إختلفوا فيه من بعـدي )) ، أخرجَ الحافظ إبنُ كثير الدمشقي بسندهِ عن أبي البختري ، عن أميرِ المؤمِنين (ع) أنّه قال : (( بعثني رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى اليمن وأنا حديث السن ليس لي علمٌ بالقضاء ، قال : فضرب في صدري وقال : إن الله سيهدي قلبك ويثبّت لسانك ، قال فما شككتُ في قضاء بين اثنين بعد وقـد ثبت عــن عـمر بن الخطّاب أنه كان يقول عـليّ أقضانا وأُبيّ أقـرؤنا للقـرآن ، وكان عـمر يقول : أعـوذُ باللهِ من معـضلةٍ ولا أبو حسن لها )) (1) .
  وإنّه نفس رسول الله بصريح قوله تعالى : (( فمن حاجّك فيه من بعدِ ما جاءك من العلمِ فقل تعالوا ندعُ أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنتَ اللهِ على الكذ بين )) ( آل عمران / 61 )
  ويقيناً أن المقصود بنفس الرسول (ص) في هذه الآية هي المساواة بين النفسين ، وهذا يقتضي إشراكهما بالصفات والكمالات والفضائل ، إلا( النبوّة ) فقد خرجت بدليل صريح من القرآن الكريم ، وهو قوله تعالى : (( ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين )) ، ولقول الرسول الأكرم (ص) للإمام علي : (( أنتَ منّي بمنزلةِ هارون من موسى إلّا أنه لانبي بعدي)) (2) ، وبما أن النبي الأكرم (ص) كان أفضل الخلق من الأولين والآخـرين في سائر الفضائل وجب أن يكون الأمام علي (ع) أفضل الخلق من بعـده وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء .

---------------------------
(1) البداية والنهاية ، للحافظ ابن كثير الدمشقي 7 / 2039 ، مراجعة وضبط د . سهيل زكار ، ط 1 ، دار صادر ، بيروت 2005 م .
(2) ينظر : أسد الغابة 3 / 405 ،وسيأتي الكلام عن حديث المنزلة ص 31 .


وليد الكعبة _ 26 _

تتـْميـــم

  إنّ للآية المباركة مارة الذكر (( فمَـنْ حاجّكَ فيه )) قصّة خلاصتها : أنّ وفد نصارى نَجران جاء إلى النبيّ (ص) ونزلَ في مسجدهِ وذلك ليُحاوره ، فقالوا له : ما هو رأيكَ في عيسى ؟ فقال : إنّ عيسى (ع) عبدٌ مخلوقٌ للهِ تعالى ، يأكُل ويشرب ويُمارس ما يمارسه الناس وما إلى ذلك ، فأرادوا أن يُقنعوا رسول الله (ص) بأنّ عيسى (ع) ليس بشراً كبقيّة البشر من خِلالِ عقيدتهِم في أنّ الله تجسّدَ فيه ، فقالوا : هل يُمكِنْ أن يكون هناك مخلوق بدون أب ، فعيسى ولد من دونِ أبٍ كما تقولون ؟ فأنزلَ اللهُ تعالى : (( إنّ مَثَلَ عيسى عند اللهِ كمَثَلِ آدمَ خلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمّ قالَ لَهُ كُن فيكُونُ ، الحَقُّ مِن رَبِّكَ فلا تكُنْ مِنَ المُمتَرين ، فمَنْ حاجّكَ فيهِ مِنْ بَعْـدِ ما جاءَكَ مِنَ العلمِ فقُل تعالَوْا نَدعُ أبناءَنا وأبناءَكُم ونِساءَنا ونِساءَكُم وأنفُسَنا وأنفُسَكُم ثُمّ نبتَهِلْ فنجعَل لعْنَتَ اللهِ على الكاذبين )) ( آل عمران / 59 ــ 61 ).
  ويبدو من خِلالِ جوّ الآية أنّ الحِجاج وصلَ إلى طريقٍ مسدود ، فقال لهم النبيّ (ص) : تعالوا نبتهل ، وقال (ص) : إنّ الله عزّ وجل أخبرني أن العذاب ينزل على المُبطِل عقب المُباهَلة ويُبيّن الحقّ من الباطل، فانصرف الوفد المكوّن مِن أسقف نجران في ثلاثين رجلاً من النصارى ، على أساس اللقاء وفق موعدٍ مُحدّد .

وليد الكعبة _ 27 _

  فلمّا كان من الغد جاء النبيُّ (ص) آخِذاً بيدِ عليّ بن أبي طالب (ع) والحسنِ والحُسينِ (ع) يمشيان بين يَدَيهِ ، وفاطمة الزهراء (ع) تمشي خلفَهُ ، وخرج النَصارى يقدمهُم أسقفهُم ، فلمّا رأى الأسقف النبي (ص) قد أقبلَ بمن معه ، سأل عنهُم ، فقيلَ لَهُ : هذا ابن عمّه علي بن أبي طالب وهو صِهره وأبو ولَديه ، وهذان الطِفلان ولدا ابنتهِ من عليٍّ ، وهذه الجارية بنته فاطمة ، فنظرَ الأسقف إلى أصحابهِ وقال لهُم : انظروا إليهِ قد جاءِ بخاصّتهِ من وِلْدِهِ وأهلهِ ليُباهِل بِهِم واثِقاً بحقّهِ ، واللهِ ما جاء بِهِم وهُوَ يتخوّف الحُجّة عليهِ ، فاحذروا مُباهلَتَهُ ، والله لولا مكان قيصر لأسلمت لهُ ، ولكن صالحوه على ما يتّفق بينكُم وبينَهُ وارجعوا إلى بلادِكُم وارتاؤا لأنفُسِكُم ، فقالوا له : رأينا لرأيكَ تَبَع فقال الأسقف : يا أبا القاسم إنّا لا نُباهِلُكَ ، ولكنّا نُصالِحُكَ فصالحنا على ما ننهض بِهِ ، فصالحهُم النبيّ (ص) على ألفَي حُلّة مِن حلل الأواقي ، قيمة كُلّ حلّة أربعون درهماً جِياداً ، فما زادَ أو نقَص كان بحِساب ذلك ، وكتبَ لهُم النبيّ (ص) كتاباً على ما صالحَهم عليهِ (1) .
  إنّ الإيحاء الّذي نستنتجه من قصّة المُباهلة إنّ شخصيّة عليٍّ (ع) قد اندمجتْ بشخصيّةِ رسول الله (ص) علماً وروحانيّةً وزهداً وشجاعةً بحيث كان يمثّل الرسول الأكرم في ذاتهِ ، كما كان الرسول الأكرم يتمثّل بِهِ .
  والإيحاء الآخر الّذي نستنتجه مِن هذهِ القصّة هي مسألة الحوار مع الآخَر الّذي يحمل عقيدةً غير عقيدتنا ،سواءً كان الاختلاف دينيّاً ، أو

---------------------------
(1) ينظر : الإرشاد ص 96 ، الميزان في تفسير القرآن ، السيد محمد حسين الطباطبائي ، 3 / 170 وما بعدها ، ط 1 ، تقديم جوادي آملي ، دار الأضواء ، بيروت 2010 م .


وليد الكعبة _ 28 _

  مذهبيّاً ، أو في حقول السياسة والاجتماع ، وغيرها ، فالحوار الهادِف الموضوعي هو الّذي يحترم فيه المُحاوِر مُحاوِره ، دون أن يتّخذَ من اختلافهِ معهُ في الرأي سبباً للسِباب والشتيمة والإقصاء والتصفية والقتل .

عَـوْدةٌ إلى الخصائص

  ومن خصائصه (ع) إنّهُ قسيم الجنّة والنار ،فعن أبي سعيد الخدري ، قال : قال رسول الله (ص) : يقول الله تعالى يوم القيامة لي ولعلي بن أبي طالب ادخلا الجنة مَنْ أحبّكُما ، وادخلا النارَ من أبغضكُما ، وذلك قولُهُ تعالى (( ألقيا في جَهنّمَ كُلَّ كَفّار عَنيدٍ )) (1) .
  ومن خصائصه (ع) أيضاً أنّه أحبّ الخلق جميعا إلى الله تعالى وإلى رسوله (ص) ، وأعظمهم ثواباً عنده وأكثرهم قرباً إليه ، ولو لم يكن من المؤيدات لذلك إلا خبر الطائر المشوي ، الذي رواه جمعٌ غفيرٌ من الصحابةِ والتابعين ،واشتهر عند الخاصة والعامة لكفى وقد صنّف الناس فيه ، وله طرق متعدّدة ،ومن هذه الطرق ، عن أنس بن مالك خادم رسول الله (ص) ، قال (( أهدي لرسول الله ( ص ) حجل مشوي بخبزه وضيافه ،فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : (( اللهم أئتني بأحبّ خلقك اليك يأكل معي من هذا الطعام )) ، فقالت عائشة : اللهم اجعله أبي ، وقالت حفصة : اللهم اجعله أبي ، وقال أنس وقلتُ : اللهم اجعله سعد بن عبادة ، قال أنس : فسمعت حركة بالباب

---------------------------
(1) الامالي ، محمّد بن الحسن الطوسي ص 219 ، المجلس الحادي عشر ح 563 ـــ 10 ، ط 1 ، دار احياء التراث العربي ، بيروت 2009 م .

وليد الكعبة _ 29 _

  فقلتُ : إنّ رسول الله (ص) على حاجةٍ ، فانصرف ، ثمّ سمعتُ حركةً بالباب ، فخرجتُ ، فإذا عليٌّ بالباب ، فقلتُ : إنّ رسول الله (ص) على حاجةٍ فانصرف ، ثمّ سمعتُ حركةً بالباب ، فسلّم عليٌّ ، فسمع رسول الله (ص) صوته فقال : انظر من هذا ؟ فخرجتُ فإذا هو عليٌّ فجئتُ إلى رسولِ الله (ص) فأخبرته ، فقال : ائذن له يدخل عليّ فأذنتُ له فدخل ، فقال رسول الله (ص) : (( اللهم والِ من والاه )) (1) .

حديث يوم الدار

  ومن المناقب الجليلة التي اختصّ بها أمير المؤمنين (ع) ولم يشركه فيها أحد من أهل الإسلام ، من المهاجرين الأوّلين ولا الأنصار هو تنصيبه ناصراً للإسلام ، ووزيرا للداعي إليه ، وخليفة له ، بعـد نزول قوله تعالى : (( وأنذر عشيرتك الأقـربين )) الشعـراء / 214 .
  ففي تاريخ الطبري بسنده عـن عبدالله بن عـباس ، عن الإمام علي (ع) ، قال : (( لمّا نزلت هـذه الآية على رسول الله (ص) (( وأنذر عشيرتك الأقربين )) دعاني رسول الله (ص) فقال لي : يا علي ، إنّ الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين ، فضقتُ بذلك ذرعاً ، وعرفتُ أنّي متى أباديهم بهذا الأمر أرى منهم ما أكره ، فصَمَتُّ، حتى جاءني جبرائيل فقال : يا محمد ، إنّك إلا تفعل ما تؤمر به يعذّبك ربّك

---------------------------
(1) البداية والنهاية 7 / 2031 .


وليد الكعبة _ 30 _

  فاصنعْ لنا صاعاً من طعامٍ ، واجعل عليه رِجلَ شاةٍ ، واملأ لنا عُسّاً من لبن ، ثم إجمع لي بني عبدالمطّلب حتى أكلّمهم ، وأبلغهم ما أمرت به ،ففعلتُ ما أمرني به ، ثم دعوتُهم له ؛ وهم يومئذٍ أربعـونَ رجلاً ، يزيدون رجلا أو ينقصونه ، فيهم أعمامه أبو طالب وحمزة والعـباس وأبو لهب ، فلما اجتمعوا إليه دعاني بالطعام الذي صنعت لهم ، فجئتُ به فلمّا وضعتُهُ تناول رسول الله (ص) حِذيةً من اللحم فشقّها بأسنانه ، ثم ألقاها في نواحي الصحْفة ، ثم قال : خُذوا بسم الله ، فأكل القوم حتى ما لهم بشئ حاجة وما أرى إلا موضع أيديهم ، وأيمُ الله الذي نفس علي بيده ، وإن كان الرجل الواحد منهم ليأكلُ ما قدمت لجميعهم ، ثم قال : إسق القوم ، فجئتهم بذلك العُس ، فشربوا منه حتى رووا منه جميعاً ، وأيمُ الله إن كان الرجلُ الواحد منهم ليشرب مثَله ، فلمّا أراد رسولُ الله (ص) أن يكلّمهم بدرَهُ أبو لهب إلى الكلام ، فقال : لشدّ ما سَحَركُم صاحبُكم ! فتفرّق القوم ولم يكلمهم رسولُ الله (ص) فقال : الغد يا عليّ إنّ هذا الرجل سبقني إلى ما قد سمعت من القول ، فتفرّق القوم قبل أن أكلّمهم فعُدْ لنا من الطعام بمثل ما صنعت ثم إجمعهم إليّ .
  قال : ففعلت ُ ، ثم جمعتهم ثم دعاني بالطعام فقرّبته لهم ففعل كما فعل بالأمس ، فأكلوا حتى ما لهم بشئ حاجة ، ثم قال : اسقهم ، فجئتهم بذلك العُسّ فشربوا حتى رووا منه جميعاً ، ثم تكلّم رسول الله (ص) فقال يا بني عبدالمطّلب ، إنّي والله ما أعلمُ شاباً في العرب جاء قومَهُ بأفضل مما قد جئتكم به ، إنّي قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة ، وقد

وليد الكعبة _ 31 _

  أمرني الله تعالى أن أدعوكم إليه فأيّكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم ؟ قال : فأحجم القـوم عنها جميعاً وقلت وإنّي لأحدثهم سنّاً ، وأرمصهم عيناً ، وأعظمهم بطناً ، وأحمشهم ساقاً : أنا يا نبي الله أكون وزيرَك عليه فأخذ برقبتي ، ثم قال : إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم ، فاسمعوا له وأطيعوا ، قال : فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب : قد أمرك أن تسمع لإبنك وتطيع )) (1) .
  وفي علل الشرائع للصدوق ،بسندهِ عن عبدالله بن الحارث بن نوفل عن علي بن أبي طالب (ع) قال : (( لمّا نزلتْ (( وأنذر عشيرتك الأقربين)) ورهطك المُخلِصين دعا رسول الله (ص) بني عبدالمطّلب وهُم إذ ذاك أربعونَ رجلاً أو ينقصون رجلاً ، فقال : أيّكُم يكونُ أخي ووصيّي ووارثي ووزيري وخليفتي فيكُم بعدي ؟ فعرض عليهم ذلك رجلاً رجلاً كُلّهم يأبى ذلك حتى أتى عليَّ ، فقلت : أنا يا رسول الله ، فقال : يا بني عبدالمطّلب هذا أخي ووارثي ووصيّي ووزيري وخليفتي فيكم بعدي ، فقام القومُ يضحكُ بعضُهُم إلى بعض ويقولون لأبي طالب قد أمرَكَ أن تسْمَع وتُطيع لهذا الغلام )) (2) .

دلالة حديث الدار

  إنّ حديث الدار يُعدُّ أوّل عمليّة لإعداد الأمّة وتربيتها وتهيئتها ، لقبولِ واستقبال خلافة الإمام عليّ (ع) ووصايتهِ ، وقيادته للمسيرة

---------------------------
(1) الطبري 2 / 202 .
(2) علل الشرائع ص 138 ياب 133 ح 2 .

وليد الكعبة _ 32 _

  الإسلاميّة بعد النبيّ (ص) منذ وقتٍ مُبكّر ، وذلك من خلال إعداد الوسط الخاص وهم ( عشيرة النبيّ المقرّبين ) الّذين يُمثّلونَ الحلقة العليا والأخيرة في سلسلة الإصطفاء الربّاني لحمل أمانة الإسلام ، وأمانة الدين الخاتم .
  فعن الصحابي واثلة بن الأسقع أنّ رسول الله (ص) قال : (( إنّ الله اصطفى من ولدِ آدم إبراهيم واتّخذهُ خليلاً ، واصطفى من ولدِ إبراهيم إسماعيل ، ثُمّ اصطفى مِن ولدِ إسماعيل نزاراً ، ثُمّ اصطفى مِن ولدِ نزار مضر ثُمّ اصطفى من مضر كنانة ، ثمّ اصطفى مِن كنانة قُريشاً ، ثُمّ اصطفى مِن قُريش بني هاشِم ، ثُمّ اصطفى من بني هاشِم بني عبدالمطّلب ، ثُمّ اصطفاني من بني عبدالمطّلب )) .
  فبعد أن أنهى الرسول الأكرم (ص) تربيته المخصوصة لعليّ (ع) ، والرعاية الفائقة له ، والحرص على أن يكون عليٌّ (ع) قريباً جدّاً من أنوار الوحي ، وأن يكون متعرّضاً لنفحات النبوّة ، وأن يكون ثالث ثلاثة في بيت الرسول القائد حيث مهبط الوحي كما بيّنّا في الصفحات السابقة ، وأن يكون إلى جانبه دائماً لا يفارقه ليلاً ولا نهاراً كما وردَ على لسان أمير المؤمنين (ع) : (( كان لي ساعة من السَحَر أدخُلُ فيها على رسول الله (ص) ، فإن كان في صلاة سبّحَ فكانَ ذلك إذنه لي ، وإنْ لم يكُنْ في صلاةٍ أذِنَ لي )) (1) ، انتقلَ (ص) إلى بيان منزلة عليّ (ع) ، وعظمة شخصيته والإشادة بفضلهِ وفضائله ، وكان حديث يوم الدار بداية الطريق .

---------------------------
(1) شرح الخصائص ، الشرفي 2 / 113 .


وليد الكعبة _ 33 _

  إن القرار النبوي في شأن عليّ (ع) يوم الدار قد ولاه جملة من المناصب تنتهي إلى مجموعتين :
  (الأولى ) تتصل بالإسلام في حياة النبي (ص) وتتمثل في ( أخي ) والتي تعني إلفات النظر لمكانة علي (ع) وبيان منزلته إنطلاقاً من أن رسول الله (ص) كان يؤاخي بين الرجل ونظيره فيكون الإمام علي نظير رسول الله في الإيمان والعلم بالكتاب والسنّة والعمل بهما كما إنّ ( أخي ) تعني المشاركة في أعباء الأداء والفداء لهذا الدين .
  ( الثانية) تتصل بالإسلام فور وفاة النبي (ص) مباشرة وتتمثل في منصبي (( وصيي وخليفتي )) وفي هذا إبلاغٌ للأمّة وتعريف لها بمن أعدّ لهذا المنصب ، لكي لا تتعطل الأحكام نتيجة لحدوث الفراغ نتيجة للبحث عمّن تولّي ، ولسدّ باب التنازع بين المتنافسين حول هذا المنصب ، والذي يؤدي إلى الانقسام بين صفوف المسلمين نتيجة للانقسام في الولاء بين المتنافسين ، ممّا يؤدي إلى القضاء على وحدة الأمّة ، وهذا النصّ يُعدّ أول مواطن النصّ على إمامتهِ (ع) وهو يومئذٍ صبي لم يبلغ الحلم (1) .

حديثُ المَنْزِلة

  ومن الفضائل التي لم يشرك فيها أحدٌ مِن الخلْق الإمام عليّ (ع) ولا ساواه في معناها ، ولا قاربه فيها على حال ، قولُ النبيُّ (ص)

---------------------------
(1) من خير ما كُتب بشأن حديث إنذار العشيرة وإعداد الأمة لتولّي عليّ (ع) كتاب : يوم الدار بحث استدلالي يتعلق بخلافة النبي (ص) ، د . السيد طالب الحسيني الرفاعي ، ط 1 ، دار الأضواء ، بيروت ، 1986 م ( 280 ص) ، ونشأة الشيعة والتشيّع، السيد محمد باقر الصدر (قدس سره) ، تحقيق وتعليق د. عبدالجبار شرارة ، مؤسسة الثقلين الثقافية ، بيروت ، ( د . ت ) ( 152 ص ) .

وليد الكعبة _ 34 _

  لعليًّ (ع) : أنتَ مِنّي بمنزلةِ هارون من موسى ، وهو من أصحّ السُنَنِ والأحاديث بإجماع المسلمين ، وقد ذكره أغلب الّذين تعرّضوا لغزوة تبوك من المحدّثين وأهل الأخبار، وأخرجوه عن جماعةٍ من الصحابةِ ، منهم : عمر بن الخطّاب ،وعليّ بن أبي طالب ، وعبدالله بن عبّاس ، وعبدالله بن جعفر ، ومعاوية بن أبي سفيان ، وجابر بن عبدالله الأنصاري ، وجابر بن سمرة ، والبراء بن عازب ، وزيد بن أرقم ، وأبي سعيدٍ الخدري ، وأنس بن مالك ، وأمّ سلَمة ، وأسماء بنت عُميس ، وغيرهِم (1) .
  فعن الطبري قال : قال ابن إسحاق : وخلّف رسول الله (ص) علي بن أبي طالب على أهلِهِ ، وأمرهُ بالإقامةِ فيهم ، واستخلفَ على المدينةِ سبَاع بن عُرفُطة أخا بني غِفار ، فأرجفَ المنافقونَ بعلي بن أبي طالب وقالوا : ما خلّفهُ إلّا استثقالاً له وتخفّفاً منه ، فلمّا قال ذلك المنافقونَ أخذَ عليٌّ سِلاحَهُ ثُمّ خرجَ حتى أتى رسولَ الله (ص) ، وهو بالجُرف، فقال : يا نبيَّ الله ، زعَمَ المنافقونَ أنّكَ إنّما خلّفتني أنّك استثقلتَني وتخفّفتَ مِنّي ، فقال : كذبوا، ولكنّي إنّما خلّفتُكَ لما ورائي ، فارجع فاخلُفْني في أهلي وأهلك ، أفلا ترضى يا عليُّ أن تكونَ مِنّي بمنزلةِ هارون مِن موسى ؟ إلّا أنّهُ لا نبيَّ بعدي، فرجعَ عليٌّ إلى المدينةِ، ومضى رسول الله (ص) على سَفرِهِ )) (2) .
  وأخرج النسائي في خصائصه ، بسنده عن إبراهيم بن سعد بن أبي وقّاص ، عن أبيه سعد انّهُ سمَعَ رسولُ اللهِ (ص) يقولُ لعليّ (ع) حينَ

---------------------------
(1) ينظر : البداية والنهاية 7 / 2024 ، المراجعات، السيد عبدالحسين شرف الدين ص 139 وما بعدها ، ط 20 ، مؤسسة الاعلمي ، بيروت ، ( د . ت ) .
(2) الطبري 3 / 62 .


وليد الكعبة _ 35 _

  خلّفَهُ في غزوة تَبوك على أهلهِ : (( ألا ترضى أن تكون مِنّي بمنزلةِ هارونَ من موسى إلّا أنّهُ لا نبيّ بعدي )) (1) .
  وأخرج النسائي ــ أيضاً ــ بسندهِ عن بكير بن مسمار قال : سمعتُ عامر بن سعد يقول : قال معاوية لسعد بن أبي وقّاص : ما يمنعُكَ أن تسبّ ابن أبي طالب ؟ قال : لا أسبّه ما ذكرتُ ثلاثاً قالهُنّ رسول الله (ص) ، لأن تكون لي واحدة منهُنَّ أحبُّ إليّ من حمر النِعَم ، لا أسبّهُ ما ذكرت حين نزلَ عليهِ الوحي فأخذَ عليّاً وإبنيه وفاطِمة فأدخلهُم تحت ثوبِهِ ، ثمّ قال : ربّ هؤلاءِ أهل بيتي وأهلي ، ولا أسبّه ما ذكرت حين خلّفَهُ في غزوة غزاها قال عليّ : خلّفتني مع الصبيان والنساء ؟ قال : أوَلا ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبيّ بعدي ، ولا أسبّه ما ذكرت يوم خيبر ، حين قال رسول الله (ص) : لأعطِيّنَ الرايةَ رجُلاً يُحبّ اللهَ ورسولَهُ ، ويفتح اللهُ بيدِهِ ، فتطاولنا ، فقال : أين عليّ ؟ هو أرمَد ، قال : أدعوه ، فبصقَ في عينيهِ ، ثُمّ أعطاه الراية ففتح الله عليه ، فواللهِ ما ذكرهُ معاوية بحرف حتى خرجَ من المدينة (2) .
  فإذا علمنا بأنّ معاوية كان إمام الفئة الباغية ، ناصبَ أمير المؤمنين (ع) العداء ، وحاربه ، ولعنه على منابر المسلمين ، وأمرهم بسبّه ، فإنّ في ردّ سعد بن أبي وقّاص عليه منقبةً ظاهرة له ، داخلة تحت حديث رسول الله (ص) : (( أفضلُ الجِهاد كلمةُ حقٍّ عند سُلطانٍ جائر )) .

---------------------------
(1) شرح الخصائص ، الشرفي 1 / 374 .
(2) شرح الخصائص ، الشرفي 1 / 380 .


وليد الكعبة _ 36 _

  وممّا يُروى عن بُغضِ معاوية للإمام عليٍّ (ع) ، أنّ أمير المؤمنين عليّاً (ع) لمّا ولِدَ لعبدالله بن العبّاس مولود فقده وقت صلاة الظهر ، فقالَ : ما بالُ ابن العبّاس لم يحضُر ؟! قالوا : وُلِدَ لهُ ولد ذكر يا أمير المؤمنين ، قال : فامضوا بنا إليه ، فأتاهُ فقالَ لهُ : شكرتَ الواهِبَ ، وبُرِكَ لكَ في الموهوب ، ما سمّيتَه ؟ فقال : يا أمير المؤمنين أو يجوز لي أن أسمّيَهُ ! فقال (ع) : أخرجه إليّ ، فأخرجَهُ ، فأخذه فحنّكه ودعا له ثُمّ ردّهُ إليه ؛ وقال : خُذ إليكَ يا أبا الأملاك ، قد سمّيتُهُ عليّاً ، وكنّيتُهُ أبا الحسن ، فلمّا قَدِمَ معاويةُ خليفة ، قال لعبدالله بن العبّاس : لا أجمع لكَ بين الإسم والكُنية ، قد كنّته أبا محمّد ، فجَرَتْ عليه (1) .

صاحبُ راية النبيّ (ص)

  روى الشيخ المفيد بسنده عن موسى بن رياح مولى الأنصار ، قال حدّثني أبو البختري القرشي ، قال : كانت راية قريش ولواؤها جميعاً بيد قصي بن كِلاب ، ثمّ لم تزل الراية في يد ولد عبدالمطّلب يحملها منهم من حضر الحرب ، حتى بعث اللهُ رسولَ الله (ص) فصارت راية قريش وغيرها إلى النبي (ص) فأقرّها في بني هاشم ، فأعطاها رسول الله (ص) علي بن أبي طالب (ع) في غزاة ودان ، وهي أوّل غزاة حمل فيها راية الإسلام مع النبي (ص) ، ثمّ لم تزل معه في المشاهد

---------------------------
(1) شرح نهج البلاغة 7 / 102 .


وليد الكعبة _ 37 _

  ببدر وهي البطشة الكبرى ، وفي يوم أحد ، وكان اللواء يومئذٍ في بني عبدالدار فأعطاه رسول الله (ص) مصعب بن عُمير ، فاستشهد ووقع اللواء من يده، فتشوّقته القبائل فأخذه رسول الله (ص) فدفعه إلى علي بن أبي طالب (ع) ، فجمع له يومئذ الراية واللواء فهما إلى اليوم في بني هاشم .
  وروى المفضّل بن عبدالله عن سماك عن عكرمة عن عبدالله بن عبّاس ، أنّه قال : لعلي بن أبي طالب (ع) أربع ما هنّ لأحد : هو أوّل عربي وعجمي صلّى مع رسول الله (ص) ، وهو صاحب لوائه في كلّ زحف ، وهو الذي ثبت معه يوم المهراس يعني يوم أحد وفرّ الناس ، وهو الذي أدخله قبره )) (1) .

الوعي العلوي

  لمّا أمر الرسول الأكرم (ص) المسلمين أن يتجهّزوا ويتهيّئوا لفتح مكّة ، كان في المدينةِ بعض المسلمين يُسرّونَ المودّة للمشركين بمكّة ، لا حُبّاً بهِم ولكن ليحموا بذلكَ مَن بقيَ مِنْ أرحامِهم وأولادِهِم بمكّة ، وكان من هؤلاء حاطِب بن أبي بلتُعة .
  فبعد أن أسلمَ وهاجرَ إلى المدينة وخلّف عياله بمكّة وكانت قُريش تخاف أن يغزوهُم رسول الله (ص)، فصاروا إلى عيال وسألوهُم أن يكتبوا إلى حاطِب ويسألوه عن خبر محمّد هل يُريد أن يغزو مكّة ؟ فكتبوا إليه يسألونَهُ عن ذلك فكتبَ إليهِم أن رسول الله يُريدُ ذلك ، ودفع

---------------------------
(1) الإرشاد ص 47 .


وليد الكعبة _ 38 _

  الكتاب إلى امرأةٍ تسمّى صَفيّة ، وقيل سارة مولاة لبعض بني عبدالمُطّلِب ، وجعلَ لها جَعلاً على أن تُبلّغه قريشاً ، فجعلته في رأسها وفتلتْ عليهِ قُرونَها ، ثُمّ خرجتْ ، فنزل جبرائيل (ع) على رسول الله (ص) وأخبرهُ بذلك ، فبعثَ الرسول الأكرم (ص) الإمام عليّ (ع) والزبير بن العَوّام في طلبها ، فلحقوها في منطقةٍ تُسمّى ( الحليفة ) ففتّشا في رحلِها فلم يجدا شيئاً ،فقال لها أمير المؤمنين (ع) : أينَ الكِتاب ؟ فقالتْ : ما معي شئ ، فقال الزبير : ما نرى معها شيئاً ، فقال أميرُ المؤمنين (ع) : واللهِ ما كذبنا رسول الله (ص) ، ولا كذب رسول الله (ص) على جبرائيل ، ولا كذبَ جبرائيل على اللهِ جلّ ثناؤهُ ، والله لتظهرنّ الكتاب أو لأردن رأسك إلى رسول الله (ص) ، فلمّا رأت الجِدَّ منهُ قالتْ : تنحيّا عنّي حتى أخرجه ، فأخرجِتْ الكتاب من قُرونِها ، فأخذهُ أمير المؤمنين وجاء به إلى رسول الله (ص) ، فدعا رسول الله (ص) حاطِباً فقال : يا حاطب، ما حَمَلَكَ على هذا ؟ فقال : يا رسول الله ، أمِا واللهِ إنّي لمؤمنٌ باللهِ ورسولِهِ ، ما غيّرتُ ولا بَدّلتُ ؛ ولكنّي كنتُ امرءاً ليس لي في القومِ أصلٌ ولا عشيرةٌ ، وكان لي بينَ أظهُرِهِم أهلٌ وولَدٌ ، فصانَعْتُهُم عليهم ، فقال عُمَرُ بن الخطّاب : يا رسول الله دعني فلأضرِب عُنُقَهُ ، فإنّ الرجُل قد نافق ، فقال رسول الله (ص) : وما يُدريكَ يا عُمَر ؟ لعلّ الله قد اطّلعَ إلى أصحابِ بَدْرٍ فقال :إعملوا ما شِئتُم فقد غفرتُ لكم ، فأنزلَ اللهُ عزّ وجلّ في حاطِب (( يا أيّها الّذينَ آمَنوا لا تتّخِذوا عدوّي وعدوّكُم أولياء )) الممتحنة / 1 (1)

---------------------------
(1) ينظر : الطبري 3 / 29 ، الميزان ، الطباطبائي 19 / 174 ، أقول : وللسيد الطباطبائي وقفة تحليلية علمية مع العبارة التي وردت في الحديث الشريف في خطابه تعالى لأهل بدر : (( اعملوا ما شئتُم فقد غفرتُ لكم )) ص 182 وما بعدها يستحسن الرجوع إليها .

وليد الكعبة _ 39 _

عليٌّ (ع) في كربلاء

  أخرجَ ابنُ أبي الحديد بسنده عن أبي عبيدة ، عن هرثمة بن سليم ، قال : (( غزونا مع عليّ (ع) صِفّين فلمّا نزل بكربلاء صلّى بنا ، فلمّا سلّم رفعَ إليه من تُربتها فشمّها ، ثمّ قال : واهَاً لك يا تُربة ! ليُحشَرَنّ منك قومٌ يدخلون الجنّة بغير حساب ، قال : فلمّا رجع هرثمة من غزاته إلى امرأته جَرْداء بنت سمير ، وكانت من شيعة عليّ (ع) ، حدّثها هرثمة فيما حدّث ، فقال لها : ألا أُعجّبُكِ من صديقك أبي حسن ! ، قال : لمّا نزلنا كربلاء ، وقد أخذ حَفنةً من تربتها فشمّها وقال : (( واهاً لكِ أيّتها التربة ! ليُحشَرَنّ منكِ قومٌ يدخلون الجنّة بغير حساب )) ، وما عِلمه بالغيب ؟ فقالت المرأة له : دَعنا منك أيّها الرجل ، فإنّ أمير المؤمنين لم يقُل إلا حقّاً .
  قال : فلمّا بَعَثَ عبيدالله بن زياد البعث الذي بَعَثه إلى الحسين (ع) ، كنتُ في الخيل التي بعثَ إليهم ، فلمّا انتهيت إلى الحسين (ع) وأصحابه ، عرفتُ المنزل الذي نزلْنا فيه مع عليّ (ع) ، والبقعة التي رفع إليه من تُربتها والقول الذي قاله ، فكرِهتُ مسيري ، فأقبلتُ على فرسي حتى وقفتُ على الحسين (ع) فسلّمتُ عليه وحدّثته بالذي سمعت من أبيه في هذا المنزل فقال الحسين (ع) : أمَعَـنا أم علينا ؟ فقلتُ : يا بنَ رسول الله لا معكَ ولا عليك ؛ تركتُ وِلدي وعِيالي أخاف عليهم من ابن زياد ، فقال الحسين (ع) فولِّ هرَباً حتى لا ترى مقتلنا ؛ فو

وليد الكعبة _ 40 _

  الذي نفس حسين بيده لا يرى اليوم مقتلنا أحدٌ ثمّ لا يعينُنا إلّا دخلَ النار ، قال : فأقبلتُ في الأرض اشتدّ هرباً ، حتى خفي عليّ مقتلهم .
  قال نصر : وحدّثنا مُصعب ، قال : حدّثنا الأجلح بن عبدالله الكندي عن أبي جُحيفة ، قال : جاء عروة البارقي إلى سعد بن وهب فسأله فقال : حديثٌ حدّثتناه عن علي بن أبي طالب قال : نعم بعثني مخنف بن سليم إلى عليّ عند توجّهه إلى صِفّين ، فأتيته بكربلاء ، فوجدته يُشير بيده ويقول : ههنا ههنا ! فقال له رجل : وما ذاك يا أمير المؤمنين ؟ فقال : ثقلٌ لآلِ محمّدٍ ينزل هاهنا فويلٌ لهم منكم وويلٌ لكم منهم ! فقال له الرجل : ما معنى هذا الكلام يا أمير المؤمنين ؟ قال : ويلٌ لهم منكم تقتلونهم ، وويلٌ لكم منهم يُدخِلكم اللهُ بقتلهِم النار ، قال نصر : وقد رُويَ هذا الكلام على وجهٍ آخر ، أنّه (ع) قال : فويلٌ لكم منهم ، وويلٌ لكم عليهم ؛ فقال الرجل أمّا (( ويلٌ لنا منهم )) فقد عرفناه ، فويلٌ لنا عليهم ، ما معناه ! فقال : ترَوْنَهم يُقتَلون لا تستطيعونَ نُصْرتهُم .
  قال نصر : وحدّثنا سعيد بن حكيم العبسيّ ، عن الحسن بن كثير عن أبيه ، أنّ عليّاً (ع) أتى كربلاء فوقفَ بها ، فقيلَ له : يا أميرَ المؤمنين ، هذهِ كَربلاء ، فقال : ذات كرْبٍ وبلاء ، ثمّ أومأ بيدهِ إلى مكانٍ ، فقال : ههنا موضِعُ رِحالِهِم ، ومُناخُ رِكابهِم ، ثمّ أومأ بيدهِ إلى مكانٍ آخر ، فقال : ههنا مَرَاقُ دمائهم ، ثمّ مضى إلى ساباط )) (1) .

---------------------------
(1) شرح نهج البلاغة 3 / 118 .


وليد الكعبة _ 41 _

بين جبرئيل وميكائيل (ع)

  وممّا ذُكر أن رسول الله (ص) لمّا أراد الهجرة ، خلّف عليّ بن أبي طالب (ع) بمكة لقضاء ديونه وردّ الودائع التي كانت عنده ، وأمره ليلة خرج إلى الغار وقد أحاط المشركون بالدار ، أن ينام على فراشه ، وقال له : (( اتّشح ببُردي الحضرمي الأخضر ، فإنّه لا يخلص إليك منهم مكروه إن شاء الله تعالى )) ،ففعل ذلك ، فأوحى الله إلى جبريل وميكائيل عليهما السلام : إنّي آخيت بينكما ، وجعلت عمر أحدكما أطول من عمر الآخر ، فأيكما يؤثر صاحبه بالحياة ؟ فاختارا كلاهما الحياة ، فأوحى الله عـزّ وجل إليهما : أفلا كنتما مثل عليّ بن أبي طالب ؟! آخيت بينه وبين نبيي محمد فبات على فراشه يفديه بنفسه ويؤثره بالحياة ، اهبطا إلى الأرض فاحفظاه من عـدوّه ،فنزلا ، فكان جبريل عند رأس عليّ ، وميكائيل عند رجليه ، وجبريل ينادي : (( بَخٍ بَخٍ ! مَنْ مثلك يا ابن أبي طالب يباهي الله عـزّ وجل به الملائكة )) فأنزل الله عـزّ وجل على رسوله وهو متوجّه إلى المدينة في شأن عليّ (( ومِن الناس مَنْ يشري نفسه ابتغاء مرضات الله )) البقرة / 207 (1)
  وبشأن جبرئيل وميكائيل (ع) ، أخرج النسائي بسنده عن هبيرة بن بَرِيم قال : جمع الناسَ الحسنُ بن عليّ (ع) ـــ وعليه عمامة سوداء لمّا قُتِلَ أبوه ـــ فقال : لقد كان فيكم بالأمس رجلاً ما سبقهُ الأوّلون ولا يلحقه الآخرون وأنّ رسولَ الله (ص) قال : لأعطِيَنّ الرايةَ غداً رجلاً

---------------------------
(1) أسد الغابة 3 / 403 .


وليد الكعبة _ 42 _

  يُحِبَ الله ورسوله ويُحبّه الله ورسوله ، يقاتلُ وجبرئيل عن يمينهِ وميكائيل عن يسارهِ ، ثمّ لا تُردّ رايته حتى يفتح اللهُ عليه )) (1) .

لا فتى إلّا عليّ

  قال ابن أبي الحديد في معرض كلامهِ عن فضائل أمير المؤمنين : (( فأمّا فضائله (ع) فإنّها قد بلغت من العِظَم والجلالة والانتشار والاشتهار مبلغاً يسمُجُ معه التعرّض لذكرها )) ، ثم عرّج على شجاعته قائلاً : (( وأمّا الشجاعة : فإنّه أنسى الناسَ فيها ذكرُ مَنْ كان قبله ، ومحا إسم من يأتي بعده ، ومقاماتُهُ في الحرب مشهـورة يُضرب بها الأمثال إلى يوم القيامة ، وهو الشجاع الذي ما فـرّ قط ، ولا ارتاع من كتيبةٍ ، ولا بارزَ أحداً إلا قتله ولا ضربَ ضربةً قط فاحتاجت الأولى إلى ثانية )) (2) .
  ثمّ قال : (( وروى عمر محمّد بن عبدالواحد الزاهد اللغوي غلام ثعلب ، ورواه أيضاً محمّد بن حبيب في أماليه ، أنّ رسول الله (ص) لمّا فرّ معظم أصحابه عنه يوم أحُد ، كثرت عليه كتائب المشركين ، وقصدته كتيبةٌ من بني كنانة ، ثمّ من بني عبد مناة بن كنانة ، فيها بنو سفيان بن عُـوَيف ؛ وهم : خالد بن سفيان ، وأبو الشعثاء بن سفيان وأبو الحمراء بن سفيان ، وغراب بن سفيان ، فقال رسول الله (ص) : يا عليّ اكفني هذه الكتيبة ، فحمل عليها وإنّها لتُقارب خمسين فارساً ؛ وهو راجل ، فما زال يضربها بالسيف حتى تتفرّق عنه ثمّ تجتمع عليه

---------------------------
(1) شرح خصائص النسائي 1 / 194 .
(2) شرح نهج البلاغة 1 / 22 ، 24 .


وليد الكعبة _ 43 _

  هكذا مِراراً حتى قتلَ بني سفيان بن عويف الأربعة ، وتمام العشرة منها ، ممّن لا يُعرف بأسمائهم ، فقال جبرئيل (ع) لرسول الله (ص) : يا محمّد ، إن هذه المواساة ، لقد عجبت الملائكة من مواساة هذا الفتى ، فقال رسول الله (ص) وما يمنعه وهو منّي وأنا منه ، فقال جبرائيل (ع) : وأنا منكما ، وسمع ذلك اليوم صوت من قِبَل السماء ، لا يُرى شخص الصارخ به ، يُنادي مراراً :
لا سيف إلّا ذو الفقار      ii
ولا فـتى إلّا iiعـليّ      ii
  فسُئِلَ رسول الله (ص) عنه ، فقال : هذا جبرائيل .
  قلتُ : وقد روى هذا الخبر جماعةٌ من المحدّثين ، وهو من الأخبار المشهورة ووقفتُ عليه في بعض نسخ مغازي محمّد بن إسحاق ، ورأيتُ بعضها خالياً عنه ، وسألت شيخي عبدالوهاب بن سكينة رحمه الله عن هذا الخبر ، فقال : خبر صحيح ، فقلتُ : فما بالُ الصّحاح لم تشتمل عليه ؟ قال : أو كلّما كان صحيحاً تشتمل عليه كتب الصحاح ؟ كم قد أهمل جامعو الصّحاح من الأخبار الصحيحة )) (1) .
  وأخرج الطبري بسندهِ عن محمّد بن عُبيدالله بن أبي رافع ، عن أبيه ، عن جدّه ، قال : لمّا قَـتَلَ عليّ بن أبي طالب أصحابَ الألوية ، أبصرَ رسولُ اللهِ (ص) جماعةً مِن مُشركي قريش ، فقالَ لعليّ : احمل

---------------------------
(1) شرح نهج البلاغة 14 / 391 .

وليد الكعبة _ 44 _

  عليهم ، فحمَلَ عليهِم ، ففرّق جمعهم ، وقتلَ عمرو بن عبدالله الجُمَحيّ ، ثمّ أبصرَ رسولُ الله (ص) جماعةً من مشركي قريش ، فقال لعليّ : احمِل عليهِم ، فحملَ عليهِم ففرّقَ جماعتهُم ، وقتلَ شيبة بن مالِك أحد بني عامِر بن لؤيّ ، فقال جبريل : يا رسولَ الله ، إنّ هذه للمواساة ، فقالَ رسولُ الله (ص) إنّهُ مِنّي وأنا مِنهُ ، فقالَ جبريل : وأنا منكُما قال : فسمعوا صوتاً :
لا سيفَ إلّا ذو iiالفَقَار
ولا فتى إلّا عليّ (1)
  وعن علّة تسميته بذي الفقار ، أخرج الشيخ الصدوق بسنده عن علان الكُليني ، رفعهُ إلى أبي عبدالله الصادق (ع) أنّهُ قال : (( إنّما سُمّيَ سيف أمير المؤمنين ذا الفقار لأنّه كان في وسطِهِ خطّ في طولِهِ ، فشُبّهَ بفقار الظهر فسُمّي ذا الفقار بذلك ، وكان سيفاً نزلَ بهِ جبرائيلُ (ع) من السماء ، وكانتْ حلَقتُهُ فضّة ، وهو الذي نادى بهِ منادٍ من السماء : لا سيف إلّا ذو الفقار ولا فتى إلّا عليّ )) (2) .

إمامُ الإنسانيّة

  وبالرغم من أن الإمام عليّ (ع) كان يمتلك من الشجاعة ما فاق حدود التصوّرات العقليّة ، إلا أنها لم تكن متناقضة أبداً مع رأفته ورحمته ، وأن قوّته الخارقة لم تمسخ الجانب المبدئي والقيمي في

---------------------------
(1) الطبري 2 / 312 .
(2) علل الشرائع ص 131 ، باب 129 ح 2 .


وليد الكعبة _ 45 _

  شخصه ، بل كانت البطولة عنده تسير جنباً إلى جنب مع الرحمة ، وكانت الشجاعة عنده في حالة عناق مع قيم السماء ، وعداء مع الأنانية والمصالح الشخصيّة ،وقد حفظتْ لنا كتب التاريخ كثيرا من تلك الشواهد .
  ففي غزوة أحد قام طلحة بن عثمان صاحب لواء المشركين ، فقال : ((يا معشر أصحابِ محمد ، إنّكم تزعمون أن الله يعجّـلنا بسيوفـكم إلى النار ، ويعجّـلكم بسيوفنا إلى الجـنّة ، فهل منكم أحدٌ يعجّـله الله بسيفي إلى الجـنّة ، أو يعجّـلني بسيفه إلى النار ؟ فقام إليه عليّ بن أبي طالب (ع) فقال : والذي نفسي بيده لا أفارقك حتى يعجّـلك الله بسيفي إلى النار ، أو تعجّـلني بسيفك إلى الجنّة ، فضربه عليّ فقطع رجله فسقط فانكشفت عورته فقال : أنشدك الله والرحم يبن عمّ فتركه ، فكبّر رسول الله (ص) وقال لعليّ : ما منعك أن تجهـز عليه ؟ قال : إن ابنُ عمي ناشدني حين انكشفت عـورته فاستحييت منه )) (1) .
  وبعد أن انتهت معـركة الجمل بالغلبة والفوز لأصحاب أمير المؤمنين (ع) ، أقام في عسكره ثلاثة أيّام لا يدخل البصرة (2) ، وندب الناس من أصحابه ومن أعدائه أن يخرجوا ويدفنوا موتاهم ، وطاف معهم على القتلى متوجّعاً ، وجمع ما كان في العسكر من شئ وبعث به إلى مسجد البصرة ، ونادى في الجميع (( من عرف شيئاً فليأخذه )) ، وأمر أن لا يُهتكُ على أحد ستره ولا يؤخذُ من أحد ماله ، فاعترض قومٌ يومئذ قائلين : ما يُحلُّ لنا دماءهم ، ويحرّم أموالهم ؟ ، فقال الإمام

---------------------------
(1) الطبري 2 / 309 .
(2) الطبري 4 / 366 .


وليد الكعبة _ 46 _

  (ع) مجسّداً إنسانيته : (( القوم أمثالكم ، من صفحَ عنّا فهو منّا ونحنُ منه ، ومن لجّ حتى يُصاب فقتالُهُ منّي على الصدر والنحر وإنّ لكم في خُمسه لغنىَ )) .
  ثمّ دخل على صاحبة الجمل ( عائشة ) فسلّم عليها ، وقعد عندها ، واطمأنّ على أحوالها ، وبعد خروجه منها أمر بتجهيزها بكلّ شئ ينبغي لها من مركبٍ أو زادٍ أو متاع ، وفي يوم خروجها إلى المدينة ، وكان يوم السبت لغرّة رجب سنة 36هـ ، اختار لها أربعين امرأة من نساء أهل البصرة المعروفات ، يرافقهنّ أخوها محمّد بن أبي بكر ، وشيّعها الإمام عليّ (ع) بنفسه ، وسرّح أولاده معها مسيرة يوم ، وأذن (ع) لمن نجا من جيشها أن يرجع إلى المدينة إلا أن يحب المقام في البصرة (1) .

واجبات الحاكم وحقوقه

  مِن خطبةٍ له (ع) ، قال : (( أيّها الناسُ ، إنّ لي عليكُم حَقّاً ، ولكُم عليّ حقٌّ ، فأمّا حقّكُم عليَّ فالنصيحةُ لكم ، وتوفيرُ فيئِكُم عليكُم ، وتعليمُكُم كيلا تجهلوا ، وتأديبُكُم كيما تعلمُوا ، وأمّا حقّي عليكُم فالوفاءُ بالبيعةِ ، والنصيحةُ في المشهَدِ والمغيب ، والإجابةُ حين أدعـوكُم والطاعةُ حينَ آمِرَكُم )) (2) .
  ومن عهدٍ لهُ (ع) إلى محمّد بن أبي بكر حين عيّنه حاكماً على مِصْر : (( فاخفِضْ لهُم جَناحَكَ ، وألِن لهُم جانِبَكَ ، وابسُطْ لهُم وجهَكَ

---------------------------
(1) الطبري 4 / 370 ، البداية والنهاية 7 / 1949
(2) شرح نهج البلاغة 2 / 390 خ 34 .


وليد الكعبة _ 47 _

  وآسِ بينهُم في اللحظةِ والنظرةِ ، حتى لا يطمَعَ العظماءُ في حيفِكَ لهُم ولا ييأسَ الضعَفاءُ من عدلِكَ عليهِمْ )) (1) .
  ومن كتابٍ له (ع) كتبه لمالك الأشتر لمّا ولّاهُ على مِصْر وأعمالها ، حينَ اضطربَ أمر أميرها محمّد بن أبي بكر ، قال فيه : (( وأشْعر قلبَكَ الرحمةَ للرعيّةِ ، والمحبّةَ لهُم ، واللطفَ بهِمْ ؛ ولا تكونَنَّ عليهِم سَبُعاُ ضارِياً تغتنمُ أكلَهُم ، فإنّهم صِنفانِ : إمّا أخٌ لكَ في الدين وإمّا نظيرٌ لكَ في الخلْق )) .
  وحذّرهُ مِنْ تقريبِ خاصةِ أهلهِ ومن يُحبّه ويميل إليه من رعيّتهِ وأصدقائِهٍ على حساب العامة ، ويقدّم مصلحته ومصالح حاشيتَهُ على مصالح الآخرين ، فيظلِم ويكون الله خصمَهُ ، فقال (ع) : (( أنصِف اللهَ وأنصِفِ الناسَ من نَفْسِكَ ، ومن خاصّة أهلِك ، ومِن لكَ فيهِ هوًى من رعيّتِكَ ، فإنّكَ إلّا تفعَلْ تظلِمْ ، ومن ظَلَمَ عبادَ اللهِ كانَ اللهُ خَصْمَهُ دونَ عبادِهِ ، ومن خاصمَهُ اللهُ أدحَضَ حُجّتَهُ وكان للهِ حَرْباً حتى يَنزَعَ أو يتوبَ )).
  ويتابِع الإمام (ع) كتابه إلى مالك قائلاً : (( ثُمّ اللهَ اللهَ في الطبقةِ السُفلى من الّذينَ لا حِيلةَ لهُم ، من المساكينِ والمُحتاجينَ وأهلِ البؤسَى والزّمْنى ، فإنّ في هذه الطبقةِ قانِعاً ومُعْتراً ، واحفَظِ اللهَ ما استحفظَكَ من حقِّهِ فيهِمْ ، واجعَلْ لهُم قِسْماً مِن بيتِ مالِكَ ، وقِسْماً مِن غِلّاتِ صَوافي الإسلامِ في كُلّ بلدٍ ، فإنّ للأقصى مِنهُم مِثْلَ الّذي للأدنى ، وكُلٌّ قد استُرْعِيتَ حَقَّهُ ، ولا يشغِلنّكَ عنهُم بَطَر)) .

---------------------------
(1) شرح نهج البلاغة 15 / 111 ، باب الكتب والرسائل رقم 27 .


وليد الكعبة _ 48 _

  والمعنى العام لهذا المقطع أن أمير المؤمنين (ع) يوصي عامله بالطبقةِ الفقيرة في المجتمع ، وذوي الأمراض المُزمنة والعاهات ، وضرورة إجراء رواتبٍ لهم من بيتِ مال المسلمين ، ثمّ التواضع لهُم وعدم إضاعةِ شئٍ من حقوقهم (1) .
  وأخرجَ ابنُ الأثير بسندهِ عن عبدالملك بن عُمير ، قال : حدّثني رجلٌ من ثقيف قال : استعملني عليّ بن أبي طالب على مدرج سابور ، فقال : لا تضرِبنَّ رجلاً سوطاً في جبايةِ درهم ، ولا تتّبِعَنَّ لهُم رِزقَاً ولا كسوة شتاءً ولا صيفاً ، ولا دابةً يعتمِلونَ عليها ، ولا تُقيمَنّ رجلاً قائماً في طلبِ درهم ، قُلتُ يا أميرَ المؤمنين ، إذن أرجعَ إليكَ كما ذهبتَ مِن عِندِكَ ، قال (ع) : (( وإن رجعتَ ويحكَ إنّما أُمِرنا أن نأخُذَ منهم العفو يعني الفضل )) (2) .
  وفي الطبقات لإبن سعد ، عن الحُر بن جرموز ، عن أبيه ، قال : رأيتُ عليّاً وهو يخرجُ مِن القصرِ وعليهِ قِطْرِيّتان إزارٌ إلى نصفِ الساق ، ورِداءٌ مُشَمّرٌ قريبٌ منهُ ، ومعه دُرّةٌ لهُ ، يمشي في الأسواق ويأمُرهُم بتقوى الله وحُسن البيع ويقول أوفُوا الكيلَ والميزانَ ، ويقول : لا تَنفُخوا اللحم (3) .

حُرّية التعـبير

---------------------------
(1) ينظر في هذا المقطع والمقاطع السابقة من عهد الإمام (ع) : شرح نهج البلاغة 17 / 22 ك 53 ، عهد الإمام علي بن أبي طالب (ع) إلى مالك الأشتر عامله على مصر ، شرح محمد سعيد عبدالحسين الكاظمي ، صفحات متفرقة ، ط 1 ، الأمانة العامة للعتبة الكاظمية المقدسة ، بغداد 2015 م .
(2) أسد الغابة 3 / 403 .
(3) الطبقات الكبرى ، ابن سعد 3 / 28 ، تقديم د . إحسان عباس ، دار صادر ، بيروت 1985 م .


وليد الكعبة _ 49 _

  لقد أعطى الإمام عليّ (ع) لأصحابهِ ومخالفيه حرية التعبير بمعناها الأفضل والأكمل ، لأنه يعلم علم اليقين أنّ الكشف عن جوهر الحقيقة إنمّا يتمّ في ظلّ حريّة البيان والعقيدة .
  ففي روايةٍ ذكرها صاحب ( تُحف العقول ) يطلب الإمام (ع) من أصحابه أن يقوموا باستعراض مختلف الآراء للوصول إلى الرأي الصواب ، لأن الصواب يحصل من ضرب مختلف الآراء ببعضها البعض ، فيقول (ع) : (( اضربوا الرأي ببعض يتولّد منه الصواب ، امخضوا الرأي مخض السقاء )) (1) .

حُريّة المَسْكن
  والمراد منها الحريّات الإنسانيّة داخل المنزل ؛فلا يحقّ لأحدٍ ـــ وإن كانت الدولة ـــ الدخول في المسائل الخاصة للمواطنين ، أو الدخول إلى بيوت الناس دون إذن أصحابها ، والسعي لكشف ما يرتكبه أصحاب هذه الدور من الذنوب ، وقد لاحظَ الفقهاء هذه الحريّة ، والتزموا بوجود فرقٍ بين مَنْ يرتكب المعصية الشرعية داخل بيتهِ وبشكلٍ خفيّ ، وبين من يرتكبها علناً وأمام الملأ العام ، إذ في الصورة الأولى ، وإن ترتّب على المعصية العقاب الأخرويّ ، إلّا أنّه يبقى بعيداً عن العقاب من قبل الدولة .
  وهذا ما أشار إليه الإمام عليٍّ (ع) في عهده إلى مالك الأشتر عاملُهُ على مِصر ، حينما أوصاه فقال : (( وليكُنْ أبعَدَ رعيّتِكَ منكَ وأشنأهُم

---------------------------
(1) ينظر : فقه الحريّة دراسة فقهية في الحرية وقيودها ، محمد حسن قدردان ملكي ، تعريب علي الموسوي ص 168 ، ط 1 ، مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي ، بيروت ، 2008 م .