وقال (ع) لبعضِ أصحابِهِ : (( لا تَجعَلَنَّ أكثرَ شُغلِكَ بأهلِكَ ووَلَدِكَ ، فإن يكُنْ أهلُكَ ووَلَدُكَ أولياءَ اللهِ فإنّ اللهَ لا يُضيّعُ أولياءَهُ ، وإن يكونوا أعداءَ اللهِ فما همُّكَ وشُغلُكَ بأعداءِ اللهِ )) (3) . --------------------------- (1) شرح نهج البلاغة 19 / 93 . (2) شرح نهج البلاغة 19 / 214 . (3) شرح نهج البلاغة 19 / 157 . وليد الكعبة _ 65 _
أقول :لاشكّ إنّ الإنفاق على الأهل والعيال ، والتوسّع عليهم ، من الأعمال التي ورد في مدحها أحاديثٍ كثيرةٍ ، فعن رسول الله (ص) : (( الكاد على عيالهِ كالمجاهدِ في سبيلِ الله )) ، وقال الإمام السجّاد (ع) : (( أرضاكم عند الله أسبغكُم على عيالهِ )) ، لكن بشرط أن يجتنب عن تحصيل الحرام والشبهة ، وأن يقتصد في التحصيل والإنفاق ، فعن الإمام الصادق (ع) : ((ليكن طلب المعيشة فوق كسب المُضيّع ، ودون طلب الحريص )) (1) . وقال أمير المؤمنين (ع) (( علامَةُ الإيمان أن تُؤثِرَ الصّدْقَ حيثُ يَضُرُّكَ على الكَذِبِ حيثُ ينفَعُكَ، وألّا يكونَ في حديثِكَ فضْلٌ عنْ عِلمِكَ وأن تتّقي اللهَ في حديثِ غيرِكَ)) (2) . أقول : الكذب من أقبح الذنوب وأفحشها وأخبث العيوب وأشنعها ، قال الله سبحانه وتعالى : (( إنّما يفتري الكذِبَ الّذين لا يؤمِنُونَ )) ، وقال تعالى أيضاً : (( فأعقبهُم نِفاقاً في قلُوبهِم إلى يومِ يَلقَوْنَهُ بما أخلفُوا اللهَ ما وعَدوهُ وبِما كانوا يكذِبُونَ )) ، وقال الرسول الأكرم (ص) : (( إيّاكُم والكذِب فإنّ الكذِب يَهدي إلى الفجور ، والفجور يهدي إلى النار )) . إلّا أنّ هنالك مسوّغات ورخص تُزيلُ حرمة الكذب ، وترفعُ إثمهُ ، كالكذبِ في الحروب فإن الحرب خُدعة وأسرار ، ولا يجوز إطلاع العدو على هذه الأسرار ، أو رجلٌ سعى للإصلاح بين متخاصِمين أو لدفع ظلم أو رفعهِ عن نفوسٍ محترمة ، فهذه من الموارد التي يجوز --------------------------- (1) ينظر : جامع السعادات ، محمد مهدي النراقي 3 / 322 ، 607 ، ط 1 ، مؤسسة الأعلمي ، بيروت ، 2006 م . (2) شرح نهج البلاغة 19 / 371 . وليد الكعبة _ 66 _
فيها الكذب وقد ثبت استثنائها بأدلة شرعيّة ، فعن الرسول الأكرم (ص) قال : (( ليس بكذّابٍ مَن أصلحَ بين اثنين فقال خيراً )) ، وقال الصادق (ع) : (( كلّ كذِبٍ مسؤولٌ عنه صاحبه يوماً ، إلّا كذِباً في ثلاثة : رجلٌ كايدَ في حروبِهِ ، فهو موضوعٌ عنهُ ، أو رجلٌ أصلحَ بين إثنينِ يلقى هذا بغيرِ ما يلقى بهِ هذا ، يُريدُ بذلكَ إصلاحُ ما بينهما ، أو رجلٌ وعدَ أهلَهُ شيئاً وهُوَ لا يُريد أن يُتمَّ لهُم ))، وليس الكذب لزيادة المال والجاه وغير ذلك ممّا يُستغنى عنه ، فإنّه محرّمٌ قطعاً (1) . وقد فطنَ شارح النهج ابنُ أبي الحديد لهذا المعنى ، فعلّق على قول أمير المؤمنين (ع) المذكور بقوله : (( وينبغي أن يكونَ هذا الحُكم مقيّداً لا مُطلَقاً ، لأنّهُ إذا أضرّ الصدق ضرراً عظيماً يؤدي إلى تلف النفس ، أو إلى قطْع بعض الأعضاء لمْ يَجُزْ فعلُهُ صريحاً )) . وممّا نُسِبَ له (ع) قولُه لكاتبه ابن أبي رافع :(( يا عبدَالله ، ألِقْ دواتَك ، وأطِلْ شَباة قلَمِك ، وفرّج بينَ السطُور ، وقرمِط بين الحُروف )) (2) . فقوله (ع) ألِق دواتَكَ :أصلح مِدادها ، شباة قلمك : سِنّهُ ، والقرمطة : الدقة في الكتابة والتقريب بين الحروف . (( يا أيّها الناسُ ، طُوبى لمَنْ شَغَلَهُ عَيبُهُ عن عُيُوبِ الناس ، وطُوبى لِمَنْ لَزِمَ بَيتَهُ ، وأكَلَ قُوتَهُ ، واشتغَلَ بطاعةِ ربّهِ ، وبَكى على خطيئتِهِ ، فكانَ مِن نَفسِهِ في شُغُلٍ ، والناسُ مِنهُ في راحةٍ )) (3) . --------------------------- (1) للفائدة في موضوع الكذب ومسوغاته ينظر : جامع السعادات 2 / 421 وما بعدها . (2) كتاب الوزراء والكتّاب ، لأبي عبدالله ابن عبدوس الجهشياري ص 23 ، ط 1 ، تحقيق مصطفى السقا وإبراهيم الأبياري وعبدالحفيظ شلبي ، مصطفى البابي الحلبي ، القاهرة ، 1938 م . (3) شرح نهج البلاغة 10 / 240 . وليد الكعبة _ 67 _
من أجوبتِهِ (ع) وقضائهِ قال المسعودي : (( وممّا كتبَ بهِ معاوية إلى عليّ : أمّا بعد ، فلو علِمنا أنّ الحرب تبلغُ بنا وبكَ ما بلَغَت لم يجنِها بعضُنا على بعض ، وإنّا وإن كُنّا قد غُلِبنا على عقولنا ، فقد بقيَ لنا منها ما نَرُمُّ بهِ ما مضى ، ونُصلحُ بهِ ما بقى ، وقد كُنتُ سألتُكَ الشام على أن لا تلزمني لكَ طاعة ، وأنا أدعُوكَ اليوم إلى ما دعوتُكَ إليه أمس ، فإنّكَ لا ترجو من البقاءِ إلّا ما أرجو ، ولا تخاف من القتالِ إلّا ما أخاف ، وقد واللهِ رَقَّتِ الأجناد وذهبت الرجال ، ونحنُ بنو عبد مَناف ، وليس لبعضنا على بعض فضل يُستذلّ لهُ عزيز ويُسترق به حرّ ، والسلام . فكتبَ إليه عليّ كرّمَ اللهُ وجهَهُ : من علي بن أبي طالب إلى معاوية بن أبي سفيان ، أمّا بعد : فقد جاءني كتابكَ تذكُر فيه أنّك لو علِمتَ أن الحرب تبلِغُ بنا وبِكَ ما بلغتْ لَمْ يجنها بعضُنا على بعضٍ ، وأنا وإيّاكَ نلتمِسُ منها غايةً لمْ نبلُـغَها بعد ، فأمّا طلَبُكَ منّي الشامَ فإني لم أكُنْ أعطيكَ اليوم ما منعتُكَ أمس ، وأمّا استواؤنا في الخوفِ والرجاءِ فلست بأمضى على الشكّ منّي على اليقين ، وليس أهل الشامِ على الدنيا بأحرَصَ من أهلِ العراقِ على الآخِرَةِ ، وأمّا قولُكَ نحنُ بنو عبد مَناف فكذلك نحنُ وليس أميّة كهاشِم ولا حَرب كعبد المطّلِب ، ولا أبو سِفيان كأبي طالب ، ولا الطَليق كالمهاجر ، ولا المُبطِل كالمُحِقّ ، وفي أيدينا فضل النُبــوّةِ التي قتلْنا بها العـزيز ، وبعـنا بها الحر ، والسلام )) (1) . --------------------------- (1) مروج الذهب 3 / 24 . وليد الكعبة _ 68 _
وسُئِلَ (ع) : كيف يُحاسب الله الخَلْق على كثرتِهِم ؟ فقال (ع) : كما يرزقهم على كثرتِهِم ، فقيل : كيف يُحاسبهم ولا يرونَهُ ؟ فقال (ع) : كما يرزقهُم ولا يَرَونَه (1) . ومن قضائهِ (ع) جاءه رجل فقال : يا أمير المؤمنين كان بين يديّ تمر فبدرت زوجتي فأخذت منه واحدة فالقتها في فيها ، فحلفتُ أنها لا تأكلها ولا تلفضها فقال عليه السلام : تأكل نصفها وترمي نصفها وقد تخلصت من يمينك (2) . وعن زِرّ بن حُبَيشٍ قال : (( جلس رجلان يتغذّيان ، مع أحدهما خمسة أرغفة ، فلمّا وضعا الغداء بين أيديهما مرّ بهما رجل فسلّم ، فقالا له : الغداء ، فجلس وأكل معهما ، واستوفوا في أكلهم الأرغفة الثمانية ،فقام الرجل وطرح إليهما ثمانية دراهم ، وقال : خذ هذا عِوضاً ممّا أكلت لكما ، ونلته من طعامكما ، فتنازعا ، فقال صاحب الأرغفة الخمسة : لي خمسة دراهم ولك ثلاثة دراهم ، فقال صاحبُ الثلاثة : لا أرضى إلا أن تكون الدراهم بيننا نصفين ، فارتفعا إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب فقصّا عليه قصتهما ، فقال لصاحب الثلاثة قد عرض لك صاحبك ما عرض وخبزه أكثر من خبزك ، فارضَ بالثلاثة ، قال : لا والله لا رضيت منه إلّا بمرّ الحقّ ، فقال له عليّ : ليس لك في مُرّ الحقّ إلّا درهم واحد وله سبعة ، قال الرجل : سبحان الله يا أمير المؤمنين ، هو يعرض عليّ ثلاثة ولم أرضَ ، فأشرت عليّ بأخذها فلم أرضَ ، وتقول لي الآن : لا يجب لك في مرّ الحقّ إلّا درهم --------------------------- (1) تصنيف نهج البلاغة ، لبيب وجيه بيضون ص 171 ، ط 1 ، مكتبة اسامة كرم ، دمشق ( د . ت ) (2) الإرشاد ص 131 . وليد الكعبة _ 69 _
واحد ، فقال له عليّ : عرض عليك صاحبك أن تأخُذ الثلاثة صُلحاً ، فقلت : لا أرضى إلّا بمر الحقّ ولا يجب في مرّ الحقّ إلّا واحد ، فقال له الرجل : فعرّفني في مرّ الحقّ حتى أقبلَهُ ، فقال عليّ : أليس الثمانية الأرغفة أربعةً وعشرين ثلثاً ؟ أكلتموها وانتم ثلاثة أنفس ، ولا نعلم الأكثر منكم أكلاً ولا الأقلّ فتحملون في أكلكم على السواء ؟ قال : بلى قال : فأكلت أنت ثمانية أثلاث وإنما لك تسعة أثلاث ، وأكل صاحبك ثمانية أثلاث وله خمسة أثلاث ، أكل منها ثمانيةً وبقي له سبعة ، وأكل لكَ واحداً من تسعة ، فلكَ واحدٌ بواحدكَ وله سبعة بسبعته ، فقال الرجل : رضيتُ الآن )) (1) . ورووا : أن أمير المؤمنين (ع) دخلَ ذات يومٍ المسجدَ فوجدَ شاباً حدثاً يبكي وحوله قوم ، فسأل أمير المؤمنين (ع) عنه ، فقال : أن شُريحاً قضى عليّ قضيةً ولم يُنصِفني فيها ، فقال : وما شأنك ؟ ، قال : أنّ هؤلاءِ النفر وأومأ إلى نفر حضور أخرجوا أبي معهم في سفرٍ ، فرجعوا ولم يرجع أبي فسألتهم عنه فقالوا : مات ، فسألتهم عن مالهِ الذي استصحبه ، فقالوا ما نعرف لهُ مالاً ، فاستحلفهم شُريح ، وتقدّم إليّ بترك التعرّض لهم ، فقال أميرُ المؤمنينَ (ع) لقنبر : اجمع القوم وادع لي شرطة الخميس ، ثمّ جلسَ ودعا النفر والحدث معهم ، ثمّ سألهُ عمّا قال ، فأعاد الدعوى وجعل يبكي ويقول : أنا واللهِ اتّهمهم على أبي يا أمير المؤمنين فإنهم احتالوا عليه حتى أخرجوه معهم ، وطمعوا في مالهِ . --------------------------- (1) الوافي بالوفيات 21 / 179 . وليد الكعبة _ 70 _
فسألَ أميرُ المؤمنين (ع) القوم ، فقالوا له كما قالوا لشريح : ماتَ الرجل ولا نعرف له مالاً ، فنظر في وجوههم ثمّ قال لهم : ماذا تظنّون أتظنّون إني لا أعلم ما صنعتم بأبي هذا الفتى ، إنّي إذاً لقليل العلم ، ثمّ أمر بهم أن يُفرّقوا ، ففُرّقوا في المسجد ، وأقيم كلّ رجلٍ منهم إلى جانب اسطوانة من أساطين المسجد . ثُمّ دعا عبيدالله بن أبي رافع كاتبه يومئذ ، فقال له : اجلس ، ثمّ دعا واحداً منهم فقال له : اخبرني ولا ترفع صوتك في أيّ يومٍ خرجتم من منازلكم وأبو هذا الغلام معكم ؟ ، فقال : في يوم كذا وكذا ، فقال لعبيدالله : اكتب ، ثمّ قال له : في أيّ شهر كان ؟ قال : في شهر كذا ، قال : اكتب ، ثمّ قال : في أيّ سنة ؟ قال : في سنة كذا ، قال : فبأيّ مرضٍ مات ؟ قال : بمرض كذا ، قال في أيّ منزلٍ مات ؟ قال : في موضعِ كذا ، قال : من غسّله وكفّنه ؟ قال : فلان ، قال : فبم كفّنتموه ؟ قال : بكذا ، قال : فمن صلّى عليه ؟ قال : فلان ، قال : فمن أدخله القبر ؟ قال : فلان ، وعبيدالله بن أبي رافع يكتب ذلك كلّه ، فلمّا انتهى إقراره إلى دفنه كبّر أمير المؤمنين تكبيرةً سمعها أهل المسجد . ثمّ أمر بالرجل أن يعود إلى مكانهِ ، فدعا بآخرٍ من القوم ، فأجلسه بالقرب منه ، فسأله عمّا سأل الأوّل عنه فأجاب بما خالف الأوّل في الكلام كلّه ، وعبيدالله يكتب ، فلمّا فرغ من سؤاله كبّر تكبيرةً سمعها أهل المسجد ، ثمّ أمر بالرجلين أن يُخرَجا من المسجد نحو السجن فيوقف بهما على بابه ، ثمّ دعا بالثالث فسأله عمّا سأل الرجلين فحكى وليد الكعبة _ 71 _
خلاف ما قالاه وأثبت ذلك عنده ، ثمّ كبّر وأمر بإخراجه نحو صاحبيه ودعا برابع القوم فاضطرب في قوله وتلجلج ، فوعظه وخوّفه ، فاعترف أنه وأصحابه قتلوا الرجلَ وأخذوا ماله ، وأنهم دفنوه في موضع كذا وكذا ، بالقرب من الكوفة ، فكبّر أمير المؤمنين (ع) وأمر به إلى السجن ، واستدعى (ع) واحداً من القوم وقال له : زعمتَ أن الرجل مات حتف أنفه وقد قتلته ، أصدقني عن حالك وإلّا نكّلتُ بك فقد وضح لي الحق في قضيتكم ، فاعترف من قتل الرجل ، بما اعترف به صاحبه ، ثمّ دعا الباقين ، فاعترفوا عنده بالقتل ، وسقطوا في أيديهم ، واتفقتْ كلمتُهم على قتل الرجلِ وأخذ مالهِ ، فأمر من مضى منهم مع بعضهم إلى موضعِ المال الذي دفنوه ، فاستخرجَهُ منه وسلّمه إلى الغلام ابن الرجل المقتول ، ثمّ قالَ لهُ : ما الذي تريد ؟ قد عرفتَ ما صنع القوم بأبيك ؟ قال : أريد أن يكون القضاء بيني وبينهم بين يدي الله عزّ وجل ، وقد عفوتُ عن دمائِهم في الدنيا ، فدرء عنهم أمير المؤمنين (ع) حدّ القتل وأنهكهم عقوبة (1) . الراهِب ومسجد براثا قال ابنُ أبي الحديد : (( قال نصر : وحدّثنا عبدالعزيز بن سياه ، قال : حدّثنا حبيب بن أبي ثابت ، قال : حدّثنا أبو سعيد التيميّ المعروف بعقيصي ، قال : كُنّا مع عليّ (ع) في مسيرهِ إلى الشام ؛ حتى إذا كُنّا بظهرِ الكوفةِ من جانبِ هذا السواد ، عطشَ الناسُ واحتاجوا إلى الماءِ ، فانطلقَ بنا عليّ (ع) حتى أتى بِنا إلى صخرة ضِرْس في الأرض ، --------------------------- (1) الإرشاد ص 126 . وليد الكعبة _ 72 _
كأنّها رُبْضَةُ عنز ، فأمَرَنا فاقتلعناها ، فخرجَ لنا من تحتِها ماء ، فشرِبَ الناس منهُ وارتوَوا ، ثمّ أمَرَنا فأكفأناها عليه وسارَ الناس حتى إذا مضى قليلاً ، قال (ع) : أمِنكُم أحدٌ يعلمُ مكانَ هذا الماء الذي شربتُم منهُ ؟ قالوا : نعم يا أمير المؤمنين ، قال : فانطلِقُوا إليه ، فانطلقَ منّا رجالٌ ركباناً ومشاةً ، فاقتصصنا الطريق إليه ، حتى انتهينا إلى المكان الذي نرى أنّهُ فيه ، فطلبناه ، فلم نقدر على شئ ، حتى إذا عِيلَ علينا انطلقنا إلى دَيْرٍ قريبٍ منّا ، فسألناهم أينَ هذا الماء الذي عندكم ؟ قالوا : ليس قُربَنا ماء ، فقلنا بلى إنّا شرِبنا منهُ ، قالوا : أنتم شرِبتُم منهُ ؟! قلنا : نعم ، فقال صاحبُ الدَير : واللهِ ما بُنيَ هذا الدَير إلّا بذلك الماء وما استخرجَهُ إلّا نبيّ أو وصيُّ نبيّ (1) . قال ياقوت : ((بَراثا : محلّة كانت في طرف بغداد في قبلة الكرخ وجنوبي باب مُحوَّل ، وكان لها جامع مفرد تصلّي فيه الشيعة ، وقد خرب عن آخره وكذلك المحلّة لم يبق لها أثرٌ ، فأمّا الجامع فأدركتُ أنا بقايا من حيطانِهِ وقد خربت في عصرنا واستُعملتْ في الأبنية ، وفي سنة 329هـ فُرِغَ من جامع براثا وأقيمت فيهِ الخطبة ... ، وكانت براثا قبل بناء بغداد قرية يزعمون أنّ عليّاً مرّ بها لمّا خرج لقتال الحروريّة بالنهروان ، وصلّى في موضِع من الجامع المذكور )) (2) . وذكره الآلوسي فقال : (( هو من مساجِد بغداد في الجانب الغربي ، القديمة العهد ، يتبرّك به الشيعة إلى اليوم ، لما ثبتَ عندهم أنّ الإمام عليّ بن أبي طالب كرّم اللهُ وجهه ، بعد فراغه من وقعة النهروان --------------------------- (1) شرح نهج البلاغة 3 / 141 . (2) معجم البلدان 2 / 287 ، باب الباء والراء وما يليهما . وليد الكعبة _ 73 _
ورجوعه عبر دجلة ، وصلّى بأصحابهِ عند ديرِ راهِبٍ كان قريباً منها ، فاتّخذ شيعته مُصلّاهُ مسجداً وكان يُقال له : جامع براثى ، على وزن ( حَبارى ) ... ، وظاهر هذا ، أن المسجد كان قبل صلاة الأمير ، لكن يجوز أن يُراد بالمسجد : المعبد لا المسجد المُتعارف بين المسلمين ، ويُحكى أن الأمير رضي اللهُ عنه لمّا أمّ أصحابه وصلّى بهِم ، جعلَ الراهبُ ينظر إليهِم ، حتى إذا أتمّوا الصلاة نزلَ مِن دَيرِهِ فقال للأمير : يذكر عندنا أنّه يصلّي في هذا الموضع بجمعٍ عظيمٍ نبيٌّ أو وصيُّ نبيّ فمن أنت ؟ فقال : أنا عليّ بن أبي طالب خليفة ابن عمّي محمّد رسول الله (ص) ووصيُّه ، فاسلمَ الراهبُ على يده ، وقيلَ : أن الأمير لمّ وصلَ إلى ذلك المكان عطش هو وأصحابه ، ولم يكُن ثمّة ماء ، حيث كانت دجلة إذ ذاك بعيدة عنه ، فحفروا بئراً فصادفوا صخرة عظيمة عجزوا عن قلعِها ، فأخبروا الأمير ، فجاء فاقتلعها بيدهِ الشريفة ، والراهب ينظر ذلك ، فقال : لا يقلع مثل ذلك بيدهِ إلّا نبي أو وصيّ ، فأسلم ، وهذا المسجد اليوم يسمّى مسجد المنطقة ، وهو على نحو ميل أو أقلّ في غربي الجانب الغربي من بغداد ، بين بغداد وبين قصبة موسى الكاظم عن يسار الذاهب من بغداد إلى تلك القصبة )) (1) . أمّا العلّامة الدكتور مصطفى جواد فله رأيٌ آخر بشأن جامع براثا حيث قال : (( وقد خلطَ بعض من لا علم له بخطط بغداد بين جامع براثا ومشهد العتيقة المعروف قديماً وحديثاً بمشهد المنطقة ، الواقع في الجنوب الشرقي من مدينة المنصور بين الكاظميّة والجعيفر حالياً ، --------------------------- (1) تاريخ مساجد بغداد وآثارها ، السيد محمود شكري الآلوسي ص 200 ، تحقيق د . عبدالله الجبوري بغداد ، 2006 م . وليد الكعبة _ 74 _
وهو إلى الجعيفر أقرب على مقربةٍ من الجسر الحديد ، وذلك أنّ جامع براثا لمّا خرب وزالت آثارُهُ ، نقل ذاك الرجل اسمه إلى مشهد العتيقة مع أنّه في الشرق وذاك في الغرب وأنّه من مجامع الشيعة أيضاً منذ القديم وقد حدث كثير من أمثال هذا التخليط في خطط بغداد )) (1) . زوجاته واولادها أمّا زوجاته (ع) فهُنَّ : فاطمة الزهراء سيّدة نساء العالمين صلوات الله عليها لم يتزوّج عليها حتى توفيتْ عنده ، وأمامة بنت أبي العاص بن الربيع ، وخولة بنت جعفر المعروفة بالحنفيّة ، وأسماء بنت عميس الخثعميّة كانت تحت جعفر بن أبي طالب فقُتِلَ عنها ثمّ تزوجها أبو بكر فتوفيّ عنها ثمّ تزوّجها أمير المؤمنين (ع) ، وفاطمة بنت حزام الكلابيّة الملقّبة بأمّ البنين أم العباس وإخوته ،المُحيّاة بنت امرئ القيس بن عَدي الكلبيّة ، حيث أسلمَ أباها بعد أن كان نصرانيّاً فزوّجها من أمير المؤمنين (ع) وزوّج أختها سلمى من الحسن (ع) وأختها الثانية الرباب من الحسين (ع) ، والصهباء بنت ربيعة التغلبيّة وهي أم حبيب من سبي عين التمر ، وليلى بنت مسعود النهشليّة التميميّة تزوجها (ع) حين قدومه البصرة لمحاربة أهل الجمل سنة 36 هـ ، وبعد وفاة الإمام --------------------------- (1) دليل خارطة بغداد المفصّل ، د . مصطفى جواد ود . أحمد سوسة ص 85 ، مكتبة الحضارات ، بيروت 2011 م . |