(4) إحياء علوم الدين ( 2 : 143 ) وانظر المحجة البيضاء في إحياء الإحياء ( 3 : 260 ) . جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 155 _
ورواها من أعلامنا إبن شعبة ، ونعتمد نسخته هنا (1) قال : كتابه ( عليه السلام ) إلى محمّد بن مسلم الزُهْريّ ، يعظه :
كفانا الله ، وإيّاك ، من الفتن ، ورحمك من النار ، فقد أصبحتَ بحال ينبغي لمن عرفك بها أن يرحمك ، فقد أثقلتك نِعمُ الله بما أصحّ من بدنك ، وأطال من عمرك ، وقامت عليك حجج الله بما حمّلك من كتابه ، وفقّهك من دينه ، وعرّفك من سنّة نبيه محمّد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فرضي لك في كلّ نعمةٍ أنعم بها عليك ، وفي كلّ حُجّة احتجّ بها عليك الفرض بما قضى ، فما قضى إلاّ إبتلى شكرك في ذلك ، وأبدى فيه فضله عليك ، فقال : ( لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ) ، ( إبراهيم (14) الاَية (7) )فانظر : أيَ رجل تكون غداً إذا وقفت بين يدي الله فسألك عن نعمه عليك : كيف رعيتها ? وعن حججه عليك : كيف قضيتها ? ولا تحسبنّ الله قابلاً منك بالتعذير ، ولا راضياً منك بالتقصير ، هيهات هيهات ليس كذلك أخذ على العلماء في كتابه إذ قال : ( لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ ) ، ( آل عمران (3) الاَية (187) ) واعلم أنّ أدنى ما كتمتَ ، وأخفّ ما إحتملت أن آنست وحشة الظالم ، وسهّلت له طريق الغيّ بدنوّك منه حين دنوت ، وإجابتك له حين دُعيت ! ، فما أخوفني أن تبوء بإثمك غداً ، مع الخونة ، وأن تُسأل عمّا أخذت بإعانتك على ظلم الظلمة ، إنك أخذت ماليس لك ممَن أعطاك ، ودنوت ممّن لم يردَ على أحدٍ حقّاً ، ولم تردَ باطلاً حين أدناك ، وأحببتَ مَنْ حادَ الله ! أو ليس بدعائهم إيّاك حين دعوك جعلوك قطباً أداروا بك رحى مظالمهم ، وجسراً يعبرون عليك إلى بلاياهم ، وسلّماً إلى ضلالتهم ، داعياً إلى غيّهم ، سالكاً سبيلهم ، يُدخلون بك الشكَ على العلماء ، ويقتادون بك قلوب الجهّال إليهم ، فلم يبلغ أخصّ وزرائهم ، ولا أقوى أعوانهم إلاّ دون ما بلغت من إصلاح فسادهم ، وإختلاف الخاصّة والعامّة إليهم ، فما أقلّ ما أعطوك في قدر ما أخذوا منك ، وما أيسر ما عمّروا لك في كَنَف ما خربّوا عليك ? فانظر لنفسك ، فإنّه لا ينظر لها غيرك ، وحاسبها حساب رجل مسؤول ، وانظر كيف شكرك لمن غذاك بنعمه صغيراً وكبيراً ? فما أخوفني أن تكون كما قال الله في كتابه : ( فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا ) ، ( الأعراف (7) الاَية (169) ) ، إنّك لست في دار مقام ، أنت في دارٍ قد آذنتْ برحيل ، فما بقاء المرء بعد قرنائه ? طوبى لمن كان في الدنيا على وجلٍ ، يا بؤس مَن يموت وتبقى ذنوبه من بعده ، إحذر فقد نُبّئتَ ، وبادر فقد اُجّلتَ ، إنّك تعامل مَن لا يجهل ، وإنّ الذي يحفظ عليك لا يغفل . تجهّز فقد دنا منك سفر بعيد ، وداوِ دينك فقد دخله سقم شديد ، ولا تحسب أني أردتُ توبيخك وتعنيفك وتعييرك ، لكنّي أردتُ أن ينعش الله ما فات من رأيك ، ويردّ إليك ما عزُب من دينك ، وذكرت قول الله تعالى في كتابه : ( وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ) ، ( الذاريات (51) الاَية (55) ) ، أغفلتَ ذكر مَن مضى من أسنانك وأقرانك ، وبقيتَ بعدهم كقَرن أعضب . --------------------------- (1) تحف العقول ( ص 274 ) والمحجة البيضاء ( 3 : 260 ) . جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 156 _
انظر: هل إبتلوا بمثل ما إبتليت به ? أم هل وقعوا في مثل ما وقعت فيه ? أم هل تراهم ذكرت خيراً أهملوه ? وعلمت شيئاً جهلوه ? بل : حظيت بما حلّ من حالك في صدور العامّة ، وكلفهم بك ، إذ صاروا يقتدون برأيك ، ويعملون بأمرك ، إن أحللت أحلّوا ، وإن حرّمت حرّموا ، وليس ذلك عندك ، ولكن أظهرهم عليك رغبتهم في ما لديك ذهابُ علمائهم ، وغلبة الجهل عليك وعليهم ، وحبّ الرئاسة ، وطلب الدنيا منك ومنهم أما ترى ما أنت فيه من الجهل والغرّة ? وما الناس فيه من البلاء والفتنة ? قد ابتليتهم ، وفتنتهم بالشغل عن مكاسبهم ممّا رأوا ، فتاقت نفوسهم إلى أن يبلغوا من العلم ما بلغتَ ، أو يدركوا به مثل الذي أدركتَ ، فوقعوا منك في بحرٍ لا يدرك عمقه ، وفي بلاءٍ لا يقدّر قدره ، فالله لنا ولك ، وهو المستعان .
أمّا بعد : فأعرض عن كلّ ما أنت فيه حتّى تلحق بالصالحين الذين دفنوا في أسمالهم ، لاصقةً بطونهم بظهورهم ، ليس بينهم وبين الله حجاب ، ولا تفتنهم الدنيا ، ولا يفتنون بها رغبوا ، فطلبوا ، فما لبثوا أن لحقوا ، فإن كانت الدنيا تبلغ من مثلك هذا المبلغ ، مع كبر سنّك ، ورسوخ علمك ، وحضور أجلك ، فكيف يسلم الحدث في سنّه ? الجاهل في علمه ? المأفون في رأيه ? المدخول في عقله ? إنّا لله وإنّا اليه راجعون ، على من المعوّل ? وعند مَن المستعتب ? نشكو إلى الله بثّنا ، وما نرى فيك، ونحتسب عند الله مصيبتنا بك ، فانظر : كيف شكرك لمن غذَاك بنعمه صغيراً وكبيراً ? وكيف إعظامك لمن جعلك بدينه في الناس جميلاً ? وكيف صيانتك لكسوة من جعلك بكسوته في الناس ستيراً ? وكيف قربك أو بعدك ممّن أمرك أن تكون منه قريباً ذليلاً ? مالك لا تنتبه من نعستك ? وتستقيل من عثرتك ? فتقول : والله ما قمتُ لله مقاماً واحداً أحييتُ به له ديناً أو أَمَت له فيه باطلاً ? فهذا شكرك من استحملك ? ما أخوفني أن تكون كما قال الله تعالى في كتابه : ( أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ) ، ( مريم (19) الاَية (59) ) إستحملك كتابه ، واستودعك علمه ، فأضعتهما ، فنحمد الله الذي عافانا ممّا إبتلاك به ، والسلام (1) . . --------------------------- (1) روى الرسالة في تحف العقول ( 274 ـ 277 ) ورواها الحائري في : بلاغة علي بن الحسين ( ص 122 ـ 126 )ورواها المقرم في : الإمام زين العابدين ( ص 4 ـ 159 ) ولاحظ إحياء علوم الدين للغزالي ( 2 : 143 ) . جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 157 _
إنّ هذه الرسالة تدلّ على سياسة الإمام ( عليه السلام ) من جهتين :
فأولاً : محتواها يدلّ على انّ الإمام كان يراقب الأوضاع بدقّة فائقة ، فهو يضع النقاط على مواضعها من الحروف ، ولا تشذّ عنه صغار الأمور فضلاً عن كبارها ? ومثل هذا لا يصدر إلاّ ممّن لم ينعزل عن الحياة الاجتماعية ، ولم يزهد في السياسة . وثانياً : إنّ إرسال مثل هذه الرسالة إلى الزهري ، وهو من أعيان علماء البلاط ، لابدّ أن لا تخفى عن أعين الحكّام ، أو على الأقل يحتمل أن يرفعها الزهري إلى أسياده من الحكّام وفي هذا من الخطورة على الإمام الذي أرسل الرسالة ما هو واضح وبيّن، وقد وصفهم فيها بالظلم والفساد ، ونهى ، وحذّر ، وحاول صرف الزهري عن اصطحابهم ، فالسياسة تطفح من جُمَل هذه الرسالة ، لكنّ الإمام ( عليه السلام ) في هذه المرحلة لا يأبه بكل الإحتمالات ، والأخطار المتوقّعة ، بل يصارح أعوان الظلمة بكلّ ما يجب إعلانه من الحقّ ، كما صارح الظالمين أنفسهم بالمواجهة ، والإستفزاز ، وقد وقفنا على شيءٍ من مواجهة الإمام ( عليه السلام ) للمتظاهرين بالزهد والصلاح ممن كان يميل باطناً إلى الدنيا ، ويحبّ الرئاسة والوجاهة ، وأوضح مصاديق ذلك : هم عُلماء البلاط ووعّاظ السلاطين الذين إرتبطوا بالولاة والحكّام ، ليستمتعوا باللذات من خلال الحضور معهم ، والتطفّل على موائدهم . ثالثاً : موقفه من الحركات المسلّحة كان الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) يخطو نحو أهدافه بحذر تامٍ ، ووعي كامل ، لا يُثيرُ انتباه الحكّام والولاة المغرورين ، كي لا يقضوا على حركته وهي في المهد ، فهم ، بانهماكهم في ترفهم وإغترارهم بقدراتهم ، كانوا بعيدين عن الأجواء التي يصنعها الإمام ( عليه السلام ) ، فكانوا يعدّون مواقفه شخصيّة خاصة وفرديّة ، بل يستوحون منها الانصراف عن التصدّي لأيّ نشاط سياسيّ ، فلذلك لم يُظهر الإمام إنتماءٍ إلى أيّة حركة معارضة للدولة ، ولم يسمح لها أن تتصل بالإمام ، سواء الحركات المتحبّبة إليه ، كحركة التوّابين وحركة المختار ، أو الحركات المحايدة كحركة أهل الحرَة ، أم المعادية له كحركة ابن الزبير في مكّة والعراق ، لكن الاَثار تشير إلى أن الإمام ( عليه السلام ) لم يكن في معزل عن تلك الحركات ، سلباً أو إيجاباً ، حسب قربها أو بعدها عن الأهداف الأساسية التي كان الإمام وراء تحقيقها وتثبيتها ، فهو من جهة كان يركّز على خططه العميقة والواسعة ، بالشكل الذي يغرّر بالحكّام الأمويين بصحّة تصورّاتهم عن شغله وشخصه ، حتّى أعلنوا عنه أنّه ( الخير ) . جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 158 _
ولعلّ رجال الدولة كانوا في رغبة شديدة في الإحتفاظ بهذا التصوّر ، حتّى لا يتورّطوا مع آل أبي طالب بأكثر ممّا سبق ، وليتفرّغوا لغير الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) ممّن أعلن الثورة والمعارضة لهم كابن الزبير ، فلذا نشروا هذا المعنى في عملية تحريف ، ليدفعوا مجموعة من الناس للمشي بسيرة الإمام ( عليه السلام ) ، وقد وقف كتّاب من مؤرخي عصرنا الحاضر على هذه الاَثار ، فأعلنوا : ( أنّ الإمام ( عليه السلام ) تبنّى مسلكاً ، يرفض فيه كلّ تحرك مناهض للسلطة ، ويبتعد عن كلّ نشاط معادٍ لها ) (1) ، مع أن الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) كان يهدف من خلال مواقفه حتّى العبادية
والعلمية والشخصية منها إلى تثبيت مخططاته السياسية كما عرفنا في الفصول السابقة ، وكان مع ذلك يتعامل مع الحركات السياسية الأخرى بشكل مدروس ومدبّر ، حسب المواقع والظروف : فبالنسبة إلى حركة الحرّة : وجدنا الإمام ( عليه السلام ) قد أحرز أنها حركةً لم تنبع عن مبدأ يتّفق وضرورات الموقف الإسلاميّ الصحيح ، فلا القائمون بها كانوا من العارفين بحقّ الإمام ( عليه السلام ) ، ولا خططهم المعلنة كانت أساسية ، ولا أهدافهم كانت واضحة أو مدروسة ، وأهم ما كانت عليه خطورةَ الموقع الذي إختاروه للتحرّك ، وهو ( المدينة ) فقد عرّضوها للجيش الشامي الملحد ، ليدنّس كرامتها ويستهين بمقدّساتها ، وقد عرفنا أن الإمام ( عليه السلام ) إتخذ موقف المنجي للمدينة المنكوبة ولأهلها الذين إستباح حرماتهم الجيشُ الأمويّ ، ولم تكن حركة الحرّة تتبع أمر الإمام ( عليه السلام ) ولا قيادته بل ولا إشرافه ، بل كان الإمام ( عليه السلام ) يومها في فترة لملمة قواه وتهيئة وضعه ، والتأهّب لخطته المستقبلية ، كما سبق حديث عن ذلك كلّه في الفصل الأول (2) .
وأما فتنة ابن الزبير : فمع أن ابن الزبير لم يكن بأولى من ابن مروان ، في الحكم والسيطرة ، وأن طموحاته المشبوهة كانت مرفوضة لدى أهل الحقّ ، وخاصّةً للعلويين وعلى رأسهم الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) ، ومع ما كان عليه من الحقد والعداء لاَل عليّ ( عليه السلام ) (3) ذلك الذي بدأه في حياته بدفع أبيه في أتون حرب الجمل ، وقد حمّله الإمام الصادق ( عليه السلام ) ذلك الوزر في كلمته --------------------------- (1) الإمام السجاد ( عليه السلام ) لحسين باقر ( ص 98 ) . (2) لاحظ ( ص 65 ـ 72 ) من هذا الكتاب . (3) فقد قال لإبن عباس : إني لأكتم بغضكم أهل هذا البيت منذ أربعين سنة مروج الذهب ( 3 : 84 و 89 ) وانظر تاريخ اليعقوبي ( 2 : 261 ) . جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 159 _
الشهيرة : ( ما زال الزُبير منّا أهل البيت حتّى أدرك فرخه فنهاه عن رأيه ) (1) ، وبدأ في عهد سطوته العداء لاَل محمد ( عليهم السلام ) بصورة مكشوفة لمّا هدّد مجموعة منهم بالإحراق عليهم في شعب أبي طالب بمكة (2) ، وبلغ به حقده أنْ منع الصلاة على النبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قائلاً : ( إنّ له ( أهل سوء ) يشمخون باُنوفهم ) حسب تعبيره الوقح (3) ، وكان بحكم معرفته بموقعيّة الإمام السجاد ( عليه السلام ) يضع العيون على الإمام يراقبون تصرّفاته (4) ، وقد قتل أخوه مصعب الشيعة بالعراق ، حتّى النساء (5) ، فلذلك كان الإمام يظهر التخوّف من فتنته (6) ، ولعلّ من أوضح مبرّرات الإمام في تخوّفه من فتنة إبن الزبير أنّه إتّخذ مكّة موقعاً لحركته ، مما يؤدي عند إندحاره إلى أن يعتدي الأمويون على هذه البلدة المقدَسة الاَمنة ، وعلى حرمة البيت الحرام والكعبة الشريفة ? وقد حصل ذلك فعلاً ، مع أنَ علم الإمام ( عليه السلام ) بفشل حركته لضعفه وقلّة أنصاره بالنسبة إلى جيوش الدولة الجرّارة ، كان من أسباب إمتناع الإمام ومعه كل العلويين من الإعتراف بحركة ابن الزبير ، وهو كان يؤكّد على أخذ البيعة منهم لكسب الشرعية أولاً ، ولجرّهم معه إلى هاوية الفناء والدمار في ما لو إندحر ، وقد كان متوقّعاً ذلك ، فيقضي على آل محمد ( عليهم السلام ) فيكون قد وصل إلى أمنيته القديمة .
--------------------------- (1) أرسله الصدوق في الخصال ( ص 157 ) باب الثلاثة ح 199 . (2) تاريخ اليعقوبي ( 2 : 261 ) وسير أعلام النبلاء ( 4 : 118 ) وطبقات إبن سعد ( 5 : 100 ) ومروج الذهب ( 3 : 85 ) . (3) تاريخ اليعقوبي ( 2 : 261 ) مروج الذهب ( 3 : 88 ) . (4) شرح رسالة الحقوق ، لعبد الهادي المختار ( ص 102 ) . (5) مروج الذهب ( 3 : 107 ) وتاريخ اليعقوبي ( 2 :264 ) . (6) الكافي () التوحيد للصدوق ( ص 374 ) وشرح الأخبار ( 3 : 261 ) وبحار الأنوار ( 46 37 و 145 ) ، وحلية الأولياء ( 3 : 134 ) . جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 160 _
إن الإمام ( عليه السلام ) بإظهاره التخوّف من فتنة إبن الزبير ، كان قد أحبط كلّ أهداف إبن الزبير وأمانيه الخبيثة تلك ، كما أنّ في هذا التصرّف تهدئةً لِوَغَرِ صدور الأمويين ضدّ آل محمّد ( عليهم السلام ) وشيعتهم ، تمهيداً لتثبيت العقيدة وترسيخ قواعدها ، وبهذا حدّد الإمام ( عليه السلام ) موقفه من الحركات البعيدة عن خطّ الإمامة ، والتي لم تنتهج إتّباع الإسلام المحمّدي الخالص الذي يحمله أئمة أهل البيت ( عليهم السلام ) ، فهو لم يظهر تجاهها ما يستفيده الأمويون ، كما لم يؤيدها بحيث تكون ذريعة للأمويين على محاسبة الإمام ( عليه السلام ) ، ولا قام بما يعتبر وسيلة يتشبَث بها أولئك المتحرّكون غير الأصيلين في الفكر والعقيدة ، والمشبوهون في الأهداف والمنطلقات ، فإتّخذ الإمام من هذه الحركات موقف الحزم والحيطة ، فهي وإن لم تكن على المعلوم من الحقّ إلاّ أنها كانت معارضة للمعلوم من الباطل الحاكم ، ومؤديّة إلى تضعيفه وزعزعته ، وتحديد سطوته ، والإمام ( عليه السلام ) لا يهدف إلى مجرّد إحداث البلبلة ، وتعويض فاسد بفاسد ، أو نقل السلطة من إبن مروان ، إلى إبن الزبير ، أو إبن الأشعث ، أو غيرهم من المتصدّين للحكم بالباطل ، فتركهم الإمام ( عليه السلام ) يشتغل بعضهم ببعض حتّى ينكشف للأمة زيف دعواهم الإمامة والخلافة ، ويظهر للأمة أنهم جميعاً لا يطلبون إلاّ الحكم والسلطة ، دون صلاح الإسلام وإصلاح ما فسد من أمور المسلمين ، وأمّا موقفه من الحركات الاُخرى : فهي بفرض انّها قامت بشعارات حقّة . . كحركة التوّابين في عين الوردة ، وشعارهم ( يالثارات الحسين ) (1) وهم الذين تحالفوا على بذل نفوسهم وأموالهم في الطلب بثأر الحسين ( عليه السلام ) ومقاتلة قتلته وإقرارالحقّ مقرّه في رجل من آل بيت نبيّهم ( صلوات الله عليه وسلامه ) (2) .
وكحركة المختار الذي كتب إلى الإمام علي بن الحسين السجاد ( عليه السلام ) يريده على أن يُبايع له ، ويقول بإمامته ، ويظهر دعوته ، وأنفذ إليه مالاً كثيراً (3) وتتَبع قتلة الحسين ( عليه السلام ) فقتلهم (4) ، ولكنّ الإمام ( عليه السلام ) كان حكيماً في تعامله مع المتحرّكين أولئك ، فلم يعلنْ عن إرتباطه المباشر بهم ، وكذلك لم يعلن عن رفض حركتهم ، مثلما واجه إبن الزبير ، بل أصدر بياناً عاماً ، يصلح لتبرير الحركات الصالحة ، من دون أن يترك آثاراً سيئة على الإمام ( عليه السلام ) : فقال لعمّه محمد بن الحنفية : ( يا عمّ ، لو أنّ عبداً --------------------------- (1) أيام العرب في الإسلام ( ص 436 ) . (2) الفخري في الاَداب السلطانية ( ص 104) . (3) مروج الذهب ( 3 : 83 ) . (4) مروج الذهب ( 3 :84 ) . جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 161 _
تعصّب لنا أهلَ البيت ، لوجب على الناس مؤازرته ، وقد ولَيتك هذا الأمر ، فاصنع ما شئت ) (1) ، إن تولية الإمام ( عليه السلام ) لعمّه في القيام بأمور الحركات الثوريّة تلك كان هو الطريق الأصلح ، حيث أن محمّد بن الحنفيّة لم يكن متّهماً من قبل الدولة بالمعارضة ، ولم يُعْرَف منه ما يشير إلى التصدي للإمامة لنفسه ، بينما الإمام ( عليه السلام ) كانت الدولة تتوجّس منه خيفةً بإعتباره صاحب الدم في كربلاء ، والمؤهّل للإمامة ، لعلمه وتقواه وشرفه ، ولم يخفَ على عيون الدولة أنّ جمعاً من الشيعة يعتقدون الإمامة له .
وبذلك كان الإمام ( عليه السلام ) قد حافظ على وجوده من أذى الأمويين وإستمرّ على رسم خططه والتأكيد على منهجه لإحياء الدين وتهيئة الأرضيّة للحكم العادل ، وهو مع ذلك لم يقطع الدعم عن تلك الحركات التي إنتهجت الثأر لأهل البيت ( عليهم السلام ) ، فلمّا أرسل المختار برؤوس قتلة الإمام الحسين ( عليه السلام ) إلى الإمام السجّاد ( عليه السلام ) ، خرّ الإمام ساجداً ، ودعا له ، وجزّاه خيراً (2) ، وقام أهل البيت كافّة بإظهار الفرح ، وترك الحداد والحزن، ممّا يدلّ على تعاطفهم عملياً ، وعلنيّاً مع المختار وحركته ، ولو نظرنا إلى هذا العمل ، نجده لا يُثير من الأمويين كثيراً من الشكوك تجاه الإمام ، إذ من الطبيعي أن يفرح الموتور بقتل ظالمه ، ويدعو لمن قتله وإنتقم منه وثأر لدماء الشهداء خصوصاً ، إذا إقترن مع رفض الإمام ( عليه السلام ) لقبول هدايا المختار المادّية (3) ، فإنّ ذلك يدلّ بوضوح على أن الإمام ( عليه السلام ) لا يريد التورّط سياسيّاً مع حركة بعيدة عنه جغرافيّاً ، ولم تلتق مع أهدافه البعيدة المدى حضارياً وتاريخيّاً ، ولا تعدو أن تكون فوزاً أو بُروزاً مقطعيّاً فقط . وأمّا ما ورد عن الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) من أحاديث في ذمّ المختار أو لعنه : فالذي يوجّهه أنّ الحكّام الظلمة عامّةً وبني أمية خاصّة إستعملوا أساليب التزوير والإتّهامات الباطلة ضدّ معارضيهم بغرض إسقاط المعارضة في نظر العامة . --------------------------- (1) بحار الأنوار ( 45 : 365 )وانظر أصدق الأخبار للسيد الأمين ( ص 39 ) والمختار الثقفي لأحمد الدجيلي ( ص 39 ) . (2) رجال الكشي ( ص 125 و 127 ) وشرح الأخبار ( 3 : 270 ) وتاريخ اليعقوبي ( 2 : 259 ) . (3) مروج الذهب ( 3 : 83 ) ورجال الكشي ( ص 126 ) رقم ( 200 ) . جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 162 _
قد إستهدفوا شخص المختار وأصحابه بأشكال من الإتهامات التي تعبُر على أذهان العوام ، مثل السحر والشعوذة ، كما إتّهموه بدعوى النبوّة ، والاُلوهية ، وما أشبه ذلك من الخرافات ، سعياً في إبطال مفعول حركته ، وإبعاد الناس عنه ، والتشويش على نداءاته وشعاراته بالطلب بثارات الحسين ( عليه السلام ) وتأسّفه على قتله ، وإعلانه عن هويَة القاتلين ، وحمايته لبني هاشم من الأذى ، ولقد تواترت أخبار البلاطيّين ، وإتّهامهم إيّاه على طريقة ( اكذب ثم اكذب ثم اكذب حتّى يصدّقك الناس ) وقد ملئت الصحف والكتب والأخبار بتلك الأكاذيب ، حتّى صدّقها الناس فعلاً ! ! .
وإذا كان المختار بتلك المنزلة التي أبداها الحكّام والنقلة والرواة والمؤرّخون ، وكان من أخبارهم الموحشة عنه ما ملأ مسامع الناس وأفكارهم : أنّه ساحر ، كذّاب على الله ورسوله ، مدّعٍ للنبوّة ، وما إلى ذلك من الترّهات والأكاذيب ، إذا كان المختار عند العامة بهذه المنزلة ، فهل يجوز للإمام ( عليه السلام ) أنْ يدافع علناً عن حركته ? أو أنْ يسكت إذا سُئِلَ عنه ? إنّ إظهار التعاطف معه ، ولو بأدنى شك ، كانت الدولة تستغلّه لضرب الإمام ( عليه السلام ) وتشويه سمعته عند العامة العمياء ، فلا نستبعد أن يكون الإمام ( عليه السلام ) قد أصدر ضدّ ما يعرفه الناس عن المختار ، ما يبرّى ساحة الإمام ( عليه السلام ) من الموافقة عليه ، أو السكوت عنه ، ففي الخبر : قام الإمام ( عليه السلام ) على باب الكعبة يلعن المختار ! فقال له رجل : يا أبا الحسين ، لِمَ تسبه ? وإنّما ذُبِحَ فيكم ? . قال الإمام ( عليه السلام ) : إنّه كان كذّاباً ، يكذب على الله ورسوله (1) فلو صحَ هذا الخبر ، فإنّ وقوف الإمام ( عليه السلام ) على باب الكعبة ، وإعلانه بهذا الشكل عن ذمّ المختار ولعنه ، لا يخلو من قصد أكثر من مجرّد اللعن حيث أنّ في ذلك دلالة واضحة على إرادة مجرّد الإعلان بذلك وتبيينه للناس ، وفي قول المعترض : ( ذُبِحَ فيكم ) الهدف السياسيّ من تلطيخ سمعة أهل البيت ( عليهم السلام ) وتوريطهم بما لطّخوا به سمعة المختار . --------------------------- (1) مختصر تاريخ دمشق ، لإبن منظور ( 17 : 243 ) . جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 163 _
إذ لا يصدر مثل هذا الإعتراض ، وهذا الإعلان، عن شخص غير مغرض في مثل ذلك الموقف ، ثمّ إنّ ما ورد من أمثال هذه الأحاديث ، المشتملة على ذمّ المختار من قبل أهل البيت ( عليهم السلام ) ورواتهم ، إنّما رواها رجال الدولة وكتّابهم ومؤرّخو البلاط ، مما يدّل على أن المستفيد الوحيد من ترويجها هم أولئك الذين يرتزقون من الإرتباط بالدولة ، هذا لو صحّت تلك الأحاديث والنقول ، وإلاّ ، فهل يشكّ أحد من دارسي التاريخ في أنّ المختار تحرّك بشعار الأخذ بثارات الحسين ( عليه السلام ) وقد وصفنه زوجتاه بعد قتله بأنّه ( رجل يقول ربّي الله ، كان صائم نهاره ، قائم ليله ، قد بذل دمه لله ولرسوله في طلب قتلة إبن بنت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأهله وشيعته ، فأمكنه الله منهم حتّى شفى النفوس ) (1).
وقتل معه سبعة آلاف رجل كلّهم طالبون بدم الحسين (2) ، أليس ما قام به المختار من أخذ الثار ، مكرمةً تدعو إلى السكوت عنه ، على الأقلّ ? ولقد ذكّر الإمام الباقر ( عليه السلام ) بمثل هذا في حديثه عن المختار لمّا دخل عليه أبو الحكم بن المختار ، فتناول يد الإمام ليقبّلها فمنعه ، ثم قال له : اصلحك الله ، إنّ الناس قد أكثروا في أبي وقالوا ، والقول والله قولك . . . ولا تأمرني بشي إلاّ قبلتُه ، فقال الإمام : سبحانَ الله أخبرني أبي ـ والله ـ أنّ مهر اُمّي كان ممّا بَعَثَ به المختار ، أوَلم يبْنِ دورنا ، وقَتَلَ قتلتنا ، وطلب بدمائنا ، فرحمه الله ، وأخبرني ـ والله ـ أبي : أنّه كان ليسمر عند فاطمة بنت عليّ يمهّدها الفراش ويُثْني لها الوسائد ، ومنها أصاب الحديث ، رحم اللهُ أباك ، رحم اللهُ أباك ، ما أصاب لنا حقّاً عند أحدٍ إلاّ طلبه . . . . (3) --------------------------- (1) مروج الذهب ( 3 : 107 ) وانظر تاريخ اليعقوبي ( 2 :264 ) . (2) مروج الذهب ( 3 : 107 ) . (3) رجال الكشي ( اختيار معرفة الرجال ) ( ص 126 ) رقم ( 199 ) . جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 164 _
وعلى حدّ قول ابن عباس لما طُلِبَ منه سبّ المختار : ذاك رجل قَتَلَ قتلتنا ، وطلب ثأرنا وشفى غليل صدورنا ، وليس جزاؤه منّا الشتم والشماتة (1) ، إنّ خروج الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) من أزمة الحركات المعارضة للدولة ، على إختلاف مواقفها تجاهَ الإمام ، من مُواليةٍ ، ومُحايدة ، ومُعاديةٍ ، وبالشكل الذي لا يترك أثراً سلبيّاً عليه ، ولا يحمّله مسؤوليّة ، ولا تستفيد الأطراف المتنازعة من موقعه كإمام ، وككبير أهل البيت ( عليه السلام ) ، ولا تتضرّر أهدافه وخططه التي رسمها لإحياء الدين ، إنّ الخروج من مثل هذا المأزق ، وبهذه الصورة ، عمل جبّار لابدّ أن يُعدّ من أخطر مواقف الإمام السياسيّة ، ويستحقّ دراسة معمّقة لمعرفة أسسه ، وأبعاده .
وبعد : إنّ ما بذله الإمام السجّاد ( عليه السلام ) من جهود وجهاد في سبيل الله ، وما قام به من فرض الإمامة وواجب الولاية تجاه الدين والأمة ، مع إقتران المهمّة بظروف صعبة وحرجة للغاية ، حيث ملئت الأجواء بالرعب والردّة والإنحراف عن القيم والموازين والأعراف ، سواء الدينيّة ، ام الأخلاقية ، بل حتّى الإنسانية ! . إنّ ما بذله الإمام ( عليه السلام ) في سبيل القيام بالمهمة تمَ بأفضل ما يُتصوّر ، فقد رسم لمخططاته خطّة عمل ناجحة بحيث مهّد الأرضية لتجديد معالم التشيع ، ممثلاً لكلّ ما للإسلام من مجد وعدل وعلم وحكمة ، لَهُوَ عمل عظيم ، يدعو إلى الإعجاب والفخر والتمجيد ، ويجعل من الإمام ( عليه السلام ) في طليعة القوّاد السياسيّين الخالدين . --------------------------- (1) الكامل في التاريخ لابن الأثير ( 4 :278 ) . جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 165 _
ولقد حقّ له ( عليه السلام ) أن يكلّل تلك الحياة العظيمة بالطمأنينة التي ملأت وجوده الشريف عندما حُضِرَ ، فأغمض عينيه حين الوفاة ، وفتحهما ليقول كلمته الأخيرة ، فيقرأ ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ) ، ( سورة الزمر (39) الاَية (74) ثم قبض من ساعته (1) ، فسَلام الله عليه يوم ولد ويوم مات ويوم يبعث حيّاً .
وكما كانت نَتائج الثورة الحسينيّة في كربلاء تتبلور في انتصار الإسلام بإستمرار شعائره وعدم تمكّن الأعداء من القضاء عليها ، بالرغم من إستشهاد الصفوة من خيرة المسلمين وعلى رأسهم الإمام أبو عبد الله الحسين السبط الشهيد ( عليه السلام ) وأهل بيته وشيعته ، فإنّ الظلمة لم يتمكنّوا من محو الإسلام ، بل بقيَ مستمرّاً ، ممثّلاً في أذانه وصلاته وكعبته وسائر أصوله وضروريّاته ، وقد أعلن الإمام السجّاد ( عليه السلام ) عن هذه الحقيقة ، وأبرزَ هذه النتيجة في ما أجاب به إبراهيم بن طلحة بن عبيد الله ، حين قدم علي بن الحسين ( عليه السلام ) وقد قتل الحسين ( صلوات الله عليه ) إستقبله إبراهيم وقال : يا عليّ بن الحسين ، مَنْ غَلَبَ ? ـ وهو مغط رأسَه وهو في المحمل ! ـ فقال له علي بن الحسين : إذا أردت انْ تعلم مَنْ غَلَبَ ، ودخل وقتُ الصلاة ، فأذنْ ثُمّ أقم (2) ، فإنّ الإمام ( عليه السلام ) جعل إستمرار الشعائر التي تُذكر فيها شهادةُ التوحيد والرسالة عَلَناً وعلى رؤوس الأشهاد دليلاً على إنتصار الحسين ( عليه السلام ) وغلبته ، وهذا من أعظم العِبَر لمن إعتبر ، فكذلك تبلورت نتائج مخططات الإمام السجّاد ( عليه السلام ) في إحياء التشيع من جديد ، والتمهيد لقيام أولاده الأئمة ( عليهم السلام ) بالحركات التجديدية المتتالية . --------------------------- (1) الكافي ( 1 : 468 ) و ( 3 ـ 165 ) وانظر عوالم العلوم ( ص 299 ) . (2) أمالي الطوسي ( ص 677 ) المجلس (37) الحديث 1432 ـ 11 . . جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 166 _الخاتمة نتائج البحث وبعد هذا التجوال الذي قمنا به خلال مصادر حياة الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) ، وأعماله وأفكاره ، وأدعيته وأحاديثه ، تمكّنا من جمع شتات المؤشّرات إلى الأبعاد السياسيّة في حياة الإمام ( عليه السلام ) ، وبعد فرزنا لها في فصول الكتاب ، علمنا : أنّ الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) قد قام بأعمال سياسية كبيرة في سبيل الأهداف الكبيرة التي من أجلها شرّع الدين ، وإذا لاحظنا صعوبة المهمة التي قام بها في الظروف الحرجة والخطيرة التي عايشها ، وعلى طول المدّة حتّى وفاته ( عليه السلام ) ، عرفنا عظمة تلك الجهود التي بذلها في خصوص هذا المجال وحده ، وهو ( عليه السلام ) وإن لم يمدّ يداً إلى السلاح الحديديّ إلاّ أنّه إلتزم النضال بكلّ الأسلحة الأخرى التي لا تقلّ أهميّة وخطورة عن السلاح الحديدي ، فشَهَرَ سلاحَ اللسان بالخطب والمواعظ ، وسلاحَ العلم بالتثقيف والإرشاد ، وسلاحَ الأخلاق بالتربية والتوجيه ، وسلاحَ الإقتصاد بالإعانات والإنفاق ، وسلاحَ العدالة بالإعتاق ، وسلاحَ الحضارة بالعرفان ، حتّى وقف سدّاً منيعاً في وجه أخطر عمليّة تحريف تهدف إبادة الإسلام من جذوره ، في الحكم الأمويّ الجاهليّ . وبقيت الخطوط الاُخرى لسياسة الإمام ( عليه السلام ) غير معلنة ولا واضحة ، أو غير مشروحة ، حتّى عصرنا الحاضر ، فلذلك وقع كثير من كتّاب العصر في وَهْمٍ فظيع ، تجاه الموقف السياسي للإمام ( عليه السلام ) حتّى نُسبت إليه تهمة الإنعزال عن السياسة ، بل ممالأة الظالمين ، مما لا يقبله أيّ شريف فضلاً عمّن يعتقد في زين العابدين ( عليه السلام ) أنّه إمام منصوب من قبل الله تعالى ، ليلي أمور المؤمنين إنّ الإمام ( عليه السلام ) كان مسؤولاً ومن خلال منصبه الإلهي عن كلّ ما يجري في العالم الإسلاميّ ، وقد أنجز الإمام ( عليه السلام ) بتدابير دقيقة ما يلزم من دور قياديّ ، وبكل سريّة وذكاء ، فشنّ على الطغاة الحاكمين ، وأمثالهم من الطامعين ، حرباً شعواء ، لكنها باردة صامتةً بيضاء في البداية ، أصبحت معلنة صبغتها دماء طاهرة من شيعته في النهاية ، ولم ينقض القرنُ الأوّل، إلاّ أخذت آثار سياسية الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) تبدو على الساحة ، بشكل أشعة تنتشر من أفق مظلم طال مائة عام من الإنحراف والظلم والتعديّ على جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 167 _
الإسلام بمصادره :
أ ـ القرآن الذي منع تفسيرُه وتأويله من المصادر الموثوقة . ب ـ والحديث الذي منع تدوينهُ ونشُره ، واُحرق كثير منه . ج ـ ورجاله الذين نفوا ، واُخرجوا من ديارهم ، أو قتّلوا تقتيلاً . د ـ ومكارمه وأخلاقه وفقهه وتراثه الذي طالته أيدي التزوير والدسّ والتحريف ، فشوّهت سمعته ، وسُوّد وجه تاريخه . لكن الإمام السجاد بمواقفه العظيمة ضمن خطط حكيمة ، تمكّن من الوقوف امام كل هذه التحدّيات الرهيبة ، تلك المواقف التي قدم لها حياته الكريمة ، ولم تنقض فترة على وفاة الإمام ( عليه السلام ) حتّى بدأ العدّ التنازليّ للحكم الجاهلي ، وبدأ الحكّام الأمويون بالتراجع عن كثير من ملتزماتهم ، وتعنّتهم ، ولم تطل دولتهم بعيداً ، إلاّ انمحت آثارها حتّى من عاصمتهم دمشق الشام ، وأما أهداف الإمام السجاد ( عليه السلام ) فقد تولاّها بعده إبنه الإمام الباقر محمّد بن عليّ بن الحسين ( عليه السلام ) ، ثم من بعده الإمام الصادق جعفر بن محمد ( عليه السلام ) ، فإستفادا من وهن الأمويين في تلك الفترة ، وتمكَنا من تثبيت دعائم الإسلام والفكر الإماميّ بأفضل ما بإمكانهما ، فكوّنا أكبر جامعة علميّة إسلاميّة ، تربّى فيها آلاف من العلماء المبلّغين للإسلام بعد استيعاب معارفه ، على أيدي الإمامين العظيمين ، وقد تمكّن الإمامان من رفع الغشاوة عن كثير من الحقائق المطموسة تحت أَكداس من غبار التهم والتشويه والتحريف في شؤون الإسلام ، عامَةً ، وفي ما يرتبط بحقّ أهل بيت النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في الإمامة والحكم ، خاصةً ، وعندما نرى تصدّي الحكّام من أمويّين وعباسيّين للإمامَيْن الباقر والصادق ( عليهما السلام ) ومَنْ كان على خطّهما ، نجد أنّ ما قاما به يعدّ فتحاً عظيماً في المعيار السياسيّ ، وإنجازاً في قاموس الحركات الإجتماعية ، خاصة في تلك العصور المظلمة . لقد قام الإمامان الباقر والصادق ( عليهما السلام ) بتهيئة الكوادر الكفوءة ، وتعميق الثقافة الإسلامية في المجتمع الإسلامي ، وتسليح الأمّة بالعلم ، وتثبيت قواعد العقيدة والإيمان ، لتكوين جيش عقائديّ منيع ، لصدّ التيّارات الإلحادية المبثوثة بين الأمّة ، والقضاء على الطلائع الملحدة المبعوثة من قبل الحكّام مثل علماء البلاط ووعّاظ السلاطين . جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 168 _
وبكل ذلك تمّيزت الاَيدولوجيّة الإسلامية المتكاملة ، وعلى مذهب الشيعة ، المأخوذة من ينابيع الحقّ والصدق ، أئمة أهل البيت ( عليهم السلام ) ، والمعتمدة على أصفى المصادر الحقّة : القرآن الكريم ، والسنة الصحيحة الموثوقة ، والمتّخذة من العقل الراجح مناراً لتمييز الحقّ ، على أساس من التقوى والورع والإجتهاد ، والإيمان ، فكان هذا العمل تحدّياً معلناً ضدّ الحكومات الفاسدة التي كانت تروّج للتيارات العقائدية الملحدة ، والخارجة عن إطار العقائد الإسلامية ، وتدعو إلى حياة التفسّخ ، والترف ، واللهو ، والفساد (1) ، كما إستفاد ابنه العظيم زيد الشهيد ( عليه السلام ) من الأرضيّة التي مهّدها الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) للثورة ، فكان عمله دعماً لموقف الإمامين ( عليهما السلام ) في تنفيذ خطط الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) وإستثمار جهوده ، والإستمرار بأهدافه (2) .
إنّ تلك التدابير ، التي إتّبعها الإمام السجّاد وإبناه الإمام الباقر وزيد الشهيد ، وحفيده الإمام الصادق ( عليهم السلام ) ، وشيعتهم المجاهدون على خطّهم ، وتلك المواقف الجريئة التي اتخذوها من الحكّام الظالمين والحكومات الفاسدة ، من أجل العقيدة ، لا ولن تصدر ممن يركن إلى الدعة والراحة ، أو أذهلته المصائب والفجائع ، بل ، إنّ ما قاموا به يعدّ في العرف السياسي ، أهمّ من حمل السلاح في مثل تلك المرحلة بالذات . --------------------------- (1) إقرأ كتاب ( الأغاني ) للوقوف على جانب منقول من هذه الحياة العابثة التي عاشها الخلفاء ولاحظ : ماذا خسر العالم بإنحطاط المسلمين للندويّ . (2) إقرأ عن زيد الشهيد بحار الأنوار ( 46 : 168 ـ 209 ) وعوالم العلوم الجزء (18) . جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 169 _
وأما مجموع ما أنتجته تلك الجهود والتدابير ، فهو أكبر مما تؤثّره البسالة والبطولة في ميادين الحروب ، وهو عمل لا يقوم به إلاّ أصحاب الرسالات من العلماء بالله الذين يفوق مدادهم فضلاً وأثراً من دماء الشهداء ، وإن مَنْ يعرف أوّليات النضال السياسيّ ، وبديهيّات التحرّك الإجتماعيّ ، وخصوصاً عند المعارضة ، ليدرك أنّ سيرة الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) السياسيّة التي عرضناها في فصول هذا الكتاب ، هي مشاعل تنير الدرب للسائرين على طريق الجهاد الشائك ، ممن يلتقي مع الإمام ( عليه السلام ) في تخليد الأهداف الإلهيّة السامية ، وأيّ مناضلٍ يعرض عن كلّ هذه الجهود ، ولا يعدّها ( جهاداً سياسيّاً ) ? .
والغريب ، أنّ أصحاب دعوى النضال والحركة ، في هذا العصر وفيهم من اتّهم الإمام بالإنعزال السياسيّ يتبجّحون بإسم النضال والمعارضة السياسية ، لمجرد إصدار بيان ، أو إعلان رفضٍ ، ولو من بُعد أميال عن مواقع الخطر ، ومواقف المواجهة ثمّ هم لا يعتبرون تلك التصريحات الخطيرة ، وتلك المواجهات والمواقف الحاسمة ، التي قام بها الإمام ( عليه السلام ) ، نضالاً سياسياً ? وهم ، يقيمون الدنيا ، لو وقعت خدشة في إصبع لهم ، ويعتزّون بقطرة دم تراق منهم ، بينما لا يحسبون لذلك الجرح الذي اُثخن به الإمام ( عليه السلام ) في كربلاء ، وذلك النزيف من الدم والدمع الذي أريق منه على أثر وجوده في الساحة ، قيمةً وأثراً ? مع أن الاَلام التي تحمّلها الإمام ( عليه السلام ) في جهاده ، ومن خلال جهوده العظيمة ، والأخطار التي إقتحمها في سبيل إنجاح مخططه ، أكثر ألماً ، وأعمق أثراً ، من جرح ظاهر يلتئم ، وقرح يندمل لكن الإمام السجّاد زين العابدين ( عليه السلام ) ظهر على الساحة ببطولة وشجاعة تختصّ به كإمامٍ للأمّة ، فتحمَل آلام الجهاد وجروحه ، وصبر على آلام الجهود المضنية التي بذلها إنفرد في الساحة في تلك الفترة الحالكة ، كألمع قائد إلهيّ في مواجهة أحلك الظروف وأصعبها ، وأكثر الهجمات ضراوةً ، وأكثر الحكومات حقداً وبعداً عن الإسلام ، وبإسم الخلافة الإسلامية ، وخرج من ساحة النضال بأعمق الخطط وأدقّها ، وبأبهر النتائج وأخلدها . جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 170 _
وأما نحن الشيعة في الوقت الحاضر: فإنَا نواجه اليوم حملة شرسة من أعداء المذهب ، مدعومة بحملة ضارية من أعداء الإسلام ، يشبه وضع التشيّع في هذا العصر في كثير من الجهات ما كان عليه في القرن الأول، إذ يعايش أجواء سياسية ونفسية متماثلةً ، فاليأس والقنوط يعمَان الجميع ، حتّى العاملين في حقل الحركات الإسلامية ، والمنضوين تحت ألوية الأحزاب والمنظمات والمجالس والمكاتب ، والإرتداد ، المتمّثل بإبتعاد عامة الناس عن خطّ الإمامة والولاية ، وفي ظروف غيبة الإمام ( عليه السلام ) ، التي معها تزداد الحَيْرة وتتأكّد الشبهة ، وتعدد الاتجاهات والاَراء والأهواء ، التي إقتطعت أشلاء الاُمّة ، وفرَقتها أيدي سبأ ، والحكومات الجائرة ، بما تمتلك من أجهزة القمع ، وأساليب الفتك والهتك ، والسجن والقتل ، وبأحدث أساليب التعذيب ، خصوصاً تلك الحاملة لسيوف التكفير ومشانق الإتهام بالردة ، وبدعوى شعارات إسلامية مزيَفة ، والغختراق الثقافيّ الهدَام ، لصفوف الاُمَة الإسلامية وعقولها ، وبوسائل الإعلام الحديثة ، المقروءة والمسموعة والمرئيّة ، وبإستخدام الأثير والأشعة والأقمار الصناعية والغزو الفكري المخلخل للوجود الدينيّ من الداخل ، بالأفكار والشبهات المضلّلة ، والحملات الكاذبة ، الطائشة ضدّ المقدّسات الإسلامية ، التي تروّجها الدول الإستعمارية الحاقدة ، ويزمر لها الحكّام العملاء في البلدان الإسلامية ، والتصرّفات العشوائية المشبوهة التي يقوم بها الضالون من رجال الدين ، والبلاطيون من وعّاظ السلاطين ، والمتزلّفون إلى المناصب والأموال والفخفخة والعيش الرغيد في القصور ، والمتطفّلون على الموائد وفي السهرات ، والمُتّكِؤون على أرائك الحكم وأسرّة الإدارة ، والراكنون إلى الذين ظلموا أنفسهم بالمعاصي ، وحكموا الناس بالجور .
وأصحاب الدعاوى الزائفة بالإجتهاد والمرجعيّة ، مع فقدان أوليات المعارف اللازمة ، والفراغ من الإلتزام الصحيح باُصول العقيدة ، والإنتماء المذهبي ، وإنّما بالركون إلى الحزبيّة الضيّقة ، وبدعوى الإنطلاق لمسايرة الجيل المتطلّع وإدعاء مصادمة الواقع بالفتاوى التي لا أساس لها في الفقه ومصادره ، وبالأفكار المخالفة لضرورات الدين والمذهب ، بإسم التجديد ، والتوعية ، والتوحيد ، والتأليف وغير ذلك من العناوين العصريّة الغارّة لأفكار الشباب وبالأموال التي توزّع بأرقام كبيرة ، من مصادر مجهولة أو معلومة ! ! . جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 171 _
إنّ كلّ هذه الحقائق الجارية في عصرنا ، تمثّل بالضبط الفصول التي عاصرها الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) لكن بشكلها العصري .
لكنّ الحقّ الناصعَ وهو ( الإسلام ) المتأصل في قلوب المؤمنين ، يتجلّى أكثر ممّا مضى بفضل الثقافة الواسعة حول المعارف الإسلامية ، وظهور حقائق القرآن والسنّة ، وفضل أهل البيت ( عليهم السلام ) ، ذلك الذي لم يَعُد اليوم مكتوماً ولا ممنوعاً . وأساليب عمل الإمام السجّاد ( عليه السلام ) وجهاده وتعاليمه السياسيّة والاجتماعيّة ماثلة أمام مَنْ يطلب الحقّ ، فعلى كل مَن يُريد النضال والحركة في سبيل الله ، أنْ يقتديَ بإمامه ، ويجعل عمله مشعلاً يهتدي بنور إرشاده ، ويسير على منهجه في النضال والتحرك السياسيّ والاجتماعيّ ، فيكون على بصيرة من أمر دينه ، ويصل إلى أفضل النتائج المتوخّاة في أمر دنياه . والله المستعان ، والْحَمْدُ لله رَبَ الْعَالَمِينَ ، وصلى الله على رسوله المصطفى الأمين وآله الطاهرين . الملاحق الملحق الأوّل : رسالة الحقوق . الملحق الثاني : من تقاريظ الكتاب نثراً ونظماً . الملحق الثالث : تقرير موجز عن المباراة الكتابية عن الإمام السجّاد ( عليه السلام ) . جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 172 _
الملحق( 1 ) :
رسالة الحقوق عن الإمام السجّاد برواية أبي حمزة الُثمالي : بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ توثيق الرسالة : إتّفقت المصادر الحديثيّة ـ كافةً ـ على نسبة هذا الكتاب إلى الإمام زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، برواية أبي حمزة الُثمالي ثابت بن دينار الشهير بإبن أبي صفيّة الأزدي الكوفي ( رحمه الله) صاحب الدعاء المشهور بإسمه الذي يُتلى في أسحار شهر رمضان المبارك ، وقد توفّي عام ( 150 ) لقي من الأئمة السجّاد والباقر والصادق والكاظم : ( عليهم السلام ) ، قال النجاشي : كان من خيار أصحابنا وثقاتهم ومعتمديهم في الرواية والحديث ، وروى عنه العامّة (1) ، وقد نسبه إليه النجاشي بإسم ( رسالة الحقوق ) عن علي بن الحسين ( عليه السلام ) ، ثم أسند روايتها إليه (2) ، لكن المنقول عن الكليني أنّه أوردها في ما جمعه بإسم ( رسائل الأئمة ) مما يدلّ على كون لكتاب ( رسالةً ) بعثها الإمام ( عليه السلام ) إلى بعض أصحابه (3) ، وبهذا جاء التصريح في بعض أسانيد الرسالة (4) ، ولعلّ المرسل إليه هو أبو حمزة نفسه وبذلك يوجّه إختصاص روايتها به ، وإنتهاء الأسانيد كلّها إليه . --------------------------- (1) رجال النجاشي ( ص 115 ) رقم 296 ، لكنّهم إنهالوا عليه قدحاً وجرحاً ، وبما أنّا لم نجد في ما رُوي عنه وبطريقه ما يقتضي ذمّه ، فضلاً عن جرحه ، نعرف أنّه لا سبب لموقفهم منه إلا التعصّب المذهبي والطائفية البغيضة ، وإلاّ فالرجل كما وصفه النجاشيّ وغيره : من علماء الرجال الإماميّة ، وقد حرم العامّة أنفسهم من معارف أهل البيت ، بمثل هذه المواقف الظالمة . (2) المصدر ( ص 116) . (3) نقله في مستدرك الوسائل ( 691 : 11 ) عن فلاح السائل لإبن طاوس ، وسيأتي . (4) الخصال ( ص 564 ) رقم (1) . جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 173 _
مصادر الرسالة :
تعدّدت مصادر هذه الرسالة : فأوردها من القدماء الشيخ الصدوق في العديد من كتبه : أعظمها كتاب من لا يحضره الفقيه ، الذي هو من الاُصول الحديثية الأربعة ، وأوردها في الخصال ، والأمالي ، والشيخ الصدوق أسْنَدَ رواية الكتاب إلى أبي حمزة الثمالي في الخصال والأمالي ، إلاّ أنّه حذف الإسناد في الفقيه ، على دأبه فيه حيث أ نّه يحذف الأسانيد ويُحيل على المشيخة التي أعدّها لذكرها ، فلا يعدّ الحديث ـ في هذا الفرض ـ مرسلاً ، وقد أورد أسانيده إلى أبي حمزة الثمالي في المشيخة وقال : وطرقي إليه كثيرة ولكنني إقتصرت على طريق واحد منها(1) . وأما الكليني : فالمنقول عن إبن طاوس في فلاح السائل قوله : ( رُوّينا بإسنادنا في كتاب ( الرسائل ) عن محمد بن يعقوب الكليني ، بإسناده إلى مولانا زين العابدين ( عليه السلام ) (2) يدلّ على كون الحديث مسنَداً عند الكليني ، إلا إنّ كتاب ( الرسائل ) مفقود ، وإبن طاوس نقل عنه هكذا بِحذف الإسناد ، ومن المحتمل قويّاً أن يكون الكليني قد رواه عن شيخه علي بن إبراهيم ، الذي يروي الرسالة كما في سند النجاشي ، كما سيأتي ، وقد أورد إبن شعبة الحرّاني الحسن بن علي بن الحسين أبو محمد هذه ( الرسالة ) في كتابه العظيم ( تحف العقول عن آل الرسول ) هي مرسلة شأن كلّ ما في الكتاب ، إلا أن من المطمأَنّ به كون رواياته في الأصل مسندة ، لأمرين . الأول : لقوله في مقدّمة الكتاب : وأسقطتُ الأسانيد ، تخفيفاً وإيجازاً ، وإن كان أكثره لي سماعاً ، ولأنّ أكثره آداب وحكم تشهد لأنفسها (3) ، فقد حذف الأسانيد تخفيفاً ، وهذا أمر متداول عند المؤلّفين ، بعد عصر التدوين ، لثبوت الأسانيد في مواضعها من الأصول المنقول منها ، وإن كانت المحافظة على الأسانيد وإثباتها أحوط ، لما يتعرّض له التراث من الاَفات ، وكذلك حذَفَ الأسانيد ، لأنَ الحاجة إليها إنّما هي ماسّة في باب الأحكام ومسائل الشريعة ، وأمّا الاَداب والحكم فلا تكون الأحاديث فيها إلاّ مرشدةً إلى ما يقتضيه العقل والحكمة والتدبير ، والمضامين تشهد بصحة الأحاديث من دون تأثير الأسانيد في ذلك ، فأحاديث الكتاب وإن كانت على ظاهر الإرسال إلاّ أنّها مسندة واقعاً . --------------------------- (1) مشيخة الفقيه ( ص 36 ) من المطبوع مع الفقيه ، الجزء الرابع . (2) لاحظ مستدرك الوسائل ( 691 :11 ) . (3) تحف العقول( ص 3 ) . جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 174 _
الثاني : إنّ أحاديث الكتاب مرويّة بأسانيدها في المصادر المتقدّمة ، ولا يرتاب الناظر إلى كتاب ( تحف العقول ) في كون مؤلّفه على جانب كبير من العلم والمعرفة بالحديث وشؤونه ، مما يربأ به من إثبات ما لا سند له في كتابه مع تصريحه بنسبة ما أثبته إلى الأئمة ( عليهم السلام ) ، ومن المعلوم أنّ النسبة لا يمكن الجزم بها إلاّ مع ثبوت الأسانيد ، وفي خصوص رواية ( رسالة الحقوق ) فإنّ ما أثبته من النصّ موافق لما نقله ابن طاوس عن ( رسائل ) الكليني (1)وقد عرفت كون روايته مسندةً ، وسمّاها إبن شعبة ( رسالة الحقوق ) (2) وهو الإسم الذي ذكره النجاشي لها ، عندما أسند إليها ، كما مرّ .
مجموعة الأسانيد : 1 ـ سند الصدوق في الخصال : قال الصدوق : حدّثنا علي بن أحمد بن موسى رحمه الله ، قال : حدّثنا محمد بن أبي عبد الله الكوفي ، قال : حدّثنا جعفر بن محمّد بن مالك الفزاري ، قال : حدّثنا خيران بن داهر ، قال : حدّثني أحمد بن علي بن سليمان الجبلي ، عن أبيه ، عن محمّد بن علي ، عن محمد بن فضيل ، عن أبي حمزة الُثمالي ، قال : هذه رسالة علي بن الحسين ( عليه السلام ) إلى بعض أصحابه (3) . 2 ـ سند الصدوق في الأمالي : قال الصدوق : حدّثنا علي بن أحمد بن موسى ، قال حدّثنا محمد بن جعفر الكوفي الأسديّ ، قال : حدّثنا محمد بن إسماعيل البرمكي ، قال : حدّثنا عبد الله بن أحمد ، قال : حدّثنا إسماعيل بن الفضل ، عن ثابت بن دينار الثمالي ، عن سيّد العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب: قال :(4) . 3 ـ سند النجاشي : قال : أخبرنا أحمد بن علي ، قال : حدّثنا الحسن بن حمزة ، قال : حدّثنا علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن محمد بن الفضيل ، عن أبي حمزة ، عن علي بن الحسين ( عليه السلام ) (5) ـ أما سند الصدوق في ( الفقيه ) : فقد ذكر في موضع الحديث ما --------------------------- (1) لاحظ مستدرك الوسائل ( 11 :169 ) . (2) تحف العقول ( ص 255 ) . (3) الخصال ( ص 564 ) رقم (1) . (4) الأمالي للصدوق ( ص 302 ) وهو تمام المجلس (59) في ربيع الاَخر سنة (368) . (5) رجال النجاشي ( ص 116 ) رقم (296) . جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 175 _
نصّه :روى إسماعيل بن الفضل ، عن ثابت بن دينار ، عن سيّد العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ( عليهم السلام) قال (1) .
ممّا يدلّ على كون سنده إليه هو سند الأمالي المنتهي إلى إسماعيل بن الفضل ، لكنه قال في المشيخة : ( وما كان فيه : عن أبي حمزة الُثمالي ، فقد رويته عن أبي رحمه الله ، عن سعد بن عبد الله ، عن إبراهيم بن هاشم ، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي ، عن محمد بن الفضيل ، عن أبي حمزة ، ثابت بن دينار الثمالي (2) ، وهذا السند يختلف عن أسانيد الصدوق السابقة ، فيظهر الإختلاف بين ما أثبته في الكتاب ، وبين السند المثبت في المشيخة . ولو كان إرجاع الصدوق في المشيخة على طريقه إلى ( إسماعيل بن الفضل ) وهو الهاشمي ، فقد قال : رويته عن جعفر بن محمد بن مسرور ( رحمه الله) عن الحسين بن محمد ابن عامر ، عن عمّه عبد الله بن عامر ، عن محمد بن أبي عمير ، عن عبد الرحمن بن محمد ، عن الفضل بن إسماعيل بن الفضل ، عن أبيه إسماعيل بن الفضل الهاشمي (3) ، وهذا السند لا يجتمع مع أسانيده السابقة في شيء ، فالأمر كما قلنا مرتبك ، إلا أنْ يتدارك بما أفاده بقوله : ( وطرقي إليه كثيرة ولكنني إقتصرت على طريق واحد منها )(4) وجعل ذلك دالاً على إلتزامه بنظرية ( التعويض ) بين الأسانيد ، وقد صرّح المجلسيّ الأوّل المولى محمد تقي في قول الصدوق في الفقيه ( روى إسماعيل بن الفضل بإسناده ) بقوله : ( القويّ كالصحيح ) (5) . --------------------------- (1) من لا يحضره الفقيه ( 2 : 376 ) . (2) مشيخة الفقيه( ص 36 ) طبع مع الجزء الرابع من ( من لا يحضره الفقيه ) . (3) مشيخة الفقيه( ص 102 ) . (4) مشيخة الفقيه ( ص 36 ) . (5) روضة المتقين ( 5 : 500 ). جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 176 _
والظاهر حكمه على سند الصدوق في الأمالي المنتهي إلى إسماعيل ، وقال النوري في سند النجاشي : إنّه أعلى وأصحّ من طريق الصدوق في الخصال إلى محمد بن الفضيل(1) ، ويظهر من المشجّرة التي رتّبناها أنّ سَنَد النجاشي ليس أعلى من سند الصدوق في الأمالي ، لاستواء عدد الرواة من كلّ منهما إلى أبي حمزة ، مع أنّ سند النجاشي ليس سالماً من النقد ، من جهة رواية ( إبراهيم بن هاشم مباشرةً عن( محمد بن الفضيل ) فانّ المعروف مكرّراً روايته عن البزنطي ، ورواية البزنطي عن ( محمد بن الفضيل ) كما ورد في سند الصدوق في لمشيخة إلى أبي حمزة ، ومع ذلك فإنّ السيّد الإمام البروجرديّ قال في ( طبقات رجال النجاشي ) عند ذكر محمد بن الفضيل : ( عن أبي حمزة ، عنه إبراهيم بن هاشم ، كأنّه من السادسة ) وعلّق : وروايته عن أبي حمزة محلّ ريب (2) .
ومهما يكن ، فإنّ تعدّد الأسانيد والطرق إلى أبي حمزة ، لم يدع مجالاً للبحث السَنَدي في هذا الكتاب ، خصوصاً على المنهج المختار من عدم اللجوء إلى المعالجات الرجاليّة إلاّ في مواقع إستقرار التعارض بعدم المرجّحات ، والمفروض هنا عدم وجود ما يُعارض مضامين هذه الرواية أصلاً ، مضافاً إلى ما عرفت من أنّ أمثال هذه المضامين ، الدائرة حول الاَداب والحِكَم ليست بحاجةٍ إلى الأسانيد ، لشهادة الوجدان بما فيها ، والأهمّ من كلّ ذلك تلقّي كبار المحدّثين لها بالقبول بإيرادها في كتبهم ، المؤلّفة للعمل ، خصوصاً كتاب الفقيه الذي وضعه المؤلّف على أنْ يكون حجّة بينه وبين الله تقدّس ذكره ، وأنّ جميع ما فيه مستخرَج من كتبٍ مشهورة عليها المعوّل وإليها المرجع(3) وهذا كافٍ في تجويز النسبة المعتبرة في الكتب . --------------------------- (1) مستدرك الوسائل ( 11 : 169 ) . (2) الموسوعة الرجالية (6) رجال أسانيد فهرست الشيخ النجاشي ( ص 613 ) السطر الأوّل . (3) من لا يحضره ( 1 : 3 ) . جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 177 _
محتوى المتن
تحتوي الرسالة على ( خمسين حقّاً ) ، وقد جاء التصريح بهذا العدد ، في خاتمة المتن الذي أورده في تحف العقول ، فقال : ( فهذه خمسون حقّاً محيطاً بك ) (1) ، والصدوق لم يورد هذه الخاتمة في رواياته ، إلاّ أنّه إلتزم بكون عدد الحقوق ( خمسين حقّاً ) في كتابه الخصال حيث عنون للباب الذي أورد الرسالة فيه بأبواب الخمسين فما فوقه ، وذكر الرسالة في أوّل حديث في الباب ، وقال : الحقوق الخمسون التي كتب بها عليّ بن الحسين سيّد العابدين ( عليه السلام ) إلى بعض أصحابه (2) ، وقد التزم أكثر المعاصرين الذين أوردوا متن الرسالة في مطبوعاتهم بترقيم الحقوق ، فزاد بعضهم رقماً واحداً فكان العدد (3) . والسبب في ذلك أنّ الصدوق ذكر في رواياته ( حقّ الحجّ ) وهذا لم يرد في رواية تحف العقول ، فلمّا جمع المؤلّفون بين الروايتين ، إعتقاداً بوحدة الرسالة ، زاد عندهم هذا العدد الواحد ، ووجود ( حقّ الحجّ ) ضروريّ : 1 ـ لأنّه من فروع الدين الهامّة ، ومما بُنِيَ عليه الإسلام من العبادات الخمس الواجبة ، كما في روايات كثيرة( 23) فلابدّ من ذكره ، كما ذكرت بقيّة العبادات . 2 ـ أنّ الشيخ الصدوق في كتاب مَنْ لا يحضره الفقيه ، أورد هذه الرسالة في ملحقات كتاب الحجّ ، ولا ريبَ في لزوم وجود إرتباط بينها وبين الحجّ ، ولو بهذا المقدار ، فليلاحظ ، ثم إنّ المؤلّفين المعاصرين إرتبكوا كثيراً في ترقيم سائر الحقوق ، فلم يرقّموا ما هو حقّ من جهة ، ورقّموا ما ليس بحقّ من جهة اُخرى ، وإليك بيان ذلك : --------------------------- (1) تحف العقول( ص 272 ) . (2) الخصال( ص 564 ) . (3) راجع وسائل الشيعة ( 1 : 14 ) الباب الأول ( وجوب العبادات الخمس ) من أبواب مقدمة العبادات . جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 178 _
1 ـ عدّ جميع المؤلّفين ( حقّ نفسك ) بالرقم (2) مع أنّه ليس حقّاً مستقلاً ، وإنّماالمراد منه حقّ أعضاء نفس الإنسان ، بقرينة قوله ـ في المقدّمة ـ في جوامع الحقوق : ثم ما أوجبه الله ( عزّ وجلّ ) لنفسك من قرنك إلى قدمك على إختلاف جوارحك ، فجعل لِلسانِك . . . )(1) وهذا واضح في كون المراد بحقّ النفس ، حقّ ما لنفس الإنسان ، أي في جوارحه ، في مقابل قوله بعد ذلك : ( ثم تخرج الحقوق منك إلى غيرك )(2) ثمّ إنّه ذكر عند تفصيل حقوق الأعضاء : ما نصّه : ( وأما حقّ نفسك عليك أنْ تستعملها في طاعة الله : فتؤدّي إلى لسانك حقّه )(3) ، فوجود الفاء في ( فتؤدي ) يقتضي كون ما بعدها تفريعاً وتفصيلاً لما قبلها ومن الواضح أنّه لم يذكر للنفس حقّاً غير إستعمال الجوارح ، فيدل على أنّ المراد بالنفس ( شخص الإنسان ) لا النفس الناطقة ، فليس المراد وضع حقّ خاص لها ، دون الجوارح حتّى يضاف على حقوقها .
والغريب أن طابع ( تحف العقول ) عدّ هذا الحقّ برقم (2) بينما لم يذكر ( حق ّالحجّ ) فأخلّ بالحقّين كما سيتضح . 2 ـ ذكر في مقدّمة الرسالة ، في جوامع الحقوق : ( (ج) ثم جعل ( عزّ وجل ) لأفعالك عليك حقوقاً ) ثم ذكر الواجبات وقال في آخرها : ( ولأفعالك عليك حقّاً )(4) فتكون الحقوق المذكورة ( ستّة ) آخرها ( حقّ الأفعال ) ، وقد ذكر في تحف العقول ( حقّ الأفعال ) بعد (13) حقّ الهدي ) بقوله : ( واعلم أنّ الله يُراد باليَسير ولا يُراد بالعسير . . . ) إلى آخره (5) . --------------------------- (1) لاحظ الرسالة ( ص 271 ) . (2) لاحظ الرسالة ، المقدمة( ص 271 ) . (3) لاحظ الرسالة( ص 273 ) . (4) لاحظ الرسالة( ص 271 ) . (5) تحف العقول( ص 255 ) لاحظ الرسالة الحق رقم (14) . جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 179 _
فلا بدّ أنْ يكون حقّ الأفعال ، مستقلاً ، غير حقّ الواجبات الخمسة المذكورة أوّلاً ، ويؤيده أنّ محتواه لا يرتبط بما سبقه بشكل مستقيم ، بل هو أمر عام لها ولغيرها ، والظاهر أنّ المراد بحقّ الأفعال هو حدّ العمل الذي يجب على الإنسان القيام به في كلّ مجال ، حتّى في غير الواجبات الخمسة المذكورة أولاً ، وهذا أصل عظيم له دور كبير في حياة الإنسان ، لكن جميع المؤلّفين أهملوا هذا الحقّ في الترقيم ، كما أن روايات الصدوق لم تورده إطلاقاً ، وهو الحق (14) بترقيمنا .
3 ـ إعتبر المؤلّفون ( حقّ المملوك ) برقم مستقل ، بينما هو داخل في حقّ الرعية بالملك ، وله موردان : ( الزوجة والمملوك ) وهذا هو ثالث حقوق الرعيّة : بالسلطان ، وبالعلم ، وبالملك ، وقد صرّح في المقدّمة-في اُصول الحقوق ) بعنوان ( هـ ) بإنّ حقوق الرعيّة ثلاثة ، بينما تصير حسب ترقيمهم ، أربعة ! . والظاهر أنّ الموجب لهذا الإرتباك هو ملاحظتهم لكلمة ( حقّ ) وعدّهم لها ـ حيث وقعت ـ برقم مستقلّ ، من دون تأمّل في المعاني ، وقد وفّقنا الله لتلافي كلّ هذا الإرتباك فقسمنا النصّ : إلى اُصول الحقوق ، وهي السبعة المُعْلَمة برموز من حروف ( أ ، ب ، ج ، د ، ها ، و ، ز ) ، وإلى فروع الحقوق ، وهي الخمسون ، مرقمة بالأعداد ، ومطبوعة بالحروف البارزة ، وإلى بنود الحقوق ، وهي موادّها المذكورة تحت عنوان كلّ حقّ ، ذكرنا كلّ مادّةٍ منها في سطر مستقلّ مبدوءاً بشريط في أول السطر ( ـ ) ، وبما أنّ النصّ الذي أثبتناه هو جامع بين كلّ الروايات الواردة وملفّق منها ، وهي رواية تحف العقول التي إتّخذناها أصلاً ، وروايات الصدوق . * فقد وضعنا المعقوفين ليحتويا ما ورد في روايات الصدوق زيادة على ما في تحف العقول . * ووضعنا بين القوسين ما إختصّت به رواية تحف العقول ، ولم يرد في روايات الصدوق . * وما خرج عن المعقوفين والقوسين ، فهو مشترك بين النصّين ووارد في جميع الروايات . * وما أضفناه من العناوين وغيرها ، فقد نبّهنا على وجه إضافته ، إختلاف النسخ : ثمّ إنّ من الملاحظ وجود إختلاف بين ما أورده في تحف العقول وبين روايات الصدوق ، من جهة ، وبين رواية الصدوق في بعض كتبه وبين ما أورده في بعضها الاَخر ، في عباراتٍ من متن الحديث زيادة وحذفاً تارة ، وإجمالاً وتفصيلاً ، من جهة أخرى . جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 180 _
ووقوع مثل هذا الإختلاف في الأحاديث الطوال أمر غير عزيز ، يعود ذلك أساساً إلى إعتماد الرواة على النقل بالمعنى ، لأنّ أمثال هذه الروايات تهدف إلى إبلاغ معانيها ، وأداء مضامينها ، ولا يدخل في القصد منها ما يوجب المحافظة على ألفاظها بنصوصها ، وليست كما هو المفروض في الكلمات القصار ، والخطب البلاغية المبتنية على إعمال الصناعات اللفظية والمحسّنات البديعيّة المؤثّرة في نفوس السامعين إلى جانب المعاني والمؤدّيات ، ومن المحتمل أيضاً أن يلجأ بعض الرواة إلى الإختصار لأمثال هذه الأحاديث الطوال ، والإقتصار على الجمل المهمّة فقط ، وقد حمّل بعضُ المتأخّرين الشيخَ الصدوق مسؤولية القيام بالإختصار ، قائلاً : ( إنّه يختصر الخبر الطويل ، ويُسقط منه ما أدّى نظره إلى إسقاطه ) (1) ، لكنّ هذا تحامل على الشيخ الصدوق ، المعترَف له بكثرة النقل للأخبار والحفظ والمعرفة بالحديث والرجال والاَثار (2) ، ومع إحتمال النقل بالمعنى كما ذكرناه ، لم تصل النَوْبة إلى إحتمال الإختصار أصلاً ، مع أنّ أصل الإختصار أمر جائز لا مانع منه ، إذ هو عبارة عن تقطيع الحديث ، المعمول به ، والمقبول من دون نزاع ، لتعلّق غرض المحدّث ببعض الحديث فيقتصر عليه ، مضافاً إلى أنه لا دليل على نسبة الاختصار ـ المفروض ـ إلى الشيخ الصدوق .
فمن المحتمل ـ قويّاً ـ أن يكون بعض الرواة السابقين على الصدوق ، قد إختصر النصّ ، ورووه له مختَصراً ، ويشهد لهذا الإحتمال : أن روايات الصدوق في كتبه المختلفة هي في نفسها متفاوتة ، مع أنّ الأصل هو رواية اللفظ ، إلاّ أن المقارنة بين النصّين تعطي اطمئناناً بأنّ الرواة مع إختصارهم للنصّ ، عمدوا إلى نقل مقاطع بطريق رواية المعنى ، فالنصّان لا يختلفان في المعنى عند إختلافهما في اللفظ ، وعند إتفاقهما في اللفظ فالإختصار ملحوظ . --------------------------- (1) مستدرك الوسائل( 171 : 11 ) . (2) لاحظ الخلاصة ، رجال العلامة الحلي( ص 147 ) رقم (44) . جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 181 _
وأما وحدة النصّ الصادر من الإمام ، فالدليل عليه أمران :
الأول : الإستبعاد الواضح في أنْ تُوجّه رسالة بنصّين مختلفين إلى شخص معيّن ، ويرويهما راوٍ واحد ، من دون ذكر التفاوت بينهما . الثاني : تطابُق أكثر عبارات النصّين لفظاً من دون أدنى تفاوت مما يدّل على وجود أصل مشترك بينهما ، وعلى أخذ المختصر من المفصّل . النصّ المختار : ومهما يكن ، فإنّا تمكنّا بالمقارنة الدقيقة بين النصّين من إنتخاب نص جامع ، بالتلفيق بينهما ، بحيث لا يشذّ عنه شيء من عبارتيهما ، ولا كلمة واحدة مؤثّرة في المعنى ، وبما أنّ نصّ ( تحف العقول ) هو أوفى ، وأجمع ، وأسبك ، وأكثر تفصيلاً فقد جعلناه ( الأصل ) وأوعزنا إلى ما في روايات الصدوق من الفوائد و الزوائد ، بما لا يفوت معه شيء مما له دخل في جميع أبعاد النصّ ، وقد أشرنا إلى الرموز المستعملة في عملنا سابقاً . ولم نُشِرْ إلى الأخطاء الواضحة ، ولا الإختلافات المرجوحة ، تخفيفاً للهوامش ، نسخ الرسالة : لقد تداول الأعلام هذه الرسالة القيّمة بالرعاية والعناية ، وتناقلوها على طولها في مؤلّفاتهم ، فقد وردت في الكتب التالية مخطوطها ومطبوعها ، كما نشرت مستقلةً أيضاً ، وإليك ما وقفنا عليه من طبعاتها 1 ـ كتابُ مَنْ لا يحضره الفقيه ، للشيخ الصدوق محمد بن علي بن الحسين ( ت 381 ) وقد أوردها في نهاية كتاب الحج ، بعنوان ( باب الحقوق ) فلاحظ ( ج 2 ص 371 ـ 381 ) من طبعة النجف . 2 ـ روضة المتّقين شرح الفقيه ، للمحدث المولى محمدتقي المجلسي الأول ( ت 1070 ) في ( ج 5 ص 500 ـ 527 ) مشروحةً . 3 ـ الخصال ، للشيخ الصدوق ، في أبواب الخمسين فما فوقه ( 564 ـ 570 ) . 4 ـ الأمالي ، للشيخ الصدوق ، في المجلس (59) ( ص 301 ـ 306 ) . 5 ـ تحف العقول ، لإبن شعبة الحراني ( ق 4 ) ( ص 255 ـ 272 ) . جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 182 _
6 ـ مكارم الأخلاق ، للطبرسي صاحب مجمع البيان ( ق 6 ) ( ص 455 ) .
7 ـ بحار الأنوار ، للعلامة المجلسي محمد باقر بن محمد تقي ( ت 1110 ) في الجزء (74) . 8 ـ عوالم العلوم والمعارف ، للشيخ عبد الله البحراني ( ق 12 ) في الجزء (18) . 9 ـ مستدرك الوسائل ، للمحدّث النوري حسين بن محمد تقي ( ت 1320 ) في ( 2 : 274 ) من الطبعة الأولى و ( 11 : 154 ) من الطبعة الحديثة . 10 ـ أعيان الشيعة ، للإمام السيد محسن الأمين العاملي ( ج 4 ص 215 ـ 230 ) . 11 ـ بلاغة علي بن الحسين ، للشيخ جعفر عباس الحائري ( المعاصر ) ( ص 130 ـ 163 ) . 12 ـ الإمام زين العابدين للسيد عبدالرزّاق المقَرَم الموسوي ( ت 1391 هج ) ( ص 118 ـ 135 ) . 13 ـ حياة الإمام زين العابدين للشيخ باقر شريف القرشي ( المعاصر ) ( ص 477 ـ 511 ) . 14 ـ شرح رسالة الحقوق ، للخطيب السيد حسن القباني الحسيني فقد شرح الرسالة في مجلدين ، طبعا في النجف ، واُعيدا في قم ( 1406 ) وبيروت . 15 ـ وتنسب إلى الإمام زيد الشهيد بإسم ( الرسالة الناصحة والحقوق الواضحة ) وتشبه أنْ تكون مختصرةً من رسالة الحقوق المروية عن والده الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) كما جاء في مؤلّفات الزيدية ( 442 ) رقم ( 1608 ) لصديقنا العلامة السيّد أحمد الحسيني ، ولقد وقفت أنا على كتاب الإمام زيد الشهيد ( عليه السلام ) ، فرأيته غير كتابنا هذا ، وهو أخصر منه ، وسأقوم بنشره بعون الله . وأشكر الأخ المحقق يحيى سالم عزان اليماني بإتحافنا بنسختين من رسالة الإمام زيد ( عليه السلام ) ، جاء بهما من اليمن في زيارته إلى قم المقدسة عام 1418 هج ، وذكر صديقنا الكاتب المعجمي الشيخ عبد الجبّار الرفاعيّ كتاب الحقوق للإمام زيد بن عليّ ، في كتابه : معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت ( عليهم السلام ) ( ج 8 ص 181 ) برقم ( 20453 ) وقال : مخطوط في الجامع الكبير في صنعاء برقم 2364 ، كما ذكرها في هذا الجزء بعنوان ( رسالة الحقوق ) برقم ( 20491 ) وأورد طبعاتها ، ومنها : بغداد 1369 هج ( 179 ص ) تحقيق عبد الهادي المختار ، سلسلة حديث الشهر (6) . جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 183 _
والأعمال المؤلّفة حول ( رسالة الحقوق ) ضمن ما أورده الشيخ الرفاعيّ مما كتب عن الإمام السجّاد ( عليه السلام ) في هذا المجلّد هي بالأرقام :
* 20372 رساله إمام زين العابدين ( بالأردو ) . * 20399 رساله حقوق إخوان ( ترجمة فارسية ) . * 20400 رساله حقوق ( ترجمة فارسية ) . * 20489 رساله الحقوق ( ترجمة فارسية ) . * 20490 رساله الحقوق( بالاردو ) . * 20742 النَهْجَيْن في شرح رسالة الحقوق للإمام علي بن الحسين للشيخ صالح بن مهدي الساعدي . . . سندنا إلى رواية الرسالة : لقد مَنَ الله على الاُمّة الإسلاميّة ببذل الجهد والعناية في حفظ التراث الإسلاميّ ، وخصوص الحديث الشريف ، بالمراقبة التامّة عليه ، وتحمّله بكلّ دقّة وأدائه بكلّ إحتياط ، وقد وفّقنا الله تعالى للسلوك في السلسلة الشريفة لِرواة الحديث بطريقة الإجازة المتداولة بين الأعلام والمتعارف عليها بين علماء الإسلام ، وبذلك تتّصل بطرق مشايخنا الكرام إلى رواية هذه الرسالة ، فأروي عن مشايخي الكرام وهم عدّة ممّن لقيتُهم من المشايخ ، وأوّلهم وأعلاهم سَنَداً شيخ مشايخ الحديث في القرن الرابع عشر الإمام الشيخ آقا بزرك الطهراني( 1293 ـ 1389 ) وآخرهم سيّد مشايخ العصر الحجّة النسّابة السيّد شهاب الدين الحسيني المرعشيّ ( 1315 ـ 1411 ) بطرقهما المتّصلة بالعنعنة المقدّسة ، إلى إبن طاوس ، وإبن شعبة ، والنجاشي ، والصدوق ، والكليني ، أئمّة الحديث الذين أثبتوا هذه الرسالة في مؤلّفاتهم ، بأسانيدهم التي أثبتناها سابقاً ، وقد فصّلنا ذكر الطرق والمشايخ إلى المؤلّفات والاُصول والكتب في ثبتنا الكبير ( ثَبَت الأسانيد العوالي من مروّيات الجلالي ) والحمد لله على توفيقه ، وبعد : جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 184 _
فإنّ ما نقدّمه اليومَ هو أوثقُ ما طُبِعَ حتّى الاَن لهذه الرسالة من النصوص ـ سواء ما جاء ضمن المؤلّفات أم ما طبع مستقلاًّ ? ـ بالنسبة إلى المقارنة الدقيقة بين جميع النسخ والمروّيات ، وإلى إنتخاب النصّ الموحَد الجامع لكلّ ما جاء فيها ، وإلى إخراجه وتنظيمه وترقيمه ، وأمَلُنا أنْ نكون بتقديمه ، قد أدّيْنا بعض ما يجب علينا تجاه التراث الإسلاميّ العزيز ، من واجبات التحمّل والصيانة ، والضبط والتحقيق ، والأداء والتبليغ ، والحمد لله على نعمه المتواترة ، حمداً كما هو أهلُه وكما يحب أنْ يُحْمَدَ ، ونصلّي ونسلّم على سيّدنا رسولالله مُحمّد ، وعلى الأئمة الأطهار من آله الأخيار أولي العدل والفضل والَمجْد .
رسالة الحقوق
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
المقدّمة اعلم ـ رحمك الله ـ أنّ لله عليك حقوقاً محيطةً بك في كلّ حركةٍ تحرّكْتَها أو سكنةٍ سكنْتَها ( أو حالٍ حُلْتَها ) أو منزلةٍ نزلتَها أو جارحة قلَبْتَها أو آلةٍ تصرّفْتَ بها ( بعضُها أكبرُ من بعض ) : (أ) فأكبر حقوق الله عليك : ما أوجَبَهُ لنفسه تبارك وتعالى من (1) حقّه الذي هو أصل الحقوق ( ومنه تُفَرَعُ ) . (ب) ثمّ ما أوجبه الله ( عز وجَل ) لنفسك ، من قَرْنك إلى قدمك ، على إختلاف جوارحك : فجعل (2) للسانك عليك حقّاً (1)و (3) لسمعك عليك حقّاً ، و (4) لبصرك عليك حقّاً ، و (5) ليدك عليك حقّاً ، و (6) لرجلك عليك حقاً ، و (7) لبطنك عليك حقاً ، و (8) لفرْجِك عليك حقاً ، فهذه الجوارح السبعُ التي بها تكون الأفعال . --------------------------- (1) في التحف ، أخَرَ ذكر اللسان عن السمع والبصر ، هنا ، لكنّه قدمه عليهما في ذكر تفصيل الحقوق ، فكان ما أثبتناه هنا أنسب . جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 185 _
(ج) ثمّ جعل ( عزّ وجل ) لأفْعالك عليك حقوقاً : فجعل (9) لصلاتك عليك حقاً ، و (10) لحجّك عليك حقاً (1) ، و (11) لصومك عليك حقاً ، و (12) لصَدَقتك عليك حقّاً ، و (13) لهَدْيك عليك حقاً ، و (14)لأفعالك عليك حقاً ، ثمّ تخرج الحقوق منك إلى غيرك ، من ذوي الحقوق الواجبة عليك ، وأوجبها عليك (د) : حقوق أئمّتك ، ثم (ها) حقوق رعيّتك ، ثمّ (و) حقوق رحمك ، فهذه حقوق يتشعّبُ منها حقوق . (د) فحقوق أئمّتك ثلاثة : أوجبُها عليك (15) حق سائسك بالسلطان ، ثمّ (16) حقّ سائسك بالعلم ، ثمَ (17) حقّ سائسك بالمِلْك ، وكل سائسٍ إمام . (هـ) وحقوق رعيّتك ثلاثة : أوجبها عليك (18) حق رعيّتك بالسُلطان ، ثمَ (19) حق رعيتك بالعلم ، فإن الجاهل رعيّة العالم ، ثم (20) حقّ رعيّتك بالمِلْك : من الأزواج وما ملكت الأيمانُ . (و) وحقوق رَحِمكَ كثيرة ، متّصلة بقَدَر إتّصال الرحم في القرابة فأوجبها عليك (21)حق اُمك ، ثمَ (22) حقّ أبيك ، ثمَ (23) حقّ ولدك ، ثمَ (24) حقّ أخيك ، ثمّ الأقرب فالأقرب ، والأول فالأول (2) . (ز) ثم ( حقوق الاَخرين ) (3)(25) حقّ مولاك المُنْعم عليك ، ثمَ (26) حقّ مولاك الجارية نِعْمَتُك عليه ، ثمَ (27) حقّ ذي المعروف لديك ، ثمَ (28) حقّ مُؤذّنك لصلاتك ، ثمَ (29) حقّ إمامك في صلاتك ، ثمَ (30) حقّ جليسك ، ثمَ (31) حقّ جارك ، ثمَ (32) حقّ صاحبك ، ثمَ (33) حقّ شريكك ، ثمَ (34) حقّ مالِك ، ثمَ (35) حقّ غريمك الذي يُطالِبُك (4) ، ثمَ (36) حقّ خليطك ، ثم (37) حقّ خصمك المدّعي عليك ، ثمَ (38) حقّ خصمك الذي تدّعي عليه ، ثمَ (39) حقّ مُسْتشيرك ، ثمَ (40) حقّ المُشير عليك ، ثمَ (41) حقّ مُسْتنصِحك ، ثمَ (42) حقّ الناصِح لك . --------------------------- (1) الحقّ رقم (10) لم يذكر في رواية التحف ، لا هنا ولا في تفصيل الحقوق ، وإنما ورد في روايات الصدوق ، فقط ، فلاحظ ما ذكرناه عند التفصيل عن الحقّ (10) . (2) في غير التحف : الأولى فالأولى . (3) ما بين المعقوفين هنا زيادة منّا ، لتحديد عناوين اُصول الحقوق السبعة ، والمعبّر عنها ب ( الحقوق الجارية . . . ) في آخر هذه المقدّمة ، فلاحظ . (4) أضاف في النسخ هنا : ( ثمّ حقّ غريمك الذي تُطَالبه ) وهذا غير مذكور في تفاصيل الحقوق ، لا في الصدوق ولا التحف ، وبدونه تتم الحقوق : خمسين حقّاً ، فالظاهر كونه زائداً . |