--------------------------- (1) ح ( 1 : 253 ) : ( ممن لا يتهم ) . (2) ح : ( وخليفة عثمان وقد قتل وأنا ابن عمه ووليه ) . واقعة صفين _ 81 _
قال : فقام كعب بن مرة السلمي وفي المسجد يومئذ أربعمائة رجل أو نحو ذلك من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فقال : ( والله لقد قمت مقامي هذا وإني لأعلم أن فيكم من هو أقدم صحبة لرسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مني ، ولكني قد شهدت من رسول الله مشهدا لعل كثيرا منكم لم يشهده ، وإنا كنا مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) نصف النهار في يوم شديد الحر فقال : ( لتكونن فتنة حاضرة ) ، فمر رجل مقنع فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : هذا المقنع يومئذ على الهدى قال : فقمت فأخذت بمنكبيه (1) وحسرت عن رأسه فإذا عثمان ، فأقبلت بوجهه إلى رسول الله فقلت : هذا يارسول الله ؟ قال : ( نعم ) ، فأصفق أهل الشام على معاوية ، وبايعوه على الطلب بدم عثمان أميرا لا يطمع في الخلافة ، ثم الأمر شورى ، وفي حديث محمد بن عبيد الله عن الجرجاني قال : لما قدم عبيد الله بن عمر بن الخطاب على معاوية بالشام ، أرسل معاوية إلى عمرو بن العاص فقال :
( يا عمرو ، إن الله قد أحيا لك عمر بن الخطاب بالشام بقدوم عبيد الله ابن عمر ، وقد رأيت أن أقيمه خطيبا فيشهد على علي بقتل عثمان ، وينال منه ) ، فقال : الرأي ما رأيت ، فبعث إليه فأتى ، فقال له معاوية : يا ابن أخي ، إن لك اسم أبيك ، فانظر بملء عينيك ، وتكلم بكل فيك (2) فأنت المأمون المصدق ! فا ( صعد المنبر ) ، واشتم عليا واشهد عليه أنه قتل عثمان ، فقال : يا أمير المؤمنين (3) أما شتميه فإنه علي بن أبي طالب ، وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم ، فما عسى أن أقول في حسبه ، وأما بأسه فهو الشجاع المطرق .
--------------------------- (1) ح : ( بمنكبه ) . (2) ح ( 1 : 256 ) : ( وانطق بملء فيك ) . (3) ح : ( أيها الأمير ) . واقعة صفين _ 82 _
وأما أيامه فما قدمت عرفت : ولكني ملزمه دم عثمان ، فقال عمرو ( بن العاص ) : إذا والله قد نكأت القرحة (1) ، فلما خرج عبيد الله قال معاوية : أما والله لولا قتله الهرمزان ، ومخافة علي على نفسه (2) ما أتانا أبدا ، ألم تر إلى تقريظه عليا ؟ ! فقال عمرو : ( يا معاوية ، إن لم تغلب فاخلب ) ، فخرج حديث إلى عبيد الله ، فلما قام خطيبا تكلم بحاجته ، حتى إذا أتى إلى أمر علي أمسك ( ولم يقل شيئا ) ، فقال له معاوية (3) : ابن أخي (4) ، إنك بين عي أو خيانة ! فبعث إليه : كرهت أن أقطع الشهادة على رجل لم يقتل عثمان ، وعرفت أن الناس محتملوها عني ( فتركتها ) ، فهجره معاوية ، واستخف بحقه ، وفسقه فقال عبيد الله :
--------------------------- (1) ح : ( قد وأبيك إذن نكأت القرحة ) . (2) ح : ( ومخافته عليا على نفسه ) . (3) ح : ( فلما نزل بعث إليه معاوية ) . (4) في الأصل : ( ابن أخ ) تحريف ، والمنادي إذا كان مضافا إلى مضاف إلى الياء فالياء ثابتة لا غير كقولك : ( يا ابن أخي ) و ( يا ابن خالي ) إلى إن كان ( ابن أم ) أو ( ابن عم ) ففيهما مذاهب . (5) لم أخرص : لم أكذب ، وفي الأصل وح : ( لم أحرص ) تحريف . واقعة صفين _ 83 _
--------------------------- (1) الشحناء : البغض والعداوة ، وفي الأصل : ( أجدع بالشحناء ) : وفي ح : ( كذاب وما طبعي سجايا المكاذب ) ، وجه هذه ( وما طبي ) . (2) البيت لم يرو في ح ، وفي صدره تحريف . (3) ح : ( ولكنه قد حزب القوم حوله ) . (4) الآهال : جمع أهل ، وأنشد الجوهري : ، وبلدة ما الجن من آهالها . واقعة صفين _ 84 _
فلما بلغ معاوية شعره بعث إليه فأرضاه وقربه وقال : ( حسبي هذا منك ) ، نصر ، عن عمر بن سعد عن أبي ورق ، أن ابن عمر بن مسلمة الأرحبي أعطاه كتابا في إمارة الحجاج بكتاب من معاوية إلى علي ، قال : وإن أبا مسلم الخولاني (1) قدم إلى معاوية في أناس من قراء أهل الشام ،
( قبل مسير أمير المؤمنين ( عليه السلام ) إلى صفين ، ) فقالوا ( له ) : يا معاوية علام تقاتل عليا ، وليس لك مثل صحبته ولا هجرته ولا قرابته ولا سابقته ؟ قال لهم : ما أقاتل عليا وأنا أدعى أن لي في الإسلام مثل صحبته ولا هجرته ولا قرابته ولا سابقته ، ولكن خبروني عنكم ، ألستم تعلمون أن عثمان قتل مظلوما ؟ قالوا : بلى ، قال : فليدع إلينا (2) قتلته فنقتلهم به ، ولا قتال بيننا وبينه ، قالوا : فاكتب ( إليه ) كتابا يأتيه ( به ) بعضنا ، فكتب إلى علي هذا الكتاب مع أبي مسلم الخولاني ، فقدم به على علي ، ثم قام أبو مسلم خطيبا فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : ( أما بعد فإنك قد قمت بأمر وتوليته (3) ، والله ما أحب أنه لغيرك إن أعطيت الحق من نفسك ، إن عثمان قتل مسلما محرما (4) مظلوما ، فادفع إلينا قتلته ، وأنت أميرنا ، فإن خالفك أحد من الناس كانت أيدينا لك ناصرة ، وألسنتنا لك شاهدة ، وكنت ذا عذر وحجة ) .
--------------------------- (1) أبو مسلم الخولاني الزاهد الشامي هو عبد الله بن ثوب ، بضم المثلثة وفتح الواو ، وقيل بإشباع الواو ، وقيل ابن أثوب بوزن أحمر ، ويقال ابن عوف وابن مشكم ، ويقال اسمه يعقوب بن عوف ، وكان ممن رحل إلى النبي فلم يدركه ، وعاش إلى زمن يزيد بن معاوية ، انظر تقريب التهذيب 612 والمعارف 194 ، وفي الأصل : ( الحولاني ) بالمهملة ، صوابه بالخاء المعجمة ، كما في ح ( 3 : 407 ) نسبة إلى خولان ، بالفتح ، إحدى قبائل اليمن . (2) ح ( 3 : 407 ) : ( فليدفع إلينا ) . (3) ح : ( 3 : 408 ) : ( وليته ) . (4) محرما : أي له حرمة وذمة ، أو أراد أنهم قتلوه في آخر ذي الحجة ، وقال أبو عمرو : واقعة صفين _ 85 _
فقال له على : اغد على غدا ، فخذ جواب كتابك ، فانصرف ثم رجع من الغد ليأخذ جواب كتابه فوجد الناس قد بلغهم الذي جاء فيه ، فلبست الشيعة أسلحتها ثم غدوا فملؤوا المسجد وأخذوا ينادون : كلنا قتل ابن عفان ( وأكثروا من النداء بذلك ) ، وأذن لأبي مسلم فدخل على علي أمير المؤمنين فدفع إليه جواب كتابه معاوية ، فقال له أبو مسلم : قد رأيت قوما ما لك معهم أمر ، قال : وما ذاك ؟ قال : بلغ القوم أنك تريد أن تدفع إلينا قتلة عثمان فضجوا واجتمعوا ولبسوا السلاح وزعموا أنهم كلهم قتلة عثمان ، فقال علي : ( والله ما أردت أن أدفعهم إليك طرفة عين ، لقد ضربت هذا الأمر أنفه وعينيه ما رأيته ينبغي لي أن أدفعهم إليك ولا إلى غيرك ) ، فخرج بالكتاب وهو يقول : الآن طاب الضراب ، وكان كتاب معاوية إلى علي ( عليه السلام ) (1) : ( بسم الله الرحمن الرحيم ) من معاوية بن أبي سفيان إلى علي بن أبي طالب ، سلام عليك ، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ، أما بعد فإن الله اصطفى محمدا بعلمه ، وجعله الأمين على وحيه ، والرسول إلى خلقه ، واجتبى له من المسلمين أعوانا أيده الله بهم ، فكانوا في منار لهم عنده على قدر فضائلهم في الإسلام ، فكان أفضلهم في إسلامه ، وأنصحهم لله ولرسوله الخليفة من بعده ، وخليفة خليفته ، والثالث الخليفة المظلوم عثمان ، فكلهم حسدت ، وعلى كلهم بغيت ،
أي صائما ، ويقال أراد لم يحل بنفسه شيئا يوقع به ، فهو محرم ، وبكل هذه التأويلات فسر بيت الراعي ، الذي أنشده صاحب اللسان ( 15 : 13 ) : قتلوا ابن عفان الخليفة محرما ، ودعا فلم أر مثله مقتولا وانظر خزانة الأدب ( 1 : 503 ـ 504 ) .
--------------------------- (1) انظر هذا الكتاب أيضا في العقد ( 3 : 107 ) . واقعة صفين _ 86 _
عرفنا ذلك في نظرك الشزر ، وفي قولك الهجر ، وفي تنفسك الصعداء ، وفي إبطائك عن الخلفاء ، تقاد إلى كل منهم كما يقاد الفحل المخشوش (1) حتى تبايع وأنت كاره ، ثم لم تكن لأحد منهم بأعظم حسدا منك لابن عمك عثمان ، وكان أحقهم ألا تفعل به ذلك في قرابته وصهره ، فقطعت رحمه ، وقبحت محاسنه ، وألبت الناس عليه ، وبطنت وظهرت ، حتى ضربت إليه آباط الإبل ، وقيدت إليه الخيل العراب ، وحمل عليه السلاح في حرم رسول الله ، فقتل معك في المحلة وأنت تسمع في داره الهائعة (2) ، لا تردع الظن والتهمة عن نفسك فيه بقول ولا فعل ، فأقسم صادقا أن لو قمت فيما كان من أمره مقاما واحدا تنهنه الناس عنه ما عدل بك من قبلنا من الناس أحدا ، ولمحا ذلك عندهم ما كانوا يعرفونك به من المجانبة لعثمان والبغي عليه ، وأخرى أنت بها عند أنصار عثمان ظنين : إيواؤك قتلة عثمان ، فهم عضدك وأنصارك ويدك وبطانتك (3) ، وقد ذكر لي أنك تنصل من دمه ، فإن كنت صادقا فأمكنا من قتلته نقتلهم به ، ونحن أسرع ( الناس ) إليك ، وإلا فإنه فليس لك ولا لأصحابك إلا السيف ، والذي لا إله إلا هو لنطلبن قتلة عثمان في الجبال والرمال ، والبر والبحر ، حتى يقتلهم الله ، أو لتلحقن أرواحنا بالله ، والسلام .
--------------------------- (1) المخشوش : الذي جعل في عظم أنفه الخشاش ، وهو بالكسر ، عويد يجعل في أنف البعير يشد به الزمام ليكون أسرع في انقياده . (2) الهائعة : الصوت الشديد . (3) بطانة الرجل : خاصته وصاحب سره ، وفي الأصل : ( بطاشك ) صوابه في ح . واقعة صفين _ 87 _
فكتب إليه علي (عليه السلام ) : بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى معاوية بن أبي سفيان ، أما بعد فإن أخا خولان قدم على بكتاب منك تذكر فيه محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وما أنعم الله عليه به من الهدى والوحي ، والحمد لله الذي صدقه الوعد ، وتمم له النصر (1) ، ومكن له في البلاد ، وأظهره على أهل العداء (2) والشنآن ، من قومه الذين وثبوا به ، وشنفوا له (3) ، وأظهروا له التكذيب ، وبارزوه بالعداوة ، وظاهروا على إخراجه وعلى إخراج أصحابه ( وأهله ) ، وألبوا عليه العرب ، وجامعوهم على حربه ، وجهدوا في أمره كل الجهد ، وقلبوا له الأمور حتى ظهر أمر الله وهم كارهون ، وكان أشد الناس عليه ألبة (4) أسرته والأدنى فالأدنى من قومه إلا من عصمه الله (5) يا ابن هند ، فلقد خبأ لنا الدهر منك عجبا ، ولقد قدمت فأفحشت ، إذ طفقت تخبرنا عن بلاء الله تعالى في نبيه محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وفينا ، فكنت في ذلك كجالب التمر إلى هجر ، أو كداعي مسدده إلى النضال (6) .
--------------------------- (1) ح : ( وأيده بالنصر ) . (2) في الأصل : ( العدى ) تحريف ، وفي ح : ( العداوة ) . (3) شنف له يشنف شنفا ، من باب تعب : أبغضه ، وفي الحديث في إسلام أبي ذر : ( فإنهم قد شنفوا له ) ، أي أبغضوه . (4) الألبة : المرة من الألب ، وهو التحريض ، والذي في ح : ( تأليبا وتحريضا ) . (5) الكلام بعد هذه إلى كلمة : ( النضال ) لم يرد في ح . (6) التسديد : التعليم ، أي كمن يدعو من علمه النضال إلى النضال . واقعة صفين _ 88 _
وذكرت أن الله اجتبى له من المسلمين أعوانا أيده الله بهم ، فكانوا في منازلهم عنده عل قدر فضائلهم في الإسلام ، فكان أفضلهم ـ زعمت ـ في الإسلام ، وأنصحهم لله ورسوله الخليفة ، وخليفة الخليفة ، ولعمري إن مكانهما من الإسلام لعظيم ، وإن المصاب بهما لجرح في الإسلام شديد ، رحمهما الله وجزاهما بأحسن الجزاء (1) ، وذكرت أن عثمان كان في الفضل ثالثا (2) ، فإن يكن عثمان محسنا فسيجزيه الله بإحسانه ، وإن يك مسيئا فسيلقي ربا غفورا لا يتعاظمه ذنب أن يغفره ، ولعمر الله إني لأرجو إذا أعطى الله الناس على قدر فضائلهم في الإسلام ونصيحتهم لله ورسوله أن يكون نصيبنا في ذلك الأوفر ، إن محمدا ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لما دعا إلى الإيمان بالله والتوحيد كنا ـ أهل البيت ـ أول من آمن به ، وصدق بما جاء به ، فلبثنا أحوالا مجرمة (3) وما يعبد الله في ربع ساكن من العرب غيرنا ، فأراد قومنا قتل نبينا ، واجتياح أصلنا ، وهموا بنا الهموم ، وفعلوا بنا الأفاعيل ، فمنعونا الميرة ، وأمسكوا عنا العذب (4) ، وأحلسونا الخوف (5) ، وجعلوا علينا الأرصاد والعيون ، واضطرونا إلى جبل وعر ، وأوقدوا لنا نار الحرب ، وكتبوا علينا بينهم كتابا لا يواكلونا ولا يشاربونا ولا يناكحونا ولا يبايعونا ولا نأمن فيهم حتى ندفع النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فيقتلوه ويمثلوا به .
--------------------------- (1) ح : ( وجزاهما أحسن ما عملا ) . (2) ح : ( تاليا ) : (3) أي سنين كاملة ، والمجرمة ، بتشديد الراء المفتوحة . (4) الميرة ، بالكسر : ما يجلب من الطعام ، والعذب ، عنى به الماء العذب . (5) أي ألزموناه ، انظر ح ( 3 : 304 ) ، وفي الأصل : « وأحلسوا » صوابه في ح ( 3 : 303 ، 408 ) . واقعة صفين _ 89 _
فلم نكن نأمن فيهم إلا من موسم إلى موسم ، فعزم الله لنا على منعه ، والذب عن حوزته ، والرمي من وراء حرمته ، والقيام بأسيافنا دونه في ساعات الخوف بالليل والنهار (1) ، فمؤمننا يرجو بذلك الثواب ، وكافرنا يحامي به عن الأصل ، فأما من أسلم من قريش بعد فإنهم مما نحن فيه أخلياء ، فمنهم حليف ممنوع ، أو ذو عشيرة تدافع عنه فلا يبغيه أحد بمثل ما بغانا به قومنا من التلف ، فهم من القتل بمكان نجوة وأمن ، فكان ذلك ما شاء الله أن يكون ، ثم أمر الله رسوله بالهجرة ، وأذن له بعد ذلك في قتال المشركين ، فكان إذا احمر البأس ودعيت نزال أقام أهل بيته فاستقدموا ، فوقى بهم أصحابه حر الأسنة والسيوف ، فقتل عبيدة (2) يوم بدر ، وحمزة يوم أحد ، وجعفر وزيد يوم مؤتة ، وأراد لله من لو شئت ذكرت اسمه مثل الذي أرادوا من الشهادة مع النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) غير مرة ، إلا أن آجالهم عجلت ، ومنيته أخرت ، والله مولى الإحسان إليهم ، والمنان عليهم ، بما قد أسلفوا من الصالحات ، فما سمعت بأحد ولا رأيت فيهم من هو أنصح لله في طاعة رسوله ، ولا أطوع لرسوله في طاعة ربه ، ولا أصبر على اللأواء والضراء وحين البأس ومواطن المكروه مع النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من هؤلاء النفر الذين سميت لك . وفي المهاجرين خير كثير نعرفه (3) ، جزاهم الله بأحسن أعمالهم ، وذكرت (4) حسدي الخلفاء ، وإبطائي عنهم ، وبغيي عليهم ، فأما البغي فمعاذ الله أن يكون ، وأما الإبطاء عنهم والكراهة لأمرهم فلست أعتذر منه إلى الناس ، لأن الله جل ذكره لما قبض نبيه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قالت قريش : منا أمير ، وقالت الأنصار : منا أمير ، فقالت قريش : منا محمد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فنحن أحق بذلك الأمر ، فعرفت ذلك الأنصار فسلمت لهم الولاية والسلطان ، فإذا استحقوها بمحمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) دون الأنصار فإن أولى الناس بمحمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أحق بها منهم ، وإلا فإن الأنصار أعظم العرب فيها نصيبا فلا أدري أصحابي سلموا من أن يكونوا حقي أخذوا ، أو الأنصار ظلموا ، ( بل ) عرفت أن حقي هو المأخوذ ، وقد تركته لهم تجاوز الله عنهم .
--------------------------- (1) في الأصل : ( والليل والنهار ) ، وأثبت ما في ح . (2) هو عبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف ، وهو أول من عقدت له راية في الإسلام ، انظر الإصابة 5367 ، وقد تزوج الرسول الكريم زوجته زينب بنت خزيمة بعده ، انظر المعارف 59 . (3) ح ( 3 : 409 ) : ( خير كثير يعرف ) . (4) في الأصل : ( فذكرت ) صوابه بالواو ، كما في ح . واقعة صفين _ 90 _
وأما ما ذكرت من أمر عثمان وقطيعتي رحمه ، وتأليبي عليه فإن عثمان عمل ما ( قد ) بلغك ، فصنع الناس ( به ) ما قد رأيت وقد علمت ، إني كنت في عزلة عنه ، إلا أن تتجني ، فتجن ما بدا لك ، وأما ما ذكرت من أمر قتله عثمان فإني نظرت في هذا الأمر وضربت أنفه وعينيه فلم أر دفعهم إليك ولا إلى غيرك ، ولعمري لئن لم تنزع عن غيك وشقاقك لتعرفنهم عن قليل يطلبونك ، ولا يكلفونك أن تطلبهم في بر ولا بحر ، ولا جبل ولا سهل ، وقد كان أبوك أتاني حين ولي الناس أبا بكر فقال : أنت أحق بعد محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بهذا الأمر ، وأنا زعيم لك بذلك على من خالف عليك ، ابسط يدك أبايعك ، فلم أفعل ، وأنت تعلم أن أباك قد كان قال ذلك وأراده حتى كنت أنا الذي أبيت ؛ لقرب عهد الناس بالكفر ، مخافة الفرقة بين أهل الإسلام ، فأبوك كان أعرف بحقي منك ، فإن تعرف من حقي ما كان يعرف أبوك تصب رشدك ، وإن لم تفعل فسيغني الله عنك والسلام .
آخر الجزء الثاني من أصل عبد الوهاب نصر بن مزاحم ، عن عمر بن سعد ، عن إسماعيل بن يزيد ، والحارث بن حصيرة ، عن عبد الرحمن بن عبيد بن أبي الكنود قال : لما أراد علي المسير إلى أهل الشام دعا إليه من كان معه من المهاجرين والأنصار ، فحمد الله وأثنى عليه وقال : ( أما بعد فإنكم ميامين الرأي ، مراجيح الحلم ، مقاويل بالحق ، مباركو الفعل والأمر ، وقد أردنا المسير إلى عدونا ، وعدوكم فأشيروا علينا برأيكم ) ، فقام هاشم بن عتبة بن أبي وقاص ، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال : ( أما بعد يا أمير المؤمنين فأنا بالقوم جد خبير ، هم لك ولأشياعك أعداء ، وهم لمن يطلب حرث الدنيا أولياء ، وهم مقاتلوك ومجاهدوك (1) لا يبقون (2) جهدا ، مشاحة على الدنيا ، وضنا بما في أيديهم منها ، وليس لهم إربة غيرها إلا ما يخدعون به الجهال من الطلب بدم عثمان بن عفان (3) ، كذبوا ليسوا بدمه يثأرون (4) ولكن الدنيا يطلبون ، فسر بنا إليهم (5) ، فإن أجابوا إلى الحق فليس بعد الحق إلا الضلال ، وإن أبو إلا الشقاق فذلك الظن بهم (6) ، والله ما أراهم يبايعون وفيهم أحد ممن يطاع إذا نهى ، و ( لا ) يسمع إذا أمر ) ، نصر : عمر بن سعد ، عن الحارث بن حصيرة ، عن عبد الرحمن بن عبيد ابن أبي الكنود ، أن عمار بن ياسر قام فذكر الله بما هو أهله ، وحمده وقال : يا أمير المؤمنين ، إن استطعت ألا تقيم يوما واحدا (فافعل ) . --------------------------- (1) ح ( 1 : 278 ) : ( ومجادلوك ) لعل هذه : ( ومجالدوك ) . (2) ح : ( لا يبغون ) تحريف . (3) ح : ( من طلب دم ابن عفان ) . (4) ح : ( ليسوا لدمه ينفرون ) . (5) ح : ( انهض بنا إليهم ) . (6) ح : ( فذاك ظني بهم ) . واقعة صفين _ 91 _
شخص بنا قبل استعار نار الفجرة ، واجتماع رأيهم على الصدود والفرقة ، وادعهم إلى رشدهم وحظهم ، فإن قبلوا سعدوا ، وإن أبوا إلا حربنا فوالله إن سفك دمائهم ، والجد في جهادهم ، لقربة عند الله ، وهو كرامة منه ، وفي هذا الحديث : ثم قام قيس بن سعد بن عبادة فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : ( يا أمير المؤمنين ، انكمش بنا إلى عدونا ولا تعرد (1) ، فوالله لجهادهم أحب إلى من جهاد الترك والروم ؛ لإدهانهم في دين الله (2) ، واستذلالهم أولياء الله من أصحاب محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، من المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان ، إذا غضبوا على رجل حبسوه أو ضربوه أو حرموه أو سيروه (3) ، وفيئنا لهم في أنفسهم حلال ، ونحن لهم ـ فيما يزعمون ـ قطعين (4) ، قال : يعني رقيق ، فقال أشياخ الأنصار ، منهم خزيمة بن ثابت ، وأبو أيوب الأنصاري وغيرهما : لم تقدمت أشياخ قومك وبدأتهم يا قيس بالكلام ؟ فقال : أما إني عارف بفضلكم ، معظم لشأنكم ، ولكني وجدت في نفسي الضغن الذي جاش في صدوركم حين ذكرت الأحزاب ، فقال بعضهم لبعض : ليقم رجل منكم فليجب أمير المؤمنين عن جماعتكم ، فقالوا : قم يا سهل بن حنيف ، فقام سهل فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : ( يا أمير المؤمنين ، نحن سلم لمن سالمت ، وحرب لمن حاربت ، ورأينا رأيك ونحن كف يمينك ، وقد رأينا أن تقوم بهذا الأمر في أهل الكوفة ، فتأمرهم بالشخوص ، وتخبرهم بما صنع الله لهم في ذلك من الفضل ؛ فإنهم هم أهل البلد وهم الناس ، فإن استقاموا لك استقام لك الذي تريد وتطلب ، وأما نحن فليس عليك منا خلاف ، متى دعوتنا أجبناك ، ومتى أمرتنا أطعناك ) .
--------------------------- (1) الانكماش : الإسراع والجد ، والتعريد : الفرار والإحجام والانهزام . ح : ( ولا تعرج ) . (2) الإدهان : الغش والمصانعة ، وفي التنزيل العزيز : ( ودوا لو تدهن فيدهنون ) . (3) في اللسان : ( سيره من بلده : أخرجه وأجلاه ) . (4) القطين : الخدم والأتباع والحشم والمماليك . واقعة صفين _ 92 _
نصر : عمر بن سعد ، عن أبي مخنف ، عن زكريا بن الحارث ، عن أبي حشيش (1) ، عن معبد قال : قام علي خطيبا على منبره ، فكنت تحت المنبر حين حرض الناس وأمرهم بالمسير إلى صفين لقتال أهل الشام ، فبدأ فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : ( سيروا إلى أعداء الله ، سيروا إلى أعداء ) السنن والقرآن ، سيروا إلى بقية الأحزاب ، قتلة المهاجرين والأنصار ) ، فقام رجل من بني فزارة يقال له أربد فقال : أتريد أن تسيرنا إلى إخواننا من أهل الشام فنقتلهم لك ، كما سرت بنا إلى إخواننا من أهل البصرة فقتلناهم ، كلا ، ها الله إذا لا نفعل ذلك (2) ، فقام الأشتر فقال : من لهذا إيها الناس (3) ؟ وهرب الفزاري واشتد الناس على أثره ، فلحق بمكان من السوق تباع فيه البراذين ، فوطئوه بأرجلهم وضربوه بأيديهم ونعال سيوفهم (4) حتى قتل ، فأتى علي فقيل : يا أمير المؤمنين ، قتل الرجل ، قال : ومن قتله ؟ قالوا : قتلته همدان وفيهم شوبة من الناس (5) .
--------------------------- (1) ح ( 1 : 279 ) : ( أبي خشيش ) . (2) ها التنبيه ، قد يقسم بها ، كما هنا ، قال ابن منظور : ( إن شئت حذفت الألف التي بعد الهاء ، وإن شئت أثبت ) . (3) ح : ( من هذا المأزق ) . (4) نعل السيف : ما يكون في أسفل جفنه من حديدة أو فضة . (5) ح : ( ومعهم شوب من الناس ) . واقعة صفين _ 93 _
فقال : قتيل عمية لا يدري من قتله (1) ، ديته من بيت مال المسلمين ، وقال علاقة التيمي (2) :
--------------------------- (1) العمية ، بكسر العين وتشديد الميم المكسورة والياء المفتوحة المشددة ، ويقال أيضا ( عميا ) بوزنه مع القصر ، أي ميتة فتنة وجهالة . (2) بدلها في ح : ( فقال بعض بني تيم اللات بن ثعلبة ) . (3) الخلاق ، بالفتح : الحظ والنصيب من الخير . واقعة صفين _ 94 _
وقام ابن المعتم فتكلم ، وتكلم القوم الذين دخلوا معهما بمثل ما تكلم به ، فحمد على الله وأثنى عليه ، وقال : ( أما بعد فإن الله وارث العباد والبلاد ، ورب السموات السبع والأرضين السبع ، وإليه ترجعون ، يؤتي الملك من يشاء وينزعه ممن يشاء ، ويعز من يشاء ويذل من يشاء ، أما الدبرة فإنها على ( الضالين ) العاصين ، ظفروا أو ظفر بهم ، وايم الله إني لأسمع كلام قوم ما أراهم يريدون أن يعرفوا معروفا ، ولا ينكروا منكرا ) ، فقام إليه معقل بن قيس اليربوعي ثم الرياحي فقال : ( يا أمير المؤمنين ، إن هؤلاء والله ما أتوك بنصح ، ولا دخلوا عليك إلا بغش ، فاحذرهم فإنهم أدنى العدو ) ،
فقال له مالك بن حبيب : يا أمير المؤمنين ، إنه بلغني أن حنظلة هذا يكاتب معاوية ، فادفعه إلينا نحبسه حتى تنقضي غزاتك ثم تنصرف ، وقام إلى علي عياش بن ربيعة ، وقائد بن بكير العبسيان ، فقالا : يا أمير المؤمنين ، إن صاحبنا عبد الله بن المعتم قد بلغنا أنه يكاتب معاوية ، فأحبسه أو أمكنا منه نحبسه حتى تنقضي غزاتك وتنصرف ، فأخذا يقولان : هذا جزاء من نظر لكم (1) وأشار عليكم بالرأي فيما بينكم وبين عدوكم .
--------------------------- (1) في الأصل : ( من نصركم ) صوابه من ح ( 1 : 280 ) . واقعة صفين _ 95 _
فقال لهما علي : ( الله بيني وبينكم ، وإليه أكلكم ، وبه أستظهر عليكم ، اذهبوا حيث شئتم ) ، ثم بعث علي إلى حنظلة بن الربيع ، المعروف بحنظلة الكاتب (1) ، وهو من الصحابة ، فقال : يا حنظلة ، أعلي أم لي ؟ قال : لا عليك ولا لك ، قال : فما تريد ؟ قال : اشخص إلى الرها (2) ، فإنه فرج من الفروج ، اصمد له حتى ينقضى هذا الأمر ، فغضب من ذلك خيار بني عمرو بن تميم ـ وهم رهطه ـ فقال : إنكم والله لا تغروني من ديني ، دعوني فأنا أعلم منكم ، فقالوا : والله لئن لم تخرج مع هذا الرجل لا ندع فلانة تخرج معك ـ لأم ولده ـ ولا ولدها ، ولئن أردت ذلك لنقتلنك ، فأعانه ناس من قومه فاخترطوا سيوفهم ، فقال : أجلوني ( حتى ) أنظر ، فدخل منزله وأغلق بابه حتى إذا أمسى هرب إلى معاوية ، وخرج من بعده إليه من قومه رجال كثير ، ولحق ابن المعتم أيضا حتى أتى معاوية ، وخرج معه أحد عشر رجلا من قومه ، وأما حنظلة فخرج بثلاثة وعشرين رجلا من قومه ، ولكنهما لم يقاتلا مع معاوية واعتزلا الفريقين جميعا ، فقال حنظلة حين خرج إلى معاوية :
--------------------------- (1) هو حنظلة بن الربيع ـ ويقال ابن ربيعة ـ بن صيفي ، ابن أخي أكثم بن صيفي حكيم العرب ، وكتب للنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مرة كتابا فسمى بذلك ( الكاتب ) ، وكانت الكتابة قليلة في العرب ، وكان ممن تخف عن علي ( عليه السلام ) يوم الجمل ، وهو الذي قال للنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ( لليهود يوم وللنصارى يوم ، فلو كان لنا يوم ) فنزلت سورة الجمعة ، انظر الإسابة 1855 والمعارف 130 . (2) الرها ، بضم أوله والمد والقصر : مدينة بالجزيرة بين الموصل والشام . واقعة صفين _ 96 _
--------------------------- (1) الأزب من الإبل : الكثير شعر الوجه والعثنون ، والملاحي ، بضم الميم وتخفيف اللام ، هو من الأراك ما فيه بياض وشهبة وحمرة ، وفي ح : ( قد غار ليلة النفر ) ، وفي هامش الأصل : ( قد دعا ليلة النفر ) إشارة إلى أنه كذلك في نسخة أخرى ، صواب هذين : ( قد رغا ) . (2) في الأصل : وتجر قتلاهم بقتلى حروب ، وكما يقدم بالديار ديار وأثبت ما في ح ( 1 : 280 ) ، وكتب في حاشية الأصل : ( وكما تبوء دماؤهم بدمائكم ) إشارة إلى أن صدره كذلك في نسخة أخر . (3) أصل الخوار صوت البقر والغنم والظباء ، وفي ح : ( من ثكل الرجال خوار ) . (4) ح : ( 1 : 280 ) : ( ولكن إذا رأيت ) . واقعة صفين _ 97 _
فإن يقبلوا يصيبوا ويرشدوا (1) ، والعافية أوسع لنا ولهم ، وإن يتمادوا في الشقاق ولا ينزعوا عن الغي فسر إليهم ، وقد قدمنا إليهم العذر (2) ودعوناهم إلى ما في أيدينا من الحق ، فوالله لهم من الله أبعد ، وعلى الله أهون ، من قوم قاتلناهم بناحية البصرة أمس ، لما أجهد لهم الحق (4) فتركوه ، ناوخناهم براكاء (4) القتال حتى بلغنا منهم ما نحب ، وبلغ الله منهم رضاه فيما يرى ) ، فقام زيد بن حصين الطائي ـ وكان من أصحاب البرانس (5) المجتهدين فقال : الحمد لله حتى يرضى ، ولا إله إلا الله ربنا ، ومحمد رسول الله نبينا ، إما بعد فوالله لئن كنا في شك من قتال من خالفنا ، لا يصلح لنا النية في قتالهم حتى نستديمهم ونستأنيهم ، ما الأعمال إلا في تباب ، ولا السعي إلا في ضلال ، والله يقول : ( وأما بنعمة ربك فحدث ) ، إنا والله ما ارتبنا طرفة عين فيمن يبتغون دمه (6) ، فكيف بأتباعه القاسية قلوبهم ، القليل في الإسلام حظهم ، أعوان الظلم ومسددي أساس الجور والعدوان (7) ، ليسوا من المهاجرين ولا الأنصار ، ولا التابعين بإحسان .
--------------------------- (1) ح : ( يصيبوا رشدهم ) . (2) ح : ( بالعذر ) . (3) في اللسان : ( أجهد لك الطريق وأجهد لك الحق : برز وظهر ووضح ) ، وفي الأصل ( أجهدنا ) والفعل لازم كما رأيت ، كما رأيت ، وفي ح : ( لما دعوناهم إلى الحق ) . (4) البراكاء ، بضم الراء وفتحها : الابتراك في الحرب ، وهو أن يجثو القوم على ركبهم ، والمناوخة : مفاعله من النوخ ، وهو البروك ، وفي الأصل : ( ناوحناهم ) بالمهملة ، صوابه في ح . (5) البرنس ، بالضم : قلنسوة طويلة ، أو كل ثوب رأسه منه . (6) ح : ( فيمن يتبعونه ) . (7) ح : ( وأصحاب الجور والعدوان ) . واقعة صفين _ 98 _
فقام رجل من طيئ فقال : يا زيد بن حصين ، أكلام سيدنا عدي بن حاتم تهجن ؟ قال : فقال زيد : ما أنتم بأعرف بحق عدي مني ، ولكني لا أدع القول بالحق وإن سخط الناس ، قال : فقال عدي بن حاتم : الطريق مشترك ، والناس في الحق سواء ، فمن اجتهد رأيه في نصيحة العامة فقد قضى الذي عليه (1) ،
نصر : عمر بن سعد ، عن الحارث بن حصيرة (2) قال : دخل أبو زبيب (3) بن عوف على علي فقال : ( يا أمير المؤمنين ، لئن كنا على الحق لأنت أهدانا سبيلا ، وأعظمنا في الخير نصيبا ، ولئن كنا في ضلالة إنك لأثقلنا ظهرا وأعظمنا وزرا : أمرتنا بالمسير إلى هذا العدو وقد قطعنا ما بيننا وبينهم من الولاية ، وأظهرنا لهم العداوة ، نريد بذلك ما يعلم الله ( من طاعتك ) ، وفي أنفسنا من ذلك ما فيها ، أليس الذي نحن عليه الحق المبين ، والذي عليه عدونا الغي والحوب الكبير ؟ ) ، فقال علي : ( بلى ) ، شهدت أنك إن مضيت معنا ناصرا لدعوتنا ، صحيح النية في نصرتنا ، قد قطعت منهم الولاية ، وأظهرت لهم العداوة كما زعمت ، فإنك ولي الله تسيح (4) في رضوانه ، وتركض في طاعته : فأبشر أبا زبيب ) .
--------------------------- (1) ما بعد : ( سخط الناس ( ساقط من ح ، فهو إما دخيل على النسخة ، أو تمثل من عدي بقول علي ( عليه السلام ) ، الذي سبق في ص 95 . (2) سبقت ترجمته في ص 3 ، وفي الأصل : ( حضيرة ) بالضاد المعجمة ، تحريف ، وفي هامش الأصل ( خ : حصين ) إشارة إلى أنه ( حصين ) في نسخة أخرى ، وهذه الأخيرة توافق ما ورد في ح ( 1 : 280 ) ، وليس بشيء . (3) ح : ( أبو زينب ) في جميع المواضع . (4) ح : ( تسبح ) من السباحة . واقعة صفين _ 99 _
فقال له عمار بن ياسر : اثبت أبا زبيب ولا تشك في الأحزاب عدو الله ورسوله (1) ، قال : فقال أبو زبيب : ما أحب أن لي شاهدين من هذه الأمة فيشهدا لي على ما سألت عنه من هذا الأمر الذي أهمني مكانكما ، قال : وخرج عمار ( بن ياسر ) وهو يقول :
--------------------------- (1) عدو ، يقال للمفرد والمثنى والجمع والمذكر والمؤنث بلفظ واحدا ، ويقال أيضا عدوة وعدوان وأعداء . (2) الجهاز : ما يحتاج إليه المسافر والغازي ، ح : ( أولو جهاز وعدة ) . (3) أي أصحاب قوة ، وفي الأصل : ( القوة ) وأثبت ما في ح ( 1 : 281 ) . واقعة صفين _ 100 _
فقال زياد بن النضر : لقد نصح لك يا أمير المؤمنين يزيد بن قيس ، وقال ما يعرف ، فتوكل على الله وثق به ، واشخص بنا إلى هذا العدو راشدا معانا ، فإن يرد الله بهم خيرا لا يدعوك رغبة عنك إلى من ليس مثلك في السابقة مع النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، والقدم (1) في الإسلام ، والقرابة من محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وإلا ينيبوا ويقبلوا ويأبوا إلا حربنا نجد حربهم علينا هينا ، ورجونا أن يصرعهم الله مصارع إخوانهم بالأمس ، ثم قام عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي فقال : ( يا أمير المؤمنين ، إن القوم لو كانوا الله يريدون أو لله يعملون ، ما خالفونا ، ولكن القوم إنما يقاتلون فرارا من الأسوة (2) ، وحبا للأثرة ، وضنا بسلطانهم ، وكرها لفراق دنياهم التي في أيديهم ، وعلي إحن في أنفسهم ، وعداوة يجدونها في صدورهم ، لوقائع أوقعتها يا أمير المؤمنين بهم قديمة ، قتلت فيها أباءهم وإخوانهم (3) ، ثم التفت إلى الناس فقال : فكيف يبايع معاوية عليا وقد قتل أخاه حنظلة ، وخاله الوليد ، وجده عتبة في موقف واحد ، والله ما أظن أن يفعلوا (4) ، ولن يستقيموا لكم دون أن تقصد فيهم المران (5) ، وتقطع على هامهم السيوف ، وتنثر حواجبهم بعمد الحديد ، وتكون أمور جمة بين الفريقين ، نصر : عمر بن سعد ، عن عبد الرحمن ، عن الحارث بن حصيرة (6) .
--------------------------- (1) القدم ، بفتحتين : السبق والتقدم في الإسلام . (2) الأسوة ، ها هنا : التسوية بين المسلمين في قسمة المال ، انظر ح ( 3 : 4 ) . (3) ح : ( وأعوانهم ) . (4) ح : ( ما أظنهم يفعلون ) . (5) تقصد : تكسر ، والمران : الرماح الصلبة اللينة ، والمران أيضا : نبات الرماح ، ح : ( دون أن تقصف فيهم قنا ؟ ؟ المران ) . (6) ح : ( حصين ) وانظر ما سبق في ص 3 . واقعة صفين _ 101 _
عن عبد الله بن شريك قال : خرج حجر بن عدي ، وعمرو بن الحمق ، يظهران البراءة واللعن من أهل الشام ، فأرسل إليهما علي : أن كفا عما يبلغني عنكما فأتياه فقالا : يا أمير المؤمنين ؛ ألسنا محقين ؟ قال : بلى ، ( قالا : أو ليسوا مبطلين ؟ قال : بلى ) ، قالا : فلم منعتنا من شتمهم ؟ قال : ( كرهت لكم أن تكونوا لعانين شتامين ، تشتمون وتتبرءون ، ولكن لو وصفتم مساوي أعمالهم فقلتم : من سيرتهم كذا وكذا ، ومن عملهم كذا وكذا ، كان أصوب في القول ، وأبلغ في العذر ، و ( لو (1) ) قلتم مكان لعنكم إياهم وبراءتكم منهم : اللهم احقن دماءنا ودماءهم ، وأصلح ذات بيننا وبينهم ، واهدهم من ضلالتهم ، حتى يعرف الحق منهم من جهله ، ويرعوي عن الغي والعدوان من لهج به ، كان هذا أحب إلى وخيرا لكم ، فقالا : يا أمير المؤمنين ، نقبل عظتك ، ونتأدب بأدبك ، وقال عمرو بن الحمق : إني والله يا أمير المؤمنين ما أجبتك ولا بايعتك على قرابة بيني وبينك ، ولا إرادة مال تؤتينيه ، ولا التماس سلطان يرفع ذكرى به ، ولكن أجبتك لخصال خمس : أنك ابن عم رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وأول من آمن به ، وزوج سيدة نساء الأمة فاطمة بنت محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وأبو الذرية التى بقيت فينا من رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وأعظم رجل من المهاجرين سهما في الجهاد ، فلو أني كلفت نقل الجبال الرواسي ، ونزح (2) البحور الطوامي حتى يأتي على يومي في أمر أقوى به وليك وأوهن به عدوك ، ما رأيت أنى قد أديت فيه كل الذي يحق على من حقك ، فقال أمير المؤمنين علي :
--------------------------- (1) ليست في الأصل ولا في ح ، وبها يلتئم الكلام . (2) في الأصل : ( وأنزح ) صوابه في ح ( 1 : 281 ) . واقعة صفين _ 102 _
اللهم نور قلبه بالتقى ، واهده إلى صراط مستقيم (1) ، ليت أن في جندي مائة مثلك ، فقال حجر : إذا والله يا أمير المؤمنين صح جندك ، وقل فيهم من يغشك ، ثم قال حجر فقال : يا أمير المؤمنين ، نحن بنو الحرب وأهلها ، الذين نلقحها وننتجها ، قد ضارستنا وضارسناها (2) ، ولنا أعوان ذو وصلاح ، وعشيرة ذات عدد ، ورأي مجرب وبأس محمود ، وأزمتنا منقادة لك بالسمع والطاعة ؛ فإن شرقت شرقنا ، وإن غربت غربنا ، وما أمرتنا به من أمر فعلناه ، فقال علي : ( أكل قومك يرى مثل رأيك ؟ ) قال : ( ما رأيت منهم إلا حسنا ، وهذه يدى عنهم بالسمع والطاعة ، وبحسن الإجابة ) ، فقال له علي خيرا ،
قال نصر : وفي حديث عمر بن سعد قال : وكتب علي إلى عماله ، فكتب إلى مخنف بن سليم : سلام عليك ، فإني أحمد الله إليك الذي لا إله إلا هو ، أما بعد فإن جهاد من صدف عن الحق رغبة عنه ، وهب في نعاس العمي والضلال اختيارا له ـ فريضة على العارفين ، إن الله يرضى عمن أرضاه ، ويسخط على من عصاه ، وإنا قد هممنا بالمسير إلى هؤلاء القوم الذين عملوا في عباد الله بغير ما أنزل الله ، واستأثروا بالفئ ، وعطلوا الحدود ، وأماتوا الحق ، وأظهروا في الأرض الفساد ، واتخذوا الفاسقين وليجة من دون المؤمنين ، فإذا ولي لله أعظم أحداثهم أبغضوه وأقصوه وحرموه ، وإذا ظالم ساعدهم على ظلمهم أحبوه وأدنوه وبروه فقد أصروا على الظلم ، وأجمعوا على الخلاف ، وقديما ما صدوا عن الحق ، وتعاونوا على الإثم وكانوا ظالمين .
--------------------------- (1) ح : ( صراطك المستقيم ) . (2) في اللسان ( 8 : 424 ) : ( وضارست الأمور : جربتها وعرفتها ) . واقعة صفين _ 103 _
فإذا أتيت بكتابي هذا فاستخلف علي عملك أوثق أصحابك في نفسك ، وأقبل إلينا لعلك تلقى هذا العدو المحل فتأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر ، وتجامع الحق وتباين الباطل ؛ فإنه لا غناء بنا ولا بك عن أجر الجهاد ، وحسبنا الله ونعم الوكيل ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، وكتب عبد الله بن أبي رافع سنة سبع وثلاثين ، فاستعمل مخنف على أصبهان الحارث بن أبي الحارث بن الربيع ، واستعمل على همدان سعيد بن وهب ـ وكلاهما من قومه ـ وأقبل حتى شهد مع علي صفين ، وكان علي قد استخلف ابن عباس على البصرة ، فكتب عبد الله بن عباس إلى علي يذكر له اختلاف أهل البصرة ، فكتب إليه علي : من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى عبد الله بن عباس ، أما بعد فالحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد عبده ورسوله ، أما بعد (1) فقد قدم على رسولك وذكرت ما رأيت وبلغك عن أهل البصرة بعد انصرافي (2) وسأخبرك عن القوم : هم بين مقيم لرغبة يرجوها ، أو عقوبة يخشاها (3) ، فأرغب راغبهم بالعدل عليه ، والإنصاف له والإحسان إليه ؛ وحل عقدة الخوف عن قلوبهم ، فإنه ليس لأمراء أهل البصرة في قلوبهم عظم (4) إلا قليل منهم ، وانته إلى أمرى ولا تعده ، وأحسن إلى هذا الحي من ربيعة ، وكل من قبلك فأحسن إليهم ما استطعت إن شاء الله ، والسلام ، وكتب عبد الله بن أبي رافع في ذي القعدة سنة سبع وثلاثين .
--------------------------- (1) كذا جاءت ( أما بعد ) مكررة . . وأول الرسالة في ح : ( أما بعد فقد قدم على رسولك ) بإهمال ما قبلها من الكلام . (2) ح : ( وقرأت كتابك تذكر فيه حال أهل البصرة واختلافهم بعد انصرافي عنهم ) . (3) ح : ( أو خائف من عقوبة يخشاها ) . (4) كذا في الأصل وح ، ولعلها : ( عصم ) جمع عصام ، وهو الحبل يشد به . واقعة صفين _ 104 _
وكتب : من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى الأسود بن قطنة ، أما بعد فإنه من لم ينتفع بما وعظ لم يحذر ما هو غابر (1) ومن أعجبته الدنيا رضي بها ، وليست بثقة ، فاعتبر بما مضى تحذر ما بقى ، واطبخ للمسلمين قبلك من الطلاء ما يذهب ثلثاه (2) ، وأكثر لنا من لطف الجند ، واجعله مكان ما عليهم من أرزاق الجند ، فإن للولدان علينا حقا ، وفي الذرية من يخاف دعاؤه ، وهو لهم صالح ، والسلام ، وكتب : بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى عبد الله بن عامر ، أما بعد فإن خير الناس عند الله عز وجل أقومهم لله بالطاعة فيما له وعليه ، وأقولهم بالحق ولو كان مرا ، فإن الحق به قامت السماوات والأرض ، ولتكن سريرتك كعلانيتك ، وليكن حكمك واحدا ، وطريقتك مستقيمة ، فإن البصرة مهبط الشيطان ، فلا تفتحن على يد أحد منهم بابا لا نطيق سده نحن ولا أنت ، والسلام ،
وكتب : بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى عبد الله بن عباس ، أما بعد فانظر ما اجتمع عندك من غلات المسلمين وفيئهم ، فاقسمه من قبلك حتى تغنيهم ، وابعث إلينا بما فضل نقسمه فيمن قبلنا ، والسلام .
--------------------------- (1) في اللسان : الغابر : الباقي ، قال : وقد يقال للماضي غابر . (2) الطلاء ، بالكسر : ما طبخ من عصير العنب . واقعة صفين _ 105 _
وكتب : بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى عبد الله بن عباس ، أما بعد فإن الإنسان قد يسره ما لم يكن ليفوته ، ويسوءه فوت ما لم يكن ليدركه وإن جهد ، فليكن سرورك فيما قدمت من حكم أو منطق أو سيرة ، وليكن أسفك على ما فرطت لله فيه من ذلك ، ودع ما فاتك من الدنيا فلا تكثر به حزنا ، وما أصابك فيها فلا تبغ به سرورا ، وليكن همك فيما بعد الموت ، والسلام (1) ،
وكتب إلى أمراء الجنود : بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله علي أمير المؤمنين ، أما بعد فإن حق الوالي ألا يغيره على رعيته أمر ناله ولا أمر خص به ، وأن يزيده ما قسم الله له دنوا من عباده وعطفا عليهم ، ألا وإن لكم عندي ألا أحتجز دونكم سرا إلا في حرب ، ولا أطوي عنكم أمرا إلا في حكم ، ولا أؤخر حقا لكم عن محله ، ولا أرزأكم شيئا ، وأن تكونوا عندي في الحق سواء ، فإذا فعلت ذلك وجبت عليكم النصيحة والطاعة ، فلا تنكصوا عن دعوتي ، ولا تفرطوا في صلاح دينكم من دنياكم ، وأن تنفذوا لما هو لله طاعة ، ولمعيشتكم صلاح ، وأن تخوضوا الغمرات إلى الحق ولا يأخذكم في الله لومة لائم ، فإن أبيتم أن تستقيموا لي على ذلك لم يكن أحد أهون علي ممن فعل ذلك منكم ، ثم أعاقبه عقوبة لا يجد عندي فيها هوادة ، فخذوا هذا من أمرائكم ، وأعطوهم من أنفسكم ، يصلح الله أمركم ، والسلام .
--------------------------- (1) انظر مجالس ثعلب 186 . واقعة صفين _ 106 _
وكتب إلى أمراء الخراج : بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى أمراء الخراج (1) ، أما بعد فإنه من لم يحذر ما هو صائر إليه لم يقدم لنفسه ولم يحرزها ، ومن اتبع هواه وانقاد له على ما يعرف نفع عاقبته عما قليل ليصبحن من النادمين ، ألا وأن أسعد الناس في الدنيا من عدل عما يعرف ضره ، وإن أشقاهم من اتبع هواه ، فاعتبروا واعلموا أن لكم ما قدمتم من خير ، وما سوى ذلك وددتم لو أن بينكم وبينه أمدا بعيدا ويحذركم الله نفسه والله رءوف ورحيم بالعباد ، وإن عليكم ما فرطتم فيه ، وإن الذي طلبتم ليسير ، وإن ثوابه لكبير ، ولو لم يكن فيما نهى عنه من الظلم والعدوان عقاب يخاف ، كان في ثوابه مالا عذر لأحد بترك طلبته (2) فارحموا ترحموا ، ولا تعذبوا خلق الله ولا تكلفوهم فوق طاقتهم ، وأنصفوا الناس من أنفسكم ، واصبروا لحوائجهم فإنكم خزان الرعية ، لا تتخذن حجابا ، ولا تحجبن أحدا عن حاجته حتى ينهيها إليكم ، ولا تأخذوا أحدا بأحد إلا كفيلا عمن كفل عنه ، واصبروا أنفسكم على ما فيه الاغتباط ، وإياكم وتأخير العمل ودفع الخير ، فإن في ذلك الندم ، والسلام ، وكتب إلى معاوية : بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى معاوية بن أبي سفيان ، سلام على من اتبع الهدى ، فإني أحمد الله إليك الذي لا إله إلا هو ، أما بعد فإنك قد رأيت من الدنيا وتصرفها بأهلها وإلى ما مضى منها ، وخير ما بقى من الدنيا ما أصاب العباد الصادقون فيما مضى .
--------------------------- (1) في نهج البلاغة بشرح ابن أبي الحديد ( 4 : 115 ) : ( أصحاب الخراج ) . (2) الطلبة ، بالكسر : الطلب . واقعة صفين _ 107 _
ومن نسي الدنيا نسيان الآخرة يجد بينهما بونا بعيدا ، واعلم يا معاوية أنك قد ادعيت أمرا لست من أهله لا في القدم ولا في الولاية (1) ، ولست تقول فيه بأمر بين تعرف لك به أثرة ولا لك عليه شاهد من كتاب الله ، ولا عهد تدعيه من رسول الله ، فكيف أنت صانع إذا انقشعت عنك جلابيب ما أنت فيه من دنيا أبهجت بزينتها (2) وركنت إلى لذتها ، وخلى فيها بينك وبين عدو جاهد ملح ، مع ما عرض في نفسك من دنيا قد دعتك فأجبتها ، وقادتك فاتبعتها ، وأمرتك فأطعتها ، فاقعس عن هذا الأمر (3) ، وخذ أهبة الحساب ، فإنه يوشك أن يقفك واقف على ما لا يجنك منه مجن (4) ، ومتى كنتم يا معاوية ساسة للرعية ، أو ولاة لأمر هذه الأمة بغير قدم حسن ، ولا شرف سابق على قومكم ، فشمر لما قد نزل بك ، ولا تمكن الشيطان من بغيته فيك ، مع أني أعرف أن الله ورسوله صادقان ، فنعوذ بالله من لزوم سابق الشقاء ، وإلا تفعل أعلمك ما أغفلك من نفسك (5) ، فإنك مترف قد أخذ منك الشيطان مأخذه ، فجرى منك مجرى الدم في العروق ، واعلم أن هذا الأمر لو كان إلى الناس أو بأيديهم لحسدونا وامتنوا به علينا ، ولكنه قضاء ممن امتن به علينا على لسان نبيه الصادق المصدق ، لا أفلح من شك بعد العرفان والبينة ، اللهم احكم بيننا وبين عدونا بالحق وأنت خير الحاكمين .
--------------------------- (1) انظر ما سبق في التنبيه الأول ص 102 . (2) في اللسان : ( أبهجت الأرض : بهج نباتها ) ، وفي الأصل : ( انتهت ) تحريف ، وفي ح ( 3 : 410 ) : ( تبهجت ) قال ابن أبي الحديد : ( وتبهجت بزينتها : صارت ، ذات بهجة ) ، ولم أجد هذه الصيغة في المعاجم . (3) القعس : التأخر والرجوع إلى الخلف ، كما في اللسان ، وفي الأصل : ( فايس من هذا الأمر ) صوابه في ح ( 3 : 409 ) . (4) رواه ح : ( ما لا ينجيك منه منج ) ، وقال : ( ويروى : ولا ينجيك مجن ، وهو الترس : والرواية الأولى أصح ) . (5) ح : ( ما أغفلت ) . واقعة صفين _ 108 _
فكتب معاوية : بسم الله الرحمن الرحيم من معاوية بن أبي سفيان إلى علي بن أبي طالب ، أما بعد فدع الحسد فإنك طالما لم تنتفع به ، ولا تفسد سابقة قدمك بشره نخوتك ، فإن الأعمال بخواتيمها ، ولا تمحق سابقتك في حق من لا حق لك في حقه (1) ، فإنك إن تفعل لا تضر بذلك إلا نفسك ، ولا تمحق إلا عملك ، ولا تبطل إلا حجتك ، ولعمري ما مضى لك من السابقات لشبيه أن يكون ممحوقا ؛ لما اجترأت عليه من سفك الدماء ، وخلاف أهل الحق ، فاقرأ سورة الفلق ، وتعوذ بالله من شر نفسك ، فإنك الحاسد إذا حسد ، وكتب إلى عمرو بن العاص : بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى عمرو بن العاص ، أما بعد فإن الدنيا مشغلة عن غيرها ، وصاحبها مقهور فيها (2) ، لم يصب منها شيئا قط إلا فتحت له حرصا ، وأدخلت عليه مؤونة تزيده رغبة فيها ، ولن يستغني صاحبها بما نال عما لم يبلغه ، ومن وراء ذلك فراق ما جمع ، والسعيد من وعظ بغيره ، فلا تحبط أجرك أبا عبد الله ، ولا تجارين معاوية في باطله (3) .
--------------------------- (1) حق الرجل وأحقه : إذا غلبه على الحق . (2) ح ( 4 : 114 ) : ( وصاحبها منهوم عليها ) . (3) ح : ( ولا تشرك معاوية في باطله ) . واقعة صفين _ 109 _
فإن معاوية غمص الناس وسفه الحق (1) ، ( والسلام (2) ) ، وكتب إليه عمرو بن العاص : من عمرو بن العاص إلى علي بن أبي طالب ، أما بعد فإن الذي فيه صلاحنا وألفة ذات بيننا أن تنيب إلى الحق (3) ، وأن تجيب إلى ما تدعون إليه من شورى (4) ، فصبر الرجل منا نفسه على الحق ، وعذره الناس بالمحاجزة ، والسلام ، فجاء الكتاب إلى علي قبل أن يرتحل من النخيلة ، نصر : عمر بن سعد ، عن أبي روق قال : قال زياد بن النضر الحارثي لعبد الله بن بديل بن ورقاء : إن يومنا ويومهم ليوم عصيب ، ما يصبر عليه إلا كل مشيع القلب (5) ، صادق النية ، رابط الجأش ، وايم الله ما أظن ذلك اليوم يبقى منا ومنهم إلا الرذال (6) ، قال عبد الله بن بديل : والله أظن ذلك ، فقال علي : ليكن هذا الكلام مخزونا في صدوركما ، لا تظهراه ولا يسمعه منكما سامع ، إن الله كتب القتل على قوم والموت على آخرين ، وكل آتيه منيته كما كتب الله له ، فطوبى للمجاهدين في سبيل الله ، والمقتولين في طاعته .
--------------------------- (1) غمص الناس : احتقرهم ولم يرهم شيئا ، وسفه الحق ، مختلف في تأويله ، قيل معناه سفه الحق تسفيها ، وقال الزجاج : سفه في معنى جهل ، وهو اقتباس من حديث لرسول الله رواه ابن منظور في اللسان ( غمص ) . (2) زاد ان أبي الحديد بعد هذه الكلمة : ( قال نصر : وهذا أول كتاب كتبه علي ( عليه السلام ) إلى عمرو بن العاص ) . (3) أناب : رجع . (4) ح : ( إلى ما ندعوكم إليه من الشورى ) . (5) المشيع القلب : الشجاع . (6) الرذل ، والرذال ، والرذيل ، والأرذل : الدون الخسيس . واقعة صفين _ 110 _
فلما سمع هاشم بن عتبة (1) مقالتهم ( قام (2) ) فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : سربنا يا أمير المؤمنين إلى هؤلاء القوم القاسية قلوبهم ، الذين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم ، وعملوا في عباد الله بغير رضا الله ، فأحلوا حرامه وحرموا حلاله ، واستولاهم الشيطان (3) ووعدهم الأباطيل ومناهم الأماني ، حتى أزاغهم عن الهدى وقصد بهم قصد الردى ، وحبب إليهم الدنيا ، فهم يقاتلون على دنياهم رغبة فيها كرغبتنا في الآخرة إنجاز موعود ربنا ، وأنت يا أمير المؤمنين أقرب الناس من رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) رحما ، وأفضل الناس سبقة وقدما ، وهم يا أمير المؤمنين منك مثل الذي علمنا ، ولكن كتب عليهم الشقاء ، ومالت بهم الأهواء وكانوا ظالمين ، فأيدينا مبسوطة لك بالسمع والطاعة ، وقلوبنا منشرحة لك ببذل النصيحة ، وأنفسنا تنصرك (4) جذلة على من خالفك وتولى الأمر دونك ، والله ما أحب أن لي ما في الأرض مما أقلت ، وما تحت السماء مما أظلت ، وأني واليت عدوا لك ، أو عاديت وليا لك ، فقال علي : اللهم ارزقه الشهادة في سبيلك ، والمرافقة لنبيك ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ثم إن عليا صعد المنبر فخطب الناس ودعاهم إلى الجهاد ، فبدأ بالحمد لله والثناء عليه ثم قال : إن الله قد أكرمكم بدينه ، وخلقكم لعبادته ؛ فانصبوا أنفسكم في أداء حقه ، وتنجزوا موعوده ، واعلموا أن الله جعل أمراس الإسلام متينة ، وعراه وثيقة ، ثم جعل الطاعة حظ الأنفس برضا الرب ، وغنيمة الأكياس عند تفريط الفجرة .
--------------------------- (1) هو هاشم بن عتبة بن أبي وقاص ، وكان معه لواء علي ( عليه السلام ) يوم صفين ، وقتل في آخر أيامها ، انظر الإصابة 8913 والاشتقاق 96 . (2) ليست في الأصل ، وفي ح : ( . . . ما قالاه أتى عليا ( عليه السلام ) فقال : سر بنا ) . (3) كذا في الأصل ، وفي ح ( 1 : 282 ) : ( واستهوى بهم الشيطان ) وظني بها ( استهواهم ) . (4) في الأصل : ( بنورك ) ، صوابها في ح . واقعة صفين _ 111 _
وقد حملت أمر أسودها وأحمرها (1) ، ولا قوة إلا بالله ، ونحن سائرون إن شاء الله إلى من سفه نفسه ، وتناول ما ليس له وما لا يدركه : معاوية وجنده ، الفئة الباغية الطاغية ، يقودهم إبليس ، ويبرق لهم ببارق تسويفه ، ويدليهم بغروره (2) ، وأنتم أعلم الناس بحلاله وحرامه ، فاستغنوا بما علمتم ، واحذروا ما حذركم الله من الشيطان ، وارغبوا فيما أنالكم من الأجر والكرامة ، واعلموا أن المسلوب من سلب دينه وأمانته ، والمغرور من آثر الضلالة على الهدى ، فلا أعرف أحدا منكم تقاعس عني وقال : في غيري كفاية ، فإن الذود إلى الذود إبل ، ومن لا يذد عن حوضه يتهدم ، ثم إني آمركم بالشدة في الأمر ، والجهاد في سبيل الله ، وألا تغتابوا مسلما ، وانتظروا النصر العاجل من الله إن شاء الله ،
ثم قام الحسن بن علي خطيبا فقال : الحمد لله لا إله غيره ، وحده لا شريك له ، وأثنى عليه بما هو أهله ، ثم قال : إن مما عظم الله عليكم من حقه ، وأسبغ عليكم من نعمه ما لا يحصى ذكره ، ولا يؤدي شكره ، ولا يبلغه (3) صفة ولا قول .
--------------------------- (1) يعني العرب والعجم ، ولغالب على ألوان العرب السمرة والأدمة ، وعلى ألوان العجم البياض والحمرة ، في الأصل : ( أمركم أسودها وأحمرها ) ، صوابه في ح . (2) أي يوقعهم فيما أراد من تغريره ، وفي الكتاب : ( فدلاهما بغرور ) . (3) في الأصل : ( تبلغها ) ، والوجه ما أثبت من ح . واقعة صفين _ 112 _
ونحن إنما غضبنا لله ولكم ؛ فإنه من علينا بما هو أهله أن نشكر فيه آلاءه وبلاءه ونعماءه قولا (1) يصعد إلى الله فيه الرضا ، وتنتشر فيه عارفة الصدق ، يصدق الله فيه قولنا ، ونستوجب فيه المزيد من ربنا ، قولا يزيد ولا يبيد ؛ فإنه لم يجتمع قوم قط على أمر واحد إلا اشتد أمرهم ، واستحكمت عقدتهم ، فاحتشدوا في قتال عدوكم : معاوية وجنوده ؛ فإنه قد حضر ، ولا تخاذلوا ؛ فإن الخذلان يقطع نياط القلوب ؛ وإن الإقدام على الأسنة نجدة وعصمة ؛ لأنه لم يمتنع (2) قوم قط إلا رفع الله عنهم العلة ، وكفاهم جوائح الذلة (3) ، وهداهم إلى معالم الملة ، والصلح تأخذ منه ما رضيت ( به ) والحرب يكفيك من أنفاسها جرع (4) ، ثم قام الحسين بن علي خطيبا ، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ، ثم قال : يا أهل الكوفة أنتم الأحبة الكرماء ، ( و ) الشعار دون الدثار ؛ جدوا في إحياء ما دثر بينكم ، وإسهال ما توعر عليكم ، وألفة ما ذاع منكم (5) .
--------------------------- (1) في الأصل : ( قوك ) ، والكلام بعد : ( إنما غضبنا لله ولكم ) إلى : ( ولا يبيد ) لم يرد في ح . (2) الامتناع : العزة والقوة ، وفي القاموس : ( والممتنع الأسد القوي العزيز في نفسه ) ، ح : ( يتمنع ) ، وفي اللسان : ( منع الشيء مناعة : اعتز وتعسر ، وقد تمنع ) . (3) الجوائح : الدواهي والشدائد ، واحدتها جائحة ، وفي الأصل : ( حوائج ) ، والوجه ما أثبت من ح . (4) البيت للعباس بن مرداس السلمي ، كما في الخزانة ( 2 : 82 ) والرواية ، المعروفة : ( السلم تأخذ منها ) ، ويستشهد بهذه الرواية اللغويون على أن ( السلم ) تؤنث ، قال التبريزي : ( الجرع : جمع جرعة ، وهي ملء الفم ، يخبره أن السلم هو فيها وادع ينال من مطالبه ما يريد فإذا جاءت الحرب قطعته عن لذاته وشغلته بنفسه ) ، وهو تحريض على الصلح ، وأنفاس الحرب ، أراد بها أوائلها . (5) ليست في ح ، وذاع : انتشر وتفرق ، وفي الأصل : ( أذاع ) . واقعة صفين _ 113 _
ألا إن الحرب شرها ذريع ، وطعمها فظيع ، وهي جرع متحساة ، فمن أخذ لها أهبتها ، واستعد لها عدتها ، ولم يألم كلومها عند حلولها ، فذاك صاحبها ، ومن عاجلها قبل أوان فرصتها واستبصار سعيه فيها ، فذاك قمن ألا ينفع قومه : و ( أن ) يهلك نفسه ، نسأل الله بعونه أن يدعمكم بألفته (1) ،
ثم نزل ، فأجاب عليا إلى السير (2) والجهاد جل الناس ، إلا أن أصحاب عبد الله بن مسعود أتوه ، وفيهم عبيدة السلماني (3) وأصحابه ، فقالوا له : إنا نخرج معكم ، ولا ننزل عسكركم ، ونعسكر على حدة حتى ننظر في أمركم وأمر أهل الشام ، فمن رأيناه أراد ما لا يحل له ، أو بدا منه بغي ، كنا عليه ، فقال علي : مرحبا وأهلا ، هذا هو الفقه في الدين ، والعلم بالسنة ، من لم يرض بهذا فهو جائر خائن ، وأتاه آخرون من أصحاب عبد الله بن مسعود ، فيهم ربيع بن خشيم (4) وهم يومئذ أربعمائة رجل ، فقالوا : يا أمير المؤمنين إنا شككنا في هذا القتال على معرفتنا بفضلك ، ولا غناء بنا ولا بك ولا المسلمين عمن يقاتل العدو ، فولنا بعض الثغور نكون به (5) تم نقاتل عن أهله ، فوجهه علي (6) على ثغر الرى ، فكان أول لواء عقده بالكوفة لواء ربيع بن خثيم .
--------------------------- (1) ح : ( بالفيئة ) . (2) في الأصل : ( فأجابه إلى السير ) ، والوجه ما أثبت من ح . (3) عبيدة ، بفتح أوله ، وهو عبيدة بن عمرو ويقال ابن قيس بن عمرو السلماني ، بفتح السين المهملة وسكون اللام ، نسبة إلى سلمان بن يشكر بن ناجية بن مراد ، أسلم قبل وفاة النبي بسنتين ولم يلقه ، روى عن ابن مسعود وعلي ، وروى عنه محمد بن سيرين ، وأبو إسحاق السبيعي ، وإبراهيم النخعي وغيرهم ، وقال ابن نمير : كان شريح إذا أشكل عليه شئ كتب إلى عبيدة ، توفى سنة 72 وقيل ثلاث ، وقيل أربع ، الإصابة 6401 والمعارف 188 وتقريب التهذيب ، ومختلف القبائل ومؤتلفها لمحمد بن حبيب ص 30 . (4) خثيم ، بهيئة التصغير ، انظر الاشتقاق 112 وشرح الحيوان ( 4 : 292 ) . (5) ح ( 1 : 283 ) : ( نكمن به ) . (6) ح : ( فوجه علي ( عليه السلام ) بالربيع بن خثيم ) . واقعة صفين _ 114 _
نصر : عمر بن سعد ، عن ليث بن سليم قال : دعا علي باهلة فقال : يا معشر باهلة ، أشهد الله أنكم تبغضوني وأبغضكم ، فخذوا عطاءكم واخرجوا إلى الديلم ، وكانوا قد كرهوا أن يخرجوا معه إلى صفين ، نصر ، عن عمر بن سعد ، عن يوسف بن يزد عن عبد الله بن عوف ابن الأحمر ، أن عليا لم يبرح النخيلة حتى قدم عليه ابن عباس بأهل البصرة ، وكان كتب علي إلى ابن عباس وإلى أهل البصرة : ( أما بعد فأشخص إلي من قبلك من المسلمين والمؤمنين ، وذكرهم بلائي عندهم ، وعفوي عنهم ، واستبقائي لهم ، ورغبهم في الجهاد ، وأعلمهم الذي لهم في ذلك من الفضل ) ، فقام فيهم ابن عباس فقرأ عليهم كتاب علي ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أيها الناس ، استعدوا للمسير إلى إمامكم ، وانفروا في سبيل الله خفافا وثقالا ، وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم ؛ فإنكم تقاتلون المحلين القاسطين ، الذين لا يقرءون القرآن ولا يعرفون حكم الكتاب ، ولا يدينون دين الحق ، مع أمير المؤمنين وابن عم رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، الآمر بالمعروف ، والناهي عن المنكر والصادع بالحق ، والقيم بالهدى ، والحاكم بحكم الكتاب ؛ الذي لا يرتشي في الحكم ، ولا يداهن الفجار ، ولا تأخذه في الله لومة لائم ، فقام الأحنف بن قيس فقال : نعم ، والله لنجيبنك ، ولنخرجن معك على العسر واليسر ، والرضا والكره ، نحتسب في ذلك الخير ، ونأمل من الله العظيم من الأجر (1) .
--------------------------- (1) ح : ( نحتسب في ذلك الأجر ، ونأمل به من الله العظيم حسن الثواب ) . واقعة صفين _ 115 _
وقام إليه خالد بن المعمر السدوسي (1) فقال : سمعنا وأطعنا ، فمتى استنفرتنا نفرنا ، ومتى دعوتنا أجبنا ، وقام إليه عمرو بن مرجوم العبدي (2) ، فقال : وفق الله أمير المؤمنين ، وجمع له أمر المسلمين ، ولعن المحلين القاسطين ، الذين لا يقرءون القرآن ، نحن والله عليهم حنقون ، ولهم في الله مفارقون ، فمتى أردتنا صحبك خيلنا ورجلنا ، وأجاب الناس إلى المسير ، ونشطوا وخفوا ، فاستعمل ابن عباس على البصرة أبا الأسود الدئلي ، وخرج حتى قدم على على ومعه رءوس الأخماس : خالد بن المعمر السدوسي على بكر بن وائل ، وعمرو بن مرجوم العبدي على عبد القيس ، وصبرة بن شيمان الأزدي (3) على الأزد ، والأحنف بن قيس على تميم وضبة والرباب ، وشريك بن الأعور الحارثي على أهل العالية ، فقدموا على علي ( عليه السلام ) بالنخيلة ، وأمر الأسباع من أهل الكوفة : سعد بن مسعود الثقفي على قيس وعبد القيس ، ومعقل بن قيس اليربوعي على تميم وضبة والرباب وقريش وكنانة وأسد ، ومخنف بن سليم على الأزد وبجيلة وخثعم والأنصار وخزاعة ، وحجر بن عدي الكندي على كندة وحضر موت وقضاعة ومهرة ، وزياد بن النضر على مذحج والأشعريين ، وسعيد بن قيس بن مرة الهمداني على همدان ومن معهم من حمير ، وعدي بن حاتم على طيئ ، ويجمعهم الدعوة مع مذحج وتختلف الرايتان : راية مذحج مع زياد بن النضر ، وراية طيئ مع عدي بن حاتم ، وكتب محمد بن أبي بكر إلى معاوية .
--------------------------- (1) ترجم له في الإصابة 2317 فيمن له إدراك . (2) مرجوم ، بالجيم ، كان من أشراف عبد القيس ورؤسائها في الجاهلية ، وقد مدحه المسيب بن عباس ، وكان ابنه عمرو سيدا شريفا في الإسلام ، ذكره ابن حجر في الصحابة ، انظر الإصابة 5954 . (3) في الأصل : ( سيمان ) صوابه بالشين كما في الاشتقاق 299 . واقعة صفين _ 116 _
بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن أبي بكر إلى الغاوي بن صخر ، سلام على أهل طاعة الله ممن ، هو مسلم لأهل ولاية الله ، أما بعد فإن الله بجلاله وعظمته وسلطانه وقدرته خلق خلقا بلا عنت (1) ولا ضعف في قوته ، ولا حاجة به إلى خلقهم ، ولكنه خلقهم عبيدا ، وجعل منهم شقيا وسعيدا ، وغويا ورشيدا ، ثم اختارهم على علمه ، فاصطفى وانتخب منهم محمدا ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فاختصه برسالته ، واختاره لوحيه ، وائتمنه على أمره ، وبعثه رسولا مصدقا لما بين يديه من الكتب ، وذليلا على الشرائع ، فدعا إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة ، فكان أول من أجاب وأناب ، وصدق ووافق ، وأسلم وسلم ـ أخوه وابن عمه علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، فصدقه بالغيب المكتوم ، وآثره على كل حميم ، فوقاه كل هول ، وواساه بنفسه في كل خوف ، فحارب حربه ، وسالم سلمه (2) فلم يبرح مبتذلا لنفسه في ساعات ، الأزل (3) ومقامات الروع ، حتى برز سابقا لا نظير له في جهاده ، ولا مقارب له في فعله ، وقد رأيتك تساميه وأنت أنت ، وهو هو المبرز السابق في كل خير ، أول الناس إسلاما ، وأصدق الناس نية ، وأطيب الناس ذرية ، وأفضل الناس زوجة ، وخير الناس ابن عم . --------------------------- ( 1 ) العنت : المشقة . ( 2 ) الحرب العدو المحارب . والسلم : المسلم . ( 3 ) الأزل : الضيق والشدة . =============== ( 119 ) وأنت اللعين ابن اللعين . ثم لم تزل أنت وأبوك تبغيان الغوائل لدين الله ، وتجهدان على إطفاء نور الله ، وتجمعان على ذلك الجموع ، وتبذلان فيه المال ، وتخالفان فيه القبائل . على ذلك مات أبوك ، وعلى ذلك خلفته ، والشاهد عليك بذلك من يأوي ويلجأ إليك من بقية الأحزاب ، ورؤوس النفاق والشقاق لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . والشاهد لعلي مع فضله المبين وسبقه القديم ، أنصاره الذين ذكروا بفضلهم في القرآن فأثنى الله عليهم ، من المهاجرين والأنصار ، فهم معه عصائب وكتائب حوله ، يجالدون بأسيافهم ، ويهريقون دماءهم دونه ، يرون الفضل في اتباعه ، والشقاء في خلافه ، فكيف ـ يا لك الويل ـ تعدل نفسك بعلي ، وهو وارث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ووصيه وأبو ولده وأول الناس له اتباعا ، وآخرهم به عهدا ، يخبره بسره ويشركه في أمره ؛ وأنت عدوه وابن عدوه ؟ ! فتمتع ما استطعت بباطلك ، وليمدد لك ابن العاص في غوايتك ، فكأن أجلك قد انقضى ، وكيدك قد وهي . وسوف يستبين لمن تكون العاقبة العليا . واعلم أنك [ إنما ] تكايد ربك الذي قد أمنت كيده ، وأيست من روحه . وهو لك بالمرصاد ، وأنت منه في غرور ، وبالله وأهل رسوله عنك الغناء ، والسلام على من اتبع الهدى . فكتب إليه معاوية : بسم الله الرحمن الرحيم من معاوية بن أبي سفيان إلى الزاري على أبيه محمد بن أبي بكر . سلام على أهل طاعة الله . أما بعد فقد أتاني كتابك ، تذكر فيه ما الله أهله في قدرته وسلطانه ، وما أصفى به نبيه (1) ، مع كلام ألفته ووضعته ، لرأيك فيه تضعيف ____________ ( 1 ) أصفاه بالشيء : آثره به . وفي الكتاب : ( أفأصفاكم ربكم بالبنين ) وفي الأصل : « وما اصطفاه به نبيه » ، صوابه في ح ( 1 : 284 ) . ولأبيك فيه تعنيف . ذكرت حق ابن أبي طالب ، وقديم سوابقه وقرابته من نبي الله صلى الله عليه ، ونصرته له ومواساته إياه في كل خوف وهول ، واحتجاجك علي بفضل غيرك لا بفضلك . فاحمد إلها صرف الفضل عنك وجعله لغيرك . وقد كنا وأبوك معنا في حياة من نبينا صلى الله عليه ـ نرى حق ابن أبي طالب لازما لنا ، وفضله مبرزا علينا ، فلما اختار الله لنبيه صلى الله عليه وسلم ما عنده ، وأتم له ما وعده ، وأظهر دعوته وأفلج حجته . قبضه الله إليه ، فكان أبوك وفاروقه أول من ابتزه وخالفه . على ذلك اتفقا واتسقا (1) ، ثم دعواه إلى أنفسهم فأبطأ عنهما وتلكأ عليهما ، فهما به الهموم ، وأرادا به العظيم ، فبايع وسلم لهما ، لا يشركانه في أمرهما ، ولا يطلعانه على سرهما ، حتى قبضا وانقضى أمرهما . ثم قام بعدهما ثالثهما عثمان بن عفان ، يهتدي بهديهما ، ويسير بسيرتهما ، فعبته أنت وصاحبك ، حتى طمع فيه الأقاصي من أهل المعاصي ، وبطنتما له وأظهرتما (2) ، [ وكشفتما ] عداوتكما وغلكما ، حتى بلغتما منه منا كما . فخذ حذرك يا ابن أبي بكر ، فسترى وبال أمرك . وقس شبرك بفترك (3) تقصر عن أن تساوي أو توازي من يزن الجبال حلمه ، [ و ] لا تلين على قسر قناته (4) ، ولا يدرك ذو مدى أناته . أبوك مهد مهاده ، وبني ملكه وشاده ، فإن يكن ما نحن فيه صوابا فأبوك أوله ، وإن يك جورا فأبوك أسسه (5) . ونحن شركاؤه ، وبهديه أخذنا ، وبفعله اقتدينا . ____________ ( 1 ) في الأصل : « وانشقا » وأثبت ما في ح . ( 2 ) ح ( 1 : 284 ) : « وظهرتما » . ( 3 ) الشبر ، بالكسر : ما بين أعلى الإبهام وأعلى الخنصر . والفتر ، بالكسر أيضا : ما بين طرف السبابة والإبهام إذا فتحهما . ( 4 ) القسر : القهر والإ كراه . وفي الأصل « قصر » ، صوابه في ح . ( 5 ) الأسس ، بالتحريك : الأساس ، ومثلها الأس ، بالضم . ح : « أسه » . |