من بعده وأنتم ظالمون) .
  قال الامام (عليه السلام) : كان موسى بن عمران (عليه السلام) يقول لبني إسرائيل : إذا فرج الله عنكم وأهلك أعداءكم آتيكم بكتاب من ربكم ، يشتمل على أوامره ونواهيه ومواعظه وعبره وأمثاله .
  فلما فرج الله تعالى عنهم ، أمره الله عزوجل أن يأتي للميعاد ، ويصوم ثلاثين يوما عند ، أصل الجبل ، وظن موسى أنه بعد ذلك يعطيه الكتاب .
  فصام موسى ثلاثين يوما ـ عند أصل الجبل ـ فلما كان في آخر الايام (1) استاك (2)

--------------------
> ـ أقول : في الاية تصريح بأن الميعاد الاصل كان ثلاثين ليلة ثم أتمها بعشر ، فقوله ( أربعين ليلة ) محمول على هذا التفصيل .
ولنا بيان حول الجمع بين الايتين في كتابنا ( المدخل إلى التفسير الموضوعى للقرآن الكريم ( : 2/ 129 ـ 131 ، فراجع .
وانظر متن الحديث ، يجوز أن يرجع اليه قوله أمره الله عزوجل أن يأتى للميعاد ويصوم ثلاثين يوما عند أصل الجبل ، وظن موسى أنه بعد ذلك يعطيه الكتاب... (إلى أن قال :) وصم عشرا ... ففعل ذلك موسى ، وكان وعدالله عزوجل أن يعطيه الكتاب بعد أربعين ليلة فأعطاه اياه .
(1) ( آخر اليوم ) البحار ، اقول : لم يقل ( أواخر ) ولا ( آخر جميع ) الايام ، ولا ( فصام ثلاثين يوما في آخر الايام ) ، وعلى الجملة فلا دلالة على أنه استاك غير اليوم الاخير ، ولا على أن السواك أفطر صيامه ، وأما أنه قال : ( يصوم عشرا اخر ) لا يوما واحدا ، ولا ثلاثين يوما ، فليس لنا في حكم الله أن نقول : لماذا يصوم عشرا اخر كما يكون في كفارة الافطار في رمضان أو قضائه ستين يوما ، أو دونه ، فراجع وتدبر .
(2) لا ريب أن موسى (عليه السلام) وجد اثر صيامه خلوفا في فمه ، وزعم أن الخلوف غير طيب ، وينافى مناجاة الله تعالى ، فقال : ( اجلك عن المناجاة لخلوف الصائم ) فاشتغل بالاستياك عن مناجاته اجلالا له عزوجل ، ويظهر من قوله تعالى ( أما علمت ) أن موسى (عليه السلام) وقت ذاك لم يتذكر أن خصوص ـ ? (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام)_ 250 _

هذا الخلوف ـ اثرالصيام ـ عند الله أطيب
  قال الصادق (عليه السلام) : أوحى الله عزوجل إلى موسى (عليه السلام) : ما يمنعك من مناجاتى ؟ فقال : يا رب اجلك عن المناجاة لخلوف فم الصائم .
   فأوحى اليه : لخلوف فم الصائم أطيب عندى من ريح المسك ، انظر : الكافى : 4/ 64 ح 13 ، ومن لايحضره الفقيه : 2/ 76 ح 1779 ، وفضائل الاشهر الثلاثة : 121 ح 122 .
  بقى الكلام في أن الرواية تنافى مااتفق على ان السواك ممدوح ، وأن الصائم يستاك ولا بأس به ...
  اقول : بيان ذلك أنه روى ان السواك والطيب من سنن المرسلين ، وأنه مطهرة للفم مرضاة للرب ، ومفرحة للملائكة وأن المصلى مادام يكون في الصلاة فهو واقف بين يدى الله تعالى يناجيه .
  وأنه كان نبينا (صلى الله عليه وآله) يستاك لكل صلاة ، وقال : لو لا أن أشق على امتى لامرتهم بالسواك ، مع أن السواك سنة للوضوء ، ولك صلاة ، وعند قراءة القرآن ، كما قال (صلى الله عليه وآله) : ( نظفوا طريق القرآن ، قيل : يا رسول الله وما طريق القرآن ؟ قال : أفواهكم، قيل : بماذا ؟ قال : بالسواك ) .
  وبالجملة : لا ريب اذن في فضل الاستياك ، وأنه تطيب ، ولا يتطيب ريح المستاك بمثل ريح المسك ، ولكن في هذه الرواية ـ مؤيدة برواية الكلينى في الكافى المتقدم ذكرها نكتة مهمة في خطاب موسى (عليه السلام) :( أما علمت أن خلوف فم الصائم ـ بما هو صائم ـ أطيب عندالله ـ في مناجاته لا عند الناس ـ من ريح المسك) .
  ففى هذا تصريح بأن لهذا الخلوف فضلا واختصاصا لايناله فضل التطيب بالاستياك والمسك.
  كيف لا وخلوف فم الصائم اثر اصطباره لعبادة ربه وشعاره فيما أمسك وأجهد بنفسه مخلصا .
  الا ترى في قوله تعالى : ( سيما هم في وجوهم من أثر السجود ) الفتح : 29 دلالة واضحة على مطلوبية أثر السجود ، وصفرة الوجه من أثر قيام الليل واحيائه بالعبادة ، وأما سمعت فضل زيارة الحسين (عليه السلام) للمسافر القادم وهو شعث أغبر على من زاره متطيبا .
  فالحاصل أنه لامنافاة بينهما ذلك لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد .
  واما قوله : ( هل يستاك الصائم ؟ قال لا بأس به ) فان ظاهر سؤال السائل أنه لايحتمل وجوبه بل منعه ، فيريد هل يفطر الصائم أم لا ؟ فالجواب ( أنه لابأس به ) فتدبروا غتنم . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 251 _
  قبل الفطر ، (1) فأوحى الله عزوجل ـ إليه ـ يا موسى (2) أما علمت أن خلوف فم الصائم أطيب عندي من ريح المسك ؟ صم عشرا اخر (3) ولاتستك (4) عند الافطار .
  ففعل ذلك موسى (عليه السلام) .
  وكان وعد الله عزوجل أن يعطيه الكتاب بعد أربعين ليلة ، فأعطاه إياه ، فجاء السامرى فشبه على مستضعفي (5) بني إسرائيل ، وقال :

--------------------
(1) اقول : كيف يستاك الصائم قبل الافطار ، ويزيل خلوف فمه اثر اصطباره لعبادة ربه ؟! وكان له أحد الفرحتين عند الافطار ، اذله أن يتوجه إلى ربه الذى قال :( الصوم لى وأنا اجزى به ) ثم يقول فيما يناجى ربه ( اللهم لك صمت ، وعلى رزقك افطرت ، وعليك توكلت ) .
(2) هنا تقدير حسب رواياتنا :( أوحى الله تعالى إلى موسى : ما يمنعك من مناجاتى ؟ فقال : يارب اجلك لخلوف فم الصائم فأوحى الله تعالى : لخلوف فم الصائم أطيب عندى من ريح المسك ) انظر الكافى والفقيه وفضائل الاشهر الثلاثة المتقدم ذكرها .
(3) انظر تعليقتنا على قوله ( آخر الايام ) ص رقم ...
(4) وذلك لان خلوف فمه أطيب عندالله من ريح المسك ، وفيه اشارة وتحذير عما استاك موسى من خلوف فمه قبل الفطر آخر الايام .
(5) يظهر منه أن بنى اسرائيل وقتئذ لم يكونوا منحصرين بهؤلاء الذين افتتنوا هذه الفتنة الكبرى الالهية التى طبع على قلوبهم فأضلهم السامرى ، بل ربما كان فيهم من لم يؤمن بهم ، ويراعون هارون خليفة موسى كما يدل عليه ص 255 ، الا ترى انه لما رجع موسى اليه وعاتبه قائلا : يا هارون ما منعك اذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعنى ، أفعصيت أمرى ؟ قال : (... انى خشيت أن تقول فرقت بين بنى اسرائيل ولم ترقب قولى ) ان القوم استضعفونى وكادوا يقتلوننى ، فلا تشمت بى الاعداء ولاتجعلنى مع القوم الظالمين الاعراف : 150 فسلام على نبينا (صلى الله عليه وآله) اذ قال : ( يا على أنت منى بمنزلة هارون من موسى الا أنه لا نبى بعدى ) وسلام على مولانا وسيدنا أمير المؤمنين (عليه السلام) اذ مر على قبر الرسول (صلى الله عليه وآله) متمثلا بتلك بالاية الشريفة ، انظر كتابنا ( المدخل إلى التفسير الموضوعى للقرآن الكريم :) 2/ 138 . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 252 _
  وعدكم موسى أن يرجع إليكم بعد أربعين ليلة ، وهذه عشرون ليلة وعشرون يوما تمت أربعون (1) أخطأ موسى ربه ، وقد أتاكم ربكم ، أراد أن يريكم : أنه قادر على أن يدعوكم إلى نفسه بنفسه وأنه لم يبعث موسى لحاجة منه إليه .
  فأظهر لهم العجل الذي كان عمله فقالوا له : فكيف يكون العجل إلهنا ؟ قال لهم : إنما هذا العجل يكلمكم منه (2) ربكم كما كلم موسى من الشجرة فالاله (3) في العجل كما كان في الشجرة .
   فضلوا بذلك وأضلوا ،ـ فلما رجع موسى إلى قومه قال : ـ (4) يا أيها العجل أكان فيك ربنا كما يزعم هؤلاء ؟ فنطق العجل وقال : عز ربنا عن أن يكون العجل حاويا له ، أو شئ من الشجرة والامكنة عليه مشتملا ، لا والله يا موسى ولكن السامري نصب عجلا مؤخره إلى الحائط وحفر في الجانب الآخر في الارض، وأجلس فيه بعض مردته فهو الذي وضع فاه على دبره ، وتكلم بما تكلم لما قال :(هذا إلهكم وإله موسى) (5) يا موسى بن عمران ما خذل هؤلاء بعبادتي ، وإتخاذي إلها إلا لتهاونهم بالصلاة على محمد وآله الطيبين ، وجحودهم بموالاتهم (6) وبنبوة النبي محمد ووصية الوصي حتى أداهم إلى أن اتخذوني إلها .

--------------------
(1) أقول : أيها الاخ لا تعجب مما قالوا في هذه الفتنة الكبيرة ، فان الله تعالى قال : انا فتنا قومك من بعدك ، وقال هارون : ان هى الا فتنتك تضل بها من تشاء ( كما لا تعجب من أصحاب الرأى والقياس ، وقل أعوذ بالله من همزات الشياطين ، وأعوذ بك رب أن يحضرون ) .
(2) هذا يسند التكلم إلى الرب من طرف العجل ـ دون العجل ـ كما تكلم الرب من الشجرة - دون الشجرة ـ قال تعالى : ( أولم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا ) الاعراف : 148 ، نعم لما رجع موسى إلى العجل واستنطقه ، نطق ، وقال موسى ... فلاحظ .
(3) ( فلما سمعوا منه كلاما قالوا له انه ) البحار .
(4) ( فقال موسى ) أ ، ب ، ص ، ط .
(5) طه : 88 .
(6) ( لموالاتهم ) الاصل ، والتأويل . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 253 _
  قال الله عزوجل : فاذا كان الله تعالى إنما خذل عبدة العجل لتهاونهم بالصلاة على محمد ووصيه علي (1) فما تخافون من الخذلان الاكبر في معاندتكم (2) لمحمد وعلي وقد شاهدتموهما ، وتبينتم آياتهما ودلائلهما ؟ ثم قال الله عزوجل : (ثم عفونا عنكم من بعد ذلك لعلكم تشكرون) أي عفونا عن أوائلكم عبادتهم العجل ، لعلكم يا أيها الكائنون في عصر محمد من بني إسرائيل تشكرون تلك النعمة على أسلافكم وعليكم بعدهم .
  ـ ثم ـ قال (عليه السلام) : وإنما عفى الله عزوجل عنهم لانهم دعوا الله بمحمد وآله الطاهرين ، وجددوا على أنفسهم الولاية لمحمد وعلي وآلهما الطيبين .
  فعند ذلك رحمهم الله، وعفا عنهم ، (3) 123 ـ ثم قال الله عزوجل : (وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون) قال الامام (عليه السلام) : واذكروا إذ آتينا موسى الكتاب وهو التوراة الذي أخذ على بني إسرائيل الايمان به ، والانقياد لما يوجبه ، والفرقان آتيناه أيضا فرق به ـ ما ـ بين الحق والباطل ، وفرق ـ ما ـ بين المحقين والمبطلين .
  وذلك أنه لما أكرمهم الله تعالى بالكتاب والايمان به ، والانقياد له ، أوحى الله بعد ذلك إلى موسى (عليه السلام) : يا موسى هذا الكتاب قد أقروا به ، وقد بقي الفرقان ، فرق ما بين المؤمنين والكافرين ، والمحقين والمبطلين ، فجدد عليهم العهد به ، فاني قد آليت على نفسي قسما حقا لا أتقبل من أحد إيمانا ولا عملا إلا مع الايمان به .

--------------------
(1) ( وآله ) ب ، ط .
(2) ( معاداتكم ) أ .
(3) عنه تأويل الايات : 1/ 57 ح 34 (قطعة) ، والبحار : 13/ 230 ح 42 إلى قوله ( ودلائلهما ) وص 232 صدر ح 43 (قطعة) ، والبرهان : 1/ 97 ضمن ح 1 . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 254 _
  قال موسى (عليه السلام) : ما هو يا رب ؟ قال الله عزوجل : يا موسى تأخذ على بني إسرائيل : أن محمدا خير البشر (1) وسيد المرسلين .
  وأن أخاه ووصيه عليا خير الوصيين ، وأن أولياءه الذين يقيمهم سادة الخلق .
  وأن شيعته المنقادين له ، المسلمين له ولاوامره ونواهيه ولخلفائه ، نجوم الفردوس الاعلى ، وملوك جنات عدن .
  قال : فأخذ عليهم موسى (عليه السلام) ذلك ، فمنهم من اعتقده حقا ، ومنهم من أعطاه بلسانه دون قلبه ، فكان المعتقد منهم حقا يلوح على جبينه نور مبين ومن أعطى بلسانه دون قلبه ليس له ذلك النور .
  فذلك الفرقان الذي أعطاه الله عزوجل موسى (عليه السلام) وهو فرق ـ ما ـ بين المحقين والمبطلين .
  ثم قال الله عزوجل : (لعلكم تهتدون) أي لعلكم تعلمون أن الذي ـ به ـ يشرف العبد عند الله عزوجل هو اعتقاد الولاية ، كما شرف به أسلافكم (2).
  قوله عزوجل : ( واذ قال موسى لقومه يا قوم انكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم انه هو التواب الرحيم ، واذ قلتم ياموسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون ، ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون : ) 54 ـ 56

--------------------
(1) ( النبيين ) ب ، س ، ط ، والبرهان .
(2) عنه تأويل الايات : 1/ 58 ح 35 ، والبحار : 13/ 233 ضمن ح 43 ، والبرهان : 1/ 98 ضمن ح 1 . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 255 _
  124 ـ قال الامام (عليه السلام) : قال الله عزوجل : واذكروا يا بني إسرائيل (إذ قال موسى لقومه) عبدة العجل (يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم) أضررتم بها (باتخاذكم العجل) إلها (فتوبوا إلى بارئكم) الذي برأكم وصوركم (فاقتلوا أنفسكم) بقتل بعضكم بعضا ، يقتل من لم يعبد العجل من عبده (ذلكم خير لكم) ذلكم القتل خير لكم (عند بارئكم) من أن تعيشوا في الدنيا وهو لم يغفر لكم ، فيتم في الحياة الدنيا حياتكم (1) ويكون إلى النار مصيركم ، وإذا قتلتم وأنتم تائبون جعل الله عزوجل القتل كفارتكم ، وجعل الجنة منزلتكم (2) ومقيلكم .
  ثم قال الله عزوجل (فتاب عليكم) قبل توبتكم ، قبل استيفاء القتل لجماعتكم وقبل إتيانه على كافتكم ، وأمهلكم للتوبة ، واستبقاكم للطاعة (إنه هو التواب الرحيم) قال : وذلك أن موسى (عليه السلام) لما أبطل الله عزوجل على يديه أمر العجل ، فأنطقه بالخبر عن تمويه السامري ، فأمر موسى (عليه السلام) أن يقتل من لم يعبده من عبده ، تبرأ أكثرهم وقالوا : لمنعبده .
  فقال الله عزوجل لموسى (عليه السلام) : أبرد هذا العجل الذهب بالحديد بردا ، ثم ذره في البحر ، فمن شرب من مائه اسودت شفتاه وأنفه ، وبان ذنبه ، ففعل فبان العابدون للعجل .
  فأمر الله اثني عشر ألفا (3) أن يخرجوا على الباقين شاهرين السيوف يقتلونهم .
  ونادى مناديه : ألا لعن الله أحدا أبقاهم بيد أو رجل ، ولعن الله من تأمل المقتول لعله تبينه حميما أو قريبا فيتوقاه ، ويتعداه إلى الاجنبي ، فاستسلم المقتولون ، فقال القاتلون : نحن أعظم مصيبة منهم ، نقتل بأيدينا آباءنا ـ وأمهاتنا ـ (4) وأبناءنا

--------------------
(1) ( خيرتكم ) ب ، س ، ص ، ط ، والبرهان ، ( خيراتكم ) البحار : 13 .
(2) ( منزلكم ) س ، البحار ، والبرهان .
(3) وهم الذين لم يعبدوا العجل كما سيأتى .
(4) من البحار . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 256 _
  وإخواننا وقراباتنا ، ونحن لم نعبد ، فقد ساوى بيننا وبينهم في المصيبة ، فأوحى الله تعالى إلى موسى : يا موسى ـ إني ـ إنما امتحنتهم بذلك لانهم (ما اعتزلوهم لما عبدوا العجل ، ولم) (1) يهجروهم ، ولم يعادوهم (2) على ذلك .
  قل لهم : من دعا الله بمحمد وآله الطيبين ، يسهل عليه قتل المستحقين للقتل بذنوبهم .
  فقالوها ، فسهل عليهم ـ ذلك ـ ، ولم يجدوا لقتلهم لهم ألما .

ارتفاع القتل عن بنى اسرائيل بتوسلهم بمحمد وآله

   فلما استحر (3) القتل فيهم ، وهم ستمائة ألف إلا اثني عشر ألفا الذين لم يعبدوا العجل ، وفق الله بعضهم فقال لبعضهم والقتل لم يفض بعد إليهم .
  فقال : أو ليس الله قد جعل التوسل بمحمد وآله الطيبين أمرا لا يخيب معه طلبة ولا يرد به مسألة ، وهكذا توسلت الانبياء والرسل ، فما لنا لا نتوسل ـ بهم ـ (4) ؟ ! قال : فاجتمعوا وضجوا : يا ربنا بجاه محمد الاكرم ، وبجاه علي الافضل الاعظم ، وبجاه فاطمة الفضلى ، وبجاه الحسن والحسين سبطي سيد النبيين ، وسيدي شباب أهل الجنة أجمعين ، وبجاه الذرية الطيبين الطاهرين (5) من آل طه ويس لما غفرت لنا ذنوبنا ، وغفرت لنا هفواتنا ، وأزلت هذا القتل عنا .
  فذاك حين نودي موسى (عليه السلام) من السماء : أن كف القتل ، فقد سألني بعضهم مسألة وأقسم علي قسما ، لو أقسم به هؤلاء العابدون للعجل ، وسألوا العصمة لعصمتهم حتى لا يعبدوه .
  ولو أقسم علي بها إبليس لهديته .

--------------------
(1) ( اعتزلوهم ولما عبدوا العجل لم ) أ ، س ، ص .
(2) ( يعاندوهم ) ب ، ط .
(3) أى اشتد ، وفى ص ، والبحار : استمر .
(4) من البحار .
(5) ( ذريته الطيبة ) أ . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 257 _
  ولو أقسم بها ـ علي ـ نمرود ـ أ ـ وفرعون لنجيته .
  فرفع عنهم القتل ، فجعلوا يقولون : يا حسرتنا أين كنا عن هذا الدعاء بمحمد وآله الطيبين حتى كان الله يقينا شر الفتنة ، ويعصمنا بأفضل العصمة ؟! (1) 125 ـ ثم قال الله عزوجل :( واذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة ) .
  55 قال : أسلافكم (فأخذتكم الصاعقة) أخذت أسلافكم الصاعقة ـ (وأنتم تنظرون) إليهم (ثم بعثناكم) بعثنا أسلافكم (من بعد موتكم) من بعد موت أسلافكم (لعلكم تشكرون) ـ الحياة ـ أي لعل أسلافكم يشكرون الحياة ، التي فيها يتوبون ويقلعون ، وإلى ربهم ينيبون ، لم يدم عليهم ذلك الموت فيكون إلى النار مصيرهم ، وهم فيها خالدون .
  قال ـ الامام (عليه السلام) ـ: وذلك أن موسى (عليه السلام) لما أراد أن يأخذ عليهم عهدا بالفرقان ـ فرق ـ ما بين المحقين والمبطلين لمحمد (صلى الله عليه وآله) بنبوته ولعلي (عليه السلام) بامامته ، وللائمة الطاهرين بامامتهم ، قالوا : (لن نؤمن لك) أن هذا أمر ربك (حتى نرى الله جهرة) عيانا يخبرنا بذلك .
  فأخذتهم الصاعقة معاينة وهم ينظرون إلى الصاعقة تنزل عليهم .
  وقال الله عزوجل : ياموسى إني أنا المكرم لاوليائي ، المصدقين بأصفيائي ولا أبالي ، وكذلك أنا المعذب لاعدائي ، الدافعين حقوق أصفيائي ولا أبالي .
  فقال موسى (عليه السلام) للباقين الذين لم يصعقوا : ماذا تقولون ؟ أتقبلون وتعترفون ؟ وإلا فأنتم بهؤلاء لا حقون .
  قالوا : يا موسى لا ندري ما حل بهم ولماذا أصابتهم ؟ كانت الصاعقة ما أصابتهم لاجلك ، إلا أنها كانت نكبة من نكبات الدهر تصيب

--------------------
(1) (عنه تأويل الايات: 1/ 59 ح 36 (قطعة) ، والبحار : 13/ 233 ضمن ح 43 ، وج 94/ 7 ح 9 ، والبرهان : 1/ 98 ح 1 ومستدرك الوسائل : 1/ 372 ح 11 (قطعة) .<

h3>تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 258 _
  البر والفاجر ، فان كانت إنما أصابتهم لردهم عليك في أمر محمد وعلي وآلهما فاسأل الله ربك بمحمد وآله هؤلاء الذين تدعونا إليهم أن يحيي هؤلاء المصعوقين لنسألهم لماذا أصابهم ـ ما أصابهم ـ .
  فدعا الله عزوجل بهم موسى (عليه السلام) ، فأحياهم الله عزوجل فقال موسى (عليه السلام) : سلوهم لماذا أصابهم ؟فسألوهم فقالوا : يا بني إسرائيل أصابنا ما أصابنا لابائنا اعتقاد إمامة علي بعد اعتقادنا بنبوة محمد (صلى الله عليه وآله) لقد رأينا بعد موتنا هذا ممالك ربنا من سماواته وحجبه وعرشه وكرسيه وجنانه ونيرانه ، فما رأينا أنفذ أمرا في جميع تلك الممالك وأعظم سلطانا من محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) ، وإنا لما متنا بهذه الصاعقة ذهب بنا إلى النيران .
  فناداهم محمد وعلي عليهما الصلاة والسلام : كفوا عن هؤلاء عذابكم .
  فهؤلاء يحيون بمسألة سائل ـ يسأل ـ ربنا عزوجل بنا وبآلنا الطيبين .
  وذلك حين لم يقذفونا ـ بعد ـ في الهاوية ، وأخرونا إلى أن بعثنا بدعائك يا موسى بن عمران بمحمد وآله الطيبين .
  فقال الله عزوجل لاهل عصر محمد (صلى الله عليه وآله) : فاذا كان بالدعاء بمحمد وآله الطيبين نشر ظلمة أسلافكم المصعوقين بظلمهم أفما يجب عليكم أن لا تتعرضوا لمثل ما هلكوا به إلى أن أحياهم الله عزوجل ؟ (1) قوله عزوجل : (وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ) : 57 126 ـ قال الامام (عليه السلام) : قال الله عزوجل : ( و اذكروا يا بني إسرائيل إذ ظللنا

--------------------
(1) عنه تأويل الايات : 1/ 60 ح 37 ، والبحار : 13/ 235 ضمن ح 43 ، وج 26/ 328 ح 11 ، والبرهان : 1/ 99 ح 1 . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 259 _
  عليكم الغمام) لما كنتم في النيه يقيكم حر الشمس وبرد القمر (1) .
  (وأنزلنا عليكم المن والسلوى) المن : الترنجبين كان يسقط على شجرهم فيتناولونه والسلوى : السماني طير ، أطيب طير لحما ، يسترسل لهم فيصطادونه .
  قال الله عزوجل ـ لهم ـ : (كلوا من طيبات ما رزقناكم) واشكروا نعمتي وعظموا من عظمته ، ووقروا من وقرته ممن أخذت عليكم العهود والمواثيق ـ لهم ـ محمد وآله الطيبين .
  قال الله عزوجل : ( وما ظلمونا ) لما بدلوا ، وقالوا غير ما أمروا ـ به ـ ولم يفوا

--------------------
(1) ( الفجر ) خ ل ، لا ريب أن مغزى القصة هو تنبيه الغافلين عما أعطاهم الله تعالى من نعمة تظليل الغمام لدفع أذى الحر نهارا والبرد ليلا ، ومنه يظهر أن القمر وبرده ـ قبال الشمس وحرها ـ ان هو الا اشارة لتلك الساعات - المعبر عنها بالليل ـ التى تنحجب فيها أشعة الشمس ، بما فيها من خاصية الحرارة ، كيف لا وأن البرد عام خلال تلك الساعات ، ولا علاقة للقمر ، طلع أم أفل ، محاقا كان أم هلالا أم بدرا أم بينهما كما هو ملموس ، ثم ان الحرارة ـ بمختلف درجاتها ، ومهما كان مصدرها : شمس ، نار ، كهرباء ـ قبال البرودة ـ بدرجاتها المختلفه إلى حد الزمهرير ـ نظير النور والظلمة ، والبصر والعمى قال تعالى : ( لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا ) الانسان : 13 ، وقال : ( وما يستوى الاعمى والبصير ، ولا الظلمات ولا النور ، ولا الظل ولا الحرور ) فاطر : 21 ، ومعلوم أنه اذا حجبت أشعة الشمس بسترما ـ غمامة أو غيرها ـ سوف تنكسر حدة حرارتها ويقل بذلك اكتساب الحرارة نهارا ، وبالتالى فليس من كميات كبيرة للحرارة ستفقد ليلا ـ طبقا لخاصية الارض في سرعة اكتساب وفقد الحرارة ـ الامر الذى يشعر الانسان بأنه لا تباين بين درجتى الحرارة ليلا ونهارا ، وبعد ، فان الشمس مصدر للحرارة والطاقة بضرورة الحس والتجربة وأما القمر فلعل الله يحدث بعد ذلك فيه ( لاهله )علما . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 260_
  بما عليه عوهدوا ، لان كفر الكافر لا يقدح في سلطاننا وممالكنا ، كما أن إيمان المؤمن لا يزيد في سلطاننا ( ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ) يضرون بها بكفرهم (1) وتبديلهم .
  ثم ـ قال (عليه السلام) : ـ قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : عباد الله عليكم باعتقاد ولا يتنا أهل البيت و ـ أن ـ لاتفرقوا بيننا ، وانظروا كيف وسع الله عليكم حيث أوضح لكم الحجة ليسهل عليكم معرفة الحق ، ثم وسع لكم في التقية لتسلموا من شرور الخلق ، ثم إن بدلتم وغيرتم عرض عليكم التوبة وقبلها منكم ، فكونوا لنعماء الله شاكرين (2) .
  قوله عزوجل : ( واذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين ، فبدل الذين ظلموا قولا غير الذى قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون ، واذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل اناس مشربهم كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الارض مفسدين ، واذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الارض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها قال أتستبدلون الذى هو أدنى بالذى هو خير اهبطوا مصرا فان لكم ما سألتم وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ، ان الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الاخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولاهم يحزنون ) : 58 62 127 ـ قال الامام (عليه السلام) : قال الله تعالى : واذكروا يا بني إسرائيل ( إذ قلنا لاسلافكم : ادخلوا هذه القرية ) ـ وهي ( أريحا ) من بلاد الشام ، وذلك حين خرجوا

--------------------
(1) ( لكفرهم ) البحار .
(2) عنه تأويل الايات : 1/ 61 ح 38 ، والبحار : 13/ 182 صدر ح 19 ، والبرهان : 1/ 101 ح 1 . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 261 _
  من التيه ( فكوا منها ) من القرية ـ ( حيث شئتم رغدا ) واسعا ، بلا تعب ـ ولا نصب ـ ( وادخلوا الباب ) باب القرية ( سجدا ) .
  مثل الله تعالى على الباب مثال محمد (صلى الله عليه وآله) وعلي (عليه السلام) وأمرهم أن يسجدوا تعظيما لذلك المثال ، ويجددوا على أنفسهم بيعتهما وذكر موالاتهما ، وليذكروا العهد والميثاق المأخوذين عليهم لهما .
( وقولوا حطة ) أي قولوا : إن سجودنا لله تعالى تعظيما لمثال محمد وعلي واعتقادنا لولايتهما حطة لذنوبنا ومحو لسيئاتنا .
  قال الله عزوجل : ( نغفر لكم ) ـ أي ـ بهذا الفعل ( خطاياكم ) السالفة ، ونزيل عنكم آثامكم الماضية .
( وسنزيد المحسنين ) من كان منكم (1) لم يقارف (2) الذنوب التي قارفها من خالف الولاية ، ـ وثبت على ما أعطى الله من نفسه من عهد الولاية ـ فانا نزيدهم بهذا الفعل زيادة درجات ومثوبات وذلك قوله عزوجل ( وسنزيد المحسنين ) (3).
  128 ـ قوله عزوجل : (فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم ) إنهم لم يسجدوا كما أمروا ، ولا قالوا ما أمروا ، ولكن دخلوها مستقبليها بأستاههم وقالوا : هطا سمقانا ـ أي (4) حنطة حمراء نتقوتها (5) ـ أحب إلينا من هذا الفعل وهذا القول .
  قال الله تعالى : (فأنزلنا على الذين ظلموا) غيروا وبدلوا ما قيل لهم ، ولم ينقادوا لولاية محمد وعلي وآلهما الطيبين الطاهرين

--------------------
(1) ( فيكم ) ص ، التأويل ، والبحار .
(2) قرف الذنب واقترفه : اذا عمله ، وقارف الذنب : اذا داناه ولا صقه ، (النهاية : 4/ 45)
(3) عنه تأويل الايات : 1/ 62 ح 39 ، والبحار : 13/ 183 ضمن ح 19 ، والبرهان : 1/ 102 صدر ح 1 .
(4) ( خطا شمقاتا يعنى ) أ .
(5) ( تنفقونها ) أ . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 262 _
  (رجزا من السماء بما كانوا يفسقون) يخرجون عن أمر الله وطاعته .
  قال : والرجز الذي أصابهم أنه مات منهم بالطاعون في بعض يوم مائة وعشرون ألفا ، وهم من علم الله تعالى منهم أنهم لا يؤمنون ولا يتوبون ، ولم ينزل هذا الرجز على من علم أنه يتوب ، أو يخرج من صلبه ذرية طيبة توحد الله، وتؤمن بمحمد وتعرف موالاة علي (1) وصيه وأخيه (2).
  129 ـ ثم قال الله عزوجل : (وإذ استسقى موسى لقومه) قال : واذكروا يا بني إسرائيل إذ استسقى موسى لقومه ، طلب لهم السقيا ، لما لحقهم العطش في التيه ، وضجوا بالبكاء إلى موسى ، وقالوا : أهلكنا العطش .
  فقال موسى : اللهم بحق محمد سيد الانبياء ، وبحق علي سيد الاوصياء وبحق فاطمة سيدة النساء ، وبحق الحسن سيد الاولياء ، وبحق الحسين سيد الشهداء وبحق عترتهم وخلفائهم سادة الازكياء لما سقيت عبادك هؤلاء .
  فأوحى الله تعالى إليه : يا موسى ( اضرب بعصاك الحجر ) .
  فضربه بها (فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس ـ كل قبيلة من بني أب من أولاد يعقوب ـ مشربهم) فلا يزاحم الآخرين في مشربهم .
  قال الله عزوجل : (كلوا واشربوا من رزق الله) الذي آتاكموه (ولا تعثوا في الارض مفسدين) ولا تسعوا (3) فيها وأنتم مفسدون عاصون .
  قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : من ـ أ ـ قام على موالاتنا أهل البيت سقاه الله تعالى من محبته كأسا لا يبغون به بدلا ، ولا يريدون سواه كافيا ولا كاليا (4) ولا ناصرا .

--------------------
(1) ( وتعرق الولاية لعلى ) أ .
(2) عنه تأويل الايات : 1/ 63 ح 40 ، والبحار : 13/ 183 ضمن ح 19 ، والبرهان : 1/ 103 ضمن ح 1
(3) ( تعثوا ) أ ، س ، قال الراغب في المفردات : 324 : العيث والعثى يتقاربان نحو جذب وجيذ ، الا أن العيث أكثر ما يقال في الفساد الذى يدرك حسا ، والعثى فيما يدرك حكما .
(4) أى حافظا . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 263 _
  ومن وطن نفسه على احتمال المكاره في موالاتنا جعله الله يوم القيامة في عرصاتها بحيث يقصر كل من تضمنته تلك العرصات أبصارهم عما يشاهدون من درجاتهم (1) وإن كل واحد منهم ليحيط بماله من درجاته ، كاحاطته في الدنيا لما (يلقاه) (2) بين يديه ، ثم يقال له : وطنت نفسك على احتمال المكاره في موالاة محمد وآله الطيبين فقد جعل الله إليك ومكنك من تخليص كل من تحب تخليصه من أهل الشدائد في هذه العرصات .
  فيمد بصره ، فيحيط بهم ، ثم ينتقد من أحسن إليه أوبره في الدنيا بقول أو فعل أورد غيبة أو حسن محضر (3) أو إرفاق ، فينتقده (4) من بينهم كما ينتقد الدرهم الصحيح من المكسور .
  ثم يقال له : اجعل هؤلاء في الجنة حيث شئت .
   فينزلهم جنان ربنا .
  ثم يقال له : وقد جعلنا لك ، ومكناك من إلقاء من تريد في نار جهنم .
  فيراهم فيحيط بهم ، وينتقدهم من بينهم كما ينتقد الدينار من القراضة .
  ثم يقال له : صيرهم من النيران إلى حيث شئت ، فيصيرهم حيث يشاء من مضائق النار .
  فقال الله تعالى لبني إسرائيل الموجودين في عصر محمد (صلى الله عليه وآله) : فاذا كان أسلافكم إنما دعوا إلى موالاة محمد وآله فأنتم ـ الآن ـ لما شاهدتموهم فقد وصلتم إلى الغرض والمطلب الافضل إلى موالاة محمد وآله ، فتقربوا إلى الله عزوجل بالتقرب إلينا

--------------------
(1) ( درجاته ) ب ، ط .
(2) ( بما يلقاه من ) أ ، ( بما يتلقاه ) التأويل ، والبرهان ، ( بثقله ) ب ، س ، ط .
(3) ( أحسن محضرا ) أ .
(4) نقدت الدراهم وانتقدتها : اذا أخرجت منها الزيف ، (لسان العرب : 3/ 425) . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 264 _
  ولا تتقربوا من سخطه ، ولا تتباعدوا (1) من رحمته بالازورار (2) عنا (3).
   130 ـ ثم قال الله عزوجل : (وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد) واذكروا إذ قال أسلافكم : لن نصبر على طعام واحد : المن والسلوى ،ولابد لنا من خلط معه .
  (فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الارض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها .
  قال موسى ـ أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير) يريد : أتستدعون الادنى ليكون لكم بدلا من الافضل ؟ ثم قال : (اهبطوا مصرا) ـ من الامصار ـ من هذا التيه ( فان لكم ماسألتم ) في المصر .
  ثم قال الله عزوجل : (وضربت عليهم الذلة) الجزية اخزوا بها عند ربهم وعند مؤمني عباده ، ( والمسكنة ) هي الفقر والذلة ( وباءوا بغضب من الله ) احتملوا الغضب واللعنة من الله ( ذلك بأنهم كانوا ) بذلك الذي لحقهم من الذلة والمسكنة واحتملوه من غضب الله، ذلك بأنهم كانوا ( يكفرون بآيات الله ) قبل أن تضرب عليهم هذه الذلة والمسكنة (ويقتلون النبيين بغير الحق) وكانوا يقتلونهم بغير حق بلا جرم كان منهم إليهم ولا إلى غيرهم ( ذلك بما عصوا ) ذلك الخذلان الذي استولى عليهم حتى فعلوا الآثام التي من أجلها ضربت عليهم الذلة والمسكنة ، وباؤا بغضب من الله ـ بما عصوا ـ (4) ( وكانوا يعتدون ) (أي) يتجاوزون أمر الله إلى أمر إبليس (5).
  131 ـ ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : ألا فلا تفعلوا كما فعلت بنو إسرائيل ، ولا تسخطوا

--------------------
(1) ( فتتباعدوا ) ب ، ص ، ط .
(2) أى بالاعراض والانحراف .
(3) عنه تأويل الايات : 1/ 64 ح 42 ، والبحار : 94/ 8 ح 10 ، والبرهان : 1/ 103 ضمن ح 1 ، ومستدرك الوسائل : 1/ 372 ح 12 (قطعة) واثبات الهداة : 1/ 392 ح 126 وج 3/ 67 ح 749 (قطعة) .
(4) من البحار .
(5) عنه البحار : 13/ 184 ضمن ح 19 ، والبرهان : 1/ 103 ضمن ح 1 . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 265 _
  نعم الله، ولا تقترحوا على الله تعالى ، وإذا ابتلي أحدكم في رزقه أو معيشته بما لا يحب ، فلا يحدس (1) شيئا يسأله لعل في ذلك حتفه وهلاكه ، ولكن ليقل .
  ( اللهم بجاه محمد وآله الطيبين إن كان ما كرهته من أمري هذا خيرا لي ، وأفضل في دينى ، فصبرني عليه ، وقوني على احتماله ، ونشطني للنهوض بثقل أعبائه وإن كان خلاف ذلك خيرا ـ لي ـ (2) فجد علي بن ، ورضني بقضائك على كل حال فلك الحمد ) .
  فانك إذا قلت ذلك قدر الله ـ لك ـ ويسر لك ماهو خير ، (3) 132 ـ ثم قال (صلى الله عليه وآله) : يا عباد الله فاحذروا الانهماك في المعاصي والتهاون بها فان المعاصي يستولي بها الخذلان على صاحبها حتى يوقعه فيما هو أعظم منها ، فلا يزال يعصي ويتهاون ويخذل ويوقع فيما هو أعظم مما جنى حتى يوقعه في رد ولاية وصي رسول الله (صلى الله عليه وآله) ودفع نبوة نبي الله، ولا يزال أيضا بذلك (4) حتى يوقعه في دفع توحيد الله، والالحاد في دين الله(5).
  133 ـ ثم قال الله تعالى : ( إن الذين آمنوا ) بالله وبما فرض عليهم الايمان به من الولاية لعلي (6) بن أبي طالب والطيبين من آله .
  ( والذين هادوا ) يعني اليهود ( والنصارى ) الذين زعموا أنهم في دين الله متناصرون

--------------------
(1) ( يجرين ) ب ، ط ، ( يجذين ) خ ل . ( ينجذن ) البحار ، يحدثن ( تنبيه الخواطر ) ،(يجزين ) س ، ص ، البرهان ، حدس في الامر : ظن ، توهم ، ونجذه : جربه .
(2) من تنبيه الخواهر ، وفى ( أ ) على .
(3) عنه تنبيه الخواطر : 2/ 102 ، والبحار : 71/ 149 ح 46 ، والبرهان : 1/ 104 ضمن ح 1 .
(4) ( كذلك ) أ .
(5) عنه تنبيه الخواطر : 2/ 102 (قطعة) ، ومستدرك الوسائل : 2/ 313 ح 6 .
(6) ( نبوة نبى الله وولاية على ) البحار . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 266 _
  ( والصابئين ) الذين زعموا أنهم صبوا (1) إلى دين (الله، وهم بقولهم) (2) كاذبون ، (من آمن بالله) من هؤلاء الكفار ، ونزع عن كفره ، ومن آمن من هؤلاء المؤمنين في مستقبل أعمارهم ، وأخلص وفي بالعهد والميثاق المأخوذين عليه لمحمد وعلي وخلفائهما الطاهرين (وعمل صالحا) ـ ومن عمل صالحا ـ من هؤلاء المؤمنين .
  (فلهم أجرهم) ثوابهم (عند ربهم) في الآخرة (ولا خوف عليهم) هناك حين يخاف الفاسقون (ولا هم يحزنون) إذا حزن المخالفون ، لانهم لا يعملوا من مخالفة الله (3) ما يخاف من فعله ، ولا يحزن له .
  ونظر أمير المؤمنين ـ علي ـ (عليه السلام) إلى رجل ـ فرأى ـ أثر الخوف عليه ، فقال : ما بالك ؟ قال : إني أخاف الله.
  قال : يا عبدالله خف ذنوبك ، وخف عدل الله عليك في مظالم عباده ، وأطعه فيما كلفك ، ولا تعصه فيما يصلحك ، ثم لا تخف الله بعد ذلك ، فانه لا يظلم أحدا ولا يعذبه فوق استحقاقه أبدا ، إلا أن تخاف سوء العاقبة بأن تغير أو تبدل .
  فان أردت أن يؤمنك الله سوء العاقبة ، فاعلم أن ما تأتيه من خير فبفضل الله وتوفيقه وما تأتيه من شر (4) فبامهال الله، وإنظاره إياك ، وحلمه عند (5).
  قوله عزوجل : ( واذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون ، ثم توليتم من بعد ذلك فلو لا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين ، ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم

--------------------
(1) صبا إلى الشئ يصبو : اذا مال ، وقيل : هو مهموز من صبأ اذا خرج من دين إلى دين ، (النهاية : 3/ 10)
(2) ( محمد وهم بقوله ) أ .
(3) ( رسول الله (صلى الله عليه وآله) ) أ .
(4) ( سوء نهاك الله تعالى عنه ) أ ، ( سوء ) البحار ، البرهان .
(5) عنه البحار : 70/ 391 ح 60 ، والبرهان : 1/ 104 ضمن ح 1 . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 267 _
  في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين ، فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين ) : 63 ـ 66 .
  134 ـ قال الامام (عليه السلام) : قال الله عزوجل لهم : و ـ اذكروا ـ إذ (أخذنا ميثاقكم) وعهودكم أن تعملوا بما في التوراة ، وما في الفرقان الذي أعطيته موسى مع الكتاب المخصوص بذكر محمد وعلي والطيبين من آلهما ، بأنهم سادة الخلق ، والقوامون بالحق واذ أخذنا ميثاقكم أن تقروا به ، وأن تؤدوه إلى أخلافكم ، وتأمروهم أن يؤدوه إلى أخلافهم إلى آخر مقدراتي في الدنيا ، ليؤمنن بمحمد نبي الله، ويسلمن له ما يأمرهم ـ به ـ في علي ولي الله عن الله، وما يخبرهم به ـ عنه ـ من أحوال خلفائه بعده القوامين بحق الله، فأبيتم قبول ذلك واستكبرتموه .
  (ورفعنا فوقكم الطور) الجبل ، أمرنا جبرئيل أن يقطع من ( جبل فلسطين ) قطعة على قدر معسكر أسلافكم فرسخا في فرسخ ، فقطعها ، وجاء بها ، فرفعها فوق رؤوسهم .
  فقال موسى (عليه السلام) لهم : إما أن تأخذوا بما امرتم به فيه ، وإما أن القي عليكم هذا الجبل .
  فالجئوا إلى قبوله كارهين إلا من عصمه الله من العناد ، فانه قبله طائعا مختارا .
  ثم لما قبلوه ، سجدوا وعفروا ، وكثير منهم عفر خديه لا لارادة الخضوع لله ، ولكن نظر إلى الجبل هل يقع أم لا ، وآخرون سجدوا طائعين مختارين .
  ـ ثم قال (عليه السلام) ـ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : احمدوا الله معاشر شيعتنا على توفيقه إياكم ، فانكم تعفرون في سجودكم لا كما عفره كفرة بني إسرائيل ، ولكن كما عفره خيارهم .
  قال الله عزوجل : (خذوا ما آتيناكم بقوة) من هذه الاوامر والنواهي من هذا الامر الجليل من ذكر محمد وعلي وآلهما الطيبين .
  (واذكروا مافيه) فيما آتيناكم ، اذكروا جزيل ثوابنا على قيامكم به ، وشديد عقابنا على إبائكم له .

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 268 _
  (لعلكم تتقون) لتتقوا المخالفة الموجبة للعقاب ، فتستحقوا بذلك (1) جزيل الثواب (2).
  135 ـ قال الله عزوجل ـ لهم ـ : (ثم توليتم) يعني تولى أسلافكم (من بعد ذلك) عن القيام به ، والوفاء بما عوهدوا عليه .
  (فلو لا فضل الله عليكم ورحمته) يعني على أسلافكم ، لولا فضل الله عليكم بامهاله إياهم للتوبة ، وإنظارهم لمحو الخطيئة بالانابة (لكنتم من الخاسرين) المغبونين ، قد خسرتم الآخرة والدنيا ، لان الآخرة ـ قد ـ فسدت عليكم بكفركم ، والدنيا كان لا يحصل لكم نعيمها لاخترامنا (3) لكم ، وتبقى عليكم حسرات نفوسكم وأمانيكم التي قد اقتطعتم دونها .
  ولكنا أمهلناكم للتوبة ، وأنظرناكم للانابة ، أي فعلنا ذلك بأسلافكم فتاب من تاب منهم ، فسعد ، وخرج من صلبه من قدر أن يخرج منه الذرية الطيبة التي تطيب في الدنيا ـ بالله تعالى ـ معيشتها ، وتشرف في الآخرة ـ بطاعة الله ـ مرتبتها .
  وقال الحسين بن على (4) (عليهما السلام) : أما إنهم لو كانوا دعوا الله بمحمد وآله الطيبين بصدق من نياتهم ، وصحة اعتقادهم من قلوبهم أن يعصمهم حتى لا يعاندوه بعد مشاهدة تلك المعجزات الباهرات ، لفعل ذلك بجوده وكرمه .
  ولكنهم قصروا ، وآثروا الهوى بنا (5) ومضوا مع الهوى في طلب
--------------------
(1) ( لذلك ) أ .
(2) عنه تأويل الايات : 1/ 65 ح 43 ، والبحار : 13/ 237 ح 47 ، (قطعة) ، وج 26/ 288 ضمن ح 48 ، والبرهان : 1/ 106 صدر ح 9 .
(3) ( لاخترامها ) أ ، اخترمهم الدهر وتخرمهم : استأصلهم ، (لسان العرب: مادة خرم)
(4) ( الحسن بن على ) ب ، ط ، ( على بن الحسين بن على ) أ ، س ، ص .
(5) ( فآثروا اللهو بنا ) أ ، ( فآثروا الهوينا ) ص ، والبحار .
(6) عنه البحار : 26/ 289 ضمن ح 48 ، والبرهان : 1/ 106 ضمن ح 9 . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 269 _
  136 ـ ثم قال الله عزوجل : (ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت) لما اصطادوا السموك (1) فيه (فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين) مبعدين عن كل خير (فجعلناها) ـ أي ـ جعلنا تلك المسخة التي أخزيناهم ولعناهم بها (نكالا) عقابا وردعا (لما بين يديها) بين يدي المسخة من ذنوبهم الموبقات التي استحقوا بها العقوبات (رما خلفها) للقوم الذين شاهدوهم بعد مسخهم يرتدعون عن مثل أفعالهم لما شاهدوا ماحل بهم من عقابنا (وموعظة للمتقين) يتعظون بها ، فيفارقون المخزيات (2) ويعظون ـ بها ـ الناس ، ويحذرونهم المرديات .

قصة أصحاب السبت :

  وقال على بن الحسين (عليهما السلام) : كان هؤلاء قوما يسكنون على شاطئ بحر ، نهاهم الله وأنبياؤه عن اصطياد السمك في يوم السبت .
  فتوصلوا إلى حيلة ليحلوا بها لانفسهم ما حرم الله، فخذوا أخاديد ، وعملوا طرقا تؤدي إلى حياض ، يتهيأ للحيتان الدخول فيها من تلك الطرق ، ولا يتهيأ لها الخروج إذا همت بالرجوع ـ منها إلى اللجج .
  فجاءت الحيتان يوم السبت جارية على أمان الله ـ لها ـ (3) فدخلت الاخاديد وحصلت (4) في الحياض والغدران .
  فلما كانت عشية اليوم همت بالرجوع منها إلى اللجج لتأمن صائدها ، فرامت الرجوع فلم تقدر ، وابقيت ليلتها في مكان يتهيأ أخذها يوم الاحد ـ بلا اصطياد لاسترسالها (5) فيه ، وعجزها عن الامتناع لمنع المكان لها .

--------------------
(1) سماك وسموك جمع سمك ، واحدتها سمكة .
(2) ( المحرمات ) ب ، ص ، والبرهان .
(3) من البحار والبرهان .
(4) تحصل الشئ : اجتمع وثبت .
(5) أى استئناسها واطمئنانها . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 270 _
  فكانوا يأخذونها يوم الاحد ، ويقولون : ما اصطدنا يوم السبت ، إنما اصطدنا في الاحد ، وكذب أعداء الله بل كانوا آخذين لها بأخاديدهم التي عملوها يوم السبت حتى كثر من ذلك مالهم وثراؤهم ، وتنعموا بالنساء وغيرهن لاتساع (1) أيديهم به .
  وكانوا في المدينة نيفا وثمانين ألفا ، فعل هذا منهم سبعون ألفا ، وأنكر عليهم الباقون ، كما قص الله تعالى (وسئلهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر) (2) الآية .
  وذلك أن طائفة منهم وعظوهم وزجروهم ، ومن عذاب الله خوفوهم ، ومن انتقامه وشديد (3) بأسه حذروهم ، فأجابوهم عن وعظهم (لم تعظون قوما الله مهلكهم) بذنوبهم هلاك الاصطلام (أو معذبهم عذابا شديدا) .
  فأجابوا القائلين لهم هذا : (معذرة إلى ربكم) ـ هذا القول منا لهم معذرة إلى ربكم ـ إذ كلفنا الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فنحن ننهى عن المنكر ليعلم ربنا مخالفتنا لهم ، وكراهتنا لفعلهم .
  قالوا : (ولعلهم يتقون) ونعظهم أيضا لعلهم تنجع (4) فيهم المواعظ ، فيتقوا هذه الموبقة ، ويحذروا عقوبتها .
  قال الله عزوجل : (فلما عتوا) حادوا وأعرضوا وتكبروا عن قبولهم الزجر (عن ما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين) (5) مبعدين عن الخير ، مقصين (6) .
  قال فلما نظر العشرة الآلاف والنيف أن السبعين ألفا لا يقبلون مواعظهم ، ولا يحفلون (7) بتخويفهم إياهم وتحذيرهم لهم ، اعتزلوهم إلى قرية اخرى قريبة من قريتهم

--------------------
(1) اتسع الرجل : صار ذا سعة وغنى .
(2) الاعراف : 163 .
(3) ( شدائد ) الاصل ، والشدائد : ـ جمع شدة ـ : ما يحل بالانسان من مكاره الدهر .
(4) نجع فيه الخطاب والوعظ : عمل فيه وأثر .
(5) الاعراف : 164 ـ 166 .
(6) ( مغضبين ) أ ، ( مقصرين ) البرهان : 1 ، أقصى فلانا عن الشئ : أبعده .
(7) أى لا يبالون .( يخافون ) أ ، والبرهان : 2 . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 271 _
  وقالوا : نكره أن ينزل بهم عذاب الله ونحن في خلالهم .
  فأمسوا ليلة ، فمسخهم الله تعالى كلهم قردة ـ خاسئين ـ ، وبقي باب المدينة مغلقا لا يخرج منه أحد ـ ولا يدخله أحد ـ .
  وتسامع بذلك أهل القرى فقصدوهم ، وتسنموا (1) حيطان البلد ، فاطلعوا عليهم فاذا هم كلهم رجالهم ونساؤهم قردة يموج بعضهم في بعض يعرف هؤلاء الناظرون معارفهم وقراباتهم وخلطاءهم ، يقول المطلع لبعضهم : أنت فلان ؟ أنت فلانة ؟ فتدمع عينه ، ويؤمي برأسه (بلا ، أو نعم) .
  فما زالوا كذلك ثلاثة أيام ، ثم بعث الله عزوجل ـ عليهم ـ مطرا وريحا فجرفهم (2) إلى البحر ، وما بقي مسخ بعد ثلاثة أيام ، وإنما الذين ترون من هذه المصورات بصورها فانما هي أشباهها ، لا هي بأعيانها ولا من نسلها (3).
  137 ـ ثم قال على بن الحسين (عليهما السلام) : إن الله تعالى مسخ هؤلاء لاصطياد السمك فكيف ترى عند الله عزوجل ـ يكون ـ حال من قتل أولاد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهتك حريمه ؟! إن الله تعالى وإن لم يمسخهم في الدنيا ، فان المعد لهم من عذاب ـ الله في ـ الآخرة ـ أضعاف ـ أضعاف عذاب المسخ .
  فقيل له : يا بن رسول الله فانا قد سمعنا منك هذا الحديث فقال لنا بعض النصاب : فان كان قتل الحسين (عليه السلام) باطلا ، فهو أعظم من صيد السمك في السبت ، أفما كان يغضب الله على قاتليه كما غضب على صيادي السمك ؟ قال على بن الحسين (عليهما السلام) : قل لهؤلاء النصاب : فان كان إبليس معاصيه أعظم من

--------------------
(1) كل شئ علا شيئا فقد تسنمه ، وفى ( أ ) تسموا .
(2) جرف ـ بالفتح ـ الشئ : ذهب به كله أو معظمه ، وفى ( س ) فجرتهم .
(3) عنه البحار : 14/ 56 ح 13 ، والبرهان : 1/ 106 ضمن ح 9 ، وج 2/ 42 ح 3 . (*)


تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 272 _
  معاصي من كفر باغوائه ، فأهلك الله تعالى من شاء منهم كقوم نوح وفرعون ، ولم (1) يهلك إبليس وهو أولى بالهلاك ، فما باله أهلك هؤلاء الذين قصروا عن إبليس في عمل الموبقات ، وأمهل إبليس مع إيثاره لكشف المخزيات ؟ (2) ألا (3) كان ربنا عزوجل حكيما بتدبيره وحكمه فيمن أهلك ، وفيمن استبقى .
  فكذلك هولاء الصائدون ـ للسمك ـ في السبت ، وهؤلاء القاتلون للحسين (عليه السلام) يفعل في الفريقين ما يعلم أنه أولى بالصواب والحكمة ، لا يسأل عما يفعل وهم (4) يسألون (5).
  138 ـ ثم قال على بن الحسين (عليهما السلام) : أما إن هؤلاء الذين اعتدوا في السبت لو كانوا حين هموا بقبيح أفعالهم سألوا ربهم بجاه محمد وآله الطيبين أن يعصمهم من ذلك لعصمهم ، وكذلك الناهون لهم لو سألوا الله عزوجل أن يعصمهم بجاه محمد وآله الطيبين لعصمهم ، ولكن الله تعالى لم يلهمهم ذلك ، ولم يوفقهم له فجرت معلومات الله تعالى فيهم على ماكان سطره في اللوح المحفوظ (6).
  139 ـ وقال الباقر (عليه السلام) : فلما حدث علي بن الحسين (عليهما السلام) بهذا الحديث ، قال له بعض من في مجلسه : يا ابن رسول الله كيف يعاقب (7) الله ويوبخ هؤلاء الاخلاف على قبائح أتى بها (8)

--------------------
(1) ( فلم لم ) أ ، ب ، ط .
(2) ( المحرمات ) خ ل .
(3) ألا: حرف يستفتح به الكلام ، ويدل على تحقق ما بعده ، ( أما كان ) الاحتجاج ، ( والا فان ) ب ، س ، ط ، ( أولا فأن ) أ .
(4) ( عباده ) ب ، س ، ص ، ط ، الاحتجاج ، والبحار ، وهو اقتباس من سورة الانبياء : 23 .
(5) عنه البحار : 14/ 58 ضمن ح 13 قطعة ، والبرهان : 1/ 107 ضمن ح 9 ، وعنه البحار : 45/ 295 ح ، وعوالم الامام الحسين : 611 ح 4 وعن الاحتجاج : 2/ 40 .
(6) عنه البحار : 14/ 59 ذ ح 13 ، والبرهان : 1/ 107 ضمن ح 9 .
(7) ( يجانب ) أ ، ( يعاتب ) ص ، الاحتجاج ، البحار ، والعوالم .
(8) ( ما أتاه ) أ ، ب ، س ، ط . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 273 _
  أسلافهم ؟ وهو يقول عزوجل : (ولا تزر وازرة وزر اخرى) (1) فقال زين العابدين (عليه السلام) : إن القرآن ـ نزل ـ (2) بلغة العرب ، فهو يخاطب فيه أهل ـ هذا ـ اللسان بلغتهم ، يقول الرجل التميمي (3) ـ قد أغار قومه على بلد وقتلوا من فيه ـ: أغرتم على بلد كذا ـ وكذا ـ وقتلتم (4) كذا ، ويقول العربي أيضا : نحن فعلنا ببني فلان ، ونحن سبينا آل فلان ونحن خربنا بلد كذا ، لا يريد أنهم باشروا ذلك ، ولكن يريد هؤلاء بالعذل (5) وأولئك بالافتخار (6) أن قومهم فعلوا كذا .
  وقول الله تعالى في هذه الآيات إنما هو توبيخ لاسلافهم ، وتوبيخ العذل على هؤلاء الموجودين ، لان ذلك هو اللغة التي بها أنزل القرآن ، فلان هؤلاء الاخلاف أيضا راضون بما فعل أسلافهم ، مصوبون ذلك لهم ، فجاز أن يقال ـ لهم ـ (7) : أنتم فعلتم ، أي إذ رضيتم بقبيح فعلهم (8).
  قوله عزوجل : ( واذ قال موسى لقومه ان الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين .
  قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هى قال انه يقول انها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك فافعلوا ما تؤمرون .
  قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها قال انه يقول انها بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين .
  قال ادع لنا ربك يبين لنا ما

--------------------
(1) الانعام : 164 .
(2) من الاحتجاج .
(3) ( يقال للرجل التيمى ) أ .
(4) ( فعلتم ) أ ، ص ، الاحتجاج ، البحار ، والعوالم والبرهان .
(5) أى اللوم .
(6) ( بالامتحان ) الاصل ، وما في المتن من الاحتجاج والبحار والعوالم والبرهان .
(7) من البحار والعوالم .
(8) عنه البرهان : 1/ 107 ضمن ح 9 ، وعنه البحار : 45/ 296 ضمن ح 2 ، وعوالم الامام الحسين : 612 ضمن ح 4 وعن الاحتجاج : 2/ 41 . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 274 _
  هى ان البقر تشابه علينا وانا ان شاء الله لمهتدون ، قال انه يقول انها بقرة لا ذلول تثير الارض ولا تسقى الحرث مسلمة لاشية فيها قالوا الان جئت بالحق فذبحوها وما كادوا يفعلون .
   واذ قتلتم نفسا فادارءتم فيها والله مخرج ما كنتم تكتمون فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيى الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون ) 67 ـ 73 ـ

قصة ذبح بقرة بنى اسرائيل وسببها :

   ـ140 ـ قال الامام : قال الله عزوجل ليهود المدينة : واذكروا (إذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة) تضربون ببعضها هذا المقتول بين أظهركم ليقوم حيا سويا باذن الله عزوجل ، ويخبركم بقاتله .
  وذلك حين القي القتيل بين أظهرهم ، فألزم موسى (عليه السلام) أهل القبيلة بأمر الله تعالى أن يحلف خمسون من أماثلهم بالله القوي الشديد إليه ـ موسى و ـ بنى إسرائيل ، مفضل محمد وآله الطيبين على البرايا أجمعين ـ إنا ـ ما قتلناه ، ولا علمنا له قاتلا ، فان حلفوا بذلك غرموا دية المقتول ، وإن نكلوا نصوا على القاتل أو أقر القاتل فيقاد (1) منه فان لم يفعلوا حبسوا في محبس ضنك إلى أن يحلفوا أو يقروا أو يشهدوا على القاتل .
  فقالوا : يا نبي الله أما وقت (2) أيماننا أموالنا و ـ لا ـ أموالنا أيماننا ؟ قال : لا ، هكذا حكم الله.   وكان السبب : أن إمرأة حسناء ذات جمال وخلق كامل ، وفضل بارع ، ونسب شريف وستر ثخين كثر خطابها (3) ، وكان لها بنو أعمام ثلاثة ، فرضيت بأفضلهم علما وأثخنهم

--------------------
(1) القود : القصاص وقتل القاتل بدل القتيل .
(2) ( وفت ) أ ، يقال : هذا الشئ لا يفى بذاك : أى يقصر عنه ولا يوازيه ، قال المجلسى (ره) : استبعاد منهم للحكم عليهم بالدية بعد حلفهم ، أى ليس أيماننا وقاية لاموالنا وبالعكس حتى جمعت بينهما .
(3) خطب الفتاة : دعاها أو طلبها إلى التزوج . (*)