الفهرس العام

صياغـة الفكـر السياسـي


القيادة في ضوء ممارسات الجيل الأول
1 ـ بيعة أبي بكر
2 ـ بيعة عمر بن الخطاب
3 ـ بيعة عثمان بن عفان
4 ـ مدة التشاور ثلاثة أيام
5 ـ معاوية والثورة المضادة


  ليس بعيب أن نعترف بسذاجة الفكر السياسي عندنا أهل السنة إذا اعتبرنا ما تركه لنا علماء المذهب منذ القرنين الرابع والخامس بعد الهجرة من آراء وأوراق فكراً سياسياً ، فهذا المتوارث المتروك هش متناقض في بعضه ، يشبه الغربال لكثرة ما به من ثغرات ، ومن هنا لا أعتقد أنه يصمد أمام نقاش علمي .
  والسبب في أنني لا أرى في الإعتراف بهذا عيباً أنه ركام موضوع على أساس آراء أشخاص ماتوا لكنهم ما زالوا يحكموننا من قبورهم رغم بعد الأزمان والمسافات .
  ولئن كان هذا الكتاب لا ينصب على هذا الموضوع رأساً ، إلا أنه سيلمس ـ من بعيد ـ هذا الفكر لمساً خفيفاً ، علَّ هذا اللمس يوقظ عقولاً في نصف غيبوبتها أو تكاد تفيق .

الامَـامَـة والقـَـيادَةُ _ 24 _

  وكانت نتيجة اعتمادنا على هذا التراث المتروك وتقديسنا له ولواضعيه ، دون تفحص لعلاقتهم بالأنظمة التي حكمتهم ، وبالقوى السياسية الأخرى التي تفاعلت في مجتمعاتهم آنذاك ، أن عجزنا على مر السنين أن نفرز قيادة واحدة ، ليس والله هذا فحسب بل أفرزنا ـ ما شاء الله ـ أميراً في كل حارة ، ومفتياً في كل شقة ، وإذا الكبير منا والصغير أمام ظاهرة دينية سياسية خطيرة بعضنا يحوقل لها ، وبعضنا يفتح لها فمه عجباً ، ولا يعرف لها سبباً ، ومنا من يعرف أصلها وفرعها لكنه يغمض عينيه ويضع في أذنه طيناً وفي الأخرى عجيناً ويؤثر السلامة .
  ومن أراد حل المعضلة استعار لها مفهوم الغرب ، فلم يزد حجمه عن قائد حزب ، أو رئيس تنظيم ، ودار كل أحد في حلقة مغلقة ليس منها مخرج ، وأصبح الكل يسأل نفسه : ما الحل ؟ وما العمل ؟ أليس منا رجل رشيد ؟ .
  والذين أزعجهم هذا الأمر، لم يردوه الى جذوره ، ويبحثوا في الماضي ليفهموا الحاضر، بل على العكس تحزب كل منهم لجماعته ، وتعصب لموقف شيوخه ـ أحياءً وأمواتاً ـ فازداد طيننا بلة

الامَـامَـة والقـَـيادَةُ _ 25 _

  واعتقادي أن الحاضر البائس الذي نعيشه مربوط بالماضي ، ولا يمكن فهمه إلا بالرجوع الى الأصل والكشف عن الجذر ، ومعالجته من العقم ، لأن المجتمعات البشرية ـ خصوصاً الفكرية ( الإيديولوجية ) عملية حيوية ودورة دائمة كالدورة الدموية ، لا تقف إلا إذا مات البشر كلهم ، ومن هنا فإن حاضر الحركة الإسلامية ليس إلا امتداداً لماضيها ، بل لا أبالغ إن قلت أنه امتداد للوضع السياسي الذي واجهته الأمة الإسلامية بعد وفاة المؤسس الأول عليه وآله الصلاة والسلام .
  فالذين تميزوا بوضوح الرؤية من رجال الجيل الأول ، وتبلورت لديهم المفاهيم ، تمسكوا بها وبقوا بعيداً عن السلطة ، وخضعوا للتقتيل والتشريد والمصادرة والحرمان السياسي والاقتصادي شأنهم شأن المعارضين في كل مكان كل بحسب نظريته ، فنضجت أفهامهم واستوت ، واكتملت نظريتهم ، إذ كان عليهم عرضها وتقديمها للناس مزينة بالأدلة العقلية والنقلية ، مكتملة من كل جوانبها أو تكاد ، وظلوا كذلك منذ البداية ،

الامَـامَـة والقـَـيادَةُ _ 26 _

  خصوصاً وأنهم رفضوا كل الحكومات التي ركبت المسلمين ، واعتلت عليهم بسند أم بغير سند .
  والذين وصلوا الى السلطة ، واقترفوا ما هو مسطور في تاريخنا بما أملته عليهم السلطة ، لم يحتاجوا الى نظرية سياسية مكتملة الجوانب قوية الأدلة ، إذ كانوا قادرين على قمع المخالفين ، ومد النفوذ إلى الخارج ، والتعامل مع الآخرين لا بالحجة والمنطق ، بل بما تتعامل به السلطة ـ أيُّ سلطة ـ مع القوى السياسة التي لا يعجبها حالها .
  وتبلور الوضع العام في تاريخنا على هذين المحورين ، وعاش أهل السلطة كما شاؤوا ، وبقي المعارضون كما هم ، وامتدت القرون ، ولفترة ما حاول المعارضون أن يفعلوا شيئاً ، ثم تحولوا في النصف الثاني من القرن الثالث الهجري تقريباً الى المقاومة السلبية ، وفي الفترة الأولى عبروا عن أنفسهم في شكل انتفاضات وثورات ناضجة وغير ناضجة ، وسلكت السلطات معهم سياسة ذات شقين ، الأول : أبعادهم عن مسرح الحياة السياسية العامة ، بل وحياة المسلمين العادية مرة بالقهر ومرة بالتشويه ، والثاني :

الامَـامَـة والقـَـيادَةُ _ 27 _

  تصفية رموز المعارضة تصفية بدنية ، وقمع نهضاتهم على حساب كل المحرمات والمقدسات .
  حتى إذا جاء دور كتابة السير والتاريخ ـ بعد قرون من وقوع حوادثه ـ فإذا بمن كتبوه يصيغونه من وجهة نظر رجال السلطة لا وجهة نظر الذين دفعوا الثمن من دمائهم وأرواحهم ، ولذلك مجدوا كل من في السلطة ، وقدحوا في كل من عارضهم ، ولم يعطوا الثورات والإنتفاضات العظيمة حقها من التاريخ ، أو حتى من الإنصاف والأمانة العلمية ، واستمر الحال على هذه الوتيرة الى أن نزل الينا في الأصلاب وورثناه كابراً عن كابر ، واذا بما فشا في أيدينا عبر قرون وقرون يصور لنا من في السلطة على أنهم أهل الحق ، ومن عارضوها على أنهم مارقون خارجون عن الجماعة ، وصدقناهم دون أن ننظر الى تاريخهم نظرة تحليل تدرس الظروف الإجتماعية والسياسية والإقتصادية التي عاش في ظلها هؤلاء الكتاب ، وما تأثروا به ومن أثر فيهم ... الى غير ذلك من عوامل المجتمع التي تتحكم بالضرورة في صياغة التاريخ .

الامَـامَـة والقـَـيادَةُ _ 28 _

  ولما دارت الدوائر ، ونفذ القانون الإلهي الحضاري في الخلق ، وأزيح تيار السلطة عن سلطته وانحسر أمام المد الاستعماري منذ أيام المغول حتى زمن الإستعمار الحديث وأفراخه الموجودين في السلطة اليوم ، واشتاقت قلوبنا لأن نعيد مجد الخلافة الغابر ، وجدنا أنفسنا في مكان المعارضة خارج السلطة ، ووجدنا السلطة في يد آخرين ، فأردنا إزاحتهم وولَّينا وجوهنا شطر ماضينا المسطور نستفتيه ونستلهم منه أسلوب التعامل مع من هم في السلطة ، فلم نجد في أيدينا إلا كتابات ونظريات سلطانية أو سلطوية ، فوقعنا في أكبر مأزق إذ أن فكر السلطة لا يقاوم بفكر السلطة ولا بكتابات سلطوية ، مهما امتد البعد الزمني بين السلطتين ! ولم نخرج من مأزقنا بعد .
  أما الذين بقوا في المعارضة أربعة عشر قرناً فقد تراكم لديهم تراث سياسي وحركي غزير الكثافة ثري الثمار عميق المفاهيم ، صاغوه على تؤدة من خلال تجاربهم وهم يعارضون كل الأنظمة لأنها غير شرعية ، فلما دارت الدوائر ، وقضت قوانين التاريخ

الامَـامَـة والقـَـيادَةُ _ 29 _

  الإلهية أن يقع الصدام بينهم وبين امتداد سلطوي زائف ـ أوقل فرخ من أفراخ الإستعمار الحديث ـ كانوا فاهمين جاهزين ، يعرفون كيف يتعاملون مع السلطة وهم أساتذة المعارضة ، فأزاحوا هذا الفرخ ، وهزموا من سند ظهره ، ولو كانت الدنيا بأسرها ، لأن التجربة التاريخية عبر القرون الطويلة أكسبتهم مراساً ، وقوت عظمهم ، هذا تفسير ما حدث في ايران .
  ولا يحسبن أحدكم أنني ألبس تاريخنا قديمه وحديثه ثوب الديمقراطية الغربية باستخدامي لاصطلاحات كالمعارضة والسلطة وغيرها ، فتشابه الإصطلاحات اللفظية لا يعني بحال وحدة الفكر ، لأن دلالات الألفاظ شيء ، والإيمان بالنظريات التي تستخدم هذه المصطلحات شيء آخر .
  إذا كنا نريد الخروج من هذا المأزق فأول ما علينا أن لا نقبل ما في أيدينا من تراث سياسي على أنه مسلمات لا يرقى إليها الشك ، مهماً كانت تمس شخصيات لها مكانة في مذهبنا ، بل إني أرى الشك في هذه الكتابات واجباً من أجل تحرير الإرادة

الامَـامَـة والقـَـيادَةُ _ 30 _

  والفكر ، ولابد من فحص صلة كتَّابها بالقوى السياسية في المجتمعات التي عاشوا فيها ، وعلاقتهم بحكومات تلك العصور ، وتأثرهم بأساتذتهم وشيوخهم ، ووضعهم الإجتماعي آنذاك ، وعقائدهم وآرائهم الخاصة ، والجو السياسي والإجتماعي العام الذي عاشوا فيه ، بل ودوافع تأليف الكتب، من أجل أن نقيم رأياً في المادة السياسية التي تعرضها هذه الكتب ، وهل هي موضوعية نزيهة ، أم منحازة قليلاً ، أم متاثرة بعوامل تحول شكنا يقيناً ؟
  ثم علينا ونحن نستخلص موقفنا السياسي أن ننزع برقع الحياء ولا نخجل في تحليل وقائع تاريخنا ، مهماً بلغ المشاركون في صنعها من علو المنزلة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فإن أدرنا وجوهنا عن هذه الوقائع يميناً أو شمالاً وقلنا تلك أمة قد خلت ، فعلينا إذن أن نجيب على من يسألنا لماذا إذن تطلبون إعادة مجد هذه الأمة ، وتتمسكون بها وتتخذونها نموذجاً ?
  وإن كنا نعتبرها مثالاً لنا ، ونؤمن حقاً ـ لا مجرد كلام ـ أنها كانت أمة من البشر ، ونعيب على غيرنا عصمتهم للبشر ، فلا

الامَـامَـة والقـَـيادَةُ _ 31 _

  مفر إذن من أن نعرض تصرفاتهم وممارساتهم على الحق فنعرف أهله به ، لا أن نقدس أشخاصاً ـ وإن كانوا قادة ـ ثم نعتبر كل ما صدر عنهم من قول أو فعل أو حتى سكوت ، حقاً لا يأتيه الباطل من أي مكان ! .
  نحن في هذا أمام خيارين إما أن ننظر لأفعال وأحداث ماضينا نظرة علمية ترشدنا الى الحق ، أو أن نبقي على نظرتنا العاطفية فلا نهتدي إلا الى امتداد الأخطاء ، واتصال حلقاتها ، وتراكم كمها وكيفها .
  فنحن نقرأ مثلاً في كتب السير والتاريخ أن الخلافة ـ وهي مثلنا الأعلى ـ انقلبت ملكاً عضوضاً منذ سنة إحدى وأربعين بعد الهجرة ، أما لماذا انقلبت ؟ فهذا ما لم نقف إزاءه بجرأة وشجاعة ، أو حتى بمنطق وعقل ، وسكوتنا عن نقد أنفسنا شجع المستشرقين والمغرضين على أن يغمس كل منهم مغرفته في تاريخنا ، ويستخرج منه ما يحلو له ويراه بعينه وعين قومه ، مبتوراً عن سياق واقعي معترف به من قبل أهله ، فأجابوا هم على ما تساءل عنه أبناؤنا والعقلاء منا ، فانفتح بذلك علينا باب خطر عظيم

الامَـامَـة والقـَـيادَةُ _ 32 _

  وأعجب من العجب أولئك الذين عز عليهم الإعتراف بأن الخلافة الراشدة انقلبت وانتهت بعد ثلاثين عاماً فقط من وفاة المؤسس الأعظم ، فألحقوا بنظام الإسلام ممارسات النظامين الأموي والعباسي وأفعال الملوك والسلاطين ، ودافعوا عن ذلك دفاعهم عن الإسلام نفسه ، فاختلط الأمر على من جاء بعدهم ، وقد تكون نوايا هؤلاء حسنة ، لكن طريقة معالجتهم للأمور لم تكن عملية ولا إسلامية بل عاطفية لجأت في كثير من الأحيان الى تحسين كل قبيح ، جهلاً بوسائل الدفاع ، فعانت الأمة الإسلامية وخاصة الأجيال التالية من منهجهم هذا .
  إن التحولات الإجتماعية والسياسة في أي مجتمع لا تقع في يوم وليلة ، بل هي نتيجة عملية اجتماعية لها قوانينها وضوابطها التي وضعها الخالق وحتمها ، ثم اكتشفها المخلوق ودونها وصاغها في شكل علم يدرس ويستفاد به ، إذ الإسلام إلهي من حيث النظرية ، بشري من حيث التنفيذ ، وسقوط الخلافة على يد معاوية أمر بشري مرتبط بالتنفيذ لا بالإسلام من حيث هو

الامَـامَـة والقـَـيادَةُ _ 33 _

  نظرية ربانية ، فلماذا نخجل من تحليل وقائع السقوط بصراحة ؟ وهو الحدث الذي تضافرت فيه عدة عوامل على مدى حقبة من السنين فأنتجت ما هو مسطور في كتبنا ، حيٌّ أمام أعيننا .
  وعادة ما يحدث في الثورات ـ والإسلام نظرية ثورية بلا شك ـ أن يقع الإنحراف بعد وفاة المؤسس ولو خفيفاً كالشعرة ، أو بدرجة واحدة غير ملحوظة ثم إذا به ـ إن أهمل ـ ما يفتأ يتسع يوماً بعد يوم حتى يصل الى مائة وثمانين درجة ، فإذا بنا نرى الإتجاه المعاكس تماماً ، لكنه يحمل اسم النظرية الأولى .
  هذه العملية التحولية هي ما لا بد وأنها حدثت ـ وفق قوانين التاريخ والإجتماع ـ في فترة الثلاثين عاماً منذ وفاة المؤسس الأعظم عليه وآله الصلاة والسلام وحتى انقلاب معاوية ، ثم من بعدها لم تقم لنا دولة نموذجية ، ولم تؤثر عنا نظرية سياسية معقولة .
  والإعتقاد بأن الجيل الأول منزه عن الخطأ أثناء التنفيذ أو العملية الإجتماعية البشرية ، أو أنهم خلوا من انفعالات النفس

الامَـامَـة والقـَـيادَةُ _ 34 _

  الإمارة بالسوء من حب للإمارة والتنافس عليها ، وتحيز لذوي قربى أو صحبة ، ومخالفة لأحكام الشرع ـ أحياناً ـ الى غير ذلك من مقتضيات البشرية لٌ يناقض سيرتهم المدونة ، وأفعالهم وأقوالهم المأثورة ، وليس في ذكره اليوم واستخلاص النتائج منه ما يشينهم أو يشيننا ، مادام القصد علمياً ، والهدف مشروعاً ، وفرق ـ بالطبع ـ بين هذا المنهج وبين منهج حثو التراب في وجوه الناس بلا رؤية أو دراية .
  لقد كنا خير أمة أخرجت للناس ، فاذا بخير أمة يلي أمرها البيت الذي ظل يقاتل مؤسس الدولة ورسالته حتى آخر وقت ، فإذا بدفة الحكم في يد من لعنهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كمروان بن الحكم ، ومن أباح دمه كابن أبي سرح ، وأخيراً تربع على عرشها من لو وزن المسلمون آنذاك في ميزان الكفاءة والخلق والرجولة لكان أقلهم وأحقرهم كيزيد بن معاوية .
  ولم تكن ممارسات هؤلاء وأشباههم إلا ثورة مضادة على الإسلام المحمدي ، والنظرية الصافية .

الامَـامَـة والقـَـيادَةُ _ 35 _

  ومتى ؟ فقط في غضون ثلاثين عاماً !! نحن أمام حالة اجتماعية وسياسية ـ والله ـ جديرة بالدراسة ، إذ المفروض في نظرية قوية كالإسلام منزلة من عند الله أن تستمر ـ إذا طبقت ـ قرناً على الاقل أو قرنين أو أكثر ، قبل أن يدب في أتباعها الوهن .
  وما حدث من التدهور السياسي السريع يضعنا أمام خيارين أثناء تحليل الأحداث لا ثالث لهما : إما أن نظرية الاسلام السياسية لم تطبق أصلاً ، واما أن يكون ما طبق ـ بقطع النظر عن صوابه وخطئة ـ واعتبرناه نظرية الإسلام السياسية على درجة من الضعف ، بحيث لم يستطع معها ملاءمة بقية جوانب النظرية ، والحفاظ على تماسك الدولة أكثر من ثلاثة عقود من السنين .
  وسواء كنا مع الرأي الأول أم الرأي الثاني ، أم ملنا الى غير ذلك ، فإن هذا التحول السياسي الضخم في تاريخنا ينبغي أن نحلله وفق مبادئ الإسلام نفسه ، وقواعده التي وضعها في هذا الشأن ، وحسب قوانين هذا العلم وسنن التاريخ ، لكي نعرف

الامَـامَـة والقـَـيادَةُ _ 36 _

  رأسنا من أرجلنا بدلاً من أن نعيش كقطع الفلين فوق ظهر الماء ، يأخذها الموج الى حيث يريد في اتجاهات متعاكسة دون أن تملك من أمر نفسها شيئاً .
  على أنني أدرك تماماً أن هذه المهمة صعبة للغاية في زمن نرى فيه ما نرى ، وأهون نتائجها أن يرمى المضطلعون بها بشتى التهم ، وربما يهدر دمهم ظلماً ، لكن الأصعب والأخطر أن نسكت ونتعامى ونترك الناس حيرى ، فهذا ذنب عظيم .
  والسؤال الذي يوجع رأس الباحثين والمتحركين الآن هو : كيف يتم تعيين القيادة في الحركة الإسلامية ؟ وإن كان لدينا ـ نحن أهل السنة ـ منهج واضح في هذا فما هو ؟ وكيف طبقه الجيل الأول ؟
  وان لم يكن لنا هذا بضاعة فما هي النظرية ، وما هو المنهج الذي نستطيع استنباطه من ممارسات الجيل الأول في هذا الشأن ، في ضوء السير والتاريخ المكتوب باعتبار هؤلاء قدوة قد نقتدى بها في غياب النص ؟

الامَـامَـة والقـَـيادَةُ _ 37 _

  والجواب على هذا السؤال يكون بطريقتين : الأولى : أنه لا يوجد في ذلك نص محدد ، وأن الأسلاف اجتهدوا ، ومنهم من أصاب ومنهم من أخطأ وسبب كارثة ، والكل مأجور مهما فعل ، وهذا مذهب ابن خلدون وابن كثير وغيرهما من المؤرخين إذ أقروا بأن ( كله تمام ) وأن جميع الناس حتى هارون الرشيد وبعض أبنائه كانوا على صواب ، وأن المأثور عن الأسلاف من ممارسات من لدن وفاة نبي الله عليه وآله الصلاة والسلام حتى بني العباس هو السياسة الشرعية التي على المسلم أن لا يترك التمسك بعروتها .
  وهذه الإجابة تفضي بنا الى نتيجة حتمية هي أن الإسلام ليس فيه نظام سياسي محدد ، ولا القيادة فيه يمكن تعيينها بدقة ، وأن أفعال الجيل الأول بما فيها خاصة من قتل بعضهم للبعض ، وسبي للمسلمات ، وهدم للكعبة ، وهتك لحرمات الصحابيات واغتصابهن ، وقتل وسبي لأبناء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان حلالاً مشروعاً ، ومن فعلوه مأجورون وإن أخطأوا في ذلك .

الامَـامَـة والقـَـيادَةُ _ 38 _

  الثانية : أن الإسلام له في ذلك نظام محدد لكن الجيل الأول غلبته النفس البشرية ، فخالف ما هو مرسوم في هذا الصدد ، اقتضاء لما عليه الفطرة البشرية ، فارتكب البعض خطأ ، وانحرفوا عن الدستور شعرة ثم ما لبث هذا الإنحراف أن اتسع وتعاظم حتى أفلت زمام الأمور من أيديهم ، وأن التحول السياسي والإجتماعي الذي طرأ على الدولة الإسلامية الوليدة فجعل رأسها مكان أرجلها ، إنما وقع تدريجياً نتيجة أخطاء أولية تراكمت عليها أخطاء فأخطاء ، وبمرور الزمن أدت هذه التراكمات الى سقوط الخلافة .
  وهذه الإجابة تقودنا الى تحديد الإنحراف ، وبالتالي معرفة الصواب ، ومن بعد إصلاح المسيرة البشرية خلال العملية التنفيذية في العصر الحاضر .
  لكن بألف حسرة وأسف راقت الإجابة الأولى للكثرة وأعجبتها على ما فيها من جنينية في التفكير ومخالفة للمنطق والعقل ، ومن هنا فقدت الكثرة المنهج التحليلي السليم ،

الامَـامَـة والقـَـيادَةُ _ 39 _

  وانساقت وراء هزات العواطف ـ ومشايخنا أساتذة مهرة في هزها ـ ثم خطت خطوة أكبر فكفرت كل من حاول أو يحاول أن يجيب إجابة مختلفة عن اجابتها ، وهكذا ظلت الأمة دون فكر محدد تريد أن تصلح حاضرها في الوقت الذي تخجل فيه من أن ترفع إصبعها الى ما كان من ماضيها يستحق الإصلاح .
  وانتقلت وجهة النظر العاطفية من صلب الى صلب حتى وصلت عصرنا الحاضر ، فإذا بها تنعكس على الجو الحركي العام الذي يضم كل العاملين للإسلام فتؤثر فيه على نحو كبير ، حائلة دون تحكيم المنطق والعقل .
  وهكذا دخلت الحركة الإسلامية دوامة المتناقضات ، فلم تنجح في إسقاط طاغوت أو اجتياز عقبة لسبب بسيط هو أنها في الوقت الذي تمسكت فيه أشد التمسك بتاريخنا السياسي القديم ، واعتبرت أخطاء شخصياته منجزات ومفاخر إسلامية عظيمة ، إذا بها تريد مواجهة الأنظمة المعاصرة وهي أيضاً متناقضة تراكمت فيها الأخطاء ، علاوة على فسقها وكفرها ، فلما نظرنا فيما في

الامَـامَـة والقـَـيادَةُ _ 40 _

  أيدينا من عُدة سياسية ، وتراث حركي وجدناه هشاً لا يقوم على أساس متين ، ففشلنا في إسقاط النظم ، وأسقطنا بدلاً منها حرمة المسلمين ، فكفرنا كل من لفت نظرنا الضعيف الى مخالفة ـ ولو صريحة ـ لمبادئ الإسلام الذي نطالب باقامته .
  وقد يكون من الأجمل استعراض الأحداث السياسية الكبرى في تاريخنا ـ أن كنا خير أمة ـ مما هو متصل بموضوع واحد فحسب من موضوعات علم السياسة والقانون الدستوري ، وهو في نفس الوقت موضوع الكتاب ، أعني ( القيادة ) وتعيينها ، لنرى كيف أثرت هذه الأحداث ، واستولت على وجدان الأمة وعقلها الباطن، وكمنت فيه لتحكم فيما بعد سلوك أفرادها ، وتوجه تصرفاتهم ، ولننظر أيضاً كيف وقف علماؤنا تجاهها ، وما استنبطوه منها من أحكام ، واستخرجوه من وقائعها من مواد سياسية ودستورية فرضوها على المسلمين ، وأمروهم بتقديسها على أنها ( إسلام ) .

  تعتبر فترة الخلافة الراشدة عندنا أهل السنة الفترة الذهبية للإسلام بعد انقطاع الوحي بوفاة الرسول عليه وآله الصلاة والسلام ، ومن ثم نولي وجوهنا شطرها ، ونتخذها نموذجاً وقدوة .
  والذي لا شك فيه هنا أن تلك الفترة كانت بالفعل كذلك ، ومنزلتها في الفكر السياسي عند المسلمين جميعاً لا تنكر ، إذ أن وقائعها بحلوها ومرها هي التي صاغت الفكر السياسي عند كل الفرق الإسلامية بلا استثناء .
  لكننا ـ حتى الآن ـ لم ننظر الى أحداث تلك الفترة نظرة تحليل موضوعية ، بل قدسناها ، وبنينا على أساسها معتقدات ، بصرف النظر عن موقف الإسلام ـ دخلت في صلب فكرنا السياسي

الامَـامَـة والقـَـيادَةُ _ 42 _

  الديني ، وشكلت أغلب ما لدينا من بضاعة في هذه السوق ، بل ليس بمبالغة أن نقول : إن ما لدينا اليوم أصداء لما وقع آنذاك ، رسخت في عقولنا الباطنة ، وغلبت على بؤرات شعورنا ، رغم بقائها في هوامشه .
  ونحن من هذه العقائد على قسمين : قسم مطلع يقرؤها ويدرسها كنموذج أمثل ، فهو يعتقدها عن وعي ، ويذب عنها بربع أو ثلث علم ، وقسم آخر يستمع دون تفحص ، ويردد بلا وعي ، وكلا الفريقين عاطفي في موقفه وتصرفه وشعوره توجهه قداسة غيرحقيقية لحوادث الجيل الأول بعد وفاة المؤسس الأعظم .
  على أننا إذا كبحنا جماح العاطفة ـ قليلاً ـ وقلنا هلم نبحث الموضوع بطريقة الباحثين عن الحق، انتهينا الى نتائج تخالف ـ دون ريب ـ تلك التي انتهينا إليها ونحن نتحدث تحت تخدير العاطفة .
  ولئن كان الإسلام يذم الموقف الأول من القضايا الهامة ، ويحض على تبني الموقف الثاني ـ خصوصاً في قضايا سير الأوائل ، وقوانين الحضارة والعمران والسياسة والإجتماع ـ ويخاطبنا مئات

الامَـامَـة والقـَـيادَةُ _ 43 _

  المرات ( أفلا تعقلون ... ) ( أفلا تنظرون ... ) ( أفلا يتدبرون ... ) الى آخر ما نحفظه جميعاً من كتاب الله ، إلا أن الإتجاه السائد يتجه إلى غير هذا .
  ومع ذلك ، فهناك قليل ممن يريدون أن يسبحوا ضد هذا التيار ، استجابة للنداء القرآني الموجه الذي يضيىء لنا لجج البحر الذي تعالت أمواجه ، وصارت ظلمات بعضها فوق بعض ، ورجائي من الكثرة أن تصبر علينا ونحن نسبح سباحة الباحثين عن الحقيقة حتى نتم شوطنا ، فإن أعجبتهم سباحتنا فلينزلوا معنا إلى البحر ليصدوا التيار، وإن لم تعجبهم فليتركونا في حرية علَّنا نخرج لهم بلؤلؤة تنفعهم ، أو درة تضيىء لهم ولو بشعاع ، وليضعوها في متحفهم الى وقت قد يعم فيه الظلام فيبحثون فيه عن بصيص ضوء ، ويذكروننا حينئذ .
  تعالوا إذن نستعرض أكبر الوقائع التاريخية التي سجلها لنا تاريخ العهد الذهبي في موضوع القيادة ، ونعيد قراءتها ، بعيداً عن العواطف ، قراءة مجردة ، وننظر ما تؤدي اليه من نتائج

الامَـامَـة والقـَـيادَةُ _ 44 _

  توفي رسول الله عليه وآله الصلاة والسلام ، وانشغل بتغسيله وتجهيزه ودفنه بعض أهله كعلي بن أبى طالب ، وعمه العباس وولديه ، وبعض مواليه ، وفي أثناء ذلك ، انشغل قسم آخر من الصحابة بحسم مشكلة القيادة على نحو رواه عمر بن الخطاب (رض) فقال : ( فلا يغرن أمراء أن يقول أن بيعة أبي بكر كانت فلتة ، فقد كانت كذلك غير أن الله وقى شرها ، وليس منكم من تقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر ، وإنه كان من خبرنا حين توفى الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن علياً والزبير ومن معهما تخلفوا عنا في بيت فاطمة ، وتخلفت عنا الأنصار بأسرها ، واجتمع المهاجرون الى أبي بكر ، فقلت لأبي بكر : انطلق بنا الى إخواننا هؤلاء من الأنصار ، فانطلقنا نؤمهم ، فلقينا رجلان صالحان قد شهدا بدراً ، فقالا : أين تريدون يا معشر المهاجرين ؟ فقلنا نريد إخواننا من الأنصار ، قالا فارجعوا فاقضوا أمركم بينكم ، فقلنا والله لنأتينهم وهم مجتمعون في سقيفة بني ساعدة

الامَـامَـة والقـَـيادَةُ _ 45 _

  وإذا بين أظهرهم رجل مزمل قلت من هذا ؟ قالوا سعد بن عبادة ، فقلت : ما شأنه ؟ قالوا : وجع ، فقام رجل منهم فحمد الله وقال : أما بعد فنحن الأنصار وكتيبة الإسلام ، وأنتم يا معشر قريش رهط نبينا ، وقد دفت إلينا من قومكم دافة ، فلما رأيتهم يريدون أن يختزلونا من أصلنا ، ويغصبونا الأمر وقد كنت زورت في نفسي مقالة أقدمها بين يدي أبي بكر ، وقد كنت أداري منه بعض الحد ، وكان هو أوقر مني وأحلم ، فلما أردت أن أتكلم قال : على رسلك ، فكرهت أن أعصيه ، فقام فحمد الله وأثنى عليه فما ترك شيئاً كنت زورت في نفسي أن أتكلم به لو تكلمت إلا قد جاء به أو بأحسن منه ، وقال : أما بعد يا معشر الأنصار فإنكم لا تذكرون منكم فضلاً إلا وأنتم له أهل ، وإن العرب لا تعرف هذا الأمر إلا لحيٍّ من قريش ، وهم أوسط داراً ونسباً ، ولكن قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فبايعوا أيهما شئتم ، فأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجراح ، فلما قضى أبوبكر كلامه قام منهم رجل فقال : أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب ، منا

الامَـامَـة والقـَـيادَةُ _ 46 _

  أمير ومنكم أمير يا معشر قريش ، فارتفعت الأصوات ، وكثر اللغط فلما أشفقت الإختلاف قلت لأبي بكر : أبسط يدك أبايعك ، فبسط يده فبايعته ، وبايعه المهاجرون والأنصار ، ثم نزونا على سعد حتى قال قائلهم قتلتم سعد بن عبادة ، فقلت قتل الله سعداً ، وإنا والله لم نجد أمراً أقوى من مبايعة أبي بكر ، خشينا إن فارقنا القوم ولم تكن بيعة أن يحدثوا بعدنا بيعة ، فإما أن نتابعهم على ما نرضى أو نخالفهم فيكون فساد ) (1) .
  وقد روى المؤرخون قالوا : ( اجتمعت الأنصار في سقيفة بني ساعدة ، وتركوا جنازة رسول الله يغسله أهله ، فقالوا نولي هذا الأمر بعد محمد سعد بن عبادة ، وأخرجوا سعداً إليهم وهو مريض ... فحمد الله وأثنى عليه ، وذكر سابقة الأنصار في الدين ، وفضيلتهم في الإسلام ، وإعزازهم للنبي وأصحابه ، وجهادهم لأعدائه حتى استقامت

---------------------------
(1) تاريخ الطبري :2|446 ـ 447 ، مصر ، 1939 . صحيح البخاري : كتاب الحدود ، باب رجم الحبلى من الزنا .

الامَـامَـة والقـَـيادَةُ _ 47 _

  العرب ، وتوفي الرسول وهو عنهم راض ( أي سعد ) استبدوا بهذا الأمر دون الناس ، فأجابوه بأجمعهم : أن قد وفقت في الرأي ، وأصبت في القول ولن نعدو ما رأيت ، نوليك هذا الأمر ) (1) .
  سمع أبوبكر وعمر ( رض ) بذلك فأسرعا الى السقيفة ، وتكلم أبو بكر ( رض ) فحمد الله وأثنى عليه ، ثم ذكر سابقة المهاجرين في التصديق بالرسول دون جميع العرب ، وقال ( فهم أول من عبدالله في الأرض ، وآمن بالرسول ، وهم أولياؤه وعشيرته وأحق الناس بهذا الأمر من بعده ، ولا ينازعهم ذلك إلا ظالم ) ثم ذكر فضيلة الأنصار وقال : ( فليس بعد المهاجرين الأولين عندنا بمنزلتكم ، فنحن الأمراء وأنتم الوزراء ، لا تفتاتون بمشورة ، ولا نقضي دونكم الأمور .
  فقام الحباب بن المنذر وقال : يا معشر الأنصار أملكوا عليكم أمركم ، فإن الناس في فيئكم وفي ظلكم ، ولن يجتريء مجتريء على خلافكم ، ولا تختلفوا فيفسد عليكم رأيكم ، وينتقض عليكم أمركم ، فإن أبى هؤلاء ما سمعتم ، فمنا أمير ومنهم أمير .

---------------------------
(1) الطبري : 2|456 .

الامَـامَـة والقـَـيادَةُ _ 48 _

  فقال عمر : هيهات لا يجتمع اثنان في قرن ... والله لا ترضى العرب أن يؤمروكم ونبيها من غيركم ، ولكن العرب لا تمتنع أن تولى أمرها من كانت النبوة فيهم ، وولي أمرهم منهم ، ولنا بذلك على من أبى الحجة الظاهرة والسلطان المبين ، من ذا ينازعنا سلطان محمد وإمارته ونحن أولياؤه وعشيرته ، إلا مدلٍ بباطل ، أو متجانفٍ لإثم ، أو متورط في هلكة ؟
  فقام الحباب بن المنذر وقال : يا معشر الأنصار أملكوا على أيديكم ، ولا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه فيذهبوا بنصيبكم من هذا الأمر ، فإن أبوا عليكم ما سألتموهم فأجلوهم عن هذه البلاد ، وتولوا عليهم هذه الأمور ، فأنتم والله أحق بهذا الأمر منهم ، فإنه بأسيافكم دان لهذا الدين من لم يكن يدين به ، أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب ، أما والله لو شئتم لنعيدنها جذعة .
  قال عمر : إذن يقتلك الله . قال بل إياك يقتل .
  فقال أبو عبيدة : يا معشر الأنصار إنكم إن كنتم أول من ناصر وآزر ، فلا تكونوا أول من بدل وغير .

الامَـامَـة والقـَـيادَةُ _ 49 _

  فقام بشير بن سعد أبو نعمان بن بشير فقال : يا معشر الأنصار إنا والله لئن كنا أولى فضيلة في جهاد المشركين ، وسابقة في هذا الدين ما أردنا به إلا رضا ربنا وطاعة نبينا والكدح لأنفسنا ، فما ينبغي لنا أن نستطيل على الناس بذلك ، ولا نبتغي به من الدنيا عرضا ، فإن الله ولي النعمة علينا بذلك ، ألا إن محمداً صلى الله عليه وسلم من قريش وقومه أحق به .
  ولما رأت الأوس ما صنع بشير بن سعد ، وما تدعو إليه قريش ، وما تطلب الخزرج من تأمير سعد بن عبادة ، قال بعضهم لبعض : والله لئن وليتها الخزرج عليكم مرة ، لا زالت لهم عليكم بذلك الفضيلة ، ولا جعلوا لكم معهم فيها نصيباً أبداً ، فقوموا فبايعوا أبا بكر ، فقاموا إليه فبايعوه ، فانكسر على سعد بن عبادة وعلى الخزرج ما كانوا أجمعوا له من أمرهم ) (1) .
  وفي رواية أخرى :

---------------------------
(1) الطبري : 2|456 ـ 458 ، السيرة النبوية لابن هشام : 4|337 ـ 339 ، القاهرة 1937 .

الامَـامَـة والقـَـيادَةُ _ 50 _

  ( فقال أبوبكر هذا عمر وهذا أبوعبيدة فأيهما شئتم فبايعوا ، فقالا : والله لا نتولى هذا الأمر عليك ... وقام عبدالرحمن بن عوف وتكلم فقال : يا معشر الأنصار إنكم وان كنتم على فضل ، فليس فيكم مثل أبي بكر وعمر وعلي ، وقام المنذر بن الأرقم فقال : ما ندفع فضل من ذكرت ، وإن فيهم لرجلاً لو طلب هذا الأمر لم ينازعه فيه أحد ، يعني علي بن أبي طالب ) (1) .
  ولما كثر اللغط ، واشتد الإختلاف قال عمر لأبي بكر (رض) أبسط يدك أبايعك ، وتمت البيعة .
  وفي رواية أن عمر ( رض ) قال مهدداً الناس إذا أخرجوا القيادة عن قريش (والله ما يخالفنا أحد إلا قتلناه ) (2)
  ورفض سعد بن عبادة بيعة أبي بكر وقال حين أرسلوا اليه ليبايع (أما والله حتى أرميكم بما في كنانتي من نبل ، وأخضب

---------------------------
(1) تاريخ اليعقوبي : 2|103 ، النجف (العراق) 1358هـ والموفقيات للزبير بن بكار : ص 579 ، نقلا عن معالم المدرستين للسيد مرتضى العسكري : 1|117 ، ايران 1406 هـ .
(2) السيرة النبوية لابن هشام : 4|338 .

الامَـامَـة والقـَـيادَةُ _ 51 _

  سنان رمحي ، وأضربكم بسيفي ما ملكته يدي ، وأقاتلكم بأهل بيتي ومن أطاعني من قومي ، فلا أفعل وأيم الله لو أن الجن اجتمعت لكم مع الأنس ما بايعتكم حتى أعرض على ربي وأعلم ما حسابي ) فكان سعد لا يصلي بصلاتهم ، ولا يجمع معهم ، ويحج ولا يفيض معهم بإفاضتهم (1) وبقي كذلك حتى توفى أبو بكر وولي عمر ، وقيل إن عمر أرسل اليه رجلاً في خلافة أبي بكر يدعوه الى البيعة فإن أبي فليقاتله ، فلما أبي سعد البيعة رماه بسهم فقتله (2) .
  وأما من رفضوا بيعة أبي بكر فتحصنوا في بيت السيدة فاطمة الزهراء وكانوا جماعة من بني هاشم ، وجمع من المهاجرين والأنصار بزعامة الإمام علي (ع) والعباس بن عبدالمطلب ، وسلمان الفارسي ، وعمار بن ياسر ، والبراء بن عازب ، وأبي ذر الغفاري ، وأبي بن كعب ، وغيرهم ، رضي الله عنهم

---------------------------
(1) الطبري : 2|459 .
(2) أنساب الأشراف للبلاذري : 1| 589 ، مصر 1959م ، العقد الفريد لابن عبد ربه : 4|260 ، مصر 1944 م .

الامَـامَـة والقـَـيادَةُ _ 52 _

  وقد روت هذه الواقعة كتب السير والتاريخ والصحاح والمسانيد ، ومنهم من صرح بما جرى فيها ومنهم من تعامى عنها ، وممن صرح ببعض ما جرى البلاذري فقال ( بعث أبوبكر عمر بن الخطاب الى علي رضي الله عنهم حين قعد عن بيعته وقال : ائتني به بأعنف العنف ، فلما جرى بينهما كلام فقال ( أي علي ) أحلب حلباً لك شطره ، والله ما حرصك على إمارته اليوم إلا ليؤثرك غداً ) (1) .
  وذكر المؤرخون أن أبابكر أرسل جماعة ، منهم عبدالرحمن بن عوف ، وخالد بن الوليد ، برئاسة عمر بن الخطاب ليخرجوهم من بيت فاطمة ، وقال لهم ان أبوا فقاتلوهم ، فأقبل عمر بقبس من نار على أن يضرم عليهم الدار ، فلقيتهم فاطمة فقالت : يابن الخطاب أجئت لتحرق دارنا ؟ قال نعم ، أو تدخلوا فيما دخلت فيه الأمة (2) واقتحموا دار سيدة نساء العالمين بنت

---------------------------
(1) أنساب الأشراف : 1|587 .
(2) العقد الفريد : 4|260 ، تاريخ أبي الفدا : 1|156 ، مصر 1325 هـ ، الطبري : 2|443 ، أنساب الأشراف : 1|586 ، الرياض النضرة للمحب الطبري : 1|218 ، مصر 1953م ، تاريخ اليعقوبي : 2|105 وفيه أن عمر صارع علياً بسيفه فصرعه وكسر سيفه .