--------------------------- (1) قال الرضي في نهج البلاغة : ( وابتداء هذا الكلام مروي عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وقد قفاه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بأبلغ كلام ، وتممه بأحسن تمام ، من قوله : ولا يجمعهما غيرك ، إلى آخر الفصل ) ، ووعثاء السفر : مشقته ، والمنقلب : الرجوع . (2) انظر الأغاني ( 11 : 130 ) . (3) ح ( 1 : 277 ) : ( عنهم منك ) . واقعة صفين _ 131 _
نصر : عمرو بن خالد ، عن أبي الحسين زيد بن علي ، عن آبائه عن علي
( عليه السلام ) قال ، خرج علي وهو يريد صفين حتى إذا قطع النهر أمر مناديه فنادى بالصلاة ، قال : فتقدم فصلى ركعتين ، حتى إذا قضى الصلاة أقبل علينا فقال : يأيها الناس ، ألا من كان مشيعا أو مقيما فليتم الصلاة فإنا قوم على سفر (1) ، ومن صحبنا فلا يصم المفروض (2) . والصلاة ( المفروضة ) ركعتان ، قال : ثم رجع إلى حديث عمر بن سعد ، قال : ثم خرج حتى أتى دير أبي موسى ، وهو من الكوفة على فرسخين (3) ، فصلى بها العصر (4) ، فلما انصرف من الصلاة قال : ( سبحان ذي الطول والنعم ، سبحان ذي القدرة والإفضال ، أسأل الله الرضا بقضائه ، والعمل بطاعته ، والإنابة إلى أمره ، فإنه سميع الدعاء ) ، ثم خرج حتى نزل على شاطئ نرس (5) ، بين موضع حمام أبى بردة وحمام عمر ، فصلى بالناس المغرب فلما انصرف قال : ( الحمد لله الذي يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل ، ( و ) الحمد لله كلما وقب ليل وغسق ، والحمد لله كلما لاح نجم وخفق ) .
--------------------------- (1) ح : ( قوم سفر ) ، وسفر ، بالفتح : أي مسافرون . (2) ح ( 1 : 277 ) : ( فلا يصومن المفروض ) . (3) لم يذكره ياقوت . (4) ح : ( به العصر ) التذكير للدير ، والتأنيث للبقعة . (5) نرس ، بفتح النون في أوله : نهر حفره نرسي بن بهرام بنواحي الكوفة ، مأخذه من الفرات ، وفي الأصل : ( البرس ) بالباء ، صوابه ما أثبت من ح ومعجم البلدان . واقعة صفين _ 132 _
ثم أقام حتى صلى الغداة ، ثم شخص حتى بلغ قبة قبين (1) ، ( و ) فيها نخل طوال إلى جانب البيعة من وراء النهر ، فلما رآها قال : ( والنخل باسقات لها طلع نضيد ) ، ثم أقحم دابته النهر فعبر إلى تلك البيعة فنزلها فمكث بها قدر الغداة ، نصر : عمر ، عن رجل ـ يعني أبا مخنف (2) عن عمه ابن مخنف (3) قال : إني لأنظر إلى أبي ، مخنف بن سليم (4) وهو يساير عليا ببابل ، وهو يقول ، إن ببابل أرضا قد خسف بها ، فحرك دابتك لعلنا أن نصلى العصر خارجا منها ، قال : فحرك دابته وحرك الناس دوابهم في أثره ، فلما جاز جسر الصراة (5) نزل فصلى بالناس العصر .
--------------------------- (1) قبين ، بضم القاف وتشديد الباء المكسورة بعده ، وفي ح : ( يبين ) محرف . (2) أبو مخنف ، هو لوط بن يحيى بن سعيد بن مخنف بن سليم الأزدي الغامدي ، شيخ من أصحاب الأخبار بالكوفة ، روي عن الصعق بن زهير ، وجابر الجعفي ، ومجالد ، وروي عنه المدائني ، وعبد الرحمن بن مغراء ، ومات قبل السبعين ومائة ، منتهي المقال 248 ولسان الميزان ( 4 : 292 ) وابن النديم 93 ليبسك . (3) لمخنف أولاد ، أحدهم أبو رملة عامر بن مخنف بن سليم الأزدي ، ذكره صاحب منتهى المقال في 299 وقال إنه روى عن أبيه مخنف ، والآخر حبيب بن مخنف ذكره الحافظ أبو عمرو ، وثالث ذكره صاحب لسان الميزان ( 5 : 375 ) وهو محمد بن مخنف . (4) مخنف ، بكسر الميم ، وسليم ، بضم السين ، كما في الاشتقاق 289 ومنتهى المقال 299 ، وهو صحابي ترجم له في الإصابة 7842 . (5) الصراة ، بالفتح : نهر يأخذ من نهر عيسى من بلدة يقال لها المحول ، بينها وبين بغداد فرسخ ، وهو من أنهار الفرات ، وفي الأصل : ( الصراط ) تحريف ، وفي ح : ( الفرات ) . واقعة صفين _ 133 _
نصر : عمر ، حدثني عمر بن عبد الله بن يعلى بن مرة الثقفي ، عن أبيه
عن عبد خير (1) قال : كنت مع علي أسير في أرض بابل ، قال : وحضرت الصلاة صلاة العصر ، قال : فجعلنا لا نأتي مكانا إلا رأيناه أفيح (2) من الآخر ، قال : حتى أتينا على مكان أحسن ما رأينا ، وقد كادت الشمس أن تغيب ، قال : فنزل علي ونزلت معه ، قال : فدعا الله فرجعت الشمس كمقدارها من صلاة العصر ، قال : فصلينا العصر ، ثم غابت الشمس ، ثم خرج حتى أتى دير كعب ، ثم خرج منها (3) فبات بساباط ، فأتاه دهاقينها يعرضون عليه النزل (4) والطعام ، فقال : لا ، ليس ذلك لنا عليكم . فلما أصبح وهو بمظلم (5) ساباط قال : ( أتبنون بكل ريع آية تعبثون ) ، قال : وبلغ عمرو بن العاص مسيره فقال :
--------------------------- (1) هو عبد خير بن يزيد الهمداني ، أبي عمارة الكوفي ، أدرك الجاهلية وأدرك زمن النبي ولم يسمع منه ، الإصابة 6360 وتهذيب التهذيب . (2) أفيح من الفيح وهو الخصب والسعة ، وفي الأصل وح : ( أقبح ) . (3) ح ( 1 : 277 ) : ( ثم خرج منه ) . (4) النزل ، بضم وبضمتين : ما يهيأ للضيف ، وفي الأصل : ( النزول ) ، وأثبت ما في ح . (5) قال ياقوت : مضاف إلى ساباط التي قرب المدائن . (6) القنابل : جمع قنبلة ، بالفتح ، وهي جماعة الخيل . واقعة صفين _ 134 _
بجمعي العام وجمعي قابلا فقال علي :
(1) كانت العرب إذا أرادت حربا فساروا إليها ركبوا الإبل وقرنوا إليها الخيل لإراحة الخيل وصيانتها ، انظر المفضليات الخمس 39 . (2) انظر لأقوال النحاة في مثل هذه العبارة خزانة البغدادي ( 2 : 90 بولاق ) . (3) في الأصل : ( زجر ) بالجيم ، صوابه بالحاء كما سبق في ص 15 . (4) جمع العم أعمام وعموم وعمومة . واقعة صفين _ 135 _
--------------------------- (1) العوائر : جمع عائر ، وهو الذي لا يدري من أين أتى ، وأصل ذلك في السهام . (2) يؤتيه : يهيئه ويصلحه ، وفي اللسان : ( أتيت الماء : أصلحت مجراه ) ، وفيه : ( وأتاه الله : هيأه ) ، وفي الأصل : ( يأبيه ) مع ضبطها بضم الياء وفتح الهمزة ، والوجه ما أثبت . (3) في الأصل : ( أو هل لك بالشام من بدلة بالعراق ) . واقعة صفين _ 136 _
فقال : معاذ الله ، لا يكون هذا أبدا ، ما كان لك (1) فهو لي ، وما كان لي فهو لك ، وبلغ معاوية ما صنع بالأشعث فدعا مالك بن هبيرة فقال : اقذفوا إلى الأشعث شيئا تهيجونه على علي ، فدعوا شاعرا لهم فقال هذه الأبيات ، فكتب بها مالك بن هبيرة إلى الأشعث ، وكان له صديقا ، وكان كنديا :
--------------------------- (1) في الأصل : ( ذلك ) . (2) حذيت : أعطيت ، والحذوة : العطية . واقعة صفين _ 137 _
إن هذه الراية عظمت على علي ، وهو والله أخف علي من زف النعام (1) ، ومعاذ الله أن يغيرني ذلك لكم ، قال : فعرض عليه علي بن أبي طالب أن يعيدها عليه فأبي وقال : يا أمير المؤمنين ، إن يكن أولها شرفا فإنه ليس آخرها بعار ، فقال له علي : أنا أشركك فيه ، فقال له الأشعث : ذلك إليك ، فولاه على ميمنته ، وهي ميمنة أهل العراق ، وقال : وأخذ مالك بن حبيب رجلا وقد تخلف عن علي فضرب عنقه فبلغ ذلك قومه فقال بعضهم لبعض : انطلقوا بنا إلى مالك فنتسقطه (2) لعله أن يقر لنا بقتله ؛ فإنه رجل أهوج ، فجاءوا فقالوا : يا مالك ، قتلت الرجل ؟ قال : أخبركم أن الناقة ترأم ولدها ، اخرجوا عني قبحكم الله ، أخبرتكم أني قتلته ، قال : حدثني مصعب بن سلام (3) ، قال أبو حيان التميمي ، عن أبي عبيدة ، عن هرثمة بن سليم قال : غزونا مع علي بن أبي طالب غزوة صفين ، فلما نزلنا بكربلا صلى بنا صلاة ، فلما سلم رفع إليه من تربتها فشمها ثم قال : واها لك أيتها التربة ، ليحشرن منك قوم يدخلون الجنة بغير حساب ، فلما رجع هرثمة من غزوته (4) إلى امرأته ـ وهي جرداء بنت سمير ، وكانت شيعة لعلي ـ فقال لها زوجها هرثمة : ألا أعجبك من صديقك أبي الحسن ؟ لما نزلنا كربلا رفع إليه من تربتها فشمها وقال :
--------------------------- (1) زف النعام ، بالكسر : ريشه الصغير . (2) في اللسان : ( وتسقطه واستسقطه : طلب سقطه وعالجه على أن يسقط فيخطئ ، أو يكذب ، أو يبوح بما عنده ) ، وفي الأصل : ( فنسقطه ) تحريف : (3) في الأصل : ( سلم ) تحريف ، وترجمة مصعب في تاريخ بغداد ( 13 : 108 ) . (4) ح ( 1 : 278 ) : ( من غزاته ) ، يدخلون الجنة بغير حساب وما علمه بالغيب ؟ فقالت : دعنا منك أيها الرجل ، فإن أمير المؤمنين لم يقل إلا حقا . واقعة صفين _ 138 _
واها لك يا تربة ، ليحشرن منك قوم فلما بعث عبيد الله بن زياد البعث الذي بعثه إلى الحسين بن علي وأصحابه ، قال : كنت فيهم في الخيل التي بعث إليهم ، فلما انتهيت إلى القوم وحسين وأصحابه عرفت المنزل الذي نزل بنا علي فيه والبقعة التي رفع إليه من ترابها ، والقول الذي قاله ، فكرهت مسيري ، فأقبلت على فرسي حتى وقفت على الحسين ، فسلمت عليه ، وحدثته بالذي سمعت من أبيه في هذا المنزل ، فقال الحسين : معنا أنت أو علينا ؟ فقلت : يا ابن رسول الله ، لا معك ولا عليك . تركت أهلي وولدي (1) أخاف عليهم من ابن زياد ، فقال الحسين : فول هربا حتى لا ترى لنا مقتلا ، فوالذي نفس محمد بيده لا يرى مقتلنا اليوم رجل ولا يغيثنا (2) إلا أدخله الله النار ، قال : فأقبلت في الأرض هاربا حتى خفي علي مقتله (3) ، نصر : مصعب بن سلام قال : حدثنا الأجلح بن عبد الله الكندي عن أبي جحيفة قال جاء عروة البارقي إلى سعيد بن وهب ، فسأله وأنا أسمع فقال : حديث حدثتنيه (4) عن علي بن أبي طالب ، قال : نعم ، بعثني مخنف بن سليم إلى علي ، فأتيته بكربلاء : فوجدته يشير بيده ويقول : هاهنا هاهنا ، فقال له رجل : وما ذلك يا أمير المؤمنين ؟ قال : ثقل لآل محمد ينزل هاهنا فويل لهم منكم ، وويل لكم منهم ، فقال له الرجل : ما معنى هذا الكلام يا أمير المؤمنين ؟ قال : ويل لهم منكم : تقتلونهم ، وويل لكم منهم : يدخلكم الله بقتلهم إلى النار .
--------------------------- (1) ح : ( ولدي وعيالي ) . (2) ح : ( ثم لا يعيننا ) . (3) ح : ( مقتلهم ) . (4) في الأصل : ( حدثنيه ) محرف ، وفي ح : ( حدثتناه ) . واقعة صفين _ 139 _
وقد روى هذا الكلام على وجه آخر : أنه ( عليه السلام ) قال : فويل ( لكم منهم ، وويل ) لكم عليهم ، قال الرجل : أما ويل لنا منهم فقد عرفت (1) : وويل لنا عليهم ما هو ؟ قال : ترونهم يقتلون ولا تستطيعون نصرهم ، نصر : سعيد بن حكيم العبسي : عن الحسن بن كثير عن أبيه : أن عليا أتى كربلاء فوقف بها ، فقيل يا أمير المؤمنين ، هذه كربلاء ، قال : ذات كرب وبلاء ، ثم أومأ بيده إلى مكان فقال : هاهنا موضع رحالهم ، ومناخ ركابهم وأومأ بيده إلى موضع آخر فقال : هاهنا مهراق دمائهم ، ثم رجع إلى حديث عمر بن سعد ، قال : ثم مضى نحو ساباط حتى انتهى إلى مدينة بهر سير ، وإذا رجل من أصحابه يقال له حر (2) بن سهم بن طريف من بني ربيعة بن مالك (3) ، ينظر إلى آثار كسرى ، وهو يتمثل قول ابن يعفر التميمي (4) :
(1) ح : ( عرفناه ) . (2) في الأصل : ( حريز وأثبت ما في ح ( 1 : 288 ) . (3) ربيعة بن مالك بن زيد مناة بن تميم ، انظر 133 ونهاية الأرب ( 2 : 344 ) . (4) هو الأسود بن يعفر بن عبد الأسود بن جندل بن نهشل بن دارم بن مالك بن زيد مناة بن تميم ، شاعر جاهلي مقدم ، كان ينادم النعمان بن المنذر ، والبيت من قصيدة له في المفضليات ( 2 : 15 ـ 20 طبع المعارف ) ، وفي الأصل : ( ابن يعقوب التميمي ) والصواب ما أثبت ، وفي ح : ( بقول الأسود بن يعفر ) . واقعة صفين _ 140 _
فقال علي : أفلا قلت : ( كم تركوا من جنات وعيون ، وزروع ومقام كريم ، ونعمة كانوا فيها فاكهين ، كذلك وأورثناها قوما آخرين ، فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين ) ، إن هؤلاء كانوا وارثين فأصبحوا موروثين ، إن هؤلاء لم يشكروا النعمة فسلبوا دنياهم بالمعصية ، ياكم وكفر النعم لا تحل بكم النقم ، ثم قال : انزلوا بهذه النجوة (1) ، نصر : عمر بن سعد ، حدثني مسلم الأعور ، عن حبة العرني (2) ( رجل من عرينة ) قال : أمر علي بن أبي طالب الحارث الأعور فصاح في أهل المدائن : من كان من المقاتلة فليواف أمير المؤمنين صلاة العصر ، فوافره في تلك الساعة ، فحمد الله وأثنى عليه وقال : أما بعد فإني قد تعجبت من تخلفكم عن دعوتكم ، وانقطاعكم عن أهل مصركم في هذه المساكن الظالم أهلها ، والهالك أكثر سكانها لا معروفا تأمرون به ، ولا منكرا تنهون عنه ، قالوا : يا أمير المؤمنين ، إنا كنا ننتظر أمرك ورأيك ، مرنا بما أحببت ، فسار وخلف عليهم عدي بن حاتم ، فأقام عليهم ثلاثا ثم خرج في ثمانمائة ، وخلف ابنه يزيد فلحقه في أربعمائة رجل منهم ، ثم لحق عليا ، وجاء علي حتى مر بالأنبار ، فاستقبله بنو خشنوشك دهاقنتها .
--------------------------- (1) النجوة : المكان المرتفع . ح : ( الفجوة ) ، والفجوة : ما اتسع من الأرض ، وقيل ما اتسع منها وانخفض . (2) هو حبة ، بفتح أوله ثم موحدة ثقيلة ، بن جوين بجيم مصغر ، العرني ، أبو قدامة الكوفي ، كان غاليا في التشيع ، قال في تقريب التهذيب : ( أخطأ من زعم أن له صحبة ) ، ح : ( حية ) بالياء ، تحريف . واقعة صفين _ 141 _
قال سليمان (1) : ( خش : طيب ، نوشك : راض ، يعني بني الطيب الراضي ، بالفارسية ) ، فلما استقبلوه نزلوا ثم جاءوا يشتدون معه قال : ما هذه الدواب التي معكم ؟ وما أردتم بهذا الذي صنعتم ؟ قالوا : أما هذا الذي صنعنا فهو خلق منا نعظم به الأمراء ، وأما هذه البراذين فهدية لك ، وقد صنعنا لك وللمسلمين طعاما ، وهيأنا لدوابكم علفا كثيرا ، قال : أما هذا الذي زعمتم أنه منكم خلق تعظمون به الأمراء فوالله ما ينفع هذا الأمراء ، وإنكم لتشقون به على أنفسكم وأبدانكم ، فلا تعودوا له ، وأما دوابكم هذه فإن أحببتم أن نأخذها منكم فنحسبها من خراجكم أخذناها منكم ، وأما طعامكم الذي صنعتم لنا فإنا نكره أن نأكل من أموالكم شيئا إلا بثمن ، قالوا : يا أمير المؤمنين ، نحن نقومه ثم نقبل ثمنه ، قال : إذا لا تقومونه قيمته ، نحن نكتفي بما دونه ، قالوا : يا أمير المؤمنين فإن لنا من العرب موالي ومعارف ، فتمنعنا أن نهدى لهم وتمنعهم أن يقبلوا منا ؟ قال : كل العرب لكم موال ، وليس ينبغي لأحد من المسلمين أن يقبل هديتكم ، وإن غصبكم أحد فأعلمونا ، قالوا : يا أمير المؤمنين ، إنا نحب أن تقبل هديتنا وكرامتنا ، قال لهم : ويحكم ، نحن أغنى منكم ، فتركهم ثم سار ، نصر : عبد العزيز بن سياه (2) .
--------------------------- (1) هو أبو محمد سليمان بن الربيع بن هشام النهدي ، أحد رواة هذا الكتاب . (2) عبد العزيز بن سياه ، بكسر المهملة بعدها تحتانية خفيفة ، الأسدي الكوفي ، صدوق يتشيع من كبار أتباع التابعين ، انظر تهذيب التهذيب والتقريب ، وفي ح ( 1 : 288 ) : ( بن سباع ) تحريف . واقعة صفين _ 142 _
عن حبيب بن أبي ثابت ، قال أبو سعيد التيمي ، المعروف بعقيصا (1) ، قال : كنا مع علي في مسيره إلى الشام ، حتى إذا كنا بظهر الكوفة من جانب هذا السواد ـ قال : ـ عطش الناس واحتاجوا إلى الماء ، فانطلق بنا على حي أتى بنا (2) على صخرة ضرس من الأرض (3) ، كأنها ربضة عنز (4) ، فأمرنا فاقتلعناها فخرج لنا ماء ، فشرب الناس منه وارتووا ، قال : ثم أمرنا فأكفأناها عليه ، قال : وسار الناس حتى إذا مضينا قليلا قال علي : منكم أحد يعلم مكان هذا الماء الذي شربتم منه ؟ قالوا : نعم يا أمير المؤمنين ، قال : فانطلقوا إليه ، قال : فانطلق منا رجال ركبانا ومشاة ، فاقتصصنا الطريق ( إليه ) حتى انتهينا إلي المكان الذي نرى أنه فيه ، قال : فطلبناها (5) فلم نقدر على شيء ، حثى إذا عيل علينا انطلقنا إلى دير قريب منا فسألناهم : أين الماء الذي هو عندكم ؟ قالوا : ما قربنا ماء ، قالوا : بلى ، إنا شربنا منه ، قالوا : أنتم شربتم منه ؟ قلنا : نعم : قال ( صاحب الدير ) : ما بني هذا الدير إلا بذلك الماء (6) ، وما استخرجه إلا نبي أو وصي نبي .
--------------------------- (1) في القاموس : ( وعقيصى مقصورا : لقب أبي سعيد التيمي التابعي ) ، وفي منتهى المقال 132 : ( دينار ، يكنى أبا سعيد ، ولقبه عقيصا ، وإنما لقب بذلك لشعر قاله ) فجعل اسمه ( دينارا ) ، في الأصل : ( التميمي ) تحريف ، وفي ح : ( حدثنا سعيد التيمي المعروف يعقيصاء ) ، نقص وتحريف . (2) في الأصل : ( أتانا ) وفي ح : ( أتى ) فقط . (3) الضرس ، بالكسر : الأرض الخشنة . (4) ربضة العنز ، بالضم : أي جثتها إذا بركت ، وروى في الحديث : ( كربضة العنز ) بكسر الراء ، اللسان ( 9 : 13 ) . (5) أي الصخرة ، وفي ح : ( فطلبناه ) ، أي الماء . (6) في الأصل : ( لذلك الماء ) ، وأثبت ما في ح . واقعة صفين _ 143 _
ثم رجع إلى الحديث ، قال ثم مضى أمير المؤمنين حتى نزل بأرض
الجزيرة ، فاستقبله بنو تغلب والنمر بن قاسط بالجزيرة (1) ، قال : قال علي ليزيد ابن قيس لأرحبي : يا يزيد بن قيس ، قال : لبيك يا أمير المؤمنين ، قال : هؤلاء قومك ، من طعامهم فاطعم ، ومن شرابهم فاشرب ، نصر : عمر بن سعد ، عن الكلبي ، عن الأصبغ بن نباتة ، أن رجلا سأل عليا بالمدائن عن وضوء رسول الله ( عليه الصلاة والسلام ) ، فدعا بمخضب من برام (2) قد نصفه الماء (3) ، قال علي : من السائل عن وضوء رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ؟ فقام الرجل ، فتوضأ علي ثلاثا ثلاثا ، ومسح برأسه واحدة ، وقال : هكذا رأيت رسول الله يتوضأ ، ثم رجع إلى الحديث الأول ، حديث يزيد بن قيس الأرحبي ، ثم قال : والله إني لشاهد إذ أتاه وفد بني تغلب فصالحوه على أن يقرهم على دينهم ، ولا يضعوا أبناءهم في النصرانية ، قال : وقد بلغني أنهم قد تركوا ذلك ، وايم الله لئن ظهرت عليهم لأقتلن مقاتلتهم ، ولأسبين ذراريهم ، فلما دخل بلادهم استقبلته مسلمة لهم كثيرة ، فسر بما رأى من ذلك ، وثناه عن رأيه ، ثم سار أمير المؤمنين حتى أتى الرقة وجل أهلها العثمانية الذين فروا من الكوفة برأيهم وأهوائهم إلى معاوية فغلقوا أبوابها وتحصنوا فيها ، وكان أميرهم سماك بن مخرمة الأسدي في طاعة معاوية ، وقد كان فارق عليا في نحو من مائة رجل من بني أسد ، ثم أخذ يكاتب قومه حتى لحق به منهم سبعمائة رجل .
--------------------------- (1) ح : ( ابن قاسط بن محرز ) تحريف ، وهو النمر بن قاسط بن هنب بن أفصى بن دعمى بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان . (2) المخضب ، بالكسر : شبه الإجانة يغسل فيها الثياب ، والمركن ، والبرام : جمع برمة ، بالضم ، وهي قدر من حجارة . (3) نصفه الماء : بلغ نصفه ، وفي الأصل : ( قدر نصفه الماء ) ، محرف ، وهذا الخبر لم يرد في مظنه من ح . واقعة صفين _ 144 _
نصر : عمر بن سعد ، حدثني مسلم الملائي (1) عن حبة (2) عن علي قال : لما نزل علي الرقة ( نزل ) بمكان يقال له بليخ على جانب الفرات ، فنزل راهب ( هناك ) من صومعته فقال لعلي : إن عندنا كتابا توارثناه عن آبائنا ، كتبه ( أصحاب ) عيسى بن مريم ، أعرضه عليك ، قال علي : نعم فما هو ؟ قال الراهب : بسم الله الرحمن الرحيم الذي قضى فيما قضى ، وسطر فيما سطر ، أنه باعث في الأميين رسولا منهم يعلمهم الكتاب والحكمة ، ويدلهم على سبيل الله ، لا فظ ولا غليظ ، ولا صخاب في الأسواق ، ولا يجزى بالسيئة السيئة ، ولكن يعفو ويصفح (3) ، أمته الحمادون الذين يحمدون الله على كل نشز ، وفي كل صعود وهبوط (4) ، تذل ألسنتهم (5) بالتهليل والتكبير ( والتسبيح ) ، وينصره الله على كل من ناواه ، فإذا توفاه الله اختلفت أمته ثم اجتمعت ، فلبثت بذلك ما شاء الله ثم اختلفت ، فيمر رجل من أمته بشاطئ هذا الفرات ، يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر ، ويقضي بالحق ، ولا يرتشي في الحكم (6) .
--------------------------- (1) هو مسلم بن كيسان الضبي الملائي البراد ، أبو عبد الله الكوفي ، انظر تهذيب التهذيب والتقريب . (2) سبقت ترجمته في ص 143 . (3) ح ( 1 : 289 ) : ( بل يعفو ويصفح ) . (4) النشز ، بالفتح والتحريك : المتن المرتفع من الأرض ، والصعود والهبوط ، بفتح أولهما : ما ارتفع وما انخفض من الأرض . (5) يذل ، من الذل ، بالكسر والضم ، وهو اللين . (6) ح : ( ولا يركس الحكم ) ، والركس : رد الشيء مقلوبا . واقعة صفين _ 145 _
الدنيا أهون عليه من الرماد في يوم عصفت ( به ) الريح ، والموت أهون عليه من شرب الماء على الظماء (1) ، يخاف الله في السر ، وينصح له في العلانية ، ولا يخاف في الله لومة لائم ، من أدرك ذلك النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من أهل هذه البلاد فآمن به كان ثوابه رضواني والجنة ، ومن أدرك ذلك العبد الصالح فلينصره ؛ فإن القتل معه شهادة ، ( ثم قال له ) : فأنا مصاحبك غير مفارقك حتى يصيبني ما أصابك ، قال : فبكي علي ثم قال : الحمد لله الذي لم يجعلني عنده منسيا (2) ، الحمد لله الذي ذكرني في كتب الأبرار ، ومضى الراهب معه ، وكان ـ فيما ذكروا ـ يتغدى مع علي ويتعشى حتى أصيب يوم صفين ، فلما خرج الناس يدفنون قتلاهم قال علي : اطلبوه ، فلما وجدوه صلى عليه ودفنه ، وقال : هذا منا أهل البيت ، واستغفر له مرارا ، نصر : عمر عن رجل ـ وهو أبو مخنف ـ عن نمير بن وعلة ، عن أبي الوداك (3) أن عليا بعث من المدائن معقل بن قيس ( الرياحي ) في ثلاثة آلاف رجل ، وقال له : ( خذ على الموصل ، ثم نصيبين ، ثم القني بالرقة ؛ فإني موافيها ، وسكن الناس وأمنهم ، ولا تقاتل إلا من قاتلك ، وسر البردين (4) ، وغور بالناس (5) .
--------------------------- (1) الظمء ، بالفتح ، والظمأ ، بالتحريك ، والظماء والظماءة ، كسحاب وسحابة : العطش : ح : ( الظمآن ) . (2) ح : ( الذي لم أكن عنده منسيا ) . (3) هو جبر بن نوف ـ بفتح النون وآخره فاء ـ الهمداني ـ بسكون الميم ـ البكالي ـ بكسر الباء الموحدة وتخفيف الكاف ـ أبو الوداك ـ بفتح الواو وتشديد الدال ، انظر تهذيب التهذيب والتقريب . (4) البردان : الصبح والعصر ، كالأبردين ، انظر جي الجنتين 26 . (5) التغوير : النزول في القائلة نصف النهار ، يقال ( غوروا بنا فقد أرمضتمونا ) أي انزلوا بنا وقت الهاجرة حتى تبرد . واقعة صفين _ 146 _
وأقم الليل ، ورفه في السير ، ولا تسر في الليل (1) فإن الله جعله سكنا ، أرح فيك بدنك وجندك وظهرك ، فإذا كان السحر أو حين ينبطح الفجر (2) فسر ) ، فخرج حتى أتى الحديثة ، وهي إذ ذاك منزل الناس ـ إنما بنى مدينة الموصل بعد ذلك محمد بن مروان ـ فإذا هم بكبشين ينتطحان ، ومع معقل بن قيس رجل من خثعم يقال له شداد بن أبي ربيعة (3) قتل بعد ذلك مع الحرورية (4) ، فأخذ يقول : إيه إيه ، فقال معقل : ما تقول : قال : فجاء رجلان نحو الكبشين فأخذ كل واحد منهما كبشا ثم انصرفا ، فقال الخثعمي لمعقل : لا تغلبون ولا تغلبون ، قال له : من أين علمت ذلك ؟ قال : أما أبصرت الكبشين ، أحدهما مشرق والآخر مغرب ، التقيا فاقتتلا وانتطحا ، فلم يزل كل واحد منهما من صاحبه منتصفا حي أتى كل واحد منهما صاحبه فانطلق به ، فقال له معقل : أو يكون خيرا مما تقول يا أخا خثعم ؟ ثم مضوا حتى أتوا عليا بالرقة ، نصر : عمر بن سعد ، عن رجل ، عن أبي الوداك ، أن طائفة من أصحاب علي قالوا له : اكتب إلى معاوية وإلى من قبله من قومك بكتاب تدعوهم فيه إليك ، وتأمرهم بترك ما هم فيه من الخطأ (5) ؛ فإن الحجة لن تزداد عليهم بذلك إلا عظما ، فكتب إليهم :
--------------------------- (1) ح ( 1 : 290 ) : ( اول الليل ) . (2) انبطح الفجر : ذهب هاهنا وهاهنا ، وإنما سمي بطن المسيل أبطح لأن الماء ينبطح فيه أي يذهب يمينا وشمالا ، ح : ( ينبلج الفجر ) . (3) ح : ( شرار بن شداد بن أبي ربيعة ) . (4) هنا ضبط ياقوت ، وضبط في اللسان والقاموس والوفيات ( 1 : 224 ) بفتح أوله وضم ثانيه . (5) في الأصل : ( وتأمرهم بما لهم فيه من الخطأ ) . واقعة صفين _ 147 _
بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى معاوية وإلى من قبله من قريش سلام عليكم فإني أحمد الله إليكم الله الذي لا إله إلا هو ، أما بعد فإن لله عبادا آمنوا بالتنزيل ، وعرفوا التأويل ، وفقهوا في الدين ، وبين الله فضلهم في القرآن الحكيم ، وأنتم في ذلك الزمان أعداء لرسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، تكذبون بالكتاب ، مجمعون على حرب المسلمين ، من ثقفتم منهم حبستموه أو عذبتموه أو قتلتموه ، حتى أراد الله إعزاز دينه وإظهار رسوله (1) ، ودخلت العرب في دينه أفواجا ، وأسلمت ( له ) هذه الأمة طوعا وكرها ، وكنتم ممن دخل في هذا الدين إما رغبة وإما رهبة ، على حين فاز أهل السبق بسبقهم وفاز المهاجرون الأولون بفضلهم ، فلا ينبغي لمن ليست له مثل سوابقهم في الدين ولا فضائلهم في الإسلام ، أن ينازعهم الأمر الذي هم أهله وأولى به ، فيحوب بظلم (2) ، ولا ينبغي لمن كان له عقل أن يجهل قدره ، ولا أن يعدو طوره ، ولا أن يشقي نفسه بالتماس ما ليس له ، ثم إن أولى الناس بأمر هذه الأمة قديما وحديثا ، أقربها من رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وأعلمها بالكتاب وأفقهها في الدين ، وأولها إسلاما وأفضلها جهادا وأشدها بما تحمله الرعية من أمورها اضطلاعا ، فاتقوا الله الذي إليه ترجعون ، ( ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون ) ، واعلموا أن خيار عباد الله الذين يعملون بما يعلمون (3) ، وأن شرارهم الجهال الذين ينازعون بالجهل أهل العلم ؛ فإن للعالم بعلمه فضلا ، وإن الجاهل لن يزداد بمنازعة العالم إلا جهلا .
--------------------------- (1) ح : ( وإظهار أمره ) . (2) حاب يحوب حوبا : أثم . (3) في الأصل : ( بما يعطون ) ، صوابه في ح . واقعة صفين _ 148 _
ألا وإني أدعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وحقن دماء هذه الأمة ، فإن قبلتم أصبتم رشدكم ، وأهتديتم لحظكم ، وإن أبيتم إلا الفرقة وشق عصا هذه الأمة فلن (1) تزدادوا من الله إلا بعدا ، ولن يزداد الرب عليكم إلا سخطا ، والسلام ، فكتب إليه معاوية : أما بعد فإنه :
--------------------------- (1) في الأصل : ( لن ) والصواب دخول الفاء ، وفي ح : ( لم ) ، وهذه لا تطلب الفاء . (2) ح : ( بما حلف عليه ) . (3) ح : ( وإنما خلفه علي عندنا ليأتينا بشر ) . واقعة صفين _ 149 _
فأرسل الأشتر إلى علي فجاء ونصبوا له الجسر ، فعبر الأثقال والرجال (1) ، ثم أمر الأشتر فوقف في ثلاثة آلاف فارس ، حتى لم يبق أحد من الناس إلا عبر ؛ ثم إنه عبر آخر الناس رجلا ، وذكر الحجاج أن الخيل ازدحمت حين عبرت ، وزحم بعضها بعضا وهي تعبر ، فسقطت قلنسوة عبد الله بن أبي الحصين (2) فنزل فأخذها وركب ، وسقطت قلنسوة عبد الله بن الحجاج فنزل فأخذها ثم ركب ، فقال لصاحبه :
--------------------------- (1) في الأصل : ( فعبر على الأثقال والرحال ) بالحاء وبزيادة ( علي ) ، وأثبت صوابه من ح ( 1 : 290 ) ، وفي الطبري ( 5 : 237 ) : ( فعبر عليه بالأثقال والرحال ) . (2) في الأصل : ( عبد الرحمن بن أبي الحصين ) في هذا الموضع وتاليه ، وصوابه في ح والطبري . (3) رسم في الأصل بصورة النثر ؟ وبلفظ : ( الزاجر ) و ( يزعمون ) ، صوابه في الطبري . واقعة صفين _ 150 _
فذهبوا ليعبروا من عانات فمنعهم أهل عانات ، وحبسوا عندهم السفن (1) ، فأقبلوا راجعين حتى عبروا من هيت ثم لحقوا عليا بقرية دون قرقيسيا وقد أرادوا أهل عانات فتحصنوا منهم ، فلما لحقت المقدمة عليا قال : مقدمتي تأتى ( من ) ورائي ؟ فتقدم إليه زياد وشريح فأخبراه ( بالرأي ) الذي رأيا ، فقال : قد أصبتما رشدكما ، فلما عبر الفرات قدمهما أمامه نحو معاوية ، فلما انتهوا إلى معاوية لقيهم أبو الأعور ( السلمى ) في جند أهل الشام ، فدعوهم إلى الدخول في طاعة أمير المؤمنين فأبوا ، فبعثوا إلى علي : إنا قد لقينا أبا الأعور السلمي بسور الروم في جند من أهل الشام فدعوناه (2) وأصحابه إلى الدخول في طاعتك فأبوا علينا ، فمرنا بأمرك ، فأرسل علي إلى الأشتر فقال : يا مال ، إن زيادا وشريحا أرسلا إلى يعلماني أنهما لقيا أبا الأعور السلمي في جند من أهل الشام بسور الروم فنبأني الرسول أنه تركهم متواقفين (3) ، فالنجاء إلى أصحابك النجاء ، فإذا أتيتهم فأنت عليهم ، وإياك أن تبدأ القوم بقتال ، إلا أن يبدءوك ، حتى تلقاهم وتسمع منهم ، ولا يجرمنك شنآنهم على قتالهم (4) قبل دعائهم والإعذار إليهم مرة بعد مرة .
--------------------------- (1) ح ( 1 : 291 ) : ( عنهم السفن ) . (2) في الأصل : ( فدعوناهم ) صوابه من ح . (3) متواقفين : وقف بعضهم أمام بعض في الحرب . (4) أي لا يحملنك بغضهم على قتالهم . واقعة صفين _ 151 _
واجعل على ميمنتك زيادا ، وعلى ميسرتك شريحا ، وقف بين أصحابك وسطا ، ولا تدن منهم دنو من يريد أن ينشب الحرب ، ولا تباعد منهم تباعد من يهاب البأس ، حتى أقدم عليك (1) ، فإني حثيث السير إليك إن شاء الله ) ، وكان الرسول الحارث بن جمهان الجعفي (2) ، وكتب إليهما : ( أما بعد ، فإني قد أمرت عليكما مالكا ، فاسمعا له وأطيعا أمره ؛ فإنه ممن لا يخاف رهقه ولا سقاطه (3) ، ولا بطؤه عن ما الإسراع إليه أحزم ، ولا الإسراع إلى ما البطء عنه أمثل ، وقد أمرته بمثل الذي أمرتكما : ألا يبدأ القوم بقتال حتى يلقاهم فيدعوهم ويعذر إليهم (4) ( إن شاء الله ) ، فخرج الأشتر حتى قدم على القوم فاتبع ما أمره به علي ، وكف عن القتال ، فلم يزالوا متواقفين حتى إذا كان عند المساء حمل عليهم أبو الأعور السلمي فثبتوا ( له ) واضطربوا ساعة ، ثم إن أهل الشام انصرفوا ، ثم خرج هاشم بن عتبة في خيل ورجال حسن عدتها وعددها ، وخرج إلهيم أبو الأعور السلمي ، فاقتتلوا يومهم ذلك ، تحمل الخيل على الخيل (5) ، والرجال على الرجال ، فصبر القوم بعضهم لبعض ثم انصرفوا ، وبكر عليهم الأشتر فقتل منهم (6) عبد الله بن المنذر التنوخي ، قتله ظبيان بن عمارة التميمي ، وما هو يومئذ إلا فتى حديث السن .
--------------------------- (1) في الأصل : ( إليك ) وأثبت ما في ح . (2) ذكره في لسان الميزان ( 2 : 149 ) بدون نسبته ، وقال : ( ذكره الطوسي في رجال الشيعة ) ، وقد ضبط في تاريخ الطبري ( 5 : 238 ) بضم الجيم . (3) الرهق : الجهل وخفة العقل ، وهو أيضا الكذب ، والعربدة ، والسقاط ، بالكسر : الخطأ والعثرة والزلة . (4) في الأصل : ( ألا تبدءوا القوم بقتال حتى تلقاهم فتدعوهم وتعذر إليهم ) وأثبت ما في ح . (5) في الأصل : ( فحمل الخيل على الخيل ) وأثبت ما في ح والطبري ( 5 : 239 ) . (6) ح : ( فقتل من أهل الشام ) . واقعة صفين _ 152 _
وإن كان الشامي لفارس أهل الشام ، وأخذ الأشتر يقول : ويحكم ، أروني أبا الأعور ، ثم إن أبا الأعور دعا الناس فرجعوا نحوه ، فوقف على تل من وراء المكان الذي كان فيه أول مرة ، وجاء الأشتر حتى صف أصحابه في المكان الذي كان فيه أبو الأعور أول مرة ، فقال الأشتر لسنان بن مالك النخعي : انطلق إلى أبي الأعور فادعه إلى المبارزة ، فقال : إلى مبارزتي أو مبارزتك ؟ فقال : إلى مبارزتي ، فقال الأشتر : ( أو ) لو أمرتك بمبارزته فعلت ؟ قال : نعم ، والذي لا إله إلا هو لو أمرتني أن أعترض صفهم بسيفي فعلته (1) حتى أضربه بالسيف ، فقال : يا ابن أخي ، أطال الله بقاءك ، وقد والله ازددت فيك رغبة ، لا ، ما أمرتك بمبارزته ، إنما أمرتك أن تدعوه إلى مبارزتي ، لأنه لا يبارز ـ إن كان ذلك من شأنه ـ إلا ذوي الأسنان (2) والكفاءة والشرف ، وأنت بحمد الله من أهل الكفاءة والشرف ، ولكنك حديث السن ، ( و ) ليس يبارز الأحداث ، فأذهب فادعه إلى مبارزتي ، فأتاهم فقال (3) : أمنوني فإني رسول (4) ، فأمنوه حتى انتهى إلى أبي الأعور ،
نصر : عمر بن سعد ، رجل (5) ، عن أبي زهير العبسي ، عن صالح بن سنان بن مالك ، عن أبيه قال : قلت له : إن الأشتر يدعوك إلى مبارزته . فسكت عني طويلا ثم قال : إن خفة الأشتر وسوء رأيه هو الذي دعاه إلى إجلاء عمال عثمان من العراق ، وافترائه عليه يقبح محاسنه ، ويجهل حقه ، ويظهر عداوته .
--------------------------- (1) ح ( 1 : 291 ) : ( لفعلت ) . (2) في الأصل : (لذوي الأسنان ) والوجه ما أثبت في ح ، وانظر الطبري . (3) في الأصل : ( فأتاه فقال ) ، صوابه في ح . (4) ح : ( أنا رسول فأمنوني ) . (5) كذا في الأصل ، وليست في ح ، ومعناه حدثني رجل . واقعة صفين _ 153 _
ومن خفة الأشتر وسوء رأيه أنه سار إلى عثمان في داره وقراره ، فقتله فيمن قتله ، فأصبح مبتغى بدمه (1) ، لا حاجة لي في مبارزته ، قال : قلت له : قد تكلمت فاستمع مني حتى أخبرك (2) ، قال : فقال : لا حاجة لي في جوابك ، ولا الاستماع منك ، اذهب عني ، وصاح بي أصحابه فانصرفت عنه ، ولو سمع مني لأخبرته بعذر صاحبي وحجته ، فرجعت إلى الأشتر فأخبرته أنه قد أبي المبارزة ، فقال : لنفسه نظر ، قال : فتواقفنا حتى حجز بيننا وبينهم الليل ، وبتنا متحارسين ، فلما أن أصبحنا نظرنا فإذا هم قد انصرفوا (3) ، قال : وصبحنا (4) على غدوة فسار نحو معاوية ، فإذا أبو الأعور السلمى قد سبق إلى سهولة الأرض ، وسعة المنزل ، وشريعة الماء ، مكان أفيح (5) ، وكان على مقدمة معاوية ، نصر : عمرو بن شمر ، عن جابر ، عن محمد بن علي ، وزيد بن حسن ، ومحمد ـ يعني ابن المطلب ـ قالوا : استعمل علي ( عليه السلام ) ، على مقدمته الأشتر بن الحارث النخعي ، وسار علي في خمسين ومائة ألف من أهل العراق وقد خنست طائفة من أصحاب علي ، وسار معاوية في نحو من ذلك من أهل الشام ، واستعمل معاوية على مقدمته سفيان بن عمرو : أبا الأعور السلمي ، فلما بلغ معاوية أن عليا يتجهز أمر أصحابه بالتهيوء ، فلما استتب لعلي أمره سار بأصحابه ، فلما بلغ معاوية مسيره إليه سار بقضه وقضيضه نحو علي ( عليه السلام ) .
--------------------------- (1) مبتغى : مطلوبا ، وفي ح والطبري : ( متبعا ) . (2) ح والطبري : ( فاسمع حتى أجيبك ) . (3) في الطبري : ( قد انصرفوا من تحت ؟ ؟ ليلتهم ) . (4) في الأصل : ( وأصبحنا ) تحريف ، وفي ح والطبري : ( ويصبحنا على غدوة ) . (5) الأفيح : الواسع ، ح : ( مكانا أفسح ) ، محرف . واقعة صفين _ 154 _
واستعمل على مقدمته سفيان بن عمرو ، وعلى ساقته ابن أرطاة العامري ـ يعني بسرا (1) ـ فساروا حتى توافوا جميعا بقناصرين (2) إلى جنب صفين ، فأتى الأشتر صاحب مقدمة معاوية وقد سبقه إلى المعسكر على الماء ، وكان الأشتر في أربعة آلاف من متبصري أهل العراق ، فأزالوا أبا الأعور عن معسكره ، وأقبل معاوية في جميع الفيلق (3) ( بقضه وقضيضه ) ، فلما رأى ذلك الأشتر انحاز إلى علي ( عليه السلام ) وغلب معاوية على الماء ، وحال بين أهل العراق وبينه ، وأقبل علي ( عليه السلام ) حتى إذا أراد المعسكر إذا القوم قد حالوا بينه وبين الماء ، ثم رجع إلى الحديث بإسناده إلى الأول ، ثم إن علياً ( عليه السلام ) طلب موضعا لعسكره ، وأمر الناس أن يضعوا أثقالهم ـ وهم مائة ألف أو يزيدون ـ فلما نزلوا تسرع فوارس من فوارس علي على خيلهم إلى معاوية وكانوا في ثلاثين ومائة ـ ولم ينزل بعد معاوية ، فناوشوهم القتال واقتتلوا هويا (4) .
--------------------------- (1) بعده في ح ( 1 : 291 ) : ( وعلى الخيل عبيد الله بن عمر بن الخطاب ، ودفع اللواء إلى عبد الرحمن بن خالد بن الوليد ، وجعل على الميمنة حبيب بن مسلمة الفهري ، وعلى الميسرة عبد الله بن عمرو بن العاص ، وعلى الرجالة من الميسرة حابس بن سعيد الطائي وعلى خيل دمشق الضحاك بن قيس الفهري ، وعلى رجالة أهل دمشق يزيد بن أسد بن كرز البجلي ، وعلى أهل حمص ذا الكلاع ، وعلى أهل فلسطين مسلمة بن مخلد ) ، وسيأتي هذا الكلام في نهاية هذا الجزء الثالث من الكتاب . (2) لم يذكره ياقوت ، وفي القاموس : ( وقناصرين بالضم : موضع بالشام ) . (3) في الأصل : ( جمع الفيلق ) صوابه في ح ( 1 : 325 ) . (4) الهوى ، بفتح الهاء وكسر الواو وتشديد الياء : الحين الطويل من الزمان ، وبالضم : السرعة ، يقال هوت الناقة تهوى هويا ، إذا عدت عدوا شديدا أرفع العدو . واقعة صفين _ 155 _
نصر : عمر بن سعد ، عن سعد بن طريف ، عن الأصبغ بن نباتة ، قال : كتب معاوية إلى علي ( عليه السلام ) : عافانا الله وإياك ، ما أحسن العدل والإنصاف من عمل ، وأقبح الطيش ثم النفش في الرجل ا (1) ( وكتب بعده ا (2) ) :
--------------------------- (1) قال ابن أبي الحديد في ( 1 : 326 ) : ( والنفش كثرة الكلام والدعاوى ، وأصله من نفش الصوف ) . (2) التكملة من ح ( 1 : 325 ) . (3) الأبيات لعبد الله بن عنمة الضبي : انظر الشعر وشرحه وترجمة قائله وجو الأبيات في المفضليات ( 2 : 182 طبع المعارف ) . (4) وزعوا : كفوا . واقعة صفين _ 156 _
حتى تأخذ أهل المصاف مصافهم (1) ، ثم قال : أيها الناس ، هذا موقف من نطف فيه نطف يوم القيامة (2) ، ومن فلج فيه فلج يوم القيامة ، ثم قال علي ، لما نزل معاوية بصفين :
(1) ح ( 1 : 326 ) : ( حتى أخذ أهل الشام مصافهم ) . (2) يقال نطف ، كعلم ، ونطف بالبناء للمجهول : أي اتهم بريبة . (3) يهمط الناس ، أي يقهرهم ويخطبهم ، والاعتزاب ، قال ابن أبي الحديد في ( 1 : 327 ) : ( أي على بعده عن الإمارة والولاية على الناس ) ، وفي الأصل : ( اغترابه ) تحريف . (4) العشنزر : الشديد . (5) قال ابن أبي الحديد : ( أجحر : ظلم الناس حتى ألجأهم إلى أن دخلوا جحرتهم أو بيوتهم ، وتنمر : أي تنكر حتى صار كالنمر ، يقول : هذا القائد الشديد القوى ينصف من يظلم الناس ويتنكر لهم ، أي ينصف منه ، فحذف حرف الجر كقوله ( واختار موسى قومه ) أي من قومه ، والمزج ، بكسر الميم : السريع النفوذ ، وأصله الرمح القصير كالمزراق ، ورجل زمجر أي مانع حوزته ، والميم زائدة ، ومن رواها : زمخرا ، بالخاء ، عني به المرتفع العالي الشأن ) ، في الأصل : ( أحجم ) وفي ح : ( أحجر ) بتقديم الحاء على الجيم في الرجز وفي شرحه ، وصوابهما بتقديم الجيم على الحاء وآخره راء كما أثبت . واقعة صفين _ 157 _
إذا ونين ساعة تغشمرا (1)
وقال أيضا (2) :
--------------------------- (1) تغشمر : تنمر وأخذهم بالشدة لا يبالي . (2) الشعر لربيعة بن مشروم الطائي ، كما في ح ( 1 : 327 ) . (3) في الأصل : ( اختار ولا مستويا ) ، صوابه في ح . واقعة صفين _ 158 _
ائت معاوية فقل : إنا سرنا مسيرنا هذا ، وأنا أكره قتالكم قبل الإعذار إليكم ، وإنك قد قدمت بخيلك (1) فقاتلتنا قبل أن نقاتلك ، وبدأتنا بالقتال ، ونحن من رأينا (2) الكف حتى ندعوك ونحتج عليك ، وهذه أخرى قد فعلتموها ، حتى حلتم بين الناس وبين الماء ، فخل بينهم وبينه حتى ننظر فيما بيننا وبينكم ، وفيما قدمنا له وقدمتم ، وإن كان أحب إليك أن ندع ما جئنا له وندع الناس يقتتلون على الماء حتى يكون الغالب هو الشارب فعلنا ، فقال معاوية لأصحابه (3) : ما ترون ؟ قال الوليد بن عقبة : امنعهم الماء كما منعوه ابن عفان : حصروه أربعين يوما يمنعونه برد الماء ولين الطعام ، اقتلهم عطشا قتلهم الله ! قال عمرو : خل بين القوم وبين الماء ؛ فإنهم لن يعطشوا وأنت ريان ، ولكن لغير الماء فانظر فيما بينك وبينهم ، فأعاد الوليد مقالته ، وقال عبد الله ابن أبي سرح (4) ـ وهو أخو عثمان من الرضاعة : امنعهم الماء إلى الليل ؛ فإنهم إن لم يقدروا عليه رجعوا ، وكان رجوعهم هزيمتهم ، امنعهم الماء منعهم الله يوم القيامة ، فقال صعصعة بن صوحان : إنما يمنعه الله يوم القيامة الكفرة الفجرة شربة الخمر ، ضربك وضرب هذا الفاسق (5) ـ يعني الوليد ابن عقبة ـ فتواثبوا إليه يشتمونه ويتهددونه ، فقال معاوية : كفوا عن الرجل فإنه رسول ، نصر : عمر بن سعد ، عن يوسف بن يزيد ، عن عبد الله بن عوف بن الأحمر ، أن صعصعة رجع إلينا فحدثنا بما قال معاوية وما كان منه وما رد عليه ، فقلنا : وما رد عليك معاوية ؟ قال : لما أردت الانصراف من عنده قلت : ما ترد علي ؟ قال : سيأتيكم رأيي .
--------------------------- (1) ح : ( قدمت خيلك ) . (2) ح : ( ممن رأينا ) . (3) ح : ( فلما مضى صعصعة برسالته إلى معاوية قال معاوية لأصحابه ) . (4) هو عبد الله بن سعد بن أبي سرح بن الحارث بن حبيب ـ بالتصغير ـ بن حذافة ابن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي ، وهو الذي افتتح إفريقية زمن عثمان وولي مصر بعد ذلك ، ومات سنة تسع وخمسين في آخر عهد معاوية ، الإصابة 4702 ، ح : ( بن سعيد ) تحريف . (5) الضرب ، هاهنا : المثل والشبيه . واقعة صفين _ 159 _
قال : فوالله ما راعنا إلا تسوية الرجال والخيل والصفوف ، فأرسل إلى أبي الأعور : امنعهم الماء ، فازدلفنا والله إليهم ، فارتمينا واطعنا بالرماح ، واضطربنا بالسيوف فطال ذلك بيننا وبينهم ، فضاربناهم فصار الماء في أيدينا ، فقلنا : والله لا نسقيهم ، فأرسل إلينا علي : خذوا من الماء حاجتكم ، وارجعوا إلى عسكركم (1) وخلوا بينهم وبين الماء ؛ فإن الله قد نصركم ببغيهم وظلمهم ، نصر : عمر بن سعد ، عن رجل ، عن أبي حرة أن عليا قال : هذا يوم نصرتم فيه بالحمية ، نصر ، محمد بن عبيد الله ، عن الجرجاني ، قال : فبقي أصحاب علي يوما وليلة ـ يوم الفرات ـ بلا ماء ، وقال رجل من السكون من أهل الشام ، يعرف بالسليل بن عمرو (2) : يا معاوية :
(1) ح : ( معسكركم ) وهما سيان ، فإن العسكر كما يقال للجيش يقال أيضا لمجتمع الجيش كالمعسكر . (2) ح : ( بالشليل بن عمرو ) ، وكذا جاءت في الشعر . (3) ح : ( صدى فالقصاص أمر جميل ) . (4) التأجيل : تحديد الأجل ، وفي التنزيل : ( كتابا مؤجلا ) ، ح : ( هدايا كأنهن الفيول ) . |