الفصل الرابع
القرآن والعلوم ، تعظيم القرآن مكانة العلم ، العلوم التي يدعو القرآن الى تعلمها ، العلوم الخاصة بالقرآن ، العلوم التي كان القرآن عاملا في ظهورها تعظيم القرآن مكانة العلم والحث على طلبه :
عظم القرآن الكريم مكانة العلم تعظيما لم يسبق له مثيل في الكتب السماوية الاخرى ، ويكفي انه نعت العصر العربي قبل الاسلام ، بـ ( الجاهلية ) ، وفيه مئات من الايات يذكر فيها العلم والمعرفة وفي اكثرها ذكرت جلالة العلم ورفيع منزلته .
قال تعالى ممتنا على الانسان :
( عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ) (1) .
وقال :
( يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ) (2) .
وقال :
( هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ) (3) .
الى غير ذلك من الايات الكثيرة التي تنادي بعظمة العلم ، وفي احاديث الرسول واهل بيته عليهم السلام التالية للقرآن الكريم شواهد لا تحصر في الحث على طلب العلم واهميته وعظيم شأنه .
العلوم التي يدعو القرآن الى تعلمها :
يدعو القرآن الكريم في كثير من آياته ( لم ننقلها هنا لوفرتها ) الى التفكر في الايات السماوية والنجوم المضيئة والاختلافات العجيبة في اوضاعها والنظام المتقن الذي تسير عليه .
ويدعو الى التفكر في خلق الارض والبحار والجبال والاودية وما في بطون الارض من العجائب واختلاف الليل والنهار وتبدل الفصول السنوية ، ويدعو الى التفكر في عجائب النبات والنظام الذي يسير عليه وفي خلق الحيوانات وآثارها وما يظهر منها في الحياة .
ويدعو الى التفكر في خلق الانسان نفسه والاسرار المودعة فيه ، بل يدعو الى التفكر في النفس واسرارها الباطنية وارتباطها بالملكوت الاعلى ، كما يدعو الى السير في اقطار الارض والتفكر في آثار الماضين والفحص في احوال الشعوب والجوامع البشرية وما كان لهم من القصص والتواريخ والعبر .
بهذا الشكل الخاص يدعو الى تعلم العلوم الطبيعية والرياضية والفلسفية والادبية وسائر العلوم التي يمكن ان يصل اليها الفكر الإنساني ، يحث على تعلمها لنفع الإنسانية واسعاد القوافل البشرية .
نعم ، يدعو القرآن الى هذه العلوم شريطة ان تكون سبيلاً لمعرفة الحق والحقيقة ومرآة لمعرفة الكون التي في مقدمتها معرفة الله تعالى .
--------------------
(1) سورة العلق : 5 .
(2) سورة المجادلة : 11 .
(3) سورة الزمر : 9 .
القرآن في الاسلام
_ 55 _
واما العلم الذي يشغل الإنسان عن الحق والحقيقة فهو في قاموس القرآن مرادف للجهل ، قال تعالى : ( يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ ) (1) .
وقال : ( أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ ) (2) .
القرآن الكريم بترغيبه الى تعلم مختلف العلوم ، يعلم دورة كاملة من المعارف الالهية وكليات الاخلاق والفقه الإسلامي .
العلوم الخاصة بالقرآن :
يتدارس المسلمون علوما موضوعها القرآن الكريم نفسه ، ويرجع تاريخ ظهور هذه العلوم الى اوائل عصر النزول ، وقد نضجت مسائلها وبلغت المرحلة المطلوبة لطول البحث فيها واصبحت بحيث وضع لها المحققون الرسائل والكتب الكثيرة (3) .
وهذه العلوم بصورة عامة تنقسم الى فئتين : ما يبحث فيه عن الالفاظ ، وما يبحث فيه عن المعاني .
العلوم الباحثة في الفاظ القرآن هي فنون التجويد والقراءة : وهي :
فن في كيفية تلفظ الحروف والعوارض التي تطرأها عند الافراد والتركيب ، كالادغام والابدال واحكام الوقف والابتداء ونظائرها .
وفن في ضبط وتوجيه القراءات السبع والقراءات الثلاث الاخرى وقراءات الصحابة وشواذ القراءات الاخرى .
وفن في عدد السور والآيات والكلمات والحروف ، وضبط اعداد جميع السور والآيات والكلمات والحروف .
وفن في خصوص ضبط رسم القرآن وما فيه من الاختلاف مع رسم الخط المعروف المعمول به .
واما العلوم التي تبحث في معاني القرآن فهي :
فن يبحث عن كليات المعاني كالتنزيل والتأويل والظاهر والباطن والمحكم والمتشابه والناسخ والمنسوخ ، وفن يبحث في آيات الاحكام ، وهو في الحقيقة فرع من الابحاث الفقهية ،
وفن يبحث عن معاني القرآن ، وهو المعروف بـ ( التفسير ) .
وقد الف علماء الإسلام والمحققين في كل هاتيك العلوم كتبا ورسائل كثيرة .
العلوم التي كان القرآن عاملاً في ظهورها :
لا شك ان العلوم الدينية التي يتداولها المسلمون اليوم انما يرجع تاريخ نشأتها الى عصر البعثة النبوية ونزول القرآن الكريم .
--------------------
(1) سورة الروم : 7 .
(2) سورة الجاثية : 23 .
(3) وضعنا فهرساً عاماً باسم « معجم المؤلفات القرآنية » للكتب والرسائل التي دونت حول القرآن وعلومه على ترتيب العلوم ، يعرف من خلاله الجهد الكبير المبذول حول هذا الكتاب السماوي الذي عني به من شتى الجهات عناية فائقة لم تنلها سائر كتب الاديان ، المترجم .
القرآن في الاسلام
_ 56 _
لقد تداول الصحابة والتابعون هذه العلوم في القرن الاول الهجري بصورة غير منظمة بسبب المنع الذي واجه تدوين العلم بكل فروعه ، وكانت طريقة التلقي والمدارسة هي الحفظ والاخذ الشفوي ، الا مدونات قليلة جداً في الفقه والتفسير والحديث .
وفي اوائل القرن الثاني الهجري عندما ارتفع المنع (1) بدأ المسلمون بتدوين الحديث اولا ، ثم وضعوا المؤلفات في بقية فروع العلم واوجدوا الانظمة الخاصة للتأليف والتصنيف ، فكانت نتيجة المساعي : فن الحديث ، وعلم الرجال والدراية ، وفن اصول الفقه ، وعلم الحديث ، وعلم الكلام ، وغيرها .
وحتى الفلسفة المنقولة من اليونانية الى العربية في بداية امرها والتي بقيت على شكلها اليوناني لفترة غير قصيرة ، فان البيئة اثرت فيها مادة وصورة ، وتحولت من شكلها البدائي الى شكل يغايره كل المغايرة . واحسن شاهد لذلك المسائل الفلسفية المتداولة بين المسلمين اليوم ، فانك لا ترى مسألة فلسفية في المعارف الالهية الا ويمكن ان تجد متنها وبراهينها وادلتها المقامة لها في طيات الآيات القرآنية والاحاديث المروية .
ويمكن اعادة هذا القول في العلوم الادبية ايضا ، فان امثال الصرف والنحو والمعاني والبيان والبديع واللغة وفقهها والاشتقاق بالرغم من انها تشمل اللغة العربية بصورة عامة ، الا ان الذي دفع الناس الى مدارستها والبحث فيها والفحص عنها انما هو كلام الله المجيد الذي له الحلاوة التامة وحسن الاسلوب في التعبير والاعجاز في الفصاحة والبلاغة ، فانجذبت اليه القلوب وكان السبب في السير وراء معرفة خصائصه والفحص عن الشواهد والنظائر له ومعرفة وجوه الفصاحة والبلاغة فيه والاسرار الكامنة تحت جمله والفاظه ، وبالتالي لهذه العوامل وجدت العلوم اللسانية التي ذكرناها .
كان ابن عباس من كبار مفسري الصحابة ، وكان يستشهد في التفسير بالشعر العربي ، وكان يأمر بجمع الشعر وحفظه ويقول : الشعر ديوان العرب .
بمثل هذه العناية والاهتمام ضبط النثر العربي وشعره ، وبلغت الحالة الى ان العالم الشيعي خليل بن احمد الفراهيدي البصري (2) الف في اللغة كتاب العين ووضع علم العروض
لمعرفة الاوزان الشعرية .
وهكذا وضع العلماء الاخرون في هذين العلمين ايضا المؤلفات القيمة .
وعلم التاريخ ايضا من مشتقات علم الحديث ، ففي اوله كان مجموعة من قصص الانبياء والامم ، وبدأ من سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، ثم اضيف اليه تاريخ صدر الإسلام ، وفيما بعد اصبح بصورة تاريخ عام للعالم ، وكتب المؤرخون امثال الطبري والمسعودي واليعقوبي والواقدي ، مؤلفاتهم التاريخية .
--------------------
(1) ارتفع المنع باجماع المؤرخين على يد الخليفة الاموي عمر بن عبد العزيز بين سنتي 99 ـ 101 .
(2) الخليل بن احمد ، ابو عبد الرحمن الفراهيدي ، من ائمة اللغة والادب ، وهو واضع علم العروض واستاذ سيبويه النحوي ، وكتابه ( العين ) مشهور في اللغة ، مات بالبصرة سنة 170 ( الاعلام للزركلي ) .
القرآن في الاسلام
_ 57 _