وفي عصر النبي وبأمر منه اشتغل جماعة من الصحابة بقراءة القرآن وحفظه وضبطه ، وهم الذين يسمون بـ ( القراء ) ، وبعد الصحابة استمر المسلمون في التفسير ولا زال حتى الان فيهم مفسرون .
علم التفسير وطبقات المفسرين :
اشتغل جماعة من الصحابة بالتفسير بعد ان ارتحل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الى الرفيق الاعلى ، ومنهم أُبي بن كعب وعبد الله بن مسعود وجابر بن عبد الله الانصاري وابو سعيد الخدري وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن عمر وانس وابو هريرة وابو موسى ، وكان اشهرهم عبد الله بن عباس .
كان منهج هؤلاء في التفسير انهم ينقلون ما سمعوه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم في معاني الآيات بشكل احاديث مسندة
(1) وبلغت هذه الاحاديث كلها الى نيف واربعين ومائتي حديث اسانيد كثير منها ضعيفة ومتون بعضها منكرة لا يمكن الركون اليها .
وربما ذكر هؤلاء تفسير بعض الآيات على انه تفسير منهم بدون اسناده الى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، فعد المفسرون من متأخري اهل السنة هذا القسم ايضا من جملة الاحاديث ، بحجة ان الصحابة اخذوا علم القرآن من النبي ويبعد ان يفسروا من عند انفسهم ، ولكن لا دليل قاطع على كلامهم هذا ، بالاضافة الى ان كمية كبيرة من الاحاديث المذكورة واردة في اسباب نزول الآيات وقصصها التاريخية ، كما ان فيها احاديث غير مسندة منقولة عن بعض علماء اليهود الذين اسلموا ككعب الاحبار وغيره .
وكان ابن عباس في اكثر الاوقات يستشهد بأبيات شعرية في فهم معاني الآيات ، كما نرى ذلك جلياً في مسائل نافع بن الازرق ، فان ابن عباس عند الاجابة عليها استشهد بالشعر في اكثر من مائتي مورد من الآيات ، وقد نقل السيوطي مائة وتسعين جواباً منها في كتابه الاتقان
(2) .
ومن هنا لا يمكن اعتبار الاحاديث المنقولة عن الصحابة احاديث نبوية كما لا يمكن القول بأنهم لم يفسروا مطلقاً برأيهم ، ومفسرو الصحابة هم الطبقة الاولى من المفسرين ، ( الطبقة الثانية ) هم التابعون ، وهم تلامذة مفسري الصحابة ، وهم مجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة وضحاك ، ومن هذه الطبقة ايضا الحسن البصري وعطاء بن ابي رباح وعطاء بن ابي مسلم وابي العالية ومحمد بن كعب القرظي وقتادة وعطية وزيد بن اسلم وطاوس اليماني
(3) .
--------------------
(1) آخر كتاب الاتقان ، طبع القاهرة سنة 1370 هـ .
(2) الاتقان ص 120 ـ 133 .
(3) مجاهد ، مفسر مشهور ، توفي
سنة 100 او سنة 103 ( تهذيب الاسماء للنووي ) .
سعيد بن جبير مفسر معروف تلميذ ابن عباس ، قتله الحجاج الثقفي سنة 94 ( التهذيب ) .
عكرمة ، مولى ابن عباس وتلميذه وتلميذ سعيد بن جبير ، توفي سنة 104 ( التهذيب ) .
ضحاك ، من تلامذة عكرمة ( لسان الميزان ) .
الحسن البصري ، زاهد ومفسر معروف ، توفي سنة 110 ( التهذيب ) .
عطاء بن ابي رباح ، فقيه ومفسر مشهور ، من تلامذة ابن عباس ، توفي سنة 115 ( التهذيب ) .
عطاء بن ابي مسلم ، من اكابر التابعين ، ومن تلامذة ابن جبير وعكرمة ، توفي سنة 133 ( التهذيب ) .
ابو العالية ، من ائمة التفسير واكابر التابعين ، كان في المائة الاولى من الهجرة ( التهذيب ) .
محمد بن كعب القرظي ، مفسر معروف ، وهو من اسرة يهودية من بني قريظة ، كان في المائة الاولى من الهجرة .
قتادة ، اعمى ، كان من اكابر المفسرين ، وهو من تلامذة الحسن البصري وعكرمة ، توفي سنة 117 ( التهذيب ) .
عطية ، ينقل عن ابن عباس ( لسان الميزان ) .
زيد بن اسلم ، مولى عمر بن الخطاب ، فقيه ومفسر ، توفي سنة 136 ( التهذيب ) .
طاوس اليماني ، من اعلام عصره ، وهو تلميذ ابن عباس ، توفي سنة 106 ( التهذيب ) .
القرآن في الاسلام
_ 28 _
( الطبقة الثالثة ) تلامذة الطبقة الثانية ، كربيع بن انس وعبد الرحمن بن زيد بن اسلم وابو صالح الكلبي ونظرائهم (1) .
ابو صالح الكلبي ، النسابة المفسر ، وهو من اعلام القرن الثاني .
وكان منهج التابعين في التفسير انهم ينقلونه احيانا بصورة احاديث عن الرسول الكريم او الصحابة ، واحيانا ينقلونه بشكل نظريات خاصة بلا اسنادها الى احد ، فعامل متأخرو المفسرين مع هذه الاقوال معاملة الاحاديث النبوية واعتبروها احاديث موقوفة (2) .
ويطلق على الطبقتين الاخرتين لفظة ( قدماء المفسرين ) .
( الطبقة الرابعة ) اوائل المؤلفين في علم التفسير ، كسفيان ابن عيينة ووكيع بن الجراح وشعبة بن الحجاج وعبد بن حميد وغيرهم . ومن هذه الطبقة ايضا ابن جرير الطبري صاحب التفسير المشهور (3) .
ومنهج هذه الطبقة من المفسرين كان نقل اقوال الصحابة والتابعين بشكل احاديث في مؤلفاتهم التفسيرية بدون ذكر آرائهم الخاصة ، الا ان ابن جرير في تفسيره قد يبدي رأيه في ترجيح بعض الاحاديث على بعضها وكيفية الجمع بينها ، ومن هذه الطبقة تبدأ طبقات المفسرين المتأخرين .
( الطبقة الخامسة ) المفسرون الذين نقلوا الاحاديث في تفاسيرهم بحذف الاسانيد واكتفوا بنقل الاقوال والآراء ، قال السيوطي : فدخل من هنا الدخيل والتبس الصحيح بالعليل (4) .
الا ان المتدبر في الاحاديث المسندة يرى ايضا كثيرا من الوضع والدس ، ويشاهد الاقوال المتناقضة تنسب الى صحابي واحد ، ويقرأ قصصاً وحكايات يقطع بعدم صحتها ، ويمر على احاديث في اسباب النزول والناسخ والمنسوخ لا تتفق مع سياق الآيات .
ومن هنا نقل ان الامام احمد بن حنبل قال : ثلاثة لا اصل لها المغازي والملاحم واحاديث التفسير ، ونقل عن الامام الشافعي ان الثابت من الاحاديث المروية عن ابن عباس مائة حديث فقط .
--------------------
(1) عبد الرحمن بن زيد ، يعد من علماء التفسير .
(2) الاحاديث الموقوفة هي التي لم يذكر فيها المروي عنه .
(3) سفيان بن عيينة ، مكي من طبقة التابعين الثانية ، وهو من علماء التفسير توفي سنة 198 ( التهذيب ) .
وكيع بن الجراح ، كوفي من طبقة التابعين الثانية ، ومن مشاهير المفسرين توفي سنة 197 ( التهذيب ) .
شعبة بن الحجاج البصري ، من طبقة التابعين الثانية ، وهو من مشاهير المفسرين ، توفي سنة 160 ( التهذيب ) .
عبد بن حميد ، صاحب تفسير ، من طبقة التابعين الثانية ، كان في القرن الثاني من الهجرة .
ابن جرير الطبري ، محمد بن جرير بن يزيد ، من مشاهير علماء السنة ، توفي سنة 310 ( لسان الميزان ) .
(4) الاتقان 2 / 190 .
القرآن في الاسلام
_ 29_
( الطبقة السادسة ) المفسرون الذين كتبوا التفسير بعد ظهور العلوم المختلفة ونضجها ، فكتب كل منهم حسب اختصاصه وفي العلم الذي اتقنه : فالنحوي ادرج المباحث النحوية كالزجاج والواحدي وابي حيان
(1) ، والاديب اورد المباحث البلاغية كالزمخشري في كشافه
(2) ، والمتكلم اهتم بالمباحث الكلامية كالفخر الرازي في تفسيره الكبير
(3) ، والصوفي غاص في المباحث الصوفية كابن العربي وعبد الرزاق الكاشاني في تفسيريهما
(4) ، والاخباري ملأ كتابه بالاحاديث كالثعلبي في تفسيره
(5) ، والفقيه جاء بالمسائل الفقهية كالقرطبي في تفسيره (6) .
وقد خلط جماعة آخرون في تفاسيرهم بين العلوم المختلفة كما نشاهده في تفسير روح المعاني (7) وروح البيان (8) وتفسير النيسابوري (9) .
والخدمة التي قدمتها هذه الطبقة الى علم التفسير هي اخراجه من جموده واخضاعه للدرس والبحث ، ولكن الانصاف يقتضي القول بأن كثيراً من المباحث التي كتبها هؤلاء حملت على القرآن حملاً ولا تدل عليها الآيات .
أسلوب مفسري الشيعة وطبقاتهم :
الطبقات التي ذكرناها هي طبقات المفسرين من السنة ، وقد رأينا ان لهم منهجاً خاصا في التفسير ساروا على ضوئه من حين نشأته ، فجعلوه احاديث نبوية واقوال للصحابة والتابعين ولم يجيزوا اعمال النظر فيها لانه يكون من قبيل الاجتهاد مقابل النص .
--------------------
(1) الزجاج ، من علماء النحو ، توفي سنة 310 ( ريحانة الادب ) .
الواحدي ، نحوي مفسر ، توفي سنة 468 ( الريحانة ) .
ابو حيان الاندلسي ، نحوي مفسر قارىء توفي في مصر سنة 745 ( الريحانة ) .
(2) الزمخشري ، من مشاهير علماء الادب ، مؤلف تفسير الكشاف ، توفي سنة 538 ( كشف الظنون ) .
(3) الامام فخر الدين الرازي ، متكلم مفسر مشهور ، صاحب تفسير مفاتيح الغيب ، توفي سنة 606 ( كشف الظنون ) .
(4) عبد الرزاق الكاشاني ، من مشاهير علماء الصوفية في القرن الثامن الهجري ( ريحانة الادب ) .
(5) احمد بن محمد بن ابراهيم الثعلبي ، صاحب التفسير المشهور ، توفي سنة 426 او 427 ( الريحانة ) .
(6) محمد بن احمد بن ابي بكر القرطبي ، توفي سنة 668 ( الريحانة ) .
(7) تأليف الشيخ اسماعيل حقي ، توفي سنة 1137 ( ذيل كشف الظنون ) .
(8) تأليف شهاب الدين محمود الالوسي البغدادي ، توفي سنة 1270 ( ذيل كشف الظنون ) .
(9) غرائب القرآن ، تأليف نظام الدين حسن القمي النيسابوري ، توفي سنة 728 ( ذيل كشف الظنون ) .
القرآن في الاسلام
_ 30 _
ولكن لما ظهر التناقض والتضارب والدس والوضع فيها بدأت الطبقة السادسة تعمل رأيها فيها وتجتهد .
أما المنهج الذي اتخذته الشيعة في تفسير القرآن الكريم فيختلف مع منهج السنة ، ولذا يختلف تقسيم طبقاتهم مع الطبقات المذكورة .
تعتقد الشيعة ـ بنص من القرآن الكريم حجية اقوال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في التفسير ، وترى ان الصحابة والتابعين كبقية المسلمين لا حجية في اقوالهم الا ما ثبت انه حديث نبوي ، وقد ثبت بطرق متواترة في حديث الثقلين ان اقوال العترة الطاهرة من اهل بيته عليهم السلام هي تالية لاقوال الرسول ، فهي حجة ايضا .
ومن هنا اخذت الشيعة في التفسير بما اثر عن النبي واهل بيته عليهم السلام ، فكانت طبقات المفسرين منهم كما يلي :
( الطبقة الاولى ) : الذين رووا التفسير عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وائمة اهل البيت عليهم السلام ، وادرجوا الاحاديث في مؤلفاتهم المتفرقة ، كزرارة ومحمد بن مسلم ومعروف وجرير واشباههم (1) .
( الطبقة الثانية ) : اوائل المؤلفين في التفسير ، كفرات بن ابراهيم الكوفي وابي حمزة الثمالي والعياشي وعلي بن ابراهيم القمي والنعماني (2) .
وطريقة هؤلاء في تفاسيرهم تشبه طريقة الطبقة الرابعة من مفسري اهل السنة ، فقد رووا الاحاديث المأثورة عن الطبقة الاولى وادرجوها مسندة في مؤلفاتهم ولم يبدوا آراءهم الخاصة في الموضوع .
ومن الواضح ان الزمن الذي كان يمكن الاخذ فيه عن الائمة عليهم السلام كان طويلاً بلغ نحواً من ثلاثمائة سنة ،فكان من الطبيعي ان لا يضبط الترتيب الزمني لهاتين الطبقتين بصورة دقيقة ، بل كانتا متداخلتين ومن الصعوبة بمكان التفريق الدقيق بينهما .
--------------------
(1) زرارة بن اعين ومحمد بن مسلم من فقهاء الشيعة وخواص اصحاب الامامين الباقر والصادق عليهما السلام .
معروف بن خربوذ وجرير من خواص اصحاب الامام الصادق عليه الصلاة والسلام .
(2) فرات بن ابراهيم الكوفي ، صاحب التفسير المشهور ، من مشايخ علي بن ابراهيم القمي ( ريحانة الادب ) .
ابو حمزة الثمالي ، من فقهاء الشيعة وخواص اصحاب الامام السجاد والباقر عليهما السلام ( الريحانة ) .
العياشي ، محمد بن مسعود الكوفي السمرقندي ، من اعيان علماء الامامية في النصف الثاني من القرن الثالث الهجري ( الريحانة ) .
علي بن ابراهيم القمي ، من مشائخ الحديث الشيعي في اواخر القرن الثالث واوائل القرن الرابع الهجري .
النعماني ، محمد بن ابراهيم ، من اعيان علماء الامامية ، وهو تلميذ ثقة الإسلام الكليني ، كان في اوائل القرن الرابع الهجري ( الريحانة ) .
القرآن في الاسلام
_ 31 _
وقد قل عند اوائل مفسري الشيعة نقل احاديث التفسير بشكل روايات مرسلة في تفاسيرهم ، وكنموذج لنقل الاحاديث مروية بدون اسانيد نلفت الانظار الى تفسير العياشي الذي حذف بعض تلامذته اسانيده اختصاراً ، فاشتهرت نسخة التلميذ المختصرة وحلت محل نسخة الاصل .
( الطبقة الثالثة ) اصحاب العلوم المختلفة ، كالشريف الرضي في تفسيره الادبي والشيخ الطوسي في تفسيره الكلامي المسمى بالتبيان والمولى صدر الدين الشيرازي في تفسيره الفلسفي والميبدي الكونابادي في تفسيره الصوفي والشيخ عبد علي الحويزي والسيد هاشم البحراني والفيض الكاشاني في تفاسيرهم نور الثقلين والبرهان والصافي (1) .
وهناك جماعة جمعوا في تفاسيرهم بين العلوم المختلفة ، ومنهم الشيخ الطبرسي في تفسيره ( مجمع البيان ) الذي يبحث فيه عن اللغة والنحو والقراءة والكلام والحديث وغيرها (2) .
كيف يتقبل القرآن التفسير ؟
الاجابة على هذا السؤال تتوضح من الفصول الماضية ، فان القرآن الكريم ـ كما ذكرنا ـ كتاب دائم للجميع ، يخاطب الكل ويرشدهم الى مقاصده وقد تحدى في كثير من آياته على الاتيان بمثله واحتج بذلك على الناس ، ووصف نفسه بأنه النور والضياء والتبيان لكل شيء ، فلا يكون مثل هذا الكتاب محتاجا الى شيء اخر .
--------------------
(1) الشريف الرضي ، محمد بن الحسين الموسوي ، من اجلاء فقهاء الامامية ، اعلم اهل زمانه في الشعر والادب ، ومن تآليفه كتاب ( نهج البلاغة ) توفي سنة 404 او 406 ( ريحانة الادب ) .
شيخ الطائفة ، محمد بن الحسن الطوسي ، من اعلام علماء الامامية ، من تآليفه ( التهذيب ) و ( الاستبصار ) اللذين هما اصلان من الاصول الاربعة الحديثية عند الشيعة ، توفي سنة 460 ( الريحانة ) .
صدر المتألهين ، محمد بن ابراهيم الشيرازي ، الفيلسوف المشهور ، مؤلف كتاب ( اسرار الآيات )و ( مجموعة تفاسير ) ، توفي سنة 1050 ( روضات الجنات ) .
الميبدي .
السيد هاشم البحراني ، صاحب تفسير ( البرهان ) في اربعة اجزاء كبار توفي سنة 1107 ( الريحانة ) .
الفيض الكاشاني ، المولى محمد محسن بن المرتضى ، مؤلف كتاب ( الصافي ) و ( الاصفى ) ، توفي سنة 1091 ( الريحانة ) .
الشيخ عبد علي الحويزي الشيرازي ، مؤلف كتاب ( نور الثقلين ) في خمسة اجزاء ، توفي سنة 1112 ( الريحانة ) .
(2) أمين الإسلام ، الفضل بن الحسن الطبرسي ، من اعيان علماء الامامية ، صاحب ( مجمع البيان ) في عشرة اجزاء ، توفي سنة 548 ( الريحانة ) .
القرآن في الاسلام
_ 32 _
يقول محتجاً على انه ليس من كلام البشر : (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا ) (1) .
ليس فيه اي اختلاف ، ولو وجد فيه اختلاف بالنظرة البدائية يرتفع بالتدبر في القرآن نفسه .
ومثل هذا الكتاب لو احتاج في بيان مقاصده الى شيء اخر لم تتم به الحجة ، لانه لو فرض ان احد الكفار وجد اختلافا في شيء من القرآن لا يرتفع من طريق الدلالة اللفظية للايات لم يقنع برفعه من طرق اخرى ، كأن يقول النبي مثلاً يرتفع بكذا وكذا ، ذلك لان هذا الكافر لا يعتقد بصدق النبي ونبوته وعصمته ، فلم يتنازل لقوله ودعاويه .
وبعبارة اخرى : لا يكفي ان يكون النبي رافعا للاختلافات القرآنية بدون شاهد لفظي من نفس القرآن لمن لا يعتقد نبوته وعصمته ، والآية الكريمة ( أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا ) توجه الخطاب الى الكفار الذين لم يؤمنوا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فانهم لم يسلموا لاقواله لو لم يكن هناك شاهد قرآني صريح .
ومن جهة اخرى نرى ان القرآن نفسه يثبت حجية اقوال النبي وتفسيره ، كما ان النبي يثبت حجية اقوال اهل بيته وتفسيرهم .
ونستنتج من هاتين المقدمتين ان في القرآن آيات تفسر الآيات الاخرى ، ومكانة الرسول واهل بيته من القرآن كمرشد معصوم لا يخطأ في تعاليمه وارشاداته ، فما يفسرونه يطابق التفسير الذي يستنتج من ضم الآيات بعضها الى بعض ولا يخالفها في شيء
نتيجة البحث :
النتيجة التي توصلنا اليها في الفصل الماضي هي ان التفسير الواقعي للقرآن هو التفسير الذي ينبع من التدبر في الآيات الكريمة وضم بعضها الى بعض .
وبعبارة اوضح : يمكن ان نسلك في التفسير احدى طرق ثلاث :
1 ـ تفسير الآية لوحدها بالمقدمات العلمية وغير العلمية التي نملكها .
2 ـ تفسير الآية بمعونة الاحاديث المأثورة عن المعصومين عليهم السلام .
3 ـ تفسير الآية بالتدبر والدقة فيها وفي غيرها والاستفادة من الاحاديث .
الطريقة الثالثة هي المنهج الذي توصلنا اليه في الفصل الماضي ، وهو المنهج الذي حث عليه النبي واهل بيته عليهم السلام فيما اثر عنهم .
قال صلى الله عليه وآله وسلم ( وانما نزل ليصدق بعضه بعضاً ) ، وقال علي عليه السلام ( ينطق بعضه ببعض ويشهد بعضه على بعض ) .
ومما ذكرنا يتوضح ان هذه الطريقة غير الطريقة المنهية في الحديث النبوي المشهور ( من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار ) ، لان الطريقة المذكورة تفسير للقرآن بالقرآن لا بالرأي .
--------------------
(1) سورة النساء : 82 .
القرآن في الاسلام
_ 33 _
والطريقة الأولى من الطرق الثلاث لا يمكن الاعتماد عليها ، وهي في الحقيقة من قبيل التفسير بالراي الذي لا يجوز الا ما وافق منه مع الطريقة الثالثة .
واما الطريقة الثانية فهي التي كان يتبعها علماء التفسير في الصدر الاول وكان العمل عليها عدة قرون ، وهي الطريقة المعمولة حتى الان عند الاخباريين من الشيعة والسنة .
وهذه الطريقة محدودة لا تفي بالحاجات غير المحدودة ، لان ستة الاف وعدة مئات من الآيات التي نقرأها في القرآن الكريم تقابلها مئات الالوف من الاسئلة العلمية وغير العلمية ، فمن اين نجد الاجابة على هذه الاسئلة وكيف التخلص منها ؟
هل نرجع فيها الى الرويات والاحاديث ؟
ان ما يمكن تسميته بالحديث النبوي في التفسير ، المروي من طريق السنة لا يزيد على مائتين وخمسين حديثاً ، مع العلم ان كثيراً من هذه الاحاديث ضعيفة الاسانيد وبعضها منكرة .
نعم الاحاديث المروية عن اهل البيت عليهم السلام من طريق الشيعة تبلغ عدة الاف حديث ، وفيها مقدار كثير من الاحاديث التي يمكن الاعتماد عليها ، الا انها مع هذا لا تكفي للاجابة على الاسئلة غير المحدودة التي نواجهها تجاه الآيات القرآنية الكريمة .
هذا ، بالاضافة الى ان هناك آيات لم يرد فيها حديث اصلاً لا من طريق السنة ولا من طريق الشيعة ، فكيف نصنع بها ؟ ففي هذه المشاكل : اما ان نرجع الى الآيات المناسبة لما
نروم تفسيره ، وهذا ما تمنع عنه هذه الطريقة الحديثية ، واما ان نمتنع عن البحث في الآية بتاتاً ونغض الطرف عن حاجاتنا العلمية التي تدعونا الى البحث .
اذاً ماذا نصنع مع ما تدل عليه الآيات الكريمة التالية الحاثة على البحث والتدبر والتبيين ؟
قال تعالى : ( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ ) (1) .
وقال : ( أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ) (2) .
وقال : ( كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ ) (3) .
وقال : ( أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءهُمُ الْأَوَّلِينَ ) (4) .
وقد ورد في احاديث صحيحة عن النبي وائمة اهل البيت عليهم السلام انهم حثوا على الرجوع الى القرآن الكريم عند حدوث الفتن وظهور المشاكل (5) ، فماذا نصنع بهذه الاحاديث ؟
وقد ثبت ايضا عن طريق العامة في احاديث نبوية وعن طريق الخاصة في روايات متواترة عن النبي وائمة اهل البيت عليهم السلام ضرورة عرض الاخبار على كتاب الله تعالى (6) ، وبموجبها يجب عرضها على القرآن الكريم فما وافقه يؤخذ به وما خالفه يطرح .
--------------------
(1) سورة النحل : 89 .
(2) سورة النساء : 82 .
(3) سورة ص : 39 .
(4) سورة المؤمنون : 68 .
(5) انظر اوائل تفسير العياشي والصافي والبرهان وبحار الانوار .
(6) بحار الانوار 1 / 137 ، باب اختلاف الاخبار .
القرآن في الاسلام
_ 34 _
من البديهي ان مضمون هذه الاحاديث يصح لو كانت الآيات تدل على مرادها ويكون لمدلولها ـ وهو التفسير ـ اعتبار ، فلو رجعنا لمعرفة محصل مدلول الآية ـ وهو التفسير ـ الى الحديث لم يبق موضع لعرض الحديث على القرآن .
ان هذه الاحاديث التي اشرنا اليها احسن شاهد على ان الآيات القرآنية كبقية ما يتكلم به المتكلمون لها مداليلها ، وهي في نفسها حجة مع غض النظر عن الاحاديث الواردة في التفسير .
قد تبين من البحوث السابقة ان واجب المفسر هو ملاحظة الاحاديث الواردة في التفسير عن النبي وائمة اهل البيت عليهم السلام والغور فيها ليعرف طريقتهم ، ثم يفسر القرآن الكريم بالمنهج الذي يستفاد من الكتاب والسنة ويأخذ بالاحاديث التي توافق الكتاب ويطرح ما عداها .
نموذج من تفسير القرآن بالقرآن :
قال الله تعالى : ( اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ) (1) .
تكرر مضمون هذه الآية الكريمة في اربعة مواضع من القرآن ، وبحسب هذا المضمون جميع المخلوقات الموجودة في الكون هي من خلق الله تعالى وصنعه .
ويجب ان لا تغرب عنا هذه النكتة ان في مئات من الآيات صدق موضوع العلية والمعلولية ، ونسب فيها فعل كل فاعل اليه ، واعتبرت الافعال الاختيارية من افعال الإنسان نفسه ، وخصت الاثار بالمؤثرات كالاحراق بالنار والنبات الى الارض والمطر الى السماء وغيرها .
والنتيجة ان صانع كل شيء وفاعله ينسب فعله وصنعه اليه ، الا ان مفيض الوجود والموجد الحقيقي للفعل هو الله تعالى ليس غيره .
ومن هنا نعرف التعميم الذي نجده في قوله تعالى (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَه ) (2) ، فلو انضمت هذه الآية الى الآية السابقة لرأينا الجمال والخلقة قرينين ، فكل ما وجد في عالم المخلوقات من خلق كان موصوفاً بالجمال .
ويجب ايضا ان لا تغرب عنا هذه النكتة ان الآيات القرآنية تعترف بالخير مقابل الشر والنفع مقابل الضرر والحسن مقابل السيء والجمال مقابل القبح ، وتعتبر كثيرا من الافعال والاقوال والافكار حسنة او سيئة ، ولكن هذه المساوىء والقبائح والشرور تبدو واضحة اذا ما قيست بما يقابلها ، فوجدوها نسبي وليس بنفسي .
لو تأملنا في الايتين المذكورتين سابقاً وامعنا النظر فيما سبق من الكلام ، نعلم ان هذا الجمال المحير الذي ملأ عالم الوجود كله انما هو لمعة من الجمال الالهي ندركه نحن بواسطة الآيات السماوية والارضية ، وكل جزء من العالم كوة ننظر منها الى القدرة اللامتناهية لنعرف ان ليس لهذه الاجزاء شيء من القدرة الا ما افيض عليها .
ولهذا نرى في آيات قرآنية كثيرة نسبة انواع الجمال والكمال الى الله تعالى ، فتقول : ( هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُو ) (3) .
--------------------
(1) سورة الزمر : 62 .
(2) سورة السجدة : 7 .
(3) سورة غافر : 65 .
القرآن في الاسلام
_ 35_
و ( أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً ) (1) .
و ( فأَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً ) (2) .
و ( هُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِير ) (3) .
و ( هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِير ) (4) .
و ( اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى ) (5) .
فبمقتضى هذه الآيات كل جمال وكمال نراه في عالم الوجود هو في الحقيقة من الله تعالى وليس لغيره الا المجاز والعارية .
وتأكيداً لما مضى ذكره يوضح القرآن الكريم بأسلوب آخر ان الجمال والكمال المودع في مخلوقات العالم انما هو محدود متناهي ، وهو عند الله تعالى غير محدود وليس له نهاية ، قال عز من قائل : ( إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ) (6) .
وقال : ( وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ ) (7) .
عندما يتقبل الإنسان هذه الحقيقة القرآنية يرى نفسه امام الجمال والكمال اللامتناهي ، يحيط به من كل جانب وليس فيه خللاً اصلاً ، ينسى كل جمال وكمال في العالم ، وحتى نفسه التي هي من تلك الآيات ينساها وينجذب الى خالق الجمال والكمال قال تعالى : ( والذين آمنوا اشد حباً لله )(8).
عند هذا يسلم العبد ارادته واستقلاله الى الله تعالى كما هو من شؤون الحب والعبودية الخالصة ، فينضوي تحت لواء الحق ويدخل في ولايته ، كما يقول عز وجل ( وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ) (9) ( اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُر ) (10) .
--------------------
(1) سورة البقرة : 165 .
(2) سورة النساء : 139 .
(3) سورة الروم : 54 .
(4) سور الاسراء : 1 .
(5) سورة طه : 8 .
(6) سورة القمر : 49 .
(7) سورة الحجر : 21 .
(8) سورة البقرة : 165 .
(9) سورة آل عمران : 68 .
(10) سورة البقرة : 257 .
القرآن في الاسلام
_ 36 _
فيجد حينئذ روحاً اخرى ويحيا حياة جديدة ويشرق في قلبه نور الحقيقة ، فتتفتح له طرق السعادة ليشق مسيرته الكريمة بين المجتمع قال تعالى ( أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ ) (1) ، وقال : ( أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْه ) (2) .
وفي آية اخرى يزمع تعالى الى كيفية حصول هذا النور فيقول ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ ) (3) .
وقد فسر الايمان بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم في آية اخرى بالتسليم له واتباعه ، فقال ( قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّه ) (4) .
ووضح الاتباع في آية اخرى ، فقال ( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ) (5) .
واوضح من هذا نجد معنى الاتباع في آية اخرى ايضا حيث يقول : ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ) (6) .
فبمقتضى هذه الآية الكريمة البرنامج الكامل الإسلامي هو المتطلبات التي يحتاج اليها من يعيش في الكون ، ونعني بها القوانين والشرائع التي تدل عليها الفطرة الإنسانية ، الحياة غير المعقدة التي يحياها الإنسان المستقيم ، كما يقول تعالى في موضع اخر ( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا ) (7) .
--------------------
(1) سورة الانعام : 122 .
(2) سورة المجادلة : 22 .
(3) سورة الحديد : 28 .
(4) سورة آل عمران : 31 .
(5) سورة الاعراف : 157 .
(6) سورة الروم : 30 .
(7) سورة الشمس : 7 ـ 10 .
القرآن في الاسلام
_ 37 _