فسكت ضرار أمام هذا المنطق المدعم بالدليل العقلي.
  هذه بعض مناظرات لهذا العالم الكبير الذي فتق بها مباحث الفلسفة الكلامية ، وبقيت من بعده مدداً مفيداً لكل من أراد الخوض في مثل هذه البحوث ، وقد بقي جماعة يناظرون على مبادئه حتى في عصور متأخرة ، نذكر منهم : أبا عيسى محمد بن هارون الوراق ،وأحمد بن الحسين الراوندي وغيرهما ... وقد وضع هذا الأخير كتابه : (فضيحة المعتزلة) هاجم فيه الآراء الاعتزالية ورجالها مهاجمة شديدة ، معتمداً في كثير منها على آراء هشام ، كما يظهر تأثيره من كتابه الذي وضعه في حدوث العلم ، ونجد أثر ذلك في دفاع المعتزلة أنفسهم الذين عنوا بردها ونقضها ومنهم بشر بن المعتمر من أفضل علماء المعتزلة ، فقد وضع كتاباً في الرد على هشام بن الحكم (1)
  وفاته : مؤامرة من يحيى بن خالد البرمكي حيث جمع المتكلمين واختفى هارون وراء الستر ولا يعلم بذلك هشام ، ثم جرت بينه وبين الفلاسفة مناظرة : حول الإمامة ، وأخيراً وبعد حوار طويل بينه وبينهم صرح هشام بأن الإمام إذا أمره بحمل السيف أذعن بقوله ولبى طلبه ، ولما سمع الرشيد بذلك تغيرت حاله واستولى عليه الغضب ، فأمر بإلقاء القبض على هشام وعلى أصحابه ، وعلم بما ضمر له من الشر ، فهام على وجهه فزعاً مرعوباً حتى انتهى إلى الكوفة ، فاعتلّ فيها ومات في دار ابن شراف (2)

---------------------------
(1) هشام بن الحكم ، ص 221.
(2) الفهرست ، ص 264.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 172 _

  مؤلفاته : كان هشام خصب الإنتاج ألف في مختلف الفنون والعلوم وبرز الجميع بها ، لكن إن أغلب تراثه العلمي لم يعثر عليه سوى اليسير ، وهذه بعض عناوينها :
  1) كتاب الإمامة.
  2) كتاب الدلالات على حدوث الأشياء.
  3) كتاب الرد على الزنادقة.
  4) كتاب على أصحاب الاثنين.
  5) كتاب التوحيد.
  6) كتاب الرد على هشام الجواليقي.
  7) كتاب الرد على أصحاب الطبائع.
  8) كتاب الشيخ والغلام.
  9) كتاب التدبير.
  10) كتاب الميزان.
  11) كتاب الميدان.
  12) كتاب الرد على من قال بإمامة المفضول.
  13) كتاب اختلاف الناس في الإمامة.
  14) كتاب الوصية والرد على من أنكرها.
  15) كتاب الجبر والقدر.
  16) كتاب الحكمين.
  17) كتاب الرد على المعتزلة في طلحة والزبير.
  18) كتاب القدر.
  19) كتاب الألفاظ.
  20) كتاب المعرفة.
  21) كتاب الاستطاعة.
  22) كتاب الثمانية أبواب.
  23) كتاب الرد على بعض الأصحاب.
  24) كتاب الأخبار كيف تفتح.
  25) كتاب الرد على أرسطاليس في التوحيد.
  26) كتاب الرد على المعتزلة (1)
  27) كتاب المجالس في الإمامة.
  28) كتاب علل التحريم
  29) كتاب الرد على القدرية ، وقد اطلع عليه الإمام موسى (عليه السلام)
  فقال : (ما ترك شيئاً).
  30) كتاب الفرائض (2)

---------------------------
(1) الفهرست ، ص 264.
(2) النجاشي ، ص 338.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 173 _

  وهذه المجموعة الضخمة من المؤلفات في شتى المواضيع تدل على ثروة هشام بن الحكم العلمية وعلى سعة إطلاعه وعمق ثقافته ، ويكفي مناظراته القيّمة التي خاضها مع علماء الأديان والمذاهب وكبار الفلاسفة.
  (ي)
  71 ـ يحيى بن عبد الرحمن
  الأزرق ، كوفي ، ثقة ، روى عن أبي عبد الله وأبي الحسن له كتاب يرويه عدّة من أصحابنا ووثّقه جماعة من الأعلام (1)
  72 ـ يحيى بن عمران
  ابن علي بن أبي شعبة الحلبي ، روى عن أبي عبد الله وأبي الحسن (عليه السلام) ثقة ، صحيح الحديث ، له كتاب يرويه جماعة ووثّقه أكثر المترجمين له (2)
  73 ـ يزيد بن سليط
  عدّه الشيخ في رجاله والكشي وغيرهما من أصحاب الإمام الكاظم وذكر بعضهم أنه من خاصة الإمام ومن ثقاته ، ومن أهل الورع والعلم والفقه وأحد الراوين النص على إمامة الإمام الرضا (عليه السلام) وله حديث طويل مع الإمام الكاظم (عليه السلام) (3)
  74 ـ يونس بن عبد الرحمن
  مولى علي بن يقطين من كبار علماء الأمة الإسلامية ، كان وحيد عصره في تقواه وورعه ، تربّى في مدرسة الإمام الكاظم ، وأخذ منه العلوم والمعارف ، ومن بعده اختص بولده الإمام الرضا (عليه السلام).
  ولادته : كانت ولادته في أيام هشام بن عبد الملك (4)
  نشأته : نشأ يونس على التقوى والصلاح وتغذى من علوم أهل البيت (عليهم السلام) وكان في جميع أدوار حياته مثالاً للتكامل الإنساني ، قضى حياته في تحصيل العلوم من منبعها ، من أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ، وقد وردت في حقه والثناء عليه أخبار كثيرة من الأئمة (عليهم السلام).
  روى عبد العزيز المهتدي قال : سألت الإمام الرضا (عليه السلام) فقلت له : إني لا ألقاك فمن آخذ معالم ديني ؟ فقال (عليه السلام) : خذ عن يونس بن عبد الرحمن (5)
  وقال عنه أيضاً : يونس في زمانه كسلمان في زمانه.
  وعن الإمام الجواد (عليه السلام) : أنه تصفّح كتاب يونس (يوم وليلة) فردّد قائلاً : رحم الله يونس (6)

---------------------------
(1) النجاشي ، ص 346 ، والخلاصة ، والحاوي ، والبلغة.
(2) النجاشي ، ص 346 ، والحاوي ، والفهرست ، والوجيزة.
(3) منهج المقال ، ص 374 ، وتنقيح المقال ، ج 3 ، ص 326.
(4) النجاشي ، ص 348.
(5) الكشي ، ص 301.
(6) نفسه.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 174 _

  علمه : كان علاّمة زمانه ، كما قال ابن النديم (1) ، اعترف له جميع المترجمين بغزارة علمه ، وسعة اطلاعه ويقال أنه انتهى علم الأئمة (عليهم السلام) إلى أربعة نفر وهم : سلمان الفارسي ، وجابر ، والسيد ، ويونس بن عبد الرحمن.
  مؤلفاته : ألّف يونس كتباً كثيرة دلّت على تضلعه في كثير من العلوم ، وهذه بعض مؤلفاته :
  1 ـ كتاب يوم وليلة عرض الكتاب على أبي محمد العسكري (عليه السلام) فقال : أعطاه الله بكل حرف نوراً يوم القيامة (2)
  2 ـ كتاب علل الأحداث.
  3 ـ كتاب الصلاة.
  4 ـ كتاب الصيام.
  5 ـ كتاب الزكاة.
  6 ـ كتاب الوصايا والفرائض.
  7 ـ كتاب جامع الآثار.
  8 ـ كتاب البداء (3) .
  9 ـ كتاب السهو.
  10 ـ كتاب الأدب والدلالة على الخير.
  11 ـ كتاب الفرائض.
  12 ـ كتاب الجامع الكبير في الفقه.
  13 ـ كتاب التجارات.
  14 ـ كتاب تفسير القرآن.
  15 ـ كتاب الحدود.
  16 ـ كتاب الأدب.
  17 ـ كتاب المثالب.
  18 ـ كتاب علل النكاح وتحليل المتعة.
  19 ـ كتاب نوادر البيع.

---------------------------
(1) الفهرست ، ص 23.
(2) الخلاصة.
(3) ذكر هذه الكتب ابن النديم في الفهرست ، ص 323 وذكرها النجاشي.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 175 _

  20 ـ كتاب الرد على الغلاة.
  21 ـ كتاب ثواب الحج.
  22 ـ كتاب النكاح.
  23 ـ كتاب الطلاق.
  24 ـ كتاب المكاسب.
  25 ـ كتاب الوضوء.
  26 ـ كتاب البيوع والمزروعات.
  27 ـ كتاب اللؤلؤ في الزهد.
  28 ـ كتاب الإمامة.
  29 ـ كتاب فضل القرآن (1)
  30 ـ كتاب اختلاف الحديث.
  31 ـ كتاب مسائله عن أبي الحسن موسى (2)
  نظرة سريعة على عناوين هذه الكتب تدل دلالة واضحة على سعة معارفه ، وإحاطته بمختف العلوم والفنون.
  حسّاده : كل عبقري صاحب شأن لابدّ له من حسّاد حاقدين ينغّصون عليه عيشه ، ويونس بن عبد الرحمن كان من أولئك الأفذاذ الموهوبين الذين خصّهم الله بمزيد من العلم والفضل ، وقد شكا أمره إلى الإمام الكاظم (عليه السلام) فيما يتهمونه به فهدّأ الإمام روعه وقال له : (ما يضرّك أن يكون في يدك لؤلؤة ، فيقول الناس : هي حصاة ، وما ينفعك أن يكون في يدك حصاة فيقول الناس لؤلؤة) (3) .

---------------------------
(1) النجاشي ، ص 349.
(2) الفهرست للشيخ الطوسي.
(3) الكشي ، ص 304.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 176 _

  وفاته : اختاره الله إلى لقائه بعد أن أبلى بلاءً حسناً في الدفاع عن الإسلام والتبشير بمبدأ أهل البيت (عليهم السلام) وقد توفي في يثرب سنة 208 هـ (1)
  ولما وصل نعيه إلى الإمام الرضا (عليه السلام) قال : انظروا إلى ما ختم الله ليونس قبضه بالمدينة مجاوراً لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) (2) .
  رحم الله يونس بن عبد الرحمن وجزاه عن الإسلام خير الجزاء ، وحشره مع ( الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً ) (3) .
  75 ـ يونس بن يعقوب
  ابن قيس ، أبو علي البجلي الدهني الكوفي ، اختص بأبي عبد الله (عليه السلام) وأبي الحسن (عليه السلام) وكان يتوكّل لأبي الحسن (4) وعدّه الشيخ المفيد من فقاء أصحاب الصادقين (عليهما السلام) ومن الأعلام الرؤساء المأخوذ عنهم الحلال والحرام والفتيا والأحكام الذين لا يُطعن فيهم ولا طريق إلى ذم واحد منهم ، وهم أصحاب الأصول المدوّنة ، والمصنفات المشهورة (5) وممّا يدل على وثاقته أنه وكّله أبو عبد الله وأبو الحسن (عليه السلام) ليشتري لهما بعض الأشياء فلما اشترى ذلك وأوصله إليهما قال له أحدهما : (ما أنت عندنا بمتهم ، إنما أنت رجل منّا أهل البيت فجعلك الله مع رسول الله وأهل بيته) والله فاعل ذلك إن شاء الله.
  توفي في يثرب وتولى تجهيزه الإمام الرضا (عليه السلام).
  وهنا نذكر بعض أصحاب الإمام (عليه السلام) الذين عرفوا بكنيتهم منهم :
  76 ـ أبو زكريا
  عدّه الشيخ في رجاله من أصحاب الإمام الكاظم (عليه السلام) وهو ثقة ، وقد روى عن علي بن رباط (6)

---------------------------
(1) تنقيح المقال ، ج 3 ، ص 339.
(2) الكشي ، ص 302.
(3) سورة النساء ، الآية 69.
(4) النجاشي ، ص 348.
(5) الإرشاد.
(6) تنقيح المقال ، ج 3 ، ص 17.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 177 _

  77 ـ أبو شعيب
  المحاملي ، كوفي ، ثقة من رجال أبي الحسن موسى (عليه السلام) وله كتاب.478
  78 ـ أبو يحيى
  المكفوف ، عدّه الشيخ في باب الكنى من أصحاب الإمام الكاظم (عليه السلام) وقال في (الفهرست) له كتاب ، وكذا قال النجاشي واستفاد الحائري من مصاحبته للإمام أنه محل اعتماد (1)
  هؤلاء أصحاب الإمام وحملة حديثه ، وقد اخترنا منهم عظماء العلماء ، وكبار المؤلفين الذين زوّدوا العالم الإسلامي في عصرهم بنتاجهم الجليل ممّا يدل بوضوح أن النهضة الفكرية كانت تستند إلى أئمة أهل البيت (عليهم السلام) فهم الذين فجّروا طاقاتهم في دنيا العرب.
  وهذه الكوكبة من الرواة الأجلاء قد كشفت لنا جانباً مهماً من حياة الإمام (عليه السلام) ودلّت على أهمية الدور الذي قام به في رفع منار العلم ونشر الوعي الثقافي في ربوع العالم الإسلامي.
  إن الانتماء إلى مدرسة الإمام الكاظم (عليه السلام) كان من موجبات الاعتزاز والفخر لأنها بلورت الحياة الفكرية في العالم الإسلامي وعملت على تقدّم المسلمين في جميع الميادين.

دروس مثالية من إمام مثالي
  أهل البيت وما أدراك ما أهل البيت !! هم الصفوة المختارة التي اختارها الله جل وعلا أعلاماً منيرة على دروب الحياة لعباده ، واجتباهم هداة لخلقه وحكاماً عليهم ، وورثة لنبيه (صلّى الله عليه وآله) وسدنة الرسالة الإسلامية الدائمة ، فقهوا الأحكام فعنهم أخذت ، وعرفوا الحلال من الحرام فكانوا الأدلاء على الله ، والمبشرين لدينه ، والموضحين لمنهجه ، عنهم أخذ علم الكتاب المجيد وما جاءت به السور.
  والرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله) أمر الأمة باتباعهم وطاعتهم والامتثال لأمرهم ، لكن حب الجاه والسلطان حدا بالمسلمين إلى التزاحم على الخلافة بعد وفاة الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) ، والنبي لم يدفن بعد ، فزعموا هذا الأمر خوف الفتنة التي سقطوا فيها وعانوا من ويلاتها.

---------------------------
(1) النجاشي ، ص 354.
(2) تنقيح المقال ، ج 3 ، ص 39.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 178 _

  علم المسلمون أن الخلافة لهل البيت (عليهم السلام) لكنها تقلبت في أيدي غيرهم حتى وصلت إلى معاوية بن أبي سفيان الذي شقّ عصا الإسلام ، وأحدث الفتن بين المسلمين ، ولم يكتفِ القدر بهذا حتى أورثها إلى ابنه يزيد الفجور والخمور والرذيلة.
  واستمرت فيهم ما يقارب السبعين عاماً ، قام بعد الأمويين العباسيون ، فاستبدل الناس ظلماً بظلم ، وجوراً بجور ، هذا والأئمة الأعلام الأطهار ليس لهم أمر ولا نهي ولم يكتف الحكام الأمويون والعباسيون بتقمّصهم الخلافة بالقوّة ، مستأثرين بها على أهل البيت (عليهم السلام) حتى أخذوا يتبعونهم قتلاً وسجناً وتشريداً ، لكن الأئمة تحمّلوا مسؤولياتهم وتكاليفهم ولم يعبأوا بهذه الشدة والظلم ، بل استمروا على تبليغ رسالتهم في صدّ التيارات الفكرية الفاسدة ، ونشر التعاليم الإسلامية الصحيحة ، وإعلاء كلمة الله تبارك وتعالى ، فملأوا الدنيا وشغلوا الناس بعلومهم الغزيرة ومعارفهم الرشيدة من أجل رفع راية الإسلام خفّاقة في العالم بأسره.
  ولا غرو إن كانوا كذلك ، فهم أحق من غيرهم في تسلّم الخلافة ، لا بل المكلّفون بعد الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) بنشر الإسلام والمحافظة على السنن الإلهية ، والشرائع الإسلامية.
  والإمام موسى الكاظم (عليه السلام) هو سابع الأئمة المعصومين الذين عانى الأمرّين ، وقاوم الظلم ، وحافظ على رسالة جده (صلّى الله عليه وآله) ولم يدار ولم يداهن بل تحمّل المسؤولية الشرعية بكل جرأة وصبر ، وقام بالتكاليف الملقاة على عاتقه من الإصلاح في أمة جده (صلّى الله عليه وآله) على حد قول جده سيد الشهداء الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام) (لم أخرج أشراً ولا بطراً ، وإنما خرجت طلباً للإصلاح في أمة جدي رسول الله (صلّى الله عليه وآله)).

الإمام الكاظم (عليه السلام) في حصار التكاليف
  من الحاجات الفطرية للإنسان حياته الاجتماعية الشريفة مع سائر أبناء وأمته ، هذه من الميول الطبيعية فيه التي تقوده إلى تحقيق ذاته.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 179 _

  وكل فرد في المجتمع يلتزم بمسؤولية خاصة وتكاليف خاصة عليه أن يقوم بأدائها على أكمل وجه ، فإذا آمن كل واحد من أفراده بمسؤلياته التي قبلها في دائرة أعماله ، ولم تتجاوز نشاطاته حدود ما رسم لنفسه منها يدار المجتمع عند ذلك بصورة صحيحة وسليمة.
  والإنسان العاقل الناطق قد أحاطت به قيود وقواعد وأصول قد شملت كل شؤون حياته ، وهذه الحدود والقيود هي التي تميزه عن الحيوان الأعجم على صعيد الحياة.
  في حركة وسكون يجد كل منّا تكليفاً عليه ، والتكاليف تبدأ من أبسط مراحل الحياة وتمتد حتى آخر حياته ، وهذا هو النظام الذي تدار عليه حياة الإنسان ، ولا يمكننا في أي حال أن نفصل بين الإنسان وبين تكاليفه ، مهما كانت قدراته ، فهناك تكليف عليه ، اللهم إلا الموت ، الذي يأخذ بتلابيب الإنسان ويطوي صحيفة أعماله.
  والإنسان يلتزم بفطرته بمسؤوليات وقرارات ، مع قطع النظر عن أحكام الأديان وأوامرها ، والتكليف هذا ينشأ من علاقته بأوصافه وخصائصه وعواطفه المغروسة في نظام كيانه ووجوده ، وإن كانت دوافعه إلى أداء تكاليفه مختلفة أو صعبة.
  وبإمكاننا القول :
  إن القواعد العقلية العامة هي محور التكاليف ، أما إطاعة الأحكام الدينية فإنها ترجع إلى اتباع القواعد والقرارات العقلية أيضاً ، لأن أحكام الأديان وأوامرها في مراحل الحياة والمسائل الاجتماعية هي تفصيلات لإجمال المدركات العقلية ومعرفتها في الأمور الضرورية.
  وليست المشكلة في معرفة التكاليف ، بل المشكلة الكبرى هي العمل بالتكاليف الشاقة ، وهنا يتميز كل إنسان من الاقتراب إلى مرحلة الكمال في إيمانه الراسخ والثابت والقوي ، ومراقبة نفسه مراقبة دقيقة أمام الله عزّ وجلّ وتوطينها وتعويدها على التضحية والعطاء.
  والمجتمع البشري وإن كان مرتعاً صالحاً لنمو الفضائل الإنسانية وظهورها وتكاملها ، لكنه صالح أيضاً لظهور كثير من الرذائل والآفات.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 180 _

  والتكامل الاجتماعي يصاب بالركود والتوقف فيما إذا تجاوز كل فرد من الأفراد عن حدود وظائفه وتكاليفه ، أو تناسى أو تنكر لمسؤولياته الكبرى الملقاة على عاتقه ، فالنبتة المزروعة حديثاً بحاجة إلى عناية خاصة ومجهود خاص حتى تتطور فتصل في مراحل نموها إلى كمالها اللائق بها ، والمجتمع قد يثمر ويتكامل ليس بموقعه الجغرافي وأوضاعه المادية ، بل بأوضاعه التربوية الخاصة وإمكاناته المعنوية التي يقوم على أساسها المجتمع الفاضل الراقي ، وفي هذا المجتمع الذي تسود فيه روح المعرفة بالتكاليف ، ستكون الطهارة والصدق في ضمائر القلوب ، وفي إدراكات العقول ، وفي جميع شؤون الحياة الظاهرة للعيان.
  إن مجتمعاً كهذا وضعه لا تنمو فيه الخيانة ، ولا يظهر فيه العدوان على حقوق الآخرين ، بل لا يسمح لها المجال للنمو والظهور ، فيقف كل فرد فيه عند حدوده وأمام مفاسد أعماله فيحاسب نفسه ويمنعها من التجاوز عملاً بقول الرسول الأعظم : (رحم الله إمرءاً عرف حدّه فوقف عنده) ولا نضلّ الطريق إلا إذا تقاعسنا عن القيام بتكاليفنا وخفقنا تجاه واجبنا ومسؤولياتنا.
  فهناك كثير من الناس ، مع ما لهم من إمكانات من مختلف الجهات يحاولون الاقتصاد في الإفادة من وجودهم ومن طاقاتهم ، ولهذا نراهم يتهربون من المسؤوليات والأعمال التي تسلبهم بعض راحتهم وملذاتهم كما يزعمون ، فهم يعيشون لأنفسهم ولا يخصصون قسماً من أوقاتهم يعود نفعها للآخرين.
  هؤلاء هم أصحاب الفكر الضيّق والنشاط المحدود ، تدور أمورهم على محاور شخصيّة محدودة ، فيعتادون على هذه الخصائص الروحية ، ولهذا فلا يتمكنون من القيام بالأعمال الكبيرة ، والقضايا الاجتماعية العظيمة فنراهم قد اختفوا في مجتمعهم ولم يبرزوا طاقاتهم الشخصية.
  لكن هناك فئة أخرى من الناس لا تتسامح أبداً بالنسبة إلى مسؤولياتهم باي حال من الأحوال ، ولا يصابون بأي اضطراب أو قلق نفسي على أثر التطورات والتغييرات ، بل نراهم مستعدين دائماً للمبادرة بتكاليفهم الواجبة ، ومسؤولياتهم النافعة ، فيستقبلونها بكل رحابة صدر ويقومون بكل جهودهم فيها ، إنهم يتصوّرون أن خير إفادة من وجودهم القيام بمهام مثمرة ومفيدة لأمتهم مهما كانت شاقة ، وعلى هذا فكلما كان الإنسان أكثر رشداً ، وأكمل عقلاً ، وأبعد رؤية ، كان اشتياقه إلى القيام بمسؤولياته أكثر ، وإلى أداء تكاليفه أشد وأكبر.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 181 _

تحقيق الأهداف السامية
  قالوا : لولا الأمل لبطل العمل ، إن الذي يملأ حياة الإنسان أملاً هو السعي لتحقيق الآمال العالية والمثمرة ، وعلى كل إنسان أن يصمم على أن يبلغ مقاماً سامياً يليق بإنسانيته ، فيعمل بكل ما أعطي من قوى وإمكانات ليقوم بتكاليفه ومهامه وخدمة أبناء مجتمعه.
  وما نراه ونسمعه في مجتمعنا من بعض أفواه الناس يقولون : نريد أن نقوم بعمل خير في حياتنا ، لكن مسؤولياتنا وأعمالنا قد منعتنا من التوفيق في هذا الطريق ، فقد غرقنا إلى حد بعيد في مهام الحياة ومشاغلها ولم تسمح لنا الفرص المناسبة لنتمكن فيها من تحقيق ما نصبوا إليه في حياتنا.
  ولا ريب أن هذه من الأخطاء الشائعة والخطيرة في مجتمعنا ، ذلك أن كلاً منا لديه الفرص الكثيرة التي تحيط به والتي يستطيع بكل سهولة من القيام بمهامه لو صمم وأراد ، فيحصل على رضى ضميره ورضى مجتمعه ورضى ربه جلّ وعلا.
  من هنا كان قول الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) : (الخلق كلهم عيال الله وأقربهم إليه أنفعهم لعياله) إلى جانب ذلك عليه أن لا يغفل عن تكاليفه العادية ، وإن يقوم بأعمال جليلة فيها كل الخير له ولمجتمعه.
  فالتكليف الواجب علينا جميعاً أن نفيد من الفرص الكثيرة التي تسمح لنا لنقوم بهذا التكليف ، وسوف تتاح لنا فرص كثيرة في هذا السبيل ، ونحصل على نجاح باهر وتوفيق هام ، لأن جميع القوى الكامنة فينا تكفي للقيام بتكاليفها ، والذي يحتاج إليه العالم اليوم ويفتقده هو أن يكون له جماعة يفكّرون في تلبية نداء الآخرين وقضاء حاجاتهم ، وعند القيام بمهام جليلة من أجل الآخرين ستنزل رحمة الله الواسعة على المعين والمستعين كليهما ، أما ما نراه من ضغوط المجتمع الحاضر الذي سموّه (المجتمع الحديث) كما هو عليه اليوم ستفقدنا شخصيتنا شيئاً فشيئاً ، وبالتالي سوف نفتقد آمالنا في الإبداع والظهور.
  ولهذا فإن وصول هذا المجتمع إلى الحضارة الحقّة سوف يتأخّر ما دام الوضع كما هو عليه. وما هو السبب في ذلك ؟
  الحقيقة أن الخطأ الكبير لكل واحد منا هو أننا نعيش بأعين ليست بصيرة ، فلا نلتفت إلى الفرص الجيدة التي تواجهنا ، نعم علينا أن نفتح أعيننا جيداً ونتفحّص ما حولنا بدقة ومهارة لنقدم إلى كل الناس الخير العميم ، فأسمى ما لدينا وافضل أمنياتنا أن نرهن وجودنا ، ونمد أيدينا لعون الآخرين إلى حد التضحية والفداء ، ومثلنا الأعلى في هذا المضمار الشريف الأئمة (عليهم السلام) ، كل واحد منهم قام بتكاليفه كاملة ، وضحّى بأغلى ما يملك في الوجود ، فبذل النفس في سبيل الآخرين ، والجود بالنفس أسمى غاية الجود !

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 182 _

  إنّ أصغر شيء ينفقه رجل فقير الحال هو أفضل بكثير من الذي ينفق كبار الأغنياء ، وكثيراً ما نسمع من البعض من يقول : لو كنت ثرياً لكنت أقدّم للناس الكثير الكثير من الأعمال والخدمات ولكن ؟!
  نقول لهؤلاء الذين يتمنون ولا يفعلون : إننا بإمكاننا أن نكون جميعاً أثرياء من حيث الحب والعطف والحنان لهم ، فلو اكتشفنا الحاجة الحقيقية للمحتاجين ، وحاولنا تلبيتها ، نكون بذلنا في ذلك أفضل وأعز شيء لدينا لا وهو الحب لهم ، والعطف عليهم ، ممّا لا يقابله كل أموال الدنيا بأجمعها!
  ولا يفوتنا أن نعلم أن بإمكاننا إذا حملنا أنفسنا على البحث والتنقيب بما يمكننا القيام به لاستطعنا تقديم الكثير الكثير من أعمال الخير والمساعدة للآخرين ، وهذا العمل الروحي بحاجة إلى جرأة وتضحية ورحابة صدر وقوة إرادة ، وتصميم أكيد على إسداء الفائدة المرجوّة والمحبة الخالصة لجميع الناس ، وهذا بنظري أكبر اختيار وامتحان لكل إنسان في هذه الدنيا على الأرض.
  ولكن علينا أن نعلم أيضاً أننا في هذا التكليف الشاق ، وتحمّل المسؤولية بإمكاننا أن نجد السعادة الحقيقية ، وهذا واقعاً ما قدّمه الأئمة ، وقدّموا في سبيل الله ، وعطفوا على عباد الله ، فكسبوا بذلك رضى الناس ورضى الله سبحانه وتعالى.

بإرادة الإنسان تعمر الأوطان
  خلق الإنسان حرّاً في أن يطيع أوامر ضميره الحيّ أو يعصيها ، فكل واحد منّا يملك نفسه وإرادته فبإمكانه أن يختار الفضائل مثل : الصدق ، والشجاعة ، والإيثار ، والإحسان ، والقول الحسن ، والإخلاص ، والوفاء ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، والتواضع ، ومقاومة الهوى ، والمحبّة ، والصفاء ، وكظم الغيظ.
  أو أن يختار طريق الشهوات والرغبات والرذائل مثل : الكبرياء ، والنميمة ، والانقياد لهوى النفس ، والغضب ، والظلم ، والحسد ... فكل هذه الصفات من فضائل ورذائل هي تحت إرادته واختياره ، وبإمكانه أن يحلّي نفسه بها بالسعي الدائم المشكور ، والمحاولات المتواصلة ، أو أن يختار عكس ذلك فينغمس في محيط متخلّف من الشهوات الرذيلة والميول الهوجاء ، كما فعل الحكام الأمويون والعباسيون الذين غرقوا في مستنقع شهواتهم ، وفجّروا في ظلمهم وجورهم من أجل حب التملّك وشهوة السلطان.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 183 _

  إن قوة الإرادة موهبة إلهية خيّرة لا ينبغي أن نتركها دون الإفادة منها ، أو أن نصرفها في الأعمال البربرية والمنحطّة ، بدلاً من أن نوظفها في تكاليفنا الشرعية ، إن افتقاد الإرادة هو ضعف في اتخاذ التصميم والقرار ، وهو سدّ مانع للقيام بتكاليفنا.
  لكن الإفادة من الإرادة لهداية الضمير والوجدان من أجل الكفاح ضد الشهوات ، وأهواء النفس ، والانتصار على عبادة النفس صعب في بداية الأمر وهو بحاجة أكيدة إلى روح التضحية ، ولابد من مواصلة السعي الدائم لتتقوّى روحية الإنسان تدريجياً ، وتنمو أخلاقياته الفاضلة ، وعندئذٍ يصبح العمل بالتكليف له أمراً عادياً جداً يتحمله المكلف بيسر وسهولة.
  فلو كان الشعور بالمسؤولية قوياً في كيان الإنسان لم تعد الموانع التي تعترضه سبباً في ضعفه وانهزامه أمامها ، أما إذا فشلت مساعيه ولم تثمر في مواجهة العوامل السلبية فلا أقل بأضعف الإيمان من أن يحصل على رضا ضميره وراحة نفسه ، وسيكون مرفوع الرأس أمام نفسه وأمام مجتمعه وذلك أنه قدر على تحمّل خيبة الأمل والهزيمة من أجل أداء وظيفته ، والقيام بدوره الإنساني ورسالته في الحياة.
  وهنا أتذكّر وصية هامة نصح بها أب ابنه فقال له : يا بني : كن أنت فقيراً لا مال في يديك ، ودع الآخرين يثرون أمام عينيك بالخداع والتزوير والخيانة ، عش أنت بلا جاه ولا مقام ، ودع الآخرين يتسلّمون المناصب العالية بالخضوع السمج والإلحاح الملحّ ، عانِ أنت الآلام والخيبة ، ودع الآخرين يبلغون أمانيهم بالخضوع والتملّق ، أعرض أنت عن طلب الجاه والسعي وراء الزعامة ، ودع الآخرين يبلغون أمانيهم بالخضوع والتملق ، أعرض أنت عن معاشرة كبار الرجال ممن يتفانى الآخرون للاقتراب منهم ، من الأفضل لك أن تتقمّص لباس الفضيلة والتقوى ، فإذا ابيضّ شعر رأسك ولم تلوث قطرة من سواد الفساد حسن صيتك وعلى شرفك فأدّ حقّ شكر الله ، واستسلم بقلب مبتهج مسرور.
  يتبين لنا من خلال هذه الوصية القيمة باختصار وكأن الأب يوصي ابنه بالبعد عن حكام بني مروان وبني العباس والاقتراب من أهل البيت (عليهم السلام) وبعدئذٍ يستسلم للموت بقلب مبتهج مسرور.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 184 _

  وما نراه أن الثواب والعقاب أمر ضروري في أداء التكاليف ، فكما يفيد التنبيه والتوبيخ واللوم في التقليل من المفاسد ، كذلك لا مجال للجدال في اثر التقدير والترغيب في زيادة الرغبة في العمل والنشاط في أداء التكاليف وتحمل المسؤولية ، وقال أحد المفكرين الاجتماعيين : ويل لأمة يشوّق فيها الخونة ويهان فيها الخدمة ذوو الشعور بالمسؤولية ويبعدون عن المناصب الحساسة في المجتمع ، أمة يبلغ فيها مقاصده من يجعل همه الخداع والمراوغة ، ويصل إلى مراده من لا يتمتع بأية قيمة من قيم الإنسانية ، أمة يكون على من يريد أن يؤدي رسالة الإنسانية فيها أن يبقى محروماً مكظوماً من كل شيء ، إن مثل هذا المجتمع لا يبقى فيه مال لنمو الأخلاق وظهور الفضيلة.
  والعصر العباسي شاهد على ذلك فالإمام الكاظم (عليه السلام) العالم الفقيه ، والتقي الورع ، الذي أراد أن يؤدّي رسالة الإسلام الإنسانية الحقّة سائراً على خطى جده سيد الشهداء الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) الذي قال : (ما خرجت أشراً ولا بطراً وإنما خرجت طلباً للإصلاح في أمة جدي) وهكذا فعل الإمام الكاظم (عليه السلام) فعندما أراد أداء التكاليف والقيام بالرسالة الإنسانية أبعد عن منصب الخلافة وسجن وقيّد بالحديد ، ودسّ إليه السمّ حتى خسر بموته الإسلام عالماً مجاهداً كبيراً ، ومصلحاً اجتماعياً عظيماً.
  وبديهي أن في مثل هذه البيئة التي تشبه البيئة العباسية ستتفشّى الأمراض إلى أعماق النفوس ، كالغش والفساد والتزوير والرياء ، فالأخلاق السيئة تتصدر المجتمع بدلاً من النزاهة والأخلاق الفاضلة ، فقليل جداً من الأشخاص الطاهرين الأتقياء يستطيعون العيش في مثل هذه البيئات الملوّثة ، وأقل منهم الذين يستطيعون استمرار بطهارتهم وتقواهم ، ويعيشون حياتهم الروحية بروح عالية وكريمة بين أناس طغاة أذلاء أنانيين سفهاء في هذه البيئة الملوّثة بالضغائن والأحقاد ، استمر الإمام الكاظم (عليه السلام) مجاهداً لم يداهن ولم يساير ولم يلين ، بل قاوم الطغاة وألف الجماهير ، وقام بتكاليفه مع ما لاقى من الاضطهاد والآلام والعذاب.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 185 _

  وهنا يتجلى معنى الصبر الجميل على النوائب والدواهي وهنا تبرز البطولات الخالدة على صفحات التاريخ ، فأين مزار هارون الرشيد والمنصور والهادي ؟؟ لقد اندثرت معالمهم ، ومات ذكرهم معهم وبقي ذكر الإمام الكاظم كأبيه وأجداده حيّاً نضراً فوّاحاً ، كلما ذكر محمد وآل محمد (عليهم السلام) ، إن الشفاه التي ترتل اسمه (عليه السلام) كما ترتل آيات التنزيل ، والقلوب التي تلهج بحبه ، والعقول تتحرك بالإعجاب به ، ليست وقفاً على المسلمين ، ولا على الفئة الأولى من تاريخ الإسلام ، فهذا أمر ينطبق على الذي يتفوّق بحال من الأحوال ، أما أهل البيت فهم لكل حال ولكل الأجيال ، والإمام الكاظم والأئمة جميعاً باقين في الوجود منذ أن أبدع الله الخير والمجد والكمال.
  لقد ذهب الأمويون والعباسيون ، وانطفأت قناديل حياتهم لأنهم كانوا محكومين بغرائز الإمرة والاستبداد وحب المال والضياع ، أما الأئمة المعصومون فقد تمسّكوا بشريعة الإسلام وأحكامه ، ومبادئ الرسول الأعظم وأخلاقه ، فكان لهم مواقف ثابتة حافظوا عليها ، وحقوق معلنة ماتوا دونها ، قالوا كلمة الحق فلهج بها التاريخ ، ووقفوا المواقف الحقّة فنسخت عن صحفهم البطولات ، وبقيت مشاعل صدقهم وشهادتهم كواكب مشرقة قبالة الشمس ، لأنها تستوحي من نهج رسول الله ، وتتوهج من نور الله.
  الحقيقة أن الكل هباء ، فوات ، تراب ، فناء ، ما لم يتطلع إلى سمو الحقيقة العليا ، إلى الله جل جلاله ، فهو وحده الذي يبقى ، أما الذي لا يحب البقاء في رحاب رضوان الله فهو ميّت جسداً وذكراً ، وله جهنم وبئس المصير ، فالموقف الموقف ، والصدق الصدق ، والعدل العدل ،والحق الحق ، والصبر وكظم الغيظ ، وهذه كلها من شمائل أئمتنا التي بها فُضِّلوا على الناس ، ومن أجلها استشهد الشرفاء الأتقياء ، والإمام الكاظم ذلك العظيم ، هزئ بالموت فإذا به ذو عرش على قلوب الملايين ، يحتل قلوبهم ، ويتملّك مشاعرهم ومحبّتهم وحسب أنه قال للموت هازئاً به : قد تجيء أيها الموت في كل لحظة ، وترمي بالأحياء في غيابات المجهول ، ولكني لا أخافك ولا أهابك ، أريد أن تموت أنت وإن أحيا أنا إلى الأبد أبقى قطرة في محيط التاريخ ، وأتجاوز السنين والعصور وأبقى مع الخالدين.
  سجلت أسمي في قلب كل مؤمن ، وعلقت ذكري على صدور أصحاب المواقف الحقة ، وبقيت حياً في خواطر الأبطال الذين أحبوا الحياة الحرة الكريمة.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 186 _

  وبعد أربعة عشر قرناً ونيف نجد أنصار أهل البيت يسطع من نفوسهم ضوء يهدي ، وعطر يفوح ، وصوت يهب سامعه إلى نجدة الحق ، الحق المسلوب في فلسطين وفي جنوب لبنان والبقاع الغربي من الدولة المعتدية الغاشمة دولة الصهاينة ، لكن المقاومة كانت لهم بالمرصاد حيث تلقنهم الدرس تلو الدرس كل يوم فهنيئاً لكل الشهداء الشرفاء الذين ضحّوا بدمائهم الطاهرة من أجل تحرير الأرض ، لقد ساروا على الخط الحسيني وقاموا بتكاليفهم الشرعية بإرادة صامدة قويّة ، وقلب عامر بالإيمان ، ونفس مطمئنة.
  كل ذلك في سبيل الإنسانية والحضارة الهادفة إلى الطمأنينة العامة والسعادة لجميع الناس ، وكلتاهما جناحان نحو الصراط المستقيم.
  إن الإنسان العادي في أي مجتمع يحتاج إلى تربية فردية صالحة في مجتمع إسلامي صالح يستند إليه ، وهو بحاجة بلا ريب إلى نماذج بشرية صالحة تعرفه بأمثولة السلوك الصالح في حياته وتكون له قدرة تنير له الطريق إلى المثل العليا.
  وهنا لابدّ لنا من التحدث عن دور الإيمان في الشعور بالمسؤولية.

دور الإيمان في التعهد بالتكاليف
  إن التعهد بالتكاليف والشعور بالمسؤولية التي تحيط بالشؤون الاجتماعية من كل جهة ، ومن أهم الأسس لسعادة الفرد والمجتمع على حد سواء ، والتربية الإسلامية العريقة تبنى على أساس الشعور بالمسؤولية ، فعلى كل مسلم أن يستند إلى إيمانه أولاً ثم إلى العمل الصالح ثانياً ليضمن سعادته في حياته ، ولا يجعل شيئاً آخر سواهما مستنداً لسعادته الواقعية.
  والإمام زين العابدين (عليه السلام) يصف تكاليف الإنسان في مختلف الشؤون فيقول : (إعلم يرحمك الله : إن لله عليك حقوقاً محيطة بك في كل حركة تحركتها أو سكنة سكنتها ، أو منزلة نزلتها ، أو جارحة قلبتها ، أو آلة تصرفت بها بعضها أكبر من بعض).
  والإسلام يرى أن كل أحد مسؤول عن أعماله ، ولا يتحمل أي فرد مسؤولية الآخرين ، قال تعالى : ( مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) (1) .

---------------------------
(1) سورة الإسراء ، الآية 15.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 187 _

  إن في أعماق الإنسان قوة تدعوه إلى أداء تكاليفها ومسؤولياته ، وحينما يتقبل الإنسان دعوة ضميره ويبادر إلى أداء تكاليفه فإن تلك القوة الباطنية ستؤيده ، وبعد فراغه من تكليفه تملأ نفسه سروراً وارتياحاً هذه القوة هي الضمير أو الوجدان الناشئ من أعماق فطرة الإنسان وهو الذي يحملنا على ترك الرذائل ، والتمسّك بالأعمال الصالحات ولكن هل الضمير وحده يضمن تنفيذ الخير على يد الإنسان فيبعثنا على اتباع التعاليم الدينية ويكون مستنداً لأداء مختلف التكاليف؟؟ الحقيقة أن الضمير الأخلاقي بما له من أهمية في ضمان سعادة الإنسان فهو لا يتمكن في جميع الأوضاع والظروف أن يمنع سقوط الإنسان وانحرافه وعلينا بعد هذا أن نلتفت إلى دائرة عمل الضمير ، حيث أن أحكامه تختلف باختلاف الظروف الزمانية ، والعادات القومية ، اختلافاً بيناً ، فنشاط الضمير إنما هو في الدعوة إلى أمور قد أقر بحسنها وفضلها من قبل ذلك العرف والعادة والسنن الاجتماعية ، فالمرفوض في أمة من الأمم قد يكون مفضّلاً ومحبّباً عند أمة أخرى على أساس سننها وأعرافها ، ويدلنا التاريخ أن الشيطان قد زين في بعض أدوار الحياة البشرية أعمالاً هي من أقبح ما يكون في الواقع ، ولكن تحت ستار الأعمال الصالحة ، وتلقّاها الناس حينئذٍ بصفتها أعمالاً مقبولة لديهم.
  قال تعالى : ( قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ) (1) .
  أضف إلى ذلك كله أن الضمير من دون أن يستند إلى مستند خاص لا يقدر على المقاومة في مواجهة كثير من أهواء النفس وحب المال والسلطان وطغيان الشهوات ، وهو في ساحة كفاحه مع الغرائز يفتقد شيئاً من قوة مقاومته ، وربما سقط أمام أول مجاهدة لميول النفس الأمارة بالسوء ، فبإمكانها أن تقلب الحقائق وتخدع الضمير وتخمد من نور المصباح المضيء الذي ينور باطن الإنسان.
  وهنا يأتي دور الإيمان ، الإيمان الذي يهدي الضمير ويرشد الوجدان ، ويكون مستنداً صحيحاً له ، وحاكماً أميناً على العادات والتقاليد والأعراف ، ولا يتكلف بتنفيذ أوامر العرف والسنن الاجتماعية.
  إن الذين تيقظت في ذواتهم فطرة التوحيد وآمنوا بالله إيماناً صادقاً قد استجابوا لنداء ضمائرهم استجابة تامة ويرون اتباعها إطاعة للهداية التكوينية الإلهية ، فلا يثقل على كواهلهم حمل التكاليف ، بل يمنحهم قوة فاعلة ونشاطاً مباركاً فيبادرون إلى أداء تكاليفهم بكل محبّة ونشاط.

---------------------------
(1) سورة الكهف ، الآيتان 103 ـ 104.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 188 _

أسباب اعتقال الإمام (عليه السلام)
  ما هي الأسباب التي دفعت بهارون الرشيد إلى اعتقال الإمام (عليه السلام) ؟
  1 ـ احتجاج الإمام (عليه السلام)
  من الأسباب التي حفّزت هارون الرشيد لاعتقال الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) وزجّه في غياهب السجون ، احتجاجه عليه بأنه أولى بالنبي (صلّى الله عليه وآله) من جميع المسلمين ، فهو أحد أسباطه ووريثه ، وأنه أحق بالخلافة من غيره ، وقد جرى احتجاجه معه عند قبر النبي (صلّى الله عليه وآله) وذلك عندما زاره هارون وقد احتفّ به الأشراف والوجوه وقادة الجيش وكبار الموظفين في الدولة ، فقد أقبل بوجهه على الضريح المقدّس وسلّم على النبي (صلّى الله عليه وآله) قائلاً : (السلام عليك ابن العم).
  وبذلك بدا الاعتزاز والافتخار لهارون على غيره برحمه الماسة من النبي (صلّى الله عليه وآله) وإنه نال الخلافة لهذا السبب ، قربه من الرسول (صلّى الله عليه وآله).
  أما الإمام الكاظم (عليه السلام) فتقدم أمام الجمهور وسلّم على النبي (صلّى الله عليه وآله) قائلاً : (السلام عليك يا أبتِ).
  عندها استولت على الرشيد موجات من الاستياء وكاد يفقد صوابه لأن الإمام (عليه السلام) قد سبقه إلى ذلك المجد ، فاندفع قائلاً بصوت مشحون بالغضب : (ثم قلت إنك أقرب إلى الرسول (صلّى الله عليه وآله) منّا ؟!).
  فأجابه الإمام (عليه السلام) بهدوء كعادته وبجواب مفحم لم يتمكن الرشيد من الرد عليه ، (لو بعث رسول الله حيّاً وخطب منك كريمتك هل كنت تجيبه إلى ذلك ؟ فقال هارون : سبحان الله !! وكنت أفتخر بذلك على العرب والعجم.
  فانبرى الإمام وبيّن له الوجه الصحيح في قربه من النبي (صلّى الله عليه وآله) دونه قائلاً : (لكنه لا يخطب منّي ولا أزوجه ، لأنه والدنا لا والدكم ، فلذلك نحن أقرب إليه منكم) وتابع (عليه السلام) مدعماً رأيه ببرهان آخر فقال لهارون : (هل كان يجوز له أن يدخل على حرمك وهنّ مكشفات ؟؟)

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 189 _

  فقال هارون : لا.
  فقال الإمام (عليه السلام) : لكن له أن يدخل على حرمي ، ويجوز له ذلك ، وهذا يعني أننا اقرب إليه منكم ، وبذلك يكون الإمام قد سدّ أمامه كل منافذ الدفاع بحججه الدامغة بعد أن ألبسه ثوب الفشل ، وبيّن بطلان ما ذهب إليه ، فهو أحق منه بالخلافة لأنه سبطه ووارثه.
  عندها اندفع هارون حانقاً وأمر باعتقال الإمام (عليه السلام) وزجّه في السجن (1) ثم سأله الرشيد قبل دخوله السجن : لمَ فضلتم علينا ونحن وأنتم من شجرة واحدة بنو عبد المطلب ، ونحن وأنتم واحد ، إنا بنو العباس ، وأنتم ولد أبي طالب وهما عمّا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وقرابتهما منه سواء ؟
  فقال (عليه السلام) : نحن أقرب إليه منكم ، قال هارون : وكيف ذلك ؟
  فقال (عليه السلام) : لأن عبد الله وأبا طالب لأب وأم ، وأبوكم العباس ليس هو من أم عبد الله ، ولا من أم أبي طالب.
  قال هارون : فلم ادعيتم أنكم ورثتم النبي (صلّى الله عليه وآله) والعم يحجب ابن العم ، وقبض رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وقد توفى أبو طالب قبله.
  والعباس عمه حيّ ؟
  فقال (عليه السلام) : إن رأى أمير المؤمنين أن يعفيني عن هذه المسألة يسألني عن كل باب سواه يريد.
  قال : لا ، أو تجيب ، فقال (عليه السلام) : فآمنّي ، قال : آمنتك قبل الكلام.
  فقال (عليه السلام) : إن في قول علي بن أبي طالب (عليه السلام) : إنه ليس مع ولد الصلب ذكراً كان أو أنثى لأحد سهم إلا الأبوين ، والزوج والزوجة ، ولم يثبت للعم مع ولد الصلب ميراث ، ولم ينطق به الكتاب العزيز والسنّة ، إلا إن تيماً وعدياً وبني أمية قالوا : العم والد ، رأياً منهم بلا حقيقة ولا أثر عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، ومن قال بقول علي من العلماء قضاياهم خلاف قضايا هؤلاء ، هذا نوح بن دارج يقول في هذه المسألة بقول علي ، وقد حكم به ، وقد ولاّه أمير المؤمنين المصرين : الكوفة والبصرة ، وقضى به.

---------------------------
(1) راجع : أخبار الدول ، ص 113 ، وفيات الأعيان ، ج 1 ، ص 394 ، الاتحاف بحب الأشراف ، ص 55 ، تذكرة الخواص ، ص 259.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 190 _

  فأمر هارون الظالم بإحضار من يقول خلاف قوله. منهم : سفيان الثوري وإبراهيم المازني ، والفضيل بن عياض ، فشهدوا جميعهم أنه قول علي (عليه السلام) في هذه المسألة.
  فقال لهم : لما لا تفتون وقد قضى نوح بن دارج ؟ فقالوا : جسر وجبنا ، وقد أمضى أمير المؤمنين قضيته بقول قدماء العامة عن علي أقضانا ، وهو اسم جامع ، لأن جميع ما مدح به النبي (صلّى الله عليه وآله) أصحابه من القرابة ، والفرائض ، والعلم ، داخل في القضاء.
  قال هارون : زدني يا موسى.
  فقال (عليه السلام) : المجالس بالأمانات وخاصة مجلسك.
  فقال هارون : لا بأس.
  فقال (عليه السلام) : النبي (صلّى الله عليه وآله) لم يورث من لم يهاجر ولا اثبت له ولاية حتى يهاجر ، وعمّي العباس لم يهاجر 483
  2 ـ تعيينه لفدك 484
  وسبب آخر أغاظ نفس هارون على الإمام (عليه السلام) ودعاه إلى اعتقاله ، حتى والتخلص منه ، تعيينه لفدك بأنها تشمل أكثر المناطق الإسلامية وذلك حينما سأله هارون عنها ليرجعها إليه فلم يرضَ (عليه السلام) إلا أن يأخذها بحدودها ، فقال الرشيد : ـ ما هذه الحدود ؟ فقال (عليه السلام) : إن حددتها لم تردها لنا.
  فأصرّ الرشيد عليه أن يبينها له قائلاً : بحق جدك إلا فعلت.
  عند ذلك لم يجد الإمام بداً من إجابته ، فقال له : (أما الحد الأول) : فعدن ، فلما سمع الرشيد ذلك تغيّر وجهه.
  وأما الحدّ الثاني : (سمرقند) ، فأربد وجه الحاكم الظالم واستولت عليه موجة من الغضب ، لكن الإمام (عليه السلام) بقي مستمراً دون أن يأبه له.
  والحد الثالث : (إفريقيا) ، فاسودّ وجه الرشيد وقال بصوت يقطر غيظاً (هيه) ثم عيّن الإمام (عليه السلام) الحد الرابع والأخير قائلاً : والحد الرابع : (سيف البحر ممّا يلي الجزر وأرمينية).

---------------------------
(1) الاحتجاج ، ج 2 ، ص 163.
(2) فدك : قرية في الحجاز على مراحل من المدينة جاء الإسلام وهي بأدي اليهود وبعد فتح خيبر ألقى الله جلّ جلاله في قلوب أهلها الرعب فصالحوا النبي (صلّى الله عليه وآله) على النصف من غلاّتها ونزل جبرائيل (عليه السلام) بالآية الكريمة ( فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ ) ثم طلب من النبي (صلّى الله عليه وآله) أن يعطي فدكاً لفاطمة (عليها السلام) عوضاً عن أموال أمها خديجة التي تمّ إنفاقها في سبيل الدعوة الإسلامية.
بقيت فدك بيد الزهراء عدة سنوات في حياة الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) وهي تنفق ما يحصل منها على الفقراء دون أن تدّخر شيئاً لنفسها أو لأهل بيتها.
وبعد وفاة الرسول (صلّى الله عليه وآله) أخذها أبو بكر معتقداً أن أخذها يضعف جانب الإمام علي (عليه السلام) فطالبت الزهراء (عليها السلام) باسترجاعها حتى أنها خطبت في مسجد أبيها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) خطبتها المشهورة التي كادت تزلزل بالحاكمين.
ولقد عقد العلامة الكبير ابن أبي الحديد المعتزلي في شرح نهج البلاغة فصلاً مطولاً عن فدك ، ومما جاء فيه قال : إني سألت علي بن الفارقي ـ من علماء بغداد الكبار ـ هل كانت فاطمة صادقة في دعواها ؟
قال : نعم ، فقلت له : فلماذا لم يرجع فدكاً إليها ؟
فقال : لو أرجعها لجاءت في اليوم الثاني وطلبت منه الخلافة.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 191 _

  فثار الرشيد ولم يملك أعصابه دون أن قال :
  ـ لم يبق لنا شيء!!
  ـ فقال الإمام (عليه السلام) : (قد علمت أنك لا تردّها).
  وتركه الإمام (عليه السلام) والكمد يحزّ في نفسه ، فأضمر له الشر منتظراً الوقت المناسب للتنكيل به 485
  لقد بيّن الإمام (عليه السلام) للرشيد أن العالم الإسلامي بجميع أقاليمه من عدن إلى سيف البحر ترجع سلطته له ، وإن الرشيد من سبقه من الخلفاء قبله قد استأثروا وغصبوا الخلافة من أهل البيت (عليهم السلام).
  3 ـ حرص الرشيد على الملك
  كان هارون الرشيد يحصر حرصاً شديداً على ملكه ، يضحّي في سبيل السلطة جميع المثل والقيم والمقدسات ، وقد عبّر عن مدى تفانيه في حب السلطة بكلمته الحقيرة التي تناقلتها الأجيال وهي : (لو نازعني رسول الله (صلّى الله عليه وآله) على السلطة لأخذت الذي فيه عيناه).
  أجل لو نازعه الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله) لأخذ الذي فيه عيناه ، فكيف لو نازعه الإمام (عليه السلام) ؟! فهل يمكن أن يخلّي عن سراحه ؟ هذا والذي يحزّ في نفسه إجماع الناس على حب الإمام (عليه السلام) وتقديرهم له.
  لذلك كان يخرج متنكراً بغير زيّه ليسمع أحاديث العامة ، ويقف على رغبتهم واتجاههم ، فلا يسمع إلا الذكر العاطر ، والحبّ الجامع والثناء على الإمام (عليه السلام).
  كل الناس يحبونه ، كل الناس يرغبون في أن يتولّى شؤونهم ، فلذلك أقدم على ارتكاب فعلته الشنعاء والموبقة حتى انتهى به الأمر إلى قتل الإمام (عليه السلام).
  4 ـ بغضه للعلويين
  ورث هارون الرشيد بغضه للعلويين عن آبائه الذين نكّلوا بهم ، وصبّوا عليهم ألواناً من العذاب والاضطهاد والقتل والتشريد.
  فمنهم من ساقوهم إلى السجون ، ومنهم إلى القبور ، طاردوهم في كل ناحية حتى هربوا هائمين على وجوههم يلاحقهم الخوف والفزع والرعب.

---------------------------
(1) المناقب ، ج 2 ، ص 381.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 192 _

  أما هارون قد أترعت نفسه ببغض العلويين فزاد على أسلافه جوراً وظلماً وإرهاباً حتى أشاع الحزن والثكل والحداد في كل بيت من بيوتهم ، استعمل جميع إمكانياته للبطش بهم ، ففرض عليهم الإقامة الجبرية في بغداد ، وجعلهم تحت المراقبة الدقيقة ، ولم يسمح للاتصال بهم ، وحرمهم من جميع حقوقهم الاجتماعية ، حتى أنه دفن البعض منهم أحياء.
  وطبيعي أنه لا يترك عميد العلويين الإمام الكاظم (عليه السلام) في دعة واطمئنان ، ولم يرق له محبة الجماهير للإمام ، فنكّل به ودفعه لؤمه وعداؤه الموروث إلى سجنه وحرمان الأمة الإسلامية من الاستفادة بعلومه ، ومن سموّ نصائحه وصواب توجيهاته.
  لقد استقبل إمامته التي استمرت خمسة وثلاثين عاماً في هذا الجور المشحون بالحقد والكراهية لأهل البيت بصورة عامة ، فلزم جانب الحذر واعتصم بالكتمان إلا عن خاصته ، حتى أن رواته قلّما كانوا يروون عنه باسمه الصريح ، لكن كل ذلك لم ينجيه من سجن الطاغية هارون.
  5 ـ الوشاية بالإمام (عليه السلام)
  ضمائر رخيصة انعدمت من نفوسهم الإنسانية ، فعمد فريق منهم فباعوا دينهم بثمن رخيص ، فوشوا بالإمام (عليه السلام) عند الطاغية هارون ليتزلّفوا إليه بذلك وينالوا في دنياهم الفانية بعض جوائزه.
  وقد بلي بهم الإسلام والمسلمون فاستعان الظالمون بهؤلاء الأوغاد في جميع مراحل التاريخ على تنفيذ خططهم الإرهابية الرامية إلى إشاعة الظلم والجور والفساد في الأرض ، وقد نرى بعضاً منهم في هذه الأيام ، كانت وشاية هؤلاء المجرمين بالإمام (عليه السلام) ذات طوابع متعددة.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 193 _

  أ) طلبه للخلافة
  سعى فريق من باعة الضمير بالوشاية على الإمام (عليه السلام) عند هارون فأوغروا صدره ، وأثاروا كوامن الحقد عليه ، فقالوا : إنه يطالب بالخلافة ، ويكتب إلى سائر الأقطار والأمصار الإسلامية يدعوهم إلى نفسه ، ويحفّزهم إلى الثورة ضد الحكومة ، وكان في طليعة هؤلاء يحيى البرمكي.
  قال ليحيى بن أبي مريم : ألا تدلّني على رجل من آل أبي طالب له رغبة في الدنيا فأوسع له منها ؟
  فقال له : نعم ، ذاك علي بن إسماعيل بن جعفر ، فأرسل خلفه يحيى وكان آنذاك في الحج ، فلما اجتمع به قال له يحيى : أخبرني عن عمّك موسى ، وعن شيعته وعن المال الذي يحمل إليه.
  فقال : عندي الخبر وحدثه بما يريد ، فطلب منه أن يرحل معه إلى بغداد ليجمع بينه وبين هارون ، فأجابه إلى ذلك ، فلما سمع الإمام الكاظم (عليه السلام) بسفره مع يحيى بعث خلفه فقال له : بلغني انك تريد السفر ؟
  ـ قال : نعم ، فقال له الإمام : إلى أين ؟ فقال : إلى بغداد. فقال له الإمام : ما تصنع ؟ فقال : عليّ دين وأنا مملق.
  ـ أنا أقضي دينك ، وأكفيك أمورك.
  فلم يلتفت إلى الإمام لأن الشيطان قد وسوس له فأجاب داعي الهوى ، وترك الإمام وقام من عنده ، فقال (عليه السلام) له : لا تؤتم أولادي ، ثم أمر (عليه السلام) له بثلاثمائة دينار وأربعة آلاف درهم ، وقال (عليه السلام) : والله ليسعى في دمي ويؤتم أولادي فقال له أصحابه.
  جعلنا الله فداك فأنت تعلم هذا من حاله ، وتعطيه ؟!!
  فقال (عليه السلام) : حدثني أبي عن آبائه عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أنه قال : إن الرحم إذا قطعت فوصلت قطعها الله.
  وخرج علي يطوي البيداء حتى انتهى إلى بغداد ، فدخل على الرشيد فقال له بعد السلام عليه : ما ظننت أن في الأرض خليفتين حتى رأيت عمي موسى بن جعفر يسلّم عليه بالخلافة.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 194 _

  وقيل أنه قال له : إن الأموال تحمل إليه من كل النواحي ، وإن له بيوت أموال ، وإنه اشترى ضيعة بثلاثين ألف دينار ، وسماها (اليسيريّة) فلما سمع هارون هذا الكلام أحرقه الغيظ وفقد صوابه ، وأمر لعلي بمائتي ألف درهم على أن يستحصلها من بعض نواحي المشرق فمضت الرسل لجباية المال إليه ، فدخل العميل الذي باع آخرته بدنياه بيت الخلاء فزحر فيه وسقط أمعاؤه.
  فأخرج منه وهو يعاني آلام الموت فقيل له : إن الأموال قد وصلتك فقال : ما أصنع بها والموت قد وصلني معها ، وقيل أنه رجع إلى داره فهلك فيها في تلك الليلة التي اجتمع بها (1) مع الطاغية هارون ، فقد ذهب المال منه وبقي عليه الخزي والعذاب الأليم.
  ب) جباية الأموال
  وسبب آخر أثار كوامن الغيظ والحقد في نفس هارون ، وهو جباية الأموال ، عمد بعض الأشرار بإخباره أن الإمام قد اشترى ضيعة تسمى (اليسيريّة) جمعها (عليه السلام) من الأموال التي تجبى إليه عن طريق الخُمس من كل صعيد فكمن للإمام الشرّ ليوقع به.
  وكانت سياسته المكشوفة تجاه العلويين تقضي بفقرهم ووضع الحصار الاقتصادي عليهم ، فإن فقرهم أجدى له وأنفع من غناهم ـ كما أوصى ولده المأمون ـ لأن المال كان ولم يزل عنصراً هاماً في سياسة الأشخاص وسياسة الدول ، فهو سلاح ذو حدين يستعمل للمصالح الخيرية كما يستعمل للشر عن طريق الجماعة الباغية.
  وقد ذهب ابن الصباغ إلى أن هذه الوشاية من جملة الأسباب التي دعت إلى سجن الإمام (عليه السلام) (2)
  6 ـ سموّ شخصية الإمام (عليه السلام)
  كان الإمام (عليه السلام) كما هو معروف من قبل علماء عصره ، من ألمع الشخصيات الإسلامية ، فهو إمام معصوم ابن إمام معصوم ، وأحد أوصياء الرسول (صلّى الله عليه وآله) على أمته ، وقد أجمع المسلمون على اختلاف مذاهبهم على إكبار الإمام وتقديره ، فكلهم نهلوا من علومه وأخلاقه ، وكلهم تمثلوا بتقواه وورعه وكلهم أحبوه لسخائه وكرمه ، حتى أن أعداءه كانوا يحترمونه ويبجلونه ، وهارون الرشيد نفسه يبجّله ويعتقد ضميرياً بأن الإمام (عليه السلام) أولى بالخلافة الإسلامية منه ، كما حدّث بذلك لابنه المأمون.

---------------------------
(1) عيون أخبار الرضا ، الغيبة للشيخ الطوسي ، البحار ، المناقب ، وقيل أن الساعي به هو محمد بن إسماعيل.
(2) الفصول المهمة ، ص 252.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 195 _

  فقد قال لندمائه : أتدرون من علّمني التشيّع ؟
  فانبروا جميعاً قائلين : لا والله ما نعلم ... فقال : علّمني ذلك الرشيد.
  فقالوا : كيف ذلك ؟ والرشيد كان يقتل أهل هذا البيت ؟!
  قال : كان يقتلهم على المُلك لأن المُلك عقيم ، ثم أخذ يحدّثهم عن ذلك قائلاً : لقد حججت معه سنة فلما انتهى إلى المدينة قال : لا يدخل عليّ رجل من أهلها أو من المكيّين سواء كانوا من أبناء المهاجرين والأنصار أو من بني هاشم حتى يعرّفني بنسبه وأسرته ، فأقبلت إليه الوفود تترى وهي تعرّف الحاجب بأنسابها ، فيأذن لها ، وكان يمنحها العطاء حسب مكانتها ومنزلتها ، وفي ذات يوم أقبل الفضل بن الربيع حاجبه يقول له : رجل على الباب ، زعم أنه موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام).
  فلما سمع هارون بهذا الاسم الشريف أمر جلساءه بالوقار والهدوء ، ثم قال لرئيس تشريفاته : إئذن له ، ولا ينزل إلا على بساطي.
  وأقبل الإمام (عليه السلام) وقد وصفه المأمون فقال : إنه شيخ أنهكته العبادة ، والسجود يكلم وجهه ، أما هارون فقام ولم يقبل إلا أن ينزل الإمام عن دابته على بساطه ، ونظر إليه بكل إجلال وإعظام فقبّل وجهه وعينيه ، وأخذ بيده حتى صيّره في صدر مجلسه والحجّاب وكبار القوم محدقون به ، ثم أقبل يسأله عن أحواله ويحدّثه ، ثم قال له :
  ـ يا أبا الحسن ما عليك من العيال ؟ قال الإمام : يزيدون على الخمسمائة.
  ـ أولاد كلهم ؟ قال الإمام (عليه السلام) : لا ، أكثرهم مواليّ وحشمي فأما الأولاد فلي نيّف وثلاثون ، ثم بيّن له عدد الذكور والإناث.
  ـ لِمَ لا تزوّج النسوة من بني عمومتهن ؟ قال الإمام : اليد تقصر عن ذلك.
  ـ فما حال الضيعة ؟ قال الإمام : تعطي في وقت وتمنع في آخر.
  ـ فهل عليك دين ؟ قال الإمام (عليه السلام) : نعم.
  ـ كم ؟ قال الإمام (عليه السلام) : نحو من عشرة آلاف دينار.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 196 _

  ـ يا ابن العم ، أنا أعطيك من المال ، ما تزوّج به أولادك ، وتعمر به الضياع.
  ـ قال الإمام (عليه السلام) : وصلتك رحم يابن العم ، وشكر الله لك هذه النية الجميلة ، والرحم ماسة واشجة ، والنسب واحد ، والعباس عم النبي (صلّى الله عليه وآله) وصنو أبيه ، وعم علي بن أبي طالب وصنو أبيه ، وما أبعدك الله من أن تفعل ذلك وقد بسط يدك ، وأكرم عنصرك ، وأعلى محتدك.
  ـ أفعل ذلك يا أبا الحسن ، وكرامة.
  فقال له الإمام (عليه السلام) : إن الله عزّ وجلّ قد فرض على ولاة العهد أن ينعشوا فقراء الأمة ، ويقضوا على الغارمين ، ويؤدوا عن المثقل ويكسوا العاري ، وأنت أولى من يفعل ذلك.
  ـ افعل ذلك يا أبا الحسن.
  فانصرف الإمام (عليه السلام) وقام هارون فودّعه وقبّل وجهه وعينيه ، ثم التفت إلى أولاده فقال لهم : قوموا بين يدي عمكم وسيدكم ، وخذوا بركابه وسووا عليه ثيابه ، وشيّعوه إلى منزل ، فانطلقوا مع الإمام بخدمته وأسرّ الإمام (عليه السلام) إلى المأمون فبشّره بالخلافة وأوصاه بالإحسان إلى والده ، ولما انتهوا من خدمة الإمام (عليه السلام) وإيصاله إلى داره ، قال المأمون كنت أجرأ ولد أبي عليه ، فلما خلا المجلس قلت له : (يا أمير المؤمنين ، مَن هذا الرجل الذي عظّمته وقمت من مجلسك إليه فاستقبلته وأقعدته في صدر المجلس ، وجلست دونه ثم أمرتنا بأخذ الركاب له) ؟
  قال هارون : هذا إمام الناس ، وحجّة الله على خلقه ، وخليفته على عباده.
  قال المأمون : يا أمير المؤمنين أو ليست هذه الصفات كلها لك وفيك ؟
  قال هارون : أنا إمام الجماعة في الظاهر بالغلبة والقهر ، وموسى بن جعفر إمام الحق ، والله يا بني : إنه لأحق بمقام رسول الله (صلّى الله عليه وآله) مني ومن الخلق جميعاً ، ووالله لو نازعتني أنت هذا الأمر لأخذت الذي فيه عينيك فإن المُلك عقيم.
  فيا سبحان الله عرف الحق ونطق به ، ثم انحرف عنه حباً بالتملك والسلطان.
  اهتم هارون بدنياه ونسي أو تناسى اليوم الآخر ، يوم لا ينفع لا مال ولا ولد ولا سلطان !!

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 197 _

  بقي هارون في يثرب عدة أيام ، ولما أزمع على الرحيل منها أمر للإمام بصلة ضئيلة جداً قدرها مائتا دينار ، وأوصى الفضل بن الربيع أن يعتذر له عند الإمام ، فانبرى إليه ولده المأمون مستغرباً من قلّة صلته مع كثرة تعظيمه وتقديره الزائد له قائلاً : (يا أمير المؤمنين تعطي أبناء المهاجرين والأنصار ، وسائر قريش وبني هاشم ، ومن لا يعرف نسبه خمسة آلاف دينار ، وتعطي الإمام موسى بن جعفر وقد عظمته وأجللته مائتي دينار وهي أخس عطية أعطيتها أحداً من الناس) ؟ فغضب هارون وصاح على ابنه قائلاً : (اسكت ، لا أم لك ، فإني لو أعطيت هذا ما ضمنته له ما كنت آمنه أن يضرب وجهي بمائة ألف سيف من شيعته ومواليه ، وفقر هذا وأهل بيته أسلم لي ولكم من بسط أيديهم) (1) .
  يتوضح من خلال هذه الرواية وغيرها اعتقاد هارون بإمامة موسى (عليه السلام) وأنه خليفة الله في أرضه ، وحجّته على عباده ، وأن الخلافة الإسلامية من حقوقه الخاصة ، وهو أولى بها منه ، لكن الذي حدث عكس ذلك لأن حب الدنيا وزهوة السلطان هو الذي سلبها منه ومن آبائه من قبله ، فالمُلك عقيم ، كما كشف هارون عن نفسه في حديثه مع ابنه المأمون ، السبب الأساسي في حرمانه الإمام الكاظم (عليه السلام) من عطائه حسب منزلته.
  عقدة الخوف تطارده دائماً ، وهي انتفاضة الإمام وخروجه عليه إن تحسنت أحواله الاقتصادية.
  وهذا هو الحرب الذي تستعمله الدول المستعمرة مع خصومها اليوم من أجل إنهاكها وإضعافها ، لكن الليل سوف يزول مهما تأخر طلوع الصباح.
  كان الرشيد يعلم بمكانة الإمام الاجتماعية ، وكفاءته العلمية ، ومحبّة الناس له ، وتقديرهم لمواهبه ، وهو نفسه يعتقد أن الإمام وارث علوم الأنبياء ، وخليفة الله الحق على عباده ، فكان يسأله دائماً عما يجري من الأحداث ، والإمام (عليه السلام) لم يبخل عليه بأي جواب.
  وقد سأله عن الأمين والمأمون ، فأخبره بما يقع بينهما ، فحزّ ذلك في نفسه ، وتألّم كثيراً.
  روى الأصمعي قال : دخلت على الرشيد ، وكنت قد غبت عنه بالبصرة حولاً ، فسلّمت عليه بالخلافة ، فأومأ لي بالجلوس قريباً منه فجلست ، ثم نهضت ، فأومأ لي ثانية أن أجلس فجلست حتّى خفّ الناس ، ثم قال لي : (يا أصمعي ألا تحب أن ترى محمداً وعبد الله ابنيّ ؟).

---------------------------
(1) البحار ، ج 11 ، ص 270 ـ 272.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 198 _

  قلت : (بلى يا أمير المؤمنين ، إني لأحب ذلك ، وما أردت القصد إلا إليهما لأسلّم عليهما).
  أمر الرشيد بإحضارهما ، فأقبلا حتى وقفا على أبيهما ، وسلّما عليه بالخلافة ، فأومأ لهما بالجلوس ، فجلس محمد عن يمينه ، وعبد الله عن يساره ثم أمرني بمطارحتهما الأدب ، فكنت لا ألقي عليهما شيئا في فنون الأدب إلا أجابا فيه ، وأصابا ، فقال الرشيد : كيف ترى أدبهما ؟
  ـ يا أمير المؤمنين ما رأيت مثلهما في ذكائهما ، وجودة فهمهما ، أطال الله بقاءهما ورزق الله الأمة من رأفتهما وعطفهما.
  فأخذهما الرشيد وضمّهما إلى صدره ، وسبقته عبرته فبكى حتى انحدرت دموعه على لحيته ، ثم إذن لهما في القيام فنهضا ، وقال : (يا أصمعي كيف فهما إذا ظهر تعاديهما ، وبدا تباغضهما ، ووقع بأسهما بينهما ، حتى تسفك الدماء ، ويود كثير من الأحياء أنهما كانا موتى) فبهر الأصمعي من ذلك وقال له : (يا أمير المؤمنين هذا شيء قضى به المنجّمون عند مولدهما ، أو شيء أثرته العلماء في أمرهما !!).
  فقال الرشيد بلهجة الواثق بما يقول : (لا ، بل شيء أثرته العلماء عن الأوصياء عن الأنبياء في أمرهما ...).
  قال المأمون : كان الرشيد قد سمع جميع ما يجري بيننا من موسى بن جعفر (1)
  إن علم الرشيد بسموّ منزلة الإمام ، وبما تذهب إليه جموع المسلمين من القول بإمامته هو الذي أثار غضبه ، وزاد في أحقاده عليه ، ممّا دعاه إلى زجّه في السجن أعواماً طويلة.
  كان الحقد على العلويين عامة والإمام موسى (عليه السلام) خاصة من مقومات ذات الرشيد ، ومن أبرز صفاته النفسية ، وكان يحمل حقداً لكل شخصية مرموقة لها المكانة العليا في مجتمعه ، ولم يرق له بأي حال أن يسمع الناس يتحدّثون عن أي شخص يتمتع بمكانة عليا ، محاولاً احتكار الذكر الحسن لنفسه ولذاته ، لكن الليل لا يستطيع منع الفجر من الطلوع ، فالفجر يطلع والشمس تسطع بنورها الكاشف ، والجمهور يميّز بين الظلام والنور.

---------------------------
(1) حياة الحيوان للدميري ، ج 1 ، ص 77.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 199 _

  7 ـ صلابة موقف الإمام (عليه السلام)
  كان صلحاء الأمة يقاومون الظلم في كل عهوده وفي كل ألوانه ، لأن ذلك واجب شرعي أوصى عليه الله عزّ وجلّ في كتابه ، وأوصى عليه الرسول (صلّى الله عليه وآله) في أحاديثه الشريفة ، وقاومه الأئمة (عليهم السلام) كل واحد منهم حسب الظرف المناسب له ، قال تعالى : ( أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ) (1) .
  والإمام موسى الكاظم ابن أبيه وأجداده (عليهم السلام) كان موقفه مع هارون الرشيد الطاغية الظالم موقفاً سلبياً ، تمثلت فيه صلابة الحق وصرامة العدل.
  فقد حرّم على شيعته التعاون مع السلطة الحاكمة بأي وجه من الوجوه.
  من ذلك ما قاله لصاحبه صفوان وكان صاحب جمال يكريها لهارون أيام حج بيت الله الحرام ، افهمه أن التعامل مع الظالمين حرام ، فاضطرّ صفوان لبيع جماله ، فعرف هارون ، ممّا دفعه إلى الحقد على صفوان وهمّ بقتله.
  وكذلك منع الإمام (عليه السلام) زياد بن أبي سلمة من وظيفته في بلاد هارون عملاً بقول الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله) ، عن أبيه الصادق عن أبيه ، عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : (قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : من أرضى سلطاناً بسخط الله خرج من دين الله ) (2) .
  لقد شاعت في الأوساط الإسلامية فتوى الإمام الكاظم بحرمة الولاية من قبل هارون الطاغية وأضرابه من الحكام الظالمين ، فأوغر ذلك قلب هارون وساءه إلى أبعد الحدود ، فترقّب له ساعة الوقوع به.
  ونوجز القول : إن موقف الإمام مع هارون كان موقفاً صريحاً واضحاً ، لم يصانع ولم يتسامح معه على الإطلاق.
  فقد دخل عليه في بعض قصوره الأنيقة والفريدة في جمالها في بغداد ، فانبرى إليه هارون وقد أسكرته نشوة الحكم قائلاً : ما هذه الدار ؟ فأجابه الإمام (عليه السلام) غير مكترث بسلطانه وجبروته قائلاً : (هذه دار الفاسقين) قال الله تعالى في كتابه العزيز : ( سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لاَ يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ ) (3) .
  لما سمع هارون هذا الكلام سرت الرعدة في جسمه ، وامتلأ قلبه غيظاً فقال للإمام : دار من هي ؟
  ـ هي لشيعتنا فترة ، ولغيرهم فتنة.

---------------------------
(1) سورة الحج ، الآية 39.
(2) الكافي ، ج 2 ، ص 373.
(3) سورة الأعراف ، الآية 146.