ذلك أن المؤمن كل ما يملك هو وكيل عليه يملكه فترة ويتركه لغيره هو زاهد في الدنيا ، والشيعة هم كذلك وعلى رأسهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) الذي لقب بـ (أبي تراب) وخاطب الدنيا قائلاً : (فقد طلّقتك ثلاثاً فلا رجعة لك عندي).
  ـ ثم سأله هارون : ما بال صاحب الدار لا يأخذها ؟
  ـ أجابه الإمام : أخذت منه عامرة ، ولا يأخذها إلا معمورة.
  ـ أين شيعتك ؟
  ـ فتلا الإمام قول الله عزّ وجلّ : ( لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ ) (1) .
  فثار هارون ثورة عارمة وقال بصوت يقطر غضباً :
  ـ أنحن كفار ؟
  ـ لا ، ولكن كما قال الله تعالى : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ ) (2) .
  فغضب هارون وأغلظ على الإمام (عليه السلام) في كلامه (3)
  من الواضح والمعروف مسبقاً أن موقف الإمام (عليه السلام) مع هارون موقف واضح وصريح لا يقبل الرد ولا يقبل المهادنة ، لأنّ هارون مغتصب لمنصب الخلافة التي هي من حق علي بن أبي طالب والأئمة المعصومين من بعده ، فالعباسيون اختلسوا السلطة ، وخانوا الأمانة والعهد لقد استلموا السلطة باسم العلويين ، وتبنّوا شعارهم ، ولما جلسوا على كرسي الحكم خانوا العهد ، واشتروا به وبأيمانهم ثمناً قليلاً.
  قال تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآَخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) (4) .

---------------------------
(1) سورة البيّنة ، الآية 1.
(2) سورة إبراهيم ، الآية 28.
(3) البحار ، ج 11 ، ص 279.
(4) سورة آل عمران ، الآية 77 ، لا خلاق لهم : ليس لهم نصيب من الخير.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 201 _

  هذه هي أهم الأسباب التي دعت هارون الرشيد إلى اعتقال الإمام (عليه السلام).
  وأيضا : قال الفضل بن الربيع : حج هارون الرشيد وابتدأ بالطواف ، ومنعت العامة من ذلك لينفرد وحده ، فبينما هو في ذلك إذ ابتدر أعرابي وجعل يطوف معه.
  فقال الحاجب : تنح يا هذا عن وجه الخليفة : فانتهره الأعرابي وقال : إن الله يساوي بين الناس في هذا الموضع فقال : ( سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ ) (1) .
  فأمر الحاجب بالكف عنه.
  ولما فرغ الأعرابي من صلاته استدعاه الحاجب وقال له : أجب أمير المؤمنين.
  فقال الأعرابي : ما لي إليه حاجة فأقوم إليه ، بل إن كانت الحاجة له فهو بالقيام إليّ أولى ، قال : صدق.
  فمشى إليه هارون وسلم عليه ، فرد عليه السلام ، فقال هارون : اجلس يا أعرابي ؟ فقال الأعرابي : ما الموضع لي فتستأذني فيه بالجلوس ، وإنما هو بيت الله نصبه لعباده ، فإن أحببت فاجلس ، وإن أحببت أن تنصرف فانصرف.
  فجلس هارون وقال : ويحك يا أعرابي مثلك من يزاحم الملوك ؟!
  قال : نعم ، وفي مستمع ، قال هارون : فإني سائلك ، فإن عجزت آذيتك.
  قال الأعرابي : سؤالك هذا سؤال متعلم ، أو سؤال متعنّت ؟
  قال هارون : بل سؤال متعلّم.
  قال الأعرابي : اجلس مكان السائل من المسؤول وسل ، وأنت مسؤول.
  فقال هارون : ما فرضك ؟
  قال الأعرابي : إن الفرض رحمك الله واحد ، وخمس ، وسبع عشرة ، وأربع وثلاثون ، وأربع وتسعون ، ومائة ثلاث وخمسون على سبع عشرة ، ومن إثنى عشر واحد ، ومن أربعين واحد ، ومن مائتين خمس ، ومن الدهر كله واحد ، وواحد بواحد.
  فضحك الرشيد وقال : ويحك أسألك عن فرضك وأنت تعد علي الحساب ؟!

---------------------------
(1) سورة الحج ، الآية 25.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 202 _

  قال الأعرابي : أما علمت أن الدين كله حساب ، ولو لم يكن الدين كله حساب لما اتخذ الله الخلائق حسابا ، ثم قرأ : ( وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ) (1) .
  قال هارون : فبين لي ما قلت وإلا أمرت بقتلك بين الصفا والمروة ؟ فقال الحاجب : تهبه لله ولهذا المقام.
  فضحك الأعرابي من قوله ، فقال هارون : ممّا تضحك يا أعرابي ؟
  قال : تعجّباً منكما ، إذ لا أدري من الأجهل منكما ، الذي يستوهب أجلاً قد حضر ، أو الذي استعجل أجلاً لم يحضر ؟
  فقال هارون : فسر لنا ما قلت.
  قال الأعرابي : أما قولي الفرض واحد فدين الإسلام كله واحد ، وعليه خمس صلوات ، وهي سبعة عشر ركعة ، وأربع وثلاثون سجدة ، وأربع وتسعون تكبيرة ، ومائة وثلاث وخمسون تسبيحة ، وأما قولي من اثني عشر واحد : فشهر رمضان من إثني عشر شهر ، وأما قولي من الأربعين واحد : فمن ملك أربعين ديناراً أوجب الله عليه ديناراً ، وأما قولي من مائتي خمسة : فمن ملك مائتي درهم أوجب الله عليه خمسة دراهم.
  وأما قولي فمن الدهر كله واحد : فحجة الإسلام ، وأما قولي واحد بواحد : فمن أهرق دماً من غير حق ، وجب إهراق دمه ، قال الله تعالى : ( وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأنْفَ بِالأنْفِ وَالأذُنَ بِالأذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ ... ) (2) .
  فقال الرشيد : لله درك ، وأعطاه بدرة.
  فقال الأعرابي : فبم استوجبت منك هذه البدرة يا هارون ، بالكلام أم بالمسألة ؟ قال هارون : بالكلام.

---------------------------
(1) سورة الأنبياء ، الآية 47.
(2) سورة المائدة ، الآية 45.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 203 _

  قال الأعرابي : فإني أسألك عن مسألة ، فإن أتيت بها كانت البدرة لك ، تصدّ ق بها في هذا الموضع الشريف ، وإن لم تجبني عنها أضفت إلى البدرة بدرة أخرى لأتصدق بها على فقراء الحي من قومي.
  فأمر هارون بإيراد أخرى وقال : سل عما بدا لك.
  فقال الأعرابي : أخبرني عن الخنفساء تزق أم ترضع ولدها ؟
  فغضب هارون وقال : ويحك من يسأل عن هذه المسألة ؟!
  فقال الأعرابي : سمعت ممن سمع من رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول : من ولي أقواماً وهب له من العقل كعقولهم ، وأنت إمام هذه الأمة يجب أن لا تسأل عن شيء من أمر دينك ومن الفرائض ، إلا أجبت عنها ، فهل عندك جواب ؟
  قال هارون : رحمك الله لا ، فبين لي ما قلته وخذ البدرتين.
  فقال الأعرابي : إن الله تعالى لما خلق الأرض خلق ديابات الأرض التي من غير فرث ولا دم ، خلقها من التراب ، وجعل رزقها وعيشها منه ، فإذا فارق الجنين أمه لم تزقه ولم ترضعه وكان عيشها من التراب.
  فقال هارون : والله ما ابتلي أحد بمثل هذه المسألة ، وأخذ الأعرابي البدرتين وخرج ، فتبعه الناس وسألوا عن اسمه ، فإذا هو موسى بن جعفر (عليه السلام) ، فأخبر هارون بذلك فقال : والله لقد كان ينبغي أن تكون هذه الورقة من تلك الشجرة.
  ولكن هل سمح لهذه الشجرة أن تنمو وتعطي وتثمر ثمراً طيباً يتغذى منه جميع الناس ؟!
  لم يكتف الحكام العباسيون بتقمصهم الخلافة ، مستأثرين بها على أهل البيت (عليهم السلام) ، حتى أخذوا يتبعونهم سجناً وقتلاً وتشريداً ، أهل العلم والحكمة والأخلاق باتوا قابعين في بيوتهم ليس لهم الأمر ولا نهي! رحمك الله يا أبا فراس حيث تقول :
بـنو عـلي رعايا في iiديارهم      والأمر تملكه النسوان والخدم !
  لم يعبأ الأئمة (عليهم السلام) بهذه الشدة والظلامة التي قوبلوا بها ، بل استمروا على تبليغ رسالتهم في إعلاء كلمة الله ، ونشر المفاهيم الإسلامية ، ومحاربة التيارات الفكرية الفاسدة والملحدة ، فقد نوّروا الدنيا بعلومهم ومعارفهم من أجل رفع راية الإسلام في العالم ، ولا عجب إن كانوا كذلك ، فهم أحق من غيرهم ، لا بل هم المكلفون بعد الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله) بالمحافظة على السنن والشرائع المحمدية ونشر الإسلام إسلام المحبة والعدالة والحرية والأخلاق.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 204 _

من ظلم هارون إلى ظلاّم السجن
  ما العلاقة بين الظلم والظلام ؟ قال علماء اللغة :
  ـ ظَلَمَ : يعني جار وجاوز الحد ، ووضع الشيء في غير مكانه ، جاء في المثل : (من شابه أباه فما ظلم) وقالوا أيضاً : (من استرعى الذئب فقد ظلم).
  وهذا المثل يضرب لمن يولي غير الأمين ، ويقال : ظلم فلان فلاناً : غصبه حقه أو نقصه إيّاه ، وفي الحديث : لزموا الطريق فلم يظلموه ، ويقال : هو ظالم ، وظلام ، وهو وهي ظلوم.
  ـ وظَلِمَ الليل : اسود فهو ظَلِمٌ ، وأظلم الليل اسود ، ويقال : أظلم الشعر.
  والقوم دخلوا في الظلام ، والبيت جعله مظلماً ، وظالمه : مظالمة ، وظِلاماً : ظلمه ، وتظالم القوم : ظلم بعضهم بعضاً.
  الظلامة : ما يطلبه المظلوم ، والظلماء : الظلمة ويقال : ليلة ظلماء ، والظُلمة : ذهاب النور ، والمظلم : الشديد الظلمة ، يقال : يوم مظلوم وأمر مظلام : لا يدري من أين يؤتى والجمع مظالم.
  فالعلاقة المشتركة بين الظلام والظلم ، ظلم هارون وظلام السجن حتى ذهاب النور ، فيفقد النظر التمييز بين الأشياء ، بين السقيم والسليم.
  والظلم : يعني ذهاب الحق الذي يوضح الأمور ، ويجلي الحقائق حتى تظهر على حقيقتها ، ولا لبس فيها ، كما يعني وضع الشيء في غير مكانه والمظلام هو هارون الرشيد وأشباهه من الملوك العباسيين ، ومن سبقهم من الأمويين ، والمظلوم : هو الذي انتقص من حقه أو الذي لم يعط حقه وهو الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) ومن سبقه من آبائه وأجداده الذين ضحوا بكل ما عندهم من قوى وقاوموا الظلم والظالمين من أجل إعلاء كلمة الله عزّ وجلّ والمحافظة على الشريعة الإسلامية ، والدفاع عن المظلومين والمستضعفين في الأرض ليبقوا أعزة كراماً محترمين ، قال تعالى واصفاً المؤمنين : ( وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ) (1) .

---------------------------
(1) سورة المنافقون ، الآية 8.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 205 _

  فلنتصور هذه المكانة الرفيعة التي منحها الله عزّ وجلّ للمؤمنين فقد أعطاهم شرفاً عظيماً ومكانة سامية لا يرقى إليها غيرهم في المجتمع ، أعطاهم العزة بعد جلالته وبعد الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله) ، فأهل البيت (عليهم السلام) حافظوا على هذه العزة ودافعوا عنها فكانوا من المؤمنين الصادقين ، والعباسيون حاولوا سلب هذه العزة منهم فكانوا ظالمين منافقين.
  والإمام الكاظم (عليه السلام) الذي كظم غيظه سنيناً طويلة من ظلم الحكام العباسيين ، حافظ على هذه العزة التي منحها ربّ العالمين للمؤمنين الصادقين ... فانتقل (عليه السلام) من ظلم هارون إلى ظلام السجون ، ولعل هذه المحنة التي عاناها بعزم وصبر من أقسى المحن وأفجعه ، ألمّت به فتحملها وكظم غيظه في صدره صابراً مجاهداً في سبيل الله.
  لقد قضى زهرة شبابه في ظلمات السجون محجوباً عن أهله وشيعته ، محروماً من نشر علومه على الناس جميعاً ، فكان شبيه عيسى بن مريم في تقواه وورعه وصلاحه.
  جهد هارون في ظلمه ، وأمعن في التنكيل به خوفاً من تسلمه الخلافة ، علماً أن الإمام (عليه السلام) لم يكن يبغي الحكم والسلطان ، ولم يكن يبغي الجاه والمال ، وإنما كان يبغي نشر العدل والحق بين الناس ، ومقاومة ظلم أولئك الحكام وجورهم واستبدادهم بأمور المسلمين.
  إن تاريخ الإنسانية قديماً وحديثاً حافل بالثورات الصاخبة التي قام بها المصلحون الاجتماعيون على حكام الظلم والطغيان من أجل إسعاد أبناء مجتمعهم ، وإنماء أوطانهم ، حتى عانوا في سبيل ذلك جميع ضروب الأذى ، وأنواع التنكيل والتشريد والاضطهاد ، وكان في طليعة هؤلاء المجاهدين والمكافحين عن كرامة المسلمين أئمة أهل البيت (عليهم السلام).
  فقد قدموا أروع التضحيات ، وتحملوا أقسى ألوان الجهاد في سبيل الله من أجل إنقاذ المسلمين من الجور العباسي ، والاستبداد السياسي الذي تمثل على مسرح الحكام الأمويين والعباسيين.
  هؤلاء الحكام باعوا دينهم بدنياهم بثمن زهيد ، فتلاعبوا بمقدّرات المجتمع ، وسلبوا أموال المسلمين وصرفوها على الفجور والمجون ، وبذلوها للعملاء الخونة الذين ساندوهم وأعانوهم على الظلم والجور.
  وأئمة أهل البيت (عليهم السلام) باعتبارهم مسؤولين عن رعاية الدين ، وحماية المسلمين ، كان من واجبهم الشرعي مقاومة ذلك الحكم الجائر ومكافحة الظالمين المستبدين ، فنفروا في وجه الظلم ، وأنقذوا المجتمع الإسلامي من الجور والاستبداد اللّذين حلا في العباد والبلاد ، فقاموا بما يجب عليهم من أداء رسالتهم الإنسانية بكل أمانة وإخلاص.
  وكان زعيم المعارضين المناضلين لسياسة هارون هو الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) ، الذي قضى زمناً طويلاً في السجون حتى لفظ أنفاسه الأخيرة فيها وهو شهيد غريب عانى أمرّ الآلام ، وأدهى الخطوب.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 206 _

القبض على الإمام (عليه السلام)
  انتشر اسم الإمام (عليه السلام) في الأقطار ، وذاع صيته في الأمصار ، وتحدّث الناس عن علمه ومآثره وفضله ، فثقل ذلك على هارون ، وطفح قلبه غيظاً منه فذهب الطاغية إلى قبر النبي (صلّى الله عليه وآله) ، فسلم على النبي مثل الزوار المؤمنين ، وخاطبه قائلاً : (بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، إني اعتذر إليك من أمر عزمت عليه ، إني أريد أن آخذ موسى بن جعفر (عليه السلام) فأحبسه لأني قد خشيت أن يُلقي بين أمتك حرباً يسفك فيها دماءهم) (1) .
  إنه يريد أن يخلق مبرراً أمام المجتمع لعمله الفظيع ويخفّف ما سيواجه به من الاستياء ، لا سيّما من العلماء الذين سيستنكرون عمله الإجرامي.
  وبعد الاعتذار في اليوم الثاني أصدر الطاغية أوامره بإلقاء القبض على الإمام ، فجاءت الشرطة وألقت القبض عليه وهو في طاعة الله يصلي لربه عند رأس جده النبي (صلّى الله عليه وآله) ، فقطع المجرمون الآثمون عليه صلاته ولم يمهلوه من إتمامها ، لكنهم نسوا أن الله يمهل ولا يهمل ، ثم حمل الإمام من ذلك المكان الشريف وقيّد بالحديد وقد توجّه إلى جدّه الرسول الأكرم : (إليك أشكو يا رسول الله) (2) .
  فأين احترام قداسة القبر الشريف ، قبر رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأين احترام أبنائه ، الأئمة المعصومين التي هي أولى بالرعاية والمحبة والمودة من كل شيء ؟ ثم أين احترام الصلاة التي هي أقدس عبادة في الإسلام ؟
  لم يحترم هارون قداسة القبر الشريف فهتك حرمته وحرمة أبنائه ، وقطع صلاة الإمام (عليه السلام) وأمر بتقييده ، وحمل إليه في ذل القيود ، ولما مثل الطاهر الكريم أمام الفاجر اللئيم أغلظ له في القول ، وكان اعتقاله سنة 179 هـ في شهر شوال لعشر بقين منه (3)

---------------------------
(1) البحار ، ج 17 ، ص 296.
(2) المناقب ، ج 2 ، ص 385.
(3) البحار ، ج 17 ، ص 296.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 207 _

في البصرة
  ساروا بالإمام (عليه السلام) معتقلاً إلى البصرة ووكل هارون حسان السروي بحراسته والمحافظة عله (1)
  وقبل أن يصل إلى البصرة تشرّف بالمثول بين يديه عبد الله بن مرحوم الأزدي فدفع له الإمام كتباً وأمره بإيصالها إلى ولي عهده الإمام الرضا (عليه السلام) وعرفه بأنه الإمام من بعده (2) سارت القافلة بالإمام المقيد حتى وصلت إلى البصرة قبل التروية بيوم (3) فأخذ حسان وكيل هارون الإمام ودفعه إلى عيسى بن أبي جعفر فسجنه في بيت من بيوت السجن ، وأقفل عليه الباب ، فكان لا يفتح باب السجن إلا في حالتين : خروج الإمام (عليه السلام) إلى الطهور ، أو إدخال الطعام له (4)

أحواله في السجن
  تفرغ الإمام (عليه السلام) للعبادة ، انقطع الإمام (عليه السلام) في السجن إلى العبادة المطلقة ، يصوم في النهار ويقوم بالليل ، يقضي كل أوقاته في الصلاة والسجود والدعاء.
  لقد أدهش العقول وحير الألباب بعبادته المتواصلة ، وانقطاعه إلى الله عزّ وجلّ : وقد اعتبر وجوده في السجن نعمة من أعظم النعم التي منحها الله له ، وذلك لتفرغه للعبادة ، فكان يشكر ربه تعالى على ذلك ويدعو بهذا الدعاء الروحاني قائلاً : (اللهم ، إنك تعلم أني كنت أسألك أن تفرغني لعبادتك ، اللهم وقد فعلت فلك الحمد) (5) .
  يبدو لنا من هذا الدعاء رضى الإمام (عليه السلام) بقضاء الله تعالى وصبره الجميل وكظمه الغيظ بانتظار الفرج إن شاء الله ، كما يدل هذا الدعاء من جهة أخرى على مدى حب الإمام الخالص وشوقه الزائد لعبادة الله وطاعته.

اتصال العلماء به
  شاع اعتقال الإمام (عليه السلام) في البصرة وجميع أنحاء البلاد ، فأقبل عليه رواة الحديث بطريق خفي لينهلوا من علمه الغزير ، وقد رووا عنه بعض الأحكام والعلوم ومن هؤلاء ياسين الزياتي (6) .
  كما اتصل به كبار العلماء من البصرة ومن نواح أخرى فرووا عنه الشيء الكثير ممّا يتعلق بالتشريع الإسلامي ، ولا يخفى ما قلناه سابقاً إن الإمام (عليه السلام) دائرة معارف يغترف منها كل من أراد المعرفة.

---------------------------
(1) البحار ، ج 11 ، ص 298.
(2) راجع تنقيح المقال.
(3) البحار ، ج 11 ، ص 298.
(4) المصدر نفسه.
(5) المناقب ، ج 2 ، ص 379.
(6) النجاشي ، ص 352.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 208 _

الإيعاز باغتياله
  لما انتشر خبر اعتقال الإمام (عليه السلام) في سجن البصرة ، وتناقل الناس حديثه مقروناً بالحسرة واللوعة والحزن ، خاف هارون من حدوث الفتن ، وقيام الاضطرابات في المدينة فأوعز إلى عيسى باغتيال الإمام (عليه السلام) ليستريح منه ويطمئن باله ، ولكن هل يقدم عيسى على ارتكاب مثل هذه الجريمة النكراء ؟!

طلب عيسى بالإعفاء
  لما وصلت أوامر هارون لعيسى لتنفيذ الاغتيال ، ثقل عليه الأمر وفكر ملياً بالمصير ، جمع أصحابه وخواصه وعرض عليهم الأمر فأشاروا عليه بالتحذير من ارتكاب مثل هذه الجريمة التي تغضب الله ورسوله ، فاستصوب رأيهم وكتب إلى هارون رسالة يطلب فيها إعفاءه عن ذلك.
  جاء في الرسالة : (يا أمير المؤمنين ، كتبت إلي في هذا الرجل ، وقد اختبرته طول مقامه بمن حبسته معه عيناً عليه ، لينظروا حيلته ، وأمره وطويته ممن له المعرفة والدراية ، ويجري من الإنسان مجرى الدم ، فلم يكن منه سوء قط ، ولم يذكر أمير المؤمنين إلا بخير ، ولم يكن عنده تطلع إلى ولاية ، ولا خروج ولا شيء من أمر الدنيا ، ولا دعا قط على أمير المؤمنين ، ولا على أحد من الناس ، ولا يدعو إلا بالمغفرة والرحمة له ولجميع المسلمين مع ملازمته للصيام والصلاة والعبادة ، فإن رأي أمير المؤمنين أن يعفيني من أمره ، أو ينفذ من يتسلمه مني وإلا سرحت سبيله ، فإني منه في غاية الحرج) (1) .
  تدل هذه الرسالة بوضوح على إكبار عيسى وتقديره للإمام (عليه السلام) ، فقد راقبه ووضع العيون عليه فلم يره إلا مشغولاً بذكر الله وطاعته ، ولم يتعرض بذكر أحد بسوء حتى الظالمين له ، لذا خاف عيسى وراقب الله.
  بقي في سجن عيسى سنة كاملة.

حمل الإمام إلى بغداد
  عندما شعر هارون بعدم تنفيذ طلبه في اغتيال الإمام من قبل عيسى عامله على البصرة ، خاف منه أن يطلق سراح الإمام (عليه السلام) ، فأمر بحمل الإمام إلى بغداد مقيّداً بالحديد ، تحف به الحرس والشرطة ، ساروا به مسرعين حتى انتهوا إلى بغداد ، وفوراً أعلموا الرشيد بصنيعهم فأمر بحبسه عند أحد وزرائه يدعى الفضل بن الربيع.
  أخذه الفضل وسجنه في بيته ، هكذا كانت إرادة هارون ، فلم يعتقله في السجون العامة لمكانة الإمام العالية في المجتمع ، وسمو شخصيته لأن الشخصيات الهامة في عهد الطاغية هارون كانت تعتقل في بيوت وزرائه وليس في السجون العامة ، فقد سجن عبد الملك بن صالح عندما غضب عليه عند الفضل بن الربيع (2) ، وكذلك سجن إبراهيم بن المهدي عند أحمد بن أبي خالد (3)

---------------------------
(1) البحار والفصول المهمة.
(2) تاريخ الطبري.
(3) تاريخ بغداد ، ج 3 ، ص 185.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 209 _

انشغال الإمام بالعبادة
  تفرغ الإمام (عليه السلام) في السجن لطاعة ربّه ، فقضى معظم أوقاته في الصلاة والتضرع والابتهال إلى الله ، فرّاج الكروب والهموم ، فقد بهر الفضل بعبادته ، فكان يتحدث عنها أمام زائريه بتعجب وإكبار للإمام.
  حدّث عبد الله القزويني قال : دخلت على الفضل بن الربيع وهو جالس على سطح داره ، فقال لي : اُدْنُ مني ، فدنوت حتى حاذيته فقال لي : أشرف على الدار ، فأشرف عبد الله على الدار فقال له الفضل ـ ما ترى في البيت ؟ ـ أرى ثوباً مطروحاً هناك.
  ـ انظر حسناً ، فتأمل عبد الله ملياً ، فقال له : رجل ساجد.
  ـ هل تعرفه ؟ ـ لا ، فقال له : هذا مولاك.
  ـ من مولاي ؟!! ـ تتجاهل علي ؟!!
  ـ ما أتجاهل ، ولكن لا أعرف لي مولى.
  ـ قال الفضل : هذا أبو الحسن موسى بن جعفر.
  وأخذ الفضل يحدث عبد الله عن عبادة الإمام وتقواه وطاعته لله فقال : (إني اتفقده الليل والنهار فلم أجده في وقت من الأوقات إلا على الحال التي أخبرك بها ، يصلي الفجر ، فيعقب ساعة في دبر صلاته إلى أن تطلع الشمس ثم يسجد سجدة فلا يزال ساجداً حتى تزول الشمس ، ثم يبتدئ بالصلاة من غير أن يجدد الوضوء ، فاعلم أنه لم ينم في سجوده ولا أغفى ، فلا يزال كذلك إلى أن يفرغ من صلاة العصر ، فإذا صلى العصر سجد سجدة فلا يزال ساجداً إلى أن تغيب الشمس ، فإذا غابت وثب من سجدته فصلى المغرب من غير أن يحدث حدثاً ، ولا يزال في صلاته وتعقيبه إلى أن يصلي العشاء ، فإذا صلى العشاء أفطر على شوى يؤتى به ، ثم يجدد الوضوء ، ثم يسجد ثم يرفع رأسه فينام نومة خفيفة ، ثم يقوم فيجدد الوضوء ، ثم يقوم ، فلا يزال يصلي في جوف الليل حتى يطلع الفجر فلست أدري حتى يقول الغلام إن الفجر قد طلع ؟ إذ قد وثب هو لصلاة الفجر فهذا دأبه منذ حُوّل إليّ ...).
  لما رأى عبد الله إكبار الفضل للإمام (عليه السلام) حذره من أن يستجيب لرغبة الرشيد باغتياله ، فقال له : (اتق الله ، ولا تحدث في أمره حدثاً يكون منه زوال النعمة ، فقد تعلم أنه لم يفعل أحد بأحد منهم سوءاً إلا كانت نعمته زائلة).
  وكان الفضل مؤمناً بذلك فقال له : (قد أرسلوا إليّ غير مرّة يأمروني بقتله ، فلم أجبهم إلى ذلك ، وأعلمتهم أني لا أفعل ، ولو قتلوني ما أجبتهم إلى ما سألوني) (1) .
  ولا غرو فالإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) كان مثلاً صالحاً يحتذى في التقوى والورع والإيمان بالله ، فحب الله مطبوع في قلبه ومشاعره.

---------------------------
(1) عيون أخبار الرضا وبحار الأنوار.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 210 _

إشراف هارون على الإمام في سجنه
  لما امتنع حراسه ووزراؤه من القدوم على اغتياله ، لم يثق بالعيون التي وضعها عليه في السجن ، فأخذ يراقبه بنفسه ، ويتطلع على شؤونه خوفاً من أن يتصل به أحد من الناس ، فأطل من أعلى القصر على السجن فرأى ثوباً مطروحاً في مكان خاص لم يتغير عن موضعه فقال للفضل :
  ـ ما ذاك الثوب المطروح الذي أراه كل يوم في ذلك الموضع ؟!
  ـ يا أمير المؤمنين ، ما ذاك ثوب ، وإنما هو موسى بن جعفر ، له في كل يوم سجدة بعد طلوع الشمس إلى وقت الزوال.
  فبهر هارون بصلابة الإمام (عليه السلام) وقوة إرادته وقال للفضل :
  ـ أما هذا فإنه من رهبان بني هاشم!!
  فالتفت إليه الفضل بعدما سمع منه اعترافه بزهد الإمام قائلاً له :
  ـ يا أمير المؤمنين : ما لك قد ضيّقت عليه في السجن ؟!!
  فأجابه هارون بكل لؤم وغرور قائلاً : (هيهات : لابدّ من ذلك) (1) .
  هارون الطاغية كان يعلم عزوف الإمام عن الدنيا ، ويعلم إقبال الإمام على الله ، ويعلم منزلة الإمام السامية وتقدير الناس له ، لكن حبه للسلطان والدنيا أعمى بصره وبصيرته ، وملأ قلبه غيظاً وحسداً له ، وهذا ما دفعه إلى ذلك ، الحسد القاتل الذي يميت القلب ويضعف الروح ويخدر الإيمان ، ويعمي البصيرة عن رؤية الحق.
  ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ ).
  لم يقرأ هارون هذه السورة ولم يعلم مضامينها ؟!

---------------------------
(1) البحار ، ج 11 ، ص 298.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 211 _

مصائب ومتاعب
  ضاق صدر الإمام من ظلمة السجن وطول المدة فيه بعد أن حجب عن عياله وأطفاله وشيعته ، ينتقل من سجن إلى سجن مثقلاً بالحديد ، والشرطة تراقبه خوفاً من اتصال أحد من شيعته به ، فأحسّ بآلام مرهقة أحاطت به ، وخطوب مريرة ثقلت عليه ، وهارون ما زال على موقفه يراقبه بحذر ، ويخطط لاغتياله ، فما العمل ؟
  لقد لجأ (عليه السلام) إلى الله تبارك وتعالى في أن يخلّصه من هذا الطاغية وهذه المحنة المريرة.

دعاء من القلب
  سئم الإمام من السجن وطالت مدة الحبس عليه ، وهو رهين السجون فقام في غلس الليل وجدد طهوره وصلى لربه أربع ركعات ، وأخذ يناجي الله بهذا الدعاء الروحي الصاعد من قلب طاهر أثقلته الهموم فقال : (يا سيدي ، نجّني من حبس هارون وخلّصني من يده ، يا مخلّص الشجر من بين رمل وطين ، ويا مخلّص النار من بين الحديد والحجر ، ويا مخلّص اللبن من بين فرث ودم ، ويا مخلّص الولد من بين مشيمة ورحم ، ويا مخلّص الروح من بين الأحشاء والأمعاء ، خلّصني من يد هارون الرشيد).
  يرشح من هذا الدعاء المرارة التي عاناها الإمام (عليه السلام) في السجن والحزن العميق الذي رزح على صدره خلاف هذه الفترة الطويلة لكن إرادة الله فوق كل إرادة فمنه الفرج وهو على كل شيء قدير.

إطلاق سراح الإمام (عليه السلام)
  قال تعالى : ( وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) (1) .
  الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) مؤمن طاهر وعبد صالح دعا الله عزّ وجلّ لينقذه من هذه المحنة الظالمة التي أثقلت صدره فاستجاب سبحانه لدعائه وأخرج عنه الغمّ الذي أصابه في سجن الطاغية هارون.
  فأطلق سراحه غلس الليل ، ويعود السبب في ذلك إلى رؤيا رآها في منامه.
  حدّث عبد الله بن مالك الخزاعي (2) قال : أتاني رسول الرشيد في ما جاءني به قط ، فانتزعني من موضعي ، ومنعني من تغيير ثيابي ، فراعني ذلك ، فلما صرت إلى الدار سبقني الخادم ، فعرف الرشيد خبري ، فأذن لي بالدخول ، فوجدته جالساً على فراشه فسلّمت فسكت ساعة ، فطار عقلي ، وتضاعف جزعي ، ثم قال لي :
  ـ يا عبد الله ، أتدري لما طلبتك في هذا الوقت ؟
  ـ لا ، والله يا أمير المؤمنين ، قال : إني رأيت الساعة في منامي كأن حبشياً قد أتاني ، ومعه حربة فقال : إن لم تخلّ عن موسى بن جعفر الساعة ، وإلا نحرتك بهذه الحربة ، اذهب فخل عنه (3)

---------------------------
(1) سورة غافر ، الآية 60.
(2) كان مسؤولاً عن دار الرشيد وشرطته.
(3) مروج الذهب ، ج 3 ، ص 265.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 212 _

  ولم يطمئن عبد الله بأمر الرشيد بإطلاق سراح الإمام ، فقال له : أطلق سراح موسى بن جعفر ؟ قال له ذلك ثلاث مرات ، فقال الرشيد : (نعم ، امض الساعة حتى تطلق موسى بن جعفر ، وأعطه ثلاثين ألف درهم ، وقل له : إن أحببت المقام قبلنا فلك عندي ما تحب ، وإن أحببت المضي إلى المدينة فالأمر في ذلك إليك).
  مضى عبد الله مسرعاً إلى السجن يقول : لما دخلت وثب الإمام (عليه السلام) قائماً ، وظنّ أني قد أمرت فيه بمكروه ، فقلت له : (قد أمرني أمير المؤمنين بإطلاقك وأن أدفع إليك ثلاثين ألف درهم ، وهو يقول لك : إن أحببت المقام قبلنا فلك ما تحب ، وإن أحببت الانصراف فالأمر في ذلك مطلق لك ، وأعطيته الثلاثين ألف درهم) (1) .
  وقلت له : لقد رأيت من أمرك عجبا.
  وأخذ الإمام (عليه السلام) يحدثه عن السبب في إطلاق سراحه قائلاً : (بينما أنا نائم إذ أتاني رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فقال لي : يا موسى ، حبست مظلوماً قل هذه الكلمات فإنك لا تبيت هذه الليلة في الحبس ، فقلت له بأبي أنت وأمي ما أقول فقال (صلّى الله عليه وآله) : قل : (يا سامع كل صوت ، ويا سابق الفوت ، ويا كاسي العظام لحماً ومنشرها بعد الموت ، أسألك بأسمائك الحسنى ، وباسمك الأعظم الأكبر المخزون المكنون الذي لم يطلع عليه أحد من المخلوقين ، يا حليماً ذا أناة لا يقوى على أناته ، يا ذا المعروف الذي لا ينقطع أبداً ، ولا يحصى عدداً ، فرج عني) فكان ما ترى (2)
  وفرج الله عن الإمام فخلى هارون بعد رؤياه سبيله ، وقد مكث في سجن الفضل مدة طويلة من الزمن لم يعينها لنا التاريخ.
  بعد إطلاق سراحه لم يذهب الإمام (عليه السلام) إلى يثرب بل بقي في بغداد لم ينزح عنها وكان يدخل على الرشيد في كل أسبوع مرة في يوم الخميس (3)
  كان الرشيد يحتفي به كثيراً إذا رآه ، وقد دخل عليه يوماً ، وقد استولى عليه الغضب من أجل رجل ارتكب جرماً فأمر أن يضرب ثلاثة حدود فنهاه الإمام (عليه السلام) عن ذلك وقال إنما تغضب لله ، فلا تغضب له أكثر ممّا غضب لنفسه) (4) .

---------------------------
(1) جاء في المناقب ، ج 2 ، ص 370 أن الإمام (عليه السلام) رفض الهدايا التي قدمت له.
(2) وفيات الأعيان ، ج 4 ، ص 394 ، وشذرات الذهب ، ج 1 ، ص 304.
(3) البحار ، ج 11 ، ص 270.
(4) الوسائل باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 213 _

الإذن بالرجوع إلى يثرب
  طلب الإمام (عليه السلام) من هارون أن يسمح له بالرحيل إلى يثرب ، مدينة آبائه وجدّه (صلّى الله عليه وآله) لرؤية عياله وأطفاله ، قيل أنه سمح له ، وقيل أنه لم يجبه قائلاً له : أنظر في ذلك حتى حبسه في السجن عند السندي (1)
  وأكبر الظن أن هارون فرض عليه الإقامة الجبرية في بغداد ولم يسمح له بالسفر إلى وطنه ، فمكث (عليه السلام) في بغداد مدة من الزمن لم يحددها لنا قسم كبير من المؤرخين ، خلال هذه المدة لم يتعرض له هارون بسوء ، قال السيد مير علي الهندي قال : (وقد حدث مرتين أن سمح هارون لهذا الإمام الوديع بالرجوع إلى الحجاز ولكن شكوكه كانت في كلتا المرتين تتغلب على طيبة قلبه فيبقيه في الحبس) (2) .
  استمر الإمام في تلك الفترة من بذل الجهود لإرشاد الناس وهدايتهم إلى طريق الحق ومن الذين اهتدوا متأثرين بنصائحه بشر الحاني فقد تاب على يد الإمام (عليه السلام) حتى صار من عيون عباد الله الصالحين المتقين لكن التاريخ لم يذكر المدة التي خلي فيها عن سبيل الإمام (عليه السلام) ، فيحتمل أنها فترة قصيرة ، وكل ما ذكره المؤرخون أنه (عليه السلام) انتقل من سجن إلى سجن ، من سجن الفضل بن الربيع إلى سجن الفضل بن يحيى ... فيا سبحان الله إلى هذا الحد محبة الدنيا وعشق السلطان تعمي القلوب عن الحقيقة ، وتصم الآذان عن سماع الحق ؟!!
  فهارون لم يؤمن بكل ما رآه من الآيات والمعجزات التي ظهرت للإمام (عليه السلام) فاطلق سراحه وندم على ذلك فأصر على التنكيل به وكانت الجريمة.

اعتقال الإمام (عليه السلام) عند الفضل بن يحيى
  مرة ثانية ألقى هارون القبض على الإمام فأمر باعتقاله عند الفضل بن يحيى ، فماذا حدث له في سجنه ؟
  معاملة حسنة في سجن الفضل : لما رأى الفضل بن يحيى إقبال الإمام (عليه السلام) على الله سبحانه وتعالى ، وانشغاله بذكره ، أكبر الإمام ورفّه عليه وأحسن معاملته ، فكان يرسل له كل يوم مائدة فاخرة من الطعام ، وقد رأى (عليه السلام) من السعة في سجن الفضل ما لم يرها في السجون الأخرى.

---------------------------
(1) البحار ، ج 11 ، ص 269.
(2) مختصر تاريخ العرب ، ص 209.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 214 _

الإيعاز باغتياله من جديد
  أوعز هارون للفضل باغتيال الإمام (عليه السلام) ، فخاف الفضل من الله وامتنع عن تنفيذ هذه الجريمة النكراء ، ولم يلبّ رغبة هارون ، ذلك أنه كان ممن يذهب إلى الإمامة ويدين بها ، وهذا هو السبب في اتهام البرامكة بالتشيع.
  قال الفضل : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، أقود نفسي إلى النار وأحفر قبري بيديّ ؟! لا يمكن أن أنفذ رغبات هارون الطاغية في قتل ابن بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) مهما كانت النتيجة.

التنكيل بالفضل
  كان لهارون بعض العملاء المأجورين يراقبون ويوصلون بأخبارهم إليه ، كما في عصرنا اليوم ، انطلقوا إليه وأخبروه بحسن معاملة الفضل للإمام (عليه السلام) ولما سمع ذلك الطاغية استشاط غضباً وأنفذ بالحال خادمه مسرور إلى بغداد ليكشف له حقيقة الأمر ، فإن كان الأمر على ما بلغه مضى إلى العباس بن محمد وأوصله رسالة يأمره فيها بجلد الفضل بن يحيى ، وكذلك أمره بالوصول إلى السندي بن شاهك مدير شرطته ومنفذ أوامره لينفذ ما أمر به دون أي تأخير.
  قدم العميل مسرور إلى بغداد فنزل دار الفضل بن يحيى لا يدري أحد ما يريده ثم دخل خلسة إلى الإمام موسى (عليه السلام) فوجده مرفّهاً مرتاحاً كما بلغ هارون فمضى من فوره إلى العباس وأمره بتنفيذ أمر الخليفة ، وكذلك سار إلى السندي فأمره بإطاعة العباس ، أرسل العباس فوراً الشرطة إلى الفضل فأخرجوه من داره وهو يهرول والناس من حوله ، فدخل على العباس فأمر بتجريده ، ثم ضربه مائة سوط.
  خرج الفضل بعد هذا الجزاء الظالم وقد انهارت قواه ودكّت أعصابه متحرقاً على الإمام ماذا سيحصل له.
  كتب مسرور الوغد الحقير إلى هارون بما فعله ، فأمره بنقل الإمام من عند الفضل واعتقاله في دار السندي بن شاهك ، ثم جلس هارون في مجلس حافل ضمّ جمهوراً غفيراً من الناس ، فرفع صوته قائلاً : أيها الناس ، إن الفضل بن يحيى قد عصاني ، وخالف طاعتي ، ورأيت أن ألعنه فالعنوه.
  ارتفعت أصوات العملاء من جميع جنبات الحفل باللعن والسباب والشتم على الفضل حتى اهتزت الأرض من أصوات اللعن.
  وبلغ يحيى بن خالد ذلك فأسرع إلى الرشيد ودخل عليه من غير الباب الذي يدخل منه الناس ، وأسره قائلاً : يا أمير المؤمنين ، إن الفضل حدث ، وأنا أكفيك ما تريد.
  فسرّ هارون بما أخبره صنيعه الوغد وذهب عن نفسه ما يحمله من الحقد على الفضل ، فأراد يحيى أن يستعيد كيان ولده ويرد له كرامته.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 215 _

  فقال للرشيد : (يا أمير المؤمنين ، قد غضضت من الفضل بلعنك إياه فشرّفه بإزالة ذلك) فأقبل هارون يوجهه على الناس ، ورفع عقيرته قائلاً : (إن الفضل قد عصاني في شيء فلعنته ، وقد تاب وناب إلى طاعتي فتولوه).
  ارتفعت الأصوات المأجورة ثانية من جميع جنبات الحفل وأعلنت التأييد الشامل لتلك السياسة المتقلبة والمتناقضة وهي ذات لهجة واحدة أعلنها أولئك الناس الذين يهتمون بمصالحهم الخاصة ولا يؤمنون بالقيم ولا بالمثل العليا مرددين : (يا أمير المؤمنين ، نحن أولياء من واليت ، وأعداء من عاديت ، وقد توليناه) (1) .
  وكما ترى هكذا كانت حالة الجماهير الإسلامية في ذلك العصر قد انحرفت عن المبادئ الأصيلة ، وفقدت وعيها وحسها وساعدت الطاغية على ظلمه في أطاعته ونفذت رغباته الظالمة والجائرة بحق إمام معصوم ابن إمام معصوم ، شريف بريء لم يقترف ذنباً ولا ارتكب خطأ ، ولو كان عندهم أي شعور ديني لما سجن الإمام (عليه السلام) ولما نكل به من سجن إلى سجن مقيداً بالأغلال والحديد.
  ويعود السبب في ذلك كله إلى عبث السياسة الملتوية في الأوساط الاجتماعية ونشرها الفساد والفجور والبؤس والشقاء والتسبّب في ربوع ذلك المجتمع حتى كان من نتائجه مواقف مذمومة لا يحمد عقباها بأي حال ، كما كشفت لنا هذه البادرة مدى الحقد والكراهية التي يكنها هارون اللعين في نفسه للإمام (عليه السلام) الشريف. فقد نكل بالفضل بن يحيى وهو كان من أعز الناس عنده وأقربهم إليه ، وأعلن شتمه وسبه لأنه أحسن معاملته للإمام (عليه السلام) ولم يضيق عليه في السجن ، علماً أن المدة التي قضاها الإمام (عليه السلام) في سجن الفضل قصيرة للغاية كما ذكر الرواة أياماً معدودة.
  ونختصر فنقول : كانت أرواح الناس في العصر العباسي ودماؤهم يتصرف فيها الحكام حسب ما أرادوا ، فالملك يفعل ما يريد فهو ظل الله على الأرض لا يسأل عن ذنب ولا جرم ، همه كرسي الحكم وكفى.

خاتمة المطاف
  أحزان جديدة ، وخطب مريع حلّ بسبط النبي (صلّى الله عليه وآله) وريحانته العطرة ووديعته في أمته ، فقد سدت نوافذ الحياة عليه وحفّت به المصائب والمصاعب من كل جانب ، فجمع هارون الطاغية كل ما عنده من لؤم وغضب وبغض وصبها عليه دفعة واحدة ، من تكبيل بالقيود ، وزج في السجون ، ومراقبة بالعيون خوفاً من العطف عليه ، فنكل بكل من أكرمه ورعى جانبه ، حين جلد الفضل بن يحيى مائة جلدة ، وأعلن سبه وشهّر به لأنه لم يضيّق عليه.

---------------------------
(1) مقاتل الطالبيين ، ص 303 ـ 304.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 216 _

  لقد أصبح هارون قلقاً جداً من وجود الإمام (عليه السلام) فذيوع فضله بين الملأ وانتشار اسمه وحديث الناس عن محنته واضطهاده ، كل ذلك أقلق مضجعه وأربك فكره ، فأوعز إلى كبار رجال دولته باغتياله لكنهم لم يجيبوه على ذلك ، لما رأوا للإمام (عليه السلام) من كرامة وتقى وانقطاع إلى عبادة الله عزّ وجلّ ، فخافوا من غضب الله ورسوله عليهم وزوال نعمتهم إن تعرضوا له بمكروه ، استمر هارون في التفتيش عن مثل هؤلاء الأوغاد الذين يبيعون آخرتهم بدنياهم فلم يجد سوى السندي بن شاهك (1) الأثيم اللعين الذي لا يرجو لله وقارا ، ولا يؤمن بالآخرة ، فنقله إلى سجنه ، وأمره بالتضييق عليه.
  فاستجاب الأثيم لذلك ، حيث عامل الإمام بكل قسوة ، والإمام صابر محتسب ، قد كظم غيظه ، وأوكل أمره إلى الله ، إنها المحنة الكبرى قد مُنيَ بها الإمام (عليه السلام) حينما نقل إلى سجن السندي بن شاهك ، الذي بالغ في أذاه والتضييق عليه ، والتنكيل به في مأكله ومشربه وتكبيله بالقيود ، كل ذلك ليرضي هارون ويتقرب منه من أجل دنياه ، وسوف نعرض لهذا الدور الرهيب ، آخر أدوار حياة الإمام الكاظم المظلوم ، ونذكر بعض شؤونه الأخرى كأوقافه ووصاياه وغيرها من الأمور.

مكان السجن
  سجن (عليه السلام) في السجن المعروف بدار المسيّب الواقع قرب باب الكوفة (2) وفيه كانت وفاته (عليه السلام) (3) .

التضييق على الإمام (عليه السلام)
  أمر هارون الطاغية جلاده السندي الباغي أن يضيّق على الإمام ، وإن يقيّده بثلاثين رطلاً من الحديد ، ويقفل الباب في وجهه ، ولا يدعه يخرج إلا للوضوء ، وامتثل السندي لأوامر معلمه ، فعمل على التضييق على الإمام ، ووكل على مراقبته مولاه بشاراً ، وكان من أشد الناس بغضاً لآل أبي طالب ولكنه لم يلبث أن تغيّر حاله ، وتاب إلى طريق الحق ، لما رآه من كرامات الإمام (عليه السلام) ومعاجزه ، وقام ببعض الخدمات له (4)
  لم يرع السندي حرمة الإمام (عليه السلام) وتعرض لإساءته ، فقد حدث أبو الأزهر ابن ناصح البرجي قال : اجتمعت مع ابن السكّيت (5) في مسجد يقع بالقرب من دار السندي ، فدارت بيننا مذاكرة في علم العربية ، وكان في الجامع رجل لا نعرفه فالتفت إلينا قائلاً : (يا هؤلاء ، أنتم إلى إقامة دينكم أحوج منكم إلى إقامة ألسنتكم).
  وأخذ الرجل يدلي علينا بالأدلة الوافرة على ضرورة الإمامة ، ثم قال :
  ـ ليس بينكم ، وبين إمام العصر غير هذا الجدار ـ وأشار إلى جدار السندي.
  ـ لعلك تعني هذا المحبوس ؟

---------------------------
(1) هو مولى المنصور الدوانيقي ولي دمشق من قبل موسى بن عيسى في خلافة هارون الرشيد ، ذكر ذلك الصفدي في كتابه : (أمراء دمشق ص 39) ، ونظمه في أرجوزته التي ذكر فيها أمراء دمشق بقوله :
وكان قد ولي بها بن شاهك      خـلافة ولـم يـكن بمالك
وذكر الجاحظ حديثاً عنه في (حياة الحيوان حينما ولي الشام يتعلق في تسويته بين القحطانية والعدنانية ، وذكر الجهشياري في : (الوزراء والكتاب ص 188) ، أن السندي في أيام هارون كان يلي الجسرين في بغداد ، وقد وكل بحراسة دور البرامكة لما أراد هارون النكبة بهم وجاء في (المصايد والمطارد ص 7) ، كان له ولدان : الحسين وإبراهيم ، وله حفيد الشاعر المعروف والكاتب المشهور كشاجم كان من ألمع شخصيات عصره في أدبه وعلمه ومن المتفانين في حب آل محمد (عليهم السلام) ، وجاء في (الكنى والألقاب ج 3 ، ص 93) ، أن كشاجم كان من شعراء أهل البيت (عليهم السلام) المجاهدين وله في مدح آل محمد قصائد مشهورة ، وذكر ابن شهر اشوب في (المناقب) أن الله سبحانه وتعالى انتقم من السندي في اليوم الذي توفي فيه الإمام (عليه السلام) فقد نفر فرسه به وألقاه في نهر دجلة فمات فيه.
(2) باب الكوفة : هو أحد الأبواب الأربعة الرئيسية لمدينة بغداد حينما بناه المنصور ، وقد بنى على كل باب قبة مذهبة ، وحولها مجالس ومرتفعات يجلس فيها فيشرف على كل ما يعمل به ، وباب الكوفة هو الطريق الذي يسلك فيه إلى الحج ، وكان باباً عظيماً لا يغلقه إلا جماعة من الناس ، ولما غرقت بغداد في فيضان 330 هـ هدمت طاقات باب الكوفة ، وجاء ذلك في خارطة بغداد أن باب الكوفة تقع في قرية الوشاش الحديثة في محلة الكرخ.
وقال بعض العراقيين أن المحل الذي سجن فيه الإمام معروف عند بعض الأوساط وهو أحد قصور آل الباججي.
(3) البحار ، ج 11 ، ص 300.
(4) نفسه ، ج 11 ، ص 305.
(5) هو أبو يوسف يعقوب بن إسحاق الدورقي الأهوازي الإمامي النحوي اللغوي ، كان ثقة جليلاً من عظماء الشيعة ، ويعد من خواص الإماميين التقيين وكان حامل لواء علم العربية ، والأدب ، والشعر ، له تصانيف كثيرة منها : تهذيب الألفاظ ، إصلاح المنطق ، قال ابن خلكان : قال بعض العلماء ما عبر على جسر بغداد كتاب من اللغة مثل (إصلاح المنطق) ولا شك إنه من الكتب النافعة الممتعة الجامعة لكثير من اللغة ولا نعرف في حجمه مثله في بابه ، وقد عني به جماعة ، واختصره الوزير المغربي ، وهذبه الخطيب التبريزي ، وقال ثعلب : أجمع أصحابنا أنه لم يكن يعد ابن الأعرابي أعلم باللغة من ابن السكّيت ، قتله المتوكل في 5 رجب سنة 244 هـ ، وسبب قتله أنه قال له يوماً : أيهما أحب إليك ابناي هذان ، أي المعتز والمؤيد ، أم الحسن والحسين ، فقال ابن السكّيت : والله أن قنبر خادم علي بن أبي طالب (عليه السلام) خير منك ومن ابنيك ، فقال المتوكل للأتراك : سلّوا لسانه من قفاه ففعلوا ذلك فمات ، ومن الغريب أنه قبل قتله بقليل قال :
يـصاب  الفتى من عثرة iiبلسانه      ولـيس يصاب من عثرة iiالرجل
فـعثرته  في القول تذهب iiرأسه      وعثرته في الرجل تبرأ عن مهل
جاء ذلك في الكنى والألقاب : ج 1 ، ص 303 ـ 304.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 217 _

  ـ نعم.
  يقول أبو الأزهر فعرفنا الرجل من الشيعة ، وإنه يذهب إلى الإمامة فقلنا له : قد سترنا عليك ، وطلبنا منه أن يذهب عنا لئلا نبتلي بسببه فانبرى الرجل لنا وقال : (والله لا يفعلون ذلك أبداً ، والله ما قلت لكم إلا بأمره ، وإنه ليرانا ويسمع كلامنا ، ولو شاء أن يكون ثالثنا لكان).
  يقول أبو الأزهر : وفي أثناء الحديث دخل علينا رجل من باب المسجد تكاد العقول أن تذهب لهيبته ووقاره ، فعلمنا أنه الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) فبادرنا قائلاً : أنا ذلك الرجل الذي حدثكم عني صاحبي ، وفي الوقت أقبل السندي ومعه جماعة من شرطته فقال للإمام بغير حياء ولا خجل : (يا ويحك كم تخرج بسحرك وحيلتك من وراء الأبواب والأغلال فلو كنت هربت كان أحب إليّ من وقوفك ههنا أتريد يا موسى أن يقتلني الخليفة ؟).
  فقال له الإمام (عليه السلام) والتأثر باد عليه : (كيف أهرب ، وكرامتي ـ أي نيلي الشهادة ـ على أيديكم).
  ثم أخذ بيد الإمام (عليه السلام) وأودعه السجن.
  هكذا كانت حالة الإمام (عليه السلام) يساء إليه ويضيّق عليه وهو صابر محتسب قد كظم غيظه ، وبث همومه وأشجانه إلى الله تعالى.

تفرّغ الإمام (عليه السلام) للعبادة من جديد
  اعتاد الإمام (عليه السلام) على عذاب السجون من قبل الحكام الظالمين الطغاة ، فأقبل على العبادة ، يصوم في النهار ، ويقوم في الليل ، ويقضي أكثر أوقاته بالسجود والعبادة ، لا يفتر لسانه عن ذكر الله ، حتى أن أخت السندي لما رأت إقبال الإمام (عليه السلام) على الطاعة الخالصة والعبادة المستمرة أثر ذلك في نفسها ، وأصبحت من الصالحات ، وعند ذلك دبّت الرأفة في قلبها وأخذت تعطف على الإمام (عليه السلام) وتقوم بخدمته دون علم أخيها وكانت إذا نظرت إليه أرسلت الدموع مدراراً من عينيها وتقول : (خاب قوم تعرّضوا لهذا الرجل) (1) .

---------------------------
(1) النجاشي ، ص 319.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 218 _

اتصال العلماء بالإمام (عليه السلام)
  الإمام الكاظم (عليه السلام) ذلك الينبوع الغزير والمنهل الذي لا ينضب ماؤه كان مقصد العلماء والرواة والمحدثين ، اتصلوا به من طريق خفي فنهلوا من نمير علومه ، من هؤلاء نذكر موسى بن إبراهيم المروزي ، وقد سمح له السندي بذلك لأنه كان معلماً لولده ، وقد ألف المروزي كتاباً ممّا سمعه من الإمام (عليه السلام) ، واتصل به هند بن الحجاج وغيره من قادة الفكر الإسلامي ، كما دخل عليه من غلس الليل أبو يوسف ومحمد بن الحسن (1) وقد أراد اختباره في بعض المسائل المهمة ليطلعا على مدى علمه ولما استقر بهما المجلس جاء إلى الإمام (عليه السلام) أحد الموظفين في السجن فقال له : إن نوبتي قد فرغت وأريد الانصراف ، فإن كانت لك حاجة فأمرني أن آتيك بها غداً ، فقال (عليه السلام) : ليس لي حاجة انصرف ، فلما انصرف ، التفت (عليه السلام) إلى أبي يوسف وصاحبيه فقال لهما : (إني لأعجب من هذا الرجل يسألني أن أكلفه حاجة يأتيني بها غداً إذا جاء وهو ميت في هذه الليلة) فأمسكا عن سؤاله ، وقاما ، وقد استولى عليهما الذهول وجعل كل واحد منهما يقول لصاحبه : أردنا أن نسأله عن الفرض ، والسنة ، فأخذ يتكلم معنا في علم الغيب !!
  والله لنرسلن خلف الرجل من يبيت على باب داره لينظر ما ذا يكون من أمره ؟ وأرسلا في الوقت شخصاً فجلس على باب دار الرجل يراقبه فلما استقر في مكانه سمع الصراخ والعويل قد على من الدار ، فسأل عن الحادث فأخبر بأن الرجل قد توفى ، فقام مبادراً وأخبرهما بالأمر ، متعجباً من علم الإمام (عليه السلام).
  وقد روى هذه القصة العديد من رواة الأثر (2) وإن دلّت هذه الرواية على شيء فإنها تدل على علم الإمام بالمغيبات ، وانكشاف الحجاب له ، وهذا ما تعتقده الشيعة في الإمام فهو يرى بعين الله تعالى.
  إن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) قد أخبروا بالملاحم والأمور الغيبية التي تحققت كلها ، فهم بلا ريب ولا شك ورثة علم النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله) قد ألهمهم عزّ وجلّ جميع أنواع العلوم ، وأطلعهم على خفايا الأمور.

---------------------------
(1) محمد بن الحسن الشيباني ، مولاهم الكوفي الفقيه ، ولد بواسط ، ونشأ بالكوفة ، أخذ الفقه من أبي يوسف ثم من أبي حنيفة ، وسمع مالك بن أنس ، وأخذ عنه الشافعي وأبو عبيد وكان فقيهاً ، النجوم الزاهرة ، ج 2 ، ص 130 ، وأنباه الرواة ، ج 2 ، ص 268 ، توفي سنة 183 هـ هو والكسائي في يوم واحد ، دفنهما هارون ، رثاهما اليزيدي :
سيفنيك ما أفنى القرون التي مضت      فـكـن  مـستعداً فـالفناء iiعـتيد
أصـبت على قاضي القضاة iiمحمد      فـاذريت دمـعي والـفؤاد iiعـميد
وقـلت إذا ما الخطب أشكل من لنا      بـإيـضاحه يـوماً وأنـت iiفـقيد
وأوجـعني مـوت الـكسائي iiبعده      وكـادت  بـي أرض الفضاء iiتميد
(2) نور الأبصار ، ص 126 ـ 127 ، الاتحاف بحب الأشراف ، ص 57 ـ 58 ، البحار ، ج 11 ، ص 251 ، وجاء فيه زيادة على ذلك أنهما رجعا إلى الإمام (عليه السلام) فقالا له : قد علمنا أنك أدركت العلم في الحلال والحرام فمن أين أدركت أمر هذا الرجل الموكل بك أن يموت في هذه الليلة ؟ فقال (عليه السلام) : من الباب الذي علّمه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) علي بن أبي طالب (عليه السلام) فلما ردّ عليهما بذلك بقيا حائرين لا يطيقان الجواب ، وكذلك ذكره الأربلي في كشف الغمة ، ص 253.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 219 _

إرسال الفتاوى إلى الإمام (عليه السلام)
  كانت بعض الأقاليم الإسلامية التي تدين بالإمامة ترسل عنها مبعوثاً خاصاً إلى الإمام (عليه السلام) حينما كان في سجن السندي ، فتزوده بالرسائل والفتاوى فيجيبهم (عليه السلام) عنها ، وممن جاءه علي بن سويد ، اتصل بالإمام (عليه السلام) وسلّم إليه الكتب والفتاوى ، فأجابه (عليه السلام) عنها.

تعيين وكلاء الإمام (عليه السلام)
  عيّن الإمام (عليه السلام) جماعة من طلابه وأصحابه الذين يثق بهم وجعلهم وكلاء له في بعض المناطق الإسلامية ، ثم أومأ لشيعته بالرجوع إليهم لأخذ الأحكام الدينية منهم ، كما أذن لهم في أخذ الحقوق الشرعية ، لصرفها في مواضعها الشرعية على الفقراء والبائسين من الشيعة وإنفاقها في وجه البرّ والخير.
  فقد نصب المفضل بن عمر (1) وكيلاً له في قبض الحقوق وأذن له في صرفها على مستحقيها.

تعيين ولي عهده
  نصب الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) من بعده ولده الإمام الرضا (عليه السلام) فجعله علماً لشيعته ، مرجعاً لأمة جده (صلّى الله عليه وآله) ، فقد حدّث الحسين بن المختار قال : لما كان الإمام الكاظم (عليه السلام) في السجن خرجت لنا ألواح من عنده وقد كتب فيها (عهدي إلى أكبر ولدي) (2) .
  علماً أنه عيّن ولده الرضا (عليه السلام) من بعده وذلك قبل أن يعتقله الطاغية هارون ، وقلّده منصب الإمامة ، ودلّ عليه الخواص من شيعته ، فقد روى محمد بن زيد بن علي بن الحسين (عليه السلام) قال : دعانا أبو إبراهيم ونحن سبعة عشر من ولد علي وفاطمة ، فأشهدنا لعلي ابنه بالوصية والوكالة في حياته وبعد موته.
  لقد بيّن (عليه السلام) الحجة من بعده ، ولم يهمل أمر الإمامة لأن هذا واجب شرعي لكل إمام ، ولا يجوز أن تترك الأمة بدون إمام ، وبذلك يكون قد هدى شيعته إلى طريق الحق والصواب ، وقد جاء في حديث معروف عن الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله) بما معناه : (من مات ولم يعرف إمام زمانه مات موتة جاهلية).

---------------------------
(1) الجعفي الكوفي ، من كبار العلماء، ومن عيون المتقين الصالحين ، ومن أفذاذ عصره ، له المنزلة المرموقة والمكانة العليا عند أهل البيت (عليهم السلام) اقتبس العلوم من الإمام الصادق (عليه السلام) وكان من عيون أصحابه الذين اخذوا العلم عنه ويكفي على غزارة علمه كتابه القيّم المسمّى (توحيد المفضّل) الذي أملاه عليه الإمام الصادق (عليه السلام) ، يعد الكتاب من مفاخر التراث الإسلامي الذي يعتز به ، شرح توحيد المفضل ، ص 17.
(2) البحار ، وأصول الكافي ، عيون الأخبار.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 220 _

وصية الإمام الكاظم (عليه السلام)
  أوصى الإمام الكاظم (عليه السلام) ولده الإمام الرضا (عليه السلام) وعهد إليه بالأمر من بعده وقد أوصاه بوصية تتضمن ولايته على صدقاته ، ونيابته عنه في شؤونه الخاصة والعامة ، وقد أشهد عليها جماعة من المؤمنين الأعلام ، وقبل أن يدلي بها ويسجلها أمر بإحضار الشهود وهم : إبراهيم بن محمد الجعفري ، وإسحاق بن محمد الجعفري ، وإسحاق بن جعفر بن محمد ، وجعفر بن صالح ، ومحمد الجعفري ، ويحيى بن الحسين بن زيد ، وسعد بن عمران الأنصاري ومحمد بن الحارث الأنصاري ، ويزيد بن سليط الأنصاري ، ومحمد بن جعفر سعد الأسلمي ـ وهو كاتب الوصية ـ ولما حضر هؤلاء شرع بذكر وصيته ، وهذا نصها : (إن موسى يشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له ، وإن محمداً عبده ورسوله ، وإن الساعة آتية لا ريب فيها ، وإن الله يبعث من في القبور ، وإن البعث من بعد الموت حق ، وأن الوعد حق ، وإن الحساب حق ، والقضاء حق ، وإن الوقوف بين يدي الله حق ، وأن ما جاء به محمد (صلّى الله عليه وآله) حق ، وأن ما أنزل به الروح الأمين حق ، على ذلك أحيى وعليه أموت ، وعليه أبعث إن شاء الله ، وأشهدهم أن هذه وصيتي بخطي ، وقد نسخت وصية جدي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) ووصية محمد بن علي قبل ذلك نسختها حرفاً بحرف ، ووصية جعفر بن محمد ، على مثل ذلك ، وإني قد أوصيت بها إلى علي وبني بعده معه إن شاء وآنس منهم رشداً ، وأحب أن يقرهم فذاك له ، ولا أمر لهم معه ، وأوصيت إليه بصدقاتي وأموالي ومواليّ وصبياني الذي خلفت وولدي إلى إبراهيم والعباس وقاسم وإسماعيل وأحمد وأم أحمد ، وإلى علي أمر نسائي دونهم ، وثلث صدقة أبي وثلثي يضعه حيث يرى ، ويجعل فيه ما يجعل ذو المال في ماله ، فإن أحب أن يبيع أو يهب أو ينحل أو يتصدّق بها على من سمّيت له وعلى غير من سمّيت فذاك له ، وهو أنا في وصيتي في مالي ، وفي أهلي وولدي وإن يرى أن يقر أخوته الذين سميتهم في كتابي هذا أقربهم ، وإن كره فله أن يخرجهم غير مثرب (1) عليه ، ولا مردود ، فإن آنس منهم غير الذي فارقتهم عليه فأحب أن يردهم في ولاية فذاك له ، وإن أراد رجل منهم أن يزوج أخته فليس له أن يزوجها إلا بإذنه وأمره فإنه أعرف بمناكح قومه ، وأي سلطان أو أحد من الناس كفه عن شيء أو حال بينه وبين شيء ممّا ذكرت فهو من الله ومن رسوله بريء ، والله ورسوله منه براء ، وعليه لعنة الله وغضبه ولعنة اللاعنين والملائكة المقربين والنبيين والمرسلين وجماعة المؤمنين ، وليس لأحد من السلاطين أن يكفه عن شيء ، وليس لي عنده تبعة ، ولا تباعة ، ولا لأحد من ولدي وله قبلي مال ، فهو مصدق فيما ذكر ، فإن أقل فهو أعلم ، وإن أكثر فهو الصادق كذلك ، وإنما أردت بإدخال الذين أدخلتهم معه من ولدي التنويه بأسمائهم ، والتشريف لهم ، وأمهات أولادي من أقامت منهنّ في منزلها وحجابها فلها ما كان يجري عليها في حياتي ، إن رأى ذلك ، ومن خرجت منهنّ إلى زوج فليس لها أن ترجع إلى محواي (2) إلا أن يرى عليّ غير ذلك ، وبناتي بمثل ذلك ، ولا يزوّج بناتي أحد من إخوتهن ، من أمهاتهن ، ولا سلطان ولا عم إلا برأيه ومشورته ، فإن فعلوا غير ذلك فقد خالفوا الله ورسوله ، وجاهدوا في ملكه ، وهو أعرف بمناكح قومه ، فإن أراد أن يزوّج زوّج وإن أراد أن يترك ترك ، وقد أوصيتهنّ بما ذكرت في كتابي هذا ، وجعلت الله عزّ وجلّ عليهنّ شهيداً ، وهو وأم أحمد شاهدان وليس لأحد أن يكشف وصيتي ، ولا ينشرها ، وهو منها على غير ما ذكرت وسمّيت ، فمن أساء فعليه ، ومن أحسن فلنفسه ، وما ربّك بظلاّم للعبيد ، وصلّى الله على محمد وعلى آله ، وليس لأحد من سلطان ولا غيره أن يفض كتابي هذا الذي ختمت عليه الأسفل ، فمن فعل ذلك فعليه لعنة الله وغضبه ولعنة اللاعنين ، والملائكة المقربين ، وجماعة المرسلين والمؤمنين ، وعلى من فضّ كتابي هذا) (3) .
  ووقع عليه السلام الوصية وختمها ، وكذلك وقّع عليها الشهود السالفة أسماؤهم ، وواضح أن وصيّه والحجة من بعده ولده الإمام الرضا (عليه السلام) فقد فوّض إليه جميع شؤونه ، وألزم أبناءه بإتباعه والانصياع لأوامره ، كما أمر (عليه السلام) أن يكون زواج كريماته بيد الإمام الرضا (عليه السلام) وتحت مشورته ورأيه فإنه أعرف بمناكح قومه من غيره فإنّهنّ ودائع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وكريماته فينبغي أن لا يتزوّجن إلا بمؤمن تقي يعرف مكانتهنّ ويقدّر منزلتهنّ ولا يعرف الكفؤ لهنّ إلا ولده الرضا ، وأكبر الظن أنه إنما أمر بإخفاء وصيته وعدم ذيوعها خوفاً على ولده من السلطة العباسية التي لم تقصر أبداً في محاربة أهل البيت (عليهم السلام) لذلك أراد إخفاءها خوفاً من نقمتهم عليه وتنكيلهم به.

---------------------------
(1) مثرب ، مأخوذ من التثريب وهو التوبيخ والتعبير.
(2) المحوى ، اسم المكان الذي يحوي الشيء أي الذي يضمه.
(3) أصول الكافي ، ج 1 ، ص 316 ـ 317 والبحار.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 221 _

أوقافه وصدقاته
  تصدّق الإمام (عليه السلام) ببعض أراضيه على أولاده وسجّل ذلك في وثيقة ، والزم أبناءه بتنفيذ مضامينها ، والعمل على وقفها ، وهذا نصها : بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا ما تصدّق به موسى بن جعفر بأرضه مكان كذا وكذا ـ وقد عيّن ذلك ـ كلها : نخلها وأرضها وماؤها وأرجاؤها وحقوقها وشربها من الماء وكل حق هو لها في مرفع (1) أو مطهر (2) أو عيص (3) أو مرفق أو ساحة أو مسيل أو عامر أو غامر (4) تصدّق بجميع حقه من ذلك على ولده من صلبه الرجال والنساء يقسم واليها ما أخرج الله عزّ وجلّ من غلتها بعد الذي يكفيها من عمارتها ومرافقها وبعد ثلاثين عذقاً يقسم في مساكين أهل القرية ، بين ولد موسى بن جعفر للذكر مثل حظ الأنثيين ، فإن تزوجت امرأة من ولد موسى بن جعفر فلا حقّ لها في هذه الصدقة حتى ترجع إليها بغير زوج ، فإن رجعت كان لها مثل حظ التي لم تتزوج من بنات موسى ، ومن توفي من ولد موسى وله ولد فولده على سهم أبيهم للذكر مثل حظ الأنثيين على مثل ما شرط موسى بين ولده من صلبه ، ومن توفي من ولد موسى ولم يترك ولداً رد حقه على أهل الصدقة وليس لولد بناتي في صدقتي هذه حق إلا أن يكون آباؤهم من ولدي ، وليس لأحد في صدقتي حق مع ولدي وولد ولدي وأعقابهم ما بقي منهم أحد ، فإن انقرضوا ولم يبق منهم أحد فصدقتي على ولد أبي من أمي ما بقي منهم أحد ، ما شرطت بين ولدي وعقبى ، فإن انقرض ولد أبي من أمي وأولادهم فصدقتي على ولد أبي وأعقابهم ما بقي منهم أحد فإن لم يبق منهم أحد فصدقتي على الأولى فالأولى حتى يرث الله الذي يرثها وهو خير الوارثين.
  تصدّق الإمام موسى بن جعفر بصدقته هذه وهو صحيح ، صدقة حبيساً بتاً لا مثنوية فيها (5) ، ولا رداً أبداً ابتغاء وجه الله تعالى والدار الآخرة ولا يحلّ لمؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيعها أو يبتاعها أو ينحلها أو يغير شيئاً ممّا وضعتها عليه حتى يرث الله الأرض ومن عليها وجعل صدقته هذه إلى علي وإبراهيم فإن انقرض أحدهما دخل القاسم مع الباقي في مكانه ، فإن انقرض أحدهما دخل إسماعيل مع الباقي منهما ، فإن انقرض أحدهما دخل العباس مع الباقي منهما ، فإن انقرض أحدهما فالأكبر من ولدي يقوم مقامه فإن لم يبق من ولدي إلا واحد فهو الذي يقوم به ...) (6) .
  هذا الموقف الذري هو بعض ميراثه وخيراته ، وقد خص به أبناءه وذريته لأجل أن تقوم تلك الغلة بشؤونهم وتغنيهم عما في أيدي الناس.

ترفع الإمام من المطالبة بإطلاق سراحه
  مكث الإمام (عليه السلام) زمناً طويلاً في سجن هارون ، فطلب منه جماعته من شيعته الخاصة أن يتصل مع بعض الشخصيات المقرّبة عند هارون ليتوسطوا في إطلاق سراحه ، فترفّع وامتنع عن ذلك وقال لهم : (حدّثني أبي عن آبائه أن الله جل وعلا أوصى إلى داود أنه ما اعتصم عبد من عبادي بأحد من خلقي دوني وعرفت ذلك منه إلا قطعت عنه أسباب السماء ، وأسخت الأرض من تحته) (7) .

---------------------------
(1) المكان الرتفع.
(2) المطهر : المصعد.
(3) العيص : الشجر الكثير.
(4) الغامر : الخراب.
(5) لا مثنوية فيها : أي لا استثناء.
(6) البحار ، ج 11 ، ص 215 ـ 216.
(7) تاريخ اليعقوبي ، ج 3 ، ص 125.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 222 _

  تدل هذه البادرة من الإمام المعصوم (عليه السلام) على مدى إيمانه بالله سبحانه وتعالى ، وانقطاعه إليه ، ورضائه بقضائه ، وترفّعه من سؤال أي أحد من المخلوقين.
  لقد تذكر (عليه السلام) قول جدّه الرسول الأكرم عندما قال (اللهم أكفنا ذل السؤال) وقوله (صلّى الله عليه وآله) : (اليد العليا خير من اليد السفلى) وما حدث مع الإمام (عليه السلام) عكس ما طلب منه لقد أرسل كتاباً إلى هارون وهو في السجن يعبر فيه عن سخطه.

كتابه لهارون
  أرسل الإمام (عليه السلام) وهو في السجن رسالة لهارون الطاغية أعرب فيها عن سخطه البالغ عليه ، قال فيها : (إنه لن ينقضي عني يوم من البلاء حتى ينقضي عنك يوم من الرخاء ، حتى نفنى جميعاً إلى يوم ليس له انقضاء وهناك يخسر المبطلون) (1) .
  في هذه الحياة تحمّل الإمام (عليه السلام) الآلام المبرحة والجزع الدائم من السجن لكنه سوف ينتظر اليوم العظيم الذي سيحاكم فيه خصمه الطاغية عند الله ، يوم يخسر فيه المبطلون والظالمون.

إغراء وفتنة
  أرسل هارون إلى الإمام في سجنه جارية بارعة في الجمال ، بيد أحد خواصه لتتولى خدمته ، علّ الإمام يفتتن بحسنها في اعتقاد هارون.
  فلما وصلت إليه قال (عليه السلام) لمبعوث هارون : (قل لهارون : بل أنتم بهديتكم تفرحون (2) ، لا حاجة لي في هذه ولا في أمثالها) فرجع الخادم ومعه الجارية وأبلغ هارون قول الإمام فغضب غضباً شديداً وقال للخادم : ارجع إليه وقل له : ليس برضاك حبسناك ، ولا برضاك أخدمناك ، واترك الجارية عنده وانصرف).
  رجع رسول هارون وترك الجارية الحسناء عند الإمام ، وأبلغه بمقالته ثم أنفذ هارون خادماً إلى السجن ليراقب ويتفحص حال الجارية ، فلما انتهى إليها رآها ساجدة لا ترفع راسها وهي تقول : (قدّوس ، قدّوس) فمضى الخادم مسرعاً وأخبر هارون بحالها فقال : سحرها والله موسى بن جعفر عليّ بها !!).
  فجيء بها إليه ، وهي ترتعد خوفاً فشخصت ببصرها نحو السماء وهي تذكر الله وتمجّده ، فقال لها هارون : ما شأنك ؟
  قالت : شأني الشأن البديع ، إني كنت عنده واقفة ، وهو قائم يصلّي ليله ونهاره ، فلما انصرف من صلاته قلت له : هل لكَ حاجة أعطيكه ا؟ فقال (عليه السلام) : وما حاجتي إليكِ ؟

---------------------------
(1) البداية والنهاية ، ج 10 ، ص 183 ، راجع سورة الجاثية ، الآية 27.
(2) راجع سورة النمل ، الآية 35.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 223 _

  قلت : إني أدخلت عليك لحوائجك ، قال الإمام (عليه السلام) : فما بال هؤلاء ـ وأشار بيده إلى جهة ـ فالتفت ، فإذا روضة مزهرة لا أبلغ آخرها من أولها بنظري ، ولا أولها من آخرها ، فيها مجالس مفروشة بالوشي والديباج ، وعليها وصائف ووصايف لم أرَ مثل وجوههم حسناً ، ولا مثل لباسهم لباساً ، عليها الحرير الأخضر ، والأكاليل والدرّ والياقوت وفي أيديهم الأباريق والمناديل ، ومن كل الطعام فخررت ساجدة حتى أقامني هذا الخادم فرأيت نفسي حيث كنت ، فقال لها هارون والحقد يتطاير من عينيه لأن مؤامرته باءت بالفشل فقال : يا خبيثة لعلّك سجدت فنمتِ فرأيتِ هذا في منامك.
  فقالت : لا والله يا سيدي ، رأيت هذا قبل سجودي ، فسجدت من أجل ذلك.
  فالتفت هارون إلى خادمه ، وأمره باعتقال الجارية ، ليخفى الحادث تماماً ، لئلا يسمعه الناس ، فأخذها الخادم ، واعتقلها عنده ، فأقبلت على العبادة والصلاة ، فإذا سئلت عن ذلك قالت : هكذا رأيت العبد الصالح ، وقالت إني لما عاينت من الأمر نادتني الجواري يا فلانة ، إبعدي عن العبد الصالح حتى ندخل عليه فنحن له دونك ، وبقيت عاكفة على العبادة حتى لحقت بالرفيق الأعلى (1)
  تبارك الله بهذا الإمام العظيم الذي يغيّر أسماء الأشياء من قبيح إلى جميل ومن سيء إلى حسن ومن شرير إلى صالح ومن كافر إلى مؤمن ، كل ذلك بعمق إيمانه ولطف محبته وسمو أخلاقه وغزارة علمه فكانت له تلك الكرامات بين الناس جميعاً.
  فحارسه انقلب إلى صديق والجارية الخليعة انقلبت إلى مؤمنة صالحة.
  لكن هارون الطاغية ، هارون اللئيم ، هارون العنيد ألم يشاهد أنواع هذه الكرامات للإمام (عليه السلام) ؟ فلماذا لم يؤمن بها ؟
  ولماذا زاغ قلبه ؟ ولما استولت على نفسه دكنة قاتمة أنسته ذكر الله واليوم الآخر ؟ كل ذلك حب الجاه والسلطان ، حب المال والدنيا الفانية !!

محاولة اغتيال فاشلة :
  تحدث الناس في مناقب الإمام (عليه السلام) وانتشرت فضائله بين الجموع وأصبح أحدوثة العصر بعلمه وحلمه ، وصبره وبلواه ، ضاق صدر هارون من ذلك وعقد العزم على اغتيال الإمام المظلوم ثانية فدعا برطب فأكل منه ثم أخذ إناءً ووضع فيه عشرين رطبة ، وأخذ سلكاً فعركه في السم وأدخله في سم الخيّاط ، وأخذ رطبة من ذلك الرطب فوضع فيها ذلك السلك وأخرجه منها حتى تكللت بالسم ، ووضعها مع ذلك الرطب وقال لخادمه : احمله إلى موسى بن جعفر ، وقل له : إن أمير المؤمنين أكل من ذلك الرطب ، وهو يقسم عليك بحقه لما أكلته عن آخره ، فإني اخترتها لك بيدي ، ولا تتركه يبقي منها شيئاً ولا يطعم منها أحداً ، فحمل الخادم الرطب وجاء به إلى الإمام ، وأبلغه برسالة هارون ، فأمره (عليه السلام) أن يأتيه بخلال ، فجاء به إليه ، وقام بإزائه فأخذ الإمام يأكل من الرطب ، وكانت لهارون كلبة عزيزة عنده ، فجذبت نفسها وخرجت تجرّ سلاسلها الذهبية حتى حاذت الإمام (عليه السلام) فبادر بالخلال إلى الرطبة المسمومة ورمى بها إلى الكلبة فأكلتها فلم تلبث إن ضربت بنفسها الأرض وماتت للحال ، وأكمل الإمام في أكل باقي الرطب ، والخادم ينظر إليه مشدوهاً ، حمل الإناء إلى هارون فلما رآه بادره قائلاً : قد أكل الرطب عن آخره ؟ ـ نعم يا أمير المؤمنين.

---------------------------
(1) المناقب ، ج 2 ، ص 263 ـ 264.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 224 _

  ـ كيف رأيته ؟
  ـ ما أنكرت منه شيئاً ، ثم قصّ عليه حديث الكلبة وطريقة موتها فقام هارون بنفسه ليشرف عليها ، لأنها عزيزة على قلبه كثيراً ، فرآها اهترأت أمعاؤها وتقطعت من السم فوقف مذهولاً وقد سرت الرعدة بأوصاله والشرر ينزف من عينيه وقال : (ما ربحنا من موسى إلا أن أطعمنا جيد الرطب وضيعنا سمنا وقتلنا كلبتنا ما في موسى حيلة) (1) .
  لقد فشل في مشروعه الخسيس ولم تنجح محاولته في اغتيال الإمام (عليه السلام) والله سبحانه وتعالى قد أنقذه منه وصرف عنه السوء ، ولا ندري من أين تعلم طريقة الاغتيال بالسم ؟ فيجوز أنه اطلع على تاريخ معاوية بن أبي سفيان واستعماله السم في اغتيال الأئمة (عليهم السلام) وهو القائل : (إن لله جنوداً من عسل) (2) .

وساطة فاشلة عن نفس علوية أبية
  لقد احتار هارون في أمره فكل وسيلة سلكها للقضاء على الإمام (عليه السلام) تبوء بالفشل ، فاستدعى وزيره يحيى بن خالد بعد أن انتشرت معاجز الإمام ومناقبه وتحدث الناس عن مناقبه وكراماته ، فقال له : (يا أبا علي أما ترى ما نحن فيه من هذه العجائب ؟ ألا تدبر في أمر هذا الرجل تدبيراً يريحنا من غمه).
  فأشار عليه يحيى بالصواب وأرشده إلى الخير فقال له : (الذي أراه لك يا أمير المؤمنين أن تمنّ عليه وتصل رحمه فقد والله أفسد علينا قلوب شيعته).
  فاستجاب هارون لنصيحة وزيره وقال له : انطلق إليه وانزع عنه الحديد وأبلغه عني السلام وقل له : يقول لك ابن عمك : إنه قد سبق مني فيك يمين إني لا أخليك حتى تقرّ لي بالإساءة وتسألني العفو عما سلف منك وليس عليك في إقرارك عار ولا في مسألتك إيّاي من منقصة ، وهذا يحيى بن خالد ثقتي ووزيري وصاحب أمري فاسأله بقدر ما أخرج من يميني).
  أراد هارون أن يأخذ من الإمام اعترافاً بالذنب والإساءة ليصدر مرسوماً ملكياً بالعفو عنه ، فيكون قد اتخذ بذلك وسيلة إلى التشهير بالإمام من جهة ، ومن جهة ثانية يكون له مبرراً في الوقت نفسه على سجنه له ، لم يخف على الإمام (عليه السلام) ذلك ، فلما مثل يحيى وأخبره بمقالة هارون انبرى إليه الإمام (عليه السلام) وقال له : (سأخبرك بما سيجري عليك وعلى أسرتك من زوال النعمة على يد هارون ، وشدة النقمة ، فأحذرك من بطشه ومن الغدر بك فجأة) ثم ردّ على مقالة هارون فقال ليحيى : (يا أبا علي ، أبلغه عني ، يقول لك موسى بن جعفر يأتيك رسولي يوم الجمعة فيخبرك بما ترى ـ أي بموته ـ وستعلم غداً إذا جاثيتك بين يدي الله من الظالم والمعتدي على صاحبه ؟).
  خرج يحيى وهو لا يبصر طريقه من الحزن والجزع فأخذ يبكي لما رأى الإمام (عليه السلام) ابن بنت رسول الله بتلك الحالة ، فأخبر هارون بمقالته ، فقال الطاغية مستهزئاً ساخراً : (إن لم يدع النبوة بعد أيام فما أحسن حالنا!).
  ولم يمض أسبوع حتى التحق الإمام (عليه السلام) بالرفيق الأعلى كما أخبر (3)

---------------------------
(1) البحار ، ج 11 ، ص 299.
(2) كان يخلط السم في شراب العسل ويقدمه لمن يزيد اغتياله.
(3) البحار ، ج 2 ، ص 301 ـ 302.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 225 _

الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) ينعي نفسه
  علم الإمام المعصوم موسى بن جعفر أن لقاءه بربّه أصبح قريباً ، فنعى نفسه لبعض شيعته الخاصة ، وعزّاهم بمصيبته بدل أن يعزّوه ، فأوصاهم بالتمسك بالعروة الوثقى من آل محمد (صلّى الله عليه وآله) وذلك في جوابه عن المسائل التي بعثها إليه علي بن سويد (1) حينما كان في السجن ، فيها بعض المسائل يسأله عنها ، فأجابه (عليه السلام) بهذا الجواب : بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله العلي العظيم الذي بعظمته ونوره أبصر قلوب المؤمنين ، وبعظمته ونوره عاداه الجاهلون ، وبعظمته ونوره ابتغى من في السماوات والأرض إليه الوسيلة بالأعمال المختلفة ، والأديان المتضادة ، فمصيب ومخطئ وضال ومهتدي ، وسميع وأصم ، وبصير وأعمى فالحمد لله الذي عرف ووصف دينه بمحمد (صلّى الله عليه وآله).
  أما بعد ، فإنك امرؤ أنزلك الله من آل محمد بمنزلة خاصة ، وحفظ مودة ما استرعاك من دينه ، وما ألهمك من رشدك ، وبصّرك من أمر دينك بتفضيلك إياهم ، وبردّك الأمور إليهم ، كتبت إلى تسألني عن أمور كنت منها في تقية ، ومن كتمانها في سعة ، فلما انقضى سلطان الجبابرة وجاء سلطان ذي السلطان العظيم بفراق الدنيا المذمومة إلى أهلها العتاة على خالقهم ، رأيت أن أفسّر لك ما سألتني عنه مخافة أن تدخل الحيرة على ضعاف شيعتنا من قبل حبها لهم ، فاتق الله عزّ ذكره ، وخصّ بذلك الأمر أهله ، وأحذر أن تكون سبب بلية على الأوصياء أو حارشاً عليهم (2) بإفشاء ما استودعتك ، وإظهار ما استكتمتك وإن تفعل إن شاء الله.
  إن أول ما أنهى إليك أني أنعي إليك نفسي في ليالي هذه ، غير جازع ولا نادم ولا شاك فيما هو كائن ممّا قد قضى الله عزّ وجلّ وختم ، فاستمسك بعروة الدين ، آل محمد والعروة الوثقى الوصي بعد الوصي ، والمسالمة لهم ، والرضا بما قالوا : ولا تلتمس دين من ليس من شيعتك ، ولا تحب دينهم ، فإنهم الخائنون الذين خانوا الله ورسوله ، وخانوا أمانتهم ، أو تدري ما خانوا أمانتهم ؟
  إئتمنوا على كتاب الله فحرّفوه ، ودلّوا على ولاة الأمر منهم فانصرفوا عنهم ( فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ) (3) وسألت عن رجلين اغتصبا رجلاً مالاً كان ينفقه على الفقراء والمساكين وأبناء السبيل وفي سبيل الله فلما اغتصباه ذلك لم يرضيا حيث غصباه حتى حملاه إيّاه كرهاً فوق رقبته إلى منازلهما فلما أحرزاه توليا إنفاقه أيبلغان بذلك كفراً ؟
  فلعمري لقد نافقا قبل ذلك وردا على الله عزّ وجلّ كلامه ، وهزئا برسوله (صلّى الله عليه وآله) وهما الكافران عليهما لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، والله ما دخل قلب أحد منهما شيء من الإيمان منذ خروجهما من حالتيهما ، وما زادا إلا شكاً ، كانا خداعين مرتابين منافقين حتى توفتهما ملائكة العذاب إلى محل الخزي في دار المقام.
  وسألت عمن حضر ذلك الرجل وهو يغصب ماله ويوضع على رقبته منهم عارف ومنكر فأولئك أهل الردة الأولى من هذه الأمة فعليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.

---------------------------
(1) السائي نسبة إلى ساية من قرى المدينة ، روى عن أبي الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام) وقيل أنه روى عن أبي جعفر ، وروى رسالة لأبي الحسن موسى (عليه السلام) ، راجع النجاشي ، ص 211.
(2) التحريش : هو إغراء بعض القوم ببعض.
(3) سورة النحل ، الآية 112.