرجس ) : أنا ، فخرج اليهم فقال : (أنا عيسى ، فأخذوه ، وقتلوه ، وصلبوه ) ، راجع حديث ابن عباس في الدر المنثور : 2/ 238 وتفسير الطبرى ، والبحار : 14/ 335 ـ 345 باب رفع عيسى (عليه السلام) إلى السماء و ... 2 و 3 > (*)
(2) قال تعالى : ( ومن الناس من يشرى نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رؤوف بالعباد ) البقرة : 207 أقول : انظر روايات الفريقين في أنها نزلت في على (عليه السلام) ـ وهو نفس رسول الله (صلى الله عليه وآله) في آية المباهلة ـ شرى نفسه ابتغاء مرضاة الله، آثر رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالحياة على نفسه ليلة ذهابه إلى الغار ، ولبس ثوب رسول الله وبات على فراشه ، وكان المشركون قد أحاطوا بداره أرادوا قتله ، ورموه بالحجارة ، وهم يتوهمون أنه رسول الله (صلى الله عليه وآله) .
(3) عنه البحار : 9/ 320 ح 13 ، وج : 14/ 338 ح 10 (قطعة) ، وج 70/ 170 ح 19 ،
والبرهان : 1/ 124 ح 1 .
تفسير الإمام العسكري (عليه السلام)
_ 374 _
ذكر المقايسة بين آيات عيسى (عليه السلام) ومعجزات نبينا (صلى الله عليه وآله) : قال الامام (عليه السلام) :
ما أظهر الله عزوجل لنبى تقدم آيه إلا وقد جعل لمحمد (صلى الله عليه وآله) وعلي (عليه السلام) مثلها وأعظم منها .
قيل : يابن رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأي شئ جعل لمحمد وعلي (عليهما السلام) ما يعدل آيات عيسى : من إحياء الموتى ، وإبراء الاكمه والابرص ، والانباء بما يأكلون وما يدخرون ؟ قال (عليه السلام) : إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يمشي بمكة وأخوه علي (عليه السلام) يمشي معه وعمه أبولهب خلفه ـ يرمي عقبه بالاحجار وقد أدماه ـ ينادي معاشر قريش : هذا ساحر كذاب فافقدوه
(1) واهجروه
(2) واجتنبوه .
وحرش عليه أوباش
(3) قريش ، فتبعوهما ويرمونهما (بالاحجار فما منها)
(4) حجر أصابه إلا وأصاب عليا (عليه السلام) .
فقال بعضهم : يا علي ألست المتعصب لمحمد (صلى الله عليه وآله) ، والمقاتل عنه ، والشجاع الذي لا نظير لك مع حداثة سنك ، وأنك لم تشاهد الحروب ، ما بالك لا تنصر محمدا
--------------------
(1) يريد فاقتلوه . قال ابن منظور في لسان العرب : 3/ 337 : وفى حديث الحسن ( اغيلمة حيارى تفاقدوا ) يدعو عليهم بالموت ، وأن يفقد بعضهم بعضا ، وفى البحار : فاقذفوه .
(2) ( واحجروه ) أ ، الحجر : المنع مطلقا .
(3) الاوباش : سفلة الناس وأخلاطهم .
(4) ( بهامتهما وما ) أ . (*)
تفسير الإمام العسكري (عليه السلام)
_ 375 _
ولا تدفع عنه ؟ فناداهم على (عليه السلام) ( معاشر أوباش قريش لا أطيع محمدا بمعصيتي له ، لو أمرني لرأيتم العجب) ، وما زالوا يتبعونه حتى خرج من مكة فأقبلت الاحجار على حالها تتدحرج ، فقالوا : الان تشدخ (1) هذه الاحجار
محمدا وعليا ونتخلص منهما .
وتنحت قريش عنه خوفا على أنفسهم من تلك الاحجار ، فرأوا تلك الاحجار قد أقبلت على محمد وعلي (عليهما السلام) ، كل حجر منها ينادي : السلام عليك يا محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب بن هاشم بن عبد مناف ، السلام عليك يا علي بن أبي طالب بن عبدالمطلب بن هاشم بن عبد مناف ، السلام عليك يا رسول رب العالمين ، وخير الخلق أجمعين .
السلام عليك يا سيد الوصيين ويا خليفة رسول رب العالمين .
وسمعها جماعات قريش فوجموا (2) فقال عشرة من مردتهم وعناتهم : ما هذه الاحجار تكلمهما ، ولكنهم رجال في حفرة بحضرة الاحجار ، قد خبأهم محمد تحت الارض فهي تكلمهما لغيرنا ويختدعنا .
فأقبلت عند ذلك أحجار عشرة من تلك الصخور ، وتحلقت وارتفعت فوق العشرة المتكلمين بهذا الكلام ، فما زالت تقع بهاماتهم وترتفع وترضضها حتى ما بقي من العشرة أحد إلا سال دماغه ودماؤه من منخريه ، وتخلخل رأسه وهامته ويافوخه (3)
فجاء أهلوهم وعشائرهم يبكون ويضجون ، يقولون : أشد من مصابنا بهؤلاء تبجح محمد وتبذخه (4) بأنهم قتلوا بهذه الاحجار ـ فصار ذلك ـ آية له ودلالة ومعجزة .
--------------------
(1) الشدخ : الكسر .
(2) وجم : سكت عجز عن التكلم من شدة الغيظ أو الخوف .
(3) اليافوخ : ملتقى عظم مقدم الرأس ومؤخره .
(4) التبجح : اظهار الفرح ، والتبذح : اظهار التكبر والعلو . (*)