قدر الله، واحتقروا أمره ، وتهاونوا بعظيم شأنه .
إذ لم يعلموا أنه القادر بنفسه ، الغني بذاته الذي ليست قدرته مستعارة ، ولا غناه مستفادا ، والذي من شاء أفقره ، ومن شاء أغناه ، ومن شاء أعجزه بعد القدرة وأفقره بعد الغنى .
فنظروا إلى عبد قد اختصه ـ الله ـ
(1) بقدرته ليبين بها فضله عنده، وآثره بكرامته ليوجب بها حجته على خلقه ، وليجعل ما آتاه من ذلك ثوابا على طاعته ، وباعثا على اتباع أمره ، ومؤمنا عباده المكلفين من غلط من نصبه عليهم حجة ، ولهم قدوة فكانوا كطلاب ملك من ملوك الدنيا ، ينتجعون فضله ، ويؤملون نائله ، ويرجون التفيؤ
(2) بظله ، والانتعاش بمعروفه ، والانقلاب إلى أهليهم بجزيل عطائه الذي يغنيهم عن
(3) كلب الدنيا ، وينقذهم من التعرض لدني المكاسب ، وخسيس المطالب فبيناهم يسألون عن طريق الملك ليترصدوه ، وقد وجهوا الرغبة نحوه ، وتعلقت قلوبهم برؤيته إذ قيل : أنه سيطلع عليكم في جيوشه ومواكبه وخيله ورجله .
فاذا رأيتموه فأعطوه من التعظيم حقه ، ومن الاقرار بالمملكة
(4) واجبه ، وإياكم أن تسموا باسمه غيره ، أو تعظموا سواه كتعظيمه ، فتكونوا قد بخستم الملك حقه وأزريتم
(5) عليه ، واستحققتم بذلك منه عظيم عقوبته .
فقالوا : نحن كذلك فاعلون جهدنا وطاقتنا .
فما لبثوا أن طلع عليهم بعض عبيد الملك في خيل قد ضمها إليه سيده ، ورجل
(6) قد جعلهم في جملته ، وأموال قد حباه بها ، فنظر هؤلاء وهم للملك طالبون ، فاستكثروا ما رأوا بهذا العبد من نعم
--------------------
(1) من المصادر .
(2) ( الدنيا ) ط .
(3) ( يعينهم على ) الاحتجاج والبحار .
(4) ( بالملك له ) ب ، ط .
(5) ( أرذيتم ) أ ، ( أذريتم) ط ، أزرى عليه عمله : عابه عليه ، والازراء: التحقير ، وأرذاه : نبذه .
(6) الرجل ـ بكسر الراء ـ: الطائفة من الشئ ، جمعها : أرجال، (لسان العرب : 11/ 272) . (*)
تفسير الإمام العسكري (عليه السلام)
_ 57 _
سيده ، ورفعوه عن أن يكون هو المنعم عليه بما وجدوا معه (1) ، فأقبلوا إليه يحيونه تحية الملك ، ويسمونه باسمه ، ويجحدون أن يكون فوقه ملك أو له مالك .
فأقبل عليهم العبد المنعم عليه ، وسائر جنوده ، بالزجر والنهي عن ذلك ، والبراءة مما يسمونه به ، ويخبرونهم بأن الملك هو الذي أنعم بهذا عليه ، واختصه به ، وأن قولكم ـ ب ـ ما تقولون يوجب عليكم سخط الملك وعذابه ، ويفيتكم (2) كلما أملتموه من جهته ، وأقبل هؤلاء القوم يكذبونهم ويردون عليهم قولهم .
فما زال كذلك حتى غضب ـ عليهم ـ الملك لما وجد هؤلاء قد سموا (3) به عبده وأزروا عليه في مملكته ، وبخسوه حق تعظيمه ، فحشرهم أجمعين إلى حبسه ، ووكل بهم من يسومهم سوء العذاب .
فكذلك هؤلاء وجدوا أمير المؤمنين (عليه السلام) عبدا أكرمه الله ليبين فضله ، ويقيم حجته فصغر عندهم خالقهم أن يكون جعل عليا ـ له ـ عبدا ، وأكبروا عليا أن يكون الله عزوجل له ربا ، فسموه بغير اسمه ، فنهاهم هو وأتباعه من أهل ملته وشيعته وقالوا لهم : يا هؤلاء إن عليا وولده عباد مكرمون ، مخلوقون مدبرون لا يقدرون إلا على ما أقدرهم الله عليه رب العالمين ، ولا يملكون إلا ما ملكهم ـ الله ـ لا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا ، ولا قبضا ولا بسطا ولا حركة ولا سكونا إلا ما أقدرهم الله عليه وطوقهم ، وإن ربهم وخالقهم يجل عن صفات المحدثين ، ويتعالى عن نعوت المحدودين .
وإن من اتخذهم ـ أو واحدا منهم ـ أربابا من دون الله فهو من الكافرين ، وقد ضل سواء السبيل .
--------------------
(1) كذا في الاحتجاج ، وفى غيره : معه عبدا .
(2) قال المجلسى (ره) : يفيتكم على بناء الافعال من الفوت وفى بعض النسخ ( يفوتكم ) بمعنى : يوجب ... وأن يفوتكم .
(3) ( ساؤا ) ط ، ( سووا ) الاحتجاج ، ( ساووا ) البحار . (*)
تفسير الإمام العسكري (عليه السلام)
_ 58 _
فأبى القوم إلا جماحا (1) وامتدوا في طغيانهم يعمهون ، فبطلت أمانيهم ، وخابت مطالبهم وبقوا في العذاب الاليم (2).
30 ـ قال الامام أبومحمد الحسن (عليه السلام) : قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : فاتحة (3) الكتاب هذه أعطاها الله محمدا (صلى الله عليه وآله) وأمته ، بدأ فيها بالحمد لله والثناء عليه ، ثم ثنى بالدعاء لله عزوجل ولقد سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول : قال الله عزوجل : قسمت الحمد بيني وبين عبدي نصفين، فنصفها ل ي، ونصفها لعبدي ، ولعبدي ما سأل : اذا قال العبد : (بسم الله الرحمن الرحيم) قال الله عزوجل : بدأ عبدي باسمي حق علي أن أتم ـ م ـ له أموره ، وأبارك له في أحواله .
فاذا قال : (الحمدلله رب العالمين) قال الله عزوجل : حمدني عبدي ، وعلم أن النعم التي له من عندي ، وأن البلايا التي اندفعت عنه فبتطو لي أشهدكم ياملائكتي أني أضيف له نعيم الدنيا إلى نعيم الآخرة ، وأدفع عنه بلايا الآخرة كما دفعت عنه بلايا الدنيا .
فاذا قال : (الرحمن الرحيم) قال الله عزوجل : شهد لي عبدي بأني الرحمن الرحيم ، أشهدكم لاوفرن من رحمتي حظه ، ولا جزلن من عطائي نصيبه .
فاذا قال : (مالك يوم الدين) قال الله تعالى : أشهدكم كما اعترف بأني أنا المالك ـ ل ـ (4) يوم الدين ، لا سهلن يوم الحساب عليه حسابه ، ولاتقبلن حسناته ولاتجاوزن عن سيئاته .
--------------------
(1) جمع الرجل : اذا ركب هواه ، وأسرع إلى الشئ ، فلم يمكن رده .
(2) عنه البحار : 25/ 273 ضمن ح 20 ، وعن الاحتجاج : 2/ 232 ، وأخرجه في اثبات الهداة : 7/ 470 ح 2 عن الاحتجاج .
(3) ( لما فرغ من تفسير فاتحة ) الاصل ، ولعله من اضافات النساخ .
(4) من البحار : 85 . (*)
تفسير الإمام العسكري (عليه السلام)
_ 59_
فاذا قال العبد : ( إياك نعبد ) قال الله تعالى : صدق عبدي إياي يعبد اشهدكم لا ثيبنه على عبادته ثوابا يغبطه كل من خالفه في عبادته لي .
فاذا قال : ( واياك نستعين ) قال الله عزوجل : بي استعان عبدي ؟ وإلي التجأ أشهدكم لا عينه ـ على أمره ولا غيثنه ـ في شدائده ، ولآخذن بيده يوم (1) نوائبه .
فاذا قال : ( اهدنا الصراط المستقيم ) إلى آخرها قال الله عزوجل : هذا لعبدي ولعبدي ما سأل ـ و ـ قد استجبت لعبدي ، وأعطيته ما أمل ، وأمنته مما منه وجل .
قيل : يا أمير المؤمنين أخبرنا عن (بسم الله الرحمن الرحيم) أهي من فاتحة الكتاب ؟ فقال : نعم، كان (2) رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقرؤها ويعدها آيه منها ، ويقول : فاتحة الكتاب هي السبع المثاني ، فضلت ب (بسم الله الرحمن الرحيم) وهي الآية السابعة منها (3).
--------------------
(1) ( في ) أ .
(2) ( فان ) أ .
(3) عنه البحار : 85/ 59 ح 47 وعن عيون أخبار الرضا : 1/ 234 ح 59 (باسناده عن محمد بن القاسم .
إلى قوله : هى السبع المثانى) وعنه البحار : 92/ 226 ح 3 وعن أمالى الصدوق : 147 ح 1 وعن العيون ، وعنه في ص 227 ح 4 من البحار المذكور (ذيله) وعنه الوسائل : 4/ 747 ح 10 وعن العيون (قطعة) وعنه مستدرك الوسائل : 1/ 305 باب 44 ح 1 وعن العيون الامالى .
وأخرجه في الجواهر السنية : 134 عن العيون والامالى (قطعة) . (*)
تفسير الإمام العسكري (عليه السلام)
_ 60 _
( بسم الله الرحمن الرحيم ) السورة التي يذكر فيها البقرة (1)
31 ـ قال الامام (عليه السلام) : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : إن هذا القرآن مأدبة (2) الله تعالى فتعلموا من مأدبة الله عزوجل ما استطعتم ، فانه النور المبين ، والشفاء النافع ـ ف ـ تعلموه ، فان الله تعالى يشرفكم بتعلمه .
فضل سورة البقرة :
تعلموا سورة البقرة ، وآل عمران ، فان أخدهما بركة ، وتركهما حسرة ، ولا يستطيعهما
(3) البطلة ـ يعني السحرة ـ وإنهما ليجيئان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو عقابتان
(4) أو فرقان
(5) من طير صواف ، يحاجان عن صاحبهما ، ويحاجهما رب العالمين رب العزة يقولان : يارب الارباب إن عبدك هذا قرأنا ، وأظمأنا نهاره ، وأسهرنا ليله ، وأنصبنا بدنه
(6).
يقول الله تعالى : يا أيها القرآن فكيف كان تسليمه لما أنزلته فيك من تفصيل علي ابن أبي طالب أخي محمد رسول الله ؟ يقولان : يا رب الارباب وإله الالهة ، والاه، ووالى أولياءه ، وعادى أعداءه ، إذا قدر جهر ، وإذا عجز اتقى وأسر
(7) .
--------------------
(1) زاد في ( ط ) بسم الله الرحمن الرحيم ، وذكر في ( أ ) قبل قوله ( بسم الله الرحمن الرحيم ) : قوله عزوجل .
(2) قال ابن منظور في لسان العرب : 1/ 206 : وفى الحديث عن ابن مسعود ( ان هذا القرآن مأدبة الله في الارض... ) يعنى مدعاته .
(3) ( لا يستبطيها ) أ .
(4) ( غيابتان ) س ، ص ، ط .
(5) قال ابن الاثير في النهاية : 3/ 440 : وفيه ( تأتى البقرة وآل عمران كأنهما فرقان ) ، أى قطعتان .
(6) ( بين يديه ) ط .
(7) ( أمر ) ط ، ( استتر ) البحار . (*)
تفسير الإمام العسكري (عليه السلام)
_ 61 _
يقول الله عزوجل : فقد عمل إذا بكما كما أمرته ، وعظم من حقكما ما عظمته .
ياعلي أما تسمع شهادة القرآن لوليك هذا ؟ ـ ف ـ يقول علي : بلى يا رب .
فيقول الله عزوجل : فاقترح له ما يريد .
فيقترح له ما يزيد على أماني هذا القارئ من الاضعاف المضاعفات بما لا يعلمه إلا الله عزوجل .
فيقول الله عزوجل :( قد أعطيته ما اقترحت ياعلي ) .
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : وإن والدي القارئ ليتوجان بتاج الكرامة ، يضئ نوره من ميسرة عشرة آلاف سنة ، ويكسيان حلة لا يقوم لاقل سلك منها مائة ألف ضعف ما في الدنيا ، بما يشتمل عليه من خيراتها .
ثم يعطي هذا القارئ الملك بيمينه في كتاب ، والخلد بشماله في كتاب ، يقرأ من كتابه بيمينه : قد جعلت من أفاضل ملوك الجنان ، ومن رفقاء ـ محمد ـ (1) سيد الانبياء و ـ علي ـ (2) خير الاوصياء ، والائمة من بعدهما سادة الاتقياء .
ويقرأ من كتابه بشماله : قد أمنت الزوال والانتقال عن هذا الملك ، وأعذت من الموت والاسقام وكفيت الامراض والاعلال ، وجنبت حسد الحاسدين ، وكيد الكائدين .
ثم يقال له : أقرأ ـ و ـ ارق ، ومنزلك (3) عند آخر آية تقرؤها .
فاذا نظر والداه إلى حليتيهما (4) وتاجيهما قالا : ربنا أنى لنا هذا الشرف ولم تبلغه أعمالنا ؟ (فقال لهما كرام ملائكة الله ـ عن الله ـ عزوجل : هذا لكما لتعليمكما) (5) ولد كما القرآن (6).
--------------------
( 1 ، 2) من البحار .
(3) ( منزلتك ) ب ، ط .
(4) ( حلتهما ) س ، ص ، والحلية : ما يزين به من المصوغات المعدنية أو الاحجار الكريمة .
(5) ( فيقال لهما : أكرم الله عزوجل هذا لكما بتعليمكما ) البحار 7 ح 5 ، (" فقال الله عزوجل لهما : هذا لكما بتعليمكما ) البحار : 7 ح 96 ، ( فقال لهما : اكرام الله عزوجل هذا لكما بتعليمكما ) البحار : 92 .
(6) عنه البحار : 7/ 292 ح 5 ، وص 208 ح 96 (قطعة) وج 92/ 267 ح 16 ، ومستدرك الوسائل : 1/ 290 باب 6 ح 2 . (*)
تفسير الإمام العسكري (عليه السلام)
_ 62 _