أما إنهم سيضربوننا بأسيافهم (1) حتى يرتاب المبطلون منكم فيقولون : لو لم يكونوا على حق ما ظهروا علينا ، والله ما هم من الحق على ما يقذى عين ذباب ، والله لو ضربونا بأسيافهم حتى يبلغونا سعفات هجر (2) لعرفت أنا على حق وهم على باطل ، وأيم الله لا يكون سلما سالما أبدا حتى يبوء أحد الفريقين على أنفسهم بأنهم كانوا كافرين ، وحتى يشهدوا على الفريق الآخر بأنهم على الحق وأن قتلاهم في الجنة وموتاهم ، ولا ينصرم أيام الدنيا حتى يشهدوا بأن موتاهم وقتلاهم في الجنة ، وأن موتى أعدائهم وقتلاهم في النار ، وكان أحياؤهم على الباطل ، نصر ، عن يحيى (3) ، عن علي بن حزور (4) عن الأصبغ بن نباتة قال : جاء رجل إلى علي فقال : يا أمير المؤمنين ، هؤلاء القوم الذين نقاتلهم : الدعوة واحدة ، والرسول واحد ، والصلاة واحدة ، والحج واحد فبم نسميهم ؟ قال : تسميهم بما سماهم الله في كتابه ، قال : ما كل ما في الكتاب أعلمه ، قال : أما سمعت الله قال : ( تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض ) إلى قوله : ( ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ) .

---------------------------
(1) ح : ( سيضربونكم بأسيافهم ) .
(2) ذكر هذا الحديث في اللسان ( 11 : 52 ) : وقال : ( وإنما خص هجر للمباعدة في المسافة ، ولأنها موصوفة بكثرة النخيل ) .
(3) هو يحيى بن يعلى ، كما في ح ، وانظر ص 217 .
(4) حزور ، بالحاء المهملة والزاي المفتوحتين والواو المشددة ، ويقال له أيضا علي بن أبي فاطمة ، متروك شديد التشيع ، مات بعد الثلاثين والمائة ، منتهى المقال 210 .

واقعة صفين _ 321 _

  فلما وقع الاختلاف كنا نحن أولى بالله وبالكتاب وبالنبي وبالحق ، فنحن الذين آمنوا ، وهم الذين كفروا ، وشاء الله قتالهم فقاتلناهم هدى ، بمشيئة الله (1) ربنا وإرادته ، نصر ، عن سفيان الثوري وقيس بن الربيع (2) ، عن أبي إسحاق ، عن هانيء بن هانيء ، عن علي قال : جاء عمار بن ياسر يستأذن على النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فقال : ( ايذنوا له ، مرحبا بالطيب ابن الطيب ) ، نصر عن سفيان بن سعيد (3) ، عن سلمة بن كهيل ، عن مجاهد ، عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ـ يعني أنه رآهم يحملون الحجارة حجارة المسجد ـ فقال : ( ما لهم ولعمار ، يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار ، وذاك الأشقياء الفجار ) ، نصر ، عن سفيان ، عن الأعمش ، عن أبي عمار ، عن عمرو بن شرحبيل ، عن رجل من أصحاب النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، قال : لقد ملئ عمار إيمانا إلى مشاشه (4) ، نصر ، عن الحسن بن صالح ، عن أبي ربيعة الإيادي ، عن الحسن ، عن النبي صلى الله عليه قال : إن الجنة لتشتاق إلى ثلاثة : علي ، وعمار ، وسلمان (5) .

---------------------------
(1) في الأصل : ( بسنة الله ) وأثبت ما في ح ( 1 : 506 ) .
(2) هو قيس بن الربيع الأسدي ، أبو محمد الكوفي ، قال ابن حجر : ( لا يكاد يعرف ، عداده في التابعين ) ، انظر لسان الميزان ومنتهى المقال 247 ، وفي الأصل : ( بن الربيعي ) تحريف ، وانظر ما مضى في ص 217 ، 231 .
(3) هو سفيان بن سعيد بن مسروق أبو عبد الله الثوري الكوفي ، ثقة حافظ فقيه ، وكان ربما دلس ، مات سنة 161 وله أربع وستون سنة ، وهو أحد أصحاب الرأي ، انظر تهذيب التهذيب والمعارف 217 ، وفي الأصل : ( سفيان عن سعيد ) تحريف .
(4) المشاش ، بالضم : رءوس العظام اللينة ، انظر اللسان ( 8 : 239 س 10 ) .
(5) هو سلمان الفارسي الصحابي ، كان أول مشاهده الخندق ، ثم شهد بقية المشاهد وفتوح العراق ، وولي المدائن ، وهو أحد المعمرين ، يزعمون أنه عاش ثلثمائة وخمسين سنة ، انظر الإصابة 335 .

واقعة صفين _ 322 _

  نصر عن عبد العزيز بن سياه ، عن حبيب بن أبي ثابت قال : لما بني المسجد جعل عمار يحمل حجرين ، فقال له رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ( يا أبا اليقظان ، لا تشقق على نفسك ) ، قال : يا رسول الله ، إني أحب أن أعمل في هذا المسجد ، قال : ثم مسح ظهره ثم قال : ( إنك من أهل الحنة تقتلك الفئة الباغية ) ، نصر ، عن حفص بن عمران الأزرق البرجمي (1) قال : حدثني نافع بن الجمحي عن ابن أبي مليكة (2) قال : قال عبد الله بن عمرو بن العاص : لولا أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أمر بطواعيتك ما سرت معك هذا المسير ، أما سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقول لعمار : ( يقتلك الفئة الباغية ) ؟ ! نصر ، عن حفص بن عمران البرجمي ، عن عطاء بن السائب ، عن أبي البختري قال : أصيب أويس القرني (3) مع علي بصفين ، نصر ، عن محمد بن مروان ، عن الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس في قول الله ( عز وجل ) : ( ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رءوف بالعباد ) قال : نزلت في رجل ، وهو صهيب بن سنان مولى عبد الله بن جدعان (4) .

---------------------------
(1) هو حفص بن عمر أو ابن عمران الأزرق البرجمي الكوفي ، كان من المستورين ، تقريب التهذيب .
(2) اسمه عبد الله بن عبيد الله بن عبد الله بن أبي مليكة ـ بالتصغير ـ بن عبد الله بن جدعان التيمي المدني ، أدرك ثلاثين من الأصحاب ومات سنة 117 ، تقريب التهذيب .
(3) هو أويس بن عامر القرني ، سيد التابعين ، روى له مسلم ، والقرني ، بفتح القاف والراء : نسبة إلى قرن ، وهم بطن من بطون جعفي بن سعد العشيرة ، انظر تقريب التهذيب والاشتقاق ص 245 .
(4) جدعان ، بضم الجيم بعدها دال مهملة ، انظر الاشتقاق 88 والإصابة 4578 ، وكان عبد الله سيد قريش في الجاهلية ، وفي الأصل : ( بن جذعان ) تحريف .

واقعة صفين _ 323 _

   أخذه المشركون في رهط من المسلمين ، فيهم خير مولى قريش لبني الحضرمي (1) ، وخباب بن الأرت مولى ثابت بن أم أنمار (2) ، وبلال مولى أبي بكر ، وعابس (3) مولى حويطب بن عبد العزي ، وعمار بن ياسر ، وأبو عمار (4) ، وسمية أم عمار ، فقتل أبو عمار وأم عمار ، وهما أول قتيلين قتلا من المسلمين ، وعذب الآخرون بعد ما خرج النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من مكة إلى المدينة ، فأرادوهم على الكفر ، فأما صهيب فكان شيخا كبيرا ذا متاع ، فقال للمشركين ، هل لكم إلى خير ؟ فقالوا : ما هو ؟ قال : أنا شيخ كبير ضعيف لا يضركم منكم كنت أو من عدوكم ، وقد تكلمت بكلام أكره أن أنزل عنه ، فهل لكم أن تأخذوا مالي وتذروني وديني ، ففعلوا فنزلت هذه الآية ، فلقيه أبو بكر حين دخل المدينة فقال : ربح البيع يا صهيب ، وقال : وبيعك لا يخسر ، وقرأ عليه هذه الآية ففرح بها ، أما بلال وخباب وعابس وعمار وأصحابهم فعذبوا حتى قالوا بعض ما أراد المشركون ، ثم أرسلوا ، ففيهم نزلت هذه الآية : ( والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا (5) لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون ) .

---------------------------
(1) خير ، ويقال أيضا ( جبر ) مولى عامر بن الحضرمي ، أخي العلاء بن الحضرمي الصحابي المشهور ، وفي خير نزل قول الله : ( إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ) أكرهه عامر على الكفر ، ثم أسلم عامر بعد وكان في الصحابة ، انظر الإصابة والسيرة 260 جوتنجن .
(2) كذا ، وفي الإصابة : ( مولى أم أنمار الخزاعية ، وقيل غير ذلك ) .
(3) عابس ، بالباء الموحدة ، كما في القاموس ( عبس ) والإصابة 4331 ، قيل : نزل فيه وفي صهيب ( ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله ) ، وفي الأصل : ( عائش ) في هذا الموضع وتاليه ، تحريف .
(4) في الأصل : ( وأبي عمار ) تحريف .
(5) في الأصل : ( فتنوا ) وهو من شنيع التحريف ، وهذه الآية هي الآية 41 من سورة النحل ، وأما ( فتنوا ) فهي في الآية 110 من سوره النحل أيضا : ( ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم ) .

واقعة صفين _ 324 _

  نصر ، عن أيوب بن خوط (1) ، عن الحسن ، أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لما أخذ في بناء المسجد قال : ( ابنوا لي عريشا كعريش موسى ) وجعل يناول اللبن وهو يقول : ( اللهم إنه لا خير إلا خير الآخرة ، فاغفر للأنصار ، والمهاجرة ) ، وجعل يتناول من عمار بن ياسر ويقول : ( ويحك يابن سمية تقتلك الفئة الباغية ) ، نصر ، عن عمر قال : حدثني مالك بن أعين ، عن زيد بن وهب الجهني أن عمار بن ياسر نادي يومئذ (2) : أين من يبغي رضوان ربه ولا يؤوب إلى مال ، ولا ولد ؟ قال : فأتته عصابة من الناس فقال : ( أيها الناس اقصدوا بنا نحو هؤلاء القوم الذين يبغون دم عثمان ويزعمون أنه قتل مظلوما ، والله إن كان إلا ظالما لنفسه ، الحاكم بغير ما أنزل الله ) ، ودفع علي الراية إلى هاشم بن عتبة بن أبي وقاص ، وكانت عليه ذلك اليوم درعان ، فقال له علي كهيئة المازح : أيا هاشم ، أما تخشى من نفسك أن تكون أعور جبانا ؟ قال : ستعلم يا أمير المؤمنين ، والله لألفن بين جماجم القوم لف رجل ينوى الآخرة ، فأخذ رمحا فهزه فانكسر ، ثم آخر فوجده جاسيا فألقاه ، ثم دعا برمح لين فشد به لواءه ، ولما دفع علي الراية إلى هاشم قال له رجل من بكر بن وائل من أصحاب هاشم : أقدم هاشم ـ يكررها ـ ثم قال : مالك يا هاشم قد انتفخ سحرك ، أعورا وجبنا ؟ قال : من هذا ؟ قالوا : فلان ، قال : أهلها وخير منها ، إذا رأيتني قد صرعت فخذها .

---------------------------
(1) خوط ، بفتح الخاء المعجمة بعدها واو ساكنة ، وترجمة أيوب في تقريب التهذيب ولسان الميزان ، وفي الأصل : ( بن حنوط ) تحريف .
(2) ح ( 2 : 269 ) : ( نادى في صفين يوما قبل مقتله بيوم أو يومين ) .

واقعة صفين _ 325 _

  ثم قال لأصحابه : شدوا شسوع نعالكم وشدوا أزركم ، فإذا رأيتموني قد هززت الراية ثلاثا فاعلموا أن أحدا منكم لا يسبقني إليها (1) ، ثم نظر هاشم إلى عسكر معاوية فرأى جمع عظيما ، فقال : من أولئك ؟ قيل : أصحاب ذي الكلاع ، ثم نظر فرأى جندا فقال : من أولئك ؟ قالوا : جند أهل المدينة وقريش (2) ، قال : قومي لا حاجة لي في قتالهم ، قال : من عند هذه القبة البيضاء ؟ قيل : معاوية وجنده ، قال : فإني أرى دونهم أسودة (3) ، قالوا : ذاك عمرو بن العاص وابناه ومواليه ، وأخذ الراية فهزها فقال له رجل من أصحابه : امكث قليلا ولا تعجل ، فقال هاشم :
قد أكثروا لومي وما أقلا  (4)       إني شريت النفس ، لن iiأعتلا
أعـور  يـبغي نـفسه iiمحلا      لا  بـد أن يفل أو يفلا  (5)
قـد عـالج الـحياة حتى ملا      أشدهم بذي الكعوب شلا  (6)
  قال نصر : عمرو بن شمر : أشلهم بـــذي الكعــوب شلا :
مـع ابن عم أحمد iiالمعلي      فيه الرسول بالهدي استهلا
أول مـن صـدقه iiوصلى      فـجاهد  الكفار حتى iiأبلى

---------------------------
(1) ح : ( إلى الحملة ) .
(2) ح : ( قيل قريش وقوم من أهل المدينة ) .
(3) الأسودة : جمع سواد ، وهو الشخص .
(4) ح : ( قد أكثرا لومي ) ، مروج الذهب ( 2 : 22 ) : ( قد أكثر القوم ) .
(5) الفل : الهزيمة ، وفي الأصل : ( يغل أو يغلا ) صوابه في ح ومروج الذهب والطبري ( 6 : 22 ) .
(6) ذو الكعوب : الرمح ، والشل : الطرد ، ورواية الطبري ( 6 : 24 ) :

واقعة صفين _ 326 _

  قال : وقد كان علي قال له : أتخاف أن تكون أعور جبانا أيا هاشم ، يتلهم بذي الكعوب تلا ، تله يتله تلا : صرعه ، فهو متلول وتليل ، المرقال : قال : يا أمير المؤمنين ، أما والله لتعلمني (1) ـ إن شاء الله ـ ألف اليوم بين جماجم القوم ، فحمل يومئذ يرقل إرقالا ، نصر ، عن عبد العزيز بن سياه ، عن حبيب بن أبي ثابت قال لما كان قتال صفين والراية مع هاشم بن عتبة ـ قال ـ جعل عمار بن ياسر يتناوله بالرمح ويقول : أقدم يا أعور ، لا خير في أعـــور لا يأتي الفـــزع ، قال : فجعل يستحيى من عمار ، وكان عالما بالحرب ، فيتقدم فيركز الراية ، فإذا تتامت (2) إليه الصفوف قال عمار : أقدم يا أعور .
   لا خير في أعـــور لا يأتي الفـــزع ، فجعل عمرو بن العاص يقول : إني لأرى لصاحب الراية السوداء عملا ، لئن دام على هذا لتفنين العرب اليوم ، فاقتتلوا قتالا شديدا ، وجعل عمار يقول : صبرا عباد الله ، الجنة تحت ظلال البيض (3) ، وكان لواء الشام مع أبي الأعور السلمي ، ولم يزل عمار بهاشم ينخسه حتى أشتد القتال (4) ، وزحف هاشم بالراية يرقل بها إرقالا ، وكان يسمى المرقال ، قال : وزحف الناس بعضهم إلى بعض ، والتقى الزحفان فاقتتل الناس قتالا شديدا لم يسمع الناس بمثله ، وكثرت القتلى في الفريقين كليهما .

---------------------------
(1) في الأصل : ( لتعلمن ) .
(2) في الأصل : ( شامت ) .
(3) البيض : السيوف .
(4) في الأصل : ( شبت القتال ) صوابه في ح ( 2 : 270 ) .

واقعة صفين _ 327 _

  قال : وقال عمر ( وبن شمر ) : عن أبي إسحاق ، عن أبي السفر (1) قال : لما التقينا بالقوم في ذلك اليوم وجدناهم خمسة صفوف قد قيدوا أنفسهم بالعمائم (2) فقتلنا صفا صفا ، حتى قتلنا ثلاثة صفوف وخلصنا إلى الصف الرابع ما على الأرض شامي ولا عراقي يولي دبره ، وأبو الأعور يقول (3) :
إذا  مـا فـررنا كـان أسوا iiفرارنا      صدود الخدود وازورار المناكب (4)
صـدود الـخدود والـقنا iiمـتشاجر      ولا  تـبرح الأقـدام عند iiالتضارب
  ثم إن الأزد وبجيلة كشفوا همدان غلوة حتى ألجؤوهم إلى التل ، فصعدوا فشدت عليهم الأزد وبجيلة حتى أحدروهم منه ، ثم عطفت عليهم همدان حتى ألجؤوهم إلى أن تركوا مصافهم ، وقتل من الأزد وبجيلة يومئذ ثلاثة آلاف في دفعة ، ثم إن همدان عبيت لعك ، فقيل :
هـمدان  همدان وعك iiعك      ستعلم اليوم من الأرك (5)
  وكانت على عك الدروع وليس عليهم رانات (6) ، فقالت همدان : خدموا القوم ـ أي اضربوا سوقهم ـ (7) فقالت عك : برك كبرك الكمل (8) ، فبركوا كما برك الجمل (9) ، ثم رموا بحجر فقالوا : لا نفر حتى يفر الحكر .

---------------------------
(1) أبو السفر ، بالتحريك ، كما في تقريب التهذيب والقاموس ، واسمه سعيد بن يحمد ، بضم الياء وسكون الحاء وكسر الميم ، الهمداني الثوري الكوفي ، ثقة من الثالثة ، مات سنة 112 .
(2) انظر ما سبق ص 228 .
(3) الشعر ليس للأعور ، بل هو لقيس بن الخطيم من قصيدة له في ديوانه 10 ـ 15 ليبسك .
(4) في الأصل : ( صدود خدود ) وأثبت ما في ح والديوان .
(5) الأرك : الأضعف ، والركة : الضعف ، وفي الأصل : ( الأدك ) صوابه في ح .
(6) في القاموس : ( الران كالخف إلا أنه لا قدم له ، وهو أطول من الخف ) والجمع رانات ، ح : ( رايات ) .
(7) انظر ما سبق في ص 257 .
(8) الكمل ، أي الجمل ، وعك تقلب الجيم كافا ، انظر ما مضي في ص 228 ، وفي الأصل : ( الجمل ) صوابه في ح ( 2 : 270 ) .
(9) ح : ( كما يبرك الجمل ) .

واقعة صفين _ 328 _

  وبلغنا في حديث آخر أن عبيد الله بن عمر بعثه معاوية في أربعة آلاف وثلثمائة ـ وهي كتيبة الخضرية الرقطاء ، وكانوا قد أعلموا بالخضرة ـ ليأتوا عليا من ورائه ، قال أبو صادق ، فبلغ عليا أن عبيد الله بن عمر قد توجه ليأتيه من ورائه ، فبعث إليهم أعدادهم ليس منهم إلا تميمي ، واقتتل الناس من لدن اعتدال النهار إلى صلاة المغرب ، ما كانت صلاة القوم إلا التكبير عند مواقيت الصلاة ، ثم إن ميسرة العراق كشفت ميمنة أهل الشام فطاروا في سواد الليل ، وأعاد عبيد الله والتقى هو وكرب ـ رجل من عكل ـ فقتله وقتل الذين معه جميعا ، وإنما انكشف الناس لوقعة كرب ، فكشف أهل الشام أهل العراق فاختلطوا في سواد الليل وتبدلت الرايات بعضها ببعض ، فلما أصبح الناس وجد أهل الشام لواءهم وليس حوله إلا ألف رجل ، فاقتلعوه وركزوه من وراء موضعه الأول ، وأحاطوا به ، ووجد أهل العراق لواءهم مركوزا وليس حوله إلا ربيعة ، وعلي ( عليه السلام ) بينها ، وهم يحيطون به ، وهو لا يعلم من هم ويظنهم غيرهم ، فلما أذن مؤذن علي حين طلع الفجر قال علي :
يا مرحبا بالقائلين عدلا      وبالصلاة مرحبا iiوأهلا
  فلما صلى علي الفجر أبصر وجوها ليست بوجوه أصحابه بالأمس ، وإذا مكانه الذي هو به ما بين الميسرة والقلب بالأمس ، فقال : من القوم ؟ قالوا : ربيعة ، وقد بت فيهم تلك الليلة (1) ، قال : فخر طويل لك يا ربيعة ، ثم قال لهاشم : خذ اللواء ، فوالله ما رأيت مثل هذه الليلة ، ثم خرج نحو القلب حتى ركز اللواء به ، نصر : حدثنا عمرو بن شمر ، عن الشعبي قال : عبا معاوية تلك الليلة أربعة آلاف وثلثمائة من فارس وراجل معلمين بالخضرة ، وأمرهم أن يأتوا عليا ( عليه السلام ) من ورائه ، ففطنت لهم همدان فواجهوهم وصمدوا إليهم ، فباتوا تلك الليلة يتحارسون ، وعلي ( عليه السلام ) قد أفضى به ذهابه ومجيئه إلى رايات ربيعة ، فوقف بينها وهو لا يعلم ، ويظن أنه في عسكر الأشعث .

---------------------------
(1) ح : ( وإنك يا أمير المؤمنين لعندنا منذ الليلة ) .

واقعة صفين _ 329 _

  فلما أصبح لم ير الأشعث ولا أصحابه وإذا سعيد بن قيس ( الهمداني ) على مركزه ، فلحقه رجل من ربيعة يقال له نفر (1) فقال له : ألست الزاعم لئن لم تنته ربيعة لتكونن ربيعة ربيعة وهمدان همدان (2) ، فما أغنت عنك همدان (3) البارحة . فنظر إليه علي نظر منكر ، ( ونادى منادي علي ( عليه السلام ) : أن اتعدوا للقتال واغدوا عليه ، وانهدوا إلى عدوكم ) فلما أصبحوا نهدوا للقتال غير ربيعة لم تتحرك ، فبعث إليهم علي : أن انهدوا إلى عدوكم ، فأبوا ، فبعث إليهم أبا ثروان فقال : إن أمير المؤمنين يقرئكم السلام ويقول : يا معشر ربيعة ما يمنعكم أن تنهدوا وقد نهد الناس ؟ قالوا : كيف ننهد وهذه الخيل من وراء ظهرنا ؟ قل لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) فليأمر همدان أو غيرها بمناجزتهم لننهد ، فرجع أبو ثروان إلى علي ( عليه السلام ) فأخبره ، فبعث إليهم الأشتر فقال : يا معشر ربيعة ، ما منعكم أن تنهدوا ( وقد نهد الناس ) ـ وكان جهير الصوت ـ وأنتم أصحاب كذا وأصحاب كذا ؟ ! فجعل يعدد أيامهم ، فقالوا : لسنا نفعل حتى ننظر ما تصنع هذه الخيل التي خلف ظهورنا ، وهي أربعة آلاف ، قل لأمير المؤمنين فليبعث إليهم من يكفيه أمرهم ـ وراية ربيعة يومئذ مع حضين ابن المنذر ـ فقال لهم الأشتر : فإن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) يقول لكم : اكفونيها ، إنكم لو بعثتم إليهم طائفة منكم لتركوكم في هذه الفلاة وفروا فوجهت حينئذ ربيعة إليهم تيم الله ، والنمر بن قاسط ، وعنزة .

---------------------------
(1) ح : ( زفر ) .
(2) في الأصل : ( ومضر مضر ) والصواب ما أثبت من ح .
(3) في الأصل : ( مضر ) والصواب ما أثبت من ح .

واقعة صفين _ 330 _

  كاليعافير (1) ، فوجهت حينئذ ربيعة إليهم تيم الله ، والنمر بن قاسط ، وعنزة ، قالوا : فمشينا إليهم مستلئمين مقنعين في الحديد ، وكانت عامه قتال صفين مشيا ، فلما أتيناهم هربوا وانتشروا انتشار الجراد ، قال : فذكرت قول الأشتر : وفروا كاليعافير (2) ، فرجعنا إلى أصحابنا وقد نشب القتال بينهم وبين أهل الشام وقد اقتطع أهل الشام طائفة من أهل العراق بعضها من ربيعة فأحاطوا بها ، فلم نصل إليها حتى حملنا على أهل الشام فعلوناهم بالأسياف حتى انفرجوا لنا وأفضينا إلى أصحابنا ( فاستنقذناهم ) وعرفناهم تحت النقع بسيماهم وعلامتهم (3) ، وكانت علامة أهل العراق بصفين الصوف الأبيض قد جعلوه في رؤوسهم وعلى أكتافهم ، وشعارهم : ( يا الله يا أحد يا صمد ، يا رب محمد ، يا رحمن يا رحيم ) ، وكان علامة أهل الشام خرقا صفرا (4) قد جعلوها علي روؤسهم وأكتافهم ، وكان شعارهم ( نحن عباد الله حقا حقا ، يا لثارات عثمان ) ، وكانت رايات أهل العراق سودا وحمرا ودكنا وبيضا ومعصفرة وموردة ، والألوية مضروبة دكن وسود ، قال : فاجتلدوا بالسيوف وعمد الحديد ، قال : فما تحاجزوا حتى حجز بيننا سواد الليل ، قال : وما نرى رجلا منا ولا منهم موليا ، نصر : عمر ، حدثني صديق أبي ، عن الإفريقي بن أنعم قال : كانوا عربا يعرف بعضهم بعضا في الجاهلية ، وإنهم لحديثو عهد بها ، فالتقوا في الإسلام وفيهم بقايا تلك الحمية ، وعند بعضهم بصيرة الدين والإسلام ، فتصابروا (5) .

---------------------------
(1) اليعافير : الظباء ، واحدها يعفور .
(2) في الأصل : ( كأنهم اليعافير ) وأثبت ما في ح ( 2 : 271 ) .
(3) في الأصل : ( وعرفنا علامة الصوف ) ، وأثبت ما في ح .
(4) في الأصل : ( بيضا ) وأثبت ما في ح .
(5) ح : ( فتضاربوا ) .

واقعة صفين _ 331 _

  واستحيوا من الفرار حتى كادت الحرب تبيدهم ، وكانوا إذا تحاجزوا دخل هؤلاء عسكر هؤلاء فيستخرجون قتلاهم فيدفنونهم ، فلما أصبحوا ـ وذلك يوم الثلاثاء ـ خرج الناس إلى مصافهم فقال أبو نوح : فكنت في الخيل يوم صفين في خيل علي ( عليه السلام ) وهو واقف بين جماعة من همدان وحمير وغيرهم من أفناء قحطان (1) ، وإذا أنا برجل من أهل الشام يقول : من دل على الحميري أبي نوح ؟ فقلنا : هذا الحميري فأيهم تريد ؟ قال : أريد الكلاعي أبا نوح . قال : قلت : قد وجدته فمن أنت ؟ قال : أنا ذو الكلاع ، سر إلى ، فقلت له : معاذ الله أن أسير إليك إلا في كتيبة ، قال ذو الكلاع : ( بلى ) فسر ، فلك ذمة الله وذمة رسوله وذمة ذي الكلاع حتى ترجع إلى خيلك ، فإنما أريد أن أسألك عن أمر فيكم تمارينا فيه ، فسر دون خيلك حتى أسير إليك ، فسار أبو نوح وسار ذو الكلاع حتى التقيا ، فقال ذو الكلاع : إنما دعوتك أحدثك حديثا حدثناه عمرو بن العاص ( قديما ) في إمارة عمر بن الخطاب ، قال أبو نوح : وما هو ؟ قال ذو الكلاع : حدثنا عمرو بن العاص أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال : ( يلتقى أهل الشام وأهل العراق وفي إحدى الكتيبتين الحق وإمام الهدى ومعه عمار بن ياسر ) ، قال أبو نوح : لعمر الله إنه لفينا ، قال : أجاد هو في قتالنا ؟ قال أبو نوح : نعم ورب الكعبة ، لهو أشد علي قتالكم مني ، ولوددت أنكم خلق واحد فذبحته وبدأت بك قبلهم وأنت ابن عمي ، قال ذو الكلاع : ويلك ، علام تتمنى ذلك منا ؟ ! والله ما قطعتك فيما بيني وبينك ، وإن رحمك لقريبة ، وما يسرني أن أقتلك ، قال أبو نوح : إن الله قطع بالإسلام أرحاما قريبة ، ووصل به أرحاما متباعدة ، وإني لقاتلك (2) أنت وأصحابك ، ونحن على الحق وأنتم على الباطل مقيمون مع أئمة الكفر ورؤوس الأحزاب .

---------------------------
(1) الأفناء : الأخلاط النزاع من ها هنا وها هنا .
(2) في الأصل : ( وإني منا ) صوابه في ح .

واقعة صفين _ 332 _

  فقال له ذو الكلاع : فهل تستطيع أن تأتي معي في صف أهل الشام ، ف‍أنا جار لك من ذلك ألا تقتل ولا تسلب ولا تكره على بيعه ، ولا تحبس عن جندك ، وإنما هي كلمة تبلغها عمرو بن العاص ، لعل الله أن يصلح بذلك بين هذين الجندين ، ويضع الحرب والسلاح (1) ، فقال أبو نوح : إني أخاف غدراتك وغدرات أصحابك ، فقال له ذو الكلاع : أنا لك بما قلت زعيم ، فقال أبو نوح : اللهم إنك ترى ما أعطاني ذو الكلاع وانت تعلم ما في نفسي ، فاعصمني واختر لي وانصرني وادفع عني ، ثم سار مع ذي الكلاع حتى أتى عمرو بن العاص وهو عند معاوية وحوله الناس وعبد الله بن عمرو يحرض الناس على الحرب ، فلما وقفا على القوم قال ذو الكلاع لعمرو : يا أبا عبد الله ، هل لك في رجل ناصح لبيب شفيق يخبرك عن عمار بن ياسر لا يكذبك ؟ قال عمرو : ومن هو ؟ قال : ابن عمي هذا ، وهو من أهل الكوفة ، فقال عمرو : إني لأرى عليك سيما أبي تراب ، قال أبو نوح : على سيما محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأصحابه ، وعليك سيما أبي جهل وسيما فرعون ، فقام أبو الأعور فسل سيفه ثم قال : لا أرى هذا الكذاب اللئيم يشاتمنا بين أظهرنا وعليه سيما أبي تراب ، فقال ذو الكلاع : أقسم بالله لئن بسطت يدك إليه لأخطمن أنفك بالسيف ، ابن عمي وجاري عقدت له بذمتي ، وجئت به إليكما ليخبركما عما تماريتم فيه ، قال له عمرو بن العاص : اذكرك بالله يا أبا نوح إلا ما صدقتنا ، ولم تكذبنا (2) ، أفيكم عمار بن ياسر ؟ فقال له أبو نوح :

---------------------------
(1) قال ابن أبي الحديد : قلت : واعجباه من قوم يعتريهم الشك في أمرهم لمكان عمار ولا يعتريهم الشك لمكان علي ( عليه السلام ) ، ويستدلون على أن الحق مع أهل العراق يكون عمار بين أظهرهم ولا يعبثون بمكان علي ( عليه السلام ) ، ويحذرون من قول النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : تقتلك الفئة الباغية ، ويرتاعون لذلك ولا يرتاعون لقوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في علي ( عليه السلام ) : اللهم وال من والاه وعاد من عاداه ، ولا لقوله : لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق وهذا يدلك على أن عليا ( عليه السلام ) اجتهدت قريش كلها من مبدأ الأمر في إخمال ذكره وستر فضائله .
(2) في الأصل : ( إلا ما صدقت ولا تكذبنا ) والوجه ما أثبت من ح ( 2 : 272 ) .

واقعة صفين _ 333 _

  ما أنا بمخبرك عنه حتى تخبرني لم تسألني عنه : فإنا معنا من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عدة غيره ، وكلهم جاد على قتالكم ، قال عمرو : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقول : ( إن عمارا تقتله الفئة الباغية ، وإنه ليس ينبغي لعمار أن يفارق الحق ولن تأكل النار منه شيئا ) ، فقال أبو نوح : لا إله إلا الله والله أكبر ، والله إنه لفينا ، جاد على قتالكم ، فقال عمرو : والله إنه لجاد على قتالنا ؟ قال : نعم والله الذي لا إله إلا هو ، ولقد حدثني يوم الجمل أنا سنظهر عليهم ، ولقد حدثني أمس أن لو ضربتمونا حتى تبلغوا بنا سعفات هجر (1) لعلمنا أنا علي حق وأنهم على باطل ، كانت قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار ، فقال له عمرو : فهل تستطيع أن تجمع بيني وبينه ؟ قال : نعم ، فلما أراد أن يبلغه أصحابه ركب عمرو بن العاص ، وابناه ، وعتبة بن أبي سفيان ، وذو الكلاع ، وأبو الأعور السلمي ، وحوشب ، والوليد بن ( عقبة بن ) أبي معيط ، فانطلقوا حتى أتوا خيولهم ، وسار أبو نوح ومعه شرحبيل بن ذي الكلاع حتى انتهيا إلى أصحابه فذهب أبو نوح إلى عمار فوجده قاعدا مع أصحاب له ، منهم ابنا بديل وهاشم ، والأشتر ، وجارية بن المثني ، وخالد بن المعمر ، وعبد الله بن حجل ، وعبد الله بن العباس ، وقال أبو نوح : إنه دعاني ذو الكلاع وهو ذو رحم فقال : أخبرني عن عمار ابن ياسر ، أفيكم هو ؟ قلت : لم تسأل ؟ قال : أخبرني عمرو بن العاص في إمرة عمر بن الخطاب أنه سمع رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقول : ( يلتقي أهل الشام وأهل العراق وعمار في أهل الحق يقتله الفئة الباغية ) ، فقلت : إن عمارا فينا ، فسألني (2) :

---------------------------
(1) انظر ما سبق ص 322 س 7 .
(2) في الأصل : ( قيل لي ) صوابه في ح ( 2 : 272 ) .

واقعة صفين _ 334 _

   أجاد هو على قتالنا ؟ فقلت : نعم والله ، أجد مني ، ولوددت أنكم خلق واحد فذبحتكم وبدأت بك يا ذا الكلاع ، فضحك عمار وقال : هل يسرك ذلك ؟ قال : قلت نعم ، قال أبو نوح : أخبرني ( الساعة ) عمرو ابن العاص أنه سمع رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقول : ( عمار يقتله الفئة الباغية ) ، قال عمار : أقررته بذلك ؟ قال : نعم أقررته فأقر ، فقال عمار : صدق ، وليضرنه ما سمع ولا ينفعه ، ثم قال أبو نوح لعمار ـ ونحن اثنا عشر رجلا ـ : فإنه يريد أن يلقاك ، فقال عمار لأصحابه : اركبوا ، فركبوا وساروا ثم بعثنا إليهم فارسا من عبد القيس يسمى عوف بن بشر ، فذهب حتى كان قريبا من القوم ، ثم نادى : أين عمرو ابن العاص ؟ قالوا (1) : هاهنا ، فأخبره بمكان عمار وخيله ، قال عمرو : قل له فليسر إلينا ، قال عوف : إنه يخاف غدراتك ، فقال له عمرو : ما أجرأك علي وأنت على هذه الحال ! فقال له عوف : جرأني عليك بصيرتي فيك وفي أصحابك ، فإن شئت نابذتك ( الآن ) على سواء ، وإن شئت التقيت أنت وخصماؤك ، وأنت كنت غادرا (2) ، فقال له عمرو : ألا أبعث إليك بفارس يواقفك ؟ فقال له عوف : ما أنا بالمستوحش ، فابعث بأشقى أصحابك ، قال عمرو : فأيكم يسير إليه ؟ فسار إليه أبو الأعور ، فلما تواقفا تعارفا فقال عوف لأبي الأعور : إني لأعرف الجسد وأنكر القلب ، إني لا أراك مؤمنا ، وإنك لمن أهل النار ، فقال أبو الأعور : لقد أعطيت لسانا يكبك الله به على وجهك في نار جهنم ، فقال عوف :

---------------------------
(1) في الأصل : ( قال ) صوابه في ح .
(2) الكلام بعد لفظة ( سواء ) إلى هنا لم يرد في ح .

واقعة صفين _ 335 _

  كلا والله إني أتكلم أنا بالحق ، وتكلم أنت بالباطل ، وإني أدعوك إلى الهدى وأقاتل أهل الضلالة (1) وأفر من النار ، وأنت بنعمة الله ضال تنطق بالكذب وتقاتل على ضلالة ، وتشتري العقاب بالمغفرة ، والضلالة بالهدي انظروا إلى وجوهنا ووجوهكم ، وسيمانا وسيماكم ، واسمعوا إلى دعوتنا ودعوتكم ، فليس أحد منا إلا وهو أولى بمحمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأقرب إليه قرابة منكم ، قال له أبو الأعور : ( لقد ) أكثرت الكلام وذهب النهار ، ( ويحك ) ادع أصحابك وأدعو أصحابي ، فأنا جار لك حتى تأتي موقفك الذي أنت فيه الساعة ، فإني لست أبدؤك بغدر ولا أجترئ على غدر حتى تأتي أنت وأصحابك ، وحتى تقفوا ، فإذا علمت كم هم جئت من أصحابي بعددهم ، فإن شاء أصحابك فليقلوا وإن شاءوا فليكثروا ، فسار أبو الأعور في مائة فارس حتى إذا كان حيث كنا بالمرة الأولى (2) وقفوا وسار في عشرة بعمرو ، وسار عمار في اثني عشر فارسا حتى اختلفت أعناق الخيل : خيل عمرو وخيل عمار ، ورجع عوف بن بشر في خيله وفيها الأشعث بن قيس ، ونزل عمار والذين معه فاحتبوا بحمائل سيوفهم ، فتشهد عمرو بن العاص ، فقال له عمار بن ياسر : اسكت بعد هذا الكلام ليس عند ابن عقبة إلى موضع العلامة (3) فقد تركتها في حياة محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وبعد موته ، ونحن أحق بها منك ، فإن شئت كانت خصومة فيدفع حقنا باطلك ، وإن (4) شئت كانت خطبة فنحن أعلم بفصل الخطاب منك ، وإن شئت أخبرتك بكلمة تفصل بيننا وبينك وتكفرك قبل القيام ، وتشهد بها على نفسك ، ولا تستطيع أن تكذبني ( فيها ) .

---------------------------
(1) ح : ( وأقاتلك على الضلال ) .
(2) ح : ( حتى إذا كانوا بالمنصف ) .
(3) ابن عقبة أحد رواة هذا الكتاب ، ويريد بموضع العلامة ما أشار إليه بعد قوله : ( فيمن قتله ) الذي سيأتي في ص 339 ، وهو قوله : ( من هنا عند ابن عقبة ) .
(4) قبل هذه العبارة في الأصل : ( وإن شئت كانت خصومة فيدفع حقنا باطلا ) ، وهذه العبارة المكررة المحرفة لم ترد في ح ، وقد طرحتها من الأصل .

واقعة صفين _ 336 _

  قال عمرو : يا أبا اليقظان ، ليس لهذا جئت ، إنما جئت لأني رأيتك أطوع أهل هذا العسكر فيهم ، أذكرك الله إلا كففت سلاحهم وحقنت دماءهم ، وحرضت على ذلك (1) ، فعلام تقاتلنا ؟ أو لسنا نعبد إلها واحدا ، ونصلي ( إلى ) قبلتكم ، وندعو دعوتكم ، ونقرأ كتابكم ، ونؤمن برسولكم ، قال عمار : الحمد لله الذي أخرجها من فيك ، إنها لي ولأصحابي : القبلة ، والدين ، وعبادة الرحمن ، والنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، والكتاب من دونك ودون أصحابك ، الحمد لله الذي قررك لنا بذلك ، دونك ودون أصحابك ، وجعلك ضالا مضلا ، لا تعلم هاد أنت أم ضال ؟ وجعلك أعمى ، وسأخبرك علام قاتلتك عليه أنت وأصحابك ، أمرني رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أن أقاتل الناكثين ، وقد فعلت ، وأمرني أن أقاتل القاسطين ، فأنتم هم ، وأما المارقون (2) فما أدرى أدركهم أم لا ، أيها الأبتر ، ألست تعلم أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال لعلي : ( من كنت مولاه فعلي مولاه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه ) ، وأنا مولى الله ورسوله وعلي بعده ، وليس لك مولى ، قال له عمرو : لم تشتمني يا أبا اليقظان ولست أشتمك ؟ قال عمار : وبم تشتمني ، أتستطيع أن تقول : إني عصيت الله ورسوله يوما قط ؟ قال له عمرو : إن فيك لمسبات (3) سوى ذلك ، فقال عمار : إن الكريم من أكرمه الله ، كنت وضيعا فرفعني الله ، ومملوكا فأعتقني الله ، وضعيفا فقواني الله ، وفقيرا فأغناني الله ، وقال له عمرو ، فما ترى في قتل عثمان ؟ قال : فتح لكم باب كل سوء ، قال عمرو : فعلي قتله ؟ قال عمار : بل الله علي قتله وعلي معه ، قال عمرو :

---------------------------
(1) ح : ( وحرصت على ذلك ) ومؤدى العبارتين واحد .
(2) في الأصل : ( المارقين ) صوابه في ح ( 2 : 273 ) .
(3) ح : ( لمساب ) .

واقعة صفين _ 337 _

  أكنت فيمن قتله ؟ من هنا عند ابن عقبة (1) قال : كنت مع من قتله وأنا اليوم أقاتل معهم ، قال عمرو : فلم قتلتموه ؟ قال عمار : أراد أن يغير ديننا فقتلناه ، فقال عمرو : ألا تسمعون ؟ قد اعترف بقتل عثمان ، قال عمار : وقد قالها فرعون قبلك لقومه : ألا تستمعون (2) ، فقام أهل الشام ولهم زجل فركبوا خيولهم فرجعوا ، ( وقام عمار وأصحابه فركبوا خيولهم ورجعوا ) ، فبلغ معاوية ما كان بينهم فقال : هلكت العرب أن أخذتهم (3) خفة العبد الأسود يعني عمار بن ياسر ، ( قال نصر : فحدثنا عمرو بن شمر قال ) : وخرج إلى القتال (4) ، وصفت الخيول بعضها لبعض ، وزحف الناس ، وعلى عمار درع ( بيضاء ) وهو يقول : أيها الناس ، الرواح إلى الجنة ، فاقتتل الناس قتالا شديدا لم يسمع الناس بمثله ، وكثرت القتلى حتي إن كان الرجل ليشد طنب فسطاطه بيد الرجل أو برجله ، فقال الأشعث : لقد رأيت أخبية فلسطين وأروقتهم وما منها خباء ولا رواق ولا بناء ولا فسطاط إلا مربوطا بيد رجل أو رجله ، وجعل أبو سماك الأسدي يأخذ إداوة من ماء وشفرة حديد ، فإذا رأى رجلا جريحا وبه رمق أقعده فيقول : من أمير المؤمنين ؟ فإن قال علي غسل عنه الدم وسقاه من الماء ، وإن سكت وجأه بالسكين (5) حتى يموت ( ولا يسقيه ) ، قال : فكان يسمى المخضخض .

---------------------------
(1) ابن عقبة ، أحد رواة هذا الكتاب ، انظر التنبيه 3 من صفحة 337 .
(2) من الآية 25 في سورة الشعراء ، وفي الأصل وح : ( ألا تسمعون ) والوجه ما أثبت .
(3) ح : ( حركتهم ) .
(4) وخرج ، أي عمار ، وفي ح ( 2 : 273 ) : ( فخرجت الخيول إلى القتال ) .
(5) في الأصل : ( بسكين ) وأثبت ما في ح .

واقعة صفين _ 338 _

  نصر ، عن عمرو بن شمر عن جابر قال : سمعت الشعبي يقول : قال الأحنف ابن قيس : والله إني لإلى جانب عمار بن ياسر ، بيني وبينه رجل من بني الشعيراء (1) ، فتقدمنا حتى إذا دنونا من هاشم بن عتبة قال له عمار : احمل فداك أبي وأمي ، ونظر عمار إلي رقة في الميمنة فقال له هاشم : رحمك الله يا عمار ، إنك رجل تأخذك خفة في الحرب ، وإني إنما أزحف باللواء زحفا ، وأرجوا أن أنال بذلك حاجتي ، وإني إن خففت لم آمن الهلكة ، وقد كان قال معاوية لعمرو : ويحك ، إن اللواء اليوم مع هاشم بن عتبة ، وقد كان من قبل يرقل به إرقالا ، وإنه إن زحف به اليوم زحفا إنه لليوم الأطول لأهل الشام ، وإن زحف في عنق من أصحابه إني لأطمع أن تقتطع ، فلم يزل به عمار حتى حمل ، فبصر به معاوية فوجه إليه حماة أصحابه ومن يزن بالبأس (2) والنجدة منهم في ناحيته ، وكان في ذلك الجمع عبد الله بن عمرو بن العاص ومعه يومئذ سيفان قد تقلد واحدا وهو يضرب بالآخر ، وأطافت به خيل علي ، فقال عمرو : يا الله ، يا رحمن ، ابني ابني ، قال : ويقول معاوية : صبرا صبرا فإنه لا بأس عليه قال عمرو : ولو كان يزيد بن معاوية إذا لصبرت ! ولم يزل حماة أهل الشام يذبون عنه (3) حتي نجا هاربا على فرسه ومن معه ، وأصيب هاشم في المعركة ، قال نصر : وحدثنا عمر بن سعد قال : وفي هذا اليوم قتل عمار بن ياسر ( رضي الله عنه ) أصيب في المعركة ، و قد كان قال عمار حين نظر إلى راية عمرو بن العاص : والله إن هذه الراية قاتلتها ثلاث عركات وما هذه بأرشدهن ! ثم قال عمار :

---------------------------
(1) بنو الشعيراء هم بنو بكر بن أد بن طابخة ، وفي الأصل : ( السفير ) ولم آجده في قبائلهم ، انظر القاموس واللسان ( شعر ) والمعارف 34 .
(2) يقال زنه بالخير وأزنه : ظنه به .
(3) ح : ( تذب عن عبد الله ) .

واقعة صفين _ 339 _

نـحن ضـربناكم على iiتنزيله      فاليوم نضربكم على تأويله  (1)
ضـربا يـزيل الهام عن مقيله      ويـذهل الـخليل عـن iiخليله
  أو يرجـــع الحق إلى سبيــــله ثم استسقى وقد اشتد ظمؤه ، فأتته امرأة طويلة اليدين والله ما أدري أعس معها أم إداوة فيها ضياح من لبن (2) ، فقال حين شرب : ( الجنة تحت الأسنة اليوم ألقــى الأحبــة ، محمــــدا وحزبــــه والله لو ضربونا حتى يبلغوا بنا سعفات هجر لعلمنا أنا على الحق وهم على الباطل ) ، ثم حمل وحمل عليه ابن جون السكوني (3) ، وأبو العادية الفزاري ، فأما أبو العادية فطعنه ، وأما ابن جون (4) فإنه احتز رأسه ، وقد كان ذو الكلاع يسمع عمرو بن العاص يقول : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لعمار بن ياسر : ( تقتلك الفئة الباغية ، وآخر شربة تشربها ضياح من لبن ) فقال ذو الكلاع لعمرو : ويحك ما هذا ؟ قال عمرو : إنه سيرجع إلينا ( ويفارق أبا تراب ) ، وذلك قبل أن يصاب عمار ، فأصيب عمار مع علي ، وأصيب ذو الكلاع مع معاوية ، فقال عمرو : والله يا معاوية ما أدري بقتل أيهما أنا أشد فرحا ، والله لو بقى ذو الكلاع حتى يقتل عمار لمال بعامة قومه إلى علي ، ولأفسد علينا جندنا (5) ، قال : فكان لا يزال رجل يجئ فيقول لمعاوية وعمرو : أنا قتلت عمارا .

---------------------------
(1) ح : ( كما ضربناكم على تأويله ) ، لكن الرواية هنا تطابق ما في مروج الذهب ( 2 : 21 ) ، وهذا الرجز يحتمل التقييد والإطلاق في قافيته .
(2) الضياح ، بالفتح : اللبن الرقيق الكثير الماء .
(3) ح ( 2 : 274 ) : ( ابن حوي السكسكي ) ، وفي مروج الذهب ( 2 : 21 ) ، ( أبو حواء السكسكي ) .
(4) ح : ( ابن حوى ) .
(5) ح : ( أمرنا ) .

واقعة صفين _ 340 _

  فيقول له عمرو : فما سمعته يقول : فيخلط (1) . حتى أقبل ( ابن ) جون (2) فقال : أنا قتلت عمارا ، فقال له عمرو : فما كان آخر منطقه ؟ قال سمعته يقول :
اليوم ألقى الأحبة      مـحمدا  iiوحزبه
  فقال له عمرو : صدقت ، أنت صاحبه (3) ، أما والله ما ظفرت يداك ولكن أسخطت ربك ، نصر ، عن عمرو بن شمر قال : حدثني إسماعيل السدي ، عن عبد خير الهمداني قال : نظرت إلى عمار بن ياسر يوما من أيام صفين رمى رمية فأغمى عليه ولم يصل الظهر ، و لا العصر ، و لا المغرب ، ولا العشاء ، ولا الفجر ثم أفاق فقضاهن جميعا ، يبدأ بأول شئ فاته ، ثم بالتي تليها (4) ، نصر ، عن عمرو بن شمر ، عن السدي ، عن ابن حريث (5) قال : أقبل غلام لعمار بن ياسر ، اسمه راشد ، يحمل شربة من لبن ، فقال عمار : إني سمعت خليلي رسول الله ( صلى الله عليه وآلهوسلم ) ( يقول ) : إن آخر زادك من الدنيا شربة لبن ، نصر ، عن عمرو بن شمر ، عن السدي عن يعقوب بن الأوسط قال : احتج رجلان بصفين في سلب عمار بن ياسر ، وفي قتله ، فأتيا عبد الله بن عمرو بن العاص فقال لهما : ويحكما ، اخرجا عني فإن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال ـ ( و ) ولعت قريش بعمار (6) : ( ما لهم ولعمار يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى لنار ، قاتله وسالبه في النار ) ، قال السدي : فبلغني أن معاوية قال : ( إنما قتله من أخرجه ) ، يخدع بذلك طغام أهل الشام .

---------------------------
(1) في الأصل : ( فما سمعتموه يقول فيخلطون ) وأثبت ما في ح . (2) ح : ( ابن حوى ) .
(3) أي صاحب قتله ، الذي تولى ذلك منه .
(4) في الأصل : ( ثم التي يليها ) صوابه في ح .
(5) ح ( 2 : 284 ) : ( أبي حريث ) .
(6) هذه الجملة لم ترد في ح ، والواو ليست في الأصل ، ويقال ولع فلان بفلان يولع به : إذا لج في أمره وحرص على إيذائه .

واقعة صفين _ 341 _

  نصر عن عمرو بن شمر ، عن جابر ، عن أبي الزبير قال : أتى حذيفة بن اليمان رهط من جهينة فقالوا : يا أبا عبد الله ، إن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) استجار من أن تصطلم أمته (1) فأجير من ذلك ، واستجار من أن يذوق بعضها بأس بعض فمنع من ذلك ، قال حذيفة : إني سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقول : ( إن ابن سمية لم يخير بين أمرين قط إلا اختار أرشدهما ـ يعني عمارا فالزموا ـ سمته ) ، وفي حديث عمرو بن شمر قال : حمل عمار بن ياسر ( ذلك ) اليوم وهو يقول :
كـلا ورب الـبيت لا أبرح iiأجي      حـتى أمـوت أو أرى ما iiأشتهي
أنا مع الحق أحامي عن علي  (2)       صـهر  النبي ذي الأمانات الوفي
نـقتل أعداه وينصرنا العلي  (3)       ونـقطع الـهام بـحد iiالـمشرفي
والله ينصرنا على من يبتغي  (4)       ظـلما عـلينا جـاهدا مـا iiيأتلي
  قال : فضربوا أهل الشام حتى اضطروهم إلى الفرار (5) ، قال : ومشى عبد الله بن سويد ( الحميري ) سيد جرش إلى ذي الكلاع فقال له : لم جمعت بين الرجلين ؟ قال : لحديث سمعته من عمرو ، وذكر أنه سمعه من رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وهو يقول لعمار بن ياسر : ( يقتلك الفئة الباغية ) ، فخرج عبد الله بن عمر العنسي ، وكان من عباد أهل زمانه ، ليلا فأصبح في عسكر علي ، فحدث الناس بقول عمرو في عمار ، وقال الجرشي :

---------------------------
(1) الاصطلام : الاستئصال ، افتعال من الصلم .
(2) ح : ( لا أفتر الدهر أحامي ) .
(3) ح : ( ينصرنا رب السموات ) .
(4) ح : ( يمنحنا النصر ) ، وهذا الرجز كما ترى ركيك مشيأ القافية .
(5) في الأصل : ( الفرات ) صوابه في ح ( 2 : 274 ) .

واقعة صفين _ 342 _

مـا  زلـت يـا عمرو قبل اليوم iiمبتدئا      تـبغي الـخصوم جـهارا غـير إسرار
حـتى  لـقيت أبـا الـيقظان مـنتصبا      لـلـه در أبــي الـيـقظان عـمـار
مـا زال يـقرع مـنك الـعظم iiمـنتقيا      مـخ  الـعظام بـنزع غير مكثار  (1)
حـتى  رمـى بـك فـي بحر له iiحدب      تهوي بك الموج ها فاذهب إلى النار  (2)
  وقال العنسي :
والـراقصات  بـركب عامدين iiله      إن الذي جاء من عمرو لمأثور  (3)
قـد كـنت أسـمع والأنباء iiشائعة      هـذا الحديث فقلت الكذب iiوالزور
حـتى تـلقيته عـن أهـل iiعيبته      فـاليوم  أرجـع والمغرور مغرور
والـيوم  أبـرأ من عمرو iiوشيعته      ومـن مـعاوية الـمحدو به iiالعير
لا  لا أقـاتل عـمارا عـلى iiطمع      بـعد  الـرواية حتى ينفخ iiالصور
تـركت عـمرا وأشـياعا له iiنكدا      إنـي بتركهم يا صاح معذور  (4)
يا  ذا الكلاع فدع لي معشرا iiكفروا      أو لا فـدينك عين فيه تعزير  (5)

---------------------------
(1) انتقاء المخ : استخراجه .
(2) حدب الماء : ما ارتفع من أمواجه .
(3) يقسم بالإبل التي ترقص ، أي تخب بركبانها القاصدين إلى الله أو البيت الحرام للحج .
(4) النكد : جمع أنكد ، وهو المشؤوم العسر .
(5) عين ، لعله يريد : دين عين ، كما تقول فلان صديق عين ، إذا كان يظهر لك من نفسه ما لا يفيبه إذا غاب ، أي إنه دين رياء .

واقعة صفين _ 343 _

   فلما سمع معاوية بهذا القول بعث إلى عمرو فقال : أفسدت على أهل الشام ، أكل ما سمعت من رسول الله تقوله ؟ فقال عمرو : قلتها ولست والله أعلم الغيب ولا أدري أن صفين تكون ، قلتها وعمار يومئذ لك ولي ، وقد رويت أنت فيه مثل الذي رويت فيه ، فاسأل أهل الشام ، فغضب معاوية وتنمر لعمرو ، ومنعه خيره ، فقال عمرو : لا خير لي في جوار معاوية إن تجلت هذه الحرب عنا ، وكان عمرو حمي الأنف ، فقال في ذلك :
مـا  في مقال رسول الله في رجل      شـك  ولا في مقال الرسل iiتحبير
تـعاتبني  أن قـلت شـيئا سمعته      وقـد  قلت لو أنصفتني مثله iiقبلي
أنـعلك  فـيما قـلت نـعل iiثبيتة      وتـزلق  بي في مثل ما قلته iiنعلي
ومـا كـان لـي علم بصفين iiأنها      تـكون  وعـمار يحث على iiقتلي
فـلو كـان لي بالغيب علم iiكتمتها      وكـابدت أقـواما مـراجلهم iiتغلي
أبـي الله الا أن صـدرك iiواغـر      عـلى  بـلا ذنب جنيت ولا iiذحل
سوى  أنني ، والراقصات عشية ii،      بنصرك مدخول الهوى ذاهل العقل
فـلا وضعت عندي حصان قناعها      ولا حـملت وجـناء ذعلبة iiرحلي
ولا  زلت أدعي في لؤي بن غالب      قـليلا غـنائي لا أمـر ولا iiأحلي
إن الله أرخـى مـن خـناقك iiمرة      ونلت الذي رجيت إن لم أزر أهلي
وأترك لك الشام الذي ضاق iiرحبها      عليك لم يهنك بها العيش من iiأجلي
  فأجاب معاوية :
الآن لـما ألـقت الـحرب iiبـركها      وقـام بـنا الأمر الجليل على iiرجل
غـمزت  قـناتي بـعد ستين iiحجة      تـباعا كأني لا أمر ولا أحلي  (1)
أتـيت  بـأمر فـيه لـلشام iiفـتنة      وفـي  دون مـا أظهرته زلة iiالنعل
فـقلت  لك القول الذي ليس iiضائرا      ولو ضر لم يضررك حملك لي ثقلي
فـعاتبتني فـي كـل يـوم iiولـيلة      كـأن الذي أبليك ليس كما أبلى  (2)
فـيـا  قـبح الله الـعتاب iiوأهـله      ألـم  تر ما أصبحت فيه من iiالشغل
فـدع  ذا ولـكن هل لك اليوم حيلة      تـرد  بـها قـوما مـراجلهم iiتغلي
دعـاهم  عـلي فـاستجابوا iiلدعوة      أحـب إليهم من ثرى المال iiوالأهل
إذا قـلت هابوا حومة الموت iiأرقلوا      إلى الموت إرقال الهلوك إلى iiالفحل

---------------------------
(1) في الأصل : ( بعد سبعين حجة ) والصواب ما أثبت من ح ( 2 : 275 ) وذلك لأن معاوية حين وقعة صفين كان عمره نحوا من 57 سنة ، فإن صفين كانت في سنتي 36 ـ 37 وكانت وفاة معاوية سنة 60 وله ثمانون سنة .
(2) الإبلاء : الإخبار ، يقال ابتليته فأبلاني ، أي استخبرته فأخبرني ، ح : ( تعاتبني ) .

واقعة صفين _ 344 _

  فلما أتى عمرا شعر معاوية أتاه فأعتبه وصار أمرهما واحدا ، ثم إن عليا دعا في هذا اليوم هاشم بن عتبة ومعه لواؤه ، وكان أعور ، فقال له : يا هاشم ، حتى متى تأكل الخبز وتشرب الماء ؟ فقال هاشم : لأجهدن على ألا أرجع إليك أبدا ، قال علي : إن بإزائك ذا الكلاع ، وعنده الموت الأحمر ؟ فتقدم هاشم ، فلما أقبل قال معاوية : من هذا المقبل ؟ فقيل هاشم المرقال ، فقال : أعور بنى زهرة قاتله الله ! وقال : إن حماة اللواء ربيعة ، فأجيلوا القداح فمن خرج سهمه عبيته لهم ، فخرج سهم ذي الكلاع لبكر بن وائل (1) ، فقال : ترحك الله من سهم كرهت الضراب (2) ، وإنما كان جل أصحاب علي أهل اللواء من ربيعة ، لأنه أمر حماة منهم أن يحاموا عن اللواء ، فأقبل هاشم وهو يقول :
أعـور يـبغي نـفسه iiخـلاصا      مـثل  الـفنيق لابـسا iiدلاصـا
قد جرب الحرب ولا أناصا  (3)       لاديــة يـخشى ولا iiقـصاصا
كل  امرئ وإن كبا وحاصا  (4)       ليس يرى من موته مناصا  (5)
   وحمل صاحب لواء ذي الكلاع ـ وهو رجل من عذرة ـ وهاشم حاسر وهو يقول :
يـا أعور العين وما بي من iiعور      أثبت  فإني لست من فرعي iiمضر
نـحن الـيمانون ومـا فينا iiخور      كيف ترى وقع غلام من عذر  (6)

---------------------------
(1) هم بكر بن وائل بن قاسط بن هنب بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة ، فهم ربعيون ، وفي الأصل : ( بكر بن وائل ) والصواب : ( لبكر ) كما أثبت .
(2) انظر ما سبق في ص 227 .
(3) المعروف ناص ينوص : هرب وفر .
(4) كبا : انكب على وجهه ، حاص : هرب ، ح : ( وإن بني ) .
(5) في الأصل : ( ليس له ) وأثبت ما في ح ( 2 : 275 ) ، وفي ح أيضا : ( من يومه ) .
(6) الغلام يقال للرجل من حين يولد إلى أن يشيب ، وعذر : ترخيم عذرة لغير نداء ، وعذرة من قبائل قضاعة .

واقعة صفين _ 345 _

ينعى ابن عفان ويلحي من غدر      سيان عندي من سعي ومن iiأمر
  فاختلفا طعنتين ، فطعنه هاشم فقتله ، وكثرت القتلى ، وحمل ذو الكلاع فاجتلد الناس ، فقتلا جميعا (1) وأخذ ابن هاشم اللواء وهو يقول :
أهـاشم  بـن عتبة بن iiمالك      أعزز  بشيخ من قريش iiهالك
تـخبطه الـخيلات iiبالسنابك      فـي أسـود من نقعهن iiحالك
أبشر بحور العين في الأرائك      والـروح والريحان عند iiذلك
  نصر : حدثنا عمرو بن شمر قال : لما انقضى أمر صفين وسلم الأمر الحسن ( عليه السلام ) إلى معاوية وفدت عليه الوفود ، أشخص عبد الله بن هاشم إليه أسيرا ، فلما أدخل عليه مثل بين يديه وعنده عمرو بن العاص فقال : ( يا أمير المؤمنين ، هذا المختال (2) ابن المرقال ، فدونك الضب المضب (3) ، المغتر (4) المفتون ، فإن العصا من العصية ، وإنما تلد الحية حية ، وجزاء السيئة سيئة مثلها ، فقال له ابن هاشم : ما أنا بأول رجل خذله قومه ، وأدركه يومه (5) ، فقال معاوية : تلك ضغائن صفين وما جنى عليك أبوك ، فقال عمرو : أمكني منه فأشخب أو داجه على أثباحه ، فقال له ابن هاشم : فهلا كانت هذه الشجاعة منك يابن العاص أيام صفين حين ندعوك إلى النزال ، وقد ابتلت أقدام الرجال ، من نقيع الجريال ، وقد تضايقت بك المسالك ، وأشرفت فيها على المهالك .

---------------------------
(1) ح : ( فقتل هاشم وذو الكلاع جميعا ) .
(2) المختال : المتكبر المعجب بنفسه ، وفي الأصل : ( المحتال ) ، صوابه في ح ( 2 : 276 ) .
(3) المضب : الذي يلزم الشئ لا يفارقه ، وأصل الضب اللصوق بالأرض .
(4) في الأصل : ( المعن ) صوابه في ح .
(5) ح : ( وأسلمه يومه ) .

واقعة صفين _ 346 _

  وأيم الله لو لا مكانك منه لنشبت لك مني خافية أرميك من خلالها أحد من وقع الأشافي (1) ، فإنك لا تزال تكثر في هوسك وتخبط في دهشك ، وتنشب في مرسك ؛ تخبط العشواء ، في الليلة الحندس الظلماء ، قال : فأعجب معاوية ما سمع من كلام ابن هاشم فأمر به إلى السجن وكف عن قتله ، فبعث إليه عمرو بأبيات يقولها له :
أمـرتك  أمرا حازما iiفعصيتني      وكان من التوفيق قتل ابن iiهاشم
وكـان أبـوه يـا معاوية iiالذي      رمـاك  على جد بحز iiالغلاصم
فما برحوا حتى جرت من دمائنا      بصفين  أمثال البحور iiالخضارم
وهـذا  ابنه والمرء يشبه iiأصله      سـتقرع إن أبـقيته سـن iiنادم
  فبلغ ذلك ابن هاشم وهو في محبسه فكتب إلى معاوية :
مـعاوي إن الـمرء عـمرا أبت iiله      ضغينة  صدر ودها غير سالم  (2)
يـرى لـك قتلى يا ابن حرب وإنما      يـرى ما يرى عمر وملوك iiالأعاجم
عـلى  أنـهم لا يـقتلون أسـيرهم      إذا  كــان مـنهم مـنعة لـلمسالم
وقـد كـان مـنا يـوم صفين iiنفرة      عـليك  جـناها هـاشم وابن iiهاشم
قضى الله فيها ما قضى ثمت انقضى      ومـا  مـا مضى إلا كأضغاث iiحالم
هـي  الوقعة العظمى التي تعرفونها      وكـل عـلى ما قد مضى غير iiنادم
فـإن تعف عني تعف عن ذي قرابة      وإن  تـر قـتلى تـستحل محارمي

---------------------------
(1) الأشافي : جمع إشفى ، وهو مخصف الإسكاف ، وفي الأصل : ( الأثافي ) بالثاء ، صوابه في ح ( 2 : 276 ) .
(2) في الأصل : ( غشها غير سالم ) وأثبت ما في ح .

واقعة صفين _ 347 _

  آخر الجزء الخامس يتلوه الجزء السادس : ( نصر عمرو بن شمر ، عن السدي ، عن عبد خير الهمداني ) ، وصلى الله على سيدنا محمد النبي وآله والحمد لله رب العالمين ، ونعوذ بالله من الزيادة والنقصان ، وجدت في الجزء الثامن من نسخة عبد الوهاب بخطه : ( سمع جميعه من الشيخ أبي الحسين المبارك بن عبد الجبار ، الأجل السيد الأوحد الإمام قاضي القضاة أبو الحسن علي بن محمد الدامغاني وابناه القاضيان أبو عبد الله محمد وأبو الحسين أحمد ، وأبو عبد الله محمد بن القاضي أبي الفتح بن البيضاوي ، والشريف أبو الفضل محمد بن علي بن أبي يعلى الحسيني ، وأبو منصور محمد بن محمد بن قرمي ، بقراءة عبد الوهاب بن المبارك بن أحمد بن الحسن الأنماطي ، وذلك في شعبان سنة أربع وتسعين وأربعمائة ) .

الجزء السادس
   رواية أبي محمد سليمان بن الربيع بن هشام النهدي الخزاز ، رواية أبي الحسن علي بن محمد بن محمد بن عقبة بن الوليد ، رواية أبي الحسن محمد بن ثابت بن عبد الله بن محمد بن ثابت ، رواية أبي يعلى أحمد بن عبد الواحد بن محمد بن جعفر الحريري ، رواية أبي الحسين المبارك بن عبد الجبار بن أحمد الصيرفي ، رواية الشيخ الحافظ أبي البركات عبد الوهاب بن المبارك بن أحمد بن الحسن الأنماطي ، سماع مظفر بن علي بن محمد بن زيد بن ثابت المعروف بابن المنجم ـ غفر الله له .
  بسم الله الرحمن الرحيم أخبرنا الشيخ الثقة شيخ الإسلام أبو البركات عبد الوهاب بن المبارك بن أحمد بن الحسن الأنماطي ، قال : أخبرنا الشيخ أبو الحسين المبارك بن عبد الجبار ابن أحمد الصيرفي بقراءتي عليه ، قال أبو يعلى أحمد بن عبد الواحد بن محمد ابن جعفر : قال أبو الحسن محمد بن ثابت بن عبد الله بن محمد بن ثابت الصيرفي : قال أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن محمد بن عقبة : قال أبو محمد سليمان بن الربيع بن هشام النهدي الخزاز : قال أبو الفضل نصر بن مزاحم ، عمرو بن شمر ، عن السدي عن عبد الخير الهمداني قال : قال هاشم بن عتبة : أيها الناس ، إني رجل ضخم ، فلا يهولنكم مسقطي إن أنا سقطت ، فإنه لا يفرغ مني أقل من نحر جزور حتى يفرغ الجزار من جزرها ، ثم حمل فصرع ، فمر عليه رجل وهو صريع بين القتلى فقال له : اقرأ ( علي ) أمير المؤمنين السلام ورحمة الله ، وقل له : أنشدك بالله إلا أصبحت وقد ربطت مقاود خيلك بأرجل القتلى ، فإن الدبرة تصبح غدا (1) لمن غلب على القتلى ، فأخبر الرجل عليا بذلك ، فسار علي في بعض الليل حتى جعل القتلى خلف ظهره ، وكانت الدبرة له عليهم ، نصر ، عن عمرو بن شمر ، عن رجل (2) ، عن أبي سلمة ، أن هاشم بن عتبة دعا في الناس عند المساء : ( ألا من كان يريد الله والدار الآخرة فليقبل ) .
---------------------------
(1) الدبرة ، بالفتح : العاقبة ، في الأصل : ( تصبح عندك ) صوابه في ح ( 2 : 278 ) .
(2) ح : ( نصر وحدثنا عمر بن سعد عن الشعبي ) .

واقعة صفين _ 348 _

  فأقبل إليه ناس ، فشد في عصابة من أصحابه على أهل الشام مرارا ، فليس من وجه يحمل عليه (1) إلا صبروا له وقوتل فيه قتالا شديدا ، فقال لأصحابه : ( لا يهولنكم ما ترون من صبرهم ، فو الله ما ترون منهم إلا حمية العرب وصبرها تحت راياتها وعند مراكزها ، وإنهم لعلى الضلال وإنكم لعلى الحق ، يا قوم اصبروا وصابروا واجتمعوا ، وامشوا بنا إلى عدونا على تؤدة رويدا ، ثم تآسوا وتصابروا واذكروا الله ، ولا يسلم رجل أخاه ، ولا تكثروا الالتفات ، واصمدوا صمدهم ، وجالدوهم محتسبين ، حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين ) ، فقال أبو سلمة : فمضى في عصابة من القراء فقاتل قتالا شديدا هو وأصحابه ، حتى رأى بعض ما يسرون به ، إذ خرج عليهم فتى شاب يقول :
أنا ابن أرباب الملوك غسان      والـدائن  اليوم بدين غسان
أنبأنا  أقوامنا بما كان  (2)       أن  عـليا قـتل ابن iiعفان
  ثم شد فلا ينثني يضرب بسيفه ، ثم ( جعل ) يلعن ( عليا ) ويشتمه ويسهب في ذمه (3) ، فقال له هاشم بن عتبة : إن هذا الكلام بعده الخصام ، وإن هذا القتال بعده الحساب . فاتق الله فإنك راجع إلى ربك فسائلك عن هذا الموقف وما أردت به (4) ، قال : فإني أقاتلكم لأن صاحبكم لا يصلي كما ذكر لي ، وأنكم لا تصلون ، وأقاتلكم أن صاحبكم قتل خليفتنا وأنتم وازرتموه على قتله ، فقال له هاشم : ( وما أنت وابن عفان ؟ إنما قتله أصحاب محمد وقراء الناس ، حين أحدث أحداثا وخالف حكم الكتاب ، وأصحاب محمد هم أصحاب الدين ، وأولى بالنظر في أمور المسلمين ، وما أظن أن أمر هذه الأمة ولا أمر هذا الدين عناك طرفة عين قط ) ، قال الفتى : أجل أجل ، والله لا أكذب فإن الكذب يضر ولا ينفع ، ويشين ولا يزين .

---------------------------
(1) في الأصل : ( عليهم ) صوابه في ح .
(2) ح ( 2 : 278 ) : ( أنبأنا قراؤنا ) .
(3) في الأصل : ( ويشتم ويكثر الكلام ) وأثبت ما في ح .
(4) ح : ( وعن هذا المقال ) .

واقعة صفين _ 349 _

   فقال له هاشم : ( إن هذا الأمر لا علم لك به ، فخله وأهل العلم به ) قال : أظنك والله قد نصحتني ، وقال له هاشم : وأما قولك إن صاحبنا لا يصلى فهو أول من صلى مع رسول الله ، وأفقهه في دين الله ، وأولاه برسول الله ، وأما من ترى معه فكلهم قارئ الكتاب ، لا ينامون الليل تهجدا ، فلا يغررك عن دينك الأشقياء المغرورون ) ، قال الفتى : يا عبد الله ، إني لأظنك امرأ صالحا ، ( وأظنني مخطئا آثما ) ، أخبرني هل تجدلي من توبة ؟ قال : ( نعم ، تب إلى الله يتب عليك ؛ فإنه يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ، ويحب التوابين ويحب المتطهرين ) ، قال : فذهب الفتى بين الناس راجعا ، فقال له رجل من أهل الشام : خدعك العراقي ! قال : لا ، ولكن نصحني العراقي ! وقاتل هاشم هو وأصحابه قتالا شديدا حتى أتت كتيبة لتنوخ فشدوا على الناس ، فقاتلهم وهو يقول :
أعور  يبغي أهله iiمحلا      لابد أن يفل أو يفلا  (1)
  قد عالج الحيــاة حتى ملا حتى قتل تسعة نفر أو عشرة ، وحمل عليه الحارث بن المنذر التنوخي فطعنه فسقط ، وبعث إليه علي : أن قدم لواءك ، فقال للرسول : انظر إلي بطني ، فإذا هو قد انشق ، فأخذ الراية رجل من بكر بن وائل ، ورفع هاشم رأسه فإذا هو بعبيد الله بن عمر بن الخطاب قتيلا إلى جانبه ، فحبا (2) .

---------------------------
(1) في الأصل : ( يغل أو يغلا ) صوابه مما سبق ص 327 .
(2) في الأصل : ( فجثا ) والوجه ما أثبت .

واقعة صفين _ 350 _

  حتى دنا منه ، ْ فعض على ثديه حتى نيبت فيه أنيابه (1) ، ثم مات هاشم وهو على صدر عبيد الله بن عمر ، وضرب البكري فوقع ، فرفع رأسه فأبصر عبيد الله بن عمر قريبا منه ، فحبا إليه (2) حتى عض على ثديه الآخر حتى نيبت (3) أنيابه فيه ، ومات أيضا ، فوجدا جميعا على صدر عبيد الله بن عمر ، هاشم والبكري قد ماتا جميعا ، ولما قتل هاشم جزع الناس عليه جزعا شديدا ، وأصيب معه عصابة من أسلم من القراء ، فمر عليهم على وهم قتلى حول أصحابه الذين قتلوا معه فقال :
جـزى  الله خـيرا عـصبة أسـلمية      صـباح الـوجوه صرعوا حول iiهاشم
يـزيـد وعـبـد الله بـشر iiومـعبد      وسـفيان وابنا هاشم ذي المكارم  (4)
وعــروة لا يـبـعد ثـناه iiوذكـره      إذا اخترطت يوما خفاف الصوارم  (5)
  ثم قال عبد الله بن هاشم وأخذ الراية فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : ( يأيها الناس ، إن هاشما كان عبدا من عباد الله الذين قدر أرزاقهم ، وكتب آثارهم ، وأحصى أعمالهم ، وقضى آجالهم ؛ فدعاه ربه الذي لا يعصى فأجابه ، وسلم الأمر لله وجاهد في طاعة ابن عم رسول الله ، وأول من آمن به ، وأفقههم في دين الله ، المخالف لأعداء الله المستحلين ما حرم الله ، الذين عملوا في البلاد بالجور والفساد ، واستحوذ عليهم الشيطان فزين لهم الإثم والعدوان ، فحق عليكم جهاد من خالف سنة رسول الله ، وعطل حدود الله ، وخالف أولياء الله ، فجودوا يمهج أنفسكم في طاعة الله في هذه الدنيا ، تصيبوا الآخرة والمنزل الأعلى ، والملك الذي لا يبلى ، فلو لم يكن ثواب ولا عقاب ولا جنة ولا نار ، لكان القتال مع علي أفضل من القتال مع معاوية ابن أكالة الأكباد ، فكيف وأنتم ترجون ما ترجون .

---------------------------
(1) نيبت أنيابه : نشبت ، وفي الأصل : ( تبينت ) وليس بشيء .
(2) في الأصل : ( فجثا إليه ) والصواب ما أثبت ، ولم أعثر على هذا الخبر في ح .
(3) في الأصل : ( تبينت ) والوجه ما أثبت ، وانظر ما سبق في التنبيه الأول .
(4) ح : ( يزيد وسعدان وبشر ومعبد ، وسفيان وابنا معبد ) .
(5) ثناه ، أجدر بها أن تكون : ( نثاه ) بتقديم النون ، وهو ما أخبرت به عن الرجل من خير أو شر ، اخترط السيف : استله .

واقعة صفين _ 351 _

  قالت امرأة من أهل الشام :
لا تعدموا قوما أذاقوا ابن ياسر      شـعوبا  ولم يعطوكم بالخزائم
فنحن قتلنا اليثربي بن iiمحصن      خـطيبكم  وابني بديل iiوهاشم
  وقال رجل من بني عذرة :
لـقد رأيـت أمورا كلها iiعجب      ومـا رأيـت كـأيام iiبـصفينا
لـما  غـدوا وغدونا كلنا iiحنق      مـا رأيت الجمال الجلة iiالجونا
خـيل  تجول وخيل في iiأعنتها      وآخـرون عـلى غيظ iiيرامونا
ثـم  ابتذلنا سيوفا في iiجماجمهم      ومـا  نساقيهم من ذاك iiيجزونا
كـأنها  فـي أكف القوم iiلامعة      سلاسل البرق يجد عن العرانينا
ثـم  انـصرفنا كأشلاء iiمقطعة      وكـلنا عـند قـتلاهم iiيصلونا
  وقال عبد الله بن أبي معقل بن نهيك بن يساف الأنصاري ، قال : وفي حديث عمرو بن شمر : قال النجاشي يبكي أبا عمرة بن عمرو بن محصن (1) وقتل بصفين :
لنعم فتى الحيين عمرو بن iiمحصن      إذا صائح الحي المصبح ثوبا  (2)
---------------------------
(1) هو بشير بن عمرو بن محصن الأنصاري ، ترجمته في 185 .
(2) صدر البيت يشهد بأن اسمه ( عمرو ) وهو أحد الأقوال التي قيلت في اسمه ، وفي الإصابة : ( وقال ابن الكلبي : اسمه عمرو بن مخصن ) ، المصبح : الذي صبحته الغارة ، وفي الأصل : ( المصيح ) صوابه في ح ( 2 : 278 ) ، والتثويب : الاستصراخ ، وأصله أن يلوح المستصرخ بثوبه ليرى ويشتهر ، ح : ( إذا ما صارخ الحي ) .

واقعة صفين _ 352 _

إذا الـخيل جالت ، بينها قصد iiالقنا      يـثرن عـجاجا سـاطعا مـتنصبا
لـقد فـجع الأنـصار طـرا iiبسيد      أخـي ثـقة فـي الصالحين iiمجربا
فـيارب خـير قـد أفـدت iiوجفنة      مـلأت  وقرن قد تركت مخيبا  (1)
ويـا رب خـصم قد رددت iiبغيظه      فـآب  ذلـيلا بـعد ما كان iiمغضبا
ورايـة  مـجد قـد حملت iiوغزوة      شـهدت إذا الـنكس الـجبان iiتهيبا
حـووطا عـلى جل العشيرة iiماجدا      ولم يك في الأنصار نكسا مؤنبا  (2)
طـويل عـمود الـمجد رحبا فناؤه      خصيبا  إذا ما رائد الحي أجدبا (3)
عـظيم رمـاد الـنار لم يك iiفاحشا      ولا فـشـلا يـوم الـقتال iiمـغلبا
وكـنت ربـيعا يـنفع الناس iiسيبه      وسـيفا  جـرازا باتك الحد iiمقضبا
فمن  يك مسرورا بقتل ابن iiمحصن      فـعاش  شـقيا ثـم مـات مـعذبا
وغــودر مـنكبا لـفيه iiووجـهه      يـعالج  رمـحا ذا سـنان iiوثـعلبا
فإن  تقتلوا الحر الكريم ابن iiمحصن      فـنحن  قـتلنا ذا الـكلاع iiوحوشبا
وإن تـقتلوا ابـني بـديل iiوهاشما      فـنحن  تـركنا منكم القرن iiأعضبا
ونـحن تـركنا حميرا في iiصفوفكم      لدى الموت صرعى كالنخيل iiمشذبا
وأفـلـتنا  تـحت الأسـنة مـرثد      وكـان  قـديما فـي الفرار iiمجربا
ونـحن تـركنا عـند مختلف iiالقنا      أخـاكم  عـبيد الله لـحما iiمـلحبا
بـصفين  لما ارفض عنه iiصفوفكم      ووجـه ابن عتاب تركناه ملغبا  (4)
---------------------------
(1) ح : ( مسلبا ) .
(2) ح : ( حويطا ) ، في الأصل : ( عضبا مشيبا ) وأثبت ما في ح .
(3) في الأصل : ( حصينا ) وصوابه في ح .
(4) ح : ( عنه رجالكم ) ، وألغبه : أنصبه .

واقعة صفين _ 353 _

وطـلحة  من بعد الزبير ولم iiندع      لضبة في الهيجا عريفا ومنكبا  (1)
ونـحن  أحـطنا بـالبعير iiوأهله      ونـحن سقيناكم سماما مقشبا  (2)
  نصر : وكان ابن محصن من أعلام أصحاب علي ( عليه السلام ) ، قتل في المعركة ، وجزع علي ( عليه السلام ) لقتله ، قال : وفي قتل هاشم بن عتبة يقول أبو الطفيل عامر بن واثلة ، وهو من الصحابة ، وقيل إنه آخر من بقي من صحب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وشهد مع علي ( عليه السلام ) صفين ، وكان من مخلصي الشيعة (3) :
يـا  هاشم الخير جزيت iiالجنة      قـاتلت فـي الله عـدو iiالسنه
والـتاركي  الحق وأهل iiالظنه      أعـظم بـما فزت به من iiمنه
صـيرني الـدهر كـأني iiشنه      ياليت أهلي قد علوني رنه  (4)
  من حوبـــة وعمــــة وكنه (5) نصر : والحوبة القرابة ، يقال لي في بني فلان حوبة أي قربي ، نصر ، عن عمرو بن شمر بإسناده قال : قال رجل يومئذ لعدي بن حاتم ـ وكان من جلة (6) أصحاب علي ( عليه السلام ) ـ : يا أبا طريف ، ألم أسمعك تقول يوم الدار :

---------------------------
(1) العريف : النقيب ، وهو دون الرئيس ، والمنكب ، كمجلس : عون العريف ، وقال الليث : رأس العرفاء .
(2) البعير ، يعني جمل عائشة الذي نسبت إليه الوقعة ، والمقشب : المخلوط .
(3) ترجمته سبقت في ص 309 .
(4) الرنة : صيحة النياحة ، وفي ح ( 2 : 279 ) : ، وسوف تعلو حول قبري رنه .
(5) الحوبة ، جاء في تفسيرها عن أبي عبيد : ( وبعض أهل العلم يتأوله على الأ ؟ خاصة ، قال : وهي عندي كل حرمة تضيع إن تركها ، من أم أو أخت أو ابنة أو غيرها ، والكنة ، بالفتح : امرأة الابن وامرأة الأخ .
(6) ح : ( جملة ) .

واقعة صفين _ 354 _

   والله لا تحبق فيها عناق حولية (1) ! ، وقد رأيت كان فيها (2) ؟ ـ وقد كانت فقئت عين عدي وقتل بنوه (3) ـ قال : بلى والله لقد حبقت (4) فيه العناق والتيس الأعظم ، وبعث علي خيلا ليحبسوا عن معاوية مادة ، فعبث معاوية الضحاك ابن قيس الفهري في خيل إلى تلك الخيل فأزالوها ، وجاءت عيون علي فأخبرته بما قد كان ، فقال علي لأصحابه : فما ترون فيما هاهنا ؟ فقال بعضهم : نرى كذا ، وقال بعضهم : نرى كذا ، فلما رأى ذلك الاختلاف أمرهم بالغدو إلى القوم ، فغاداهم إلى القتال قتال صفين ، فانهزم أهل الشام وقد غلب أهل العراق على قتلى أهل حمص ، وغلب أهل الشام على قتلى أهل العالية ، وانهزم عتبة بن أبي سفيان عشرين فرسخا عن موضع المعركة حتى أتى الشام ، فقال النجاشي من قصيدة أولها :
لـقد أمعنت يا عتب iiالفرارا      وأورثك الوغى خزيا iiوعارا
فلا يحمد خصاك سوى طمر      إذا  أجـريته انهمر iiانهمارا
  وقال كعب بن جعيل ، ( وهو شاعر أهل الشام ، بعد رفع المصاحف يذكر أيام صفين ويخرض معاوية ) :
معاوي لا تنهض بغير وثيقة      فإنك بعد اليوم بالذل iiعارف
---------------------------
(1) الحبق : ضراط المعز ، وفي الأصل : ( لا تخنق ) صوابه في ح ، والعناق ، بالفتح : الأنثى من ولد المعز ، والحولية : التي أتى عليها حول ، ويروى أيضا : ( لا تحبق في هذا الأمر عناق حولية ) قال الميداني : ( يضرب المثل في أمر لا يعبأ به ولا غير له ، أي لا يدرك فيه ثأر ) ، وأول من قال هذا المثل عدي حين قتل عثمان ، فيها : أي في هذه الحادثة .
(2) أي من وقعتي الجمل وصفين ، إذ طولب فيهما بدم عثمان .
(3) عند الميداني : ( فلما كان يوم الجمل فقئت عين عدي وقتل ابنه بصفين ) .
(4) في الأصل : ( خنقت ) صوابه في ح وأمثال الميداني .

واقعة صفين _ 355 _

تـركتم  عـبيد الله بـالقاع iiمسندا      يـمج  نـجيعا والـعروق iiنوازف
ألا  إنـما تـبكي الـعيون iiلفارس      بـصفين أجـلت خيله وهو iiواقف
يـنوء  وتـعلوه شـآبيب مـن دم      كما  لاح في جيب القميص iiاللفائف
يـحللن  عـنه زر درع iiحـصينة      ويـبدين عنه بعدهن معارف  (1)
تـبدل  مـن أسـماء أسياف iiوائل      وكان فتى لو أخطأته المتالف  (2)
الا  إن شـر الناس في الناس iiكلهم      بـنو  أسـد ، إني لما قلت iiعارف
وفـرت تـميم سـعدها iiوربـابها      وخالفت الجعراء فيمن يخالف  (3)
  فرد عليه أبو جهمة الأسدي فقال :
تـعـرفت  والـعراف تـمج iiأمـه      فـإن كنت عرافا فلست تقائف  (4)
أغـرتـم عـلينا تـسرقون iiبـناتنا      ولـيس  لـنا فـي قاع صفين iiقائف
يـجالد  مـن دون ابـن عـم محمد      مـن الـناس شهباء المناكب iiشارف
فـما بـرحوا حتى رأى الله iiصبرهم      وحتى أتيحت بالأكف المصاحف  (5)
---------------------------
(1) ح ( 1 : 498 ) : ( وأنكر منه بعد ذاك معارف ) .
(2) أسماء هذه هي بنت عطارد بن حاجب بن زرارة ، زوج عبيد الله بن عمر ، كان قد أخرجها مع زوجة الأخرى بحرية بنت هانئ بن قبيصة الشيباني ، لينظرا إلى قتاله ، كما في ح ( 1 : 499 ) .
(3) في الأصل : ( وجالت تميم ) وأثبت ما في ح ( 2 : 279 ) ، والجعراء : لقب بني العنبر بن عمرو بن تميم ، انظر القاموس ( جعر ) ، وفي الأصل : ( الجعداء ) صوابه ما أثبت من ح ، وقد سبق بعض أبيات هذه القصيدة في ص 298 ـ 299 ، وقال ابن أبي الحديد في ( 1 : 498 ) : ( قلت : هذا الشعر نظمه كعب بن جعيل بعد رفع المصاحف وتحكيم الحكمين يذكر فيه ما مضى لهم من الحرب على عادة شعراء العرب ) .
(4) تمج أمه ، كذا وردت في الأصل .
(5) هذا البيت وسابقه يرويان في شعر كعب بن جعيل ، كما سبق في 299 ، وهذا البيت أيضا يروى للحصين بن الحمام المري ، كما في اللسان ( 6 : 69 ) .

واقعة صفين _ 356 _

  وقال أبو جهمة الأسدي :
أنـا أبـو جـهمة فـي جلد iiالأسد      عـلـي مـنـه لـبد فـوق لـبد
أهجو بني تغلب ما ينجي النقد  (1)       أقـود مـن شـئت وصعب لم يقد
  وقال عتبة يهجو كعب بن جعيل مجيبا له (2) :
سـميت كـعبا بشر iiالعظام      وكان أبوك سمى الجعل  (3)
وكـان مكانك  (4)  من iiوائل      مكان القراد من است iiالجمل
  وقال كعب مجيبا له : ، سميت عتابــا ولســت بمعتب ، ثم إن عليا أمر مناديه فنادى في الناس : أن اخرجوا إلى مصافكم . فخرج الناس إلى مصافهم ، واقتتل الناس ، وأقبل أبو الأعور السلمي يقال :
أضربهم ولا أرى عليا      كـفى بهذا حزنا iiعليا
  وأقبل عبد الرحمن بن خالد وهو يقول :
أنا عبد الرحمن وابن خالد      أضـرب  كل قدم iiوساعد
---------------------------
(1) النقد ، بالتحريك : جنس من الغنم قباح الوجوه صغار الأرجل ، يقال فيها : ( أذل من نقد ) .
(2) ح ( 2 : 280 : ( وهجا كعب بن جعيل عتبة بن أبي سفيان وعيره بالفرار ، وكان كعب من شيعة معاوية لكنه هجا عتبة تحريضا له ) ، على أن البيتين يرويان للأخطل ، نظر ديوانه 335 ، وشرح الحيوان ( 5 : 441 ) حيث تخريج الشعر .
(3) ح : ( يسمى الجعل ) .
(4) ح : ( وإن مكانك ) ، وفي الحيوان : ( وأنت مكانك ) ويروى : ( وإن محلك ) .

واقعة صفين _ 357 _

  نصر : ثم كانت بين الفريقين الواقعة المعروفة ( وقعة الخميس ) ، حدثنا بها عمر بن سعد ، عن سليمان الأعمش ، عن إبراهيم الهجري (1) قال : حدثنا القعقاع بن الأبرد الطهوي قال : والله إني لواقف قريبا من علي بصفين يوم وقعة الخميس وقد التقت مذحج ـ وكانوا في ميمنة علي ـ وعك وجذام ولخم والأشعرون ، وكانوا مستبصرين في قتال علي ، ولقد والله رأيت ذلك اليوم من قتالهم ، وسمعت من وقع السيوف على الرؤوس ، وخبط الخيول بحوافرها في الأرض وفي القتلى ، ما الجبال تهد (2) ولا الصواعق تصعق بأعظم هولا في الصدور من ذلك الصوت ، نظرت إلى علي وهو قائم فدنوت منه ، فسمعته يقول : ( لا حول ولا قوة إلا بالله (3) ، والمستعان الله ) ، ثم نهض حين قام قائم الظهيرة وهو يقول : ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين (4) : وحمل على الناس بنفسه ، وسيفه مجرد بيده ، فلا والله ما حجز بيننا إلا الله رب العالمين ، في قريب من ثلث الليل ، وقتلت يومئذ أعلام العرب ، وكان في رأس علي ثلاث ضربات ، وفي وجهه ضربتان ، نصر : وقد قيل إن عليا لم يجرح قط ، وقتل في هذا اليوم خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين (5) .

---------------------------
(1) هو إبراهيم بن مسلم العبدي ، أبو إسحاق الهجري ، قال ابن حجر : ( لين الحديث ، رفع موقوفات ، من الخامسة ) تقريب التهذيب ، وفي ح : ( إبراهيم النخغي ) تحريف .
(2) الهدة : صوت تسمعه من سقوط ركن أو حائط أو ناحية جبل ، تقول منه : هد يهد ، بالكسر ، هديدا .
(3) بعده في ح : ( اللهم إليك الشكوى وأنت المستعان ) .
(4) من الآية 89 في سورة الأعراف .
(5) هو خزيمة بن ثابت بن الفاكه الأنصاري ، شهد بدرا وما بعدها ، وسمى ذا الشهادتين لأنه شهد للنبي على يهودي في دين قضاه ( عليه السلام ) فقال : ( كيف تشهد ولم تحضره ولم تعلمه ) ؟ قال : يا رسول الله نحن نصدقك على الوحي من السماء فكيف لا نصدقك على أنك قضيته ؟ فأنفذ (عليه السلام ) شهادته وسماه ( ذا الشهادتين ) ، لأنه صير شهادته شهادة رجلين ، الإصابة 2247 وجني الجنتين 160 .

واقعة صفين _ 358 _

يـا لـهف نفسي ومن يشفي حزازتها      إذا  أفـلت الـفاسق الـضليل منطلقا
وأفـلت  الـخيل عمرو وهي iiشاحبة      جنح الظلام يحث الركض والعنقا  (1)
وافـت  مـنية عـبد الله إذ iiلـحقت      قـب  الـبطون به ، أعجز بمن iiلحقا
وانـساب  مروان في الظلماء iiمستترا      تـحت  الدجى كلما خاف الردى iiأرقا
  قال : وقال مالك الأشتر :
نـحن  قـتلنا iiحـوشبا      لـما غـدا قـد أعـلما
وذا  الـكـلاع قـبـله      ومـعـبدا  إذ iiأقـدمـا
إن تقتلوا منا أبا ال‍يقظان      شـيـخـا iiمـسـلـما
فـقـد قـتـلنا iiمـنكم      سـبعين رأسـا iiمجرما
أضـحوا بـصفين iiوقد      لاقـوا  نـكالا iiمـؤثما
  وقال عامر بن الأمين السلمي :
كـيف  الحياة ولا أراك iiحزينا      وغـبرت  في فتن كذاك iiسنينا
ونـسيت  تلذاذ الحياة iiوعشيها      وركـبت من تلك الأمور iiفنونا
ورجعت قد أبصرت أمري iiكله      وعـرفت  ديني إذ رأيت iiيقينا
أبـلغ مـعاوية الـسفيه iiبأنني      فـي  عصبة ليسوا لديك iiقطينا
لا يـغضبون لـغير ابن iiنبيهم      يرجون فوزا ، إن لقوك ، ثمينا
  وقال عبد الله بن يزيد بن عاصم الأنصاري يرثي من قتل من أصحابه :
يا عين جودي على قتلى بصفينا      أضحوا  رفاتا وقد كانوا iiعرانينا
---------------------------
(1) ح : ( تحت العجاج تحث ) .

واقعة صفين _ 359 _

أنـي  لهم صرف دهر قد iiأضربنا      تـبا  لقاتلهم في اليوم مدفونا  (1)
كـانوا  أعـزة قـومي قد iiعرفتهم      مأوى الضعاف وهم يعطون ماعونا
أعـزز بـمصرعهم تـبا لـقاتلهم      عـلى الـنبي وطـوبى iiللمصابينا
  وقال النضر بن عجلان الأنصاري :
قـد  كنت عن صفين فيما قد iiخلا      وجـنود  صـفين لـعمري iiغافلا
قـد كـنت حـقا لا أحـاذر iiفتنة      ولـقد أكـون بـذاك حـقا iiجاهلا
فـرأيت فـي جمهور ذلك iiمعظما      ولقيت من لهوات ذاك عياطلا  (2)
كـيف الـتفرق والـوصي iiإمامنا      لا  كـيـف إلا حـيرة iiوتـخاذلا
لا  تـعتبن عـقولكم لا خـير في      مـن  لـم يكن عند البلابل iiعاقلا
وذروا مـعاوية الـغوى iiوتـابعوا      ديـن الـوصي تـصادفوه iiعاجلا
  وقالت أمينة الأنصارية ترثي مالكا :
مـنع الـيوم أن أذوق iiرقـادا      مـالك إذ مـضى وكان iiعمادا
يـا  أبـا الهيثم بن تيهان iiإني      صـرت  لـلهم معدنا iiووسادا
إذ  غـدا الفاسق الكفور iiعليهم      إنــه كـان مـثلها iiمـعتادا
أصبحوا مثل من ثوى يوم أحد      يـرحم  الله تـلكم iiالأجـسادا
  وقالت ضبيعة بنة خزيمة بن ثابت ترثي أباها (3) صاحب الشهادتين :
عين جودي على خزيمة بالدم‍ع      قـتيل  الأحـزاب يوم الفرات
قـتلوا  ذا الـشهادتين iiعـتوا      أدرك الله مـنـهم iiبـالـترات
قـتلوه فـي فـتية غير iiعزل      يـسرعون  الركوب iiللدعوات
---------------------------
(1) أني يأني : حان وقته ، وفي الأصل : ( أنالهم ) تحريف .
(2) يقال هضبة عيطل : طويلة .
(3) في الأصل : ( في خزيمة أباها ) صوابه في ح ( 2 : 280 ) .