مـعاوي أخـدجت الخلافة iiبالتي      شـرطت  فـقد بـوالك iiالـملك
مالك ببيعة فصل ليس فيها غميزة      ألا  كـل ملك ضمه الشرط iiهالك
وكـان  كـبيت العنكبوت iiمذبذبا      فـأصبح مـحجوبا عليه iiالأرائك
وأصـبح لا يـرجوه راج iiلـعلة      ولا تـنتحي فيه الرجال الصعالك
ومـا  خير ملك يا معاوي iiمخدج      تـجرع  فيه الغيظ والوجه iiحالك
إذا شـاء ردتـه السكون iiوحمير      وهمدان  والحي الخفاف iiالسكاسك
  نصر : صالح بن صدقة ، عن ابن إسحاق ، عن خالد الخزاعي وغيره عمن لا يتهم (1) ، أن عثمان لما قتل وأتى معاوية كتاب علي بعزله عن الشام خرج حتى صعد المنبر ثم نادى في الناس أن يحضروا ، فحضروا المسجد فخطب الناس معاوية فحمد الله وأثنى عليه وصلى على نبيه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ثم قال : ( يا أهل الشام ، قد علمتم أني خليفة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، وخليفة عثمان وقتل مظلوما ، وقد تعلمون أني وليه (2) ، والله يقول في كتابه : ( ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا ) : وأنا أحب أن تعلموني ما في أنفسكم من قتل عثمان ) .

---------------------------
(1) ح ( 1 : 253 ) : ( ممن لا يتهم ) .
(2) ح : ( وخليفة عثمان وقد قتل وأنا ابن عمه ووليه ) .

واقعة صفين _ 81 _

   قال : فقام كعب بن مرة السلمي وفي المسجد يومئذ أربعمائة رجل أو نحو ذلك من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فقال : ( والله لقد قمت مقامي هذا وإني لأعلم أن فيكم من هو أقدم صحبة لرسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مني ، ولكني قد شهدت من رسول الله مشهدا لعل كثيرا منكم لم يشهده ، وإنا كنا مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) نصف النهار في يوم شديد الحر فقال : ( لتكونن فتنة حاضرة ) ، فمر رجل مقنع فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : هذا المقنع يومئذ على الهدى قال : فقمت فأخذت بمنكبيه (1) وحسرت عن رأسه فإذا عثمان ، فأقبلت بوجهه إلى رسول الله فقلت : هذا يارسول الله ؟ قال : ( نعم ) ، فأصفق أهل الشام على معاوية ، وبايعوه على الطلب بدم عثمان أميرا لا يطمع في الخلافة ، ثم الأمر شورى ، وفي حديث محمد بن عبيد الله عن الجرجاني قال : لما قدم عبيد الله بن عمر بن الخطاب على معاوية بالشام ، أرسل معاوية إلى عمرو بن العاص فقال : ( يا عمرو ، إن الله قد أحيا لك عمر بن الخطاب بالشام بقدوم عبيد الله ابن عمر ، وقد رأيت أن أقيمه خطيبا فيشهد على علي بقتل عثمان ، وينال منه ) ، فقال : الرأي ما رأيت ، فبعث إليه فأتى ، فقال له معاوية : يا ابن أخي ، إن لك اسم أبيك ، فانظر بملء عينيك ، وتكلم بكل فيك (2) فأنت المأمون المصدق ! فا ( صعد المنبر ) ، واشتم عليا واشهد عليه أنه قتل عثمان ، فقال : يا أمير المؤمنين (3) أما شتميه فإنه علي بن أبي طالب ، وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم ، فما عسى أن أقول في حسبه ، وأما بأسه فهو الشجاع المطرق .

---------------------------
(1) ح : ( بمنكبه ) .
(2) ح ( 1 : 256 ) : ( وانطق بملء فيك ) .
(3) ح : ( أيها الأمير ) .

واقعة صفين _ 82 _

  وأما أيامه فما قدمت عرفت : ولكني ملزمه دم عثمان ، فقال عمرو ( بن العاص ) : إذا والله قد نكأت القرحة (1) ، فلما خرج عبيد الله قال معاوية : أما والله لولا قتله الهرمزان ، ومخافة علي على نفسه (2) ما أتانا أبدا ، ألم تر إلى تقريظه عليا ؟ ! فقال عمرو : ( يا معاوية ، إن لم تغلب فاخلب ) ، فخرج حديث إلى عبيد الله ، فلما قام خطيبا تكلم بحاجته ، حتى إذا أتى إلى أمر علي أمسك ( ولم يقل شيئا ) ، فقال له معاوية (3) : ابن أخي (4) ، إنك بين عي أو خيانة ! فبعث إليه : كرهت أن أقطع الشهادة على رجل لم يقتل عثمان ، وعرفت أن الناس محتملوها عني ( فتركتها ) ، فهجره معاوية ، واستخف بحقه ، وفسقه فقال عبيد الله :
معاوي  لم أخرص بخطبة iiخاطب      ولم أك عيا في لؤى بن غالب  (5)
ولـكـنني زاولـت نـفسا iiأبـية      عـلى قذف شيخ بالعراقين iiغائب

---------------------------
(1) ح : ( قد وأبيك إذن نكأت القرحة ) .
(2) ح : ( ومخافته عليا على نفسه ) .
(3) ح : ( فلما نزل بعث إليه معاوية ) .
(4) في الأصل : ( ابن أخ ) تحريف ، والمنادي إذا كان مضافا إلى مضاف إلى الياء فالياء ثابتة لا غير كقولك : ( يا ابن أخي ) و ( يا ابن خالي ) إلى إن كان ( ابن أم ) أو ( ابن عم ) ففيهما مذاهب .
(5) لم أخرص : لم أكذب ، وفي الأصل وح : ( لم أحرص ) تحريف .

واقعة صفين _ 83 _

وقـذفي عـليا بـابن عـفان iiجـهرة      يـجدع بـالشحنا أنوف الأقارب  (1)
فـأما  انـتقافي أشـهد الـيوم iiوثـبة      فلست لكم فيها ابن حرب بصاحب  (2)
ولـكـنه  قـد قـرب الـقوم iiجـهده      ودبـوا  حـواليه دبيب العقارب  (3)
فـما  قـال أحـسنتم ولا قـد iiأسـأتم      وأطـرق  إطـراق الـشجاع المواثب
فـأمـا  ابــن عـفان فـأشهد أنـه      أصـيب  بـريئا لابـسا ثـوب iiتائب
حـرام  عـلى آهـاله نـتف iiشـعره      فـكيف وقد جازوه ضربة لازب  (4)
وقـد  كـان فـيها لـلزبير iiعـجاجة      وطـلحة  فـيها جـاهد غـير iiلاعب
وقـد أظـهرا مـن بـعد ذلـك iiتوبة      فـياليت  شـعري ما هما في iiالعواقب

---------------------------
(1) الشحناء : البغض والعداوة ، وفي الأصل : ( أجدع بالشحناء ) : وفي ح : ( كذاب وما طبعي سجايا المكاذب ) ، وجه هذه ( وما طبي ) .
(2) البيت لم يرو في ح ، وفي صدره تحريف .
(3) ح : ( ولكنه قد حزب القوم حوله ) .
(4) الآهال : جمع أهل ، وأنشد الجوهري : ، وبلدة ما الجن من آهالها .

واقعة صفين _ 84 _

   فلما بلغ معاوية شعره بعث إليه فأرضاه وقربه وقال : ( حسبي هذا منك ) ، نصر ، عن عمر بن سعد عن أبي ورق ، أن ابن عمر بن مسلمة الأرحبي أعطاه كتابا في إمارة الحجاج بكتاب من معاوية إلى علي ، قال : وإن أبا مسلم الخولاني (1) قدم إلى معاوية في أناس من قراء أهل الشام ، ( قبل مسير أمير المؤمنين ( عليه السلام ) إلى صفين ، ) فقالوا ( له ) : يا معاوية علام تقاتل عليا ، وليس لك مثل صحبته ولا هجرته ولا قرابته ولا سابقته ؟ قال لهم : ما أقاتل عليا وأنا أدعى أن لي في الإسلام مثل صحبته ولا هجرته ولا قرابته ولا سابقته ، ولكن خبروني عنكم ، ألستم تعلمون أن عثمان قتل مظلوما ؟ قالوا : بلى ، قال : فليدع إلينا (2) قتلته فنقتلهم به ، ولا قتال بيننا وبينه ، قالوا : فاكتب ( إليه ) كتابا يأتيه ( به ) بعضنا ، فكتب إلى علي هذا الكتاب مع أبي مسلم الخولاني ، فقدم به على علي ، ثم قام أبو مسلم خطيبا فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : ( أما بعد فإنك قد قمت بأمر وتوليته (3) ، والله ما أحب أنه لغيرك إن أعطيت الحق من نفسك ، إن عثمان قتل مسلما محرما (4) مظلوما ، فادفع إلينا قتلته ، وأنت أميرنا ، فإن خالفك أحد من الناس كانت أيدينا لك ناصرة ، وألسنتنا لك شاهدة ، وكنت ذا عذر وحجة ) .

---------------------------
(1) أبو مسلم الخولاني الزاهد الشامي هو عبد الله بن ثوب ، بضم المثلثة وفتح الواو ، وقيل بإشباع الواو ، وقيل ابن أثوب بوزن أحمر ، ويقال ابن عوف وابن مشكم ، ويقال اسمه يعقوب بن عوف ، وكان ممن رحل إلى النبي فلم يدركه ، وعاش إلى زمن يزيد بن معاوية ، انظر تقريب التهذيب 612 والمعارف 194 ، وفي الأصل : ( الحولاني ) بالمهملة ، صوابه بالخاء المعجمة ، كما في ح ( 3 : 407 ) نسبة إلى خولان ، بالفتح ، إحدى قبائل اليمن .
(2) ح ( 3 : 407 ) : ( فليدفع إلينا ) .
(3) ح : ( 3 : 408 ) : ( وليته ) .
(4) محرما : أي له حرمة وذمة ، أو أراد أنهم قتلوه في آخر ذي الحجة ، وقال أبو عمرو :

واقعة صفين _ 85 _

  فقال له على : اغد على غدا ، فخذ جواب كتابك ، فانصرف ثم رجع من الغد ليأخذ جواب كتابه فوجد الناس قد بلغهم الذي جاء فيه ، فلبست الشيعة أسلحتها ثم غدوا فملؤوا المسجد وأخذوا ينادون : كلنا قتل ابن عفان ( وأكثروا من النداء بذلك ) ، وأذن لأبي مسلم فدخل على علي أمير المؤمنين فدفع إليه جواب كتابه معاوية ، فقال له أبو مسلم : قد رأيت قوما ما لك معهم أمر ، قال : وما ذاك ؟ قال : بلغ القوم أنك تريد أن تدفع إلينا قتلة عثمان فضجوا واجتمعوا ولبسوا السلاح وزعموا أنهم كلهم قتلة عثمان ، فقال علي : ( والله ما أردت أن أدفعهم إليك طرفة عين ، لقد ضربت هذا الأمر أنفه وعينيه ما رأيته ينبغي لي أن أدفعهم إليك ولا إلى غيرك ) ، فخرج بالكتاب وهو يقول : الآن طاب الضراب ، وكان كتاب معاوية إلى علي ( عليه السلام ) (1) : ( بسم الله الرحمن الرحيم ) من معاوية بن أبي سفيان إلى علي بن أبي طالب ، سلام عليك ، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ، أما بعد فإن الله اصطفى محمدا بعلمه ، وجعله الأمين على وحيه ، والرسول إلى خلقه ، واجتبى له من المسلمين أعوانا أيده الله بهم ، فكانوا في منار لهم عنده على قدر فضائلهم في الإسلام ، فكان أفضلهم في إسلامه ، وأنصحهم لله ولرسوله الخليفة من بعده ، وخليفة خليفته ، والثالث الخليفة المظلوم عثمان ، فكلهم حسدت ، وعلى كلهم بغيت ، أي صائما ، ويقال أراد لم يحل بنفسه شيئا يوقع به ، فهو محرم ، وبكل هذه التأويلات فسر بيت الراعي ، الذي أنشده صاحب اللسان ( 15 : 13 ) : قتلوا ابن عفان الخليفة محرما ، ودعا فلم أر مثله مقتولا وانظر خزانة الأدب ( 1 : 503 ـ 504 ) .

---------------------------
(1) انظر هذا الكتاب أيضا في العقد ( 3 : 107 ) .

واقعة صفين _ 86 _

  عرفنا ذلك في نظرك الشزر ، وفي قولك الهجر ، وفي تنفسك الصعداء ، وفي إبطائك عن الخلفاء ، تقاد إلى كل منهم كما يقاد الفحل المخشوش (1) حتى تبايع وأنت كاره ، ثم لم تكن لأحد منهم بأعظم حسدا منك لابن عمك عثمان ، وكان أحقهم ألا تفعل به ذلك في قرابته وصهره ، فقطعت رحمه ، وقبحت محاسنه ، وألبت الناس عليه ، وبطنت وظهرت ، حتى ضربت إليه آباط الإبل ، وقيدت إليه الخيل العراب ، وحمل عليه السلاح في حرم رسول الله ، فقتل معك في المحلة وأنت تسمع في داره الهائعة (2) ، لا تردع الظن والتهمة عن نفسك فيه بقول ولا فعل ، فأقسم صادقا أن لو قمت فيما كان من أمره مقاما واحدا تنهنه الناس عنه ما عدل بك من قبلنا من الناس أحدا ، ولمحا ذلك عندهم ما كانوا يعرفونك به من المجانبة لعثمان والبغي عليه ، وأخرى أنت بها عند أنصار عثمان ظنين : إيواؤك قتلة عثمان ، فهم عضدك وأنصارك ويدك وبطانتك (3) ، وقد ذكر لي أنك تنصل من دمه ، فإن كنت صادقا فأمكنا من قتلته نقتلهم به ، ونحن أسرع ( الناس ) إليك ، وإلا فإنه فليس لك ولا لأصحابك إلا السيف ، والذي لا إله إلا هو لنطلبن قتلة عثمان في الجبال والرمال ، والبر والبحر ، حتى يقتلهم الله ، أو لتلحقن أرواحنا بالله ، والسلام .

---------------------------
(1) المخشوش : الذي جعل في عظم أنفه الخشاش ، وهو بالكسر ، عويد يجعل في أنف البعير يشد به الزمام ليكون أسرع في انقياده .
(2) الهائعة : الصوت الشديد .
(3) بطانة الرجل : خاصته وصاحب سره ، وفي الأصل : ( بطاشك ) صوابه في ح .

واقعة صفين _ 87 _

  فكتب إليه علي (عليه السلام ) : بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى معاوية بن أبي سفيان ، أما بعد فإن أخا خولان قدم على بكتاب منك تذكر فيه محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وما أنعم الله عليه به من الهدى والوحي ، والحمد لله الذي صدقه الوعد ، وتمم له النصر (1) ، ومكن له في البلاد ، وأظهره على أهل العداء (2) والشنآن ، من قومه الذين وثبوا به ، وشنفوا له (3) ، وأظهروا له التكذيب ، وبارزوه بالعداوة ، وظاهروا على إخراجه وعلى إخراج أصحابه ( وأهله ) ، وألبوا عليه العرب ، وجامعوهم على حربه ، وجهدوا في أمره كل الجهد ، وقلبوا له الأمور حتى ظهر أمر الله وهم كارهون ، وكان أشد الناس عليه ألبة (4) أسرته والأدنى فالأدنى من قومه إلا من عصمه الله (5) يا ابن هند ، فلقد خبأ لنا الدهر منك عجبا ، ولقد قدمت فأفحشت ، إذ طفقت تخبرنا عن بلاء الله تعالى في نبيه محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وفينا ، فكنت في ذلك كجالب التمر إلى هجر ، أو كداعي مسدده إلى النضال (6) .

---------------------------
(1) ح : ( وأيده بالنصر ) .
(2) في الأصل : ( العدى ) تحريف ، وفي ح : ( العداوة ) .
(3) شنف له يشنف شنفا ، من باب تعب : أبغضه ، وفي الحديث في إسلام أبي ذر : ( فإنهم قد شنفوا له ) ، أي أبغضوه .
(4) الألبة : المرة من الألب ، وهو التحريض ، والذي في ح : ( تأليبا وتحريضا ) .
(5) الكلام بعد هذه إلى كلمة : ( النضال ) لم يرد في ح .
(6) التسديد : التعليم ، أي كمن يدعو من علمه النضال إلى النضال .

واقعة صفين _ 88 _

  وذكرت أن الله اجتبى له من المسلمين أعوانا أيده الله بهم ، فكانوا في منازلهم عنده عل قدر فضائلهم في الإسلام ، فكان أفضلهم ـ زعمت ـ في الإسلام ، وأنصحهم لله ورسوله الخليفة ، وخليفة الخليفة ، ولعمري إن مكانهما من الإسلام لعظيم ، وإن المصاب بهما لجرح في الإسلام شديد ، رحمهما الله وجزاهما بأحسن الجزاء (1) ، وذكرت أن عثمان كان في الفضل ثالثا (2) ، فإن يكن عثمان محسنا فسيجزيه الله بإحسانه ، وإن يك مسيئا فسيلقي ربا غفورا لا يتعاظمه ذنب أن يغفره ، ولعمر الله إني لأرجو إذا أعطى الله الناس على قدر فضائلهم في الإسلام ونصيحتهم لله ورسوله أن يكون نصيبنا في ذلك الأوفر ، إن محمدا ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لما دعا إلى الإيمان بالله والتوحيد كنا ـ أهل البيت ـ أول من آمن به ، وصدق بما جاء به ، فلبثنا أحوالا مجرمة (3) وما يعبد الله في ربع ساكن من العرب غيرنا ، فأراد قومنا قتل نبينا ، واجتياح أصلنا ، وهموا بنا الهموم ، وفعلوا بنا الأفاعيل ، فمنعونا الميرة ، وأمسكوا عنا العذب (4) ، وأحلسونا الخوف (5) ، وجعلوا علينا الأرصاد والعيون ، واضطرونا إلى جبل وعر ، وأوقدوا لنا نار الحرب ، وكتبوا علينا بينهم كتابا لا يواكلونا ولا يشاربونا ولا يناكحونا ولا يبايعونا ولا نأمن فيهم حتى ندفع النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فيقتلوه ويمثلوا به .

---------------------------
(1) ح : ( وجزاهما أحسن ما عملا ) .
(2) ح : ( تاليا ) :
(3) أي سنين كاملة ، والمجرمة ، بتشديد الراء المفتوحة .
(4) الميرة ، بالكسر : ما يجلب من الطعام ، والعذب ، عنى به الماء العذب .
(5) أي ألزموناه ، انظر ح ( 3 : 304 ) ، وفي الأصل : « وأحلسوا » صوابه في ح ( 3 : 303 ، 408 ) .

واقعة صفين _ 89 _

  فلم نكن نأمن فيهم إلا من موسم إلى موسم ، فعزم الله لنا على منعه ، والذب عن حوزته ، والرمي من وراء حرمته ، والقيام بأسيافنا دونه في ساعات الخوف بالليل والنهار (1) ، فمؤمننا يرجو بذلك الثواب ، وكافرنا يحامي به عن الأصل ، فأما من أسلم من قريش بعد فإنهم مما نحن فيه أخلياء ، فمنهم حليف ممنوع ، أو ذو عشيرة تدافع عنه فلا يبغيه أحد بمثل ما بغانا به قومنا من التلف ، فهم من القتل بمكان نجوة وأمن ، فكان ذلك ما شاء الله أن يكون ، ثم أمر الله رسوله بالهجرة ، وأذن له بعد ذلك في قتال المشركين ، فكان إذا احمر البأس ودعيت نزال أقام أهل بيته فاستقدموا ، فوقى بهم أصحابه حر الأسنة والسيوف ، فقتل عبيدة (2) يوم بدر ، وحمزة يوم أحد ، وجعفر وزيد يوم مؤتة ، وأراد لله من لو شئت ذكرت اسمه مثل الذي أرادوا من الشهادة مع النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) غير مرة ، إلا أن آجالهم عجلت ، ومنيته أخرت ، والله مولى الإحسان إليهم ، والمنان عليهم ، بما قد أسلفوا من الصالحات ، فما سمعت بأحد ولا رأيت فيهم من هو أنصح لله في طاعة رسوله ، ولا أطوع لرسوله في طاعة ربه ، ولا أصبر على اللأواء والضراء وحين البأس ومواطن المكروه مع النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من هؤلاء النفر الذين سميت لك . وفي المهاجرين خير كثير نعرفه (3) ، جزاهم الله بأحسن أعمالهم ، وذكرت (4) حسدي الخلفاء ، وإبطائي عنهم ، وبغيي عليهم ، فأما البغي فمعاذ الله أن يكون ، وأما الإبطاء عنهم والكراهة لأمرهم فلست أعتذر منه إلى الناس ، لأن الله جل ذكره لما قبض نبيه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قالت قريش : منا أمير ، وقالت الأنصار : منا أمير ، فقالت قريش : منا محمد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فنحن أحق بذلك الأمر ، فعرفت ذلك الأنصار فسلمت لهم الولاية والسلطان ، فإذا استحقوها بمحمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) دون الأنصار فإن أولى الناس بمحمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أحق بها منهم ، وإلا فإن الأنصار أعظم العرب فيها نصيبا فلا أدري أصحابي سلموا من أن يكونوا حقي أخذوا ، أو الأنصار ظلموا ، ( بل ) عرفت أن حقي هو المأخوذ ، وقد تركته لهم تجاوز الله عنهم .

---------------------------
(1) في الأصل : ( والليل والنهار ) ، وأثبت ما في ح .
(2) هو عبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف ، وهو أول من عقدت له راية في الإسلام ، انظر الإصابة 5367 ، وقد تزوج الرسول الكريم زوجته زينب بنت خزيمة بعده ، انظر المعارف 59 .
(3) ح ( 3 : 409 ) : ( خير كثير يعرف ) .
(4) في الأصل : ( فذكرت ) صوابه بالواو ، كما في ح .

واقعة صفين _ 90 _

   وأما ما ذكرت من أمر عثمان وقطيعتي رحمه ، وتأليبي عليه فإن عثمان عمل ما ( قد ) بلغك ، فصنع الناس ( به ) ما قد رأيت وقد علمت ، إني كنت في عزلة عنه ، إلا أن تتجني ، فتجن ما بدا لك ، وأما ما ذكرت من أمر قتله عثمان فإني نظرت في هذا الأمر وضربت أنفه وعينيه فلم أر دفعهم إليك ولا إلى غيرك ، ولعمري لئن لم تنزع عن غيك وشقاقك لتعرفنهم عن قليل يطلبونك ، ولا يكلفونك أن تطلبهم في بر ولا بحر ، ولا جبل ولا سهل ، وقد كان أبوك أتاني حين ولي الناس أبا بكر فقال : أنت أحق بعد محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بهذا الأمر ، وأنا زعيم لك بذلك على من خالف عليك ، ابسط يدك أبايعك ، فلم أفعل ، وأنت تعلم أن أباك قد كان قال ذلك وأراده حتى كنت أنا الذي أبيت ؛ لقرب عهد الناس بالكفر ، مخافة الفرقة بين أهل الإسلام ، فأبوك كان أعرف بحقي منك ، فإن تعرف من حقي ما كان يعرف أبوك تصب رشدك ، وإن لم تفعل فسيغني الله عنك والسلام .
  آخر الجزء الثاني من أصل عبد الوهاب نصر بن مزاحم ، عن عمر بن سعد ، عن إسماعيل بن يزيد ، والحارث بن حصيرة ، عن عبد الرحمن بن عبيد بن أبي الكنود قال : لما أراد علي المسير إلى أهل الشام دعا إليه من كان معه من المهاجرين والأنصار ، فحمد الله وأثنى عليه وقال : ( أما بعد فإنكم ميامين الرأي ، مراجيح الحلم ، مقاويل بالحق ، مباركو الفعل والأمر ، وقد أردنا المسير إلى عدونا ، وعدوكم فأشيروا علينا برأيكم ) ، فقام هاشم بن عتبة بن أبي وقاص ، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال : ( أما بعد يا أمير المؤمنين فأنا بالقوم جد خبير ، هم لك ولأشياعك أعداء ، وهم لمن يطلب حرث الدنيا أولياء ، وهم مقاتلوك ومجاهدوك (1) لا يبقون (2) جهدا ، مشاحة على الدنيا ، وضنا بما في أيديهم منها ، وليس لهم إربة غيرها إلا ما يخدعون به الجهال من الطلب بدم عثمان بن عفان (3) ، كذبوا ليسوا بدمه يثأرون (4) ولكن الدنيا يطلبون ، فسر بنا إليهم (5) ، فإن أجابوا إلى الحق فليس بعد الحق إلا الضلال ، وإن أبو إلا الشقاق فذلك الظن بهم (6) ، والله ما أراهم يبايعون وفيهم أحد ممن يطاع إذا نهى ، و ( لا ) يسمع إذا أمر ) ، نصر : عمر بن سعد ، عن الحارث بن حصيرة ، عن عبد الرحمن بن عبيد ابن أبي الكنود ، أن عمار بن ياسر قام فذكر الله بما هو أهله ، وحمده وقال : يا أمير المؤمنين ، إن استطعت ألا تقيم يوما واحدا (فافعل ) .

---------------------------
(1) ح ( 1 : 278 ) : ( ومجادلوك ) لعل هذه : ( ومجالدوك ) .
(2) ح : ( لا يبغون ) تحريف .
(3) ح : ( من طلب دم ابن عفان ) .
(4) ح : ( ليسوا لدمه ينفرون ) .
(5) ح : ( انهض بنا إليهم ) .
(6) ح : ( فذاك ظني بهم ) .

واقعة صفين _ 91 _

  شخص بنا قبل استعار نار الفجرة ، واجتماع رأيهم على الصدود والفرقة ، وادعهم إلى رشدهم وحظهم ، فإن قبلوا سعدوا ، وإن أبوا إلا حربنا فوالله إن سفك دمائهم ، والجد في جهادهم ، لقربة عند الله ، وهو كرامة منه ، وفي هذا الحديث : ثم قام قيس بن سعد بن عبادة فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : ( يا أمير المؤمنين ، انكمش بنا إلى عدونا ولا تعرد (1) ، فوالله لجهادهم أحب إلى من جهاد الترك والروم ؛ لإدهانهم في دين الله (2) ، واستذلالهم أولياء الله من أصحاب محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، من المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان ، إذا غضبوا على رجل حبسوه أو ضربوه أو حرموه أو سيروه (3) ، وفيئنا لهم في أنفسهم حلال ، ونحن لهم ـ فيما يزعمون ـ قطعين (4) ، قال : يعني رقيق ، فقال أشياخ الأنصار ، منهم خزيمة بن ثابت ، وأبو أيوب الأنصاري وغيرهما : لم تقدمت أشياخ قومك وبدأتهم يا قيس بالكلام ؟ فقال : أما إني عارف بفضلكم ، معظم لشأنكم ، ولكني وجدت في نفسي الضغن الذي جاش في صدوركم حين ذكرت الأحزاب ، فقال بعضهم لبعض : ليقم رجل منكم فليجب أمير المؤمنين عن جماعتكم ، فقالوا : قم يا سهل بن حنيف ، فقام سهل فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : ( يا أمير المؤمنين ، نحن سلم لمن سالمت ، وحرب لمن حاربت ، ورأينا رأيك ونحن كف يمينك ، وقد رأينا أن تقوم بهذا الأمر في أهل الكوفة ، فتأمرهم بالشخوص ، وتخبرهم بما صنع الله لهم في ذلك من الفضل ؛ فإنهم هم أهل البلد وهم الناس ، فإن استقاموا لك استقام لك الذي تريد وتطلب ، وأما نحن فليس عليك منا خلاف ، متى دعوتنا أجبناك ، ومتى أمرتنا أطعناك ) .

---------------------------
(1) الانكماش : الإسراع والجد ، والتعريد : الفرار والإحجام والانهزام . ح : ( ولا تعرج ) .
(2) الإدهان : الغش والمصانعة ، وفي التنزيل العزيز : ( ودوا لو تدهن فيدهنون ) .
(3) في اللسان : ( سيره من بلده : أخرجه وأجلاه ) .
(4) القطين : الخدم والأتباع والحشم والمماليك .

واقعة صفين _ 92 _

  نصر : عمر بن سعد ، عن أبي مخنف ، عن زكريا بن الحارث ، عن أبي حشيش (1) ، عن معبد قال : قام علي خطيبا على منبره ، فكنت تحت المنبر حين حرض الناس وأمرهم بالمسير إلى صفين لقتال أهل الشام ، فبدأ فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : ( سيروا إلى أعداء الله ، سيروا إلى أعداء ) السنن والقرآن ، سيروا إلى بقية الأحزاب ، قتلة المهاجرين والأنصار ) ، فقام رجل من بني فزارة يقال له أربد فقال : أتريد أن تسيرنا إلى إخواننا من أهل الشام فنقتلهم لك ، كما سرت بنا إلى إخواننا من أهل البصرة فقتلناهم ، كلا ، ها الله إذا لا نفعل ذلك (2) ، فقام الأشتر فقال : من لهذا إيها الناس (3) ؟ وهرب الفزاري واشتد الناس على أثره ، فلحق بمكان من السوق تباع فيه البراذين ، فوطئوه بأرجلهم وضربوه بأيديهم ونعال سيوفهم (4) حتى قتل ، فأتى علي فقيل : يا أمير المؤمنين ، قتل الرجل ، قال : ومن قتله ؟ قالوا : قتلته همدان وفيهم شوبة من الناس (5) .

---------------------------
(1) ح ( 1 : 279 ) : ( أبي خشيش ) .
(2) ها التنبيه ، قد يقسم بها ، كما هنا ، قال ابن منظور : ( إن شئت حذفت الألف التي بعد الهاء ، وإن شئت أثبت ) .
(3) ح : ( من هذا المأزق ) .
(4) نعل السيف : ما يكون في أسفل جفنه من حديدة أو فضة .
(5) ح : ( ومعهم شوب من الناس ) .

واقعة صفين _ 93 _

  فقال : قتيل عمية لا يدري من قتله (1) ، ديته من بيت مال المسلمين ، وقال علاقة التيمي (2) :
أعـوذ  بـربي أن تكون منيتي      كما مات في سوق البراذين أربد
تـعاوره هـمدان خـفق iiنعالهم      إذا  رفـعت عنه يد وضعت iiيد
  قال : وقام الأشتر فحمد الله وأثنى عليه فقال : ( يا أمير المؤمنين ، لا يهدنك ما رأيت ، ولا يؤيسنك من نصرنا ما سمعت من مقالة هذا الشقي الخائن ، جميع من ترى من الناس شيعتك ، وليسوا يرغبون بأنفسهم عن نفسك ، ولا يحبون بقاء بعدك ، فإن شئت فسر بنا إلى عدوك ، والله ما ينجو من الموت من خافه ، ولا يعطى البقاء من أحبه ، وما يعيش بالآمال إلا شقى ، وإنا لعلى بينة من ربنا أن نفسا لن تموت حتى يأتي أجلها ، فكيف لا نقاتل قوما هم كما وصف أمير المؤمنين ، وقد وثبت عصابة منهم على طائفة من المسلمين ( بالأمس ) فأسخطوا الله ، وأظلمت بأعمالهم الأرض ، وباعوا خلاقهم (3) بعرض من الدنيا يسير ) ، فقال علي ( عليه السلام ) : ( الطريق مشترك ، والناس في الحق سواء ، ومن اجتهد رأيه في نصيحة العامة فله ما نوى وقد قضى ما عليه ) ، ثم نزل فدخل منزله ، نصر : عمر بن سعد قال : حدثني أبو زهير العبسي ، عن النضر بن صالح ، أن عبد الله بن المعتم العبسي ، وحنظلة بن الربيع التميمي ، لما أمر علي ( عليه السلام ) الناس بالمسير إلى الشام ، دخلا في رجال كثير من غطفان وبني تميم على أمير المؤمنين ، فقال له التميمي : ( يا أمير المؤمنين ، إنا قد مشينا إليك بنصيحة فاقبلها منا ، ورأينا لك رأيا فلا ترده علينا ، فإنا نظرنا لك ولمن معك ، أقم وكاتب هذا الرجل ، ولا تعجل إلى قتال أهل الشام ، فإني والله ما أدري ولا تدري لمن تكون إذا التقيتم الغلبة ، وعلى من تكون الدبرة ) .

---------------------------
(1) العمية ، بكسر العين وتشديد الميم المكسورة والياء المفتوحة المشددة ، ويقال أيضا ( عميا ) بوزنه مع القصر ، أي ميتة فتنة وجهالة .
(2) بدلها في ح : ( فقال بعض بني تيم اللات بن ثعلبة ) .
(3) الخلاق ، بالفتح : الحظ والنصيب من الخير .

واقعة صفين _ 94 _

  وقام ابن المعتم فتكلم ، وتكلم القوم الذين دخلوا معهما بمثل ما تكلم به ، فحمد على الله وأثنى عليه ، وقال : ( أما بعد فإن الله وارث العباد والبلاد ، ورب السموات السبع والأرضين السبع ، وإليه ترجعون ، يؤتي الملك من يشاء وينزعه ممن يشاء ، ويعز من يشاء ويذل من يشاء ، أما الدبرة فإنها على ( الضالين ) العاصين ، ظفروا أو ظفر بهم ، وايم الله إني لأسمع كلام قوم ما أراهم يريدون أن يعرفوا معروفا ، ولا ينكروا منكرا ) ، فقام إليه معقل بن قيس اليربوعي ثم الرياحي فقال : ( يا أمير المؤمنين ، إن هؤلاء والله ما أتوك بنصح ، ولا دخلوا عليك إلا بغش ، فاحذرهم فإنهم أدنى العدو ) ، فقال له مالك بن حبيب : يا أمير المؤمنين ، إنه بلغني أن حنظلة هذا يكاتب معاوية ، فادفعه إلينا نحبسه حتى تنقضي غزاتك ثم تنصرف ، وقام إلى علي عياش بن ربيعة ، وقائد بن بكير العبسيان ، فقالا : يا أمير المؤمنين ، إن صاحبنا عبد الله بن المعتم قد بلغنا أنه يكاتب معاوية ، فأحبسه أو أمكنا منه نحبسه حتى تنقضي غزاتك وتنصرف ، فأخذا يقولان : هذا جزاء من نظر لكم (1) وأشار عليكم بالرأي فيما بينكم وبين عدوكم .

---------------------------
(1) في الأصل : ( من نصركم ) صوابه من ح ( 1 : 280 ) .

واقعة صفين _ 95 _

  فقال لهما علي : ( الله بيني وبينكم ، وإليه أكلكم ، وبه أستظهر عليكم ، اذهبوا حيث شئتم ) ، ثم بعث علي إلى حنظلة بن الربيع ، المعروف بحنظلة الكاتب (1) ، وهو من الصحابة ، فقال : يا حنظلة ، أعلي أم لي ؟ قال : لا عليك ولا لك ، قال : فما تريد ؟ قال : اشخص إلى الرها (2) ، فإنه فرج من الفروج ، اصمد له حتى ينقضى هذا الأمر ، فغضب من ذلك خيار بني عمرو بن تميم ـ وهم رهطه ـ فقال : إنكم والله لا تغروني من ديني ، دعوني فأنا أعلم منكم ، فقالوا : والله لئن لم تخرج مع هذا الرجل لا ندع فلانة تخرج معك ـ لأم ولده ـ ولا ولدها ، ولئن أردت ذلك لنقتلنك ، فأعانه ناس من قومه فاخترطوا سيوفهم ، فقال : أجلوني ( حتى ) أنظر ، فدخل منزله وأغلق بابه حتى إذا أمسى هرب إلى معاوية ، وخرج من بعده إليه من قومه رجال كثير ، ولحق ابن المعتم أيضا حتى أتى معاوية ، وخرج معه أحد عشر رجلا من قومه ، وأما حنظلة فخرج بثلاثة وعشرين رجلا من قومه ، ولكنهما لم يقاتلا مع معاوية واعتزلا الفريقين جميعا ، فقال حنظلة حين خرج إلى معاوية :
يسل  غواة عند بابي سيوفها      ونادى مناد في الهجيم iiلأقبلا
سأترككم عودا لأصعب فرقة      إذا  قـلتم كلا يقول لكم iiبلى
  قال : فلما هرب حنظلة أمر علي بداره فهدمت ، هدمها عريفهم بكر بن تميم ، وشبث بن ربعي ، فقال في ذلك :

---------------------------
(1) هو حنظلة بن الربيع ـ ويقال ابن ربيعة ـ بن صيفي ، ابن أخي أكثم بن صيفي حكيم العرب ، وكتب للنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مرة كتابا فسمى بذلك ( الكاتب ) ، وكانت الكتابة قليلة في العرب ، وكان ممن تخف عن علي ( عليه السلام ) يوم الجمل ، وهو الذي قال للنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ( لليهود يوم وللنصارى يوم ، فلو كان لنا يوم ) فنزلت سورة الجمعة ، انظر الإسابة 1855 والمعارف 130 .
(2) الرها ، بضم أوله والمد والقصر : مدينة بالجزيرة بين الموصل والشام .

واقعة صفين _ 96 _

أيـا  راكـبا إما عرضت iiفبلغن      مـغلغلة عـني سراة بني iiعمرو
فـأوصيكم بالله والـبر iiوالـتقي      ولا تنظروا في النائبات إلى iiبكر
ولا  شـبث ذي الـمنخرين كأنه      أزب جمال في ملاحية صفر  (1)
  وقال أيضا يحرض معاوية بن أبي سفيان :
أبـلغ مـعاوية بن حرب iiخطة      ولـكل سـائلة تـسيل iiقـرار
انـقـبلن دنـيـة تـعـطونها      فـي  الأمر حتى تقتل الأنصار
وكـما تـبوء دمـاؤهم iiبدمائكم      وكـما  تـهدم بالديار ديار  (2)
وتـرى  نساؤهم يجلن iiحواسرا      ولهن من علق الدماء خوار  (3)
  نصر : عمر بن سعد ، عن سعد بن طريف ، عن أبي المجاهد ، عن المحل ابن خليفة قال : قام عدي بن حاتم الطائي ( بين يدي علي ( عليه السلام ) فحمد الله بما هو أهله وأثنى عليه ثم قال : ( يا أمير المؤمنين ، ما قلت إلا بعلم ، ولا دعوت إلا إلى حق ، ولا أمرت إلا برشد ، فإن رأيت (4) أن تستأني هؤلاء القوم وتستديمهم حتى تأتيهم كتبك ، ويقدم عليهم ررسلك ـ فعلت .

---------------------------
(1) الأزب من الإبل : الكثير شعر الوجه والعثنون ، والملاحي ، بضم الميم وتخفيف اللام ، هو من الأراك ما فيه بياض وشهبة وحمرة ، وفي ح : ( قد غار ليلة النفر ) ، وفي هامش الأصل : ( قد دعا ليلة النفر ) إشارة إلى أنه كذلك في نسخة أخرى ، صواب هذين : ( قد رغا ) .
(2) في الأصل : وتجر قتلاهم بقتلى حروب ، وكما يقدم بالديار ديار وأثبت ما في ح ( 1 : 280 ) ، وكتب في حاشية الأصل : ( وكما تبوء دماؤهم بدمائكم ) إشارة إلى أن صدره كذلك في نسخة أخر .
(3) أصل الخوار صوت البقر والغنم والظباء ، وفي ح : ( من ثكل الرجال خوار ) .
(4) ح : ( 1 : 280 ) : ( ولكن إذا رأيت ) .

واقعة صفين _ 97 _

  فإن يقبلوا يصيبوا ويرشدوا (1) ، والعافية أوسع لنا ولهم ، وإن يتمادوا في الشقاق ولا ينزعوا عن الغي فسر إليهم ، وقد قدمنا إليهم العذر (2) ودعوناهم إلى ما في أيدينا من الحق ، فوالله لهم من الله أبعد ، وعلى الله أهون ، من قوم قاتلناهم بناحية البصرة أمس ، لما أجهد لهم الحق (4) فتركوه ، ناوخناهم براكاء (4) القتال حتى بلغنا منهم ما نحب ، وبلغ الله منهم رضاه فيما يرى ) ، فقام زيد بن حصين الطائي ـ وكان من أصحاب البرانس (5) المجتهدين فقال : الحمد لله حتى يرضى ، ولا إله إلا الله ربنا ، ومحمد رسول الله نبينا ، إما بعد فوالله لئن كنا في شك من قتال من خالفنا ، لا يصلح لنا النية في قتالهم حتى نستديمهم ونستأنيهم ، ما الأعمال إلا في تباب ، ولا السعي إلا في ضلال ، والله يقول : ( وأما بنعمة ربك فحدث ) ، إنا والله ما ارتبنا طرفة عين فيمن يبتغون دمه (6) ، فكيف بأتباعه القاسية قلوبهم ، القليل في الإسلام حظهم ، أعوان الظلم ومسددي أساس الجور والعدوان (7) ، ليسوا من المهاجرين ولا الأنصار ، ولا التابعين بإحسان .

---------------------------
(1) ح : ( يصيبوا رشدهم ) .
(2) ح : ( بالعذر ) .
(3) في اللسان : ( أجهد لك الطريق وأجهد لك الحق : برز وظهر ووضح ) ، وفي الأصل ( أجهدنا ) والفعل لازم كما رأيت ، كما رأيت ، وفي ح : ( لما دعوناهم إلى الحق ) .
(4) البراكاء ، بضم الراء وفتحها : الابتراك في الحرب ، وهو أن يجثو القوم على ركبهم ، والمناوخة : مفاعله من النوخ ، وهو البروك ، وفي الأصل : ( ناوحناهم ) بالمهملة ، صوابه في ح .
(5) البرنس ، بالضم : قلنسوة طويلة ، أو كل ثوب رأسه منه .
(6) ح : ( فيمن يتبعونه ) .
(7) ح : ( وأصحاب الجور والعدوان ) .

واقعة صفين _ 98 _

  فقام رجل من طيئ فقال : يا زيد بن حصين ، أكلام سيدنا عدي بن حاتم تهجن ؟ قال : فقال زيد : ما أنتم بأعرف بحق عدي مني ، ولكني لا أدع القول بالحق وإن سخط الناس ، قال : فقال عدي بن حاتم : الطريق مشترك ، والناس في الحق سواء ، فمن اجتهد رأيه في نصيحة العامة فقد قضى الذي عليه (1) ، نصر : عمر بن سعد ، عن الحارث بن حصيرة (2) قال : دخل أبو زبيب (3) بن عوف على علي فقال : ( يا أمير المؤمنين ، لئن كنا على الحق لأنت أهدانا سبيلا ، وأعظمنا في الخير نصيبا ، ولئن كنا في ضلالة إنك لأثقلنا ظهرا وأعظمنا وزرا : أمرتنا بالمسير إلى هذا العدو وقد قطعنا ما بيننا وبينهم من الولاية ، وأظهرنا لهم العداوة ، نريد بذلك ما يعلم الله ( من طاعتك ) ، وفي أنفسنا من ذلك ما فيها ، أليس الذي نحن عليه الحق المبين ، والذي عليه عدونا الغي والحوب الكبير ؟ ) ، فقال علي : ( بلى ) ، شهدت أنك إن مضيت معنا ناصرا لدعوتنا ، صحيح النية في نصرتنا ، قد قطعت منهم الولاية ، وأظهرت لهم العداوة كما زعمت ، فإنك ولي الله تسيح (4) في رضوانه ، وتركض في طاعته : فأبشر أبا زبيب ) .

---------------------------
(1) ما بعد : ( سخط الناس ( ساقط من ح ، فهو إما دخيل على النسخة ، أو تمثل من عدي بقول علي ( عليه السلام ) ، الذي سبق في ص 95 .
(2) سبقت ترجمته في ص 3 ، وفي الأصل : ( حضيرة ) بالضاد المعجمة ، تحريف ، وفي هامش الأصل ( خ : حصين ) إشارة إلى أنه ( حصين ) في نسخة أخرى ، وهذه الأخيرة توافق ما ورد في ح ( 1 : 280 ) ، وليس بشيء .
(3) ح : ( أبو زينب ) في جميع المواضع .
(4) ح : ( تسبح ) من السباحة .

واقعة صفين _ 99 _

   فقال له عمار بن ياسر : اثبت أبا زبيب ولا تشك في الأحزاب عدو الله ورسوله (1) ، قال : فقال أبو زبيب : ما أحب أن لي شاهدين من هذه الأمة فيشهدا لي على ما سألت عنه من هذا الأمر الذي أهمني مكانكما ، قال : وخرج عمار ( بن ياسر ) وهو يقول :
سيروا إلى الأحزاب أعداء النبي      سـيروا فخير الناس اتباع iiعلي
هـذا  أوان طاب سل iiالمشرفي      وقـودنا الـخيل وهز iiالسمهري
  عمر بن سعد عن أبي روق قال : دخل يزيد بن قيس الأرحبي على علي بن أبي طالب فقال : يا أمير المؤمنين ، نحن على جهاز وعدة (2) ، وأكثر الناس أهل قوة (3) ومن ليس بمضعف وليس به علة ، فمر مناديك فليناد الناس يخرجوا إلى معسكرهم بالنخيلة ، فإن أخا الحرب ليس بالسؤوم ولا النؤوم ، ولا من إذا أمكنه الفرص أجلها واستشار فيها ، ولا من يؤخر الحرب في اليوم إلى غد وبعد غد .

---------------------------
(1) عدو ، يقال للمفرد والمثنى والجمع والمذكر والمؤنث بلفظ واحدا ، ويقال أيضا عدوة وعدوان وأعداء .
(2) الجهاز : ما يحتاج إليه المسافر والغازي ، ح : ( أولو جهاز وعدة ) .
(3) أي أصحاب قوة ، وفي الأصل : ( القوة ) وأثبت ما في ح ( 1 : 281 ) .

واقعة صفين _ 100 _

   فقال زياد بن النضر : لقد نصح لك يا أمير المؤمنين يزيد بن قيس ، وقال ما يعرف ، فتوكل على الله وثق به ، واشخص بنا إلى هذا العدو راشدا معانا ، فإن يرد الله بهم خيرا لا يدعوك رغبة عنك إلى من ليس مثلك في السابقة مع النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، والقدم (1) في الإسلام ، والقرابة من محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وإلا ينيبوا ويقبلوا ويأبوا إلا حربنا نجد حربهم علينا هينا ، ورجونا أن يصرعهم الله مصارع إخوانهم بالأمس ، ثم قام عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي فقال : ( يا أمير المؤمنين ، إن القوم لو كانوا الله يريدون أو لله يعملون ، ما خالفونا ، ولكن القوم إنما يقاتلون فرارا من الأسوة (2) ، وحبا للأثرة ، وضنا بسلطانهم ، وكرها لفراق دنياهم التي في أيديهم ، وعلي إحن في أنفسهم ، وعداوة يجدونها في صدورهم ، لوقائع أوقعتها يا أمير المؤمنين بهم قديمة ، قتلت فيها أباءهم وإخوانهم (3) ، ثم التفت إلى الناس فقال : فكيف يبايع معاوية عليا وقد قتل أخاه حنظلة ، وخاله الوليد ، وجده عتبة في موقف واحد ، والله ما أظن أن يفعلوا (4) ، ولن يستقيموا لكم دون أن تقصد فيهم المران (5) ، وتقطع على هامهم السيوف ، وتنثر حواجبهم بعمد الحديد ، وتكون أمور جمة بين الفريقين ، نصر : عمر بن سعد ، عن عبد الرحمن ، عن الحارث بن حصيرة (6) .

---------------------------
(1) القدم ، بفتحتين : السبق والتقدم في الإسلام .
(2) الأسوة ، ها هنا : التسوية بين المسلمين في قسمة المال ، انظر ح ( 3 : 4 ) .
(3) ح : ( وأعوانهم ) .
(4) ح : ( ما أظنهم يفعلون ) .
(5) تقصد : تكسر ، والمران : الرماح الصلبة اللينة ، والمران أيضا : نبات الرماح ، ح : ( دون أن تقصف فيهم قنا ؟ ؟ المران ) .
(6) ح : ( حصين ) وانظر ما سبق في ص 3 .

واقعة صفين _ 101 _

  عن عبد الله بن شريك قال : خرج حجر بن عدي ، وعمرو بن الحمق ، يظهران البراءة واللعن من أهل الشام ، فأرسل إليهما علي : أن كفا عما يبلغني عنكما فأتياه فقالا : يا أمير المؤمنين ؛ ألسنا محقين ؟ قال : بلى ، ( قالا : أو ليسوا مبطلين ؟ قال : بلى ) ، قالا : فلم منعتنا من شتمهم ؟ قال : ( كرهت لكم أن تكونوا لعانين شتامين ، تشتمون وتتبرءون ، ولكن لو وصفتم مساوي أعمالهم فقلتم : من سيرتهم كذا وكذا ، ومن عملهم كذا وكذا ، كان أصوب في القول ، وأبلغ في العذر ، و ( لو (1) ) قلتم مكان لعنكم إياهم وبراءتكم منهم : اللهم احقن دماءنا ودماءهم ، وأصلح ذات بيننا وبينهم ، واهدهم من ضلالتهم ، حتى يعرف الحق منهم من جهله ، ويرعوي عن الغي والعدوان من لهج به ، كان هذا أحب إلى وخيرا لكم ، فقالا : يا أمير المؤمنين ، نقبل عظتك ، ونتأدب بأدبك ، وقال عمرو بن الحمق : إني والله يا أمير المؤمنين ما أجبتك ولا بايعتك على قرابة بيني وبينك ، ولا إرادة مال تؤتينيه ، ولا التماس سلطان يرفع ذكرى به ، ولكن أجبتك لخصال خمس : أنك ابن عم رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وأول من آمن به ، وزوج سيدة نساء الأمة فاطمة بنت محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وأبو الذرية التى بقيت فينا من رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وأعظم رجل من المهاجرين سهما في الجهاد ، فلو أني كلفت نقل الجبال الرواسي ، ونزح (2) البحور الطوامي حتى يأتي على يومي في أمر أقوى به وليك وأوهن به عدوك ، ما رأيت أنى قد أديت فيه كل الذي يحق على من حقك ، فقال أمير المؤمنين علي :

---------------------------
(1) ليست في الأصل ولا في ح ، وبها يلتئم الكلام .
(2) في الأصل : ( وأنزح ) صوابه في ح ( 1 : 281 ) .

واقعة صفين _ 102 _

  اللهم نور قلبه بالتقى ، واهده إلى صراط مستقيم (1) ، ليت أن في جندي مائة مثلك ، فقال حجر : إذا والله يا أمير المؤمنين صح جندك ، وقل فيهم من يغشك ، ثم قال حجر فقال : يا أمير المؤمنين ، نحن بنو الحرب وأهلها ، الذين نلقحها وننتجها ، قد ضارستنا وضارسناها (2) ، ولنا أعوان ذو وصلاح ، وعشيرة ذات عدد ، ورأي مجرب وبأس محمود ، وأزمتنا منقادة لك بالسمع والطاعة ؛ فإن شرقت شرقنا ، وإن غربت غربنا ، وما أمرتنا به من أمر فعلناه ، فقال علي : ( أكل قومك يرى مثل رأيك ؟ ) قال : ( ما رأيت منهم إلا حسنا ، وهذه يدى عنهم بالسمع والطاعة ، وبحسن الإجابة ) ، فقال له علي خيرا ، قال نصر : وفي حديث عمر بن سعد قال : وكتب علي إلى عماله ، فكتب إلى مخنف بن سليم : سلام عليك ، فإني أحمد الله إليك الذي لا إله إلا هو ، أما بعد فإن جهاد من صدف عن الحق رغبة عنه ، وهب في نعاس العمي والضلال اختيارا له ـ فريضة على العارفين ، إن الله يرضى عمن أرضاه ، ويسخط على من عصاه ، وإنا قد هممنا بالمسير إلى هؤلاء القوم الذين عملوا في عباد الله بغير ما أنزل الله ، واستأثروا بالفئ ، وعطلوا الحدود ، وأماتوا الحق ، وأظهروا في الأرض الفساد ، واتخذوا الفاسقين وليجة من دون المؤمنين ، فإذا ولي لله أعظم أحداثهم أبغضوه وأقصوه وحرموه ، وإذا ظالم ساعدهم على ظلمهم أحبوه وأدنوه وبروه فقد أصروا على الظلم ، وأجمعوا على الخلاف ، وقديما ما صدوا عن الحق ، وتعاونوا على الإثم وكانوا ظالمين .

---------------------------
(1) ح : ( صراطك المستقيم ) .
(2) في اللسان ( 8 : 424 ) : ( وضارست الأمور : جربتها وعرفتها ) .

واقعة صفين _ 103 _

  فإذا أتيت بكتابي هذا فاستخلف علي عملك أوثق أصحابك في نفسك ، وأقبل إلينا لعلك تلقى هذا العدو المحل فتأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر ، وتجامع الحق وتباين الباطل ؛ فإنه لا غناء بنا ولا بك عن أجر الجهاد ، وحسبنا الله ونعم الوكيل ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، وكتب عبد الله بن أبي رافع سنة سبع وثلاثين ، فاستعمل مخنف على أصبهان الحارث بن أبي الحارث بن الربيع ، واستعمل على همدان سعيد بن وهب ـ وكلاهما من قومه ـ وأقبل حتى شهد مع علي صفين ، وكان علي قد استخلف ابن عباس على البصرة ، فكتب عبد الله بن عباس إلى علي يذكر له اختلاف أهل البصرة ، فكتب إليه علي : من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى عبد الله بن عباس ، أما بعد فالحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد عبده ورسوله ، أما بعد (1) فقد قدم على رسولك وذكرت ما رأيت وبلغك عن أهل البصرة بعد انصرافي (2) وسأخبرك عن القوم : هم بين مقيم لرغبة يرجوها ، أو عقوبة يخشاها (3) ، فأرغب راغبهم بالعدل عليه ، والإنصاف له والإحسان إليه ؛ وحل عقدة الخوف عن قلوبهم ، فإنه ليس لأمراء أهل البصرة في قلوبهم عظم (4) إلا قليل منهم ، وانته إلى أمرى ولا تعده ، وأحسن إلى هذا الحي من ربيعة ، وكل من قبلك فأحسن إليهم ما استطعت إن شاء الله ، والسلام ، وكتب عبد الله بن أبي رافع في ذي القعدة سنة سبع وثلاثين .

---------------------------
(1) كذا جاءت ( أما بعد ) مكررة . . وأول الرسالة في ح : ( أما بعد فقد قدم على رسولك ) بإهمال ما قبلها من الكلام .
(2) ح : ( وقرأت كتابك تذكر فيه حال أهل البصرة واختلافهم بعد انصرافي عنهم ) .
(3) ح : ( أو خائف من عقوبة يخشاها ) .
(4) كذا في الأصل وح ، ولعلها : ( عصم ) جمع عصام ، وهو الحبل يشد به .

واقعة صفين _ 104 _

  وكتب : من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى الأسود بن قطنة ، أما بعد فإنه من لم ينتفع بما وعظ لم يحذر ما هو غابر (1) ومن أعجبته الدنيا رضي بها ، وليست بثقة ، فاعتبر بما مضى تحذر ما بقى ، واطبخ للمسلمين قبلك من الطلاء ما يذهب ثلثاه (2) ، وأكثر لنا من لطف الجند ، واجعله مكان ما عليهم من أرزاق الجند ، فإن للولدان علينا حقا ، وفي الذرية من يخاف دعاؤه ، وهو لهم صالح ، والسلام ، وكتب : بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى عبد الله بن عامر ، أما بعد فإن خير الناس عند الله عز وجل أقومهم لله بالطاعة فيما له وعليه ، وأقولهم بالحق ولو كان مرا ، فإن الحق به قامت السماوات والأرض ، ولتكن سريرتك كعلانيتك ، وليكن حكمك واحدا ، وطريقتك مستقيمة ، فإن البصرة مهبط الشيطان ، فلا تفتحن على يد أحد منهم بابا لا نطيق سده نحن ولا أنت ، والسلام ، وكتب : بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى عبد الله بن عباس ، أما بعد فانظر ما اجتمع عندك من غلات المسلمين وفيئهم ، فاقسمه من قبلك حتى تغنيهم ، وابعث إلينا بما فضل نقسمه فيمن قبلنا ، والسلام .

---------------------------
(1) في اللسان : الغابر : الباقي ، قال : وقد يقال للماضي غابر .
(2) الطلاء ، بالكسر : ما طبخ من عصير العنب .

واقعة صفين _ 105 _

  وكتب : بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى عبد الله بن عباس ، أما بعد فإن الإنسان قد يسره ما لم يكن ليفوته ، ويسوءه فوت ما لم يكن ليدركه وإن جهد ، فليكن سرورك فيما قدمت من حكم أو منطق أو سيرة ، وليكن أسفك على ما فرطت لله فيه من ذلك ، ودع ما فاتك من الدنيا فلا تكثر به حزنا ، وما أصابك فيها فلا تبغ به سرورا ، وليكن همك فيما بعد الموت ، والسلام (1) ، وكتب إلى أمراء الجنود : بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله علي أمير المؤمنين ، أما بعد فإن حق الوالي ألا يغيره على رعيته أمر ناله ولا أمر خص به ، وأن يزيده ما قسم الله له دنوا من عباده وعطفا عليهم ، ألا وإن لكم عندي ألا أحتجز دونكم سرا إلا في حرب ، ولا أطوي عنكم أمرا إلا في حكم ، ولا أؤخر حقا لكم عن محله ، ولا أرزأكم شيئا ، وأن تكونوا عندي في الحق سواء ، فإذا فعلت ذلك وجبت عليكم النصيحة والطاعة ، فلا تنكصوا عن دعوتي ، ولا تفرطوا في صلاح دينكم من دنياكم ، وأن تنفذوا لما هو لله طاعة ، ولمعيشتكم صلاح ، وأن تخوضوا الغمرات إلى الحق ولا يأخذكم في الله لومة لائم ، فإن أبيتم أن تستقيموا لي على ذلك لم يكن أحد أهون علي ممن فعل ذلك منكم ، ثم أعاقبه عقوبة لا يجد عندي فيها هوادة ، فخذوا هذا من أمرائكم ، وأعطوهم من أنفسكم ، يصلح الله أمركم ، والسلام .

---------------------------
(1) انظر مجالس ثعلب 186 .

واقعة صفين _ 106 _

  وكتب إلى أمراء الخراج : بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى أمراء الخراج (1) ، أما بعد فإنه من لم يحذر ما هو صائر إليه لم يقدم لنفسه ولم يحرزها ، ومن اتبع هواه وانقاد له على ما يعرف نفع عاقبته عما قليل ليصبحن من النادمين ، ألا وأن أسعد الناس في الدنيا من عدل عما يعرف ضره ، وإن أشقاهم من اتبع هواه ، فاعتبروا واعلموا أن لكم ما قدمتم من خير ، وما سوى ذلك وددتم لو أن بينكم وبينه أمدا بعيدا ويحذركم الله نفسه والله رءوف ورحيم بالعباد ، وإن عليكم ما فرطتم فيه ، وإن الذي طلبتم ليسير ، وإن ثوابه لكبير ، ولو لم يكن فيما نهى عنه من الظلم والعدوان عقاب يخاف ، كان في ثوابه مالا عذر لأحد بترك طلبته (2) فارحموا ترحموا ، ولا تعذبوا خلق الله ولا تكلفوهم فوق طاقتهم ، وأنصفوا الناس من أنفسكم ، واصبروا لحوائجهم فإنكم خزان الرعية ، لا تتخذن حجابا ، ولا تحجبن أحدا عن حاجته حتى ينهيها إليكم ، ولا تأخذوا أحدا بأحد إلا كفيلا عمن كفل عنه ، واصبروا أنفسكم على ما فيه الاغتباط ، وإياكم وتأخير العمل ودفع الخير ، فإن في ذلك الندم ، والسلام ، وكتب إلى معاوية : بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى معاوية بن أبي سفيان ، سلام على من اتبع الهدى ، فإني أحمد الله إليك الذي لا إله إلا هو ، أما بعد فإنك قد رأيت من الدنيا وتصرفها بأهلها وإلى ما مضى منها ، وخير ما بقى من الدنيا ما أصاب العباد الصادقون فيما مضى .

---------------------------
(1) في نهج البلاغة بشرح ابن أبي الحديد ( 4 : 115 ) : ( أصحاب الخراج ) .
(2) الطلبة ، بالكسر : الطلب .

واقعة صفين _ 107 _

  ومن نسي الدنيا نسيان الآخرة يجد بينهما بونا بعيدا ، واعلم يا معاوية أنك قد ادعيت أمرا لست من أهله لا في القدم ولا في الولاية (1) ، ولست تقول فيه بأمر بين تعرف لك به أثرة ولا لك عليه شاهد من كتاب الله ، ولا عهد تدعيه من رسول الله ، فكيف أنت صانع إذا انقشعت عنك جلابيب ما أنت فيه من دنيا أبهجت بزينتها (2) وركنت إلى لذتها ، وخلى فيها بينك وبين عدو جاهد ملح ، مع ما عرض في نفسك من دنيا قد دعتك فأجبتها ، وقادتك فاتبعتها ، وأمرتك فأطعتها ، فاقعس عن هذا الأمر (3) ، وخذ أهبة الحساب ، فإنه يوشك أن يقفك واقف على ما لا يجنك منه مجن (4) ، ومتى كنتم يا معاوية ساسة للرعية ، أو ولاة لأمر هذه الأمة بغير قدم حسن ، ولا شرف سابق على قومكم ، فشمر لما قد نزل بك ، ولا تمكن الشيطان من بغيته فيك ، مع أني أعرف أن الله ورسوله صادقان ، فنعوذ بالله من لزوم سابق الشقاء ، وإلا تفعل أعلمك ما أغفلك من نفسك (5) ، فإنك مترف قد أخذ منك الشيطان مأخذه ، فجرى منك مجرى الدم في العروق ، واعلم أن هذا الأمر لو كان إلى الناس أو بأيديهم لحسدونا وامتنوا به علينا ، ولكنه قضاء ممن امتن به علينا على لسان نبيه الصادق المصدق ، لا أفلح من شك بعد العرفان والبينة ، اللهم احكم بيننا وبين عدونا بالحق وأنت خير الحاكمين .

---------------------------
(1) انظر ما سبق في التنبيه الأول ص 102 .
(2) في اللسان : ( أبهجت الأرض : بهج نباتها ) ، وفي الأصل : ( انتهت ) تحريف ، وفي ح ( 3 : 410 ) : ( تبهجت ) قال ابن أبي الحديد : ( وتبهجت بزينتها : صارت ، ذات بهجة ) ، ولم أجد هذه الصيغة في المعاجم .
(3) القعس : التأخر والرجوع إلى الخلف ، كما في اللسان ، وفي الأصل : ( فايس من هذا الأمر ) صوابه في ح ( 3 : 409 ) .
(4) رواه ح : ( ما لا ينجيك منه منج ) ، وقال : ( ويروى : ولا ينجيك مجن ، وهو الترس : والرواية الأولى أصح ) .
(5) ح : ( ما أغفلت ) .

واقعة صفين _ 108 _

  فكتب معاوية : بسم الله الرحمن الرحيم من معاوية بن أبي سفيان إلى علي بن أبي طالب ، أما بعد فدع الحسد فإنك طالما لم تنتفع به ، ولا تفسد سابقة قدمك بشره نخوتك ، فإن الأعمال بخواتيمها ، ولا تمحق سابقتك في حق من لا حق لك في حقه (1) ، فإنك إن تفعل لا تضر بذلك إلا نفسك ، ولا تمحق إلا عملك ، ولا تبطل إلا حجتك ، ولعمري ما مضى لك من السابقات لشبيه أن يكون ممحوقا ؛ لما اجترأت عليه من سفك الدماء ، وخلاف أهل الحق ، فاقرأ سورة الفلق ، وتعوذ بالله من شر نفسك ، فإنك الحاسد إذا حسد ، وكتب إلى عمرو بن العاص : بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى عمرو بن العاص ، أما بعد فإن الدنيا مشغلة عن غيرها ، وصاحبها مقهور فيها (2) ، لم يصب منها شيئا قط إلا فتحت له حرصا ، وأدخلت عليه مؤونة تزيده رغبة فيها ، ولن يستغني صاحبها بما نال عما لم يبلغه ، ومن وراء ذلك فراق ما جمع ، والسعيد من وعظ بغيره ، فلا تحبط أجرك أبا عبد الله ، ولا تجارين معاوية في باطله (3) .

---------------------------
(1) حق الرجل وأحقه : إذا غلبه على الحق .
(2) ح ( 4 : 114 ) : ( وصاحبها منهوم عليها ) .
(3) ح : ( ولا تشرك معاوية في باطله ) .

واقعة صفين _ 109 _

  فإن معاوية غمص الناس وسفه الحق (1) ، ( والسلام (2) ) ، وكتب إليه عمرو بن العاص : من عمرو بن العاص إلى علي بن أبي طالب ، أما بعد فإن الذي فيه صلاحنا وألفة ذات بيننا أن تنيب إلى الحق (3) ، وأن تجيب إلى ما تدعون إليه من شورى (4) ، فصبر الرجل منا نفسه على الحق ، وعذره الناس بالمحاجزة ، والسلام ، فجاء الكتاب إلى علي قبل أن يرتحل من النخيلة ، نصر : عمر بن سعد ، عن أبي روق قال : قال زياد بن النضر الحارثي لعبد الله بن بديل بن ورقاء : إن يومنا ويومهم ليوم عصيب ، ما يصبر عليه إلا كل مشيع القلب (5) ، صادق النية ، رابط الجأش ، وايم الله ما أظن ذلك اليوم يبقى منا ومنهم إلا الرذال (6) ، قال عبد الله بن بديل : والله أظن ذلك ، فقال علي : ليكن هذا الكلام مخزونا في صدوركما ، لا تظهراه ولا يسمعه منكما سامع ، إن الله كتب القتل على قوم والموت على آخرين ، وكل آتيه منيته كما كتب الله له ، فطوبى للمجاهدين في سبيل الله ، والمقتولين في طاعته .

---------------------------
(1) غمص الناس : احتقرهم ولم يرهم شيئا ، وسفه الحق ، مختلف في تأويله ، قيل معناه سفه الحق تسفيها ، وقال الزجاج : سفه في معنى جهل ، وهو اقتباس من حديث لرسول الله رواه ابن منظور في اللسان ( غمص ) .
(2) زاد ان أبي الحديد بعد هذه الكلمة : ( قال نصر : وهذا أول كتاب كتبه علي ( عليه السلام ) إلى عمرو بن العاص ) .
(3) أناب : رجع .
(4) ح : ( إلى ما ندعوكم إليه من الشورى ) .
(5) المشيع القلب : الشجاع .
(6) الرذل ، والرذال ، والرذيل ، والأرذل : الدون الخسيس .

واقعة صفين _ 110 _

  فلما سمع هاشم بن عتبة (1) مقالتهم ( قام (2) ) فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : سربنا يا أمير المؤمنين إلى هؤلاء القوم القاسية قلوبهم ، الذين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم ، وعملوا في عباد الله بغير رضا الله ، فأحلوا حرامه وحرموا حلاله ، واستولاهم الشيطان (3) ووعدهم الأباطيل ومناهم الأماني ، حتى أزاغهم عن الهدى وقصد بهم قصد الردى ، وحبب إليهم الدنيا ، فهم يقاتلون على دنياهم رغبة فيها كرغبتنا في الآخرة إنجاز موعود ربنا ، وأنت يا أمير المؤمنين أقرب الناس من رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) رحما ، وأفضل الناس سبقة وقدما ، وهم يا أمير المؤمنين منك مثل الذي علمنا ، ولكن كتب عليهم الشقاء ، ومالت بهم الأهواء وكانوا ظالمين ، فأيدينا مبسوطة لك بالسمع والطاعة ، وقلوبنا منشرحة لك ببذل النصيحة ، وأنفسنا تنصرك (4) جذلة على من خالفك وتولى الأمر دونك ، والله ما أحب أن لي ما في الأرض مما أقلت ، وما تحت السماء مما أظلت ، وأني واليت عدوا لك ، أو عاديت وليا لك ، فقال علي : اللهم ارزقه الشهادة في سبيلك ، والمرافقة لنبيك ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ثم إن عليا صعد المنبر فخطب الناس ودعاهم إلى الجهاد ، فبدأ بالحمد لله والثناء عليه ثم قال : إن الله قد أكرمكم بدينه ، وخلقكم لعبادته ؛ فانصبوا أنفسكم في أداء حقه ، وتنجزوا موعوده ، واعلموا أن الله جعل أمراس الإسلام متينة ، وعراه وثيقة ، ثم جعل الطاعة حظ الأنفس برضا الرب ، وغنيمة الأكياس عند تفريط الفجرة .

---------------------------
(1) هو هاشم بن عتبة بن أبي وقاص ، وكان معه لواء علي ( عليه السلام ) يوم صفين ، وقتل في آخر أيامها ، انظر الإصابة 8913 والاشتقاق 96 .
(2) ليست في الأصل ، وفي ح : ( . . . ما قالاه أتى عليا ( عليه السلام ) فقال : سر بنا ) .
(3) كذا في الأصل ، وفي ح ( 1 : 282 ) : ( واستهوى بهم الشيطان ) وظني بها ( استهواهم ) .
(4) في الأصل : ( بنورك ) ، صوابها في ح .

واقعة صفين _ 111 _

  وقد حملت أمر أسودها وأحمرها (1) ، ولا قوة إلا بالله ، ونحن سائرون إن شاء الله إلى من سفه نفسه ، وتناول ما ليس له وما لا يدركه : معاوية وجنده ، الفئة الباغية الطاغية ، يقودهم إبليس ، ويبرق لهم ببارق تسويفه ، ويدليهم بغروره (2) ، وأنتم أعلم الناس بحلاله وحرامه ، فاستغنوا بما علمتم ، واحذروا ما حذركم الله من الشيطان ، وارغبوا فيما أنالكم من الأجر والكرامة ، واعلموا أن المسلوب من سلب دينه وأمانته ، والمغرور من آثر الضلالة على الهدى ، فلا أعرف أحدا منكم تقاعس عني وقال : في غيري كفاية ، فإن الذود إلى الذود إبل ، ومن لا يذد عن حوضه يتهدم ، ثم إني آمركم بالشدة في الأمر ، والجهاد في سبيل الله ، وألا تغتابوا مسلما ، وانتظروا النصر العاجل من الله إن شاء الله ، ثم قام الحسن بن علي خطيبا فقال : الحمد لله لا إله غيره ، وحده لا شريك له ، وأثنى عليه بما هو أهله ، ثم قال : إن مما عظم الله عليكم من حقه ، وأسبغ عليكم من نعمه ما لا يحصى ذكره ، ولا يؤدي شكره ، ولا يبلغه (3) صفة ولا قول .

---------------------------
(1) يعني العرب والعجم ، ولغالب على ألوان العرب السمرة والأدمة ، وعلى ألوان العجم البياض والحمرة ، في الأصل : ( أمركم أسودها وأحمرها ) ، صوابه في ح .
(2) أي يوقعهم فيما أراد من تغريره ، وفي الكتاب : ( فدلاهما بغرور ) .
(3) في الأصل : ( تبلغها ) ، والوجه ما أثبت من ح .

واقعة صفين _ 112 _

  ونحن إنما غضبنا لله ولكم ؛ فإنه من علينا بما هو أهله أن نشكر فيه آلاءه وبلاءه ونعماءه قولا (1) يصعد إلى الله فيه الرضا ، وتنتشر فيه عارفة الصدق ، يصدق الله فيه قولنا ، ونستوجب فيه المزيد من ربنا ، قولا يزيد ولا يبيد ؛ فإنه لم يجتمع قوم قط على أمر واحد إلا اشتد أمرهم ، واستحكمت عقدتهم ، فاحتشدوا في قتال عدوكم : معاوية وجنوده ؛ فإنه قد حضر ، ولا تخاذلوا ؛ فإن الخذلان يقطع نياط القلوب ؛ وإن الإقدام على الأسنة نجدة وعصمة ؛ لأنه لم يمتنع (2) قوم قط إلا رفع الله عنهم العلة ، وكفاهم جوائح الذلة (3) ، وهداهم إلى معالم الملة ، والصلح تأخذ منه ما رضيت ( به ) والحرب يكفيك من أنفاسها جرع (4) ، ثم قام الحسين بن علي خطيبا ، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ، ثم قال : يا أهل الكوفة أنتم الأحبة الكرماء ، ( و ) الشعار دون الدثار ؛ جدوا في إحياء ما دثر بينكم ، وإسهال ما توعر عليكم ، وألفة ما ذاع منكم (5) .

---------------------------
(1) في الأصل : ( قوك ) ، والكلام بعد : ( إنما غضبنا لله ولكم ) إلى : ( ولا يبيد ) لم يرد في ح .
(2) الامتناع : العزة والقوة ، وفي القاموس : ( والممتنع الأسد القوي العزيز في نفسه ) ، ح : ( يتمنع ) ، وفي اللسان : ( منع الشيء مناعة : اعتز وتعسر ، وقد تمنع ) .
(3) الجوائح : الدواهي والشدائد ، واحدتها جائحة ، وفي الأصل : ( حوائج ) ، والوجه ما أثبت من ح .
(4) البيت للعباس بن مرداس السلمي ، كما في الخزانة ( 2 : 82 ) والرواية ، المعروفة : ( السلم تأخذ منها ) ، ويستشهد بهذه الرواية اللغويون على أن ( السلم ) تؤنث ، قال التبريزي : ( الجرع : جمع جرعة ، وهي ملء الفم ، يخبره أن السلم هو فيها وادع ينال من مطالبه ما يريد فإذا جاءت الحرب قطعته عن لذاته وشغلته بنفسه ) ، وهو تحريض على الصلح ، وأنفاس الحرب ، أراد بها أوائلها .
(5) ليست في ح ، وذاع : انتشر وتفرق ، وفي الأصل : ( أذاع ) .

واقعة صفين _ 113 _

  ألا إن الحرب شرها ذريع ، وطعمها فظيع ، وهي جرع متحساة ، فمن أخذ لها أهبتها ، واستعد لها عدتها ، ولم يألم كلومها عند حلولها ، فذاك صاحبها ، ومن عاجلها قبل أوان فرصتها واستبصار سعيه فيها ، فذاك قمن ألا ينفع قومه : و ( أن ) يهلك نفسه ، نسأل الله بعونه أن يدعمكم بألفته (1) ، ثم نزل ، فأجاب عليا إلى السير (2) والجهاد جل الناس ، إلا أن أصحاب عبد الله بن مسعود أتوه ، وفيهم عبيدة السلماني (3) وأصحابه ، فقالوا له : إنا نخرج معكم ، ولا ننزل عسكركم ، ونعسكر على حدة حتى ننظر في أمركم وأمر أهل الشام ، فمن رأيناه أراد ما لا يحل له ، أو بدا منه بغي ، كنا عليه ، فقال علي : مرحبا وأهلا ، هذا هو الفقه في الدين ، والعلم بالسنة ، من لم يرض بهذا فهو جائر خائن ، وأتاه آخرون من أصحاب عبد الله بن مسعود ، فيهم ربيع بن خشيم (4) وهم يومئذ أربعمائة رجل ، فقالوا : يا أمير المؤمنين إنا شككنا في هذا القتال على معرفتنا بفضلك ، ولا غناء بنا ولا بك ولا المسلمين عمن يقاتل العدو ، فولنا بعض الثغور نكون به (5) تم نقاتل عن أهله ، فوجهه علي (6) على ثغر الرى ، فكان أول لواء عقده بالكوفة لواء ربيع بن خثيم .

---------------------------
(1) ح : ( بالفيئة ) .
(2) في الأصل : ( فأجابه إلى السير ) ، والوجه ما أثبت من ح .
(3) عبيدة ، بفتح أوله ، وهو عبيدة بن عمرو ويقال ابن قيس بن عمرو السلماني ، بفتح السين المهملة وسكون اللام ، نسبة إلى سلمان بن يشكر بن ناجية بن مراد ، أسلم قبل وفاة النبي بسنتين ولم يلقه ، روى عن ابن مسعود وعلي ، وروى عنه محمد بن سيرين ، وأبو إسحاق السبيعي ، وإبراهيم النخعي وغيرهم ، وقال ابن نمير : كان شريح إذا أشكل عليه شئ كتب إلى عبيدة ، توفى سنة 72 وقيل ثلاث ، وقيل أربع ، الإصابة 6401 والمعارف 188 وتقريب التهذيب ، ومختلف القبائل ومؤتلفها لمحمد بن حبيب ص 30 .
(4) خثيم ، بهيئة التصغير ، انظر الاشتقاق 112 وشرح الحيوان ( 4 : 292 ) .
(5) ح ( 1 : 283 ) : ( نكمن به ) .
(6) ح : ( فوجه علي ( عليه السلام ) بالربيع بن خثيم ) .

واقعة صفين _ 114 _

  نصر : عمر بن سعد ، عن ليث بن سليم قال : دعا علي باهلة فقال : يا معشر باهلة ، أشهد الله أنكم تبغضوني وأبغضكم ، فخذوا عطاءكم واخرجوا إلى الديلم ، وكانوا قد كرهوا أن يخرجوا معه إلى صفين ، نصر ، عن عمر بن سعد ، عن يوسف بن يزد عن عبد الله بن عوف ابن الأحمر ، أن عليا لم يبرح النخيلة حتى قدم عليه ابن عباس بأهل البصرة ، وكان كتب علي إلى ابن عباس وإلى أهل البصرة : ( أما بعد فأشخص إلي من قبلك من المسلمين والمؤمنين ، وذكرهم بلائي عندهم ، وعفوي عنهم ، واستبقائي لهم ، ورغبهم في الجهاد ، وأعلمهم الذي لهم في ذلك من الفضل ) ، فقام فيهم ابن عباس فقرأ عليهم كتاب علي ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أيها الناس ، استعدوا للمسير إلى إمامكم ، وانفروا في سبيل الله خفافا وثقالا ، وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم ؛ فإنكم تقاتلون المحلين القاسطين ، الذين لا يقرءون القرآن ولا يعرفون حكم الكتاب ، ولا يدينون دين الحق ، مع أمير المؤمنين وابن عم رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، الآمر بالمعروف ، والناهي عن المنكر والصادع بالحق ، والقيم بالهدى ، والحاكم بحكم الكتاب ؛ الذي لا يرتشي في الحكم ، ولا يداهن الفجار ، ولا تأخذه في الله لومة لائم ، فقام الأحنف بن قيس فقال : نعم ، والله لنجيبنك ، ولنخرجن معك على العسر واليسر ، والرضا والكره ، نحتسب في ذلك الخير ، ونأمل من الله العظيم من الأجر (1) .

---------------------------
(1) ح : ( نحتسب في ذلك الأجر ، ونأمل به من الله العظيم حسن الثواب ) .

واقعة صفين _ 115 _

  وقام إليه خالد بن المعمر السدوسي (1) فقال : سمعنا وأطعنا ، فمتى استنفرتنا نفرنا ، ومتى دعوتنا أجبنا ، وقام إليه عمرو بن مرجوم العبدي (2) ، فقال : وفق الله أمير المؤمنين ، وجمع له أمر المسلمين ، ولعن المحلين القاسطين ، الذين لا يقرءون القرآن ، نحن والله عليهم حنقون ، ولهم في الله مفارقون ، فمتى أردتنا صحبك خيلنا ورجلنا ، وأجاب الناس إلى المسير ، ونشطوا وخفوا ، فاستعمل ابن عباس على البصرة أبا الأسود الدئلي ، وخرج حتى قدم على على ومعه رءوس الأخماس : خالد بن المعمر السدوسي على بكر بن وائل ، وعمرو بن مرجوم العبدي على عبد القيس ، وصبرة بن شيمان الأزدي (3) على الأزد ، والأحنف بن قيس على تميم وضبة والرباب ، وشريك بن الأعور الحارثي على أهل العالية ، فقدموا على علي ( عليه السلام ) بالنخيلة ، وأمر الأسباع من أهل الكوفة : سعد بن مسعود الثقفي على قيس وعبد القيس ، ومعقل بن قيس اليربوعي على تميم وضبة والرباب وقريش وكنانة وأسد ، ومخنف بن سليم على الأزد وبجيلة وخثعم والأنصار وخزاعة ، وحجر بن عدي الكندي على كندة وحضر موت وقضاعة ومهرة ، وزياد بن النضر على مذحج والأشعريين ، وسعيد بن قيس بن مرة الهمداني على همدان ومن معهم من حمير ، وعدي بن حاتم على طيئ ، ويجمعهم الدعوة مع مذحج وتختلف الرايتان : راية مذحج مع زياد بن النضر ، وراية طيئ مع عدي بن حاتم ، وكتب محمد بن أبي بكر إلى معاوية .

---------------------------
(1) ترجم له في الإصابة 2317 فيمن له إدراك .
(2) مرجوم ، بالجيم ، كان من أشراف عبد القيس ورؤسائها في الجاهلية ، وقد مدحه المسيب بن عباس ، وكان ابنه عمرو سيدا شريفا في الإسلام ، ذكره ابن حجر في الصحابة ، انظر الإصابة 5954 .
(3) في الأصل : ( سيمان ) صوابه بالشين كما في الاشتقاق 299 .

واقعة صفين _ 116 _

  بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن أبي بكر إلى الغاوي بن صخر ، سلام على أهل طاعة الله ممن ، هو مسلم لأهل ولاية الله ، أما بعد فإن الله بجلاله وعظمته وسلطانه وقدرته خلق خلقا بلا عنت (1) ولا ضعف في قوته ، ولا حاجة به إلى خلقهم ، ولكنه خلقهم عبيدا ، وجعل منهم شقيا وسعيدا ، وغويا ورشيدا ، ثم اختارهم على علمه ، فاصطفى وانتخب منهم محمدا ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فاختصه برسالته ، واختاره لوحيه ، وائتمنه على أمره ، وبعثه رسولا مصدقا لما بين يديه من الكتب ، وذليلا على الشرائع ، فدعا إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة ، فكان أول من أجاب وأناب ، وصدق ووافق ، وأسلم وسلم ـ أخوه وابن عمه علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، فصدقه بالغيب المكتوم ، وآثره على كل حميم ، فوقاه كل هول ، وواساه بنفسه في كل خوف ، فحارب حربه ، وسالم سلمه (2) فلم يبرح مبتذلا لنفسه في ساعات ، الأزل (3) ومقامات الروع ، حتى برز سابقا لا نظير له في جهاده ، ولا مقارب له في فعله ، وقد رأيتك تساميه وأنت أنت ، وهو هو المبرز السابق في كل خير ، أول الناس إسلاما ، وأصدق الناس نية ، وأطيب الناس ذرية ، وأفضل الناس زوجة ، وخير الناس ابن عم .

---------------------------
( 1 ) العنت : المشقة .
( 2 ) الحرب العدو المحارب . والسلم : المسلم .
( 3 ) الأزل : الضيق والشدة .
===============
( 119 ) وأنت اللعين ابن اللعين . ثم لم تزل أنت وأبوك تبغيان الغوائل لدين الله ، وتجهدان على إطفاء نور الله ، وتجمعان على ذلك الجموع ، وتبذلان فيه المال ، وتخالفان فيه القبائل . على ذلك مات أبوك ، وعلى ذلك خلفته ، والشاهد عليك بذلك من يأوي ويلجأ إليك من بقية الأحزاب ، ورؤوس النفاق والشقاق لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . والشاهد لعلي مع فضله المبين وسبقه القديم ، أنصاره الذين ذكروا بفضلهم في القرآن فأثنى الله عليهم ، من المهاجرين والأنصار ، فهم معه عصائب وكتائب حوله ، يجالدون بأسيافهم ، ويهريقون دماءهم دونه ، يرون الفضل في اتباعه ، والشقاء في خلافه ، فكيف ـ يا لك الويل ـ تعدل نفسك بعلي ، وهو وارث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ووصيه وأبو ولده وأول الناس له اتباعا ، وآخرهم به عهدا ، يخبره بسره ويشركه في أمره ؛ وأنت عدوه وابن عدوه ؟ ! فتمتع ما استطعت بباطلك ، وليمدد لك ابن العاص في غوايتك ، فكأن أجلك قد انقضى ، وكيدك قد وهي . وسوف يستبين لمن تكون العاقبة العليا . واعلم أنك [ إنما ] تكايد ربك الذي قد أمنت كيده ، وأيست من روحه . وهو لك بالمرصاد ، وأنت منه في غرور ، وبالله وأهل رسوله عنك الغناء ، والسلام على من اتبع الهدى . فكتب إليه معاوية : بسم الله الرحمن الرحيم من معاوية بن أبي سفيان إلى الزاري على أبيه محمد بن أبي بكر . سلام على أهل طاعة الله . أما بعد فقد أتاني كتابك ، تذكر فيه ما الله أهله في قدرته وسلطانه ، وما أصفى به نبيه (1) ، مع كلام ألفته ووضعته ، لرأيك فيه تضعيف ____________
( 1 ) أصفاه بالشيء : آثره به . وفي الكتاب : ( أفأصفاكم ربكم بالبنين ) وفي الأصل : « وما اصطفاه به نبيه » ، صوابه في ح ( 1 : 284 ) . ولأبيك فيه تعنيف . ذكرت حق ابن أبي طالب ، وقديم سوابقه وقرابته من نبي الله صلى الله عليه ، ونصرته له ومواساته إياه في كل خوف وهول ، واحتجاجك علي بفضل غيرك لا بفضلك . فاحمد إلها صرف الفضل عنك وجعله لغيرك . وقد كنا وأبوك معنا في حياة من نبينا صلى الله عليه ـ نرى حق ابن أبي طالب لازما لنا ، وفضله مبرزا علينا ، فلما اختار الله لنبيه صلى الله عليه وسلم ما عنده ، وأتم له ما وعده ، وأظهر دعوته وأفلج حجته . قبضه الله إليه ، فكان أبوك وفاروقه أول من ابتزه وخالفه . على ذلك اتفقا واتسقا (1) ، ثم دعواه إلى أنفسهم فأبطأ عنهما وتلكأ عليهما ، فهما به الهموم ، وأرادا به العظيم ، فبايع وسلم لهما ، لا يشركانه في أمرهما ، ولا يطلعانه على سرهما ، حتى قبضا وانقضى أمرهما . ثم قام بعدهما ثالثهما عثمان بن عفان ، يهتدي بهديهما ، ويسير بسيرتهما ، فعبته أنت وصاحبك ، حتى طمع فيه الأقاصي من أهل المعاصي ، وبطنتما له وأظهرتما (2) ، [ وكشفتما ] عداوتكما وغلكما ، حتى بلغتما منه منا كما . فخذ حذرك يا ابن أبي بكر ، فسترى وبال أمرك . وقس شبرك بفترك (3) تقصر عن أن تساوي أو توازي من يزن الجبال حلمه ، [ و ] لا تلين على قسر قناته (4) ، ولا يدرك ذو مدى أناته . أبوك مهد مهاده ، وبني ملكه وشاده ، فإن يكن ما نحن فيه صوابا فأبوك أوله ، وإن يك جورا فأبوك أسسه (5) . ونحن شركاؤه ، وبهديه أخذنا ، وبفعله اقتدينا .
____________
( 1 ) في الأصل : « وانشقا » وأثبت ما في ح .
( 2 ) ح ( 1 : 284 ) : « وظهرتما » .
( 3 ) الشبر ، بالكسر : ما بين أعلى الإبهام وأعلى الخنصر . والفتر ، بالكسر أيضا : ما بين طرف السبابة والإبهام إذا فتحهما .
( 4 ) القسر : القهر والإ كراه . وفي الأصل « قصر » ، صوابه في ح .
( 5 ) الأسس ، بالتحريك : الأساس ، ومثلها الأس ، بالضم . ح : « أسه » .