سترا ، وأرادت التزويج به ، فاشتد حسد ابني عمه الآخرين له ـ غيضا ـ ، وغبطاه عليها لايثارها إياه (1) فعمدا إلى ابن عمهما المرضي ، فأخذاه إلى دعوتهما ، ثم قتلاه وحملاه إلى محلة تشتمل على أكثر قبيلة في بني إسرائيل ، فألقياه بين أظهرهم ليلا .
  فلما أصبحوا وجدوا القتيل هناك ، فعرف حاله ، فجاء ابنا عمه القاتلان له ، فمزقا ـ ثيابهما ـ (2) على أنفسهما ، وحثيا التراب على رؤوسهما ، واستعديا عليهم ، فأحضرهم موسى (عليه السلام) وسألهم ، فأنكروا أن يكونوا قتلوه ، أو علموا قاتله .
  فقال : فحكم الله عزوجل على من فعل هذه الحادثه ما عرفتموه ، فالتزموه .
  فقالوا : يا موسى أي نفع في أيماننا ـ لنا ـ (3) إذا لم تدرأ عنا الغرامة الثقيلة ؟ أم أي نفع في غرامتنا لنا إذا لم تدرأ عنا الايمان ؟ فقال موسى (عليه السلام) : كل النفع في طاعة الله والايتمار لامره ، والانتهاء عما نهى عنه .
  فقالوا : يا نبي الله غرم ثقيل ولا جناية لنا ، وأيمان غليظة ولا حق في رقابنا ـ لو ـ أن الله عرفنا قاتله بعينه ، وكفانا مؤنته ، فادع لنا ربك يبين لنا هذا القاتل لتنزل به ما يستحقه من العقاب ، وينكشف أمره لذوي الالباب .
  فقال موسى (عليه السلام) : إن الله عزوجل قد بين ما أحكم به في هذا ، فليس لي أن أقترح عليه غير ما حكم ، ولا أعترض عليه فيما أمر .
  ألا ترون أنه لما حرم (4) العمل في يوم السبت ، وحرم لحم الجمل لم يكن لنا

--------------------
(1) ( من اثرتها اياه ) أ ، س ، ص ، ق ، ( من آثرته ) ب ، ط ، د ، وما في المتن كما في البحار .
(2) من البرهان .
(3) من البحار ، ق .
(4) لقد أشبعنا موضوع تحريم العمل يوم السبت ، وتحريم لحم الجمل ، دراسة وبحثا وتحليلا في كتابنا ( المدخل إلى التفسير الموضوعى للقرآن الكريم حسب التسلسل الطبيعى للموضوع ) ج 1/ 36 وج 2/ 164 ـ 172 فراجع .
ففيه تجد ابطال ما قالته اليهود ـ كما عن التوراة المحرفة ـ من أنه تعالى أصابه اعياء ولغوب ، فراح يستريح من عمله يوم السبت ، تعالى عن ذلك علوا كبيرا ، وانما جعل < (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام)_ 276 _

  أن نقترح عليه أن يغير ماحكم به علينا من ذلك ، بل علينا أن نسلم له حكمه ، ونلتزم ما ألزمنا ، وهم بأن يحكم عليهم بالذي كان يحكم به على غيرهم في مثل حادثهم فأوحى الله عزوجل إليه : يا موسى أجبهم إلى ما اقترحوا ، وسلني أن ابين لهم القاتل ليقتل ، ويسلم غيره من التهمة والغرامة ، فاني إنما اريد باجابتهم إلى ما اقترحوا توسعة الرزق على رجل من خيار امتك ، دينه الصلاة على محمد وآله الطيبين ، والتفضيل لمحمد (صلى الله عليه وآله) وعلي بعده على سائر البرايا ، اغنية في الدنيا في هذه القضية ، ليكون بعض ثوابه عن تعظيمه لمحمد وآله .
  فقال موسى : يا رب بين لنا قاتله .
  فأوحى الله تعالى إليه : قل لبني إسرائيل إن الله يبين لكم ذلك بأن يأمركم أن تذبحوا بقرة ، فتضربوا ببعضها المقتول فيحيى فتسلمون لرب العالمين ذلك ، وإلا فكفوا عن المسألة ، والتزموا ظاهر حكمي .
  فذلك ما حكى الله عزوجل : (وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم ـ أي سيأمركم ـ أن تذبحوا بقرة) إن أردتم الوقوف على القاتل ، وتضربوا المقتول ببعضها ليحيى ويخبر بالقاتل (قالوا ـ يا موسى ـ أتتخذنا هزوا) ـ و ـ سخرية ؟ تزعم أن الله يأمرنا أن نذبح بقرة ، ونأخذ قطعة من ميت ، ونضرب بها ميتا ، فيحيى أحد الميتين بملاقات بعض الميت الآخر

--------------------
> التحريم من الله على الذين اختلفوا فيه ـ وقال لا تعدوا في السبت ـ لبغيهم على الله وافترائهم بالتحريم على أنفسهم ابتداء ، فأجابهم الله ابتلاء ـ ثم أخذهم بما اعتدوا في السبت ـ وهكذا في تحريم الطيبات ، والحاصل أن كليهما كان حلالا من الله، فحرموه على أنفسهم بغيا ، ثم حرمه الله عليهم لبغيهم وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ، فراجع البحث بطوله . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 277 _
  ـ له ـ ، فكيف يكون هذا ؟ (قال ـ موسى ـ أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين) أنسب إلى الله تعالى مالم يقل لي ، وأن أكون من الجاهلين ، اعارض أمر الله بقياسي على ما شاهدت ، دافعا لقول الله عزوجل وأمره .
  ثم قال موسى (عليه السلام) : أو ليس ماء الرجل نطفة ميتة (1) ، وماء المرأة كذلك ، ميتان يلتقيان فيحدث الله تعالى من التقاء الميتين بشرا حيا سويا ؟ أو ليس بذوركم (2) التي تزرعونها في أرضيكم تتفسخ وتتعفن وهي ميتة ، ثم يخرج الله منها هذه السنابل الحسنة البهيجة وهذه الاشجار الباسقة المونقة ؟ فلما بهرهم موسى (عليه السلام) قالوا له : يا موسى (ادع لنا ربك يبين لنا ما هي) ـ أي ـ ما صفتها لنقف عليها .
  فسأل موسى ربه عزوجل ، فقال : (إنها بقرة لا فارض) كبيرة (ولا بكر) صغيرة ـ لم تغبط ـ (3) (عوان) وسط (بين ذلك) بين الفارض والبكر (فافعلوا ما تؤمرون) إذا امرتم به .
  (قالوا ـ يا موسى ـ ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها) أي لون هذه البقرة التي تريد أن تأمرنا بذبحها .

--------------------
(1) أى الظاهر في عصرهم ، والا ففي الحقيقة وعصر العلم هى ذرات حية كشف عنها العلم الحاضر ويمكن مشاهدتها بالمجهر ، وقد أشار اليها عزوجل في قوله : ( خلق الانسان من نطفة ) النحل : 4 .
(2) ( زروعكم ) أ .
(3) ليس في البحار ، وفي ب ، وخ ل البرهان ( تفرض ) بدل تغبط ، يقال : غبط الشاة اذا لمس منها الموضع الذى يعرف به سمنها من هزالها (النهاية : 3/ 341) ، والظاهر أنه كناية عن حداثة سنها وعدم انتقالها من شخص لاخر خلال عمليات بيع وشراء ، وفرضت البقرة : طعنت في السن . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 278 _
  قال ـ موسى ـ ـ عن الله بعد السؤال والجواب ـ (إنها بقرة صفراء فاقع) حسن الصفرة (1) ليس بناقص يضرب إلى البياض ، ولا بمشبع يضرب إلى السواد (لونها) هكذا فاقع (تسر ـ البقرة ـ الناظرين) إليها لبهجتها وحسنها وبريقها .
  (قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي) ما صفتها ؟ ـ يزيد في صفتها ـ .
  (قال ـ عن الله تعالى ـ إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الارض) لم تذلل لاثارة الارض (2) ولم ترض (3) بها (ولا تسقي الحرث) ولا هي مما تجر الدلاء ، ولا تدير النواعير قد أعفيت من ذلك أجمع (مسلمة) من العيوب كلها ، لا عيب فيها (لاشية فيها) لا لون فيها من غيرها .
  فلما سمعوا هذه الصفات قالوا : يا موسى ـ أ ـ (4) فقد أمرنا ربنا بذبح بقرة هذه صفتها ؟ قال : بلى .
  ولم يقل موسى في الابتداء (إن الله قد أمركم) لانه لو قال : إن الله أمركم (5) لكانوا إذا قالوا : ادع لنا ربك يبين لنا ماهي وما لونها ـ وما هي ـ كان لا يحتاج أن يسأله ـ ذلك ـ عزوجل ، ولكن كان يجيبهم هو بأن يقول : أمركم ببقرة ، فأي شئ وقع عليه اسم بقرة فقد خرجتم من أمره إذا ذبحتموها .
--------------------
(1) ( حسنة لون الصفراء ) أ .
(2) أثاروا الارض: أى قلبوها للزراعة وعمروها بالفلاحة .
(3) ( تربص ) خ ل ، ابل رضارض : راتعة ، كانها ترض العشب ، والرض : دق الشئ ، وتربص بالمكان : لبث .
(4) من البحار ، ق ، د .
(5) ( يأمركم ) البحار ، قال المجلسى (ره) : حاصله أنه (عليه السلام) حمل قوله تعالى ( ان الله يأمركم ) على حقيقة الاستقبال ، ولذا فسره بقوله سيأمركم ، فوعدهم أولا بالامر ، ثم بعد سؤالهم وتعيين البقرة أمرهم ، ولو قال موسى أولا بصيغة الماضى أمركم أن تذبحوا لتعلق الامر بالحقيقة ، وكان يكفى أى بقرة كانت... أقول : للشريف المرتضى مجلس في تأويل هذه الاية ، راجع أماليه : 2/ 36 . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 279 _
  قال : فلما استقر (1) الامر عليهم ، طلبوا هذه البقرة فلم يجدوها إلا عند شاب من بني إسرائيل أراه الله عزوجل في منامه محمدا وعليا وطيبي ذريتهما ، فقالا له : إنك كنت لنا ـ وليا ـ محبا ومفضلا ، ونحن نريد أن نسوق إليك بعض جزائك في الدنيا ، فاذا راموا شراء بقرتك فلا تبعها إلا بأمر امك ، فان الله عزوجل يلقنها ما يغنيك به وعقبك .
  ففرح الغلام ، وجاءه القوم يطلبون بقرته ، فقالوا : بكم تبيع بقرتك هذه ؟ قال : بدينارين ، والخيار لامي .
   قالوا : قد رضينا ـ بدينار ـ ، فسألها ، فقالت : بأربعة .
  فأخبرهم فقالوا : نعطيك دينارين ، فأخبر امه ، فقالت : بثمانية ، (2) فما زالوا يطلبون على النصف ، مما تقول امه ، ويرجع إلى امه ، فتضعف الثمن حتى بلغ ثمنها ملء مسك (3) ثور أكبر ما يكون ملؤه (4) دنانير ، فأوجب لهم البيع .
  ثم ذبحوها ، وأخذوا قطعة وهي عجز (5) الذنب الذي منه خلق ابن آدم ، وعليه يركب إذا اعيد خلقا جديدا ، فضربوه بها ، وقالوا : اللهم بجاه محمد وآله الطيبين لما أحييت هذا الميت ، وأنطقته ليخبرنا عن قاتله .
  فقام سالما سويا وقال : ـ يا نبي الله ـ قتلني هذان ابنا عمي ، حسداني على بنت عمي فقتلاني ، وألقياني في محلة هؤلاء ليأخذا ديتي ـ منهم ـ .
  فأخذ موسى (عليه السلام) الرجلين فقتلهما ، وكان قبل أن يقوم الميت ضرب بقطعة من البقرة فلم يحي ، فقالوا : يا نبي الله أين ما وعدتنا عن الله عزوجل ؟ فقال موسى (عليه السلام) : ـ قد ـ صدقت ، وذلك إلى الله عزوجل .

--------------------
(1) أى : ثبت عليهم .
(2) ( بمائة ) س ، ق ، د والبحار .
(3) أى جلد .
(4) كذا في البحار ، وفى الاصل : ملاء ، وليس في التأويل .
(5) ( عجب ) البحار ، وهو أصل الذنب عند رأس العصعص . (*)


تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 280 _
  فأوحى الله تعالى إليه : يا موسى إني لا اخلف وعدي ، ولكن ليقدموا للفتى ثمن بقرته ملء مسكها دنانير ثم احيي هذا .
  فجمعوا أموالهم ، فوسع الله جلد الثور حتى وزن ما ملئ به جلده فبلغ خمسة آلاف ألف دينار .
  فقال بعض بني إسرائيل لموسى (عليه السلام) ـ وذلك بحضرة (1) المقتول المنشور المضروب ببعض البقرة ـ: لا ندري أيهما أعجب : إحياء الله هذا وإنطاقه بما نطق (2) أو اغناؤه لهذا الفتى بهذا المال العظيم ! فأوحى الله إليه : يا موسى قل لبني إسرائيل : من أحب منكم أن اطيب في الدنيا (3) عيشه ، واعظم في جناني محله ، وأجعل لمحمد وآله الطيبين فيها منادمته ، فليفعل كما فعل هذا الفتى ، إنه كان قد سمع من موسى بن عمران (عليه السلام) ذكر محمد (صلى الله عليه وآله) وعلي وآلهما الطيبين ، فكان عليهم مصليا ، ولهم على جميع الخلائق من الجن والانس والملائكة مفضلا ، فلذلك صرفت إليه هذا المال العظيم ليتنعم (4) بالطيبات ويتكرم بالهبات والصلاة ، ويتحبب بمعروفه إلى ذوي المودات ، ويكبت (5) بنفقاته ذوي العداوات .
  قال الفتى : يا نبي الله كيف أحفظ هذه الاموال ؟ أم كيف أحذر من عداوة من يعاديني فيها، وحسد من يحسدني لاجلها ؟ قال : قل عليها من الصلاة على محمد وآله الطيبين ما كنت تقوله قبل أن تنالها ، فان الذي رزقكها بذلك القول مع صحة الاعتقاد يحفظها عليك أيضا (بهذا القول مع صحة الاعتقاد) (6) .

--------------------
(1) ( بمحضر ) أ ، المحضر : المشهد .
(2) ( قال لبني اسرائيل ) أ .
(3) ( دنياه ) أ ، والبرهان .
(4) ( لينتفع ) ب ، ط ، د .
(5) ( يكب ) ب ، ط ، كبته كبتا : أذله ، أهانه ، وكب الرجل : صرعه .
(6) ( ويدفع عنك ) البرهان . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 281 _
  فقالها الفتى فما رامها حاسد ـ له ـ ليفسدها ، أو لص ليسرقها ، أو غاصب ليغصبها ، إلا دفعه الله عزوجل عنها بلطف من ألطافه (1) حتى يمتنع من ظلمه اختيارا أو منعه منه بآفة أو داهية حتى يكفه عنه ، فيكف أضطرارا .
  ـ قال (عليه السلام) : ـ فلما قال موسى (عليه السلام) للفتى ذلك وصار الله عزوجل له - لمقالته ـ حافظا ، قال هذا المنشور : اللهم إني أسألك بما سألك به هذا الفتى من الصلاة على محمد وآله الطيبين والتوسل بهم أن تبقيني في الدنيا متمتعا بابنة عمي وتجزي (2) عني أعدائي وحسادي ، وترزقني فيها ـ خيرا ـ (3) كثيرا طيبا .
  فأوحى الله إليه : يا موسى إنه كان لهذا الفتى المنشور بعد القتل ستون سنة ، وقد وهبت له بمسألته وتوسله بمحمد وآله الطيبين سبعين سنة تمام مائة وثلاثين سنة صحيحة حواسه ، ثابت فيها جنانه (4) ، قوية فيها شهواته ، يتمتع بحلال هذه الدنيا ويعيش ولا يفارقها ولا تفارقه ، فاذا حان (5) حينه ـ حان حينها ـ وماتا جميعا ـ معا ـ فصارا إلى جناني ، وكانا زوجين فيها ناعمين .
  ولو سألني ـ يا موسى ـ هذا الشقي القاتل بمثل ما توسل به هذا الفتى على صحة اعتقاده أن أعصمه من الحسد ، وأقنعه بما رزقته ـ وذلك هو الملك العظيم ـ لفعلت .
  ولو سألني بذلك مع التوبة من صنعه أن لا أفضحه لما فضحته ، ولصرفت هؤلاء عن اقتراح إبانة القاتل ، ولاغنيت هذا الفتى من غير ـ هذا الوجه بقدر ـ هذا المال أوجده (6) .

--------------------
(1) ( بلطيفة من لطائفه ) أ ، ب ، س ، ط .
(2) ( تخزى ) البحار : 13 .
(3) من البحار ، وفى التأويل بلفظ : منها أولادا.
(4) الجنان ـ بفتح الجيم ـ : القلب .
(5) ( جاء ) أ ، الحين : الموت والهلاك ، وحان : قرب وقته .
(6) أوجد الله فلانا : أغناه وقواه ، وفى ( أ ) : الذى أوجده . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 282_
  ولو سألني بعد ما افتضح ، وتاب إلى، وتوسل بمثل وسيلة هذا الفتى أن انسى الناس فعله ـ بعدما ألطف لاوليائه فيعفونه عن القصاص ـ لفعلت ، فكان لا يعيره بفعله أحد ولا يذكره فيهم ذاكر ، ولكن ذلك فضل (1) اوتيه من أشاء ، وأنا ذو الفضل العظيم وأعدل بالمنع على من أشاء ، وأنا العزيز الحكيم .
  فلما ذبحوها قال الله تعالى : (فذبحوها وما كادوا يفعلون) فأرادوا أن لايفعلوا ذلك من عظم ثمن البقرة ، ولكن اللجاج (2) حملهم على ذلك ، واتهامهم لموسى (عليه السلام) حدأهم (3) عليه .
  ـ قال : ـ فضجوا إلى موسى (عليه السلام) وقالوا : فتقرت القبيلة ودفعت إلى التكفف وانسلخنا بلجاجنا عن قليلنا وكثيرنا (4) فادع الله لنا بسعة الرزق .
  فقال موسى (عليه السلام) : ويحكم ما أعمى قلوبكم ؟ أما سمعتم دعاء الفتى صاحب البقرة وما أورثه الله تعالى من الغنى ؟ أو ما سمعتم دعاء ـ الفتى ـ المقتول المنشور ، وما أثمر له من العمر الطويل والسعادة والتنعم والتمتع بحواسه وسائر بدنه وعقله ؟ لم لا تدعون الله تعالى بمثل دعائهما ، وتتوسلون إلى الله بمثل توسلهما (5) ليسد فاقتكم ، ويجبر كسركم ، ويسد خلتكم ؟ فقالوا : اللهم إليك التجأنا ، وعلى فضلك اعتمدنا ، فأزل فقرنا وسد خلتنا بجاه محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين والطيبين من آلهم .
  فأوحى الله إليه : ياموسى قل لهم : ليذهب رؤساؤهم إلى خربة بني فلان ، ويكشفوا في موضع كذا ـ لموضع عينه ـ وجه أرضها قليلا ، ثم يستخرجوا ماهناك ، فانه عشرة آلاف ألف دينار ، ليردوا على كل من دفع في ثمن هذه البقرة ما دفع ، لتعود

--------------------
(1) أى التوسل بمحمد (صلى الله عليه وآله) الطيبين ، وفى ( ب ، س ، ط ، ق ، د ، والبرهان ) فضلى .
(2) أى الالحاح .
(3) ( جرهم ) ب ، ط ، حدأ : لجأ .
(4) كناية عن الافلاس الذى أصابهم .
(5) ( وسيلتهما ) أ ، س ، ص ، ق ، د . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 283 _
  أحوالهم إلى ما كانت ـ عليه ـ ثم ليتقاسموا بعد ذلك مايفضل وهو خمسة آلاف ألف دينار على قدر ما دفع كل واحد منهم في هذه المحنة (1) لتتضاعف أموالهم جزاء على توسلهم بمحمد وآله الطيبين ، واعتقادهم لتفضيلهم .
  فذلك ما قال الله عزوجل : (وإذ قتلتم نفسا فادارءتم فيها) اختلفتم فيها وتدارأتم ، ألقى بعضكم الذنب في قتل المقتول على بعض ، ودرأه عن نفسه وذويه (والله مخرج) مظهر (ما كنتم تكتمون) ما كان من خبر القاتل ، وماكنتم تكتمون من إرادة تكذيب موسى (عليه السلام) باقتراحكم عليه ما قدرتم أن ربه لا يجيبه إليه .
  (فقلنا اضربوه ببعضها) ببعض البقرة (كذلك يحيي الله الموتى) في الدنيا والاخرة كما أحيى الميت بملاقاة ميت آخر له .
  أما في الدنيا فيلاقي ماء الرجل ماء المرأة فيحيي الله الذي كان في الاصلاب والارحام حيا .
  وأما في الاخرة فان الله تعالى ينزل بين نفختي الصور ـ بعد ما ينفخ النفخة الاولى من دوين (2) السماء الدنيا ـ من البحر المسجور الذي قال الله تعالى ـ فيه ـ (والبحر المسجور) (3) وهي (4) مني كمني الرجال ، فيمطر ذلك على الارض فيلقى الماء المني مع الاموات البالية فينبتون من الارض ويحيون .
  ثم قال الله عزوجل : (ويريكم آياته) سائر آياته سوى هذه الدلالات على توحيده ونبوة موسى (عليه السلام) نبيه ، وفضل محمد (صلى الله عليه وآله) على الخلائق سيد إمائه وعبيده ، وتبيينه (5) فضله وفضل آله الطيبين على سائر خلق الله أجمعين .
  (لعلكم تعقلون) ـ تعتبرون و ـ تتفكرون أن الذي يفعل هذه العجائب لا يأمر

--------------------
(1) ( الخمسه ) أ .
(2) ( دون ) ب ، ط .
(3) الطور : 6 .
(4) ( هو ) ب ، ط ، ق ، د ( وهى من ) البحار .
(5) ( وتثبت ) التأويل والبرهان . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 284 _
  الخلق إلا بالحكمة ، ولا يختار محمدا وآله إلا لانهم أفضل ذوي الالباب (1).
  قوله عزوجل : ( ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهى كالحجارة أو أشد قسوة وان من الحجارة لما يتفجر منه الانهار وان منها لما يشقق فيخرج منه الماء وان منها لما يهبط من خشية الله وماالله بغافل عما تعملون : ) 74 141 ـ قال الامام (عليه السلام) : قال الله عزوجل : (ثم قست قلوبكم) عست (2) وجفت ويبست من الخير والرحمة ـ قلوبكم ـ معاشر اليهود (من بعد ذلك) من بعد ما بينت من الآيات الباهرات في زمان موسى (عليه السلام) ، ومن الآيات المعجزات التي شاهدتموها من محمد .
  (فهي كالحجارة) اليابسة لا ترشح برطوبة ، ولا ينتفض (3) منها ما ينتفع به ، أي أنكم لا حق الله تعالى تؤدون ، ولا ـ من ـ أموالكم ولا من مواشيها تتصدقون ، ولا بالمعروف تتكرمون وتجودون ، ولا الضيف تقرؤن ، ولا مكروبا تغيثون ، ولا بشئ من الانسانية تعاشرون وتعاملون .
  (أو أشد قسوة) إنما هي في قساوة الاحجار (أو أشد قسوة) أبهم على السامعين ولم يبين لهم ، كما يقول القائل : أكلت خبزا أو لحما ، وهو لا يريد به أني لا أدري ما أكلت ، بل يريد ـ به ـ أن يبهم على السامع حتى لا يعلم ماذا أكل ، وإن كان يعلم أنه قد أكل .
  وليس معناه : بل أشد قسوة ، لان هذا استدراك غلط ، وهو عزوجل يرتفع ـ عن ـ

--------------------
(1) عنه تأويل الايات : 1/ 67 ح 44 باختصار ، والبحار : 6/ 329 ح 13 (قطعة) ، وج 7/ 43 ح 19 (قطعة) ، وج 13/ 266 ح 7 ، وج 60/ 358 ح 46 (قطعة) ، والبرهان : 1/ 108 ح 1 .
(2) ( عبست ) أ ، ( عصت ) ص ، ( عنت ) ط ، ( غشت ) البرهان ، عسى النبات عساء وعسوا : غلظ ويبس .
(3) نفض الكرم : تفتحت عناقيده . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 285 _
  أن يغلط في خبر ثم يستدرك على نفسه الغلط ، لانه العالم بما كان وبما يكون وبما لا يكون أن لو كان كيف كان يكون ، وإنما يستدرك الغلط على نفسه المخلوق المنقوص .
  ولا يريد به أيضا : فهي كالحجارة أو أشد أي وأشد قسوة ، لان هذا تكذيب الاول بالثاني ، لانه قال : (فهي كالحجارة) في الشدة لا أشد منها ولا ألين ، فاذا قال بعد ذلك : (أو أشد) فقد رجع عن قوله الاول: أنها ليست بأشد ، وهذا مثل أن يقول : لا يجئ من قلوبكم خير لا قليل ولا كثير .
  فأبهم عزوجل في الاول حيث قال : (أو أشد) .
  وبين في الثاني أن قلوبهم أشد قسوة من الحجارة لا بقوله : (أو أشد قسوة) ولكن بقوله تعالى : (وإن من الحجارة لما يتفجر منه الانهار) أي فهي في القساوة بحيث لا يجئ منها الخير ـ يا يهود ـ وفي الحجارة ما يتفجر منه الانهار فيجئ بالخير والغياث لبني آدم .
  (وإن منها) من الحجارة (لما يشقق فيخرج منه الماء) وهو ما يقطر منه الماء فهو خير منها دون الانهار التي يتفجر من بعضها ، وقلوبهم لا يتفجر منها الخيرات ولا يشقق فيخرج ـ منها ـ قليل من الخيرات ، وإن لم يكن كثيرا .
  ثم قال الله تعالى : (وإن منها) يعني من الحجارة (لما يهبط من خشية الله) إذا أقسم عليها باسم الله وبأسامي أوليائه : محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين والطيبين من آلهم صلى الله عليهم ، وليس في قلوبكم شئ من هذه الخيرات .
  (وما الله بغافل عما تعملون) بل عالم به ، يجازيكم عنه بما هو به عادل عليكم وليس بظالم لكم ، يشدد حسابكم ، ويؤلم عقابكم .
  وهذا الذى ـ قد ـ وصف الله تعالى به قلوبهم ههنا نحو ما قال في سورة النساء :(أم لهم نصيب من الملك فاذا لا يؤتون الناس نفيرا) (1) .

--------------------
(1) النساء : 53 . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 286_
  وما وصف به الاحجار ههنا نحو ما وصف (1) في قوله تعالى : (لو أنزلنا هذا القران على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله) (2).
  وهذا التقريع من الله تعالى لليهود والنواصب ، واليهود جمعوا الامرين واقترفوا الخطيئتين (3) فغلظ على اليهود ما وبخهم به رسول الله (صلى الله عليه وآله) .
  فقال جماعة من رؤسائهم ، وذوي الالسن والبيان منهم : يا محمد إنك تهجونا وتدعي على قلوبنا ما الله يعلم منها خلافه ، إن فيها خيرا كثيرا : نصوم ونتصدق ونواسي الفقراء .
  فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : إنما الخير ما اريد به وجه الله تعالى ، وعمل على ما أمر الله تعالى ـ به ـ .
  فأما ما اريد به الرياء والسمعة أو معاندة رسول الله، وإظهار الغنى (4) له والتمالك والتشرف عليه فليس بخير ، بل هو الشر الخالص ، ووبال على صاحبه ، يعذبه الله به أشد العذاب .
  فقالوا له : يا محمد أنت تقول هذا ، ونحن نقول : بل ما ننفقه إلا لابطال أمرك ودفع رياستك (5) ولتفريق أصحابك عنك وهو الجهاد الاعظم ، نؤمل به من الله الثواب الاجل الاجسم ، وأقل أحوالنا أنا تساوينا في الدعاوى ، فأي فضل لك علينا ؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : يا إخوة اليهود إن الدعاوي يتساوى فيها المحقون والمبطلون ولكن حجج الله ودلائله تفرق بينهم ، فتكشف عن تمويه المبطلين ، وتبين عن حقائق المحقين ، ورسول الله محمد لا يغتنم جهلكم ولا يكلفكم التسليم له بغير حجة ولكن يقيم عليكم حجة الله تعالى التي لا يمكنكم دفاعها ، ولا تطيقون الامتناع من

--------------------
(1) ( وصف الله به ) أ .
(2) الحشر : 21 .
(3) ( الخطيرين ) أ ، ( الخطيئتين الخطرين ) ب ، ط .
(4) ( العناد ) البحار .
(5) ( ورفع رسالتك ) أ ، والبرهان . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 287 _
  موجبها ولو ذهب محمد يريكم آية من عنده لشككتم ، وقلتم : إنه متكلف مصنوع محتال فيه ، معمول أو متواطأ عليه ، فاذا اقترحتم أنتم فأراكم ما تقترحون لم يكن لكم أن تقولوا معمول أو متواطأ عليه أو متأتي بحيلة ومقدمات ، فما الذي تقترحون ؟ فهذا رب العالمين قد وعدني أن يظهر لكم ما تقترحون ليقطع معاذير الكافرين منكم ، ويزيد في بصائر المؤمنين منكم .
  قالوا : قد أنصفتنا يا محمد ، فان وفيت بما وعدت من نفسك من الانصاف ، وإلا فأنت أول راجع من دعواك للنبوة ، وداخل في غمار (1) الامة ، ومسلم لحكم التوراة لعجزك عما نقترحه عليك ، وظهور الباطل في دعواك فيما ترومه من جهتك .
  فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : الصدق ينبئ عنكم (2) لا الوعيد ، اقترحوا ما تقترحون ليقطع معاذيركم فيما تسألون .

معجزة عظيمة من معجزات النبى (صلى الله عليه وآله) باقتراح اليهود :

  فقالوا : يا محمد زعمت أنه ما في قلوبنا شئ من مواساة الفقراء ، ومعاونة الضعفاء والنفقة في إبطال الباطل ، وإحقاق الحق ، وأن الاحجار ألين من قلوبنا ، وأطوع لله منا ، وهذه الجبال بحضرتنا ، فهلم بنا إلى بعضها ، فاستشهده على تصديقك وتكذيبنا فان نطق بتصديقك فأنت المحق ، يلزمنا اتباعك ، وإن نطق بتكذيبك أو صمت فلم يرد جوابك ، فاعلم بانك المبطل في دعواك ، المعاند لهواك .
  فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : نعم هلموا بنا إلى أيها شئتم أستشهده ، ليشهد لي عليكم فخرجوا إلى أوعر جبل رأوه ، فقالوا : يا محمد هذا الجبل فاستشهده .

--------------------
(1) أى جماعة الناس ولفيفهم .
(2) ( بينى وبينكم ) البحار : 9 ، قال الميدانى في مجمع الامثال : 398 رقم 2111 ( الصدق ينبئ عنك لا الوعيد ) يقول : انما ينبئ عدوك عنك أن تصدقه في المحاربة وغيرها لا أن توعده ولا تنفذ لما توعد به . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 288 _
  فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) للجبل : إني أسألك بجاه محمد وآله الطيبين الذين بذكر أسمائهم خفف الله العرش على كواهل ثمانية من الملائكة بعد أن لم يقدروا على تحريكه وهم خلق كثير لا يعرف عددهم غير الله عزوجل .
  وبحق محمد وآله الطيبين الذين بذكر أسمائهم تاب الله على آدم ، وغفر خطيئته وأعاده إلى مرتبته .
  وبحق محمد وآله الطيبين الذين بذكر أسمائهم وسؤال الله بهم رفع إدريس في الجنة ـ مكانا ـ عليا ، لما شهدت لمحمد بما أودعك الله بتصديقه على هؤلاء اليهود في ذكر قساوة قلوبهم ، وتكذيبهم وجحدهم لقول محمد رسول الله (صلى الله عليه وآله) .
  فتحرك الجبل وتزلزل ، وفاض منه الماء ونادى : يا محمد أشهد أنك رسول ـ الله ـ رب العالمين ، وسيد الخلائق أجمعين .
  وأشهد أن قلوب هؤلاء اليهود كما وصفت أقسى من الحجارة ، لا يخرج منها خير كما قد يخرج من الحجارة الماء سيلا أو تفجيرا .
  وأشهد أن هولاء كاذبون عليك فيما به يقرفونك (1) من الفرية على رب العالمين ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : وأسألك أيها الجبل ، أمرك الله بطاعتي فيما ألتمسه (2) منك بجاه محمد وآله الطيبين ؟ الذين بهم نجى الله تعالى نوحا (عليه السلام) من الكرب العظيم ، وبرد الله النار على إبراهيم (عليه السلام) وجعلها عليه سلاما (3) ومكنه في جوف النار على سرير وفراش وثير ، لم ير ذلك الطاغية مثله لاحد من ملوك الارض أجمعين وأنبت حواليه من الاشجار الخضرة النضرة النزهة ، وغمر ما حوله من أنواع المنثور (4) بما لا يوجد إلا في فصول أربعة من جميع السنة .

--------------------
(1) ( يعرفونك ) ب ، ط ، ( يقذفونك ) التأويل والبحار ، قرف على القوم : بغى عليهم وكذب .
(2) ( التمسته ) أ ، والبرهان .
(3) ( بردا وسلاما ) أ ، ص ، والبرهان .
(4) ( النور ) البحار : 12 ، وج 17 ، ( الميثور ) أ ، تصحيف ظ ، والمنثور : نبات ذو زهر ذكى الرائحة . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 289 _
  قال الجبل : بلى ، أشهد لك يا محمد بذلك ، وأشهد أنك لو اقترحت على ربك أن يجعل رجال الدنيا قردة وخنازير لفعل ، أو يجعلهم ملائكة لفعل ، وأن يقلب النيران جليدا ، والجليد نيرانا لفعل ، أو يهبط السماء إلى الارض، أو يرفع الارض إلى السماء لفعل ، أو يصير أطراف المشارق والمغارب والوهاد كلها صرة كصرة الكيس لفعل وأنه قد جعل الارض والسماء طوعك ، والجبال والبحار تنصرف بأمرك ، وسائر ما خلق الله من الرياح والصواعق وجوارح الانسان وأعضاء الحيوان لك مطيعة ، وما أمرتها ـ به ـ من شئ ائتمرت .
  فقال اليهود : يا محمد أعلينا تلبس وتشبه ؟! قد أجلست مردة من أصحابك خلف صخور هذا الجبل ، فهم ينطقون بهذا الكلام ، ونحن لا ندري (1) أنسمع من الرجال أم من الجبل! ؟ لا يغتر بمثل هذا إلا ضعفاؤك الذين تبحبح (2) في عقولهم ، فان كنت صادقا فتنح عن موضعك هذا إلى ذلك القرار ، وامر هذا الجبل أن ينقلع من أصله ، فيسير إليك إلى هناك ، فاذا حضرك ـ ونحن نشاهده ـ .
  فأمره أن ينقطع نصفين من ارتفاع سمكه ، ثم ترتفع السفلى من قطعتيه فوق العليا وتنخفض العليا تحت السفلى ، فاذا أصل الجبل قلته وقلته أصله ، لنعلم أنه من الله لا يتفق بمواطأة ، ولا بمعاونة مموهين متمردين .
  فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) ـ وأشار إلى حجر فيه قدر خمسة أرطال ـ: يا أيها الحجر تدحرج ، فتدحرج ، ثم قال لمخاطبه : خذه وقربه من اذنك ، فسيعيد عليك ما سمعت فان هذا جزء من ذلك الجبل .
  فأخذه الرجل ، فأدناه إلى اذنه ، فنطق به الحجر بمثل ما نطق به الجبل أولا من

--------------------
(1) ( ولا تعرف أنحن ) ط .
(2) ( قال المجلسى (ره) : أى تتمكن وتستقر في عقولهم ، من قولهم : بحبح في المكان أى تمكن فيه ، وفى بعض النسخ بالنونين والجيمين من قولهم : تنجنج : اذا تحرك وتجبره (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 290 _
  تصديق رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيما ذكره عن قلوب اليهود ، وفيما أخبر به من أن نفقاتهم في دفع أمر محمد (صلى الله عليه وآله) باطل ، ووبال عليهم .
  فقال ـ له ـ رسول الله (صلى الله عليه وآله) : أسمعت هذا ؟ أخلف هذا الحجر أحد يكلمك ـ ويوهمك أنه يكلمك ؟ ـ قال : لا ، فاتني بما اقترحت في الجبل .
  فتباعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى فضاء واسع ، ثم نادى الجبل : يا أيها الجبل بحق محمد وآله الطيبين الذين بجاههم (ومسألة عباد الله) (1) بهم أرسل الله على قوم عاد ريحا صرصرا عاتية ، تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل خاوية ، وأمر جبرئيل أن يصيح صيحة ـ هائلة ـ في قوم صالح (عليه السلام) حتى صاروا كهشيم المحتظر ، لما انقلعت من مكانك باذن الله، وجئت إلى حضرتي هذه ـ ووضع يده على الارض بين يديه .
  ـ قال : ـ فتزلزل الجبل وسار كالقارح (2) الهملاج حتى ـ صار بين يديه ، و ـ دنا من إصبعه أصله فلزق (3) بها ، ووقف ونادى : ـ ها ـ أنا سامع لك مطيع يا رسول (رب العالمين) (4) وإن رغمت انوف هؤلاء المعاندين مرني بأمرك يا رسول الله.
  فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : إن هؤلاء ـ المعاندين ـ اقترحوا علي أن آمرك أن تنقلع من أصلك ، فتصير نصفين ، ثم ينحط أعلاك ، ويرتفع أسفلك ، فتصير ذروتك أصلك وأصلك ذروتك .
  فقال الجبل : أفتأمرني بذلك يا رسول الله رب العالمين ؟ قال : بلى .
  فانقطع ـ الجبل ـ نصفين وانحط أعلاه إلى الارض، وارتفع أسلفه (5) فوق أعلاه

--------------------
(1) ( عاذ عباد الله، وبهم الوسيلة إلى الله، و ) أ .
(2) ( فصار كالفرس ) أ ، القارح : ذو الحافر من الدواب الذى انتهى به السن ، ودابة هملاج : حسنة السير في سرعة وتبختر .
(3) ( فلصق ) أ ، وكلاهما بمعنى واحد .
(4) ( الله ) أ .
(5) ( أصله ) ب ، ط ، والبرهان . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 291 _
  فصار فرعه أصله ، وأصله فرعه .
  ثم نادى الجبل: معاشر اليهود هذا الذي ترون دون معجزات موسى الذي تزعمون أنكم به مؤمنون! ؟ فنظر اليهود بعضهم إلى بعض فقال بعضهم : ما عن هذا محيص .
  وقال آخرون منهم : هذا رجل مبخوت (1) يؤتى له ، والمبخوت يتأتى له العجائب فلا يغرنكم ما تشاهدون ـ منه ـ .
  فناداهم الجبل : يا أعداء الله قد أبطلتم بما تقولون نبوة موسى (عليه السلام) هلا قلتم لموسى : إن قلب العصا ثعبانا ، وانفلاق البحر طرقا ، ووقوف الجبل كالظلة (2) فوقكم إنك يؤتى لك (3) يأتيك جدك (4) بالعجائب ، فلا يغرنا ما نشاهده منك .
  فألقمتهم الجبال ـ بمقالتها ـ الصخور ، ولزمتهم (5) حجة رب العالمين (6).
  قوله عزوجل : ( أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون ، واذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا واذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله

--------------------
(1) البخت : كلمة فارسية ، وهى الحظ ، والمبخوت الذى يؤاتيه حظه بما يريد .
(2) ( كأنه المظلة ) أ .
(3) ( انما تأتى لك لانك مؤاتى لك ) ب ، س ، ص ، ط ، قال العلامة المجلسى (ره) : المؤاتى بالهمز وقد يقلب واوا من المؤاتات وهى حسن المطاوعة والموافقة .
(4) بالجيم المفتوحة : حظك .
(5) ( فالتقمتهم الجبل بمقالتها (و/ ظ) الصخور وألزمتهم ) أ ، ( فالتقمهم الجبل بمقالتهم الزور ولزمتهم ) التأويل .
(6) عنه مناقب آل أبى طالب : 92 (قطعة) ، وتأويل الايات : 1/ 70 ح 45 باختصار ، والبحار : 9/ 312 ح 11 ، وج 12/ 40 ح 28 (قطعة) ، وج 17/ 335 ضمن ح 16 ، وج 70/ 161 ح 18 صدره والبرهان : 1/ 112 ح 1 ، وأورده في الخرائج والجرائح : 265 (مخطوط) باختصار (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 292 _
  عليكم ليحاجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون ، أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون ) : 75 ـ 77 142 ـ قال الامام (عليه السلام) : فلما بهر رسول الله (صلى الله عليه وآله) هؤلاء اليهود بمعجزته ، وقطع معاذيرهم بواضح دلالته ، لم يمكنهم مراجعته (1) في حجته ، ولا إدخال التلبيس عليه في معجزته فقالوا : يا محمد قد آمنا بأنك الرسول الهادي المهدي ، وأن عليا أخاك هو الوصي والولي .
  وكانوا إذا خلوا باليهود الآخرين يقولون ـ لهم : ـ إن إظهارنا له الايمان به أمكن لنا من (2) مكروهه ، وأعون لنا على اصطلامه (3) واصطلام أصحابه ، لانهم عند اعتقادهم أننا معهم يقفوننا على أسرارهم ، ولا يكتموننا شيئا ، فنطلع عليهم أعداءهم ، فيقصدون أذاهم بمعاونتنا ومظاهرتنا في أوقات اشتغالهم واضطرابهم ، وفي أحوال تعذر المدافعة والامتناع من الاعداء عليهم .
  وكانوا مع ذلك ينكرون على سائر اليهود إخبار الناس عما كانوا يشاهدونه من آياته ، ويعاينونه من معجزاته ، فأظهر الله تعالى محمدا رسول الله (صلى الله عليه وآله) على سوء اعتقادهم ، وقبح ـ أخلاقهم و ـ دخلاتهم (4) وعلى إنكارهم على من اعترف بما شاهده من آيات محمد وواضح بيناته ، وباهر معجزاته .
  فقال عزوجل : يا محمد (أفتطمعون) أنت وأصحابك من علي وآله الطيبين (أن يؤمنوا لكم) هؤلاء اليهود الذين هم بحجج الله قد بهرتموهم ، وبآيات الله ودلائله الواضحة قد قهرتموهم ، أن يؤمنوا لكم ، ويصدقوكم بقلوبهم ، ويبدوا في

--------------------
(1) أى رده .
(2) ( على دفع ) ب ، س ، ط ، ق ، د ، والبرهان .
(3) أى استئصاله .
(4) دخلة الرجل ودخلته ودخيلته ودخيله : نيته ومذهبه وخلده وبطانته ، لان ذلك كله يداخله ، (لسان العرب : 11/ 240) (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 293 _
  الخلوات لشياطينهم شريف أحوالكم .
  (وقد كان فريق منهم) يعني من هؤلاء اليهود من بني إسرائيل (يسمعون كلام الله) في أصل جبل طور سيناء ، وأوامره ونواهيه (ثم يحرفونه) عما سمعوه إذا أدوه إلى من وراءهم من سائر بني إسرائيل (من بعد ما عقلوه) وعلموا أنهم فيما يقولونه كاذبون (وهم يعلمون) أنهم في قيلهم كاذبون .
  وذلك أنهم لما صاروا مع موسى إلى الجبل، فسمعوا كلام الله، ووقفوا على أوامره، ونواهيه ، رجعوا فأدوه إلى من بعدهم فشق عليهم ، فأما المؤمنون منهم فثبتوا على إيمانهم وصدقوا في نياتهم .
  وأما أسلاف هؤلاء اليهود الذين نافقوا رسول الله (صلى الله عليه وآله) في هذه القضية فانهم قالوا لبني إسرائيل : إن الله تعالى قال لنا هذا ، وأمرنا بما ذكرناه لكم ونهانا ، وأتبع ذلك بأنكم إن صعب عليكم ما أمرتكم به فلا عليكم أن ـ لا تفعلوه ، وإن صعب عليكم ما عنه نهيتكم فلا عليكم أن ـ ترتكبوه وتواقعوه .
  ـ هذا ـ وهم يعلمون أنهم بقولهم هذا كاذبون ، ثم أظهر الله تعالى (على نفاقهم الآخر) (1) مع جهلهم .
   فقال عزوجل : (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا) كانوا إذا لقوا سلمان والمقداد وأباذر وعمارا قالوا آمنا كايمانكم ، إيمانا بنبوة محمد (صلى الله عليه وآله) ، مقرونا ـ بالايمان ـ بامامة أخيه علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، وبأنه أخوه الهادي ، ووزيره ـ الموالي ـ (2) وخليفته على امته ومنجز عدته ، والوافي بذمته (3) والناهض بأعباء سياسته ، وقيم الخلق ، والذائد لهم عن سخط الرحمن الموجب لهم ـ إن أطاعوه ـ رضى الرحمن .
  وأن خلفاءه من بعده هم النجوم الزاهرة ، والاقمار المنيرة ، والشموس المضيئة

--------------------
(1) ( نفاقهم على الاخرين ) البحار : 17 .
(2) ( المؤاتى ) البحار : 9 ، وج 70 ، ق ، د ، ( الموافى ) البحار : 17 .
(3) ( بدينه ) خ ل . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 294 _
  الباهرة ، وأن أولياهم أولياء الله، وأن أعداءهم أعداء الله.
  ويقول بعضهم : نشهد أن محمدا صاحب المعجزات ، ومقيم الدلالات الواضحات .
  هو الذى لما تواطأت قريش على قتله ، وطلبوه فقدا (1) لروحه أيبس الله تعالى أيديهم فلم تعمل ، وأرجلهم فلم تنهض ، حتى رجعوا عنه خائبين (2) مغلوبين ، ولو شاء محمد وحده قتلهم أجمعين .
  وهو الذى لما جاءته قريش ، وأشخصته إلى هبل ليحكم عليه بصدقهم وكذبه خر هبل لوجهه ، وشهد له بنبوته ، وشهد لاخيه علي بامامته ، ولاوليائه من بعده بوراثته والقيام بسياسته وإمامته .
  وهو الذى لما ألجأته قريش إلى الشعب ووكلو ببابه من يمنع من إيصال قوت (3) ومن خروج أحد عنه ، خوفا أن يطلب لهم قوتا ، غذى هناك كافرهم ومؤمنهم أفضل من المن والسلوى ، وكل ما اشتهى كل واحد منهم من أنواع الاطعمات الطيبات ، ومن أصناف الحلاوات ، وكساهم أحسن الكسوات ، وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) بين أظهرهم إذا رآهم وقد ضاق لضيق فجهم (4) صدورهم .
   قال بيده (5) هكذا بيمناه إلى الجبال ، وهكذا بيسراه إلى الجبال ، وقال لها : اندقعي .
   فتندفع ، وتتأخر حتى يصيروا بذلك في صحراء لا يرى طرفاها ، ثم يقول بيده هكذا ، ويقول : أطلعي يا أيتها المودعات لمحمد وأنصاره (6) ما أودعكموها الله من الاشجار والثمار ـ والانهار ـ وأنواع الزهر والنبات ، فتطلع من الاشجار الباسقة ، والرياحين المونقة ، والخضروات النزهة ما تتمتع به القلوب والابصار وتنجلي به الهموم والغموم والافكار ، ويعلمون أنه ليس

--------------------
(1) ( قصدا ) ب ، س ، ط ، ق ، د ، فقدته فقدا : عدمته فهو مفقود .
(2) ( خاسئين ) أ ، أى مدحورين .
(3) ( قوت الله) ب ، ط .
(4) الفج : الطريق الواسع بين جبلين ، والمراد الشعب الذى كانوا فيه .
(5) قال بيده : أهوى بها .
(6) ( أصحابه ) ط . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 295 _
  لاحد من ملوك الارض مثل صحرائهم على ما تشتمل عليهم من عجائب أشجارها ، وتهدل أثمارها ، واطراد أنهارها ، وغضارة رياحينها ، وحسن نباتها .

رسالة أبى جهل إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) والجواب عنها :

   ومحمد هو الذي لما جاءه رسول أبى جهل يتهدده ويقول : يا محمد إن الخبوط (1) التي في رأسك هي التي ضيقت عليك مكة ، ورمت بك إلى يثرب ، وإنها لا تزال بك ـ حتى ـ تنفرك وتحثك على ما يفسدك ويتلفك (2) إلى أن تفسدها على أهلها ، وتصليهم حر نار تعديك طورك ، وما أرى ذلك إلا وسيؤول إلى أن تثور عليك قريش ثورة رجل واحد لقصد آثارك ، ودفع ضررك وبلائك ، فتلقاهم بسفهائك المغترين بك ، ويساعدك على ذلك من هو كافر بك مبغض لك ، فيلجئه إلى مساعدتك ومظافرتك (3) خوفه لان يهلك بهلاكك ، و ـ تعطب ـ عياله بعطبك (4) ، ويفتقر هو ومن يليه بفقرك ، وبفقر متبعيك (5) ، إذ يعتقدون أن أعداءك إذا قهروك ودخلوا ديارهم عنوة لم يفرقوا بين من والاك وعاداك واصطلموهم باصطلامهم لك ، وأتوا على عيالاتهم وأموالهم بالسبي والنهب ، كما يأتون على أموالك وعيالك ، وقد أعذر من أنذر (6) وبالغ من أوضح .

--------------------
(1) كذا في أكثر النسخ ، وفى ( ب ، ط ، ق ، د ، الاحتجاج ، والبحار ) خيوط ، ولم أجد (لها أصلا في كتب اللغة ، اللهم الا اذا كانت كناية عن الجنون كما هو متعارف باللهجة العامية ، والخبطه ـ بفتح الخاء ـ من تخبطه الشيطان اذا مسه بخيل أو جنون ، ج خبط ـ بكسر الخاء وفتح الباء ـ وخبط ـ بضم الخاء وفتح الباء ـ ، والخباط : داء كالجنون وليس به ، ولعل ما في المتن تصحيف لهذا .
(2) ( يبلغك ) أ ، س ، ط ، ق ، د ، أى يجهدك .
(3) ( مظاهرتك ) ب ، ط ، وكلاهما بمعنى واحد .
(4) العطب : الهلاك .
(5) ( شيعتك ) أ ، والاحتجاج .
(6) أى من حذرك ما يحل بك فقد أعذر اليك ، أصار معذروا عندك . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 296 _
  اديت هذه الرسالة إلى محمد (صلى الله عليه وآله) وهو بظاهر المدينة بحضرة كافة (1) أصحابه وعامة الكفار به من يهود بني إسرائيل ، وهكذا أمر الرسول ، ليجنبوا (2) المؤمنين ويغروا بالوثوب عليه سائر من هناك من الكافرين .
  فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) للرسول : قد أطريت (3) مقالتك ؟ واستكملت رسالتك ؟ قال : بلى .
  قال (صلى الله عليه وآله) فاسمع الجواب : إن أبا جهل بالمكاره والعطب يهددني ، ورب العالمين بالنصر والظفر يعدني ، وخبر الله أصدق ، والقبول من الله أحق ، لن يضر محمدا من خذله ، أو يغضب عليه بعد أن ينصره الله عزوجل ، ويتفضل بجوده وكرمه عليه .
  قل له : يا أباجهل إنك راسلتني بما ألقاه في خلدك (4) الشيطان ، وأنا اجيبك بما ألقاه في خاطري (5) الرحمن : إن الحرب بيننا وبينك كائنة إلى تسعة وعشرين ـ يوما ـ وإن الله سيقتلك فيها بأضعف أصحابي ، وستلقى أنت وعتبة وشيبة والوليد ، وفلان وفلان ـ وذكر عددا من قريش ـ في ( قليب بدر ) مقتلين أقتل منكم سبعين ، وآسر منكم سبعين ، أحملهم على الفداء ـ العظيم ـ الثقيل .
  ثم نادى جماعة من بحضرته من المؤمنين واليهود ـ والنصارى ـ وسائر الاخلاط (6) : ألا تحبون أن اريكم مصرع كل واحد من هؤلاء ؟ ـ قالوا : بلى .
   قال : ـ (7) هلموا إلى بدر فان هناك الملتقى والمحشر ، وهناك البلاء الاكبر ، لاضع قدمي على مواضع مصارعهم ، ثم ستجدونها لاتزيد ولاتنقص ، ولا تتغير ولاتتقدم ، ولا

--------------------
(1) ( أكابر ) خ ل ، ط .
(2) ( ليجبن ) الاحتجاج ، والبحار ، جنبه الشئ : أبعده عنه .
(3) ( أطويت ) أ .
(4) بالتحريك : البال والقلب .
(5) ( خلدى ) أ ، والخاطر : ما يخطر بالقلب من أمر أو تدبير .
(6) ( الاخلاء ) أ ، والبرهان .
(7) من الاحتجاج والبحار . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 297 _
  تتأخر لحظة ، ولا قليلا ولا كثيرا .
  فلم يخف ذلك على أحد منهم ، ولم يحبه إلا علي بن أبي طالب وحده ، وقال : نعم ، بسم الله.
   فقال الباقون : نحن نحتاج إلى مركوب وآلات ونفقات ، فلا يمكننا الخروج إلى هناك وهو مسيرة أيام .
  فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لسائر اليهود : فأنتم ماذا تقولون ؟ قالوا : نحن نريد أن نستقر في بيوتنا ، ولا حاجة لنا في مشاهدة ما أنت في أدعائه محيل .
  فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : لا نصب عليكم في المسير إلى هناك ، اخطوا خطوة واحدة فان الله يطوى الارض لكم ويوصلكم في الخطوة الثانية إلى هناك .
  فقال المؤمنون : صدق رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، فلنتشرف بهذه الآية .
  وقال الكافرون والمنافقون : سوف نمتحن هذا الكذب لينقطع عذر محمد ، وتصير دعواه حجة عليه ، وفاضحة له في كذبه .
  قال : فخطا القوم خطوة ، ثم الثانية ، فاذاهم عند بئر بدر فعجبوا ، فجاء رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال : اجعلوا البئر العلامة ، واذرعوا من عندها كذا ذرعا .
  فذرعوا ، فلما انتهوا إلى آخرها قال : هذا مصرع أبي حهل ، يجرحه فلان الانصاري ويجهز عليه عبدالله بن مسعود أضعف أصحابي .
  ثم قال : اذرعوا من البئر من جانب آخر ـ ثم جانب آخر ، ثم جانب آخر ـ كذا وكذا ذراعا وذراعا ، وذكر أعداد الاذرع مختلفة .
فلما انتهى كل عدد إلى آخره قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) (1) : هذا مصرع عتبة ، وذلك مصرع شيبة ، وذاك مصرع الوليد ، وسيقتل فلان وفلان ـ إلى أن (سمى تمام) (2) سبعين منهم بأسمائهم ـ وسيؤسر فلان وفلان إلى أن ذكر سبعين منهم بأسمائهم وأسماء آبائهم وصفاتهم ، ونسب المنسوبين إلى الآباء منهم ، ونسب الموالي منهم

--------------------
(1) ( محمد (صلى الله عليه وآله)) أ ، ب ، ط .
(2) ( ذكر ) أ . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 298 _
  إلى مواليهم .
  ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : أوقفتم على ما أخبرتكم به ؟ قالوا : بلى .
   قال (إن ذلك لحق) (1) كائن بعد ثمانية وعشرين يوما ـ من اليوم ـ (2) في اليوم التاسع والعشرين وعدا من الله مفعولا ، وقضاء حتما لازما .
  ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : يا معشر المسلمين واليهود اكتبوا بما سمعتم .
  فقالوا : يا رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد سمعنا ، ووعينا ولا ننسى .
  فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : الكتابة ـ أفضل و ـ أذكر لكم .
  فقالوا يارسول الله (صلى الله عليه وآله) وأين الدواة والكتف ؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) ذلك للملائكة ، ثم قال : ياملائكة ربي اكتبوا ما سمعتم من هذه القصة في أكتاف ، واجعلوا في كم (3) كل واحد منهم كتفا من ذلك .
  ثم قال : معاشر المسلمين تأملوا أكمامكم وما فيها وأخرجوه واقرؤوه .
  فتأملوها فاذا في كم كل واحد منهم صحيفة ، قرأها ، وإذا فيها ذكر ما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) في ذلك سواء ، لا يزيد ولا ينقص ولا يتقدم ولا يتأخر .
  فقال : أعيدوها في أكمامكم ، تكن حجة عليكم ، وشرفا للمؤمنين منكم ، وحجة على الكافرين (4) .
   فكانت معهم .
  فلما كان يوم بدر جرت الامور كلها ـ ببدر ، ووجدوها ـ كما قال (صلى الله عليه وآله) ، لا يزيد ولا ينقص (5) قابلوا بها ما في كتبهم فوجدوها كما كتبته الملائكة لا تزيد ولا تنقص ولا تتقدم ولا تتأخر ، فقبل المسلمون ظاهرهم ، ووكلوا باطنهم إلى خالقهم .
  فلما أفضى بعض هؤلاء اليهود إلى بعض قالوا : أي شئ صنعتم ؟ أخبرتموهم بما

--------------------
(1) ( وذاك ) أ .
(2) من البحار .
(3) أى مدخل اليد ومخرجها من الثواب .
(4) ( أعدائكم ) أكثر النسخ والاحتجاج والبحار .
(5) ( لا تزيد ولا تنقص ولا تتقدم ولا تتأخر ) ب ، ط ، والبرهان . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 299 _
  فتح الله عليكم من الدلالات على صدق نبوة محمد (صلى الله عليه وآله) ، وإمامة أخيه علي (عليه السلام) (ليحاجوكم به عند ربكم) بأنكم كنتم قد علمتم هذا وشاهدتموه فلم تؤمنوا به ولم تطيعوه .
  وقدروا بجهلهم أنهم إن لم يخبروهم بتلك الآيات لم يكن له (1) عليهم حجة في غيرها ثم قال عزوجل : (أفلا تعقلون) أن ـ هذا ـ الذي تخبرونهم (2) ـ به ـ مما فتح الله عليكم من دلائل نبوة محمد (صلى الله عليه وآله) حجة عليكم عند ربكم ؟! قال الله عزوجل : (أولا يعلمون) ؟ يعني أولا يعلم هؤلاء القائلون لاخوانهم : ( أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ) :(أن الله يعلم ما يسرون) من عداوة محمد (صلى الله عليه وآله) (3) ويضمرونه من أن إظهارهم الايمان به أمكن لهم من اصطلامه وإبارة (4) أصحابه (وما يعلنون) من الايمان ظاهرا ليؤنسوهم ، ويقفوا به على أسرارهم فيذيعوها بحضرة من يضرهم .
  وأن الله لما علم ذلك دبر لمحمد تمام أمره ، وبلوغ غاية ما أراده الله ببعثه وأنه يتم أمره ، وأن نفاقهم وكيادهم لا يضره (5).
  قوله عزوجل : ( ومنهم اميون لايعلمون الكتاب الا أمانى وان هم الا يظنون فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذامن عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون ) : 78 ـ 79

--------------------
(1) ( لهم ) أ ، البحار 17 ، والبرهان .
(2) ( يخبرونهم ) أ ، والبحار : 9 ، وج ، 7 .
(3) ( عداوته ) أ .
(4) ( ابادة ) البحار : 9 وج 70 والبرهان ، وكلاهما بمعنى ( الاهلاك )
(5) عنه البحار : 9/ 316 ح 12 باختصار ، وج 17/ 339 ضمن ح 16 ، وج 70/ 166 ضمن ح 18 باختصار ، واثبات الهداة : 2/ 15 ح 209 (قطعة) والبرهان : 1/ 115 ح 1 وعنه في البحار : 19/ 265 ح 6 وعن الاحتجاج : 1/ 40 (قطعة) . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 300 _
  143 ـ قال الامام (عليه السلام) : ـ ثم ـ قال الله عزوجل : يا محمد ومن هؤلاء اليهود (اميون) لا يقرؤون ـ الكتاب ـ ولا يكتبون ، كالامي منسوب إلى امه (1) أي هو كما خرج من بطن امه لايقرأ ولا يكتب (لا يعلمون الكتاب) المنزل من السماء ولا المكذب (2) به ، ولا يميزون بينهما (إلا أماني) أي إلا أن يقرأ عليهم ويقال لهم : ـ إن ـ هذا كتاب الله وكلامه ، لايعرفون إن قرئ من الكتاب خلاف مافيه (وإن هم إلا يظنون) ، أي (3) مايقول لهم رؤساؤهم من تكذيب محمد (صلى الله عليه وآله) في نبوته ، وإمامة علي (عليه السلام) سيد عترته ، وهم يقلدونهم مع أنه محرم عليهم تقليدهم .
  قال : فقال رجل للصادق (عليه السلام) : فاذا كان هؤلاء العوام من اليهود لا يعرفون الكتاب إلا بما يسمعونه من علمائهم لا سبيل لهم إلى غيره ، فكيف ذمهم بتقليدهم والقبول من علمائهم ؟ وهل عوام اليهود إلا كعوامنا يقلدون علماءهم ؟ فان لم يجز لاولئك القبول من علمائهم ، لم يجز لهؤلاء القبول من علمائهم .
  فقال (عليه السلام) : بين عوامنا وعلمائنا وبين عوام اليهود وعلمائهم فرق من جهة وتسوية من جهة ، أما من حيث أنهم استووا ، فان الله قد ذم عوامنا بتقليدهم علماءهم كما ـ قد ـ ذم عوامهم .
  وأما من حيث أنهم افترقوا فلا ، قال : بين لي ذلك يا بن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ! قال (عليه السلام) : إن عوام اليهود كانوا قد عرفوا علماءهم بالكذب الصراح ، وبأكل الحرام وبالرشاء ، وبتغيير الاحكام عن واجبها بالشفاعات والعنايات والمصانعات .
  وعرفوهم بالتعصب الشديد الذي يفارقون به أديانهم ، وأنهم إذا تعصبوا أزالوا حقوق من تعصبوا عليه ، وأعطوا ما لا يستحقه من تعصبوا له من أموال غيرهم وظلموهم من أجلهم .
  وعرفوهم بأنهم يقارفون المحرمات ، واضطروا بمعارف قلوبهم إلى أن من فعل

--------------------
(1) ( الام ) البحار : 9 وج 70 .
(2) ( المتكذب ) البحار .
(3) ( الا ) أ والبرهان . (*)