ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله ) : ياعباد الله إنما يعرف الفضل أهل الفضل .
  ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) (لسعد : أبشر) (1) فان الله يختم لك بالشهادة ويهلك بك أمة من الكفرة ،ويهتز (عرش الرحمن) (2) لموتك ، ويدخل بشفاعتك الجنة مثل عدد ـ شعور ـ الحيوانات كلها (3).
  قال : فذلك قوله تعالى (جعل لكم الارض فراشا) تفترشونها لمنامكم ومقيلكم .
  (والسماء بناء) سقفا محفوظا أن تقع على الارض بقدرته تجري فيها شمسها وقمرها وكواكبها مسخرة (4) لمنافع عباده وإمائه .
  ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : لا تعجبوا لحفظه السماء أن تقع على الارض، فان الله عزوجل يحفظ ما هو أعظم من ذلك .
  قالوا : وما هو ؟ قال : أعظم من ذلك ثواب طاعات المحبين لمحمد وآله .
  ثم قال : (وأنزل من السماء ماء) يعني المطر ينزل مع كل قطرة ملك يضعها في موضعها الذي يأمره به ربه عزوجل .
  فعجبوا من ذلك .
  فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : أو تستكثرون عدد هؤلاء ؟ إن عدد الملائكة المستغفرين لمحبي علي بن أبي طالب (عليه السلام) أكثر من عدد هؤلاء ـ ، وإن عدد الملائكة اللاعنين لمبغضيه أكثر من عدد هؤلاء .
  ثم قال الله عزوجل :( فأخرج به من الثمرات رزقا لكم ) ألا ترون كثرة ـ عدد ـ (5) هذه الاوراق والحبوب والحشائش ؟ قالوا : بلى يا رسول الله ما أكثر عددها !

--------------------
(1) ( أبشر يا على ) أ ، س ، ص ، نتصحيف ظ .
(2) روى الصدوق في معانى الاخبار : 388 ح 25 عن أبى بصير قال : قلت لابى عبدالله (عليه السلام) : ان الناس يقولون : ان العرش اهتز لموت سعد بن معاذ ؟ فقال (عليه السلام) :انما هو السرير الذى كان عليه ، انظر دلائل النبوة : 4/ 28
(3) ( مثل حيوانات كليب ) س . (4) ( سخرها ) أ .
(5) من البحار . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 152 _

  قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : أكثر عددا منها ملائكة (1) يبتذلون لآل محمد (صلى الله عليه وآله) فيخدمتهم ، أتدرون فيما يبتذلون لهم ؟ ـ يبتذلون ـ (2) في حمل أطباق النور ، عليها التحف من عند ربهم فوقها مناديل النور ، ـ و ـ يخدمونهم في حمل ما يحمل آل محمد منها إلى شيعتهم ومحبيهم ، وأن طبقا من تلك الاطباق يشتمل من الخيرات على مالا يفي بأقل جزء منه جميع أموال الدنيا (3).
  قوله عزوجل : ( وان كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فاتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله ان كنتم صادقين ، فان لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التى وقودها الناس والحجارة اعدت للكافرين ، وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجرى من تحتها الانهار كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذى رزقنا من قبل واتوا به متشابها ولهم فيها ازواج مطهرة وهم فيها خالدون ) 23 ـ 25 76 ـ قال الامام (4) (عليه السلام) : فلما ضرب الله الامثال للكافرين المجاهرين الدافعين لنبوة محمد (صلى الله عليه وآله) والناصبين المنافقين لرسول الله (صلى الله عليه وآله) ، الدافعين ما (5) قاله محمد (صلى الله عليه وآله) في أخيه علي ، والدافعين أن يكون ما قاله عن الله تعالى ، وهي آيات محمد (صلى الله عليه وآله) ومعجزاته ـ لمحمد ـ مضافة إلى آياته التي بينها لعلي (عليه السلام) بمكة والمدينة ، ولم يزدادوا إلا عتوا وطغيانا قال الله تعالى لمردة أهل مكة وعتاة أهل المدينة : (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا) حتى تجحدوا أن يكون محمد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأن يكون هذا المنزل

--------------------
(1) ( الملائكة ) أ .
(2) من البحار .
(3) عنه تأويل الايات : 1/ 41 ح 14 (قطعة) والبحار : 27/ 97 ح 60 ، وج 59 ، 379 ح 18 قطعة .
(4) ( العالم موسى بن جعفر ) أ ، س ، ص ، البحار : 17 و 92 ، ( العالم ) البحار : 9 ، والبرهان .
(5) ( أن يكون ما ) أ ، ص . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 153 _
  عليه ـ كلامي ، مع إظهاري عليه ـ بمكة ، الباهرات من الآيات كالغمامة التي كانت يظله بها (1) في أسفاره ، والجمادات التي كانت تسلم عليه من الجبال والصخور و الاحجار والاشجار ، وكدفاعه قاصديه بالقتل عنه ، وقتله إياهم ، وكالشجرتين المتباعدتين اللتين تلا صقتا فقعد خلفهما لحاجته ، ثم تراجعتا إلى مكانهما (2) كما كانتا ، وكدعائه الشجرة فجاءته مجيبة (3) خاضعة ذليلة ، ثم أمره لها بالرجوع فرجعت سامعة مطيعة (فأتوا) يا معشر قريش واليهود (ويا معشر النواصب) (4) المنتحلين الاسلام ، الذين هم منه براء ، ويا معشر العرب الفصحاء البلغاء ذوي الالسن .
  (بسورة من مثله) من مثل محمد (5) (صلى الله عليه وآله) ، رجل (6) منكم لا يقرأ ولا يكتب ولم

--------------------
(1) ( مظلة بها (به/ خ ل) ) أ .
(2) ( أمكنتهما ) أ ، س ، والبحار .
(3) ( مجيئة ) أ ، ( فجيئته ) ب ، ط ، وكلاهما تصحيف لما في المتن .
(4) ( والنواصب ) أ .
(5) يجد القارئ اللبيب نظير هذا ـ بأسطر ـ :( فاتوا ) من مثل هذا الرجل بمثل هذا الكلام ومثله ضمن ح 92 بلفظ ( فاتوا بسورة من مثله ، مثل محمد امى لم يختلف قط إلى أصحاب كتب ... ثم جاءكم بعد بهذا الكتاب ) ،وسيأتى ما يتوهم معه التناقض والمنافاة في ذيل هذا الحديث وهو : ( فاتوا بسورة من مثله يعنى من مثل هذا القرآن من التوراة والانجيل وصحف ابراهيم ... فانكم لا تجدون في سائر كتب الله سورة كسورة من القرآنز ... ) ، قال المجلسى ـ رحمه الله ـ : ان هذا الخبر يدل على أن ارجاع الضمير في ( مثله ) إلى النبى ، والى القرآن كليهما ، مراد الله تعالى بحسب بطون الاية الكريمة ، أقول : يمكن أن يكون المعنى جامعا يعبر عنه مرة بلفظ الاول، واخرى بالثانى ، فلا منافاة وبيانه أن : فاتوا بسورة من مثل محمد ـ الامى ـ من الانبياء أو الخطباء والبلغاء من العرب ، فهل تجدون في كتب الانبياء أو كلمات الفصحاء سورة بمثل ما هو في القرآن الذى جاء به محمد (صلى الله عليه وآله) ؟ حاشا ثم حاشا .
  وبعد ، ففى التفاسير ذكروا احتمالين في ارجاع الضمير إلى محمد أو القرآن ، والاصل (*) في ذلك قوله تعالى ( من ) قبل قوله ( مثله ) ، والاحتمالات فيها أربع : أن تكون زائدة أو للتبيين أو للتبعيض أو للابتداء ، فالاول غيرممكن ، والثانى بحكمه ، والثالث يقتضى وجود ( المثل ) والامر هو الاتيان بسورة منه ، وهذا غير ممكن أيضا ، وأما الرابع أى للابتداء ، فيكون المعنى : فاتوا بسورة من جانب ( مثل ) محمد ـ الامى ـ لا يقرأ ولا يكتب .
وتجدر الاشارة إلى أن هذه الاية تميزت عن غيرها من آيات التحدى بلفظ ( من ) ـ مما استوجب التوضيح والتفصيل كما ترى في تفسيرنا هذا ـ قال تعالى ( فليأتوا بحديث مثله ) مثله الطور : 34 ، و ( فاتوا بسورة مثله ) يونس : 38 ، و ( فاتو بعشر سور مثله ) هود : 13 و ( قل لئن اجتمعت الانس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ) الاسراء : 88 .
(6) من مثل رجل ( ب ، ط .


تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 154 _
  يدرس كتابا ، ولا اختلف إلى عالم ولا تعلم من أحد ، وأنتم تعرفونه في أسفاره وحضره بقي كذلك أربعين سنة ثم أوتي جوامع العلم ـ حتى علم ـ علم الاولين والآخرين .
  فان كنتم في ريب من هذه الآيات فاتوا (1) من مثل هذا الكلام ليبين أنه كاذب كما تزعمون .
   لان كل ماكان من عند غير الله فسيوجد له نظير في سائر خلق الله.
  وإن كنتم معاشر قراء الكتب من اليهود والنصارى في شك مما جاءكم به محمد (صلى الله عليه وآله) من شرائعه ، ومن نصبه أخاه سيد الوصيين وصيا بعد أن قد أظهر لكم معجزاته التي منها : أن كلمته الذراع المسمومة ، وناطقه ذئب ، وحن إليه العود وهو على المنبر ودفع الله عنه السم الذي دسته اليهود في طعامهم ، وقلب (2) عليهم البلاء وأهلكهم به ، وكثر القليل من الطعام (فاتوا بسورة من مثله) ـ يعني من مثل ـ هذا ـ القرآن ـ من التوراة والانجيل والزبور وصحف إبراهيم (عليه السلام) والكتب الاربعة عشر (3) فانكم

--------------------
(1) ( فاتوا بسورة ) البحار : 92 .
(2) ( غلب ) أ .
(3) كذا في أكثر نسخ الاصل والبحار ، وفى س ، والبحار : 92 : المائة الاربعة عشر ، وكلاهما تصحيف ، فقد روى الصدوق باسناده عن عبيد بن عمير الليثى ، عن أبى ذر (رحمه الله) ـ ضمن حديث طويل ـ انه قال : يا رسول الله كم أنزل الله تعالى من كتاب ؟ قال : مائة كتاب وأربعة كتب : أنزل الله تعالى على شيث خمسين صحيفة ، وعلى ادريس ثلاثين صحيفة ، وعلى ابراهيم عشرين صحيفة ، وأنزل التوراة والانجيل والزبور والفرقان الخبر ، (معانى الاخبار : 333 ضمن ح 1 ، الخصال : 2/ 524 ضمن ح 13 ، عنهما البحار : 11/ 32 ح (24) وروى مثله المفيد في الاختصاص : 258 عن ابن عباس ، فراجع . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 155 _
  لا تجدون في سائر كتب الله سورة كسورة من هذا القرآن .
  وكيف يكون كلام محمد المتقول أفضل من سائر كلام الله وكتبه ، يا معشر اليهود والنصارى .
  ثم قال لجماعتهم : ( وادعوا شهداءكم من دون الله ) ادعوا أصنامكم التي تعبدونها ياأيها المشركون ، وادعوا شياطينكم يا أيها النصارى واليهود ، وادعوا قرناءكم من الملحدين يا منافقي المسلمين من النصاب لآل محمد الطيبين ، وسائر أعوانكم (1) على إرادتكم (2) (إن كنتم صادقين) بأن محمدا تقول هذا القرآن من تلقاء نفسه ، لم ينزله الله عزوجل عليه ، وأن ما ذكره من فضل علي (عليه السلام) على جميع أمته وقلده سياستهم (3) ليس بأمر أحكم الحاكمين .
  ثم قال عزوجل (فان لم تفعلوا) أي ـ إن لم تأتوا يا أيها المقرعون بحجة رب العالمين (ولن تفعلوا) أي ـ ولا يكون هذا منكم أبدا (فاتقوا النار التي وقودها - حطبها ـ الناس والحجارة) توقد ـ ف ـ تكون عذابا على أهلها (أعدت للكافرين) المكذبين بكلامه ونبيه ، الناصبين العداوة لوليه ووصيه .
  قال : فاعلموا بعجزكم عن ذلك أنه من قبل الله تعالى ولو كان من قبل المخلوقين (4) لقدرتم على معارضته .
  فلما عجزوا بعد التقريع والتحدي ، قال الله عزوجل (قل لئن اجتمعت الانس

--------------------
(1) ( اخواتكم ) س
(2) ( أرائكم ) البحار : 17 .
(3) زاد في ( ب ) (وتتوسلون إلى الله بمثل توسلهما ليسد فاقتكم ويجبر كسركم ويسد خلتكم ، فقالوا : اللهم اليك التجأنا وعلى فضلك اعتقدنا فازل فقرنا وسد خلتنا بجاه محمد وعلى وفاطمة والحسن والحسين والطيبين من آلهم) ،والظاهر أنها من اضافات ناسخ ( ب ) ولا علاقة لها بالمتن .
(4) ( خلق الله ) ب ، ط . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 156 _
  والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن ، لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا (1).

قصة الغمامة :
  77 ـ قال الحسن بن على (عليه السلام) : فقلت لابي ( علي بن محمد ) (عليهما السلام) : كيف كانت هذه الاخبار في هذه الآيات التي ظهرت على رسول الله (صلى الله عليه وآله) بمكة والمدينة ؟ فقال : يا بني استأنف لها النهار .
  فلما كان في الغد ، قال : يا بني أما الغمامة فان رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يسافر (2) إلى الشام مضاربا لخديجة بنت خويلد ، وكان من مكة إلى بيت المقدس مسيرة شهر فكانوا في حمارة القيظ (3) يصيبهم حر تلك البوادي ، وربما عصفت عليهم فيها الرياح وسفت عليهم الرمال والتراب .
  وكان الله تعالى في تلك الاحوال يبعث لرسول الله (صلى الله عليه وآله) غمامة تظله فوق رأسه تقف بوقوفه ، وتزول بزواله ، إن تقدم تقدمت ، وإن تأخر تأخرت ، وإن تيامن تيامنت ، وإن تياسر تياسرت ، فكانت تكف عنه حر الشمس من فوقه ، وكانت تلك الرياح المثيرة لتلك الرمال والتراب ، تسفيها (4) في وجوه قريش ووجوه رواحلهم (5) حتى إذا دنت من محمد (صلى الله عليه وآله) هدأت وسكنت ، ولم تحمل شيئا من رمل ولا تراب ، وهبت عليه ريحا باردة لينة ، حتى كانت قوافل قريش يقول قائلها : جوار محمد أفضل من خيمة .
  فكانوا يلوذون به ، ويتقربون إليه فكان الروح يصيبهم بقربه ، وإن كانت الغمامة

--------------------
(1) عنه البحار : 8/ 299 ح 54 قطعة ، وج 9/ 175 ح 4 ، وج 17/ 214 ضمن ح 20 ، وج 92/ 28 ضمن ح 33 والبرهان : 1/ 67 ح 1 ، والاية الاخيرة من سورة الاسراء : 88 .
(2) ( سائر ) أ .
(3) ( حارة القيظة )
(4) ( تنسفها ) أ ، سفت وأسفت الريح التراب : ذرته أو حملته .
(5) ( رواحلها ) أ ، س . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 157 _
  مقصورة عليه .
  وكان إذا اختلط بتلك القوافل غرباء ، فاذا الغمامة ، تسير في موضع بعيد منهم .
  قالوا : إلى من قرنت (1) هذه الغمامة فقد شرف وكرم .
  فيخاطبهم أهل القافلة : انظروا إلى الغمامة تجدوا عليها اسم صاحبها ، واسم صاحبه وصفيه وشقيقه .
   فينظرون فيجدون مكتوبا عليها : ( لا إله إلا الله محمد رسول الله )(صلى الله عليه وآله) ، أيدته بعلي سيد الوصيين ، وشرفته بآله (2) الموالين له ولعلي وأوليائهما ، والمعادين لاعدائهما فيقرأ ذلك ، ويفهمه من يحسن أن يكتب ، ويقرأ من لايحسن ذلك (3) .

تسليم الجبال والصخور والاحجار عليه (صلى الله عليه وآله)

  78 ـ قال على بن محمد (عليهما السلام) : وأما تسليم الجبال والصخور والاحجار عليه فان رسول الله (صلى الله عليه وآله) لما ترك التجارة إلى الشام ، وتصدق بكل ما رزقه الله تعالى من تلك التجارات ، كان يغدو كل يوم إلى حراء يصعده ، وينظر من قلله إلى آثار رحمة الله وأنواع عجائب رحمته (4) وبدائع حكمته ، وينظر إلى أكناف السماء وأقطار الارض والبحار ، والمفاوز ، والفيافي ، فيعتبر بتلك الآثار ، ويتذكر بتلك الآيات ، ويعبدالله حق عبادته .
  فلما استكمل أربعين سنة ـ و ـ (5) نظر الله عزوجل إلى قلبه فوجده أفضل القلوب

--------------------
(1) ( قربت ) أ .
(2) ( بأصحابه ) الاصل ومدينة المعاجز واثبات الهداة ، وما في المتن من البحار ، وتشرف القصر : صار ذا شرف ، وهى ما أشرف من البناء .
(3) عنه البحار : 17/ 307 صدر ح 15 ، ومدينة المعاجز : 168 ، واثبات الهداة : 3/ 574 ح 662 .
(4) ( رحمة الله ) أ .
(5) من البحار . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 158 _
  وأجلها ، وأطوعها وأخشعها وأخضعها ، أذن لابواب السماء ففتحت ، ومحمد (صلى الله عليه وآله) ينظر إليها ، وأذن للملائكة فنزلوا ومحمد (صلى الله عليه وآله) ينظر إليهم ، وأمر بالرحمة فانزلت (1) عليه من لدن ساق العرش إلى رأس محمد وغمرته ، ونظر إلى جبرئيل الروح الامين المطوق بالنور ، طاووس الملائكة هبط إليه ، وأخذ بضبعه (2) وهزه وقال :يا محمد اقرأ .
   قال : وما أقرأ ؟ قال : يا محمد (اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الانسان من علق ـ إلى قوله ـ مالم يعلم ) (3) ثم أوحى ـ إليه ـ ما أوحى إليه ربه عزوجل ، ثم صعد إلى العلو ، ونزل محمد (صلى الله عليه وآله) من (4) الجبل وقد غشيه من تعظيم جلال الله، وورد عليه من كبير (5) شأنه ماركبه به (6) الحمى والنافض .
  يقول وقد اشتد عليه مايخافه من تكذيب قريش في خبره ، ونسبتهم إياه إلى الجنون ، ـ وأنه ـ يعتريه شيطان (7) وكان من أول أمره أعقل خليقة (8) الله، وأكرم براياه وأبغض الاشياء إليه الشيطان وأفعال المجانين وأقوالهم .
  فأراد الله عزوجل أن يشرح صدره ، ويشجع قلبه ، فأنطق الجبال والصخور والمدر ، وكلما وصل إلى شئ منها ناداه : ـ السلام عليك يامحمد ـ السلام عليك يا ولي الله، السلام عليك يارسول الله، السلام عليك يا حبيب الله، أبشر فان الله عزوجل قد فضلك وجملك وزينك وأكرمك فوق الخلائق أجمعين من الاولين والآخرين لا يحزنك قول (9) قريش : إنك مجنون ، وعن الدين مفتون ، فان الفاضل من فضله

--------------------
(1) ( فنزلت ) أ .
(2) ( بضبعيه ) ب ، س ، ص ، ط ، والضبع : وسط العضد أو الابط .
(3) العلق : 1 ـ 5 .
(4) ( عن ) الاصل .
(5) ( كبرياء ) ب ، س ، ص ، ط .
(6) ( له من ) ب ، ط .
(7) ( الشياطين ) أ .
(8) ( خلق ) البحار والحلية ، والخليقة : ما خلقه الله.
(9) ( أن يقول ) أ ، س . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 159 _
  ـ الله ـ رب العالمين ، والكريم من كرمه (1) خالق الخلق أجمعين ، فلا يضيقن صدرك من تكذيب قريش وعتاة العرب لك ، فسوف يبلغك ربك أقصى منتهى الكرامات ويرفعك إلى أرفع الدرجات .
  وسوف ينعم ويفرح (2) أولياءك بوصيك علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، وسوف يبث علومك في العباد والبلاد ، بمفتاحك وباب مدينة علمك (3) علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، وسوف يقر عينك ببنتك (4) فاطمة (عليها السلام) ، وسوف يخرج منها ومن علي : الحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنة ، وسوف ينشر في البلاد دينك ، وسوف يعظم اجور المحبين لك ولاخيك ، وسوف يضع في يدك لواء الحمد ، فتضعه في يد أخيك علي ، فيكون تحته كل نبي وصديق وشهيد ، يكون قائدهم أجمعين إلى جنات النعيم .
  فقلت في سري : يارب من علي بن أبي طالب الذي وعدتني به ؟ ـ وذلك بعد ما ولد علي (عليه السلام) وهو طفل ـ أو هو (5) ولد عمي ؟ وقال بعد ذلك لما تحرك علي قليلا (6) وهو معه : أهو هذا ؟ ففي كل مرة من ذلك أنزل عليه ميزان الجلال ، فجعل محمد (صلى الله عليه وآله) في كفة منه ومثل له علي (عليه السلام) وسائر الخلق من امته إلى يوم القيامة ـ في كفة ـ (7) فوزن بهم فرجح .
  ثم أخرج محمد (صلى الله عليه وآله) من الكفة وترك علي في كفة محمد (صلى الله عليه وآله) التي كان فيها فوزن بسائر امته ، فرجح بهم ، فعرفه رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعينه وصفته .
  ونودي في سره : يا محمد هذا علي بن أبي طالب صفيي (8) الذي اؤيد به هذا الدين ، يرجح على جميع امتك بعدك .

--------------------
(1) ( أكرمه الله ) أ .
(2) ( تنعم وتفرح ) أ .
(3) ( حكمتك ) أ ، والبحار .
(4) ( تقر عينك بنتك ) ط .
(5) ( أهو ) البحار : 18 .
(6) ( وليدا ) البحار : 18 .
(7) من البحار .
(8) ( الصفى ) ب ، ط . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 160 _
  فذلك حين شرح الله صدري بأداء الرسالة ، وخفف عني مكافحة الامة وسهل علي مبارزة (1) العتاة الجبابرة من قريش (2).

حديث الدجاجة المشوية :

  79 ـ قال على بن محمد (عليهما السلام) : وأما دفع الله القاصدين لمحمد (صلى الله عليه وآله) إلى قتله وإهلاكه إياهم كرامة لنبيه (صلى الله عليه وآله) ، وتصديقه إياه فيه ، فان رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان وهو ابن سبع سنين بمكة ، قد نشأ في الخير نشوءا لانظير له في سائر صبيان قريش ، حتى ورد مكة قوم من يهود الشام فنظروا إلى محمد (صلى الله عليه وآله) ، وشاهدوا نعته وصفته ، فأسر بعضهم إلى بعض ـ و ـ قالوا : هذا والله محمد الخارج في آخر الزمان ، المدال على اليهود وسائر ـ أهل ـ الاديان ، يزيل الله تعالى به دولة اليهود ، ويذلهم ويقمعهم ، وقد كانوا وجدوه في كتبهم ـ النبي ـ الامي الفاضل الصادق فحملهم الحسد على أن كتموا ذلك ، وتفاوضوا في أنه ملك يزال .
  ثم قال بعضهم لبعض : تعالوا نحتال ـ عليه ـ فنقتله ، فان الله يمحو مايشاء ويثبت لعلنا نصادفه ممن يمحو ، فهموا بذلك ، ثم قال بعضهم لبعض : لا (3) تعجلوا حتى نمتحنه ونجربه بأفعاله ، فان الحلية قد توافق الحلية ، والصورة قد تشاكل الصورة ، إن ما وجدناه في كتبنا أن محمدا يجنبه ربه من الحرام والشبهات .
  فصادفوه وآلفوه (4) وادعوه إلى دعوة ، وقدموا إليه الحرام والشبهة ، فان انبسط

--------------------
(1) ( مبادرة ) أ .
(2) عنه البحار : 17/ 309 ضمن ح 15 ، وج 18/ 205 ح 36 ومدينة المعاجز : 73 وحلية الابرار : 1/ 37 .
(3) ( فلا ) أ .
(4) ( ألقوه ) ب ، ط ، والبحار ، آلفه : عاشره وآنسه (*).

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 161 _
  فيهما أو في أحدهما فأكله ، فاعلموا أنه غير من تظنون ، وإنما الحلية وافقت الحلية والصورة ساوت الصورة ، وإن لم يكن الامر كذلك ولم يأكل منهما شيئا ، فاعلموا أنه هو ، فاحتالوا له ـ في ـ تطهير الارض منه لتسلم لليهود دولتهم.
  قال : فجاءوا إلى أبي طالب (1) فصادفوه ودعوه إلى دعوة لهم فلما حضر رسول الله (صلى الله عليه وآله) قدموا إليه وإلى أبي طالب والملا من قريش دجاجة مسمنة كانوا قد وقذوها (2) وشووها ، فجعل أبوطالب وسائر قريش يأكلون منها ورسول الله (صلى الله عليه وآله) يمد يده نحوها فيعدل بها يمنة ويسرة ، ثم أماما ، ثم خلفا ، ثم فوقا ثم تحتا لا تصيبها يده (صلى الله عليه وآله).
  فقالوا : مالك يا محمد لا تأكل منها ؟ فقال (صلى الله عليه وآله) : يا معشر اليهود قد جهدت (3) أن أتناول منها ، وهذه يدي يعدل بها عنها وما أراها إلا حراما يصونني ربي عزوجل عنها.
  فقالوا : ماهي إلا حلال فدعنا نلقمك ـ منها ـ .
  فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : فافعلوا إن قدرتم ، فذهبوا ليأخذوا منها ، ويطعموه ، فكانت أيديهم يعدل بها إلى الجهات كما كانت يد رسول الله ( صلى الله عليه وآله) : تعدل عنها.
  فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : ـ ف ـ هذه قد منعت منها ، فأتوني بغيرها إن كانت لكم.
  فجاءوه بدجاجة أخرى مسمنة مشوية قد أخذوها ، لجار لهم غائب ـ لم يكونوا اشتروها ـ وعمدوا إلى أن يردوا عليه ثمنها إذا حضر ، فتناول منها رسول الله (صلى الله عليه وآله) لقمة ، فلما ذهب ليرفعها ثقلت عليه ، وفصلت (4) حتى سقطت من يده ، وكلما ذهب

--------------------
(1) ( بعض أبى طالب ) أ. (2) أي ضربوها ضربا شديدا حتى ماتت ، وفي ( أ ) قدوها .
(3) ( جحدت ) أ ، وهو تصحيف.
(4) ( نصلت ) س ، ص ، البحار : 17 ، وفصلت : خرجت ، الاخرى بمعناها . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 162 _
  يرفع ما قد تناوله بعدها ثقلت وسقطت.
  فقالوا : يا محمد فما بال هذه لا تأكل منها ؟ ـ ف ـ قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهذه أيضا قد منعت منها ، وما أراها إلا من شبهة يصونني ربي عزوجل عنها.
  قالوا : ماهي من شبهة ، فدعنا نلقمك منها.
  قال : فافعلوا إن قدرتم عليه ، فلما (1) تناولوا لقمة ليلقموه ثقلت كذلك في أيديهم ـ ثم سقطت ـ ولم يقدروا أن يلقموها (2).
  فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : هو (3) ما قلت لكم : هذه شبهة يصونني ربي عزوجل عنها.
  فتعجبت قريش من ذلك ، وكان ذلك مما يقيمهم على اعتقاد عداوته إلى أن أظهروها لما أظهره الله عزوجل بالنبوة ، وأغرتهم اليهود أيضا فقالت لهم اليهود : أي شئ يرد عليكم (4) من هذا الطفل ؟! مانراه إلا يسالبكم نعمكم وأرواحكم (5) ـ و ـ (6) سوف يكون لهذا شأن عظيم (7) .
  ـ اتفاق اليهود على قتله (صلى الله عليه وآله) : ـ
  80 ـ وقال امير المؤمنين على بن ابى طالب (عليه السلام) : فتواطأت اليهود على قتله في طريقه على جبل حراء ـ وهم سبعون رجلا ، فعمدوا إلى سيوفهم فسموها ، ثم قعدوا له ذات ـ يوم ـ غلس في طريقه على جبل حراء .

--------------------
(1) ( فكلما ) ب ، وبعض المصادر.
(2) ( يرفعوها ) ب ، ط.
(3) ( هي ) أ.
(4) أقول : ( يرد ) بالتخفيف : اذا أتى بشئ ، لا بالتشديد كما قال المجلسى (ره) : على بناء المجهول أى لا يرد عليكم شيئا ذهب عنكم ، أو على بناء المعلوم أى لا ينفعكم ...
(5) ( وأزواجكم ) أ.
(6) من الحلية.
(7) عنه البحار : 17/ 311 ضمن ح 15 ، وحلية الابرار : 1/ 33 . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 163 _
  فلما صعده ، صعدوا إليه ، وسلوا سيوفهم وهم سبعون رجلا من أشد (1) اليهود وأجلدهم وذوي النجدة منهم ، فلما أهووا بها إليه ليضربوه بها إلتقى طرفا الجبل بينهم وبينه فانضما ، وصار ذلك حائلا بينهم وبين محمد (صلى الله عليه وآله) ، وانقطع طمعهم عن الوصول إليه بسيوفهم ، فغمدوها ، فانفرج الطرفان بعدما كانا انضما ، فسلوا بعد سيوفهم وقصدوه.
  فلما هموا بارسالها عليه انضم طرفا الجبل ، وحيل (2) بينهم وبينه فغمدوها ، ثم ينفرجان فيسلونها إلى أن بلغ إلى ذروة الجبل ، وكان ذلك سبعا (3) وأربعين مرة.
  فصعدوا الجبل وداروا خلفه ليقصدوه بالقتل ، فطال عليهم الطريق ، ومد الله عزوجل الجبل فأبطأوا عنه حتى فرغ رسول الله (صلى الله عليه وآله) من ذكره وثنائه على ربه واعتباره بعبره .
  ثم انحدر عن الجبل ، فانحدروا خلفه ولحقوه ، وسلوا سيوفهم عليه ليضربوه بها ، فانضم طرفا الجبل ، وحال بينهم وبينه فغمدوها ، ثم انفرج فسلوها ، ثم انضم فغمدوها ، وكان ذلك سبعا وأربعين مرة ، كلما انفرج سلوها ، فاذا (4) انضم غمدوها.
  فلما كان في آخر مرة ، وقد قارب رسول الله (صلى الله عليه وآله) القرار ، سلوا سيوفهم عليه فانضم طرفا الجبل ، وضغطهم ـ الجبل ـ ورضضهم ، ومازال يضغطهم حتى ماتوا أجمعين.
  ثم نودي : يا محمد انظر خلفك إلى بغاتك بالسوء (5) ماذا صنع بهم ربهم.
  فنظر فاذا طرفا الجبل مما يليه ، منضمان ، فلما ـ نظر ـ انفرج الطرفان
  ـ و ـ سقط أولئك القوم وسيوفهم بأيديهم ، وقد هشمت وجوههم وظهورهم وجنوبهم وأفخاذهم وسوقهم وأرجلهم ، وخروا موتى تشخب أوداجهم دما.

--------------------
(1) ( أشداء ) أ ، ص .
(2) ( حال ) أ ، ( يحول ) س .
(3) ( تسعا ) أ.
(4) ( فان ) ب ، ط .
(5) ( السوء ) ب ، ط ، والبحار (*).

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 164 _
  وخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله) من ذلك الموضع سالما مكفيا (1) مصونا محفوظا ، تناديه الجبال وما عليها من الاحجار والاشجار : هنيئا لك يا محمد نصرة الله عزوجل لك على أعدائك بنا ، وسينصرك ـ الله ـ إذا ظهر أمرك على جبابرة امتك وعتاتهم بعلي بن أبي طالب ، وتسديده (2) لاظهار دينك وإعزازه وإكرام أوليائك ، وقمع أعدائك ـ و ـ سيجعله تاليك وثانيك ونفسك التي بين جنبيك ، وسمعك الذي به تسمع ، وبصرك الذي به تبصر ، ويدك التي بها تبطش ، ورجلك التي عليها تعتمد ، وسيقضي عنك ديونك ، ويفي عنك عداتك ، وسيكون جمال امتك ، وزين أهل ملتك ، وسيسعد ربك عزوجل به محبيه ، ويهلك به شانئيه (3) (4) .
  ـ حديث الشجرتين : ـ
  81 ـ قال على بن محمد (عليه السلام) : وأما الشجرتان اللتان تلاصقتا ، فان رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان ذات يوم في طريق له ـ ما ـ بين مكة والمدينة ، وفي عسكره منافقون من المدينة وكافرون من مكة ، ومنافقون منها (5) وكانوا يتحدثون فيما بينهم بمحمد (صلى الله عليه وآله) الطيبين وأصحابه الخيرين فقال بعضهم لبعض : يأكل كما نأكل ، وينفض كرشه من الغائط والبول كما ننفض ويدعي أنه رسول الله ! فقال بعض مردة المنافقين : هذه صحراء ملساء (6) لاتعمدن النظر إلى استه إذا قعد

--------------------
(1) ( مكنفا ) أ ، كنف الشئ : صانه وحفظه ، وفي ( س ) محوطا بدل ( محفوظا ) .
(2) ( وتشد يده ) ب ، ط ، ( ويشد يده ) البحار ، وسدده : أرشده إلى الصواب.
(3) ( شانئه ) أ.
(4) عنه البحار : 17 / 313 ضمن ح 15 ، وحلية الابرار : 35 ، ومدينة المعاجز : 48.
(5) ( لها ) س ، والبحار.
(6) ( علياء ) ط (*).

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 165 _
  لحاجته حتى أنظر هل الذي يخرج منه كما يخرج منا أم لا ؟ فقال آخر (1) : لكنك إن ذهبت تنظر منعه حياؤه من أن يقعد ، فانه أشد حياء من الجارية ، العذراء الممتنعة المحرمة.
  قال : فعرف الله عزوجل ذلك نبيه محمد (صلى الله عليه وآله) ، فقال لزيد بن ثابت : إذهب إلى تينك الشجرتين المتباعدتين ـ يؤمي إلى شجرتين بعيدتين قد أوغلتا في المفازة ، وبعدتا عن الطريق قدر ميل ـ فقف بينهما وناد : أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) يأمركما أن تلتصقا وتنضما ، ليقضي رسول الله (صلى الله عليه وآله) خلفكما حاجته.
  ففعل ذلك زيد ، فقال (2) : فوالذي بعث محمدا (صلى الله عليه وآله) بالحق نبيا إن الشجرتين انقلعتا باصولهما من مواضعهما ، وسعت كل واحدة منهما إلى الاخرى، سعي المتحابين كل واحد منهما إلى الآخر .
  ـ و ـ التقيا بعد طول غيبة (3) وشدة اشتياق ، ثم تلاصقتا وانضمتا انضمام متحابين في فراش في صميم الشتاء (4).
  فقعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) خلفهما ، فقال اولئك المنافقون : قد استتر عنا.
  فقال بعضهم لبعض : فدوروا خلفه لننظر إليه.
  فذهبوا يدورون خلفه ، فدارت الشجرتان كلما داروا ، فمنعتاهم من النظر إلى عورته.
  فقالوا : تعالوا نتحلق حوله لتراه طائفة منا ، فلما ذهبوا يتحلقون تحلقت الشجرتان ، فأحاطتا به كالانبوبة حتى فرغ وتوضأ ، وخرج من هناك وعاد إلى العسكر وقال لزيد بن ثابت : عد إلى الشجرتين وقل لهما : إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) يأمركما

--------------------
(1) ( الاخر ) أ.
(2) ( وقال له ) ب ، ط .
(3) ( مدة ) أ.
(4) كنى ( زيد ) بهذا الوصف للدلالة على عدم وجود أى منفذ أو فرجة بين الشجرتين (*) .

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 166 _
  أن تعودا إلى أماكنكما .
  فقال لهما ، فسعت كل واحدة منهما إلى موضعها (1) ـ والذي بعثه بالحق نبيا ـ سعي الهارب الناجي بنفسه من راكض شاهر سيفه خلفه ، حتى عادت كل شجرة إلى موضعها.
  فقال المنافقون: قد امتنع محمد من أن يبدي لنا عورته ، وأن ننظر إلى استه فتعالوا ننظر إلى ما خرج منه لنعلم أنه ونحن سيان ، فجاؤا إلى الموضع فلم يروا شيئا البتة، لا عينا ولا أثرا.
  قال : وعجب أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) من ذلك ، فنودوا من السماء : أوعجبتم لسعي الشجرتين إحداهما إلى الاخرى ، إن سعي الملائكة بكرامات الله عزوجل إلى ـ محبي ـ محمد ومحبي علي أشد من سعى هاتين الشجرتين إحداهما إلى الاخرى ، وإن تنكب (2) نفحات النار يوم القيامة عن محبي علي والمتبرئين من أعدائه أشد من تنكب هاتين الشجرتين إحداهما عن الاخرى (3).
  ـ نظير المعجزة المذكورة لعلي (عليه السلام) :
  82 ـ وقال على بن محمد (4) (عليهما السلام) : وقد كان نظير هذا (5) لعلي بن أبي طالب (عليه السلام) لما رجع من صفين وسقى القوم (6) من الماء الذي تحت الصخرة التي قلبها ، ذهب ليقعد إلى حاجته ، فقال بعض منافقي عسكره : سوف أنظر إلى سوأته وإلى ما يخرج منه فانه يدعي مرتبة النبي لاخبر أصحابه (7) بكذبه .
--------------------
(1) ( موضعهما ) الاصل والبحار ، وما في المتن من مدينة المعاجز.
(2) تنكب عنه : تجنبه واعتزله.
(3) عنه البحار : 17/ 314 ضمن ح 15 ، ومدينة المعاجز : 78 ، واثبات الهداة : 2/ 156 ح 99 (قطعة) ومستدرك الوسائل : 1/ 35 ح 7 (قطعة) .
(4) ( محمد بن على ) أ .
(5) ( نظيرها ) أ .
(6) ( المؤمنين ) أ .
(7) ( أصحابى ) س ، ص (*).

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 167 _
  فقال علي (عليه السلام) لقنبر : يا قنبر اذهب إلى تلك الشجرة وإلى التي تقابلها ـ وقد كان بينهما أكثر من فرسخ ـ فنادهما : أن وصي محمد (صلى الله عليه وآله) يأمركما أن تتلاصقا.
  فقال قنبر : يا أمير المؤمنين أويبلغهما صوتي ؟ فقال علي (عليه السلام) : إن الذي يبلغ بصر عينك إلى السماء وبينك وبينها ـ مسير ـ خمسمائة عام ، سيبلغهما صوتك .
  فذهب فنادى (1) فسعت إحداهما إلى الاخرى سعي المتحابين طالت غيبة أحدهما عن الآخر واشتد إليه شوقه ، وانضمتا (2).
  فقال قوم من منافقي العسكر : إن عليا يضاهي في سحره رسول الله (3) ابن عمه ! ما ذاك رسول الله ولا هذا إمام ، وإنما هما (4) ساحران ! لكنا سندور من خلفه لننظر إلى عورته وما يخرج منه.
  فأوصل الله عزوجل ذلك إلى اذن علي (عليه السلام) من قبلهم (5) فقال ـ جهرا ـ : يا قنبر إن المنافقين أرادوا مكايدة وصي رسول الله (صلى الله عليه وآله) وظنوا أنه لا يمتنع (6) منهم إلا بالشجرتين ، فارجع إلى الشجرتين وقل لهما : إن وصي رسول الله (صلى الله عليه وآله) يأمركما أن تعودا إلى مكانيكما.
  ففعل ما أمره به ، فانقلعتا وعدت (7) كل واحدة منهما تفارق الاخرى كهزيمة الجبان من الشجاع البطل ، ثم ذهب علي (عليه السلام) ورفع ثوبه ليقعد ، وقد مضى جماعة من المنافقين لينظروا إليه ، فلما رفع ثوبه أعمى الله تعالى أبصارهم ، فلم يبصروا شيئا فولوا عنه وجوههم ، فأبصروا كما كانوا يبصرون.
  ثم نظروا إلى جهته فعموا ، فما زالوا ينظرون إلى جهته ويعمون ، ويصرفون عنه

--------------------
(1) ( ينادى ) ب ، ط .
(2) ( وانضما ) أ ، والبحار .
(3) كذا في الاصل والبحار ، والظاهر انه تعبير ( الراوى ) احتراما ، فالمعروف استعمال اسم ( محمد ) من قبل المنافقين.
(4) ( وانهما ) ح ، ط .
(5) ( قيلهم ) أ . وكذا التى تاتى.
(6) ( يمنع ) ب ، ط .
(7) ( عادت ) ب ، ط (*).

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 168 _
  وجوههم ويبصرون ، إلى أن فرغ علي (عليه السلام) وقام ورجع ، وذلك ثمانون مرة من كل واحد منهم .
  ثم ذهبوا ينظرون ما خرج منه ، فاعتقلوا في مواضعهم ، فلم يقدروا أن يروها (1) فاذا انصرفوا أمكنهم الانصراف ، أصابهم ذلك مائة مرة حتى نودي فيهم بالرحيل ـ فرحلوا ـ وما وصلوا إلى ما أرادوا من ذلك ، ولم يزدهم ذلك إلا عتوا وطغيانا وتماديا في كفرهم وعنادهم.
  فقال بعضهم لبعض : انظروا إلى هذا العجب ! من هذه آياته ومعجزاته ، يعجز عن معاوية وعمرو (2) ويزيد ! ؟ (3) فأوصل الله عزوجل ذلك من قبلهم إلى اذنه.
  فقال علي (عليه السلام) : يا ملائكة ربي ائتوني بمعاوية وعمرو ويزيد.
  فنظروا في الهواء (4) فاذا ملائكة كأنهم الشرط السودان (5) ـ و ـ قد علق كل واحد منهم بواحد ، فأنزلوهم إلى حضرته ، فاذا أحدهم معاوية والآخر عمرو والآخر يزيد ـ ف ـ قال علي (عليه السلام) : تعالوا فانظروا إليهم ، أما (6) لو شئت لقتلتهم ، ولكني انظرهم كما أنظر الله عزوجل إبليس إلى يوم الوقت المعلوم إن الذي ترونه بصاحبكم ليس بعجز (7) ولا ذل ، ولكنه محنة من الله عزوجل لكم لينظر كيف تعملون ، ولئن طعنتم على علي (عليه السلام) فقد طعن الكافرون والمنافقون قبلكم

--------------------
(1) ( يريموها ) أ ، ب ، س ، ط ، رام الشئ : أراده
(2) ( عمر ) أ ، ب ، ط ، وكذا بعدها ، وما في المتن أظهر بقرينة قرينيه.
(3) أقول : ان اطلاق اسم ( يزيد ) رغم صغر سنه وقتذاك ، هو كما يبدو مبالغة المنافقين في وصف عجز أمير المؤمنين (عليه السلام) حتى لكأنه يعجز عن يزيد ( الطفل ) بماله من حاشية.
(4) ( فنظر إلى هؤلاء ) أ ، وهو تصحيف .
(5) ( السوداء ) أ ، وشرط السلطان : نخبة أصحابه الذين يقدمهم على غيرهم.
والسودان ـ جمع أسود ـ جيل من الناس.
(6) ( أنا ) ب ، ط .
(7) ( لعجز ) ب ، ص ، ط ، والبحار (*).

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 169 _
  على رسول رب العالمين ، فقالوا : إن من طاف ملكوت السماوات والجنان في ليلة ، ورجع كيف يحتاج إلى أن يهرب ويدخل الغار ، ويأتي ـ إلى ـ المدينة من مكة في أحد عشر يوما ؟ ـ قال ـ وإنما هو من الله إذا شاء أراكم القدرة لتعرفوا صدق أنبياء الله، وأوصيائهم وإذا شاء امتحنكم بما تكرهون لينظر كيف تعملون ، وليظهر حجته (1) عليكم (2).
ـ حديث الثقفى ، وشهادة الشجرة : ـ   83 ـ وقال على بن محمد صلوات الله عليهما : وأما دعاؤه (صلى الله عليه وآله) الشجرة : فان رجلا من ثقيف كان أطب الناس يقال له : الحارث بن كلدة الثقفي ، جاء إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال : يا محمد جئت لاداويك من جنونك ، فقد داويت مجانين كثيرة فشفوا علي يدي .
  فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) يا حارث أنت تفعل أفعال المجانين ، وتنسبني إلى الجنون ؟! قال الحارث : وماذا فعلته من أفعال المجانين ؟ قال (صلى الله عليه وآله) : نسبتك إياي إلى الجنون من غير محنة منك ولا تجربة ، ولا نظر في صدقي أو كذبي.
  فقال الحارث : أو ليس قد عرفت كذبك وجنونك بدعواك النبوة التي لا تقدر لها (3) فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : وقولك لا تقدر لها ، فعل المجانين ، لانك لم تقل : لم قلت كذا ؟ ولا طالبتني بحجة ، فعجزت عنها.
  فقال الحارث : صدقت أنا أمتحن أمرك بآية اطالبك بها ، إن كنت نبيا فادع تلك الشجرة ـ وأشار لشجرة عظيمة بعيد عمقها ـ فان أتتك علمت أنك رسول الله وشهدت

--------------------
(1) ( الحجة ) ب ، ط .
(2) عنه البحار : 42/ 29 ح 8 ، ومدينة المعاجز : 78 ، واثبات الهداة : 4/ 594 ح 287.
(3) ( عليها ) أ (*).

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 170 _
   لك بذلك وإلا فأنت ـ ذلك ـ المجنون الذي قيل لي .
  فرفع رسول الله (صلى الله عليه وآله) يده إلى تلك الشجرة ، وأشار إليها : أن تعالي : فانقلعت الشجرة باصولها وعروقها ، وجعلت تخد في الارض اخدودا عظيما كالنهر حتى دنت من رسول الله (صلى الله عليه وآله) فوقفت بين يديه ، ونادت بصوت فصيح : ها أنا ذا يا رسول الله ـ صلى الله عليك ـ ما تأمرني ؟ فقال لها رسول الله (صلى الله عليه وآله) : دعوتك (1) لتشهدي لي بالنبوة بعد شهادتك لله بالتوحيد ثم تشهدي ـ بعد شهادتك لي ـ لعلي (عليه السلام) هذا بالامامة ، وأنه سندي وظهري وعضدي وفخري ـ وعزي ـ ، ولولاه ما خلق الله عزوجل شيئا مما خلق .
  فنادت : أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنك يا محمد عبده ورسوله ، أرسلك بالحق بشيرا ـ ونذيرا ـ وداعيا إلى الله باذنه وسراجا منيرا ، وأشهد أن عليا ابن عمك هو أخوك في دينك ـ و ـ أوفر خلق الله من الدين حظا ، وأجزلهم من الاسلام نصيبا ، وأنه سندك وظهرك ـ و ـ قامع أعدائك ، وناصر أوليائك ـ و ـ باب علومك في أمتك ، وأشهد أن أولياءك الذين يوالونه ويعادون أعداءه حشو الجنة ، وأن أعداءك الذين يوالون أعداءه ويعادون أولياءه حشو النار .
  فنظر رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى الحارث بن كلدة فقال : يا حارث أو مجنونا يعد من هذه آياته ؟ فقال الحارث بن كلدة : لا والله يا رسول الله، ولكني أشهد أنك رسول رب العالمين ، وسيد الخلق أجمعين ، وحسن إسلامه .
   (2)

--------------------
(1) ( أدعوك ) أ .
(2) عنه البحار : 17/ 316 ضمن ح 15 ، وحلية الابرار : 1/ 310 ، ومدينة المعاجز : 58 . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 171 _
   حديث الطبيب اليونانى مع امير المؤمنين (عليه السلام) :
  84 ـ قال على بن الحسين (عليهما السلام) : ولامير المؤمنين (عليه السلام) نظيرها : كان قاعدا ذات يوم فأقبل إليه رجل من اليونانيين المدعين للفلسفة والطب ، فقال له : يا أبا الحسن بلغني خبر صاحبك ، وأن به جنونا وجئت لاعالجه ! فلحقته وقد مضى لسبيله ، وفاتني ما أردت من ذلك ، وقد قيل لي : إنك ابن عمه وصهره ، وأرى ـ بك ـ صفارا قد علاك وساقين دقيقين ما أراهما تقلانك .
  فأما الصفار فعندي دواؤه ، وأما الساقان الدقيقان فلا حيلة لي لتغليظهما ، والوجه أن ترفق بنفسك في المشي ، وتقلله ولا تكثره ، وفيما تحمله على ظهرك ، وتحتضنه بصدرك أن تقللهما ولا تكثرهما ، فان ساقيك دقيقان لا يؤمن عند حمل ثقيل انقصافهما (1) ـ فاتئد ـ .
  وأما الصفار فدواؤه عندي وهو هذا ـ وأخرج دواء ـ وقال : هذا لا يؤذيك و لا يخيسك (2) ولكنه يلزمك حمية من اللحم أربعين صباحا (3) ثم يزيل صفارك .
  فقال له على بن ابى طالب (عليه السلام) : قد ذكرت نفع هذا الدواء (4) لصفاري ، فهل تعرف شيئا يزيد فيه ويضره ؟ فقال الرجل : بلى حبة من هذا ـ وأشار ـ بيده ـ إلى دواء معه ـ وقال : إن تناوله الانسان وبه صفار أماته من ساعته ، وإن كان لاصفار به صار به صفار حتى يموت في يومه فقال على بن ابى طالب (عليه السلام) : فأرني هذا الضار. فأعطاه ـ إياه ـ .

--------------------
(1) ( انقصامهما ) أ ، وكلاهما بمعنى الكسر .
(2) خاس الشئ : تغير وفسد وأنتن ، والخيس أيضا الغم ، كما أنه يتضمن معنى الحبس اذ المخيس هو السجن (انظر لسان العرب : 6/ 74) ، ( يحبسك ) أ .
(3) ( يوما ) أ .
(4) ( هذا الدواء ونفعه ) أ . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 172 _
  فقال ـ له ـ : كم قدر هذا ؟ فقال : قدر مثقالين سم ناقع ، قدر كل حبة منه يقتل رجلا .
  فتناوله علي (عليه السلام) فقمحه (1) وعرق عرقا خفيفا ، وجعل الرجل يرتعد ويقول في نفسه :الآن اؤخذ بابن بأبي طالب ويقال : قتلته (2) ولا يقبل مني قولي إنه لهو الجاني على نفسه .
  فتبسم علي (عليه السلام) وقال : يا عبدالله أصح ما كنت (بدنا الآن) (3) لم يضرني مازعمت أنه سم ، فغمض عينيك.
   فغمض ، ثم قال : افتح عينيك .
   ففتح ، ونظر إلى وجه علي (عليه السلام) فاذا هو أبيض أحمر مشرب حمرة (4) فارتعد الرجل مما رآه .
  وتبسم علي (عليه السلام) وقال : أين الصفار الذي زعمت أنه بي ؟ فقال الرجل : والله فكأنك لست من رأيت قبل ، كنت مصفرا (5) فأنت الان مورد .
  قال على بن أبي طالب (عليه السلام) : فزال عني الصفار بسمك الذي زعمت أنه قاتلي وأما ساقاي هاتان ـ ومد رجليه وكشف عن ساقيه ـ فانك زعمت أني أحتاج إلى أن أرفق ببدنى في حمل ما أحمل عليه لئلا ينقصف الساقان ، وأنا اريك (6) أن طب الله عزوجل خلاف طبك ، وضرب بيده إلى اسطوانه خشب عظيمة ، على رأسها سطح مجلسه الذي هو فيه ، وفوقه حجرتان إحداهما فوق الاخرى ، وحركها واحتملهما (7) فارتفع السطح والحيطان وفوقهما الغرفتان ، فغشي على اليوناني .
  فقال أمير المؤمنين (عليه السلام) : صبوا عليه ماء .
   فصبوا عليه ـ ماء ـ فأفاق وهو يقول : والله ما رأيت كاليوم عجبا .
  فقال له علي (عليه السلام) : هذه قوة الساقين الدقيقين واحتمالهما ، أني (8) طبك هذا يا

--------------------
(1) ( فلمجه ) أ ، قمحه : أخذه في راسته فلطعه ، ولمجه : أكله بأطراف فمه .
(2) ( قتله ) أ ، والبحار .
(3) ( به فالان ) أ .
(4) ( مشوب بحمرة ) أ .
(5) ( مصفارا ) أ ، والبحار : 42 ، ( صفارا ) ب ، ط ، ( مضارا ) الاحتجاج .
(6) ( أدلك ) ب ، ص ، ط .
(7) ( أو احتملها ) ب ، ط والبحار : 42 ، ( واحتملها ) البحار : 10 ، ( فاحتملها ) الاحتجاج .
(8) ( أفى ) س ، ص . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 173 _
  يوناني ! ـ فقال اليوناني : ـ (1) أمثلك كان محمد ؟ فقال علي (عليه السلام) : وهل علمي إلا من علمه (2) وعقلي إلا من عقله ، وقوتي إلا من قوته ؟ لقد أتاه ثقفي كان أطب العرب ، فقال له : إن كان بك جنون داويتك ! فقال له محمد (صلى الله عليه وآله) : أتحب أن اريك آية تعلم بها غناي عن طبك ، وحاجتك إلى طبي ؟ قال : نعم ، قال : أي آية تريد ؟ قال : تدعو ذلك العذق ـ وأشار إلى نخلة سحوق ـ فدعاها ، فانقلع أصلها من الارض وهي تخد ـ في ـ الارض خدا ، حتى وقفت بين يديه فقال له : أكفاك ـ ذا ـ ؟ قال : لا ، قال : فتريد ماذا ؟ قال : تأمرها أن ترجع إلى حيث جاءت منه ، وتستقر في مقرها الذي انقلعت منه ، فأمرها فرجعت واستقرت في مقرها .
  فقال اليوناني لامير المؤمنين (عليه السلام) : هذا الذي تذكره عن محمد (صلى الله عليه وآله) غائب عني ، وأنا أقتصر منك على أقل من ذلك ، أنا أتباعد عنك فادعني ، وأنا لا أختار الاجابة ، فان جئت بي إليك فهي آية .
  قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : هذا إنما يكون لك وحدك ، لانك تعلم من نفسك أنك لم ترد ، وأني أزلت اختيارك من غير أن باشرت مني شيئا ، أو ممن أمرته ـ ب ـ أن يباشرك ، أو ممن قصد إلى ذلك (3) وإن لم آمره إلا مايكون من قدرة الله تعالى القاهر ، وأنت يا يوناني يمكنك ـ أن تدعي ـ ويمكن غيرك أن يقول : إني ـ قد ـ (4) واطأتك على ذلك ، فاقترح إن كنت مقترحا ماهو آية لجميع العالمين .
  فقال له اليوناني : إن جعلت الاقتراح إلي، فأنا أقترح أن تفصل أجزاء تلك النخلة وتفرقها ، وتباعد ما بينها ، ثم تجمعها وتعيدها كما كانت .
  فقال علي (عليه السلام) : هذه آية وأنت رسولي إليها ـ يعني إلى النخلة ـ فقل لها : إن

--------------------
(1) من الاحتجاج والبحار .
(2) ( وهل ) ب ، ط ، وكذا بعده .
(3) ( اختيارك ) الاحتجاج ، ( اجبارك ) البحار : 10 .
(4) من البحار : 42 . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 174 _
  وصي محمد ـ رسول الله ـ يأمر أجزاءك ، أن تتفرق وتتباعد .
   فذهب فقال لها ، فتفاصلت وتهافتت وتفرقت (1) وتصاغرت أجزاؤها ، حتى لم ير لها عين ولا أثر ، حتى كأن لم يكن هناك ـ أثر ـ نخلة قط ، فارتعدت فرائص اليوناني ، وقال : يا وصي محمد قد أعطيتني اقتراحي الاول، فأعطني الاخر ، فامرها أن تجتمع وتعود كما كانت .
   فقال : أنت رسولي إليها فعد (2) فقل لها : يا أجزاء النخلة إن وصي محمد رسول الله (صلى الله عليه وآله) يأمرك أن تجتمعي (وكما كنت تعودي) (3).
  فنادى اليوناني فقال ذلك ، فارتفعت في الهواء كهيئة الهباء المنثور (4) ثم جعلت تجتمع جزءا جزءا منها حتى تصور لها القضبان والاوراق وأصول السعف وشماريخ الاعذاق ، ثم تألفت ، وتجمعت (5) واستطالت وعرضت واستقر أصلها في مقرها وتمكن عليها ساقها ، وتركب على الساق قضبانها ، وعلى القضبان أوراقها ، وفي أمكنتها أعذاقها ، و ـ قد ـ كانت في الابتداء شماريخها متجردة لبعدها من أوان الرطب والبسر والخلال .
  فقال اليوناني : واخرى احبها : أن تخرج شماريخها خلالها ، وتقلبها من خضرة إلى صفرة وحمرة وترطيب (6) وبلوغ أناه (7) ليؤكل وتطعمني ، ومن حضرك منها .
  فقال علي (عليه السلام) : ـ و ـ أنت رسولي إليها بذلك ، فمرها به .
  فقال لها اليوناني ما أمره أمير المؤمنين (عليه السلام) ، فأخلت وأبسرت ، واصفرت ، واحمرت وأرطبت (8) وثقلت أعذاقها برطبها .

--------------------
(1) ( تنافرت ) أ . ( تنثرت ) ص ، الاحتجاج والبحار : 10 .
(2) ( بعد ) ص ، ط .
(3) ( كما كنت وأن تعودى ) أ ، ب ، ص ، ط .
(4) ( المبثوت ) ب ، س ، ط ، بث الغبار : هيجه .
(5) ( اجتمعت ) أ .
(6) ( ترطب ) س ، ص .
(7) أى : أوانه .
(8) ( وترطبت ) ب ، س ، ص ، ط ، والمصادر . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 175 _
  فقال اليوناني : ـ و ـ اخرى احبها : تقرب بين (1) يدي أعذاقها ، أو تطول يدي لتناولها (2) وأحب شئ إلي ـ أن ـ تنزل إلي إحداهما ، وتطول يدي إلى الاخرى التي هي اختها .
  فقال أمير المؤمنين (عليه السلام) : مد يدك التي تريد أن تنالها (3) وقل : ( يا مقرب البعيد قرب يدي منها ) واقبض الاخرى التي تريد أن تنزل العذق إليها وقل : ( يا مسهل العسير سهل لي تناول ما تباعد (4) عني منها ) ففعل ذلك ، وقاله فطالت يمناه ، فوصلت إلى العذق ، وانحطت الاعذاق الاخر ، فسقطت على الارض وقد طالت عراجينها (5) .
  ثم قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : إنك إن أكلت ـ منها ـ (6) ثم لم تؤمن بمن أظهر لك عجائبها عجل الله ـ عزوجل لك ـ من العقوبة التي يبتليك بها ما يعتبر به عقلاء خلقه وجهالهم .
  فقال اليوناني : إني إن كفرت بعدما رأيت فقد بالغت في العناد ، وتناهيت في التعرض للهلاك ، أشهد أنك من خاصة الله صادق في جميع أقاويلك عن (7) الله، فمرني بما تشاء اطعك .
  قال على (عليه السلام) : آمرك أن تقر لله بالوحدانية ، وتشهد له بالجود والحكمة ، وتنزهه عن العبث والفساد وعن ظلم الاماء والعباد ، وتشهد أن محمد (صلى الله عليه وآله) الذي أنا وصيه سيد الانام ، وأفضل رتبة أهل دار السلام ، وتشهد أن عليا الذي أراك ما أراك وأولاك من النعم ما أولاك، خير خلق الله بعد ـ نبيه ـ محمد رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، وأحق خلق الله بمقام محمد (صلى الله عليه وآله) بعده ، وبالقيام بشرائعه وأحكامه وتشهد أن أولياءه أولياء

--------------------
(1) ( ليقرب من ) ب ، ط ، ( أن تقرب من ) الاحتجاج .
(2) ( لتنالها ) المصادر .
(3) ( تناولها ) أ ، ب ، ص ، ط .
(4) ( تبعد ) ب ، س ، ط .
(5) ( أعذاقها ) ص ، والعرجون أصل العذق الذى يعوج ويبقى على النخل يابسا بعد أن تقطع عنه الشماريخ .
(6) من البحار : 10 .
(7) ( من ) أ . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 176 _
  الله، وأن أعداءه أعداء الله، وأن المؤمنين المشاركين لك فيما كلفتك ، المساعدين لك على ما به أمرتك خير (1) امة محمد (صلى الله عليه وآله) وصفوة شيعة علي (عليه السلام) .
  ـ الامر بالمواساة مع الاخوان :وآمرك أن تواسي (2) إخوانك ـ المؤمنين ـ المطابقين لك على تصديق ، محمد (صلى الله عليه وآله) وتصديقي والانقياد له ولي، مما (3) رزقك الله وفضلك على من فضلك به منهم ، تسد فاقتهم ، وتجبر كسرهم وخلتهم ، ومن كان منهم في درجتك في (4) الايمان ساويته (5) في مالك بنفسك ، ومن كان منهم فاضلا عليك في دينك ، آثرته بمالك على نفسك حتى يعلم الله منك أن دينه آثر عندك من مالك ، وأن أولياءه أكرم عليك من أهلك وعيالك .
  وآمرك أن تصون دينك وعلمنا الذي أو دعناك وأسرارنا التي حملناك ، فلا تبد علومنا لمن يقابلها بالعناد ، ويقابلك من أجلها بالشتم واللعن والتناول من العرض والبدن (6) ، ولا تفش سرنا إلى من يشنع علينا عند الجاهلين بأحوالنا ، ويعرض (7) أولياءنا لنوادر (8) الجهال .
  ـ الامر بالتقية : ـوآمرك أن تستعمل التقية في دينك فان الله عزوجل يقول : (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شئ إلا أن تتقوا منهم تقاة) (9) .

--------------------
(1) ( خيرة ) ب ، س ، ط .
(2) ( توالى ) أ .
(3) ( فيما ) ب ، ط .
(4) ( من ) أ .
(5) ( تساويه ) أ .
(6) ( وآلهتك ) أ .
(7) ( وتعرض ) أ ، و ( لاتعرض ) الاحتجاج .
(8) ( ليوازر ) أ ، ( لبوادر ) ص .
(9) آل عمران : 28 . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 177 _
  وقد أذنت لك في تفضيل أعدائنا علينا إن ألجأك الخوف إليه ـ و ـ في إظهار البراءة منا إن حملك الوجل عليه ـ و ـ في ترك الصلوات المكتوبات إذا خشيت على حشاشتك (1) الافات والعاهات ، فان تفضيلك أعداءنا علينا عند خوفك لا ينفعهم ولا يضرنا ، وإن إظهارك براءتك منا عند تقيتك لا يقدح فينا ولا ينقصنا ، ولئن تتبرأ منا ساعة بلسانك وأنت موال لنا (2) بجنانك لتبقي على نفسك روحها التي بها قوامك ومالك (3) الذي به قوامها (4) ، وجاهها الذي به تماسكها ، وتصون من عرف بك وعرفت به من أوليائنا وإخواننا وأخواتنا من بعد ذلك بشهور وسنين إلى أن تنفرج تلك الكربة وتزول ـ به ـ تلك الغمة (5) فان ذلك أفضل من أن تتعرض للهلاك ، وتنقطع به عن عمل في الدين وصلاح إخوانك المؤمنين .
  وإياك ثم إياك أن تترك التقية التي أمرتك بها ، فانك شائط بدمك ودماء إخوانك معرض لنعمتك ونعمتهم للزوال ، مذل لهم (6) في أيدي أعداء دين الله، وقد أمرك الله باعزازهم (7) فانك إن خالفت وصيتي كان ضررك على نفسك وإخوانك أشد من ضرر الناصب لنا الكافر بنا (8).

--------------------
(1) الحشاشة : بقية الروح .
(2) ( موالى ) أ .
(3) ( دوامها ، ومالك ) أ ، ( قوامها ومالها ) ص ، وبعض المصادر .
(4) ( قيامها ) ب ، ط ، وبعض المصادر .
(5) ( النقمة ) أ .
(6) ( لك ولهم ) ب ، ص ، ط .
(7) ( باعزاز دينه واعزازهم ) أ .
(8) عنه حلية الابرار : 1/ 311 ، ومدينة المعاجز : 58 ، والبحار : 62/ 158 ح 2 (قطعة) وعنه الوسائل : 11/ 478 ح 1 (قطعة) والبحار : 10/ 70 ح 1 ، وج 42/ 45 ح 18 وعن الاحتجاج : 1/ 342 ، وأخرجه في البحار : 74/ 221 ح 1 ، وج 75/ 418 ح 73 عن الاحتجاج قطعة . وأورد قطعة منه في مناقب آل أبى طالب : 21/ 301 . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 178 _
  ـ حديث تكلم الذراع المسمومة مع النبى (صلى الله عليه وآله) :
  85 ـ وأما كلام الذراع المسمومة فان رسول الله (صلى الله عليه وآله) لما رجع من خيبر إلى المدينة وقد فتح الله له جاءته امرأة من اليهود قد أظهرت الايمان ، ومعها ذراع مسمومة مشوية فوضعتها بين يديه ، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : ما هذه! قالت له : بأبي أنت وامي يا رسول الله همني أمرك في خروجك إلى خيبر ، فاني علمتهم رجالا جلدا ، وهذا حمل كان لي ربيته أعده كالولد لي ، وعلمت أن أحب الطعام إليك الشواء ، وأحب الشواء إليك الذراع ، فنذرت لله لئن ـ سلمك الله منهم لاذبحنه ولاطعمنك من شواء ذراعه ، والان فقد ـ سلمك الله منهم وأظفرك بهم ، فجئت بهذا لافي بنذري .
   وكان مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) البراء بن معرور (1) وعلي بن أبي طالب (عليه السلام) ، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) :ائتوا بخبز .
   فاتي به فمد البراء بن معرور يده وأخذ منه لقمة فوضعها في فيه .
   فقال له علي بن أبي طالب (عليه السلام) : يا براء لا تتقدم ـ على ـ رسول الله (صلى الله عليه وآله) .
  فقال له البراء ـ وكان أعرابيا ـ : يا علي كأنك تبخل رسول الله (صلى الله عليه وآله) ؟ ! فقال على (عليه السلام) : ما ابخل رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، ولكني ابجله واوقره ، ليس لي ولا لك ولا لاحد من خلق الله أن يتقدم رسول الله (صلى الله عليه وآله) بقول ، ولا فعل ، ولا أكل ولا شرب .
  فقال البراء : ما ابخل رسول الله (صلى الله عليه وآله) .

--------------------
(1) كذا في الاصل والبحار والمستدرك ، والبراء بن معرور هو أبوبشر الانصارى الخزرجى أحد النقباء ليلة العقبة ، وهو ابن عمة سعد بن معاذ ، مات في صفر قبل قدوم رسول الله (صلى الله عليه وآله) المدينة بشهر ، (سير أعلام النبلاء : 1/ 267) ، والقصة مروية في ولده ( بشر ) الذى توفى مسموما بتلك الشاة ، راجع الخرائج والجرائح : 108 ح 180 وتخريجاته ، أقول : لعله سقط اسم ( بشر ) من الراوى أو النسخة فبقى التصحيف على حاله والله أعلم . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 179 _
  فقال على (عليه السلام) : ما لذلك قلت ، ولكن هذا جاءت به هذه وكانت يهودية ، ولسنا نعرف حالها ، فاذا أكلته بأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) فهو الضامن لسلامتك منه ، وإذا أكلته بغير إذنه وكلت (1) إلى نفسك .
  يقول علي (عليه السلام) هذا والبراء يلوك اللقمة إذ أنطق الله الذراع فقالت : يا رسول الله لا تأكلني فاني مسمومة ، وسقط البراء في سكرات الموت ، ولم يرفع إلى ميتا .
  فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : ايتوني بالمرأة .
   فاتي بها ، فقال لها : ما حملك على ما صنعت ؟ فقالت : وترتني وترا عظيما : قتلت أبي وعمي وأخي وزوجي وابني ففعلت هذا وقلت : إن كان ملكا فسأنتقم منه ، وإن كان نبيا كما يقول ، وقد وعد فتح مكة والنصر (2) والظفر ، فسيمنعه (3) الله ويحفظه منه ولن يضره .
  فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : أيتها المرأة لقد صدقت .
   ثم قال لها رسول الله (صلى الله عليه وآله) : لا يضرك موت البراء فانما امتحنه الله لتقدمه بين يدي رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولو كان بأمر رسول الله أكل منه لكفى شره وسمه .
  ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : ادع لي فلانا ـ وفلانا ، وذكر قوما من خيار أصحابه منهم سلمان والمقداد وعمار وصهيب وأبوذر وبلال وقوم من سائر الصحابة تمام عشرة وعلي (عليه السلام) حاضر معهم .
  فقال (صلى الله عليه وآله) : اقعدوا وتحلقوا عليه .
   فوضع رسول الله (صلى الله عليه وآله) يده على الذراع المسمومة ونفث عليه ، وقال : ( ـ بسم الله الرحمن الرحيم ـ بسم الله الشافي، بسم الله الكافي ، بسم الله المعافي ، بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شئ ، ولا داء في الارض، ولا في السماء وهو السميع العليم ) .
  ثم قال (صلى الله عليه وآله) : كلوا على اسم الله، فأكل رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، وأكلوا حتى شبعوا ، ثم

--------------------
(1) ( وكلك ) أ .
(2) ( النصرة ) أ ، وهى النصر وحسن المعونة .
(3) ( فيمنعه ) أ ، ط ، والبحار ، منعه : حامى عنه (*).

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 180 _
  شربوا عليه الماء ، ثم أمر بها فحبست .
  فلما كان في اليوم الثاني جئ (1) بها فقال (صلى الله عليه وآله) : أليس هؤلاء أكلوا ـ ذلك ـ السم بحضرتك ؟ فكيف رأيت دفع الله عن نبيه وصحابته ؟ فقالت : يا رسول الله كنت إلى الآن في نبوتك شاكة ، والآن فقد أيقنت أنك رسول الله (صلى الله عليه وآله) حقا ، فأنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأنك عبده ورسوله ـ حقا ـ وحسن إسلامها (2).
  86 ـ قال على بن الحسين (عليهما السلام) : ولقد حدثني أبي ، عن جدي أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لما حملت إليه جنازة البراء بن معرور ليصلي عليه قال : أين علي بن أبي طالب ؟ قالوا : يا رسول الله إنه ذهب في حاجة رجل من المسلمين إلى قبا .
  فجلس رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولم يصل عليه ، قالوا : يا رسول الله مالك لا تصلي عليه ؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : إن الله عزوجل أمرني أن أؤخر الصلاة عليه إلى أن يحضر ـ ه ـ علي ، فيجعله في حل مما كلمه به بحضرة (3) رسول الله ليجعل الله موته بهذا السم كفارة له .
   فقال بعض من كان حضر رسول الله (صلى الله عليه وآله) وشاهد الكلام الذي تكلم به البراء : يا رسول الله إنما كان مزحا مازح به عليا (عليه السلام) لم يكن منه جدا فيؤاخذه الله عزوجل بذلك .
  قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : لو كان ذلك منه جدا لاحبط الله تعالى أعماله كلها ، ولو كان تصدق بملء مابين الثرى إلى العرش ذهبا وفضة ، ولكنه كان مزحا ، وهو في حل من (4) ذلك ، إلا أن رسول الله يريد أن لايعتقد أحد منكم أن عليا واجد (5) عليه ، فيجدد بحضرتكم إحلاله (6) ويستغفر له ليزيده الله عزوجل بذلك قربة ورفعة في جنانه (7) .

--------------------
(1) ( جاء ) أ ، والبحار .
(2) عنه البحار : 17/ 317 ضمن ح 15 ، ومستدرك الوسائل : 3/ 84 ح 10 وص 8 ح 1 (قطعة) .
(3) ( في حضرة ) أ .
(4) ( في ) خ ل .
(5) أى غاضب .
(6) ( اجلالا له ) ب ، ط ، وهو تصحيف .
(7) ( جناته ) ب ، ط . (*) هذا الرجل السئ ولكنه قتل قبل أن ينفذه ... !



تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 181 _
  فلم يلبث أن حضر علي (عليه السلام) ، فوقف قبالة الجنازة ، وقال :رحمك الله يا براء فلقد كنت صواما ـ قواما ـ ولقد مت في سبيل الله.
  وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : لو كان أحد من الموتى يستغني عن صلاة رسول الله لاستغنى صاحبكم هذا بدعاء علي (عليه السلام) ـ له ـ (1) ثم قام فصلى عليه ودفن .
  فلما انصرف وقعد في العزاء قال : أنتم يا أولياء البراء (2) بالتهنئة أولى منكم بالتعزية لان صاحبكم عقد له في الحجب قباب من السماء الدنيا إلى السماء السابعة ، وبالحجب كلها إلى الكرسي إلى ساق العرش لروحه التي عرج بها فيها ، ثم ذهب بها إلى روض (3) الجنان ، وتلقاها كل من كان ـ فيها ـ (4) من خزانها ، واطلع عليه (5) كل من كان فيها من حور حسانها .
  وقالوا بأجمعهم له (6) : طوباك ـ طوباك ـ يا روح البراء ، إنتظر عليك (7) رسول الله (صلى الله عليه وآله) عليا (عليه السلام) حتى ترحم عليك علي واستغفر لك ، أما إن حملة (عرش ربنا حدثونا) (8) عن ربنا أنه قال : يا عبدي الميت في سبيلي ، ولو كان عليك (9) من الذنوب بعدد الحصى والثرى ، وقطر المطر وورق الشجر ، وعدد شعور الحيوانات ولحظاتهم وأنفاسهم وحركاتهم وسكناتهم ، لكانت مغفورة بدعاء علي لك .
  قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : فتعرضوا يا عباد الله لدعاء علي لكم ، ولا تتعرضوا لدعاء علي (عليه السلام) عليكم ، فان من دعا عليه أهلكه الله، ولو كانت حسناته عدد ما خلق الله كما أن من دعا له أسعده ـ الله ـ ولو كانت سيئاته ـ ب ـ عدد ما خلق الله(10).

--------------------
(1) ( فدعا رسول الله (صلى الله عليه وآله) ) أ ، وما بين ـ من البحار .
(2) ( الله ) خ ل .
(3) ( ربض ) ب ، س ، ط والبحار ، والربض ـ بضم الراء ـ : وسط الشئ ، وبالفتح : كل ما يؤوى ويستراح اليه من مال وأهل وبيت .
(4) من البحار
(5) ( اليه ) ب ، ط والبحار .
(6) ( قولا عقله الله وفهمه ) الاصل ، وما في المتن من البحار .
(7) ( اليك ) ب ، س ، ط .
(8) ( العرش حدثوا ) أ .
(9) ( لك ) أ ، ب ، س ، ط .
(10) عنه البحار : 17/ 319 ضمن ح 15 (*).

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 182 _
  ـ كلام الذئب مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) :
  87 ـ وأما كلام الذئب له : فان رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان جالسا ذات يوم إذ جاءه راع ترتعد فرائصه قد استفزعه العجب ، فلما رآه ـ رسول الله (صلى الله عليه وآله) ـ من بعيد قال لاصحابه : إن لصاحبكم هذا شأنا عجيبا .
   فلما وقف قال له رسول الله (صلى الله عليه وآله) : حدثنا بما أزعجك .
  قال الراعي : يا رسول الله أمر عجيب! كنت في غنمي إذ جاء (1) ذنب فحمل حملا فرميته بمقلاعي فانتزعته منه .
  ثم جاء إلى الجانب الايمن (2) ، فتناول منه حملا فرميته بمقلاعي فانتزعته منه ـ ثم جاء إلى الجانب الايسر فتناول حملا فرميته ، بمقلاعي فانتزعته ـ (3) ـ ثم جاء إلى الجانب الآخر فتناول حملا فرميته بمقلاعي فانتزعته منه ـ ثم جاء الخامسة هو وانثاه يريد أن يتناول (4) حملا فأردت أن أرميه فأقعى على ذنبه وقال .
  أما تستحيي ـ أن ـ تحول بيني وبين رزق قد قسمه الله تعالى لي . أفما أحتاج أنا إلي غذاء أتغذى به ؟ فقلت : ما أعجب هذا ! ذئب أعجم يكلمني ـ ب ـ كلام الادميين .
  فقال لي الذئب : ألا (5) أنبئك بما هو أعجب من كلامي لك ؟ محمد رسول الله (صلى الله عليه وآله) رسول رب العالمين بين الحرتين (6) ، يحدث الناس بأنباء ما قد سبق من الاولين

--------------------
(1) ( جاءنى ) ب ، ط .
(2) ( الايسر ) أ .
(3) من البحار .
(4) ( يريدان أن يتناولا ) الاصل ، وما في المتن كما في البحار .
(5) ( انى ) ط .
(6) الحرتان : حرة واقم ، وحرة ليلى ، (مجمع البحرين : 3/ 264) ، قال الحموى : حرة واقم : احدى حرتى المدينة وهى الشرقية سميت برجل من العماليق اسمه واقم ...وقيل : اسم أطم من آطام المدينة اليه تضاف الحرة ، وفيها كانت وقعة الحرة المشهورة ... وحرة ليلى : لبنى مرة بن عوف بن سعد بن ذبيان بن بفيض ... يطؤها الحاج في طريقهم إلى المدينة ... (معجم البلدان : 2/ 247 وص 249) والحرة في الاصل اسم لكل أرض ذات حجارة سوداء (*).

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 183 _
  ومالم يأت من الاخرين ، ثم اليهود مع علمهم بصدقه ، ووجودهم (1) له في كتب رب العالمين بأنه أصدق الصادقين وأفضل الفاضلين يكذبونه ويجحدونه وهو بين الحرتين ، وهو الشفاء النافع ، ويحك يا راعي آمن به تأمن من عذاب الله، وأسلم له ـ تسلم ـ من سوء العذاب الاليم .
  فقلت له : والله لقد عجبت من كلامك ، واستحييت من منعي لك ما تعاطيت أكله فدونك غنمي ، فكل منها ماشئت لا ادافعك ـ ولا امانعك ـ.
  فقال لي الذئب: يا عبدالله احمد الله إذ (2) كنت ممن يعتبر بآيات الله، وينقاد لامره لكن الشقي كل الشقي من يشاهد آيات محمد (صلى الله عليه وآله) في أخيه علي بن أبي طالب (عليه السلام) وما يؤديه عن الله عزوجل من فضائله ، ومايراه من وفور حظه من العلم الذي لا نظير له ـ فيه ـ ، والزهد الذى لا يحاذيه أحد فيه ، والشجاعة التى لا عدل له فيها ونصرته للاسلام التي لا حظ لاحد فيها مثل حظه .
  ثم يرى مع ذلك كله رسول الله يأمر بموالاته وموالاة أوليائه والتبري من أعدائه ويخبر (3) أن الله تعالى لا يتقبل من أحد عملا وإن جل وعظم ممن يخالفه ، ثم هو مع ذلك يخالفه ، ويدفعه (4) عن حقه ويظلمه ، ويوالي أعداءه ، ويعادي أولياءه إن هذا لاعجب من منعك إياي .
  قال الراعي : فقلت ـ له ـ : أيها الذئب أو كائن هذا ؟ قال : بلى (5) ، و ـ ما ـ هو أعظم منه سوف يقتلونه باطلا ، ويقتلون أولاده (6) ويسبون حرمهم ، و ـ هم ـ مع ذلك يزعمون

--------------------
(1) أى وجدوا اسمه الشريف ونعته وصفته (صلى الله عليه وآله) في كتب رب العالمين .
(2) ( ان ) ط .
(3) ( يخبره ) ب ، ص ، ط .
(4) ( يدافعه ) ب ، ط .
(5) ( بل ) أ .
(6) ( ولده ) ب ، ط ، والبحار : 17 ، ( ذريته ) البحار : 7 . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 184 _
  أنهم مسلمون ، فدعواهم (1) أنهم على دين الاسلام مع صنيعهم هذا بسادة ـ أهل ـ الاسلام أعجب من منعك لي .
  لاجرم أن الله تعالى قد جعلنا معاشر الذئاب ـ أنا ونظرائي ـ من ـ المؤمنين ـ نمزقهم في النيران يوم فصل القضاء ، وجعل في تعذيبهم شهواتنا ، وفي شدائد آلامهم لذاتنا .
  قال الراعي : فقلت : والله لو لا هذه الغنم ـ بعضها لي ـ وبعضها أمانة في رقبتي لقصدت محمدا حتى أراه .
  فقال لي الذئب : يا عبدالله امض إلى محمد ، واترك علي غنمك لارعاها لك .
  فقلت : كيف أثق بأمانتك ؟ فقال لى : يا عبدالله إن الذي أنطقني ـ ب ـ ما سمعت هو الذي يجعلني قويا أمينا عليها ، أو لست مؤمنا بمحمد ، مسلما له ما أخبر به عن الله تعالى في أخيه علي ؟ فامض لشأنك فاني راعيك ، والله عزوجل ثم ملائكته المقربون رعاة ـ لي ـ إذ كنت خادما لولي علي (عليه السلام) .
  فتركت غنمي على الذئب والذئبة وجئتك يا رسول الله.
  فنظر رسول الله (صلى الله عليه وآله) في وجوه القوم ، وفيها ما يتهلل سرورا ـ به ـ (2) وتصديقا ، وفيها ما تعبس شكا فيه وتكذيبا ، يسر المنافقون (3) إلى أمثالهم : هذا قد واطأه محمد على هذا الحديث ليختدع (4) به الضعفاء الجهال .
  فتبسم رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، وقال : لئن شككتم أنتم فيه فقد (5) تيقنته أنا وصاحبي الكائن معي في أشرف (6) المحال من عرش الملك الجبار ، والمطوف به معي في أنهار

--------------------
(1) ( بدعواهم ) الاصل ، وما في المتن كما في البحار .
(2) من البحار .
(3) ( ويسر منافقون ) البحار .
(4) ( ليخدع ) أ ، ص .
(5) ( لقد ) أ ، ( قد ) ب ، ط .
(6) ( أشراف ) أ . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 185 _
  الحيوان من دار القرار ، والذي هو تلوي في قيادة الاخيار ، والمتردد معي في الاصلاب (1) الزاكيات ، والمتقلب معي في الارحام (2) الطاهرات ، والراكض معي في مسالك الفضل ، والذي كسي ما كسيته (3) من العلم والحلم والعقل وشقيقي الذي انفصل مني عند الخروج إلى صلب عبدالله وصلب أبي طالب ، وعديلي في اقتناء المحامد والمناقب علي بن أبي طالب (عليه السلام) آمنت به أنا والصديق الاكبر ، وساقي أوليائي من نهر الكوثر آمنت به أنا والفاروق الاعظم ، وناصر أوليائي السيد الاكرم آمنت به أنا ، ومن جعله الله محنة لاولاد الغي و ـ رحمة لاولاد ـ الرشد ، وجعله للموالين له أفضل العدة آمنت به أنا ، ومن جعله الله لديني قواما ، ولعلومي علاما ، وفي الحروب (4) مقداما وعلى أعدائي ضرغاما ، أسدا قمقاما .
  آمنت به أنا ومن سبق الناس إلا الايمان ، فتقدمهم إلى رضا الرحمن ، وتفرد دونهم بقمع أهل الطغيان ، وقطع بحججه وواضح بيانه معاذير أهل البهتان آمنت به أنا وعلي بن أبي طالب الذي جعله الله لي سمعا وبصرا ، ويدا ومؤيدا وسندا وعضدا ، لا ابالي ـ ب ـ من خالفني إذا وافقني ، ولا أحفل (5) بمن خذلني إذا وازرني ، ولا أكترث (6) بمن ازور (7) عني إذا ساعدني .

--------------------
(1 ، 2 ) في الاصل : الارحام بدل الاصلاب ، وبالعكس .
(3) ( كسوته ) أ ، كسا (يكسو كسوا) الثوب فلان : ألبسه اياه ، كسى يكسى الثوب : لبسه .
(4) ( الحرب ) أ .
(5) ( أخذل ) أ .
(6) يقال : هو لا يكترث لهذا الامر : أى لا يعبا به ولا يبالى .
(7) الازورار عن الشئ : العدول عنه . (*)

تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) _ 186 _
  آمنت به أنا ومن زين الله به الجنان وبمحبيه ، وملا طبقات النيران بمبغضيه وشانئيه ، ولم يجعل أحدا من أمتي يكافيه ولا يدانيه ، لن يضرني عبوس المتعبسين (1) منكم إذا تهلل وجهه ، ولا إعراض المعرضين (2) منكم إذا خلص لي وده .
  ذاك علي بن أبي طالب ، الذي لو كفر الخلق كلهم من أهل السماوات والارضين لنصر الله عزوجل به وحده هذا الدين ، والذي لو عاداه الخلق كلهم لبرز إليهم أجمعين ، باذلا روحه في نصرة كلمة ـ الله ـ رب العالمين ، وتسفيل كلمات إبليس اللعين .
  ثم قال (صلى الله عليه وآله) : هذا الراعي لم يبعد شاهده ، فهلموا بنا إلى قطيعه ننظر إلى الذئبين فان كلمانا (3) ووجدناهما يرعيان غنمه ، وإلا كنا على رأس أمرنا (4) .
  فقام رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومعه جماعة كثيرة من المهاجرين والانصار ، فلما رأوا القطيع من بعيد ، قال الراعي : ذلك قطيعي .
   فقال المنافقون : فأين الذئبان ؟ فلما قربوا ، رأوا الذنئبين يطوفان حول الغنم يردان عنها (5) كل شئ يفسدها (6) فقال لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) : أتحبون أن تعلموا أن الذئب ماعنى غيري بكلامه ؟ قالوا : بلى يا رسول الله.
  قال : احيطوا بي حتي لا يراني الذئبان ، فأحاطوا به (صلى الله عليه وآله) ، فقال للراعي : يا راعي قل للذئب : من محمد الذي ذكرته من بين هؤلاء ؟ ـ فقال الراعي للذئب ماقاله رسول الله (صلى الله عليه وآله) ـ .
  قال : فجاء الذئب إلى واحد منهم وتنحى عنه ، ثم جاء إلى آخر وتنحى عنه فما زال كذلك حتى دخل وسطهم ، فوصل إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) هو وأنثاه ، وقالا :

--------------------
(1) ( المعبس ) أ ، والبحار .
(2) ( المعرض ) أ ، والبحار .
(3) ( كانا ) أ .
(4) قال المجلسى (رحمه الله) : أى ان لم نشاهد ذلك لا يبطل أمرنا ، بل نكون على ماكنا عليه من الدلائل والمعجزات .
(5) ( ويذودان ) ب ، ط .
(6) ( يبعدها ) أ . (*)