فأنطق الله عزوجل جنائزهم ـ فقالت ـ (1) : صدق محمد وما كذب ، وكذبتم وما صدقتم .
   واضطربت الجنائز ، ورمت من عليها ، وسقطوا على الارض ونادت : ما كنا لننقاد ليحمل علينا أعداء الله إلى عذاب الله.
  فقال أبوجهل (لعنه الله) : إنما سحر محمد هذه الجنائز كما سحر تلك الاحجار والجلاميد والصخور ، حتى وجد منها من النطق ما وجد ، فان كانت ـ قتل هذه الاحجار هؤلاء ـ لمحمد آية له وتصديقا لقوله ، وتثبيتا لامره ، فقالوا له : يسأل من خلقهم أن يحييهم .
  فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : يا أبا الحسن قد سمعت اقتراح الجاهلين ، وهؤلاء عشرة قتلى ، كم جرحت بهذه الاحجار التي رمانا بها القوم يا علي ؟ قال على (عليه السلام) : جرحت (أربع جراحات) (2) وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : قد جرحت أنا ست جراحات ، فليسأل كل واحد منا ربه أن يحيي من العشرة بقدر جراحاته .
  فدعا رسول الله (صلى الله عليه وآله) لستة منهم فنشروا ، ودعا علي (عليه السلام) لاربعة منهم فنشروا .
  ثم نادى المحيون : معاشر المسلمين إن لمحمد وعلي شأنا عظيما في الممالك التي كنا فيها ، لقد رأينا لمحمد (صلى الله عليه وآله) مثالا على سرير عند البيت المعمور ، وعند العرش ، ولعلي (عليه السلام) مثالا عند البيت المعمور وعند الكرسي وأملاك السماوات والحجب وأملاك العرش يحفون بهما ويعظمونهما ويصلون عليهما ، ويصدرون عن أوامرهما ، ويقسمون بهما على الله عزوجل لحوائجهم إذا سألوه بهما .
  فآمن منهم سبعة نفر، وغلب الشقاء على الآخرين ، (3)

--------------------
(1) استظهرها في ( س ) .
(2) ( ثلاث جراحات في كعبى ، قال : يا على جرحت أربعة جراحات ) بعض النسخ ، وما في المتن هو الصحيح ، بقرينة أنها عشرة أحجار .
(3) عنه البحار : 17/ 259 صدر ح 5 ، ومدينة المعاجز : 46 ح 88 ، واثبات الهداة 2/ 159 ح 606 مجملا . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام)_ 377 _

اشارة إلى حديث العباءة :
   261 ـ وأما تأييد الله عزوجل لعيسى (عليه السلام) بروح القدس ، فان جبرئيل هو الذي لما حضر رسول الله (صلى الله عليه وآله) ـ وهو قد اشتمل بعباءته القطوانية (1) على نفسه وعلى علي وفاطمة والحسين والحسن (عليهم السلام) وقال : ( اللهم هؤلاء أهلي ، أنا حرب لمن حاربهم ، وسلم لمن سالمهم ، محب لمن أحبهم ، ومبغض لمن أبغضهم ، فكن لمن حاربهم حربا ، ولمن سالمهم سلما ، ولمن أحبهم محبا ، ولمن أبغضهم مبغضا ) .
  فقال الله عزوجل : ( قد أجبتك إلى ذلك يا محمد ) .
  فرفعت ام سلمة جانب العباءة لتدخل ، فجذبه رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقال : لست هناك وإن كنت في خير وإلى خير .
  وجاء جبرئيل (عليه السلام) متدبرا (2) وقال : يا رسول الله اجعلني منكم ! قال : أنت منا .
  قال : أفأرفع العباءة وأدخل معكم ؟ قال : بلى .
  فدخل في العباءة ، ثم خرج وصعد إلى السماء إلى الملكوت الاعلى ، وقد تضاعف حسنه وبهاؤه .
  وقالت الملائكة : قد رجعت بجمال خلاف ما ذهبت به من عندنا ! قال : وكيف لا أكون كذلك وقد شرفت بأن جعلت من آل محمد (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته ؟! قالت الاملاك في ملكوت السماوات والحجب والكرسي والعرش : حق لك هذا الشرف أن تكون كما قلت .
  وكان علي (عليه السلام) معه جبرئيل عن يمينه في الحروب ، وميكائيل عن يساره وإسرافيل خلفه ، وملك الموت (3) أمامه ، (4)

--------------------
(1) أى البيضاء القصيرة المخمل ، وقطوان موضع بالكوفة ، منه الاكسية .
(2) ( مدثرا ) أغلب النسخ والبحار ، تدبر الامر : نظر في عواقبه وتفكر فيه .
(3) ( عزرائيل ) ط .
(4) عنه البحار : 17/ 261 ضمن ح 5 ، ج 26/ 343 ح 15 . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 378 _
  262 ـ وأما ابراء الاكمه والابرص ، والانباء بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم ، فان رسول الله (صلى الله عليه وآله) لما كان بمكة قالوا : يا محمد إن ربنا هبل ، الذى يشفي مرضانا ، وينقذ هلكانا ، ويعالج جرحانا .
  قال (صلى الله عليه وآله) : ( كذبتم ، ما يفعل هبل من ذلك شيئا ، بل الله تعالى يفعل بكم ما يشاء من ذلك .
  قال (عليه السلام) : فكبر هذا على مردتهم ، فقالوا : يا محمد ما أخوفنا عليك من هبل أن يضربك باللقوة (1) والفالج والجذام والعمى ، وضروب العاهات لدعائك إلى خلافه .
  قال (صلى الله عليه وآله) : لن يقدر على شئ مما ذكرتموه إلا الله عزوجل .
  قالوا : يا محمد فان كان لك رب تعبده لا رب سواه ، فاسأله أن يضربنا بهذه الآفات التي ذكرناها لك حتى نسأل نحن هبل أن يبرأنا منها ، لتعلم أن هبل هو شريك ربك الذي إليه تومي وتشير .
  فجاءه جبرئيل (عليه السلام) فقال : ادع أنت على بعضهم ، وليدع علي على بعض .
  فدعا رسول الله (صلى الله عليه وآله) على عشرين منهم ، ودعا علي (صلى الله عليه وآله) على عشرة .
  فلم يريموا (2) مواضعهم حتى برصوا وجذموا وفلجوا ولقوا وعموا ، وانفصلت عنهم الايدي والارجل ، ولم يبق في شئ من أبدانهم عضو صحيح إلا ألسنتهم وآذانهم ، فلما أصابهم ذلك صيربهم إلى هبل ودعوه ليشفيهم ، وقالوا : دعا على هولاء محمد وعلي ، ففعل بهم ما ترى فاشفهم .
  فناداهم هبل : يا أعداء الله وأي قدرة لي على شئ من الاشياء ؟ والذى بعثه إلى الخلق أجمعين ، وجعله أفضل النبيين والمرسلين ، لو دعا علي لتهافتت أعضائي وتفاصلت أجزائي ، واحتملتني الرياح وتذروا إياي حتى لا يرى لشئ مني عين ولا أثر ، يفعل الله ذلك بي حتى يكون أكبر جزء مني دون عشر عشير خردلة .

--------------------
(1) داء يصيب الوجه ، يعوج منه الشدق إلى احد جانبى العنق .
(2) ( يبرحوا ) أ ، وكلاهما بمعنى واحد . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 379 _
  فلما سمعوا ذلك من هبل ضجوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقالوا : قد انقطع الرجاء عمن سواك ، فأغثنا وادع الله لاصحابنا ، فانهم لايعودون إلى أذاك .
  فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : شفاؤهم يأتيهم من حيث أتاهم داؤهم ، عشرون علي وعشرة على علي .
  فجاءوا بعشرين ، فأقاموهم بين يديه ، وبعشرة أقاموهم بين يدي علي (عليه السلام) .
  فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) للعشرين : غضوا أعينكم ، وقولوا : اللهم بجاه من بجاهه ابتليتنا ، فعافنا بمحمد وعلي والطيبين من آلهما .
  وكذلك قال علي (عليه السلام) للعشرة الذين بين يديه .
  فقالوها ، فقاموا فكأنما انشطوا من عقال ، ما بأحد منهم نكبة (1) وهو أصح مما كان قبل أن اصيب بما اصيب .
  فآمن الثلاثون وبضع أهليهم ، وغلب الشقاء على ـ أكثر ـ الباقين (2) .
  263 ـ وأما الانباء بما كانوا يأكلون وما يدخرون في بيوتهم ، فان رسول الله (صلى الله عليه وآله) ـ لما برؤا ـ قال لهم : آمنوا .
  فقالوا : آمنا .
  فقال : ألا أزيدكم بصيرة ؟ قالوا : بلى .
  قال : أخبركم بما تغذى به هؤلاء وتداووا ؟ ـ فقالوا : قل يا رسول الله.
  فقال : ـ تغذى فلان بكذا ، وتداوى فلان بكذا ، وبقي عنده كذا حتى ذكرهم أجمعين ، ثم قال : ياملائكة ربي احضروني بقايا غذائهم ودوائهم على أطباقهم وسفرهم .
  فأحضرت الملائكة ذلك ، وأنزلت من السماء بقايا طعام اولئك ودوائهم .
  فقالوا : هذه البقايا من المأكول كذا ، والمداوى به كذا .
  ثم قال : يا أيها الطعام أخبرنا ، كم اكل منك ؟ فقال الطعام : اكل مني كذا ، وترك مني كذا ، وهو ما ترون .

--------------------
(1) ( نكتة ) ب ، ط ، والنكتة : الاثر .
(2) عنه البحار : 17/ 262 ضمن ح 5 ، ومدينه المعاجز : 47 ضمن ح 88 ، واثبات الهداة : 2/ 158 ضمن ح 606 (قطعة) . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _380 _
  وقال بعض ذلك الطعام : أكل صاحبي ـ هذا ـ مني كذا وبقي مني كذا ، (وجاء به) (1) الخادم فأكل مني كذا ، وأنا الباقي .
  فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : فمن أنا ؟ فقال الطعام والدواء : أنت رسول الله صلى الله عليك وآلك .
  قال : فمن هذا ؟ ـ يشير إلى علي (عليه السلام) ـ فقال الطعام والدواء : هذا أخوك سيد الاولين والآخرين ، ووزيرك أفضل الوزراء ، وخليفتك سيد الخلفاء (2) .
  264 ـ ثم وجه الله العذل (3) نحو اليهود ـ المذكورين ـ في قوله تعالى : (ثم قست قلوبكم) (4) (أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم) فأخذ عهودكم ومواثيقكم بما لا تحبون من بذل الطاعة لاولياء الله الافضلين وعباده المنتجبين محمد وآله الطاهرين لما قالوا لكم كما أداه إليكم أسلافكم الذين قيل لهم : إن ولاية محمد ـ وآل محمد ـ هي الغرض الاقصى والمراد الافضل ، ما خلق الله أحدا من خلقه ولا بعث أحدا من رسله إلا ليدعوهم إلى ولاية محمد وعلي وخلفائه (عليهم السلام) ويأخذ به عليهم العهد ليقيموا عليه وليعمل به سائر عوام الامم .
  فلهذا (استكبرتم) كما استكبر أوائلكم حتى قتلوا زكريا ويحيى ، واستكبرتم أنتم حتى رمتم قتل محمد وعلي (عليهما السلام) فخيب الله تعالى سعيكم ورد في نحوركم كيدكم وأما قوله عزوجل : (تقتلون) فمعناه قتلتم ، كما تقول من توبخه ويلك كم (5) تكذب وكم تمخرق (6)؟ولا تريد ما ـ لم ـ يفعله بعد ، وإنما تريد : كم (7) فعلت ، وأنت عليه موطن ، (8)

--------------------
(1) ( وخانه ) أ ، س .
(2) التخريجة السابقة .
(3) أى الملامة .
(4) زاد في الاصل ( الاية والقصة ) والظاهر أنها من اضافات النساخ ، وقد تقدمت الاية والقصة ص 283 ح 141 الاية : 74 ، فراجع .
(5) ( لم ) س ، ص وكذا ما يأتى .
(6) المخرقة : الكذب والاختلاق .
(7) ( لم ) ق ، د .
(8) عنه البحار : 26/ 290 ح 49 ، وج 73/ 183 ، والبرهان : 1/ 124 ح 1 . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 381_
واقعة ليلة العقبة :
  265 ـ قال الامام (عليه السلام) : ولقد رامت الفجره الكفرة ليلة العقبة قتل رسول الله (صلى الله عليه وآله) ـ على العقبة ـ ورام من بقي من مردة المنافقين بالمدينة قتل علي بن أبي طالب (عليه السلام) فما قدروا على مغالبة ربهم ، حملهم على ذلك حسدهم لرسول الله (صلى الله عليه وآله) في علي (عليه السلام) لما فخم من أمره ، وعظم من شأنه .
   من ذلك : أنه لما خرج من المدينة ـ وقد كان خلفه عليها (1) قال له (2) : إن جبرئيل أتاني وقال لي : يا محمد إن العلي الاعلى يقرئك (3) السلام ويقول لك : يا محمد إما أن تخرج أنت ويقيم علي ، أو يخرج علي وتقيم أنت ، لابد من ذلك ، فان عليا قد ندبته لاحدى اثنتين ، لا يعلم أحد كنه جلال من أطاعني فيهما ، وعظيم ثوابه غيري .
  فلما خلفه ، أكثر المنافقون ـ الطعن ـ فيه ، فقالوا (4) : مله وسئمه ، وكره صحبته فتبعه علي (عليه السلام) حتى لحقه ـ وقد وجد (5) مما قالوا فيه

حديث المنزلة :
  فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : ما أشخصك عن مركزك ؟ قال : بلغني عن الناس كذا وكذا .
  فقال له :( أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي ) (6)

--------------------
(1) ( عليا ) أ .
(2) ( وقال ) أ ، الاحتجاج ، البحار ، البرهان ، ومدينة المعاجز .
(3) ( يقرأ عليك ) أ ، ص .
(4) ( قال أكثر المنافقين ) أ ، وفى البحار ( الاقوال ) بدل ( الطعن ) .
(5) أى حزن ، وزاد عليها في الاحتجاج : غما شديدا .
(6) حديث المنزلة هذا ، هو من الاحاديث المتواترة ، روته الخاصة والعامة باسانيد متعددة ، وقد قمنا باستقصائه عند تحقيقنا لكتاب ( مائة منقبة ) المنقبة 57 فراجع . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _382 _
  فانصرف علي (عليه السلام) إلى موضعه ، فدبروا عليه أن يقتلوه ، وتقدموا في أن يحفروا له في طريقه حفيرة طويلة قدر خمسين ذراعا ، ثم غطوها بحصر (1) رقاق ونثروا فوقها يسيرا من التراب ، بقدر ما غطوا وجوه الحصر ، وكان ذلك على طريق علي (عليه السلام) الذى لابد له من سلوكه ليقع هو ودابته في الحفيرة التي قد عمقوها ، وكان ما حوالي المحفور أرض ذات حجارة ، ودبروا على أنه إذا وقع مع دابته في ذلك المكان كبسوه بالاحجار حتى يقتلوه .
  فلما بلغ على (عليه السلام) قرب المكان لوى فرسه عنقه ، وأطاله الله فبلغت جحفلته (2) اذنه وقال : يا أمير المؤمنين قد حفر ههنا ودبر عليك الحتف ـ وأنت أعلم ـ لا تمر فيه .
  فقال له علي (عليه السلام) : ( جزاك الله من ناصح خيرا ، كما تدبر بتدبيري (3) فان الله عزوجل لا يخليك من صنعه الجميل ) .
  وسار حتى شارف المكان فتوقف الفرس خوفا من المرور على المكان .
  فقال علي (عليه السلام) : سر باذن الله تعالى سالما سويا ، عجيبا شأنك ، بديعا أمرك .
  فتبادرت الدابة ، فاذا الله (4) عزوجل قد متن الارض وصلبها ولام (5) حفرها وجعلها كسائر الارض.
  فلما جاوزها علي (عليه السلام) لوى الفرس عنقه ، ووضع جحفلته على اذنه ، ثم قال : ما أكرمك على رب العالمين ، جوزك على هذا المكان الخاوي ؟ !

--------------------
(1) ( بخص ) أ ، س ، ص ، ق ، د ، والظاهر أنها اما تصحيف لما في المتن (حصر : جمع حصير) أو لكلمه (خوص ) وهو ورق النخل ، مفردها خوصة ، ( بحصير ) ب ، ط ، وما أثبتناه من الاحتجاج والبحار ، وكذا التى تأتى .
(2) ( اذنيه ) أ ، س ، ص والاحتجاج ، والجحفل لذى الحافر كالشفة للانسان .
(3) التدبير في الامر : التفكر فيه ، وفى المطبوع : كما أنذرتنى .
(4) ( ربك ) الاصل والبحار ، وما في المتن من الاحتجاج .
(5) أى أصلح . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 383 _
  فقال أمير المؤمنين (عليه السلام) : جازاك الله بهذه السلامة عن تلك النصيحة التي نصحتني .
  ثم قلب وجه الدابة إلى ما يلي كفلها (1) والقوم معه بعضهم كان أمامه ، وبعضهم خلفه ، وقال : اكشفوا عن هذا المكان .
  فكشفوا ـ عنه ـ فاذا هو خاو ، ولا يسير عليه أحد إلا وقع في الحفيرة ، فأظهر القوم الفزع ، والتعجبب مما رأوا .
  فقال على (عليه السلام) للقوم : أتدرون من عمل هذا ؟ قالوا : لا ندري .
  قال (عليه السلام) : لكن فرسي هذا يدري .
  ـ ثم قال : ـ يا أيها الفرس كيف هذا ؟ ومن دبر هذا ؟ فقال الفرس : يا أمير المؤمنين إذا كان الله عزوجل يبرم (2) ما يروم جهال الخلق نقضه أو كان ينقض ما يروم جهال الخلق إبرامه ، فالله هو الغالب والخلق هم المغلوبون فعل هذا يا أمير المؤمنين فلان وفلان وفلان إلى أن ذكر العشرة بمواطاة من أربعة وعشرين ، هم مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) في طريقه .
  ثم دبروا ـ هم ـ على أن يقتلوا رسول الله (صلى الله عليه وآله) على العقبة والله عزوجل من وراء حياطة (3) رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، وولي الله لا يغلبه الكافرون .
  فأشار بعض أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام) بأن يكاتب رسول الله (صلى الله عليه وآله) بذلك ويبعث رسولا مسرعا ، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام) : إن رسول الله إلى محمد رسوله الله (صلى الله عليه وآله) أسرع وكتابه إليه أسبق ، فلا يهمنكم (4) هذا .
  فلما قرب رسول الله (صلى الله عليه وآله) من العقبة التي بازائها فضائح المنافقين والكافرين نزل دون العقبة ، ثم جمعهم فقال لهم : هذا جبرئيل الوحي الامين يخبرني : ( إن عليا دبر عليه كذا وكذا ، فدفع الله عزوجل عنه بألطافه وعجائب معجزاته

--------------------
(1) الكفل من الدابة : العجز أو الردف .
(2) برم الامر : أحكمه .
(3) حاطه حياطة : حفظه وتعهده .
(4) ( يمكنهم ) ب ، ص ، ط ، ( يهتمكم ) أ ، هتمه بالضرب : ضعفه . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 384 _
  بكذا وكذا ، إنه صلب الارض تحت حافر دابته وأرجل أصحابه ، ثم انقلب على ذلك الموضع علي (عليه السلام) وكشف عنه ، فرأيت الحفيرة ثم إن الله عزوجل لامها كما كانت لكرامته عليه ، وأنه قيل له : كاتب بهذا وأرسل إلى رسول الله، فقال علي : رسول الله إلى رسول الله أسرع ، وكتابه إليه أسبق ) .
  ولم يخبرهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) بما قال علي (عليه السلام) على باب المدينة : إن من مع رسول الله سيكيدونه (1) ويدفع الله عزوجل عنه .
  فلما سمع الاربعة والعشرون أصحاب العقبة ما قاله (صلى الله عليه وآله) في أمر علي (عليه السلام) قال بعضهم لبعض : ما أمهر محمدا بالمخرقة ، إن فيجا مسرعا أتاه ، أو طيرا من المدينة من بعض أهله وقع عليه! ؟ إن عليا قتل بحيلة كذا وكذا وهو الذى واطأنا عليه أصحابنا فهو الآن لما بلغه كتم الخبر ، وقلبه إلى ضده ، يريد أن يسكن من معه ، لئلا يمدوا أيديهم على ، وهيهات والله ما لبث عليا بالمدينة إلا حينه (2) ـ ولا أخرج محمدا إلى هاهنا إلا حينه ـ وقد هلك علي وهو ههنا هالك لامحالة ، ولكن تعالوا حتى نذهب إليه ونظهر له السرور بأمر علي ليكون أسكن لقلبه إلينا ، إلى أن نمضي فيه تدبيرنا .
  فحضروه وهنؤوه على سلامة علي من الورطة التي رامها أعداؤه .

اشارة إلى أن محبي على (عليه السلام) أفضل من الملائكة :

   قالوا له : يا رسول الله ـ أخبرنا عن علي أهو أفضل أم ملائكة الله المقربون ؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : وهل شرفت الملائكة إلا بحبها لمحمد وعلي وقبولها لولايتهما ؟ إنه لا أحد من محبي على (عليه السلام) وقد نظف قلبه من قذر الغش والدغل والغل ونجاسات الذنوب إلا كان أطهر وأفضل من الملائكة .

--------------------
(1) ( منافقين سيكيدونه ) ص ، الاحتجاج ، والبحار .
(2) بفتح أوله ، ( حتفه ) ص ، ط ، ق وكلاهما بمعنى الاجل ، وكذا بعدها . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 385_
  وهل أمر الله الملائكة بالسجود لآدم إلا لما كانوا قد وضعوه في نفوسهم؟ إنه لا يصير في الدنيا خلق بعدهم إذا رفعوا عنها إلا وهم ـ يعنون أنفسهم ـ أفضل منه في الدين فضلا ، وأعلم بالله وبنبيه (1) علما .
  فأراد الله أن يعرفهم أنهم قد أخطأوا في ظنونهم واعتقاداتهم ، فخلق آدم وعلمه الاسماء كلها ، ثم عرضها عليهم ، فعجزوا عن معرفتها ، فأمر آدم أن ينبئهم بها ، وعرفهم فضله في العلم عليهم .
  ثم أخرج من صلب آدم ذريته (2) منهم الانبياء والرسل والخيار من عباد الله أفضلهم محمد ، ثم آل محمد ، ومن الخيار الفاضلين منهم أصحاب محمد وخيار امة محمد .
  وعرف الملائكة بذلك أنهم أفضل من الملائكة (إذا احتملوا) (3) ما حملوه من الاثقال وقاسوا ما هم فيه من تعرض (4) أعوان (5) الشياطين ومجاهدة النفوس ، واحتمال أذى ثقل العيال ، والاجتهاد في طلب الحلال ، ومعاناة مخاطرة الخوف من الاعداء ـ من لصوص مخوفين ، ومن سلاطين جورة قاهرين ـ وصعوبة المسالك في المضائق والمخاوف ، والاجزاع (6) والجبال والتلال لتحصيل أقوات الانفس والعيال من الطيب الحلال .
  عرفهم الله عزوجل أن خيار المؤمنين يحتملون هذه البلايا ، ويتخلصون منها ويحاربون الشياطين ويهزمونهم ، ويجاهدون أنفسهم بدفعها عن شهواتها ، ويغلبونها مع ما ركب فيهم من شهوة الفحولة وحب اللباس والطعام والعز والرئاسة ، والفخر

--------------------
(1) ( بدينه ) الاحتجاج والبحار .
(2) ( اذ حملوا ) أ .
(3) ( (مما) يعرض من ) أ ، ط ، ( بعرض من ) البحار : 21 ، ( بعرض يعرض من ) الاحتجاج ، ق ، د .
(4) ( اغواء ) ط .
(5) جمع جزع ـ بالكسر وقد يفتح ـ وهو منعطف الوادى ووسطه أو مفتتحه ، أو مكان بالوادى لا شجر فيه ، وربما كان رملا .

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 386 _
  والخيلاء ، ومقاساة العناء (1) والبلاء من إبليس ـ لعنه الله ـ وعفاريته ، وخواطرهم وإغوائهم واستهوائهم ، ودفع ما يكابدونه من ألم الصبر على سماع الطعن من أعداء الله، وسماع الملاهي ، والشتم لاولياء الله، ومع ما يقاسونه في أسفارهم لطلب أقواتهم والهرب من أعداء دينهم ، والطلب لمن يأملون معاملته من مخالفيهم في دينهم .
  قال الله عزوجل : يا ملائكتي وأنتم من جميع ذلك بمعزل : لا شهوات الفحولة تزعجكم ، ولا شهوة الطعام تحقركم (2) ولا الخوف من أعداء دينكم ودنياكم ينخب (3) في قلوبكم : ولا لابليس في ملكوت سماواتي وأرضي شغل (4) على إغواء ملائكتي الذين قد عصمتهم منهم .
  يا ملائكتي فمن أطاعني منهم وسلم دينه من هذه الآفات والنكبات فقد احتمل في جنب محبتى ما لم تحتملوه ، واكتسب من القربات ما لم تكتسبوه .
  فلما عرف الله ملائكته فضل خيار امة محمد (صلى الله عليه وآله) وشيعة علي (عليه السلام) وخلفائه عليهم ، واحتمالهم في جنب محبة ربهم ما لا تحتمله الملائكة أبان بني آدم الخيار المتقين بالفضل عليهم .
  ثم قال ـ الله ـ فلذلك فاسجدوا لآدم لما كان مشتملا على أنوار هذه الخلائق الافضلين .

ذكر فضل العلم :

   ولم يكن سجودهم لآدم، إنما كان آدم قبلة لهم يسجدون نحوه لله عزوجل ، وكان

--------------------
(1) ( الضنى ) ب ، س ، ص ، ط ، ق ، د ، والضنى : سوء الحال والمرض .
(2) ( تحفزكم ) الاحتجاج ، والبحار ، الحفز : الدفع من الخلف .
(3) ( يتحنب ) أ ، ( تنحب ) ق ، د ، والاحتجاج ، ( تنحت ) ط ، حنبه الكبر : نكسه ، قال المجلسى (ره) : النخب : النزع ، وفى بعض النسخ بالحاء المهملة وهو السير السريع.
(4) ( سبيل ) ب . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 387_
  بذلك معظما مبجلا له ، ولا ينبغي لاحد أن يسجد (لاحد من دون) (1) الله، ويخضع له كخضوعه لله ، ويعظمه ـ بالسجود له ـ كتعظيمه لله ، ولو أمرت (2) أحدا أن يسجد ـ هكذا ـ لغير الله، لامرت ضعفاء شيعتنا وسائر المكلفين من شيعتنا (3) أن يسجدوا لمن توسط في علوم علي وصي رسول الله، ومحض وداد (4) خير خلق الله علي بعد محمد رسول الله، واحتمل المكاره والبلايا في التصريح باظهار حقوق الله، ولم (ينكر علي) (5) حقا ارقبه عليه (6) قد كان جهله أو أغفله .
  ثم قال رسول الله عليه وآله : عصى الله إبليس ، فهلك لما كان معصيته بالكبر على آدم وعصى الله آدم بأكل الشجرة ، فسلم ولم يهلك لما لم يقارن بمعصيته التكبر على محمد وآله الطيبين ، وذلك أن الله تعالى قال له : ( يا آدم عصاني فيك إبليس ، وتكبر عليك فهلك ، ولو تواضع لك بأمري ، وعظم عز جلالي لافلح كل الفلاح كما أفلحت ، وأنت عصيتني بأكل الشجرة ، وبالتواضع لمحمد وآل محمد تفلح كل الفلاح ، وتزول عنك وصمة الذلة (7) فادعني بمحمد وآله الطيبين لذلك ) .
  فدعا لهم ، فأفلح كل الفلاح لما تمسك بعروتنا أهل البيت .

--------------------
(1) ( لغير ) أ .
(2) في ( أ ) الفعل على بناء المجهول ، وكذا الذى بعده .
(3) ( متبعينا ) س ، ط .
(4) يقال : محض فلانا الود أو النصح : أخلصه أياه .
(5) ( يظهر الا ) أ .
(6) أى أرصده له وانتظر رعايته منه ، أو من قولهم ( رقبه ) أى جعل الحبل في رقبته ، قاله المجلسى (ره) .
(7) ( الزلة ) ص ، الاحتجاج ، والبحار . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 388_
أمره (صلى الله عليه وآله) لحذيفة وماجرى له :
   ان رسول الله (صلى الله عليه وآله) أمر بالرحيل في أول نصف الليل الاخير ، وأمر مناديه فنادى : ألا لايسبقن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أحد إلى العقبة ، ولا يطأها حتى يجاوزها رسول الله (صلى الله عليه وآله) .
  ثم أمر حذيفة أن يقعد في أصل العقبة ، فينظر من يمر به ، ويخبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) أمره أن يستتر (1) بحجر .
  فقال حذيفة : يا رسول الله إني أتبين الشر في وجوه رؤساء عسكرك ، وإني أخاف إن قعدت في أصل الجبل ، وجاء منهم من أخاف أن يتقدمك إلى هناك للتدبير عليك يحس بي ، فيكشف عني ، فيعرفني وموضعي من نصيحتك فيتهمني ويخافني فيقتلني .
  فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : إنك إذا بلغت أصل العقبة ، فاقصد أكبر صخرة هناك إلى جانب أصل العقبة وقل لها : ( إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) يأمرك أن تنفرجي لي حتى أدخل في جوفك ، ثم يأمرك أن ينثقب فيك ثقبة أبصر منها المارين ، ويدخل علي منها الروح لئلا أكون من الهالكين ) فانها تصير إلى ما تقول لها باذن الله رب العالمين .
  فادى حذيفة الرسالة ودخل جوف الصخرة ، وجاء الاربعة والعشرون على جمالهم وبين أيديهم رجالتهم ، يقول بعضهم لبعض : من رأيتموه ههنا كائنا من كان فاقتلوه ، لئلا يخبروا محمدا أنهم قد رأونا ههنا فينكص (2) محمد ، ولا يصعد هذه العقبة إلا نهارا ، فيبطل تدبيرنا عليه .

--------------------
(1) راجع دلائل النبوة : 5/ 256 باب ( رجوع النبى (صلى الله عليه وآله) من تبوك ، ومكر المنافقين به في الطريق ، وعصمة الله تعالى اياه واطلاعه عليه ، وما ظهر في ذلك من أثار النبوة وفيه : قال حذيفة : عرفت راحلة فلان وفلان ، وغشيتهم وهم متلثمون .
(2) أى فيحجم ويرجع عما كان عليه ، ( فيمكث ) ق ، ( فينكث ) د. (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 389 _
  وسمعها حذيفة ، واستقصوا فلم يجدوا أحدا ، وكان الله قد ستر حذيفة بالحجر عنهم فتفرقوا ، فبعضهم صعد على الجبل وعدل عن الطريق المسلوك ، وبعضهم وقف على سفح الجبل عن يمين وشمال ، وهم يقولون ، ألا (1) ترون حين محمد (2) كيف أغراه بأن يمنع الناس من صعود العقبة حتى يقطعها هو لنخلوا به ههنا فنمضي فيه تدبيرنا وأصحابه عنه بمعزل ؟ وكل ذلك يوصله الله من قريب أو بعيد إلى اذن حذيفة ويعيه .
  فلما تمكن القوم على الجبل حيث أرادوا كلمت الصخرة حذيفة وقالت : إنطلق الآن إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأخبره بما رأيت وما سمعت .
  قال حذيفة : كيف أخرج عنك وإن رآني القوم قتلوني مخافة على أنفسهم من نميمتي علهيم ؟قالت الصخرة : إن الذي مكنك من جوفي ، وأوصل إليك الروح من الثقبة التي أحدثها في هو الذي يوصلك إلى نبي الله وينقذك من أعداء الله (3) .
  فنهض حذيفة ليخرج ، وانفرجت الصخرة ، فحو له الله طائرا فطار في الهواء محلقا حتى انقض بين يدي رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، ثم أعيد على صورته ، فأخبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) بما رأى وسمع .
  فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : أوعرفتهم بوجوههم ؟ قال : يا رسول الله كانوا متلثمين وكنت أعرف أكثرهم بجمالهم ، فلما فتشوا الموضع فلم يجدوا أحدا ، أحدروا (4) اللثام فرأيت وجوههم وعرفتهم بأعيانهم وأسمائهم فلان وفلان حتى عد أربعة وعشرين .
  فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : يا حذيفة إذا كان الله تعالى يثبت محمدا لم يقدر هؤلاء ولا الخلق أجمعون أن يزيلوه ، إن الله تعالى بالغ في محمد أمره ولو كره الكافرون .
  ثم قال : يا حذيفة فانهض بنا أنت وسلمان وعمار ، وتوكلوا على الله، فاذا جزنا

--------------------
(1) ( الان ) ق ، د ، ط .
(2) أى : أجله .
(3) ( أعدائك ) أ .
(4) ( اخذوا ) أ ، ( رفعوا ) خ ل ، أحدر الثوب : كفه وفتل أطراف هدبه . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _390 _
  الثنية (1) الصعبة فأذنوا للناس أو يتبعونا .
  فصعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو على ناقته وحذيفة وسلمان أحدهما آخذ بخطام ناقته يقودها ، والآخر خلفها يسوقها ، وعمار إلى جانبها ، والقوم على جمالهم ورجالتهم منبثون حوالي الثنية على تلك العقبات ، وقد جعل الذين فوق الطريق حجارة في دباب فدحرجوها من فوق لينفروا الناقة برسول الله (صلى الله عليه وآله) ، وتقع به في المهوى الذي يهول الناظر النظر إليه من بعده .
  فلما قربت الدباب من ناقة رسول الله (صلى الله عليه وآله) أذن الله تعالى لها ، فارتفعت ارتفاعا عظيما فجاوزت ناقة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ثم سقطت في جانب المهوى ، ولم يبق منها شئ إلا صار كذلك ، وناقة رسول الله (صلى الله عليه وآله) كأنها لا تحس بشئ من تلك القعقعات (2) التي كانت للدباب .
  ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لعمار : اصعد الجبل فاضرب بعصاك هذه وجوه رواحلهم فارم بها .
  ففعل ذلك عمار ، فنفرت بهم ، سقط بعضهم فانكسر عضده ، ومنهم من انكسرت رجله ومنهم من انكسر جنبه (3) واشتدت لذلك أوجاعهم ، فلما جبرت واندملت بقيت عليهم آثار الكسر إلى أن ماتوا .
  ولذلك قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) ـ في حذيفة وأمير المؤمنين (عليه السلام) ـ: إنهما أعلم الناس بالمنافقين ، لقعوده في أصل العقبة (4) ومشاهدته من مر سابقا لرسول الله (صلى الله عليه وآله) ، وكفى الله رسوله أمر من قصد له ، وعاد رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى المدينة ، فكسى الله الذل والعار من كان قعد عنه ، وألبس الخزي من كان دبر على علي (عليه السلام) ما دفع الله عنه ، (5)

--------------------
(1) ( العقبة ) أ ، ب ، وكذا ما بعدها .
(2) تقعقع : صوت ـ بالتشديد ـ عند التحرك .
(3) ( انكسرت جبينه ) أ
(4) ( الجبل ) البحار .
(5) عنه الوسائل : 4/ 986 ح 7 (قطعة) ، والبحار : 11/ 136 ح 1 ، 21/ 223 ح 6 وج 26/ 338 ح 4 (قطعة) ، وج 60/ 304 ح 18 (قطعة) وعن الاحتجاج : 1 59 ـ 66 < (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 391 _
  قوله عزوجل : (وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون) : 88 266 ـ قال الامام (عليه السلام) : قال الله عزوجل : (وقالوا) يعنى هؤلاء اليهود الذين أراهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) المعجزات المذكورات ـ عند قوله : (فهي كالحجارة) الآية ـ.
  (قلوبنا غلف) أوعية للخير ، والعلوم قد أحاطت بها واشتملت عليها ، ثم هي مع ذلك لا تعرف لك يا محمد فضلا مذكورا في شئ من كتب الله، ولا على لسان أحد من أنبياء الله.
  فقال الله تعالى ردا عليهم : (بل) ليس كما يقولون أوعية العلوم ولكن قد (لعنهم الله) أبعدهم من الخير (فقليلا ما يؤمنون) قليل إيمانهم ، يؤمنون ببعض ما أنزل الله تعالى ويكفرون ببعض ، فاذا كذبوا محمدا (صلى الله عليه وآله) في سائر ما يقول ، فقد صار ما كذبوا به أكثر ، وما صدقوا به أقل .
  وإذا قرئ (غلف) (1) فانهم قالوا : قلوبنا ـ غلف ـ في غطاء ، فلا نفهم كلامك وحديثك .
  نحو ما قال الله تعالى : (وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب) (2) .
  وكلا القراءتين حق ، وقد قالوا بهذا وبهذا جميعا (3) .
  267 ـ ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : معاشر اليهود تعاندون رسول الله رب العالمين

--------------------
> باسناده عن الحسن العسكرى (عليه السلام) ، وأخرج قطعا منه في اثبات الهداة : 2/ 23 ح 313 وج 3/ 496 ح 474 ، وج 4/ 523 ح 149 عن الاحتجاج .
(1) القراءة المشهورة ( غلف ) بسكون اللام ، وروى في الشواذ ( غلف ) بضم اللام عن أبى عمرو فمن قرأ بتسكين اللام فهو جمع الاغلف ، يقال للسيف اذا كان في غلاف : أغلف ، ومن قرأ بضم اللام فهو جمع غلاف ، فمعناه أن قلوبنا أوعية العلم فما بالها لا تفهم ، قاله الطبرسى في تفسيره : 1/ 156 .
(2) فصلت : 5 .
(3) عنه البحار : 9/ 320 ح 14 ، وج 70/ 170 ح 20 ، والبرهان : 1/ 125 صدر ح 1 . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 392 _
  وتأبون الاعتراف بأنكم كنتم بذنوبكم من الجاهلين ، إن الله لا يعذب بها (1) ، أحدا ولا يزل عن فاعل هذا (2) عذابه أبدا ، إن آدم (عليه السلام) لم يقترح على ربه المغفرة لذنبه إلا بالتوبة ، فكيف تقترحونها أنتم مع عنادكم .

ذكر توبة آدم وتوسله بمحمد وآله صلوات الله عليهم اجمعين :

  قيل : وكيف كان ذلك يا رسول الله ؟ ـ قال : ـ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : لما زلت (3) الخطيئة من آدم (عليه السلام) واخرج من الجنة وعوتب ووبخ قال : يا رب إن تبت وأصلحت أتردني إلى الجنة ؟ قال : بلى .
  قال آدم : فكيف أصنع يا رب حتى أكون تائبا وتقبل توبتي ؟ فقال الله عزوجل : تسبحني بما أنا أهله ، وتعترف بخطيئتك كما أنت أهله ، وتتوسل إلى بالفاضلين الذين علمتك أسماءهم ، وفضلتك بهم على ملائكتي ، وهم محمد وآله الطيبون وأصحابه الخيرون .
  فوفقه الله تعالى فقال : يا رب لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك عملت سوءا وظلمت نفسي فارحمني إنك أنت أرحم الراحمين (4) بحق محمد وآله الطيبين وخيار أصحابه المنتجبين ـ سبحانك وبحمدك لا إله إلا أنت عملت سوءا وظلمت نفسي ، فتب علي إنك أنت التواب الرحيم ، بحق محمد وآله الطيبين وخيار أصحابه المنتجبين ـ.
  فقال الله تعالى : لقد قبلت ثوبتك ، وآيه ذلك أني انقي بشرتك ، فقد تغيرت ـ وكان ذلك لثلاث عشر (5) من شهر رمضان ـ فصم هذه الثلاثة الايام التي تستقبلك

--------------------
(1) أى بالتوبة والاعتراف .
(2) أى العناد .
(3) ( وقعت ) البحار : 26 .
(4) ( فتب على انك أنت التواب الرحيم ) أ .
(5) ( ليلة ثلاث عشر ) س ، ط . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 393_
  فهي أيام البيض ينقي الله في كل يوم بعض بشرتك .
  فصامها فنقى في كل يوم منها ثلث بشرته .
  فعند ذلك قال آدم .
  يارب ما أعظم شأن محمد وآله وخيار أصحابه ؟ فأوحى الله تعالى إليه : يا آدم إنك لو عرفت كنه جلال (1) محمد وآله عندي وخيار أصحابه ، لاحببته حبا يكون أفضل أعمالك .
  قال آدم : يا رب عرفني لاعرف .
  قال الله تعالى : يا آدم إن محمدا لو وزن به ـ جميع ـ الخلق من النبيين والمرسلين والملائكة المقربين وسائر عبادي الصالحين من أول الدهر إلى آخره ومن الثرى إلى العرش لرجح بهم ، وإن رجلا من خيار آل محمد لو وزن به جميع آل النبيين لرجح بهم ، وإن رجلا من خيار أصحاب محمد لو وزن به جميع أصحاب المرسلين لرجح بهم .
  يا آدم لو أحب رجل من الكفار أو جميعهم رجلا من آل محمد وأصحابه الخيرين لكافأه الله عن ذلك بأن يختم له بالتوبة والايمان ، ثم يدخله ـ الله ـ الجنة .
  إن الله ليفيض على كل واحد من محبي محمد وآله محمد وأصحابه من الرحمة ما لو قسمت على عدد كعدد ـ كل ـ ما خلق الله من أول الدهر إلى آخره وكانوا كفارا لكفاههم ، ولاداهم إلى عاقبة محمودة : الايمان بالله حتى يستحقوا به الجنة .
  وإن رجلا ممن يبغض ـ آل ـ محمد وأصحابه الخيرين أو واحدا منهم لعذبه الله عذابا لو قسم على مثل عدد ما خلق الله تعالى لاهلكهم أجمعين (2)

--------------------
(1) ( حال ) ب ، س ، والكنه : جوهر الشئ وأصله وقدره وحقيقته .
(2) عنه البحار : 9/ 321 ذ ح 14 ، وج 26/ 330 ح 12 ، وج 70/ 171 ذ ح 20 (قطعة ، وج 97/ 109 ح 97 ، والبرهان : 1/ 125 ح 1 ، ومستدرك الوسائل : 1/ 592 ح 3 ب 9 . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 394 _
  قوله عزوجل : ( ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين ) : 89 .
  268 ـ قال الامام (عليه السلام) : ذم الله تعالى اليهود فقال : (ولما جاءهم) يعنى هؤلاء اليهود ـ الذين تقدم ذكرهم ـ وإخوانهم من اليهود ، جاءهم (كتاب من عند الله) القرآن (مصدق) ذلك الكتاب (لما معهم) من التوراة التي بين فيها أن محمدا الامي (1) من ولد إسماعيل ، المؤيد بخير خلق الله بعده : علي ولي الله.
  (وكانوا) يعني هؤلاء اليهود (من قبل) ظهور محمد (صلى الله عليه وآله) بالرسالة (يستفتحون) يسألون الله الفتح والظفر (على الذين كفروا) من أعدائهم والمناوين لهم ، فكان الله يفتح لهم وينصرهم .
  قال الله تعالى : (فلما جاءهم) جاء هؤلاء اليهود (ماعرفوا) من نعت محمد (صلى الله عليه وآله) (كفروا به) وجحدوا نبوته حسدا له وبغيا عليه .
  قال الله عزوجل : (فلعنة الله على الكافرين) (2) .
  ـ توسل اليهود أيام موسى (عليه السلام) بمحمد وآله صلوات الله عليهم أجمعين : ـ 269 ـ قال امير المؤمنين (عليه السلام) : إن الله تعالى أخبر رسوله بما كان من إيمان اليهود بمحمد (صلى الله عليه وآله) قبل ظهوره ، ومن استفتاحهم على أعدائهم بذكره ، والصلاة عليه وعلى آله .

--------------------
(1) ( الامين ) البحار : 9 .
(2) عنه البحار : 9/ 181 ح 9 ، وج 94/ 10 صدر ح 11 ، والبرهان : 1/ 126 صدر ح 1 . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 395 _
  قال (عليه السلام) : وكان الله عزوجل أمر اليهود في أيام موسى وبعده إذا دهمهم أمر ، ودهتهم داهية أن يدعوا الله عزوجل بمحمد وآله الطيبين ، وأن يستنصروا بهم ، وكانوا يفعلون ذلك حتى كانت اليهود من أهل المدينة قبل ظهور محمد (صلى الله عليه وآله) بسنين كثيرة يفعلون ذلك ، فيكفون (1) البلاء والدهماء والداهية .
  وكانت اليهود قبل ظهور محمد النبي (صلى الله عليه وآله) بعشر سنين يعاديهم (2) أسد وغطفان ـ قوم من المشركين ـ ويقصدون أذاهم ، وكانوا يستدفعون شرورهم وبلاءهم بسؤالهم ربهم بمحمد وآله الطيبين ، حتى قصدهم في بعض الاوقات أسد وغطفان في ثلاثة آلاف فارس إلى بعض قرى اليهود حوالي المدينة ، فتلقاهم اليهود وهم ثلاثمائة فارس ، ودعوا الله بمحمد وآله الطيبين الطاهرين فهزموهم وقطعوهم .
  فقال أسد وغطفان بعضهما لبعض : تعالوا نستعين عليهم بسائر القبائل .
  فاستعانوا عليهم بالقبائل وأكثروا حتى اجتمعوا قدر ثلاثين ألفا ، وقصدوا هؤلاء الثلاثمائة في قريتهم ، فألجأوهم إلى بيوتها وقطعوا عنها المياه الجارية التي كانت تدخل إلى قراهم ، ومنعوا عنهم الطعام ، واستأمن اليهود منهم فلم يؤمنوهم ، وقالوا : لا ، إلا أن نقتلكم ونسبيكم وننهبكم .
  فقالت اليهود بعضها لبعض : كيف نصنع ؟ فقال لهم أماثلهم وذوو الرأي منهم : أما أمر موسى (عليه السلام) أسلافكم ومن بعدهم بالاستنصار بمحمد وآله ؟ أما أمركم بالابتهال إلى الله تعالى عند الشدائد بهم ؟ قالوا : بلى .
  قالوا : فافعلوا .
  فقالوا : اللهم بجاه محمد وآله الطيبين لما سقيتنا ، فقد قطعت الظلمة عنا المياه حتى ضعف شباننا ، وتماوتت (3) ولداننا ، وأشرفنا على الهلكة .

--------------------
(1) على بناء المجهول .
(2) ( يعادونهم ) خ ل ، ط ، والبحار .
(3) ( تمادت ) أ ، والبرهان ، تماوت : أظهر التخافت والتضاعف ، وماد الرجل : أصابه دوار أو غشيان . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 396 _
  فبعث الله تعالى لهم وابلا هطلا سحا (1) أملا حياضهم وآبارهم وأنهارهم وأوعيتهم وظروفهم فقالوا : هذه إحدى الحسنيين : ثم أشرفوا من سطوحهم على العساكر المحيطة بهم ، فاذا المطر قد آذاهم غاية الاذى، وأفسد ـ عليهم ـ أمتعتهم وأسلحتهم وأموالهم .
  فانصرف عنهم لذلك بعضهم ، وذلك أن المطر أتاهم في غير أوانه ـ في حمارة القيظ (2) حين لايكون مطر ـ فقال الباقون من العساكر : هبكم سقيتم ، فمن أين تأكلون ؟ ولئن انصرف عنكم هؤلاء فلسنا ننصرف حتى نقهركم على أنفسكم وعيالاتكم وأهاليكم وأموالكم ، ونشفي غيظنا منكم .
  فقالت اليهود : إن الذي سقانا بدعائنا بمحمد وآله قادر على أن يطعمنا ، وإن الذي صرف عنا من صرفه قادر على أن يصرف الباقين .
  ثم دعوا الله بمحمد وآله أن يطعمهم .
  فجاءت قافلة عظيمة من قوافل الطعام قدر ألفي جمل وبغل وحمار موقرة (3) حنطة ودقيقا ، وهم لا يشعرون بالعساكر فانتهوا إليهم وهم نيام ، ولم يشعروا بهم ، لان الله تعالى ثقل نومهم حتى دخلوا القرية ، ولم يمنعوهم ، وطرحوا فيها أمتعتهم وباعوها منهم فانصرفوا وأبعدوا ، وتركوا العساكر نائمة ليس في أهلها عين تطرف ، فلما أبعدوا انتبهوا ، ونابذوا (4) اليهود الحرب ، وجعل يقول بعضهم لبعض : الوحا ، الوحا (5) فان هؤلاء اشتد بهم الجوع وسيذلون لنا .
  قال لهم اليهود : هيهات بل قد أطعمنا ربنا وكنتم نياما : جاءنا من الطعام كذا

--------------------
(1) سح الماء سحا : صبه صبا متتابعا غزيرا .
(2) أى شدة الحر .
(3) الوقر ـ بكسر الواو ـ: الحمل الثقيل .
(4) أى جاهروا .
(5) أى السرعة . وتقدم بيانها . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 397 _
  وكذا ، ولو أردنا قتالكم (1) في حال نومكم لتهيأ لنا ولكنا كرهنا البغي عليكم ، فانصرفوا عنا وإلا دعونا عليكم بمحمد وآله ، واستنصرنا بهم أن يخزيكم (2) كما قد أطعمنا وأسقانا .
  فأبوا إلا طغيانا فدعوا الله بمحمد وآله واستنصروا بهم .
  ثم برز الثلاثمائة إلى (الناس للقاء) (3) فقتلوا منهم وأسروا ، وطحطحوهم (4) واستوثقوا منهم باسرائهم ، فكانوا لا ينداهم (5) مكروه من جهتهم لخوفهم على من لهم في أيدي اليهود .
  فلما ظهر محمد (صلى الله عليه وآله) حسدوه ، إذ كان من العرب ، فكذبوه ، (6)

دحر ابليس واعوانه بمحمد وآله صلوات عليهم اجمعين :

   270 ـ ثم قال رسول الله: هذه نصرة الله تعالى لليهود على المشركين بذكرهم لمحمد وآله .
  ألا فاذكروا يا امة محمد ، محمدا وآله عند نوائبكم وشدائدكم لينصر الله به ملائكتكم على الشياطين الذين يقصدونكم .
  فان كل واحد منكم معه ملك عن يمينه يكتب حسناته ، وملك عن يساره يكتب سيئاته ، ومعه شيطانان من عند إبليس يغويانه ، فاذا وسوسا في قلبه ، ذكر الله وقال : لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، وصلى الله على محمد وآله الطيبين ، خنس الشيطانان ثم صارا إلى إبليس فشكواه وقالا له : قد أعيانا أمره ، فامددنا بالمردة .

--------------------
(1) ( قتلكم ) ب ، س ، ط .
(2) ( يحرقكم ) خ ل ، ط .
(3) ( ثلاثين ألفا ) البحار .
(4) أى كسروهم .
(5) (ينالهم ) البحار ، والبرهان ، وكلاهما بمعنى واحد .
(6) عنه البحار : 94/ 10 ضمن ح 11 ، والبرهان : 1/ 126 ضمن ح 1 . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 398_
  فلا يزال يمدهما حتى يمدهما بألف مارد ، فيأتونه ، فكلما راموه ذكر الله، وصلى على محمد وآله الطيبين لم يجدوا عليه طريقا ولا منفذا .
  قالوا لابليس : ليس له غيرك تباشره بجنودك فتغلبه وتغويه ، فيقصده إبليس بجنوده .
  فيقول الله تعالى للملائكة : ( هذا إبليس قد قصد عبدي فلانا ، أو أمتي فلانة بجنوده ألا فقاتلوهم ) فيقاتلهم بازاء كل شيطان رجيم منهم ، مائة ـ ألف ـ ملك ، وهم على أفراس من نار بأيديهم سيوف من نار ورماح من نار ، وقسي ونشاشيب (1) وسكاكين وأسلحتهم من نار ، فلا يزالون بخرجونهم ويقتلونهم بها ، ويأسرون إبليس ، فيضعون عليه تلك الاسلحة فيقول : يا رب وعدك وعدك ، قد أجلتني إلى يوم الوقت المعلوم .
  فيقول الله تعالى للملائكة : ( وعدته أن لا اميته ، ولم أعده أن لا اسلط عليه السلاح والعذاب والآلام، اشتفوا (2) منه ضربا بأسلحتكم فاني لا اميته ) فيثخنونه بالجراحات ثم يدعونه ، فلا يزال سخين العين (3) على نفسه وأولاده المقتولين ، ولا يندمل شئ من جراحاته إلا بسماعه أصوات المشركين بكفرهم .
  فان بقي هذا المؤمن على طاعة الله وذكره ، والصلاة على محمد وآله ، بقي على إبليس تلك الجراحات ، وإن زال العبد عن ذلك ، وانهمك في مخالفة الله عزوجل ومعاصيه ، اندملت جراحات إبليس ، ثم قوي على ذلك العبد حتى يلجمه ويسرج على ظهره ويركبه ، ثم ينزل عنه ويركب على ظهره شيطانا من شياطينه ، ويقول لاصحابه : أما تذكرون ما أصابنا من شأن هذا ؟ ذل وانقاد لنا الآن حتى صار يركبه هذا .
  ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : فان أردتم أن تديموا على إبليس سخنة عينه وألم جراحاته فداوموا على طاعة الله وذكره ، والصلاة على محمد وآله ، وإن زلتم عن ذلك كنتم

--------------------
(1) أى سهام .
(2) يقال : تشفى ـ بتشديد الفاء ـ من فلان : اذا نكى في عدوه نكاية تسره .
(3) كناية عن دوام بكائه . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 399 _
  اسراء إبليس فيركب أقفيتكم (1) بعض مردته (2) .
  271 ـ وقال امير المؤمنين (عليه السلام) : وكان قضاء الحوائج وإجابة الدعاء ، إذا سئل الله بمحمد وعلي وآلهما (عليهم السلام) ، مشهورا في الزمن السالف ، حتى أن من طال به البلاء قيل : هذا طال بلاؤه ، لنسيانه الدعاء لله بمحمد وآله الطيبين .
  ولقد كان من عجيب الفرج بالدعاء بهم : فرج ثلاثة نفر كانوا يمشون في صحراء إلى جانب جبل ، فأخذتهم السماء (3) فألجأتهم إلى غار كانوا يعرفونه ، فدخلوه يتوقون به من المطر ، وكان فوق الغار صخرة عظيمة تحتها مدرة ، هي راكبتها ، فابتلت المدرة فتدحرجت الصخرة فصارت في باب الغار ، فسدته وأظلم عليهم المكان .
  وقال بعضهم لبعض : قد عفا الاثر (4) ودرس الخبر (5) ولا يعلم بنا أهلونا ، ولو علموا لما أغنوا عنا شيئا لانه لا طاقة للادميين بقلب هذه الصخرة عن هذا الموضع ، هذا والله قبرنا الذي فيه نموت ، ومنه نحشر .
  ثم قال بعضهم لبعض : أوليس موسى بن عمران (عليه السلام) ومن بعده من الانبياء أمروا أنه إذا دهتنا داهية أن ندعوا الله بمحمد وآله الطيبين ؟ قالوا : بلى .
  قالوا : فلا نعرف داهية أعظم من هذه .
  فقالوا : ـ تعالوا ـ ندعوا الله بمحمد الاشرف الافضل وبآله الطيبين ويذكر كل واحد منا حسنة من حسناته التي أراد الله بها ، فلعل الله أن يفرج عنا .
  فقال احدهم : اللهم إن كنت تعلم أني كنت رجلا كثير المال ، حسن الحال أبني القصور ، والمساكن والدور ، وكان لي اجراء ، وكان فيهم رجل يعمل عمل رجلين

--------------------
(1) أى أعناقكم .
(2) عنه البحار : 63/ 271 ح 158 ، وج 94/ 12 ضمن ح 11 ، والبرهان : 1/ 127 ذ ح 1 .
(3) ( فأخذ بهم السيل ) ب ، ط .
(4) عفا أثر فلان : هلك .
(5) درس الشئ : ذهب أثره . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 400 _
  فلما كان عند المساء عرضت عليه اجرة واحدة ، فامتنع ، وقال : إنما عملت عمل رجلين فأنا أبتغي اجرة رجلين .
  فقلت له : إنما اشترطت (1) عمل رجل ، والثاني فأنت به متطوع لا اجرة لك .
  فذهب وسخط (2) ذلك ، وتركه علي ، فاشتريت بتلك الاجرة حنطة ، فبذرتها ، فزكت ونمت ، ثم أعدت ما ارتفع في الارض فعظم زكاؤها ونماؤها ، ثم أعدت بعد ما ارتفع - من الثاني ـ في الارض، فعظم النماء والزكاء ، ثم ما زلت هكذا حتى ـ إني ـ عقدت به الضياع والقصور والقرى والدور والمنازل والمساكن ، وقطعان (3) الابل والبقر والغنم وصوار (4) العير والدواب ، والاثاث والامتعة ، والعبيد والاماء ، والفرش والآلات والنعم الجليلة ، والدراهم والدنانير الكثيرة .
   فلما كان بعد سنين مر بي ذلك الاجير ، وقد ساءت حاله وتضعضعت ، واستولى عليه الفقر ، وضعف بصره ، فقال لي : ياعبدالله أما تعرفني ؟ أنا أجيرك الذي سخطت اجرة واحدة ذلك اليوم ، وتركتها لغنائي عنها ، وأنا اليوم فقير ـ وقد صرت كما ترى ـ وقد رضيت بها ، فأعطنيها .
  فقلت له : دونك هذه الضياع والقرى والقصور والدور والمنازل والمساكن وقطعان الابل والبقر والغنم وصوار العير والدواب ، والاثاث والامتعة ، والعبيد والاماء والفرش والآلات والنعم الجليلة ، والدراهم والدنانير الكثيرة ، فتناولها إليك أجمع مباركا ، فهي لك .
  فبكى وقال لي : يا عبدالله سوفت حقي ما سوفت ، ثم أنت الآن تهزأ بي! ؟ فقلت :( ما أهزأ بك ، وما أنا إلا جاد مجد ، هذه كلها نتائج اجرتك تلك ، تولدت عنها

--------------------
(1) ( شرطت عليك ) ص ، والبحار .
(2) سخط الشئ : كرهه .
(3) ( قطيعات ) أ ، وكذا بعدها .
(4) بالضم والتشديد : القطيع ، والعير : قافلة الحمير ، واطلقت على كل قافلة . (*)