ليس بعيب أن نعترف بسذاجة الفكر السياسي عندنا أهل السنة إذا اعتبرنا ما تركه لنا علماء المذهب منذ القرنين الرابع والخامس بعد الهجرة من آراء وأوراق فكراً سياسياً ، فهذا المتوارث المتروك هش متناقض في بعضه ، يشبه الغربال لكثرة ما به من ثغرات ، ومن هنا لا أعتقد أنه يصمد أمام نقاش علمي .
والسبب في أنني لا أرى في الإعتراف بهذا عيباً أنه ركام موضوع على أساس آراء أشخاص ماتوا لكنهم ما زالوا يحكموننا من قبورهم رغم بعد الأزمان والمسافات .
ولئن كان هذا الكتاب لا ينصب على هذا الموضوع رأساً ، إلا أنه سيلمس ـ من بعيد ـ هذا الفكر لمساً خفيفاً ، علَّ هذا اللمس يوقظ عقولاً في نصف غيبوبتها أو تكاد تفيق .
الامَـامَـة والقـَـيادَةُ _ 24 _
وكانت نتيجة اعتمادنا على هذا التراث المتروك وتقديسنا له ولواضعيه ، دون تفحص لعلاقتهم بالأنظمة التي حكمتهم ، وبالقوى السياسية الأخرى التي تفاعلت في مجتمعاتهم آنذاك ، أن عجزنا على مر السنين أن نفرز قيادة واحدة ، ليس والله هذا فحسب بل أفرزنا ـ ما شاء الله ـ أميراً في كل حارة ، ومفتياً في كل شقة ، وإذا الكبير منا والصغير أمام ظاهرة دينية سياسية خطيرة بعضنا يحوقل لها ، وبعضنا يفتح لها فمه عجباً ، ولا يعرف لها سبباً ، ومنا من يعرف أصلها وفرعها لكنه يغمض عينيه ويضع في أذنه طيناً وفي الأخرى عجيناً ويؤثر السلامة .
ومن أراد حل المعضلة استعار لها مفهوم الغرب ، فلم يزد حجمه عن قائد حزب ، أو رئيس تنظيم ، ودار كل أحد في حلقة مغلقة ليس منها مخرج ، وأصبح الكل يسأل نفسه : ما الحل ؟ وما العمل ؟ أليس منا رجل رشيد ؟ .
والذين أزعجهم هذا الأمر، لم يردوه الى جذوره ، ويبحثوا في الماضي ليفهموا الحاضر، بل على العكس تحزب كل منهم لجماعته ، وتعصب لموقف شيوخه ـ أحياءً وأمواتاً ـ فازداد طيننا بلة
الامَـامَـة والقـَـيادَةُ _ 25 _
واعتقادي أن الحاضر البائس الذي نعيشه مربوط بالماضي ، ولا يمكن فهمه إلا بالرجوع الى الأصل والكشف عن الجذر ، ومعالجته من العقم ، لأن المجتمعات البشرية ـ خصوصاً الفكرية ( الإيديولوجية ) عملية حيوية ودورة دائمة كالدورة الدموية ، لا تقف إلا إذا مات البشر كلهم ، ومن هنا فإن حاضر الحركة الإسلامية ليس إلا امتداداً لماضيها ، بل لا أبالغ إن قلت أنه امتداد للوضع السياسي الذي واجهته الأمة الإسلامية بعد وفاة المؤسس الأول عليه وآله الصلاة والسلام .
فالذين تميزوا بوضوح الرؤية من رجال الجيل الأول ، وتبلورت لديهم المفاهيم ، تمسكوا بها وبقوا بعيداً عن السلطة ، وخضعوا للتقتيل والتشريد والمصادرة والحرمان السياسي والاقتصادي شأنهم شأن المعارضين في كل مكان كل بحسب نظريته ، فنضجت أفهامهم واستوت ، واكتملت نظريتهم ، إذ كان عليهم عرضها وتقديمها للناس مزينة بالأدلة العقلية والنقلية ، مكتملة من كل جوانبها أو تكاد ، وظلوا كذلك منذ البداية ،
الامَـامَـة والقـَـيادَةُ _ 26 _
خصوصاً وأنهم رفضوا كل الحكومات التي ركبت المسلمين ، واعتلت عليهم بسند أم بغير سند .
والذين وصلوا الى السلطة ، واقترفوا ما هو مسطور في تاريخنا بما أملته عليهم السلطة ، لم يحتاجوا الى نظرية سياسية مكتملة الجوانب قوية الأدلة ، إذ كانوا قادرين على قمع المخالفين ، ومد النفوذ إلى الخارج ، والتعامل مع الآخرين لا بالحجة والمنطق ، بل بما تتعامل به السلطة ـ أيُّ سلطة ـ مع القوى السياسة التي لا يعجبها حالها .
وتبلور الوضع العام في تاريخنا على هذين المحورين ، وعاش أهل السلطة كما شاؤوا ، وبقي المعارضون كما هم ، وامتدت القرون ، ولفترة ما حاول المعارضون أن يفعلوا شيئاً ، ثم تحولوا في النصف الثاني من القرن الثالث الهجري تقريباً الى المقاومة السلبية ، وفي الفترة الأولى عبروا عن أنفسهم في شكل انتفاضات وثورات ناضجة وغير ناضجة ، وسلكت السلطات معهم سياسة ذات شقين ، الأول : أبعادهم عن مسرح الحياة السياسية العامة ، بل وحياة المسلمين العادية مرة بالقهر ومرة بالتشويه ، والثاني :
الامَـامَـة والقـَـيادَةُ _ 27 _
تصفية رموز المعارضة تصفية بدنية ، وقمع نهضاتهم على حساب كل المحرمات والمقدسات .
حتى إذا جاء دور كتابة السير والتاريخ ـ بعد قرون من وقوع حوادثه ـ فإذا بمن كتبوه يصيغونه من وجهة نظر رجال السلطة لا وجهة نظر الذين دفعوا الثمن من دمائهم وأرواحهم ، ولذلك مجدوا كل من في السلطة ، وقدحوا في كل من عارضهم ، ولم يعطوا الثورات والإنتفاضات العظيمة حقها من التاريخ ، أو حتى من الإنصاف والأمانة العلمية ، واستمر الحال على هذه الوتيرة الى أن نزل الينا في الأصلاب وورثناه كابراً عن كابر ، واذا بما فشا في أيدينا عبر قرون وقرون يصور لنا من في السلطة على أنهم أهل الحق ، ومن عارضوها على أنهم مارقون خارجون عن الجماعة ، وصدقناهم دون أن ننظر الى تاريخهم نظرة تحليل تدرس الظروف الإجتماعية والسياسية والإقتصادية التي عاش في ظلها هؤلاء الكتاب ، وما تأثروا به ومن أثر فيهم ... الى غير ذلك من عوامل المجتمع التي تتحكم بالضرورة في صياغة التاريخ .
الامَـامَـة والقـَـيادَةُ _ 28 _
ولما دارت الدوائر ، ونفذ القانون الإلهي الحضاري في الخلق ، وأزيح تيار السلطة عن سلطته وانحسر أمام المد الاستعماري منذ أيام المغول حتى زمن الإستعمار الحديث وأفراخه الموجودين في السلطة اليوم ، واشتاقت قلوبنا لأن نعيد مجد الخلافة الغابر ، وجدنا أنفسنا في مكان المعارضة خارج السلطة ، ووجدنا السلطة في يد آخرين ، فأردنا إزاحتهم وولَّينا وجوهنا شطر ماضينا المسطور نستفتيه ونستلهم منه أسلوب التعامل مع من هم في السلطة ، فلم نجد في أيدينا إلا كتابات ونظريات سلطانية أو سلطوية ، فوقعنا في أكبر مأزق إذ أن فكر السلطة لا يقاوم بفكر السلطة ولا بكتابات سلطوية ، مهما امتد البعد الزمني بين السلطتين ! ولم نخرج من مأزقنا بعد .
أما الذين بقوا في المعارضة أربعة عشر قرناً فقد تراكم لديهم تراث سياسي وحركي غزير الكثافة ثري الثمار عميق المفاهيم ، صاغوه على تؤدة من خلال تجاربهم وهم يعارضون كل الأنظمة لأنها غير شرعية ، فلما دارت الدوائر ، وقضت قوانين التاريخ
الامَـامَـة والقـَـيادَةُ _ 29 _
الإلهية أن يقع الصدام بينهم وبين امتداد سلطوي زائف ـ أوقل فرخ من أفراخ الإستعمار الحديث ـ كانوا فاهمين جاهزين ، يعرفون كيف يتعاملون مع السلطة وهم أساتذة المعارضة ، فأزاحوا هذا الفرخ ، وهزموا من سند ظهره ، ولو كانت الدنيا بأسرها ، لأن التجربة التاريخية عبر القرون الطويلة أكسبتهم مراساً ، وقوت عظمهم ، هذا تفسير ما حدث في ايران .
ولا يحسبن أحدكم أنني ألبس تاريخنا قديمه وحديثه ثوب الديمقراطية الغربية باستخدامي لاصطلاحات كالمعارضة والسلطة وغيرها ، فتشابه الإصطلاحات اللفظية لا يعني بحال وحدة الفكر ، لأن دلالات الألفاظ شيء ، والإيمان بالنظريات التي تستخدم هذه المصطلحات شيء آخر .
إذا كنا نريد الخروج من هذا المأزق فأول ما علينا أن لا نقبل ما في أيدينا من تراث سياسي على أنه مسلمات لا يرقى إليها الشك ، مهماً كانت تمس شخصيات لها مكانة في مذهبنا ، بل إني أرى الشك في هذه الكتابات واجباً من أجل تحرير الإرادة
الامَـامَـة والقـَـيادَةُ _ 30 _
والفكر ، ولابد من فحص صلة كتَّابها بالقوى السياسية في المجتمعات التي عاشوا فيها ، وعلاقتهم بحكومات تلك العصور ، وتأثرهم بأساتذتهم وشيوخهم ، ووضعهم الإجتماعي آنذاك ، وعقائدهم وآرائهم الخاصة ، والجو السياسي والإجتماعي العام الذي عاشوا فيه ، بل ودوافع تأليف الكتب، من أجل أن نقيم رأياً في المادة السياسية التي تعرضها هذه الكتب ، وهل هي موضوعية نزيهة ، أم منحازة قليلاً ، أم متاثرة بعوامل تحول شكنا يقيناً ؟
ثم علينا ونحن نستخلص موقفنا السياسي أن ننزع برقع الحياء ولا نخجل في تحليل وقائع تاريخنا ، مهماً بلغ المشاركون في صنعها من علو المنزلة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فإن أدرنا وجوهنا عن هذه الوقائع يميناً أو شمالاً وقلنا تلك أمة قد خلت ، فعلينا إذن أن نجيب على من يسألنا لماذا إذن تطلبون إعادة مجد هذه الأمة ، وتتمسكون بها وتتخذونها نموذجاً ?
وإن كنا نعتبرها مثالاً لنا ، ونؤمن حقاً ـ لا مجرد كلام ـ أنها كانت أمة من البشر ، ونعيب على غيرنا عصمتهم للبشر ، فلا
الامَـامَـة والقـَـيادَةُ _ 31 _
مفر إذن من أن نعرض تصرفاتهم وممارساتهم على الحق فنعرف أهله به ، لا أن نقدس أشخاصاً ـ وإن كانوا قادة ـ ثم نعتبر كل ما صدر عنهم من قول أو فعل أو حتى سكوت ، حقاً لا يأتيه الباطل من أي مكان ! .
نحن في هذا أمام خيارين إما أن ننظر لأفعال وأحداث ماضينا نظرة علمية ترشدنا الى الحق ، أو أن نبقي على نظرتنا العاطفية فلا نهتدي إلا الى امتداد الأخطاء ، واتصال حلقاتها ، وتراكم كمها وكيفها .
فنحن نقرأ مثلاً في كتب السير والتاريخ أن الخلافة ـ وهي مثلنا الأعلى ـ انقلبت ملكاً عضوضاً منذ سنة إحدى وأربعين بعد الهجرة ، أما لماذا انقلبت ؟ فهذا ما لم نقف إزاءه بجرأة وشجاعة ، أو حتى بمنطق وعقل ، وسكوتنا عن نقد أنفسنا شجع المستشرقين والمغرضين على أن يغمس كل منهم مغرفته في تاريخنا ، ويستخرج منه ما يحلو له ويراه بعينه وعين قومه ، مبتوراً عن سياق واقعي معترف به من قبل أهله ، فأجابوا هم على ما تساءل عنه أبناؤنا والعقلاء منا ، فانفتح بذلك علينا باب خطر عظيم
الامَـامَـة والقـَـيادَةُ _ 32 _
وأعجب من العجب أولئك الذين عز عليهم الإعتراف بأن الخلافة الراشدة انقلبت وانتهت بعد ثلاثين عاماً فقط من وفاة المؤسس الأعظم ، فألحقوا بنظام الإسلام ممارسات النظامين الأموي والعباسي وأفعال الملوك والسلاطين ، ودافعوا عن ذلك دفاعهم عن الإسلام نفسه ، فاختلط الأمر على من جاء بعدهم ، وقد تكون نوايا هؤلاء حسنة ، لكن طريقة معالجتهم للأمور لم تكن عملية ولا إسلامية بل عاطفية لجأت في كثير من الأحيان الى تحسين كل قبيح ، جهلاً بوسائل الدفاع ، فعانت الأمة الإسلامية وخاصة الأجيال التالية من منهجهم هذا .
إن التحولات الإجتماعية والسياسة في أي مجتمع لا تقع في يوم وليلة ، بل هي نتيجة عملية اجتماعية لها قوانينها وضوابطها التي وضعها الخالق وحتمها ، ثم اكتشفها المخلوق ودونها وصاغها في شكل علم يدرس ويستفاد به ، إذ الإسلام إلهي من حيث النظرية ، بشري من حيث التنفيذ ، وسقوط الخلافة على يد معاوية أمر بشري مرتبط بالتنفيذ لا بالإسلام من حيث هو
الامَـامَـة والقـَـيادَةُ _ 33 _
نظرية ربانية ، فلماذا نخجل من تحليل وقائع السقوط بصراحة ؟ وهو الحدث الذي تضافرت فيه عدة عوامل على مدى حقبة من السنين فأنتجت ما هو مسطور في كتبنا ، حيٌّ أمام أعيننا .
وعادة ما يحدث في الثورات ـ والإسلام نظرية ثورية بلا شك ـ أن يقع الإنحراف بعد وفاة المؤسس ولو خفيفاً كالشعرة ، أو بدرجة واحدة غير ملحوظة ثم إذا به ـ إن أهمل ـ ما يفتأ يتسع يوماً بعد يوم حتى يصل الى مائة وثمانين درجة ، فإذا بنا نرى الإتجاه المعاكس تماماً ، لكنه يحمل اسم النظرية الأولى .
هذه العملية التحولية هي ما لا بد وأنها حدثت ـ وفق قوانين التاريخ والإجتماع ـ في فترة الثلاثين عاماً منذ وفاة المؤسس الأعظم عليه وآله الصلاة والسلام وحتى انقلاب معاوية ، ثم من بعدها لم تقم لنا دولة نموذجية ، ولم تؤثر عنا نظرية سياسية معقولة .
والإعتقاد بأن الجيل الأول منزه عن الخطأ أثناء التنفيذ أو العملية الإجتماعية البشرية ، أو أنهم خلوا من انفعالات النفس
الامَـامَـة والقـَـيادَةُ _ 34 _
الإمارة بالسوء من حب للإمارة والتنافس عليها ، وتحيز لذوي قربى أو صحبة ، ومخالفة لأحكام الشرع ـ أحياناً ـ الى غير ذلك من مقتضيات البشرية لٌ يناقض سيرتهم المدونة ، وأفعالهم وأقوالهم المأثورة ، وليس في ذكره اليوم واستخلاص النتائج منه ما يشينهم أو يشيننا ، مادام القصد علمياً ، والهدف مشروعاً ، وفرق ـ بالطبع ـ بين هذا المنهج وبين منهج حثو التراب في وجوه الناس بلا رؤية أو دراية .
لقد كنا خير أمة أخرجت للناس ، فاذا بخير أمة يلي أمرها البيت الذي ظل يقاتل مؤسس الدولة ورسالته حتى آخر وقت ، فإذا بدفة الحكم في يد من لعنهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كمروان بن الحكم ، ومن أباح دمه كابن أبي سرح ، وأخيراً تربع على عرشها من لو وزن المسلمون آنذاك في ميزان الكفاءة والخلق والرجولة لكان أقلهم وأحقرهم كيزيد بن معاوية .
ولم تكن ممارسات هؤلاء وأشباههم إلا ثورة مضادة على الإسلام المحمدي ، والنظرية الصافية .
الامَـامَـة والقـَـيادَةُ _ 35 _
ومتى ؟ فقط في غضون ثلاثين عاماً !!
نحن أمام حالة اجتماعية وسياسية ـ والله ـ جديرة بالدراسة ، إذ المفروض في نظرية قوية كالإسلام منزلة من عند الله أن تستمر ـ إذا طبقت ـ قرناً على الاقل أو قرنين أو أكثر ، قبل أن يدب في أتباعها الوهن .
وما حدث من التدهور السياسي السريع يضعنا أمام خيارين أثناء تحليل الأحداث لا ثالث لهما : إما أن نظرية الاسلام السياسية لم تطبق أصلاً ، واما أن يكون ما طبق ـ بقطع النظر عن صوابه وخطئة ـ واعتبرناه نظرية الإسلام السياسية على درجة من الضعف ، بحيث لم يستطع معها ملاءمة بقية جوانب النظرية ، والحفاظ على تماسك الدولة أكثر من ثلاثة عقود من السنين .
وسواء كنا مع الرأي الأول أم الرأي الثاني ، أم ملنا الى غير ذلك ، فإن هذا التحول السياسي الضخم في تاريخنا ينبغي أن نحلله وفق مبادئ الإسلام نفسه ، وقواعده التي وضعها في هذا الشأن ، وحسب قوانين هذا العلم وسنن التاريخ ، لكي نعرف
الامَـامَـة والقـَـيادَةُ _ 36 _
رأسنا من أرجلنا بدلاً من أن نعيش كقطع الفلين فوق ظهر الماء ، يأخذها الموج الى حيث يريد في اتجاهات متعاكسة دون أن تملك من أمر نفسها شيئاً .
على أنني أدرك تماماً أن هذه المهمة صعبة للغاية في زمن نرى فيه ما نرى ، وأهون نتائجها أن يرمى المضطلعون بها بشتى التهم ، وربما يهدر دمهم ظلماً ، لكن الأصعب والأخطر أن نسكت ونتعامى ونترك الناس حيرى ، فهذا ذنب عظيم .
والسؤال الذي يوجع رأس الباحثين والمتحركين الآن هو :
كيف يتم تعيين القيادة في الحركة الإسلامية ؟ وإن كان لدينا ـ نحن أهل السنة ـ منهج واضح في هذا فما هو ؟ وكيف طبقه الجيل الأول ؟
وان لم يكن لنا هذا بضاعة فما هي النظرية ، وما هو المنهج الذي نستطيع استنباطه من ممارسات الجيل الأول في هذا الشأن ، في ضوء السير والتاريخ المكتوب باعتبار هؤلاء قدوة قد نقتدى بها في غياب النص ؟
الامَـامَـة والقـَـيادَةُ _ 37 _
والجواب على هذا السؤال يكون بطريقتين :
الأولى : أنه لا يوجد في ذلك نص محدد ، وأن الأسلاف اجتهدوا ، ومنهم من أصاب ومنهم من أخطأ وسبب كارثة ، والكل مأجور مهما فعل ، وهذا مذهب ابن خلدون وابن كثير وغيرهما من المؤرخين إذ أقروا بأن ( كله تمام ) وأن جميع الناس حتى هارون الرشيد وبعض أبنائه كانوا على صواب ، وأن المأثور عن الأسلاف من ممارسات من لدن وفاة نبي الله عليه وآله الصلاة والسلام حتى بني العباس هو السياسة الشرعية التي على المسلم أن لا يترك التمسك بعروتها .
وهذه الإجابة تفضي بنا الى نتيجة حتمية هي أن الإسلام ليس فيه نظام سياسي محدد ، ولا القيادة فيه يمكن تعيينها بدقة ، وأن أفعال الجيل الأول بما فيها خاصة من قتل بعضهم للبعض ، وسبي للمسلمات ، وهدم للكعبة ، وهتك لحرمات الصحابيات واغتصابهن ، وقتل وسبي لأبناء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان حلالاً مشروعاً ، ومن فعلوه مأجورون وإن أخطأوا في ذلك .
الامَـامَـة والقـَـيادَةُ _ 38 _
الثانية : أن الإسلام له في ذلك نظام محدد لكن الجيل الأول غلبته النفس البشرية ، فخالف ما هو مرسوم في هذا الصدد ، اقتضاء لما عليه الفطرة البشرية ، فارتكب البعض خطأ ، وانحرفوا عن الدستور شعرة ثم ما لبث هذا الإنحراف أن اتسع وتعاظم حتى أفلت زمام الأمور من أيديهم ، وأن التحول السياسي والإجتماعي الذي طرأ على الدولة الإسلامية الوليدة فجعل رأسها مكان أرجلها ، إنما وقع تدريجياً نتيجة أخطاء أولية تراكمت عليها أخطاء فأخطاء ، وبمرور الزمن أدت هذه التراكمات الى سقوط الخلافة .
وهذه الإجابة تقودنا الى تحديد الإنحراف ، وبالتالي معرفة الصواب ، ومن بعد إصلاح المسيرة البشرية خلال العملية التنفيذية في العصر الحاضر .
لكن بألف حسرة وأسف راقت الإجابة الأولى للكثرة وأعجبتها على ما فيها من جنينية في التفكير ومخالفة للمنطق والعقل ، ومن هنا فقدت الكثرة المنهج التحليلي السليم ،
الامَـامَـة والقـَـيادَةُ _ 39 _
وانساقت وراء هزات العواطف ـ ومشايخنا أساتذة مهرة في هزها ـ ثم خطت خطوة أكبر فكفرت كل من حاول أو يحاول أن يجيب إجابة مختلفة عن اجابتها ، وهكذا ظلت الأمة دون فكر محدد تريد أن تصلح حاضرها في الوقت الذي تخجل فيه من أن ترفع إصبعها الى ما كان من ماضيها يستحق الإصلاح .
وانتقلت وجهة النظر العاطفية من صلب الى صلب حتى وصلت عصرنا الحاضر ، فإذا بها تنعكس على الجو الحركي العام الذي يضم كل العاملين للإسلام فتؤثر فيه على نحو كبير ، حائلة دون تحكيم المنطق والعقل .
وهكذا دخلت الحركة الإسلامية دوامة المتناقضات ، فلم تنجح في إسقاط طاغوت أو اجتياز عقبة لسبب بسيط هو أنها في الوقت الذي تمسكت فيه أشد التمسك بتاريخنا السياسي القديم ، واعتبرت أخطاء شخصياته منجزات ومفاخر إسلامية عظيمة ، إذا بها تريد مواجهة الأنظمة المعاصرة وهي أيضاً متناقضة تراكمت فيها الأخطاء ، علاوة على فسقها وكفرها ، فلما نظرنا فيما في
الامَـامَـة والقـَـيادَةُ _ 40 _
أيدينا من عُدة سياسية ، وتراث حركي وجدناه هشاً لا يقوم على أساس متين ، ففشلنا في إسقاط النظم ، وأسقطنا بدلاً منها حرمة المسلمين ، فكفرنا كل من لفت نظرنا الضعيف الى مخالفة ـ ولو صريحة ـ لمبادئ الإسلام الذي نطالب باقامته .
وقد يكون من الأجمل استعراض الأحداث السياسية الكبرى في تاريخنا ـ أن كنا خير أمة ـ مما هو متصل بموضوع واحد فحسب من موضوعات علم السياسة والقانون الدستوري ، وهو في نفس الوقت موضوع الكتاب ، أعني ( القيادة ) وتعيينها ، لنرى كيف أثرت هذه الأحداث ، واستولت على وجدان الأمة وعقلها الباطن، وكمنت فيه لتحكم فيما بعد سلوك أفرادها ، وتوجه تصرفاتهم ، ولننظر أيضاً كيف وقف علماؤنا تجاهها ، وما استنبطوه منها من أحكام ، واستخرجوه من وقائعها من مواد سياسية ودستورية فرضوها على المسلمين ، وأمروهم بتقديسها على أنها ( إسلام ) .
تعتبر فترة الخلافة الراشدة عندنا أهل السنة الفترة الذهبية للإسلام بعد انقطاع الوحي بوفاة الرسول عليه وآله الصلاة والسلام ، ومن ثم نولي وجوهنا شطرها ، ونتخذها نموذجاً وقدوة .
والذي لا شك فيه هنا أن تلك الفترة كانت بالفعل كذلك ، ومنزلتها في الفكر السياسي عند المسلمين جميعاً لا تنكر ، إذ أن وقائعها بحلوها ومرها هي التي صاغت الفكر السياسي عند كل الفرق الإسلامية بلا استثناء .
لكننا ـ حتى الآن ـ لم ننظر الى أحداث تلك الفترة نظرة تحليل موضوعية ، بل قدسناها ، وبنينا على أساسها معتقدات ، بصرف النظر عن موقف الإسلام ـ دخلت في صلب فكرنا السياسي
الامَـامَـة والقـَـيادَةُ _ 42 _
الديني ، وشكلت أغلب ما لدينا من بضاعة في هذه السوق ، بل ليس بمبالغة أن نقول : إن ما لدينا اليوم أصداء لما وقع آنذاك ، رسخت في عقولنا الباطنة ، وغلبت على بؤرات شعورنا ، رغم بقائها في هوامشه .
ونحن من هذه العقائد على قسمين : قسم مطلع يقرؤها ويدرسها كنموذج أمثل ، فهو يعتقدها عن وعي ، ويذب عنها بربع أو ثلث علم ، وقسم آخر يستمع دون تفحص ، ويردد بلا وعي ، وكلا الفريقين عاطفي في موقفه وتصرفه وشعوره توجهه قداسة غيرحقيقية لحوادث الجيل الأول بعد وفاة المؤسس الأعظم .
على أننا إذا كبحنا جماح العاطفة ـ قليلاً ـ وقلنا هلم نبحث الموضوع بطريقة الباحثين عن الحق، انتهينا الى نتائج تخالف ـ دون ريب ـ تلك التي انتهينا إليها ونحن نتحدث تحت تخدير العاطفة .
ولئن كان الإسلام يذم الموقف الأول من القضايا الهامة ، ويحض على تبني الموقف الثاني ـ خصوصاً في قضايا سير الأوائل ، وقوانين الحضارة والعمران والسياسة والإجتماع ـ ويخاطبنا مئات
الامَـامَـة والقـَـيادَةُ _ 43 _
المرات ( أفلا تعقلون ... ) ( أفلا تنظرون ... ) ( أفلا يتدبرون ... ) الى آخر ما نحفظه جميعاً من كتاب الله ، إلا أن الإتجاه السائد يتجه إلى غير هذا .
ومع ذلك ، فهناك قليل ممن يريدون أن يسبحوا ضد هذا التيار ، استجابة للنداء القرآني الموجه الذي يضيىء لنا لجج البحر الذي تعالت أمواجه ، وصارت ظلمات بعضها فوق بعض ، ورجائي من الكثرة أن تصبر علينا ونحن نسبح سباحة الباحثين عن الحقيقة حتى نتم شوطنا ، فإن أعجبتهم سباحتنا فلينزلوا معنا إلى البحر ليصدوا التيار، وإن لم تعجبهم فليتركونا في حرية علَّنا نخرج لهم بلؤلؤة تنفعهم ، أو درة تضيىء لهم ولو بشعاع ، وليضعوها في متحفهم الى وقت قد يعم فيه الظلام فيبحثون فيه عن بصيص ضوء ، ويذكروننا حينئذ .
تعالوا إذن نستعرض أكبر الوقائع التاريخية التي سجلها لنا تاريخ العهد الذهبي في موضوع القيادة ، ونعيد قراءتها ، بعيداً عن العواطف ، قراءة مجردة ، وننظر ما تؤدي اليه من نتائج
الامَـامَـة والقـَـيادَةُ _ 44 _
توفي رسول الله عليه وآله الصلاة والسلام ، وانشغل بتغسيله وتجهيزه ودفنه بعض أهله كعلي بن أبى طالب ، وعمه العباس وولديه ، وبعض مواليه ، وفي أثناء ذلك ، انشغل قسم آخر من الصحابة بحسم مشكلة القيادة على نحو رواه عمر بن الخطاب (رض) فقال : ( فلا يغرن أمراء أن يقول أن بيعة أبي بكر كانت فلتة ، فقد كانت كذلك غير أن الله وقى شرها ، وليس منكم من تقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر ، وإنه كان من خبرنا حين توفى الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن علياً والزبير ومن معهما تخلفوا عنا في بيت فاطمة ، وتخلفت عنا الأنصار بأسرها ، واجتمع المهاجرون الى أبي بكر ، فقلت لأبي بكر : انطلق بنا الى إخواننا هؤلاء من الأنصار ، فانطلقنا نؤمهم ، فلقينا رجلان صالحان قد شهدا بدراً ، فقالا : أين تريدون يا معشر المهاجرين ؟ فقلنا نريد إخواننا من الأنصار ، قالا فارجعوا فاقضوا أمركم بينكم ، فقلنا والله لنأتينهم وهم مجتمعون في سقيفة بني ساعدة
الامَـامَـة والقـَـيادَةُ _ 45 _
وإذا بين أظهرهم رجل مزمل قلت من هذا ؟ قالوا سعد بن عبادة ، فقلت : ما شأنه ؟ قالوا : وجع ، فقام رجل منهم فحمد الله وقال : أما بعد فنحن الأنصار وكتيبة الإسلام ، وأنتم يا معشر قريش رهط نبينا ، وقد دفت إلينا من قومكم دافة ، فلما رأيتهم يريدون أن يختزلونا من أصلنا ، ويغصبونا الأمر وقد كنت زورت في نفسي مقالة أقدمها بين يدي أبي بكر ، وقد كنت أداري منه بعض الحد ، وكان هو أوقر مني وأحلم ، فلما أردت أن أتكلم قال : على رسلك ، فكرهت أن أعصيه ، فقام فحمد الله وأثنى عليه فما ترك شيئاً كنت زورت في نفسي أن أتكلم به لو تكلمت إلا قد جاء به أو بأحسن منه ، وقال : أما بعد يا معشر الأنصار فإنكم لا تذكرون منكم فضلاً إلا وأنتم له أهل ، وإن العرب لا تعرف هذا الأمر إلا لحيٍّ من قريش ، وهم أوسط داراً ونسباً ، ولكن قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فبايعوا أيهما شئتم ، فأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجراح ، فلما قضى أبوبكر كلامه قام منهم رجل فقال : أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب ، منا
الامَـامَـة والقـَـيادَةُ _ 46 _
أمير ومنكم أمير يا معشر قريش ، فارتفعت الأصوات ، وكثر اللغط فلما أشفقت الإختلاف قلت لأبي بكر : أبسط يدك أبايعك ، فبسط يده فبايعته ، وبايعه المهاجرون والأنصار ، ثم نزونا على سعد حتى قال قائلهم قتلتم سعد بن عبادة ، فقلت قتل الله سعداً ، وإنا والله لم نجد أمراً أقوى من مبايعة أبي بكر ، خشينا إن فارقنا القوم ولم تكن بيعة أن يحدثوا بعدنا بيعة ، فإما أن نتابعهم على ما نرضى أو نخالفهم فيكون فساد )
(1) .
وقد روى المؤرخون قالوا :
( اجتمعت الأنصار في سقيفة بني ساعدة ، وتركوا جنازة رسول الله يغسله أهله ، فقالوا نولي هذا الأمر بعد محمد سعد بن عبادة ، وأخرجوا سعداً إليهم وهو مريض ... فحمد الله وأثنى عليه ، وذكر سابقة الأنصار في الدين ، وفضيلتهم في الإسلام ، وإعزازهم للنبي وأصحابه ، وجهادهم لأعدائه حتى استقامت
---------------------------
(1) تاريخ الطبري :2|446 ـ 447 ، مصر ، 1939 . صحيح البخاري : كتاب الحدود ، باب رجم الحبلى من الزنا .
الامَـامَـة والقـَـيادَةُ _ 47 _
العرب ، وتوفي الرسول وهو عنهم راض ( أي سعد ) استبدوا بهذا الأمر دون الناس ، فأجابوه بأجمعهم : أن قد وفقت في الرأي ، وأصبت في القول ولن نعدو ما رأيت ، نوليك هذا الأمر )
(1) .
سمع أبوبكر وعمر ( رض ) بذلك فأسرعا الى السقيفة ، وتكلم أبو بكر ( رض ) فحمد الله وأثنى عليه ، ثم ذكر سابقة المهاجرين في التصديق بالرسول دون جميع العرب ، وقال ( فهم أول من عبدالله في الأرض ، وآمن بالرسول ، وهم أولياؤه وعشيرته وأحق الناس بهذا الأمر من بعده ، ولا ينازعهم ذلك إلا ظالم ) ثم ذكر فضيلة الأنصار وقال : ( فليس بعد المهاجرين الأولين عندنا بمنزلتكم ، فنحن الأمراء وأنتم الوزراء ، لا تفتاتون بمشورة ، ولا نقضي دونكم الأمور .
فقام الحباب بن المنذر وقال : يا معشر الأنصار أملكوا عليكم أمركم ، فإن الناس في فيئكم وفي ظلكم ، ولن يجتريء مجتريء على خلافكم ، ولا تختلفوا فيفسد عليكم رأيكم ، وينتقض عليكم أمركم ، فإن أبى هؤلاء ما سمعتم ، فمنا أمير ومنهم أمير .
---------------------------
(1) الطبري : 2|456 .
الامَـامَـة والقـَـيادَةُ _ 48 _
فقال عمر : هيهات لا يجتمع اثنان في قرن ... والله لا ترضى العرب أن يؤمروكم ونبيها من غيركم ، ولكن العرب لا تمتنع أن تولى أمرها من كانت النبوة فيهم ، وولي أمرهم منهم ، ولنا بذلك على من أبى الحجة الظاهرة والسلطان المبين ، من ذا ينازعنا سلطان محمد وإمارته ونحن أولياؤه وعشيرته ، إلا مدلٍ بباطل ، أو متجانفٍ لإثم ، أو متورط في هلكة ؟
فقام الحباب بن المنذر وقال : يا معشر الأنصار أملكوا على أيديكم ، ولا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه فيذهبوا بنصيبكم من هذا الأمر ، فإن أبوا عليكم ما سألتموهم فأجلوهم عن هذه البلاد ، وتولوا عليهم هذه الأمور ، فأنتم والله أحق بهذا الأمر منهم ، فإنه بأسيافكم دان لهذا الدين من لم يكن يدين به ، أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب ، أما والله لو شئتم لنعيدنها جذعة .
قال عمر : إذن يقتلك الله . قال بل إياك يقتل .
فقال أبو عبيدة : يا معشر الأنصار إنكم إن كنتم أول من ناصر وآزر ، فلا تكونوا أول من بدل وغير .
الامَـامَـة والقـَـيادَةُ _ 49 _
فقام بشير بن سعد أبو نعمان بن بشير فقال : يا معشر الأنصار إنا والله لئن كنا أولى فضيلة في جهاد المشركين ، وسابقة في هذا الدين ما أردنا به إلا رضا ربنا وطاعة نبينا والكدح لأنفسنا ، فما ينبغي لنا أن نستطيل على الناس بذلك ، ولا نبتغي به من الدنيا عرضا ، فإن الله ولي النعمة علينا بذلك ، ألا إن محمداً صلى الله عليه وسلم من قريش وقومه أحق به .
ولما رأت الأوس ما صنع بشير بن سعد ، وما تدعو إليه قريش ، وما تطلب الخزرج من تأمير سعد بن عبادة ، قال بعضهم لبعض : والله لئن وليتها الخزرج عليكم مرة ، لا زالت لهم عليكم بذلك الفضيلة ، ولا جعلوا لكم معهم فيها نصيباً أبداً ، فقوموا فبايعوا أبا بكر ، فقاموا إليه فبايعوه ، فانكسر على سعد بن عبادة وعلى الخزرج ما كانوا أجمعوا له من أمرهم )
(1) .
وفي رواية أخرى :
---------------------------
(1) الطبري : 2|456 ـ 458 ، السيرة النبوية لابن هشام : 4|337 ـ 339 ، القاهرة 1937 .
الامَـامَـة والقـَـيادَةُ _ 50 _
( فقال أبوبكر هذا عمر وهذا أبوعبيدة فأيهما شئتم فبايعوا ، فقالا : والله لا نتولى هذا الأمر عليك ... وقام عبدالرحمن بن عوف وتكلم فقال : يا معشر الأنصار إنكم وان كنتم على فضل ، فليس فيكم مثل أبي بكر وعمر وعلي ، وقام المنذر بن الأرقم فقال : ما ندفع فضل من ذكرت ، وإن فيهم لرجلاً لو طلب هذا الأمر لم ينازعه فيه أحد ، يعني علي بن أبي طالب )
(1) .
ولما كثر اللغط ، واشتد الإختلاف قال عمر لأبي بكر (رض) أبسط يدك أبايعك ، وتمت البيعة .
وفي رواية أن عمر ( رض ) قال مهدداً الناس إذا أخرجوا القيادة عن قريش (والله ما يخالفنا أحد إلا قتلناه )
(2)
ورفض سعد بن عبادة بيعة أبي بكر وقال حين أرسلوا اليه ليبايع (أما والله حتى أرميكم بما في كنانتي من نبل ، وأخضب
---------------------------
(1) تاريخ اليعقوبي : 2|103 ، النجف (العراق) 1358هـ والموفقيات للزبير بن بكار : ص 579 ، نقلا عن معالم المدرستين للسيد مرتضى العسكري : 1|117 ، ايران 1406 هـ .
(2) السيرة النبوية لابن هشام : 4|338 .
الامَـامَـة والقـَـيادَةُ _ 51 _
سنان رمحي ، وأضربكم بسيفي ما ملكته يدي ، وأقاتلكم بأهل بيتي ومن أطاعني من قومي ، فلا أفعل وأيم الله لو أن الجن اجتمعت لكم مع الأنس ما بايعتكم حتى أعرض
على ربي وأعلم ما حسابي ) فكان سعد لا يصلي بصلاتهم ، ولا يجمع معهم ، ويحج ولا يفيض معهم بإفاضتهم
(1) وبقي كذلك حتى توفى أبو بكر وولي عمر ،
وقيل إن عمر أرسل اليه رجلاً في خلافة أبي بكر يدعوه الى البيعة فإن أبي فليقاتله ، فلما أبي سعد البيعة رماه بسهم فقتله
(2) .
وأما من رفضوا بيعة أبي بكر فتحصنوا في بيت السيدة فاطمة الزهراء وكانوا جماعة من بني هاشم ، وجمع من المهاجرين والأنصار بزعامة الإمام علي (ع)
والعباس بن عبدالمطلب ، وسلمان الفارسي ، وعمار بن ياسر ، والبراء بن عازب ، وأبي ذر الغفاري ، وأبي بن كعب ، وغيرهم ، رضي الله عنهم
---------------------------
(1) الطبري : 2|459 .
(2) أنساب الأشراف للبلاذري : 1| 589 ، مصر 1959م ، العقد الفريد لابن
عبد ربه : 4|260 ، مصر 1944 م .
الامَـامَـة والقـَـيادَةُ _ 52 _
وقد روت هذه الواقعة كتب السير والتاريخ والصحاح والمسانيد ، ومنهم من صرح بما جرى فيها ومنهم من تعامى عنها ، وممن صرح ببعض ما جرى البلاذري فقال
( بعث أبوبكر عمر بن الخطاب الى علي رضي الله عنهم حين قعد عن بيعته وقال : ائتني به بأعنف العنف ، فلما جرى بينهما كلام فقال ( أي علي ) أحلب
حلباً لك شطره ، والله ما حرصك على إمارته اليوم إلا ليؤثرك غداً )
(1) .
وذكر المؤرخون أن أبابكر أرسل جماعة ، منهم عبدالرحمن بن عوف ، وخالد بن الوليد ، برئاسة عمر بن الخطاب ليخرجوهم من بيت فاطمة ، وقال
لهم ان أبوا فقاتلوهم ، فأقبل عمر بقبس من نار على أن يضرم عليهم الدار ، فلقيتهم فاطمة فقالت : يابن الخطاب أجئت لتحرق دارنا ؟ قال نعم ، أو تدخلوا فيما دخلت
فيه الأمة
(2) واقتحموا دار سيدة نساء العالمين بنت
---------------------------
(1) أنساب الأشراف : 1|587 .
(2) العقد الفريد : 4|260 ، تاريخ أبي الفدا : 1|156 ، مصر 1325 هـ ، الطبري : 2|443 ، أنساب الأشراف : 1|586 ، الرياض النضرة للمحب الطبري : 1|218 ، مصر 1953م ، تاريخ اليعقوبي : 2|105 وفيه أن عمر صارع علياً بسيفه فصرعه وكسر سيفه .