المؤلف
الاستاد العلامة المرحوم
السيد محمد حسين الطباطبائي
المترجم
السيد احمد الحسيني



الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على النبي الكريم ، محمد الذي انزل عليه القرآن العظيم ، وعلى آله الغر الميامين ، الهداة الدالين على الصراط القوي .

مقدمة الناشر
يسر مركز اعلام الذكرى الخامسة لانتصار الثورة الإسلامية في ايران ان يقدم هذا الكتاب راجيا ان يجد فيه القراء رؤية صادقة اصيلة وفكراً اسلامياً نيراً ، داعياً المولى العلي القدير ان يمن على امام الامة الخميني العظيم دام ظله العالي بالرعاية والنصر المؤزر وعلى مسيرتنا الإسلامية بالتقدم المطرد ، وعلى نهضة المسلمين جميعاً بالتوفيق ، لتنال اهدافها العليا وتحكم شريعة الإسلام في الارض والله الموفق .

تقديم
  تمتاز بحوث الاستاذ العلامة المغفور له السيد محمد حسين الطباطبائي ودراساته القرآنية ، بانها تستمد قبل كل شيء من القرآن نفسه في معرفة مقاصده واستكشاف مفاهيمه وتبيان معانيه .
  ان كثيراً من المفسرين والباحثين في العلوم الإسلامية ـ قديماً وحديثاً ـ لهم مسبقات ذهنية ورواسب فكرية ، جاءتهم من طريق الغور العقلي في المسائل او من التعرف على بعض المدارس الفلسفية والآراء الكلامية او من التعبد بمذاهب عقائدية وفقهية خاصة ... ثم يحاولون بكل ما رزقوا من وسائل علمية في حمل تلك المسبقات والرواسب على الآيات الكريمة والتمحل في صرف مفاهيمها الى ما يرونه من النظريات الخاصة بهم .
  اما التفكير في ان يستنطقوا القرآن الكريم قبل ان يحاولوا تطبيق آياته على ما يرتأونه من النظريات والآراء الشخصية ، فهذا شيء لم نجده في كثير من التفاسير والبحوث القرآنية الواصلة الينا .
  هذا تفسير يطغى عليه الفكر المعتزلي ، لان مؤلفه من المنتمين الى مدرسة الاعتزال ... وذاك تفسير ظاهر فيه الفكر الظاهري ، لان المفسر يرى رأي الظاهرية ... وذلك تفسير بث في مطاويه الفكر الفلسفي البحت ، لانه مدبج بقلم فيلسوف يعتنق آراء الفلاسفة وآخر تفسير اهتم بالمسائل التجريبية المادية ، لان كاتبه يريد ان يتظاهر بالمعرفة التامة في العلوم العصرية .
  وهكذا دواليك في حمل الاتجاهات الفكرية والنظرية والفقهية والذوقية ـ في كثير من الاحيان ـ على القرآن العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ، والعجب من بعض هؤلاء المفسرين والباحثين حيث يقطعون على رأي في آية من الآيات كأنه اصل مسلم لا يقبل اي نقاش ولا يتسرب اليه اي شك او ترديد ، مع انهم ان يمنعوا النظر في آيات اخرى مشابهة لها سيجدون ما يناقض رأيهم ويهدم كل ما بنوه عليه من المعتقدات والآراء .
  كأن هؤلاء يعيشون مع كل آية وحدها ، حتى من دون التروي في السياق والجو الذي يقرأون فيه تلك الآية ،من هذا المنطلق نعرف قيمة ابحاث العلامة الطباطبائي ومدى اهميتها في دراسة القرآن الكريم .

القرآن في الاسلام _ 2 _

  انه لم يتعصب لنظرية خاصة اختمرت في ذهنه ونمت في فكره حتى رسخت فلم يمكنه التخلي عنها ، بل يقرأ الآيات المناسبة لكل موضوع بامعان وترو ليعرف على ماذا تدل وماذا يمكن الاستفادة منها ، ثم تصبح دراسته المعمقة رأيه الخاص من دون التفات الى ما ارتآه من لم يمعن في تفهم الآيات امعانا يليق بالبحث العلمي المجرد .
  وليس معنى كلامنا هذا انه لم يدرس بتاتا الآراء والنظريات التفسيرية المختلفة ، بل نريد ان نقول انه لم يتأثر بها الى حد يفرضها على القرآن فرضاً ويذهب بكل جهده في صرف الآيات عن وجوهها الصحيحة الى ما لا تتحملها .
هذا منهج صحيح يتجلى في تفسيره الكبير ( الميزان في تفسير القرآن ) ، وهذا منهجه ايضا في هذا الكتاب الذي خصه بدراسة بعض مسائل من ( علوم القرآن ) ، فهو يقول في مقدمته : من هنا نهدف في بحثنا هذا الى التعريف باهمية القرآن الكريم كما يدل عليه هو بنفسه لا كما نعتقده ونتصوره نحن ، وواضح ان بين هذين الموضوعين فروقا كثيرة لمن امعن النظر ) .
واننا حينما قرأنا هذا الكتاب ، وجدناه جديداً في اسلوبه العلمي بالرغم من عدم جديد فيه في فصوله وابحاثه ، فهو اذ يتحدث في موضوع من موضوعاته لا يلجأ الى سرد ما قاله علماء التفسير والباحثون في علوم القرآن ، بل يلجأ الى آيات القرآن ويستنتج النتيجة المطلوبة منها ، ولهذا وجدنا في تعريبه محاولة لاشراك قراء العربية في هذه البحوث المعروضه بأسلوبها الجديد : ونعتقد ان في هذا العلم فائدة كبرى سيلمسها القارىء الكريم عندما يمر على صفحات الكتاب ، والله تعالى هو الهادي الى طريق الحق والصراط المستقيم .
   مقدمة المؤلف
  بسم الله الرحمن الرحيم.
  الكتاب الذي بين يدي القارىء الكريم ، يبحث عن اهم مصدر للشريعة الإسلامية وهو القرآن الكريم الدستور الرباني الاول لمعتنقي الإسلام ، والموضوع الذي يتناوله في فصوله وابحاثه ، هو ( اهمية القرآن ) في العالم الإسلامي ، فيتحدث بايجاز عن : ما هو القرآن ؟
  ما قيمته لدى المسلمين ؟
  القرآن كتاب عالمي دائم .
  القرآن وحي سماوي وليس من ابداع الفكر البشري .
  القرآن والعلوم .
  صفات القرآن .

القرآن في الاسلام _ 3 _
  وفي الحقيقة سنتحدث في فصول هذه الرسالة عن كتاب لا يتردد في احترامه وقدسيته ومكانته الكبيرة اي واحد من المسلمين ، مع ما مني به الإسلام ـ كبقية الاديان المشهورة في العالم ـ من الاختلافات الداخلية والتفرق المذهبي وتشتت آراء المتدينين به .
  من هنا نهدف في بحثنا هذا التعريف بأهمية القرآن الكريم كما يدل عليه هو بنفسه لا كما نعتقده ونتصوره نحن ، وواضح ان بين هذين الموضوعين فروقاً كثيرة لمن امعن النظر .
  وبلغة اجلى : ان الاهمية التي نتصورها نحن ـ كان عليها دليل ام لم يكن ـ لا تخلو من احد امرين لا ثالث لهما : اما ان تكون مناقضة ومخالفة لما في الآيات القرآنية فليس لها قيمة في عالم الحق والحقيقة ، وإما ان تكون مما لم نجد عليه في القرآن دليلاً فلا يمكن اقناع كل المسلمين به لانهم مختلفون فيما بينهم فاذا لا بد من معرفة اهميته من آياته والدلائل الموجودة فيه .
  وعليه ، فلا محيص من الاجابة على هذا السؤال : ماذا يقول القرآن في الموضوع ؟ لا الاجابة على : ماذا نقول نحن الذين من اتباع مذهب كذا .

الفصل الاول

  قيمة القرآن لدى المسلمين .
  * القرآن ، دستور الحياة الافضل.
  * أهداف الإنسان في أعماله .
  * القرآن وضع مناهج الحياة للانسان .
  * القرآن سند النبوة.
  القرآن ، دستور الحياة الافضل الدين الإسلامي الذي يشتمل على اكمل المناهج للحياة الإنسانية ويحتوي على ما يسوق البشرية الى السعادة والرفاه ، هذا الدين عرفت اسسه وتشريعاته من طريق القرآن الكريم ، وهو ينبوعه الاول ومعينه الذي يترشح منه .
  والقوانين الإسلامية التي تتضمن سلسلة من المعارف الاعتقادية والاصول الاخلاقية والعملية ، نجد منابعها الاصيلة في آيات القرآن العظيم .
  قال تعالى : ( إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ) (1) .
  وقال تعالى : ( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ ) (2) .
  وواضح كل الوضوح ان في القرآن كثيراً من الآيات التي نجد فيها اصول العقائد الدينية والفضائل الاخلاقية وكليات القوانين العملية ، ولا نرانا بحاجة الى سرد كل هاتيك الآيات في هذا المجال الذي لا نجد سعة لاطالة القول فيه .
--------------------
(1) سورة الاسراء : 9 .
(2) سورة النحل : 89 .

القرآن في الاسلام _ 4 _
  وبشيء من التفصيل نقول : دقة النظر في النقاط التالية توضح لنا مدى اشتمال القرآن الكريم على المناهج الحياتية التي لا بد من توفرها للانسان :
  1 ـ لا يهدف الإنسان من حياته الا السعادة والهناء والوصول الى الاماني التي يتمناها . السعادة والهناء لون خاص من الوان الحياة ، يتمناها الإنسان ليدرك في ظلها الحرية والرفاه وسعة العيش وما اشبه هذا .
  والذي نراه في حالات شاذة ان اناسا يديرون وجوههم عن السعادة والرغد بما يفعلون بأنفسهم ، كالانتحار وجرح الابدان وبتر الاعضاء وبعض الرياضات الشاقة غير المشروعة بحجة الاعراض عن الدنيا ، وما اشبه هذه الاشياء مما يسبب حرمان النفس عن كثير من وسائل الرفاه والعيش الهانىء ... هكذا انسان مبتلى بعقد نفسية يرى ـ نتيجة لتأصلها في نفسه ـ ان السعادة تتحقق فيما يقوم به من الاعمال المضادة للسعادة .
  فمثلاً يصيب البعض انواع من متاعب الحياة ولا يتمكن من حملها فيلجأ الى الانتحار لانه يرى الراحة في الموت ، او يتزهد بعضهم ويجرب انواع الرياضات البدنية ويحرم على نفسه اللذائذ المادية لانه يرى السعادة في هكذا حياة نكدة .
  اذاً ، الجهد الذي يبذله الإنسان ليس الا لدرك تلك السعادة المنشودة التي يسعى في تحقيقها ونيلها .
  نعم ، تختلف الطرق المتبعة للوصول الى الهدف المذكور ، فبعضهم يسلك السبيل المعقول الذي تقره الإنسانية وتجوزه الشريعة ، وبعضهم يخطأ المسالك الصحيحة فيقع في متاهات الضلال والانحراف عن صراط الحق .
  2 ـ الاعمال التي تصدر من الإنسان لا تكون الا في اطار خاص من الانظمة والقوانين . هذا بديهي لا يقبل الانكار ، ولو ذلك في بعض الحالات فليس الا لشدة الوضوح والظهور . ذلك لان الإنسان الذي له نصيب من العقل لا يعمل شيئا الا بعد ان يريده ، فعمله صادر عن ارداة نفسية يعملها هو ولا تخفى عليه .
  ومن جهة اخرى انما يعمل ما يعمل لاجل نفسه ، ونعني انه يحس بضرورات حياتية لا بد من توفرها ، فيعمل ليوفر تلك الضرورات على نفسه ، فبين اعماله كلها ربط وثيق يربط بعضها ببعض ، ان الاكل والشرب والنوم واليقظة والجلوس والقيام والذهاب والمجيء ... هذه الاعمال وغيرها من الاعمال الكثيرة التي تصدر من الإنسان ، هي ضرورية له في بعض الحالات وغير ضرورية في حالات اخرى ، نافعة له حيناً وتضره في احيان اخرى ، فكل ما يعلمه الإنسان نابع من قانون يدرك كلياته في نفسه ويطبق جزئياته على اعماله وافعاله .

القرآن في الاسلام _ 5 _
  ان اي شخص في اعماله الفردية يشبه حكومة كاملة لها قوانيها وسننها آدابها ، والقوى الفعالة في تلك الحكومة عليها ان تقيس اعمالها مع تلك القوانين اولاً ثم تعمل ،والاعمال الاجتماعية الجارية في مجتمع ما تشبه الاعمال الفردية ، فتحكم فيها مجموعة من القوانين والآداب التي تواضع عليها اكثر افراد ذلك المجتمع ، والا فسوف يسود الفوضى في اقرب وقت وينفصم عراهم الاجتماعي .
  نعم تختلف صبغة المجتمعات في قوانينها السارية فيها والحاكمة عليها ، فلو كان المجتمع مذهبيا جرت فيه احكام المذاهب وقوانينه ، ولو كان غير مذهبي الا انه يتمتع بالمدنية اخذت افعاله لون القانون المدني ، اما اذا كان المجتمع متوحشا ليس له نصيب من المدنية حكمت عليه الآداب والقوانين الفردية المستبدة او القوانين التي وجدت من جراء احتكاك مختلف العقائد والآداب بصورة فوضى غير منظمة .
  فاذاً ، لا بد للانسان من هدف خاص في افعاله الفردية والاجتماعية ، للوصول الى ذلك الهدف المنشود لا محيص فيه من تطبيق اعماله بقوانين وآداب خاصة موضوعة من قبل دين او مجتمع او غيرهما ، والقرآن الكريم نفسه يؤيد هذه النظرية حيث يقول : ( وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ ) (1) .   والدين في عرف القرآن يطلق على الآداب والقوانين بصورة عامة ، فان المؤمنين والكافرين ـ وحتى المنكرين لله تعالى ـ لا يخلون من دين ما ، لان كل انسان يتبع قوانين خاصة في اعماله ، كانت تلك القوانين مستندة الى نبي ووحي او موضوعة من قبل شخص او جماعة ما ، يقول تعالى في اعداء الدين : ( الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًاً ) (2) .
  3 ـ ان احسن واثبت الآداب التي يليق بالإنسان متابعتها هي الآداب التي توحيها اليه الفطرة السليمة ، لا النابعة من العواطف والاندفاعات الفردية او الاجتماعية ، ولو امعنا النظر في كل جزء من اجزاء الكون ، نرى ان له هدفا خاصا وجهته من اول يوم خلقته تحقيق ذلك الهدف من اقرب الطرق واحسنها ، وهو يشتمل على ما لا بد منه لتحقيق هدفه من الوسائل والالات .
  هذا شأن كل مخلوق في الكون ذي روح ام غير ذي روح ، مثلاً حبة الحنطة من اول يوم توضع في بطن الارض وجه دلالة الآية الكريمة على ما قلناه ان جملة ( سبيل الله ) تطلق في عرف القرآن على الدين ، والآية تدل على ان الكافرين بما فيهم المنكرين لله تعالى ـ يحرفون دين الله ( دين الفطرة ) ، فالآداب التي يتبعونها في حياتهم هي دينهم .
  تسير في طريق التكامل فتخضر وتنمو حتى تكون لها سنابل تحمل طياتها حبات كثيرة من الحنطة ، وهي مجهزة بوسائل خاصة تستفيد بواسطتها من العناصر التي لا بد من توفرها في سيرها التكاملي ، فتجذب الى نفسها من اجزاء الارض والهواء وغيرهما بنسب معلومة ، فتنشق عنها الارض وتخضر وتنمو يوماً فيوماً وتتحول من شكل الى آخر حتى يكون لها سنابل في كل سنبلة حبات ، وحينئذ تكون الحبة الاولى المزروعة في الارض قد وصلت الى هدفها المنشود وكمالها الذي كانت تسير نحوه .
  وهكذا شجرة الجوز لو دققنا النظر فيها لنرى انها تسير ايضاً نحو هدف خاص من اول خلقتها ، وللوصول الى ذلك الهدف جهزت بآلات خاصة تناسب سيرها التكاملي وقوتها وضخامتها ، وهي في مسيرتها لا تتبع الطريقة التي اتبعتها الحنطة ، كما ان الحنطة في مدارجها التكاملية لم تسر سير الجوزة ، ولكل منهما تطوره الخاص به لا يتعداه في طول الخط .
--------------------
(1) سورة البقرة : 148 .
(2) سورة الاعراف : 45 .

القرآن في الاسلام _ 6 _
  ان جميع ما نشاهده في الكون يتبع هذه القاعدة المطردة ، وليس لدينا دليل ثابت على ان الإنسان شاذ عنها في مسيرته الطبيعية الى هدفه الذي جهز بآلالات اللازمة للوصول اليه . بل الاجهزة المودعة فيه احسن دليل على انه مثل بقية ما في الكون ، له هدف خاص يضمن سعادته وقد توفرت فيه الوسائل للوصول اليه .
  وعليه فخلقة الإنسان ـ بل خلقة الكون الذي ليس الإنسان الا جزءاً منه ـ تسوقه الى السعادة الحقيقية ، وهي توحي اليه اهم واحسن واثبت القوانين التي تضمن سعادته .
 يقول الله تعالى : ( رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ) (1) .
  ويقول : ( الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى ) (2) .
  ويقول : ( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا ) (3) .
  ويقول : ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ) (4) .
  ويقول : ( إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ ) (5) .
  ويقول : (يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ ) (6) .
  ومحصل هذه الآيات وآيات اخرى بهذا المضمون لم نذكرها ـ اختصاراً ـ ان الله تعالى يسوق كل واحد من مخلوقاته ـ بما فيهم الإنسان ـ الى الهدف والسعادة الاسمى التي خلقهم لاجلها ، والطريقة الصحيحة للانسان هي التي تدعوه اليه خلقته الخاصة .
  فيجب ان يتقيد في اعماله بقوانين فردية واجتماعية نابعة من فطرته السليمة ، ولا يتبع مكتوف اليد هواه وعواطفه وما تمليه عليه ميوله وشهواته ، ومقتضى الدين الفطري ( الطبيعي ) ان لا يهمل الإنسان الاجهزة المودعة في وجوده ، بل يستعمل كل واحد منها في حدوده وفيما وضع له لتتعادل القوى الكامنة في ذاته ولا تغلب قوة على قوة .
  وبالتالي يجب ان يحكم على الإنسان العقل السليم البعيد عن الشوائب ، لا مطاليب النفس النابعة من العواطف المخالفة للعقل ، كما يجب ان يكون الحاكم على المجتمع هو الحق وما هو الصالح له حقيقة ، لا انسان قوي مستبد يتبع هواه وشهواته ، ولا الاكثرية التي تخالف الحق والمصالح العامة .
--------------------
(1) سورة طه : 50 .
(2) سورة الاعلى : 2 ـ 3 .
(3) سورة الشمس : 7 ـ 10 .
(4) سورة الروم : 30 .
(5) سورة آل عمران : 19 .
(6) سورة آل عمران : 85 .

القرآن في الاسلام _ 7 _
  ونستخلص من البحث الذي مضى نتيجة اخرى ، هي : ان تشريع الاحكام ووضع القوانين راجع الى الله تعالى وحده ، وليس يحق لاحد ان يشرع القوانين ويضع المقررات ويتحكم في الشؤون ، لاننا عرفنا من البحث السابق ان الآداب والقوانين التي تفيد الإنسان في حياته العملية هي المستوحاة من خلقته الطبيعية ، ونعني بها القوانين والآداب التي تدعو اليها العلل والعوامل الداخلية والخارجية الكامنة في خلقته ، وهذا يعني ان الله تعالى يريدها ، ومعنى ( يريدها ) انه عز شأنه اودع في الإنسان العلل والعوامل التي تقتضي تلك القوانين والآداب .
  نعم ، الارادة تنقسم الى قسمين : منها ما يجبر على ايجاد الشيء كالحوادث الطبيعية التي تقع كل يوم ، وهي المسماة بـ ( الارادة التكوينية ) ، ومنها ما يقتضي ايجاد الشيء من طريق الاختيار لا الجبر كالاكل والشرب وامثالهما ، وهي التي تعارفوا على تسميتها بـ ( الارادة التشريعية ) .
  يقول تعالى : ( إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ ) (1) ، لقرآن وضع مناهج الحياة للانسان وبعد وضوح هذه المقدمات يجب ان يعلم : ان القرآن الكريم مع رعايته للمقدمات الثلاث المذكورة ـ وهي ان للانسان هدفاً يجب ان يصل اليه في مسيرة حياته بجهوده واعماله ، ولا يمكن الوصول الى هدفه المنشود الا باتباع قوانين وآداب خاصة ، ولا بد من تعلم تلك القوانين والآداب من كتاب الفطرة والخليقة الذي نعني به التعليم الالهي ـ مع رعاية القرآن الكريم هذه المقدمات الثلاث وضع مناهج الحياة للانسان كما يلي :
  جعل اساس المنهج على معرفة الله تعالى ، كما جعل الاعتقاد بوحدانيته أول الأصول الدينية ومن طريق معرفة الله دله على الميعاد والاعتقاد بيوم القيامة ، اليوم الذي يجازي فيه المحسن باحسانه والمسيء باساءته ، وجعل المعاد اصلاً ثانياً ثم من طريق الاعتقاد بالمعاد دله على معرفة النبي ، لان الجزاء على الاعمال لا يمكن الا بعد معرفة الطاعة والمعصية وما هو حسن وما هو سيء ، ولا تتأتى هذه المعرفة الا من طريق الوحي والنبوة ـ كما سنفصله فيما بعد ـ وجعل هذا اصلا ثالثاً .
  واعتبر القرآن الكريم هذه الاصول الثلاثة ـ الاعتقاد بالتوحيد والنبوة والمعاد ـ اصول الدين الإسلامي ، وبعد هذا بين اصول الاخلاق المرضية والصفات الحسنة التي تناسب الاصول الثلاثة والتي لا بد ان يتحلى بها كل انسان مؤمن ، ثم شرع له القوانين العملية التي تضمن سعادته الحقيقية وتنمي فيه الاخلاق الفاضلة والعوامل التي توصله الى العقائد الحقة والاصول الاولية .
  وهذا لاننا لا يمكن ان نصدق ان انسانا يتصف بعفة النفس ثم ينهمك في المسائل الجنسية المحرمة ويسرق ويخون الامانة ويختلس في معاملاته ، كما اننا لا يمكن ان نعترف بسخاء شخص يفرط في حب المال وجمعه وادخاره ويمنع حقوق الاخرين او يبخسهم فيها ، وكذلك لا نعتبر رجلا مؤمناً بالله تعالى واليوم الاخر وهو لا يعبد الله ولا يذكره في ايامه ولياليه ، فالاخلاق الفاضلة لا تبقى حية في الإنسان الا اذا قورنت بأعمال تناسبها .
--------------------
(1) سورة يوسف : 40 ، 67 .

القرآن في الاسلام _ 8 _
  ومثل هذه النسبة التي ذكرناها بين الاعمال والاخلاق توجد ايضا بين الاخلاق والعقائد ، فان اي انسان مغمور بالكبر والغرور وحب الذات لا يمكن ان يعتقد بالله تعالى ويخضع لعظمته ، ومن لم يعلم طول حياته معنى الانصاف والمروءة والعطف على الضعفاء لا يدخل في قلبه الايمان بيوم القيامة والحساب والجزاء .
  يقول تعالى بصدد ربط العقائد الحقة بالاخلاق المرضية : ( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ) (1) .
  ويقول تعالى في ربط الاعتقاد بالعمل : ( ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِؤُون ) (2) .
  ونتيجة القول : ان القرآن الكريم يحتوي على منابع اصول الإسلام الثلاثة التي هي :
  1 ـ اصول العقائد ، وهي تنقسم الى اصول الدين الثلاثة التوحيد والنبوة والمعاد ، وعقائد متفرعة عنها كاللوح والقلم والقضاء والقدر والملائكة والعرض والكرسي وخلق السماوات والارضين واشباهها .
  2 ـ الاخلاق المرضية .
  3 ـ الاحكام الشرعية والقوانين العملية التي بين القرآن اسسها واوكل بيان تفاصيلها الى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وجعل النبي بيان اهل بيته عليهم السلام بمنزلة بيانه ،   كما يعرف ذلك من حديث الثقلين المتواتر نقله عن السنة والشيعة (3) .
  القرآن سند النبوة :
  يصرح القرآن الكريم في عدة مواضع انه كلام الله المجيد ، اي انه موحى من الله تعالى بعين هذه الالفاظ التي نقرأها ، وقد تلقاها النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهذه الالفاظ بواسطة الوحي الذي كان يتلقاه من الله عز شأنه .
--------------------
(1) سورة فاطر : 10 .
(2) سورة الروم : 10 .
(3) راجع كتاب ( عبقات الانوار ) مجلد حديث الثقلين ، فقد ذكر فيه مئات اسانيد وطرق للعامة والخاصة الى الحديث المذكور .

القرآن في الاسلام _ 9 _
  ولا ثبات انه كلام الله تعالى وليس من صنع الإنسان تحدى القرآن في آيات منه كافة الناس في ان يأتوا ولو بآية من مثله ، وهذا يدل على انه معجز لا يمكن ان يأتي بمثله اي واحد من الناس .
  قال تعالى : ( أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لَّا يُؤْمِنُونَ * فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ ) (1) .
  وقال : ( قل لئن اجتمعت الانس والجن على ان يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً ) (2) .
  وقال : ( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ ) (3) .
  وقال : ( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِه ) (4) .
  وقال : ( وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِه ) (5) .
  وتحدياً لهم بخلو القرآن من الاختلاف قال : ( افلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند الله لوجدوا فيه اختلافا كثيراً ) (6) .
القرآن الكريم الذي يثبت بهذه التحديات انه كلام الله تعالى ، يصرح في كثير من آياته بأن   محمداً رسول مرسل ونبي من الله ، بهذا يكون القرآن سنداً للنبوة يدعمها في دعواها .
  ومن هنا امر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في عض الآيات بأن يستند لاثبات نبوته بشهادة الله عز شأنه له بذلك ، ويعني بها تصريح القرآن بنبوته ، فيقول : ( قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ) (7) .
  وفي موضع آخر يزيد على شهادة الله شهادة الملائكة له بذلك ، فيقول : ( لكن الله يشهد بما انزل اليك انزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيداً ) (8) .
--------------------
(1) سورة الطور : 33 ، 34 .
(2) سورة الاسراء : 88 .
(3) سورة هود : 13 .
(4) سورة يونس : 38 .
(5) سورة البقرة : 23 .
(6) سورة النساء : 82 .
(7) سورة الرعد : 43 .
(8) سورة النساء : 166 .

القرآن في الاسلام _ 10 _
الفصل الثاني

  كيف يُعلّم القرآن الكريم ، القرآن كتاب عالمي دائم ، القرآن مستقل في دلالته ، ظاهر القرآن وباطنه ، محكم القرآن ومتشابهه ، التأويل والتنزيل في القرآن ، القرآن والناسخ والمنسوخ ، الجري والانطباق في القرآن ، التفسير وظهوره وتطوره ، نموذج من التفسير بالقرآن .
  لقرآن كتاب عالمي : لا يختص القرآن الكريم في موضوعاته بأمة من الامم كالامة العربية مثلاً ، كما لا يختص بطائفة من الطوائف كالمسلمين ، بل يوجه خطابه الى غير المسلمين كما يتكلم مع المسلمين ، ودليلنا على هذا ، الخطابات (1) الكثيرة الموجهة في القرآن الى الكفار والمشركين واهل الكتاب واليهود وبني اسرائيل والنصارى ... احتج مع كل طائفة من هذه الطوائف ودعاهم الى معارفه الحقة والتدبر في آياته الكريمة .
  القرآن احتج مع كل هذه الطوائف ودعاهم الى الدين من دون ان يخصص الخطاب بالعرب وحدهم ، فقال لعباد الاصنام : ( فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّين ) (2) .
  وقال لاهل الكتاب : ( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ ) (3) .
  فاننا نرى ان الله تعالى لم يوجه الخطاب في هذه الآيات الكريمة وما اشبهها بقوله ( فان تاب مشركو العرب ) او ( يا اهل الكتاب من العرب ) وامثال ذلك مما يختص بفئة معينة .
  نعم في بدء الإسلام ـ حيث لم تنتشر بعد الدعوة الإسلامية ولم تخرج من اطار الجزيرة العربية ـ كانت الخطابات موجهة الى العرب ، اما من السنة السادسة للهجرة حيث انتشرت الدعوة وتجاوزت الجزيرة العربية فلم يبق مجال لتوجيه الخطاب الى أمة خاصة .
  بالاضافة الى الآيات السابقة ، فهناك آيات اخرى تدل على عموم الدعوة ، كقوله تعالى : ( وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ ) (4) ، وقوله : ( وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِين ) (5) ، وقوله : ( إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ ) (6) .
--------------------
(1) وردت هذه الخطابات والاحتجاجات في آيات كثيرة جداً لا نرانا بحاجة الى سردها هنا .
(2) سورة التوبة : 11 .
(3) سورة آل عمران : 64 .
(4) سورة الانعام : 19 .
(5) سورة القلم : 52 .
(6) سورة ص : 87 .

القرآن في الاسلام _ 11 _

  وقوله : ( انها لاحدى الكبر * نذيراً للبشر ) (1) .
  ومن الوجهة التاريخية نرى ان كثيراً من عبدة الاصنام واليهود والنصارى لبى دعوة الإسلام كما اسلم ايضا جماعة من قوميات غير عربية كسلمان الفارسي وصهيب الرومي وبلال الحبشي واضرابهم .
  القرآن كتاب كامل :
  القرآن الكريم يحتوي على الغاية الاسمى التي تهدفها الإنسانية ، وهو يدل على تلك الغاية بأتم الدلائل واحسن الشواهد ، وذلك لان الوصول اليها لا يمكن الا بالنظرات الواقعية للكون والعمل بالاصول الاخلاقية والقوانين العملية ، وهذا ما يتولى شرحه القرآن بصورة كاملة حيث يقول : ( يهدي الى الحق والى طريق مستقيم ) (2) .
  ويقول في موضع اخر بعد ذكر التوراة والانجيل : ( وانزلنا اليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً ) (3) .
  وبياناً لاشتماله على حقيقة شرائع الانبياء يقول : ( شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي اوحينا اليك وما وصينا به ابراهيم وموسى وعيسى ) (4) .
  وفي احتوائه على سائر الاشياء يقول : ( ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء ) (5) .
  ومختصر ما في الآيات السابقة : ان القرآن يحتوي على الحقائق المبينة في الكتب السماوية وزيادة ، وفيه كل ما يحتاج اليه الناس في سيرهم التكاملي نحو السعادة المطلوبة ، كانت من الاسس العقائدية او الاصول العملية .
  القرآن كتاب دائم :
  الفصل السابق يثبت ان القرآن الكريم كتاب دائم ابدي مع مر العصور والازمان ، وذلك لان اي كلام لو كان صحيحا تاماً بصورة مطلقة لا يمكن تحديده بوقت من الاوقات او زمان من الازمنة . والقرآن ينص على تمامية كلامه وكماله ، فيقول : ( انه لقول فصل وما هو بالهزل ) (6) .
--------------------
(1) سورة المدثر : 35 ، 36 .
(2) سورة الاحقاف : 30 .
(3) سورة المائدة : 48 .
(4) سورة الشورى : 13 .
(5) سورة النحل : 89 .
(6) سورة الطارق : 13 ـ 14 .

القرآن في الاسلام _ 12 _
  وهكذا تكون المعارف الحقة ، حقيقة خالصة وواقع محض ، والاصول الاخلاقية والقوانين العملية التي بينها القرآن العظيم هي نتيجة تلك الحقائق الثابتة ، ولا يتطرق اليها البطلان ولا تزول بمضي الاعوام والقرون ، يقول تعالى : (وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ ) (1) .
  ويقول : ( فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ )(2) .
  ويقول : ( وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ) (3) .
  ولا يخفى ان ابحاثا كثيرة كتبت حول احكام القرآن وانها ثابتة دائمة لا تختص بوقت من الاوقات ، الا انها خارجة عن موضوع بحثنا الذي نحاول فيه معرفة مكانة القرآن عند المسلمين كما يدل عليها القرآن نفسه .
  القرآن مستقل في دلالته :
  القرآن الكريم كلام كسائر ما يتكلم به الناس ، ويدل دلالة واضحة على معانيه المقصودة وما يرومه من بيان المفاهيم والمعطيات ، وليس فيه خفاء على المستمعين لآياته ، ولم نجد دليلاً على انه يقصد من كلماته غير المعاني التي ندركها من الفاظه وجملة ، اما وضوحه في دلالته على معانيه فلأن اي انسان عارف باللغة العربية بامكانه ان يدرك معنى الآيات الكريمة كما يدرك معنى كل قول عربي .
  وبالاضافة الى هذا نجد في كثير من الآيات خطابات الى طوائف خاصة كبني اسرائيل او المؤمنين او الكفار ، وفي آيات منه يخاطب عامة الناس (4) ويحاجهم ويتحداهم ليأتوا بمثله لو كانوا في شك انه من عند الله تعالى ، وبديهي انه لا يصح التكلم مع الناس بما لا مفهوم واضح عندهم ، كما لا يصح التحدي بما لا يفهم معناه .
  وزيادة على هذا يقول تعالى : ( أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ) (5) ،   ويقول : ( أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا ) (6) .
--------------------
(1) سورة الاسراء : 105 .
(2) سورة يونس : 32 .
(3) سورة فصلت : 41 ـ 42 .
(4) أمثال ( يا ايها الذين كفروا ) و ( يا اهل الكتاب ) و ( يا بني اسرائيل ) و ( يا ايها الناس ) .
(5) سورة محمد : 24 .
(6) سورة النساء : 82 .

القرآن في الاسلام _ 13 _
  تدل الآيتان على ضرورة التدبر في القرآن الذي هو بمعنى التفهم ، والتدبر فيه يرفع ما يترائى بالنظرة الاولى من الاختلاف بين الآيات ومن البديهي الواضح ان الآيات لو لم تكن لها دلالة ظاهرة على معانيها لما كان معنى للأمر بالتدبير والتأمل فيها ، كما لم يبق مجال لحل الاختلافات الصورية بين الآيات بواسطة التدبر والتأمل .
  ،،،،
  واما ما ذكرنا من انه لا دليل خارجي على نفي حجية ظواهر القرآن ، فلأننا لم نجد هكذا دليل لذلك الا ما ادعاه بعض من اننا ـ في فهم مرادات القرآن ـ يجب ان نرجع الى ما اثر عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم او ما روي عن اهل بيته المعصومين عليهم السلام ، ولكن هذا ادعاء فارغ لايمكن قبوله لان حجية قول الرسول والائمة عليهم السلام يجب ان تفهم من القرآن الكريم ، فكيف يتصور توقف حجية ظواهره على اقوالهم عليهم السلام ، بل نزيد على هذا ونقول : ان اثبات اصل النبوة يجب ان نتشبث فيه بذيل القرآن الذي هو سند النبوة كما ذكرنا سابقا .
  وهذا الذي ذكرناه لا ينافي كون واجب الرسول والائمة عليهم السلام بيان جزيئات القوانين وتفاصيل احكام الشريعة التي لم نجدها في ظواهر القرآن ، وان يكونوا مرشدين الى معارف الكتاب الكريم كما يظهر من الآيات التالية :
  ( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) (1) .
  ( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ) (2) .
  ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ ) (3) .
  ( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ) (4) .
  ان الذي يفهم من هذه الآيات هو ان النبي صلى الله عليه وآله هو الذي يبين جزئيات وتفاصيل الشريعة وهو المعلم الالهي للقرآن المجيد . ويفهم ايضا مما جاء في حديث الثقلين ان الائمة عليهم السلام هم خلفاء الرسول في ذلك ، وهذا لا ينافي ان يدرك مراد القرآن من ظواهر آياته بعض من تتلمذ على المعلمين الحقيقيين وكان له ذوق سليم في فهمه .
--------------------
(1) سورة النحل : 44 .
(2) سورة الحشر : 7 .
(3) سورة النساء : 64 .
(4) سورة الجمعة : 2 .

القرآن في الاسلام _ 14 _
  للقرآن ظاهر وباطن :
  يقول الله تعالى في كلامه المجيد : ( واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً ) (1) .
  ظاهر هذه الآية الكريمة يدل على انها تنهى عن عبادة الاصنام كما جاء في قوله تعالى ( فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ ) (2) ، ولكن بعد التأمل والتحليل يظهر ان العلة في المنع من عبادة الاصنام هي كونها خضوعا لغير الله تعالى ، وهذا لا يختص بعبادة الاصنام ، بل عبر عز شأنه عن اطاعة الشيطان ايضا بالعبادة حيث قال : ( الم اعهد اليكم يا بني آدم ان لا تعبدوا الشيطان) (3) .
  ومن جهة اخرى يتبين انه لا فرق في الطاعة الممقوتة بين ان تكون للغير او للانسان نفسه ، فان إطاعة شهوات النفس ايضا عبادة من دون الله تعالى كما يشير اليه في قوله : ( أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ ) (4) .
  وبتحليل ادق نرى انه لا بد من عدم التوجه الى غير الله جل وعلا ، لان التوجه الى غيره معناه الاعتراف باستقلاله والخضوع له ، وهذا هو العبادة والطاعة بعينها ، يقول تعالى : ( وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ ) الى قوله ( أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ) (5) .
  عند التدبر في هذه الآيات الكريمة نرى بالنظرة البدائية في قوله ( ولا تشركوا به شيئاً ) انه تعالى ينهي عن عبادة الاصنام ، وعندما نتوسع بعض التوسع نرى النهي عن عبادة غير الله من دون اذنه ، ولو توسعنا اكثر من هذا لنرى النهي عن عبادة الإنسان نفسه باتباع شهواتها ، اما لو ذهبنا الى توسع اكثر فنرى النهي عن الغفلة عن الله والتوجه الى غير اياً ما كان ذلك الغير .
  ان هذا التدرج ـ ونعني به ظهور معنى بدائي من الآية ثم ظهور معنى اوسع من الاول وهكذا ـ جار في جميع الآيات الكريمة بلا استثناء .
  وبالتأمل في هذا الموضوع يظهر معنى ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله في كتب الحديث والتفسير من قوله : ( ان للقرآن ظهراً وبطناً ولبطنه بطناً الى سبعة ابطن ) (6) .
--------------------
(1) سورة النساء : 36 .
(2) سورة الحج : 30 .
(3) سورة يس : 60 .
(4) سورة الجاثية : 23 .
(5) سورة الاعراف : 179 .
(6) الصافي المقدمة الثامنة ، وسفينة البحار ( بطن ) .

القرآن في الاسلام _ 15 _
  وعلى هذا للقرآن ظاهر وباطن او ظهر وبطن ، وكلا المعنيين يرادان من الآيات الكريمة ، الا انهما واقعان في الطول لا في العرض ، فان ارادة الظاهر لا تنفي ارادة الباطن وارادة الباطن لا تزاحم ارادة الظاهر .
  لماذا تكلم القرآن بأسلوب الظاهر ، والباطن :
  1 ـ الإنسان في حياته البدائية القصيرة الدنيوية يشبه الحباب (1) الذي يعلو الماء ، اذ ركز اوتاد خباء وجوده في مياه بحر المادية ، وكل ما يقوم به من المساعي والجهود اعطيت ازمتها بيد ذلك البحر المادي الهائج .
  اشتغلت حواسه الظاهرية والباطنية بالمادة ، وافكاره انما تتبع معلوماته الحسية ، فان الاكل والشرب والجلوس والقيام والتكلم والاستماع والذهاب والاياب والحركة والسكون وكل ما يقوم به الإنسان من الاعمال والافعال وضعت اسسها على المادة ولا يفكر الا فيها .
  وما نرى منه في بعض الاحيان من الاثار المعنوية ـ كالحب والعداء وعلو الهمة ورفعة المقام وامثالها ـ انما يدركها بعض الافهام لانها تجسم مصاديق مادية ، فان الإنسان يقيس حلاوة الغلب بحلاوة السكر وجاذبية الصداقة بجاذبية المغناطيس وبعلو الهمة بعلو مكان ما او علو نجوم السماء وعظم المقام ورفعته بعظم الجبل وما اشبه هذه الاشياء .
  ومع هذا تختلف الافهام في ادراك المعنويات التي هي اوسع نطاقاً من الماديات ، فان بعض الافهام في غاية الانحطاط في درك المعنويات ، وبعضها تدرك ادراكا قليلا ، وهكذا تتدرج الى ان تصل بعض الافهام بسهولة الى درك اوسع المعنويات غير المادية .
  وعلى كل حال فكلما تتقدم الافهام نحو ادراك المعنويات تقل تعلقها بالمظاهر المادية المغرية ، وكلما قل تعلقها بالمادة زادت في ادراكها ، ومعنى هذا ان كل انسان بطبيعته الإنسانية فيه الاستعداد الذاتي لهذا الادراك ، ولو لم يشبه بالشوائب العرضية لامكن تربيته وتقدمه .
  2 ـ نستنتج مما سبق انه لا يمكن حمل ما يدركه الإنسان الذي هو في المرتبة العليا من الفهم والعقل على الذي هو في المرتبة السفلى ، ولو حاولنا هذا الحمل لكانت نتجيته عكسية ، وخاصة في المعنويات التي هي اهم من المحسوسات المادية ، فانها لو القيت كما هي على العامة لأعطت نتيجته تناقض النتيجة الصحيحة المتوخاة ، ولا بأس ان نمثل ها هنا بالمذهب الوثني ، فلو تأمل الباحث في قسم ( اوبانيشاد ) من كتاب ( ويدا ) الكتاب البوذي المقدس ، لو تأمل الباحث فيه وقارن بين اقواله مقارنة صحيحة ليرى انه يهدف الى التوحيد الخالص ، ولكنه مع الاسف يستعرض هدف بلا ستار وعلى مستوى افكار العامة ، فكانت النتيجة ان اتجه ضعفاء العقول من الهنود الى عبادة اوثان شتى .
--------------------
(1) الحباب بفتح الحاء : الفقاقيع التي تعلو الماء .

القرآن في الاسلام _ 16 _
  اذن لا يمكن رفع الستار بصورة مكشوفة عن الاسرار الغيبية وما يتعلق بما وراء الطبيعة والمادة للماديين ومن لم يذعن بالحقائق .
  3 ـ بالرغم مما نجده في الاديان من حرمان العامة من كثير من المزايا الدينية ، كحرمان المرأة في البرهمية واليهودية والمسيحية وحرمان غير رجال الدين من ثقافة الكتاب المقدس في الوثنية والمسيحية ... بالرغم من كل ذلك فان ابواب الدين الإسلامي لم تغلق في وجه احد ، فان المزايا الدينية فيه للجميع وليست ملكاً لفئة خاصة ، فلا فرق بين العامة والخاصة والرجل والمرأة والابيض والاسود ، كلهم مساوون في نظر الإسلام وليس لاحد ميزة على احد .
  قال تعالى : ( أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ ) (1) .
وقال عز من قائل : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) (2) .
   ، ، ، ،
  بعد تقديم هذه المقدمات الثلاث نقول : ان القرآن الكريم ينظر في تعاليمه القيمة الى الإنسانية بما انها انسانية ، ونعني انه يوسع تعاليمه على الإنسان باعتباره قابلاً للتربية والسير في مدارج الكمال .
ونظراً الى ان الافهام والعقول تختلف في ادراك المعنويات ولا يؤمن الخطر عند القاء المعارف العالية كما اسلفنا ... يستعرض القرآن الكريم تعاليمه بأبسط المستويات التي تناسب العامة ويتكلم في حدود فهمهم ومداركهم الساذجة .
  ان هذه الطريقة الحكيمة نتيجتها ان تبث المعارف العالية بلغة ساذجة يفهمها عامة الناس ، وتؤدي ظواهر الالفاظ في هذه الطريقة عملية الالقاء بشكل محسوس او ما يقرب منه وتبقى الحقائق المعنوية وراء ستار الظواهر فتتجلى حسب الافهام ويدرك منها كل شخص بقدر عقله ومداركه .
  يقول تعالى : ( إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ) (3) ، ويقول ممثلاً للحق والباطل ومقدار الافهام : ( أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا) (4) ، ويقول الرسول صلى الله عليه وآله في حديث مشهور : ( انا معاشر الانبياء نكلم الناس على قدر عقولهم ) (5) .
--------------------
(1) سورة آل عمران : 195 .
(2) سورة الحجرات : 13 .
(3) سورة الزخرف : 3 / 4 .
(4) سورة الرعد : 17 .
(5) بحار الانوار 1 / 37 .

القرآن في الاسلام _ 17 _
  ونتيجة اخرى لهذه الطريقة ان ظواهر الآيات تكون كأمثال بالنسبة الى البواطن ، يعني بالنسبة الى المعارف الالهية التي هي اعلى مستوى من افهام العامة ، فتكون تلك الظواهر كأمثال تقرب المعارف الممكورة الى الافهام ، يقول جل جلاله : ( وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا ) (1) .
ويقول : ( وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ ) (2) .
  وفي القرآن الكريم كثير من الامثال ، الا ان الآيات المذكورة وما في معناها مطلقة لا تختص بأمثال قرآنية خاصة .
  فعليه لا بد من القول بأن الآيات كلها امثال بالنسبة الى المعارف العالية التي هي المقصد الاسمى للقرآن .
  في القرآن المحكم والمتشابه :
  يقول الله تعالى : ( كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ) (3) .
  ويقول : ( اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ) (4) .
  ويقول : ( هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ) (5) .
  نرى في الآية الاولى تنص على ان القرآن كله محكم ، وتريد انه ثابت لا يدخل عليه اي خلل او بطلان ، والآية الثانية تنص على ان القرآن كله متشابه ، وتريد ان آياته على وتيرة واحدة في الجمال والاسلوب وحلاوة اللهجة والاعجاز .
  أما الآية الثالثة فتقسم القرآن الى قسمين محكم ومتشابه ، وملخص ما نفهم منها هو : أولاً : المحكم ما كان ثابتاً في دلالته بحيث لا يشتبه مراده بمراده آخر ، والمتشابه ما كان غير ذلك .
  وثانياً : على كل مؤمن راسخ الايمان ان يؤمن بالآيات المحكمة ويعمل بها ، وكذلك يؤمن بالآيات المتشابهة ولكن لا يعمل بها ، والذين يتبعون الآيات المتشابهة ويعملون بما يوحيه عليهم التأويل فانهم منحرفون عن الحقائق ويبتغون الفتنة واغواء الناس .
--------------------
(1) سورة الاسراء : 89 .
(2) سورة العنكبوت : 43 .
(3) سورة هود : 1 .
(4) سورة الزمر : 23 .
(5) سورة آل عمران : 7 .

القرآن في الاسلام _ 18 _
  معنى المحكم والمتشابه عند المفسرين والعلماء :
  اختلف علماء الإسلام في معنى المحكم والمتشابه اختلافات كثيرة ربما تبلغ الاقوال في ذلك الى عشرين قولاً .
  والذي جرى عليه علمهم من العصر الإسلامي الاول حتى العصر الحاضر وعليه الاعتماد هو :
  1 ـ المحكم هو الآيات التي معناها المقصود واضح لا يشتبه بالمعنى غير المقصود ، فيجب الايمان بمثل هذه الآيات والعمل بها .
  2 ـ المتشابه هو الآيات التي لا تقصد ظواهرها ، ومعناها الحقيقي الذي يعبر عنه بـ ( التأويل ) لا يعلمه الا الله تعالى ، فيجب الايمان بمثل هذه الآيات ولكن لا يعمل بها .
  هذا قول مشهور عند اخواننا علماء السنة وهو المشهور ايضاً عند الشيعة ، الا انهم يعتقدون بأن النبي والائمة عليهم السلام يعلمون تأويل الآيات المتشابهة ، وعامة المؤمنين حيث لا طريق لهم الى معرفة تأويلها فيرجعون علمها الى الله والرسول والائمة عليهم الصلاة والسلام .
  وهذا القول بالرغم من ان عليه عمل اكثر المفسرين لا يوافق الآية الكريمة ( هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ ) الخ ، كما انه لا يطابق ما تدل عليه سائر الآيات لانه : أولاً : اننا لا نعرف في القرآن آيات لا نجد طريقاً الى معرفة مداليلها ومعانيها المقصودة ، هذا بالاضافة الى ان القرآن وصف نفسه بأوصاف كالنور والهادي والبيان ، وهذه الاوصاف لا تتفق مع عدم معرفة المداليل والمعاني .
  ومن جهة اخرى تقول الآية ( أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا ) (1) ، فكيف يصح ان يكون التدبر في القرآن رافعاً لكل اختلاف مع ان فيه آيات متشابهة لا يمكن التوصل الى معرفة معناها كما عليه قول المشهور الذي نقلناه ، ويمكن ان يقال : ان المقصود من الآيات المتشابهة هي الحروف المقطعة التي في اوائل بعض السور كـ ( الم ، الر ، حم ) واشباهها ، حيث لا يمكن معرفة معانيها الحقيقية .
  ولكن لا بد من الالتفات الى ان في الآية الكريمة وضعت الآيات المتشابهة مقابلا للايات المحكمة ، ولازم هذه التسمية ان يكون المتشابه له مدلول من قبيل المدلول اللفظي الا ان هذا المدلول اللفظي الظاهر يشتبه بالمدلول الحقيقي ، والحروف المقطعة في اوائل السور ليس لها هكذا مدلول .
  وبالاضافة الى هذا يدل ظاهر الآية على ان جماعة من اهل الزيغ ومبتغي الفتنة يسعون في الاضلال بواسطة الآيات المتشابهة ، ولم يسمع ان شخصا في المسلمين اضل الناس بالحروف المقطعة المذكورة ، بل الذين يضلون الناس انما يضلونهم بتأويل كلها لا بهذه الحروف خاصة .
  وقال بعض : ان الآية تشير الى قصة ملخصها : ان اليهود حاولوا معرفة المدة التي يعيش فيها الإسلام بواسطة الحروف المقطعة في اوائل السور ، ولكن قرأ الرسول صلى اللهعليه وآله وسلم الفواتح واحدة بعد واحدة وابطل بهذا ما زعموه (2) .
--------------------
(1) سورة النساء : 82 .
(2) انظر : تفسير العياشي 1 / 26 ، تفسير القمي اول سورة البقرة ، نور الثقلين 1 / 22 .

القرآن في الاسلام _ 19 _
  وهذا الكلام غير صحيح ايضا ، لان القصة لو صحت تدل على ان اليهود كان لهم محاولة اجابهم النبي عليها في نفس المجلس ، وهي ليست من الاهمية بحيث تستدعي ذكر الآية ( المتشابه ) والزجر عن اتباعه .
  هذا مع العلم ان قول اليهود لم يكن فيه فتنة ، لان الدين لو كان حقاً لا يضره تحديد الزمن ـ ونعني به قبوله للنسخ ـ كما نراه في الاديان الحقة التي كانت قبل الإسلام .
  ثانياً : لازم هذا القول ان تكون كلمة ( التأويل ) في الآية بمعنى المدلول خلاف الظاهر ، ويختص هذا المعنى بالآية المتشابهة . وكلا الموضوعين ليسا بصحيح ، فاننا سنذكر في البحث الذي وضعناه لمعرفة التأويل والتنزيل بأن ( التأويل ) في عرف القرآن ليس من قبيل المعنى والمدلول اللغوي ، كما نذكر بأن جميع الآيات المحكمة والمتشابهة لها تأويل ولا يختص ذلك بالآيات المتشابهة .
  ثالثاً : وصفت الآية الكريمة جملة ( آيات محكمات ) بـ ( هن ام الكتاب ) ، ومعنى هذا ان الآية المحكمة تشتمل على امهات ما في الكتاب من الموضوعات وبقية الآيات متفرعة عنها ، ولازم هذا ان الآيات المتشابهة ترجع الى الآيات المحكمة في مداليلها والمراد منها ، ونعني بذلك ارجاع المتشابهات الى المحكمات لمعرفة معناها الحقيقي .
  وعليه ليس في القرآن آية لا نتمكن من معرفة معناها ، بل الآية اما محكمة بلا واسطة كالمحكمات نفسها ، او محكمة مع الواسطة كالمتشابهات ، واما الحروف المقطعة في فواتح السور فليس لها مدلول لفظي لغوي ، فهي ليست من المحكم والمتشابه .
  ويمكن معرفة ما قلناه من عموم قوله تعالى ( أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ) وقوله ( أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا ) .
  أسلوب أئمة أهل البيت في المحكم والمتشابه :
  ما نفهمه من ملخص ما أثر عن ائمة اهل البيت عليهم السلام هو نفي وجود آية متشابهة لا يمكن معرفة مدلولها الحقيقي ، بل الآيات التي لم تستقل في مداليلها الحقيقة يمكن معرفة تلك المداليل بواسطة ايات اخرى ، وهذا معنى ارجاع المتشابه الى المحكم ، فان ظاهر قوله تعالى : ( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ) (1).
وقوله ( وجاء ربك ) (2) يدل على الجسمية وان الله تعالى مادة ، ولكن لو ارجعناهما الى قوله ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) (3) علمنا ان الاستواء والمجيء ليس بمعنى الاستقرار في مكان او الانتقال من مكان الى مكان اخر .
--------------------
(1) سورة طه : 5 .
(2) سورة الفجر : 22 .
(3) سورة الشورى : 11 .

القرآن في الاسلام _ 20 _
  قال النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وهو يصف القرآن الكريم : ( وان القرآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضاً ، ولكن نزل يصدق بعضه بعضاً ، فما عرفتم فاعملوا به وما تشابه عليكم فآمنوا به ) (1) .
  وقال علي عليه السلام : ( يشهد بعضه على بعض وينطق بعضه ببعض ) (2) .
  وقال الامام الصادق عليه السلام : ( المحكم ما يعمل به والمتشابه ما اشتبه على جاهله ) (3) .
  ونقل عن الامام الرضا ( عليه السلام ) انه قال : ( من رد متشابه القرآن الى محكمه هدي الى صراط مستقيم ) ثم قال : ( ان في اخبارنا متشابهاً كمتشابه القرآن فردوا متشابهها الى محكمها ولا تتبعوا متشابهها فتضلوا ) (4) .
  ان هذه الاحاديث وخاصة الاخير منها صريحة في ان الآيات المتشابهة هي الآيات التي لا تستقل في مدلولها بل لا بد من ردها الى الآيات المحكمة ، ومعنى هذا ـ كما اسلفنا ـ انه ليس في القرآن آية لا يمكن معرفة معناها بطريق من الطرق .
  في القرآن التأويل والتزيل :
  ( تأويل القرآن ) وردت في ثلاث آيات هي :
  1 ـ ( فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ ) (5) .
  2 ـ ( ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون * هل ينظرون الا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق ) (6) .
  3 ـ ( وما كان هذا القرآن ان يفترى ) الى قوله تعالى ( بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ) (7) .
  التأويل مأخوذ من الاول بمعنى الرجوع ، ويراد من التأويل الشيء الذي ترجع الآية اليه ، والتنزيل يقابل التأويل ، وهو المعنى الواضح للاية الذي لا يحتاج الى ارجاعه الى شيء آخر .
--------------------
(1) الدر المنثور 2 / 8 .
(2) نهج البلاغة ، الخطبة 131 .
(3) تفسير العياشي 1 / 162 .
(4) عيون الاخبار 1 / 290 .
(5) سورة آل عمران : 7 .
(6) سورة الاعراف : 52 ـ 53 .
(7) سورة يونس 39 .

القرآن في الاسلام _ 21 _
  معنى التأويل عند المفسرين والعلماء :
  اختلف المفسرون في معنى التأويل اختلافاً شديداً ، وبعد الفحص في اقوالهم يمكن ارجاعها الى اكثر من عشرة ، الا ان المشهور فيه قولان :
  1 ـ قول القدماء ، ومحصل كلامهم ان التفسير والتأويل بمعنى واحد وهما مترادفان . وعليه فلكل الآيات القرآنية تأويل ، وبمقتضى قوله تعالى ( وما يعلم تأويله الا الله ) يختص العلم بالآيات المتشابهة بالله عز شأنه .
  ومن هنا ذهب جماعة من القدماء الى ان الآيات المتشابهة هي الحروف المقطعة التي في اوائل السور ، لانه لا تعرف آية تخفى معناها على الناس الا هذه الحروف ، ولكننا في فصول سابقة بحثنا عن هذا بشيء من التفصيل وذكرنا وجه عدم صحته .
  وعلى اي حال لما نفى القرآن الكريم علم تأويل بعض الآيات عن غير الله تعالى ، وليس لنا آية لا يعرف تأويلها ـ اي يخفى معناها على الكل كما ذكروا ـ ولم تكن الحروف المقطعة التي في اوائل السور هي الآيات المتشابهة ... لهذه الوجوه ترك المتأخرون هذا القول الذي ذهب اليه القدماء .
  2 ـ قول المتأخرين ، وهو ان ( التأويل ) المعنى خلاف الظاهر الذي يقصد من الكلام ، وعليه فليس لكل الآيات تأويل ، وانما يختص ذلك بالآيات المتشابهة التي لا يحيط بعلمها الا الله ، كالآيات الظاهرة في الجسمية والمجيء والاستواء والرضا والسخط والاسف وغيرها من الاوصاف المنسوبة اليه جل جلاله ، وكذلك الآيات الظاهرة في نسبة الذنب الى الرسل والانبياء المعصومين عليهم السلام .
  بلغ هذا القول من الاشتهار بحيث اصبحت لفظة ( التأويل ) كالحقيقة الثانية في المعنى خلاف الظاهر ، فان تأويل الآيات القرآنية في المباحث الكلامية والخصام العقائدي يعني هذا المعنى بالذات ، كما ان حمل الآية على خلاف ظاهر معناها بدليل يسمونه ( التأويل ) موضوع دائر على الالسن مع انه لا يخلو من تناقض (1) .
  هذا القول مع شهرته العظيمة ليس بصحيح ، ولا ينطبق على الآيات القرآنية ، لانه :
  أولاً ـ الايتان المنقولتان في الفصل السابق ( هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَه ) و ( بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُه ) ظاهرتان ان للآيات كلها تأويلاً ولا يختص ذلك بالآيات المتشابهة كما يبدو من هذا القول .
  وثانياً ـ لازم هذا القول وجود آيات في القرآن يشتبه الناس في فهم مدلولها الحقيقي ولا يعلمه الا الله تعالى ، ومثل هذا الكلام الذي لا يدل على مدلوله لا يعد كلاماً بليغا فكيف بتحديه للبلغاء في بلاغته .
--------------------
(1) لان تأويل الآية مع الاعتراف بأن التأويل لا يحيط بعلمه الا الله تعالى عمل مناقض ، ولكن هؤلاء ذكروا ذلك بعنوان انه احتمال في الآية .

القرآن في الاسلام _ 22 _
  وثالثاً ـ بناء على هذا القول لا تتم حجية القرآن الكريم ، لانه حسب احتجاج الآية الكريمة ( افلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً ) ، احدى الدلائل على ان القرآن ليس من كلام البشر عدم وجود اختلاف معنوي ومدلولي بين الآيات ـ مع بعد ازمان نزولها وتباين ظروف النزول واسبابه ـ وما يظهر من الاختلاف بين بعض الآيات في بادىء النظر يرتفع بالتفكير والتدبر في الآيات .
  ولو فرضنا ان كمية كبيرة من الآيات المسماة بـ ( المتشابهات ) تختلف مع كمية اخرى تسمى بـ ( المحكمات ) ونرفع الاختلاف بينها بأن نذهب الى ان ظاهرها غير مراد وما يراد منها معان لا يعلمها الا الله تعالى ... هكذا رفع الاختلاف لا يدل على ان القرآن ليس من كلام البشر .
  وهكذا لو رفعنا الاختلاف بصرف ظاهر كل آية يخالف مضمونها او يناقض الآيات المحكمة ، فأولناها ـ حسب اصطلاح المتأخرين ـ بأن حملناها على معنى خلاف الظاهر .
  ورابعاً ـ لا دليل اطلاقاً على ان المراد من ( التأويل ) في آية المحكم والمتشابه هو المعنى خلاف الظاهر ، كما لم يقصد مثل هذا المعنى في الآيات التي ذكرت فيها لفظة التأويل ، فمثلاً : في قصة يوسف ( عليه السلام ) عبر في ثلاثة مواضع (1) عن تعبير الرؤيا بكلمة ( التأويل ) ، وظاهر ان تعبير الرؤيا ليس معنى خلاف الظاهر للرؤيا بل هو حقيقة خارجية ترى في النوم بشكل مخصوص ، كأن رأى يوسف تعظيم ابيه وامه واخوته بشكل سجدة الشمس والقمر والنجوم له ، ورأى ملك مصر سنوات القحط في صورة سبع بقرات عجاف يأكلن سبعاً سماناً ، ورأى صاحبا يوسف في السجن الصلب.

--------------------
(1) ذكر رؤيا يوسف عليه السلام في الآية الرابعة من سورة يوسف ( إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ) .
  وذكر تأويل رؤياه في الآية 100 على لسان يوسف حينما رأى أبيه وامه بعد سنين من الفراق ( وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا ) .
  ورؤيا ملك مصر مذكور في الآية 43 ( وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَات ) .
  وتأويله مذكور في الآية 47 ـ 49 على لسان يوسف ( قال تزرعون سبع سنين دأباً فما حصدتم فذروه في سنبله إلاّ قليلا مما تأكلون * ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن الا قليلاً مما تحصنون * ثم تأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون ) .
  ورؤيا صاحبي يوسف في السجن مذكور في الآية 36 (وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ ) .
  وتأويله مذكور في الآية 41 على لسان يوسف ( يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ ) .

القرآن في الاسلام _ 23 _
  وخدمة الملك في صورة عصر الخمر وحمل الخبز على الرأس تأكل الطير منه .
  وفي قصة موسى والخضر ، بعد ان يخرق الخضر السفينة ويقتل الغلام ويقيم الجدار ، يحتج عليه موسى في كل مرة فيذكر له السر الكامن وراء اعماله ويسميه ( التأويل ) ، ومعلوم ان حقيقة الاعمال التي جرت على يد الخضر والنظر الحقيقي في انجازها التي هي كالروح لها قد سميت تأويلاً ، وليست هي المعنى خلاف الظاهر لها .
  ويقول تعالى بشأن الوزن والكيل : ( وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ) (1) .
  وواضح انه يريد من التأويل في الكيل والوزن وضعاً اقتصاديا خاصا يوجد في السوق بواسطة البيع والشراء والنقل والانتقال ، والتأويل بهذا المعنى ليس معنى خلاف الظاهر من الكيل والوزن ، بل هو حقيقة خارجية ، وروح اوجدت في الكيل والوزن تقوى وتضعف بواسطة استقامة المعاملة وعدم استقامتها .
  ويقول تعالى في موضع آخر : ( فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً )(2) .
   من الواضح ان المراد من التأويل في هذه الآية هو ثبات الوحدة واقامة علاقات روحية في المجتمع ، وهذه حقيقة خارجية وليست معنىً خلاف الظاهر لرد النزاع .
  وهكذا المواضع الاخرى من القرآن الكريم الواردة فيها لفظة ( التأويل ) ، وهي بمجموعها ستة عشر موضعاً ، ففي كل هذه المواضع لا يمكن اخذ التأويل بمعنى ( المدلول خلاف الظاهر ) ، بل هو معنى اخر يلائم ايضا مع التأويل الوارد في آية المحكم والمتشابه كما سنذكره في الفصل الاتي ، ولهذا لا موجب لتفسير ( التأويل ) في الآية المذكورة بمعنى المدلول خلاف الظاهر .
  المعنى الحقيقي للتأويل في عرف القرآن :
  ملخص ما نستفيده من الآيات الوارد فيها لفظ ( التأويل ) ـ وقد سبق ذكر بعضها ـ انه ليس من قبيل المعنى الذي هو مدلول اللفظ ، فان من الواضح ان ما نقل في سورة يوسف من رؤياه وتأويله لا يدل اللفظ الذي يشرح الرؤيا على تأويله دلالة لفظية ، ولو كانت تلك الدلالة من قبيل خلاف الظاهر ، وهكذا في قصة موسى والخضر عليهما السلام ، فان الفاظ القصة لا تدل على التأويل الذي ذكره الخضر لموسى .
  كما انه في آية ( وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ) لا تدل هاتان الجملتان دلالة لفظية على وضع اقتصادي خاص هو التأويل للأمر الوارد فيها ، وفي آية ( فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ ) لا تدل الآية دلالة لفظية على تأويله الذي هو الوحدة الإسلامية ... وهكذا دواليك في الآيات الاخرى لو امعنا النظر فيها .
--------------------
(1) سورة الاسراء : 35 .
(2) سورة النساء : 59 .

القرآن في الاسلام _ 24 _
  بل في الرؤيا تأويله حقيقة خارجية رآها الراؤون في صورة خاصة ، وفي قصة موسى والخضر تأويل الخضر حقيقة تنبع منها اعماله التي عملها ، والامر في آية الكيل والوزن تأويله مصلحة عامة تنبع منه ، وآية رد النزاع الى الله والرسول ايضاً شبيهة بما ذكرناه .
  فتأويل كل شيء حقيقة خارجية يتراءى ذلك الشيء منها وهو بدوره يحقق التأويل ، كما ان صاحب التأويل بقاؤه بالتأويل وظهوره في صاحبه .
  وهذا المعنى جار في القرآن الكريم ، لان هذا الكتاب المقدس يستمد من منابع حقائق ومعنويات قطعت اغلال المادية والجسمانية ، وهي اعلى مرتبة من الحس والمحسوس واوسع من قوالب الالفاظ والعبارات التي هي نتيجة حياتنا المادية .
  ان هذه الحقائق والمعنويات لا يمكن التعبير عنها بألفاظ محدودة ، وانما هي الفات للبشرية من عالم الغيب الى ضرورة استعدادهم للوصول الى السعادة بواسطة الالتزام بظواهر العقائد الحقة والاعمال الصالحة ، ولا طريق للوصول الى تلك السعادة الا بهذه الظواهر ، وعندما ينتقل الإنسان الى العالم الاخر تتجلى له الحقائق مكشوفة ، وهذا ما يدل عليه آيتا سورتي الاعراف ويونس المذكورتان .
  والى هذا يشير ايضا قوله تعالى : ( وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ) (1) .
  انطباق الآية على ( التأويل ) بالمعنى الذي ذكرناه واضح لا غبار عليه ، وخاصة لانه قال ( لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) ولم يقل ( لعلكم تعقلونه ) ، لان علم التأويل خاص بالله تعالى كما جاء في آية المحكم والمتشابه ( وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ ) ، ولهذا عندما تريد الآية ان تذكر المنحرفين الذين يتبعون المتشابهات ، تصفهم بأنهم يبتغون الفتنة والتأويل ولم تصفهم بأنهم يجدون التأويل .
  فاذاً ( التأويل )هو حقيقة او حقائق مضبوطة في ام الكتاب ولا يعلمها الا الله تعالى وهي مما اختص بعالم الغيب .
  وقال تعالى ايضاً في آيات اخرى : ( فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ *إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ *لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ) (2) .
  يظهر جلياً من هذه الآيات ان للقرآن الكريم مقامين : مقام مكنون محفوظ من المس ، ومقام التنزيل الذي يفهمه كل الناس .
  والفائدة الزائدة التي نستفيدها من هذه الآيات ولم نجدها في الآيات السابقة ، هي الاستثناء الوارد في قوله ( إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ) الدال على ان هناك بعض من يمكن ان يدرك حقائق القرآن وتأويله ، وهذا الاثبات لا ينافي النفي الوارد في قوله تعالى ( وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ ) ، لان ضم احداهما الى الاخرى ينتج الاستقلال والتبعية ، اي يعرف منها استقلال علمه تعالى بهذه الحقائق ولا يعرفها احد الا باذنه عز شأنه وتعليم منه .

--------------------
(1) سورة الزخرف : 1 ، 2 ، 3 ، 4 .
(2) سورة الواقعة : 75 ـ 80 .

القران في الاسلام _ 25 _
  وعلم التأويل شبيه فيما ذكرنا بعلم الغيب الذي اختص بالله تعالى في كثير من الآيات ، وفي آية استثنى العباد المرضيون فأثبت لهم العلم به ، وهي قوله تعالى :( عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ ) (1) .
  فمن مجموع الكلمات في علم الغيب نستنتج انه بالاستقلال خاص بالله تعالى ولا يطلع عليه احدا الا باذنه عز وجل .
  نعم ، المطهرون هم الذين يلمسون الحقيقة القرآنية ويصلون الى غور معارف القرآن ـ كما تدلنا عليه الآيات التي ذكرناها ، ولو ضممنا هذه الى قوله تعالى ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) (2) .
  الوارد حسب احاديث متواترة في حق اهل البيت عليهم السلام نعلم ان النبي واهل بيته هم المطهرون العالمون بتأويل القرآن الكريم .
  القرآن والناسخ والمنسوخ :
  بضمن آيات الاحكام الواردة في القرآن الكريم آيات احتلت احكامها مكان احكام كانت موضوعة في آيات سابقة ، فأنهت الآيات اللاحقة مفعول الآيات السابقة ولم تعد تلك الاحكام معمولاً بها ، وتسمى الآيات السابقة بـ ( المنسوخ ) والآيات اللاحقة بـ ( الناسخ ) .
  فمثلاً في بداية مبعث الرسول أمر المسلمون بمداراة اهل الكتاب في قوله تعالى : ( فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ ) (3) .
  وبعد مدة انهي هذا الحكم وامروا بالقتال معهم في قوله ( قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ ) (4) .
  والنسخ الذي يدور على السنتنا حقيقته هي : وضع قانون لمصلحة ما والعمل به ثم ظهور الخطأ في ذلك والغاؤه ووضع قانون جديد مكانه .
  لكن لا يمكن نسبة مثل هذا النسخ الدال على الجهل والخطأ الى الله تعالى المنزه عن كل جهل وخطأ ، ولا يوجد هكذا نسخ في الآيات الكريمة الخالية عن وجود اي اختلاف بينها .
  بل النسخ في القرآن معناه : انتهاء زمن اعتبار الحكم المنسوخ ، ونعني بهذا ان للحكم الاول كانت مصحلة زمنية محدودة واثر موقت بوقت خاص تعلن الآية الناسخة انتهاء ذلك الزمن المحدود وزوال الاثر .

--------------------
(1) سورة الجن : 26 ـ 27 .
(2) سور الاحزاب : 33 .
(3) سورة البقرة : 109 .
(4) سورة التوبة : 29 .