يبدو أن كثيراً من الناس وعلى رأسهم عمر نفسه أدركوا أن بيعة أبي بكر كانت فلتة ، ولم تكن وفق سياق طبيعي ، وأن بيعة عمر كانت بغير مشورة من المسلمين ، وكذلك تكرر كثيراً ـ كما مر بنا وكما ذكرت عشرات الكتب في التاريخ والحديث ـ أن هذا أو ذاك من الصحابة صرح بذلك حتى اعترف عمر بهذه الحقائق قائلاً ( إن رجالاً يقولون إن بيعة أبي بكر فلتة وقى الله شرها ، وإن بيعة عمر كانت عن غير مشورة ، والأمر بعدي شورى ) (1) فهذه الرواية ـ إن صحت ـ دلت على اعتراف صريح بأن تحديد القيادة في المرة الأولى والثانية لم يكن شورى ، بل كان كما رآه الناس آنذاك : فلتة مرة ، وبلا مشورة أخرى ، ولهذا فقد قرر عمر تعيين القيادة من بعده ـ وفي المرة الثالثة ـ عن طريق الشورى

    ---------------------------
    (1) أنساب الأشراف للبلاذري : 5|15 .

    الامَـامَـة والقـَـيادَةُ _ 82 _

      ولما طعن عمر ، ورأى أنه ذاهب الى ربه ، وضع صيغة سياسية جديدة لتعيين قيادة خير أمة وخير دولة ، فدعا علياً ، وعثمان ، وسعد بن أبي وقاص ، وعبدالرحمن بن عوف ، والزبير بن العوام وقال لهم :
      ( فإذا مت فتشاوروا ثلاثة أيام ، وليصل بالناس صهيب ، ولا يأتين اليوم الرابع إلا وعليكم أمير منكم ، ويحضر عبدالله بن عمر مشيراً ولا شيء له من الأمر ، وطلحة شريككم في الأمر ، فإن قدم في الأيام الثلاثة فأحضروه معكم ، وإن مضت الأيام الثلاثة قبل قدومه فاقضوا أمركم ... وقال لأبي طلحة الأنصاري : يا أبا طلحة إن الله عزوجل طالما أعز الإسلام بكم ، فاختر خمسين رجلاً من الأنصار فاستحث هؤلاء الرهط حتى يختاروا رجلاً منهم ، وقال للمقداد بن الأسود : إذا وضعتموني في حفرتي فأجمع هؤلاء الرهط في بيت حتى يختاروا رجلاً منهم ، وقال لصهيب : صل بالناس ثلاثة أيام ، وأدخل علياً وعثمان والزبير وسعداً وعبدالرحمن بن عوف وطلحة إن قدم ، وأحضر عبدالله بن

    الامَـامَـة والقـَـيادَةُ _ 83 _

      عمر ولا شيء له من الأمر ، وقم على رؤوسهم فإن اجتمع خمسة ورضوا رجلاً وأبى واحد فاشدخ رأسه أو أضرب رأسه بالسيف ، وإن اتفق أربعة فرضوا رجلاً وأبى إثنان فاضرب رؤوسهما ، فإن رضي ثلاثة رجلاً منهم وثلاثة رجلاً منهم فحكموا عبدالله بن عمر ، فأي الفريقين حكم له فليختاروا رجلاً منهم ، فإن لم يرضوا بحكم عبدالله بن عمر ، فكونوا مع الذين فيهم عبدالرحمن بن عوف ، واقتلوا الباقين إن رغبوا عما اجتمع عليه الناس ... فلما دفن عمر جمع المقداد أهل الشورى في بيت المسور بن مخرمة ، ويقال في بيت المال ، ويقال في حجرة عائشة بإذنها ، وهم خمسة معهم ابن عمر وطلحة غائب ... فتنافس القوم في الأمر وكثر بينهم الكلام ... فقال عبدالرحمن : أيكم يخرج منها نفسه ويتقلدها على أن يوليها أفضلكم ؟ فلم يجبه أحد ، فقال فأنا أنخلع منها فقال عثمان أنا أول من رضي ... فقال القوم : قد رضينا (1).

    ---------------------------
    (1) الطبري : 3|294 ـ 295 ، العقد الفريد : 4|275 ـ 276 .

    الامَـامَـة والقـَـيادَةُ _ 84 _

      وبعد مناقشات ومداولات كثيرة قال عبدالرحمن بن عوف ( إني قد نظرت وشاورت فلا تجعلن أيها الرهط على أنفسكم سبيلاً ، ودعا علياً فقال : عليك عهد الله وميثاقه لتعملن بكتاب الله وسنة رسوله وسيرة الخليفتين من بعده قال : أرجو أن أفعل وأعمل بمبلغ علمي وطاقتي ، ودعا عثمان فقال له مثل ما قال لعلي قال نعم ، فبايعه ) (1) وفي رواية أخرى أنه سأل علياً (ع) ( هل أنت يا علي مبايعي على كتاب الله وسنة نبيه وفعل أبي بكر وعمر ؟ فقال : اللهم لا ولكن على جهدي من ذلك وطاقتي ، فالتفت الى عثمان فقال : هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنة نبيه وفعل أبي بكر وعمر ؟ قال : اللهم نعم ) (2) ثم نهضوا الى المسجد فصعد عبدالرحمن المنبر ، ونادى علياً ثم أخذ بيده وقال ( هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنة نبيه وفعل أبي بكر وعمر ؟ قال :

    ---------------------------
    (1) الطبري : 3|296 .
    (2) الطبري : 3|301 .

    الامَـامَـة والقـَـيادَةُ _ 85 _

      اللهم لا ، ولكن على جهدي من ذلك وطاقتي ، فأرسل يده ثم نادى : قم اليَّ يا عثمان ، فأخذ بيده وهو في موقف علي الذي كان فيه فقال : هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنة نبيه وفعل أبي بكر وعمر ؟ قال : اللهم نعم ، فرفع رأسه الى سقف المسجد ويده في يد عثمان ثم قال : أللهم اسمع وأشهد ، أللهم إني قد جعلت ما في رقبتي من ذاك في رقبة عثمان ، وازدحم الناس يبايعون عثمان ) (1) .
      وإذا حاولنا أن نفهم هذه القصة بلغة عصرنا ، لا بأسلوب المؤرخين الذي قد يصعب على كثير منا ، قلنا إن برنامج الخليفة الثاني لتعيين القيادة اشتمل على البنود التالية :
      1 ـ تشكيل مجلس شورى من سبعة أعضاء أحدهم لا يحق له ترشيح نفسه ، هؤلاء الأعضاء هم :
      علي بن أبي طالب ، وكان مرشحا للقيادة .

    ---------------------------
    (1) الطبري : 3|301 ـ 302 ، وانظر التفاصيل في العقد الفريد : 4|273 وما بعدها .

    الامَـامَـة والقـَـيادَةُ _ 86 _

      عثمان بن عفان ، وكان مرشحا للقيادة .
      عبدالرحمن بن عوف ، وهو زوج أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط وأمها ، أروى بنت كريز ، وأروى هي أم عثمان ، فهمو بهذا زوج أخت عثمان لأمه .
      سعد بن أبي وقاص ، وهو ابن عم عبدالرحمن بن عوف .
      طلحة بن عبيدالله ، وكان غائباً لم يحضر .
      الزبير بن العوام ، وكان ابن خال فاطمة (ع) زوجة أحد المرشحين .
      عبد الله بن عمر ، رأيه استشاري ، وهو ابن الخليفة ، ومواقفه من أحد المرشحين ( الإمام علي ) معروفة مسجلة .
      2 ـ قتل من حاز على نسبة أقل أو حتى متساوية من الأصوات ، ورفَضَ مبايعة من وقع عليه الإختيار .
      3 ـ عند تساوي الأصوات توضع سلطة التحكيم في يد ابن الخليفة، فإن رفض قراره ، رجح المرشح الذي يميل معه عبدالرحمن بن عوف .

    الامَـامَـة والقـَـيادَةُ _ 87 _


      نعم كان لكل واحد من أعضاء المجلس حق الترشح للقيادة ، إلا أن جميع الأعضاء وكذلك عامة الناس ، كانوا يفهمون أن السباق ليس إلا بين علي وعثمان ، ومن ثم ذكرت كلاً منهما على أنه مرشح للقيادة ، وفي كلام الامام علي عليه السلام تأييد لهذا كما سترون فيما بعد .
      ثم أسفر المجلس عن إيكال سلطة حسم المشكلة الى عبدالرحمن بن عوف بناء على اقتراحه هو نفسه ، فصار له وضع القيادة المؤقتة التي أنيطت بها مسئولية اختيار القيادة الجديدة ، أي أن السلطة التي أجرت الانتخابات ـ بمفهوم عصرنا ـ كانت تميل مع أحد المرشحين ، وتربطها به صلة نسب قوية . وانتهى الأمر ببيعة عثمان .
      واذا أزلنا قليلاً من الصدأ الذهني والفكري اللاصق على عقولنا وأفهامنا ، وحاولنا فهم ما جرى في حجاب عن زوابع العاطفة قلنا :

    الامَـامَـة والقـَـيادَةُ _ 88 _

      أولاً : إن تشكيل المجلس وإنتقاء أعضائه لم يتم على أساس مفهوم واضح ، فما هي شروط الأهلية هنا ؟ ولماذا لم ينتق الخليفة غير من انتقى ؟ ولماذا لم يمثل فيه الأنصار ، وهم قوة سياسية كبيرة بالمجتمع آنذاك ؟
      ثانياً : إن إنتقاء ستة أعضاء ثلاثة منهم أقرباء فيما بينهم ، وفيهم أحد المرشحين ، ثم تركيز سلطة الفصل في الأمر عند التساوي في يد ابن الخليفة المعادي لأحد المرشحين ، فإن لم يكن ففي يد قريب أحد المرشحين دون سبب شرعي لهذا الإجراء ، كله من تفضيل لعبد الرحمن بن عوف ، أو وضع القرار في يديه ، أمر لا يفهم منه إلا وضع هذه الصيغة السياسية والدستورية بحيث يصبح فوز أحد المرشحين ـ وهو هنا عثمان بن عفان ـ أمراً محتوماً ، وتبقى المسألة إجراء صورياً لذر الرماد في الأعين ، والتخييل على الناس بأن الأمر تم عن طريق الشورى .
      وأقل ما يوصف به مثل هذا المجلس في عرفنا ـ على الأقل من حيث التشكل ـ أنه غير محايد ، لأن مجموعة الأقارب التي تربطها وشائج القرابة ، وعلاقات المصالح ، يمتنع أن تتفق على غير

    الامَـامَـة والقـَـيادَةُ _ 89 _

      مرشحها ، فإذا تساوت الأطراف فالسلطة في يدها ، وهو ما يجعل الفريق الآخر لا قيمة له ، ولا فرصة أمامه.
      من أجل هذا رأينا الإمام علي (ع) يسخر من مجلس الشورى في بعض كلامه ويقول ( حتى إذا مضى لسبيله ( أي عمر ) جعلها (أي القيادة) في جماعة زعم أني أحدهم، فيا لله ويا للشورى ... فصغا رجل منهم لضغنه ، ومال الآخر لصهره ) (1) ويعلق على الصيغة السياسية التي وضعها عمر فيقول ( قرن بي عثمان ، وقال كونوا مع الأكثر ، فإن رضي رجلان رجلاً ، ورجلان رجلاً ، فكونوا مع الذين فيهم عبدالرحمن بن عوف ، فسعد لا يخالف ابن عمه عبدالرحمن ، وعبدالرحمن صهر عثمان لا يختلفون ، فيوليها عبدالرحمن عثمان أو عثمان عبدالرحمن ، فلو كان الآخران ( يعني طلحة والزبير ) معي لم ينفعاني ، بل إني لأرجو إلا أحدهما ) (2) أي أنه كان يتوقع بقاء الزبير فقط معه وانحياز طلحة عثمان وهو ما حدث .

    ---------------------------
    (1) نهج البلاغة بتعليق الدكتور صبحي الصالح ، ص 49 ، بيروت 1967 .
    (2) الطبري : 3|294 .

    الامَـامَـة والقـَـيادَةُ _ 90 _

      وأكرم عثمان طلحة ، وخصه بالعطاء طوال مدة خلافته حتى حصر فكان أشد الناس عليه ( فكان طلحة إذن يمثل نوعاً خاصاً من المعارضة رضي ما أتاح الرضا له الثراء والمكانة ، فلما طمع في أكثر من ذلك عارض حتى أهلك وهلك ) (1) .
      ثالثاً : إن إصدار عمر أمره بقتل من حاز على أصوات أقل أو تساوى في الأصوات ولم يبايع ، لم يكن له سند من كتاب ولا سنة ، فإن حصل مرشح على نسبة أصوات أعلى ، وآخر على عدد أقل فما الداعي لقتل الثاني ؟ وبأي شريعة يقتل ؟ وهل يبيح الإسلام قتل من لم يبايعوا أو كانوا في الأقلية أو من لم يفوزوا في الإنتخابات مثلاً ؟ أليس هذا الحكم من باب إرهاب الطرف الآخر كي يبايع ؟
      قد يقال إن عمر حكم بهذا خشية الفتنة ، ومن باب الحرص على الأمة ، فنقول : وفي أي شريعة يقتل المسلم بمجرد الخوف والتحسب ، دون أن يرتكب ما يستوجب القتل فعلاً ؟

    ---------------------------
    (1) الفتنة الكبرى ، طه حسين ص 150 ، مصر 1962 م .

    الامَـامَـة والقـَـيادَةُ _ 91 _

      وهل تأييد مرشح لم يحصل ـ بالإحتيال أم بغير الإحتيال ـ على عدد كاف من الأصوات يستحق العقوبة في الإسلام ؟
      أم أن الذي يستحق المحاسبة ذلك القائد والخليفة الذي يلجأ للحيل لإنجاح من يريد ؟
      ثم في النهاية نسأل : هل لابد أن تكون نسبة الفوز في الإنتخابات 99/99% بدون معارضة ؟ وماذا نقول لو أن حاكماً ممن يركبوننااليوم فعل مافعل عمر في معارضيه ؟ أيكون على حق ؟
      فإن قيل لا ، فله أن يقول : لي في عمر بن الخطاب أسوة حسنة ، ومن منا ينكر منزلة عمر ؟
      وإن قيل نعم يحق له ، قلنا : فلا ينبغي إذن أن نعترض إذا انتقى أحد الذين يركبوننا مجلس شورى على عينه ، وسلك كل سبيل ليأتي في الحكم بمن يريد ، وقتل من فازوا بأقلية الأصوات خشية الفتنة !
      رابعاً : إن العهد الذي أخذه عبدالرحمن بن عوف من المرشحين كشرط لتولي القيادة أيضاً فيه كلام ، فالإمام علي (ع)

    الامَـامَـة والقـَـيادَةُ _ 92 _

      ـ كما هو معروف ـ كان أعلم من في الأمة، وكانت فيه بلا شك كبرياء العلماء، ولا يصح إقرانه بغيره بإجماع المسلمين قديماً وحديثاً ، وإلزامه باتباع الكتاب والسنة أمر جد مقبول ولا غبار عليه ، أما إلزامه باتباع أعمال أبي بكر وعمر فقد كان استفزازاً ، كما أنه ما أنزل الله به من سلطان ، فأين الدليل على أن الإلتزام بأعمال أبي بكر وعمر شرط للخلافة وإدارة الدولة لا تفلح إلا به ؟
      ولقد كان لعلي دون ريب مآخذ على أخطاء سياسية ارتكبها الشيخان خلال مدة حكمهما ، وكان أعلم منهما ، فهل يصلح أن يكون الإلتزام بأخطاء السلف دستوراً للعمل في الدولة ؟
      وطبيعي أن رجلاً كعلي لا يقبل الإقرار بالإلتزام بهذه المخالفات التي ندم عليها من فعلوها أنفسهم . ثم إن هذا الشرط لم يضعه عمر في الدستور الذي تركه ـ إن جاز لنا اعتبار ما تركه بمثابة دستور للدولة ـ ولم يكن هذا الشرط إلا تعديلاً تعسفياً في الدستور أجراه عبدالرحمن بن عوف بمزاجه لحاجة في نفسه .

    الامَـامَـة والقـَـيادَةُ _ 93 _

      ودعنا نفترض جدلاً صحة هذا الدستور شرعاً ، فهل سار عليه عثمان في خلافته ؟ أم أنه انحرف عنه إنحرافاً كبيراً كما هو مشهور في التاريخ ؟ ولماذا لم يذكر أحد هذا الشرط حين رأوا المخالفات ، ولماذا لم يعزل لإخلاله بالشرط الذي لولاه ما أعطيت له القيادة ؟
      ألا تنص الشريعة على أن الخليفة إذا لم يف بشروط استخلافه عزل ؟
      والإستفزاز الذي ذكرنا لتونا فطن إليه الإمام علي عليه سلام الله حين خلا عبدالرحمن بن عوف به ثلاث مرات يسأل : لنا الله عليك إن وليت هذا الأمر أن تسير فينا بكتاب الله وسنة نبيه وسيرة أبي بكر وعمر ، حتى قال له الإمام في المرة الأخيرة ( إن كتاب الله وسنة نبيه لا يحتاج معها الى أجيرى ( بكسر الهمزة وتشديد الجيم أي الطريقة والسنة ) أحد ، أنت مجتهد أن تزوي هذا الأمر ( يعني القيادة ) عني (1) ودفع القيادة لعثمان لما وافقه على هذا الشرط .

    ---------------------------
    (1) تاريخ اليعقوبي : 1|162 .

    الامَـامَـة والقـَـيادَةُ _ 94 _

      والواقع أن تشبث عبدالرحمن بن عوف بضرورة الإلتزام بأعمال أبي بكر وعمر ، ينبغي أن نفهمه في ضوء التيارات السياسية والتغييرات الإجتماعية والإقتصادية التي طرأت على المجتمع الإسلامي بعد وفاة الرسول عليه السلام ، ونتيجة للسياسة الإقتصادية بوجه خاص التي سارت عليها الدولة في عهد الشيخين لا سيما عمر ، ذلك أن هذه السياسة أدت الى تغييرات في الدولة، ورفعت فئة على فئة على النحو الذي أشار اليه أستاذنا الشهيد سيد قطب في كتابه العدالة الإجتماعية .
      وكان الإمام علي معروفاً بمخالفته هذه السياسة ، مشهوراً بفقره وزهده وحبه للمساواة وللفقراء والمستضعفين ، فبرز كقائد سياسي وديني لهذا التيار فالتف حوله أتباعه ، ولذلك كثيراً ما روى عن عمر قوله ( قد كنت أجمعت بعد مقالتي لكم أن أنظر فأولى رجلاً أمركم هو أحراكم أن يحملكم على الحق وأشار الى علي ) (1) وقال ( لله درهم إن ولوها الأصيلع ( يقصد علياً )

    ---------------------------
    (1) الطبري : 3|293 ، العقد الفريد : 4|274 .

    الامَـامَـة والقـَـيادَةُ _ 95 _

      كيف يحملهم على الحق وإن كان السيف على عنقه ) ، قال محمد بن كعب : فقلت أتعلم ذلك منه ولا توليه ؟ فقال إن تركتهم فقد تركهم من هو خير مني ) (1) وقال مرة أخرى عنه ( أحربه أن يحملهم على الحق ) (2) وقال لابنه ( ان ولوها الأجلح يسلك بهم الطريق المستقيم ـ يعني علياً ـ فقال ابن عمر : فما منعك أن تقدم علياً ؟ قال أكره أن أحملها حياً وميتاً ) (3) وقد روت الكثرة من كتب الحديث والتاريخ هذا النص بروايات وألفاظ مختلفة ، مما يدل على أن عمر وغيره من الصحابة آنذاك كانوا يعرفون أن علياً إذاجاء الى السلطة، أخذ الدولة على طريق الحق، واشتد في إحقاقه دون محاباة ، مما يضر بمصالح فئة

    ---------------------------
    (1) الرياض النظرة : ص |95 .
    (2) الطبري : 3|294 .
    (3) الرياض النظرة : 2|95 .

    الامَـامَـة والقـَـيادَةُ _ 96 _

      معينة ليسوا على استعداد لتحمل تبعة سياسة المساواة والإنصاف التي سيتبعها علي (ع) .
      والذي نذكره هنا أن هذا التغيير الإقتصادي والإجتماعي الذي نشأ في خلافة عمر وندم عليه قبل موته (1) زاد واستفحل في عهد عثمان حتى عصفت نتائجه بالدولة عصفاً .
      ولم أقف على أحد من القدماء أو المحدثين تناول بالتاريخ عصر الخلافة إلا وأشار من قريب أو بعيد ، تلميحاً مرة وتصريحاً عشرات المرات ، الى أن سياسة عثمان الإقتصادية خاصة والإدارية عامة كانت سبب تنافس الصحابة ـ أو أكثرهم ـ ثم اقتتالهم فيما بعد ، فلقد أحدثت سياسته المالية والاقتصادية الخاطئة انقلاباً هائلاً في وضع المجتمع العربي آنذاك ، فبرزت قطع من نسيجه وانخفضت قطع أخرى ، ففقد وحدة الإنتماء الإقتصادي وطابع المساواة الذي تركه عليه رسول الله ، وظهرت الطبقات بمعالمها واضحة ( وبلغ نظام الطبقات غايته بحكم هذا الانقلاب ،

    ---------------------------
    (1) الفتنة الكبرى ص 8 .

    الامَـامَـة والقـَـيادَةُ _ 97 _

      فوجدت طبقة الارستقراطية العليا ذات المولد والثراء الضخم والسلطان الواسع ، ووجدت طبقة البائسين الذين يعملون في الأرض ، ويقومون على مرافق هؤلاء السادة ، ووجدت بين هاتين الطبقتين المتباعدتين طبقة متوسطة هي طبقة العامة من العرب الذين كانوا يقيمون في الأمصار ، ويغيرون على العدو ويحمون الثغور ، ويذودون عمن وراءهم من الناس وعما وراءهم من الثراء ، وهذه الطبقة المتوسطة التي تنازعها الأغنياء ففرقوها شيعا وأحزاباً (1) وكان الإمام علي ـ كما تشهد سيرته وأحواله وأقواله ـ زعيما للبؤساء والمستضعفين والمحرومين ( ولم يكن الخداع والحيل من مذهب علي عليه السلام ، ولم يكن عنده غير مر الحق ) (2) فمواقف رجال مجلس الشورى أثناء بيعة عثمان لا يمكن فصلها عن مشاعر البشر ، والمكاسب التي حققوها في ظل سياسة

    ---------------------------
    (1) نفس المصدر : ص 109 .
    (2) الفخري لابن طباطبا : ص 63 ، مصر 1339 هـ .

    الامَـامَـة والقـَـيادَةُ _ 98 _

      اقتصادية معينة ، فكانت المفاضلة بين عثمان وعلي لا على أساس الأكفأ والأحق ، بل على أساس الحفاظ على الوضع الراهن والسياسة المفيدة ، ومن هنا نفهم الإصرار على ضرورة اتباع سيرة أبي بكر وعمر ، ثم الميل من بعد الى من يرجى منه عدم المساس بالمكاسب المادية والإجتماعية التي نالوها فيما سبق .
      نقل ابن خلدون في مقدمته عن المسعودي قوله ( في أيام عثمان اقتنى الصحابة الضياع والمال ، فكان له يوم قتل عند خازنه خمسون ومائة ألف دينار ، وخلف إبلاً وخيلاً كثيرة ، وبلغ الثمن الواحد من متروك الزبير بعد وفاته خمسين ألف دينار ، وخلف ألف فرس وألف أمة ، وكانت غلة طلحة من العراق ألف دينار كل يوم ، ومن ناحية السراة أكثر من ذلك ، وكان على مربط عبدالرحمن بن عوف ألف فرس ، وله ألف بعير وعشرة آلاف من الغنم ، وبلغ الربع من متروكة بعد وفاته أربعة وثمانين ألفاً ، وخلف زيد بن ثابت من الفضة والذهب ما يكسر بالفؤوس، غير ما خلف من الأموال والضياع بمائة ألف دينار .

    الامَـامَـة والقـَـيادَةُ _ 99 _

      وبنى الزبير داره بالبصرة وكذلك بنىبمصر والكوفة والإسكندرية ، وكذلك بني طلحة داره بالكوفة ، وشيد داره بالمدينة وبناها بالجص والآجر والساج ، وبني سعد بن أبي وقاص داره بالعقيق ، ورفع سمكها وأوسع فضاءها ، وجعل على أعلاها شرفات ) (1) هكذا كان وضع أكثر أعضاء مجلس الشورى وما حققوه من مكاسب اجتماعية وسياسية ، لا يمكن إغفال دورها في صياغة الأحداث عند تقييمنا لوقائع تاريخنا السياسية الهامة .
      ثم إن ابن سعد روى نصاً غريباً خلاصته أن سعيد بن العاص أتى عمر يستزيده في الأرض ليوسع داره فوعده الخليفة بعد صلاة الغداة وذهب معه حينئذ الى داره ، يقول سعيد :
      ( فزادني وخط لي برجليه ، فقلت يا أمير المؤمنين زدني فإنه نبتت لي نابتة من ولد وأهل ، فقال : حسبك ، واختبيء عندك (يعني اجعل الكلام في سرك ) أنه سيلي الأمر من بعدي من يصل رحمك ، ويقضي حاجتك ، قال فمكثت خلافة عمر بن الخطاب

    ---------------------------
    (1) المقدمة : ص 204 ـ 205 .

    الامَـامَـة والقـَـيادَةُ _ 100 _

      حتى استخلف عثمان وأخذها عن شورى ورضا ، فوصلني وأحسن ، وقضى حاجتي ، وأشركني في أمانته ) (1) فإن صحت هذه الرواية جاز لنا أن نتساءل كيف عرف عمر (رض) أن عثمان سيلي الأمر بعده ؟ أكان ذلك ضرباً من الكشف أم أمراً آخر ؟ وإن كان كشفاً فلماذا يأمره بأن يجعل الكلام في سره ولا يبوح به لأحد ؟
      وهناك رواية أخرى تقول ( إن عمرو بن العاص كان قد لقي علياً في ليالي الشورى فقال إن عبد الرحمن رجل مجتهد ، وأنه متى أعطيته العزيمة كان أزهد له فيك ، ولكن الجهد والطاقة ، فإنه أرغب له فيك ، ثم لقي عثمان فقال إن عبدالرحمن رجل مجتهد وليس والله يبايعك إلا بالعزيمة فاقبل ) (2) أي أن عمرو بن العاص خدع علياً وقال له إن عبدالرحمن إذا سألك أتبايع على كتاب الله وسنة نبيه وسيرة أبي بكر وعمر ، فقل له بل جهدي

    ---------------------------
    (1) طبقات ابن سعد : 5|31 ، بيروت 1957 .
    (2) الطبري : 3|302 .