السخاء وحسن الخلق
  لقد حثّ القرآن الكريم على حسن الخلق ورغب فيه ودعا إليه بأسلوب هو غاية في الروعة والأداء ، فيه التشوق إلى العطاء الذي ما بعده من عطاء ، ألا وهو قرض الله قرضاً حسناً وهل هناك أكرم وأعظم من هذا الذي نقرضه؟ إنه العلي القدير ، الرحمان الرحيم رب العالمين فاطر السماوات والأرض صاحب العرش العظيم ، قال تعالى : ( مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) (1) .
  فأي تلطف من رب العالمين تبارك وتعالى في هذا التعبير الذي يجعل الإحسان بمثابة الأقراض وإنما يقترض المحتاج والله غني عن العالمين حيث له ملك السماوات والأرض ومن فيهن ، ولقد جاء التعبير بمثل هذه الصورة نيابة عن الفقراء والمحتاجين ودفاعاً عنهم ، وما قيمة امرئ يبخل بأقراض بعض المال لواهبه الذي سيرده بلا ريب أضعافاً مضاعفة !! والإمام الكاظم (عليه السلام) لهذا كله حث أصحابه على التحلي بالسخاء وحسن الخلق قال (عليه السلام) : (السخي الحسن الخلق في كنف الله ، لا يتخلى الله عنه ، حتى يدخله الجنة ، وما بعث الله نبياً إلا سخياً ، وما زال أبي يوصيني بالسخاء وحسن الخلق...).
  وقد عمل (عليه السلام) بوصية أبيه (عليه السلام) ثم بوصية جده (صلّى الله عليه وآله) الرسول الأكرم الذي قال : (ألا أخبركم بأحبكم إليّ وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة ؟ أحاسنكم أخلاقاً الموطئون أكنافاً الذين يألفون ويؤلفون ... ) (2) .

مكارم الأخلاق
  سأل رجل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) عن حسن الخلق ، فتلا قوله تعالى : ( خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ) (3) ثم قال (صلّى الله عليه وآله) : (وهو أن تصل من قطعك ، وتعطي من حرمك ، وتعفو عمن ظلمك).
  وقال (صلّى الله عليه وآله) : إن الخلق الحسن ليميت الخطيئة كما تميث الشمس الجليد) (4) .
  وجاء في الكافي عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال : (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً).
  وعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال : (ما يتقدم المؤمن على الله عزّ وجلّ بعمل بعد الفرائض أحب إلى الله تعالى من أن يسع الناس خلقه).

---------------------------
(1) سورة البقرة ، الآية 245.
(2) المجازات النبوية للشريف الرضي ، ج 1 ، ص 187 ، والكنف : الجانب ، الموطئون : الذين يدوس الناس جانبهم فلا يؤذون ولا يزعجون.
(3) الأعراف ، الآية 199.
(4) المجازات النبوية للشريف الرضي.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 113 _

  والإمام الكاظم (عليه السلام) عني بهذه الظاهرة فكان دوماً يوصي أصحابه بالتحلي بالصفات الكريمة ليكونوا بسلوكهم وهديهم قدوة صالحة لهم وللمجتمع ، حتى يستطيعوا على نشر مفاهيم الخير والصلاح بين الناس.
  وفي معنى الخلق وكيفيته وتهذيبه : قال العلماء : ليس الخلق عبارة عن الفعل ، فرب شخص خلقه السخاء ، ولا يبذل إما لفقد المال أو لمانع آخر ، وربما يكون خلقه البخل وهو يبذل لباعث أو رياء ، ولا عبارة عن القدرة لأن نسبة القدرة إلى الضدين واحدة ، ولا عن المعرفة فإن المعرفة تتعلق بالجميل والقبيح جميعاً على وجه واحد بل هو عبارة عن هيئة النفس وصورتها الباطنة.
  وكما أن حسن الصورة الظاهرة مطلقاً لا يتم بحسن العينين دون الأنف والفم والخد بل لابدّ من حسن الجميع ليتم حسن الظاهر ، فكذلك لابدّ من الباطن من أربعة لابدّ من الحسن في جميعها حتى يتم حسن الخلق فإذا استوت الأركان الأربعة واعتدلت وتناسبت حصل حسن الخلق وهي : قوة العلم ، وقوة الغضب ، وقوة الشهوة ، وقوة العدل بين هذه القوى الثلاث :
  1 ـ قوة العلم : فحسنها وصلاحها من أن تصبر بحيث يسهل لها درك الفرق بين الصدق والكذب في الأقوال ، وبين الحق والباطل في الاعتقادات ، وبين الجميل والقبيح في الأفعال ، فإذا تحصلت هذه القوى حصل منها ثمرة الحكمة التي هي رأس الأخلاق الحسنة (ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً) (1) .
  2 ـ قوة الغضب : وأما قوة الغضب والشهوة فحسنهما في أن يقتصر انقباضهما وانبساطهما على حدما تقتضيه الحكمة والدين.
  3 ـ قوة العدل : وأما قوة العدل فهي ضبط قوة الغضب والشهوة تحت إشارة العقل والشرع ، فالعقل منزلته منزلة الناصح والمشير ، وقوته القدرة ومنزلتها منزلة المنفذ الممضي لإشارته ، والغضب والشهوة تنفذ فيهما الإشارة.
  ومثال الغضب مثال كلب الصيد ، فإنه يحتاج إلى أن يؤدّب حتى يكون استرساله وتوقفه بحسب الإشارة لا بحسب هيجان النفس ، ومثال الشهوة مثال الفرس الذي يركب في طلب الصيد ، فإنّها تارة تكون مروضاً مؤدباً ، وتارة تكون جموحاً ، فمن استولت فيه هذه الصفات واعتدلت فهو حسن الخلق مطلقاً ، ومن اعتدل فيه بعضها دون بعض فهو حسن الخلق بالإضافة إلى ذلك المعنى خاصة ، كالذي يحسن بعض أجزاء وجهه دون البعض.

---------------------------
(1) الأخلاق للعلامة السيد عبد الله شبر ، ص 10.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 114 _

  وحسن قوة الغضب واعتدالها يعبر عنه بالشجاعة ، وحسن قوة الشهوة واعتدالها يعبر عنه بالعفّة ، فإن مالت قوة الغضب عن الاعتدال سمّي ذلك تهوراً ، وإن مالت إلى الضعف والنقصان سمّي ذلك جبناً وإن مالت قوة الشهوة إلى طرف الزيادة سمي شرهاً وإن مالت إلى النقصان سمي خموداً ، والمحمود هو الوسط ، وهو العدل والفضيلة ، والطرفان رذيلتان مذمومتان والعدل إذاً فات فليس له طرفان بزيادة ونقصان ، بل له ضد واحد وهو الجور.
  وأما الحكمة فيسمى إفراطها عند الاستعمال في الأغراض الفاسدة خباً ، ويسمي تفريطها بلهاً ، والوسط هو الذي يختص باسم الحكمة والخلاصة أن أمهات الأخلاق الحسنة والجميلة وأصولها أربعة : الحكمة والشجاعة والعفة والعدل.
  لم يبلغ كمال الاعتدال من البشر في هذه الأصول الأربعة إلا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ولهذا أثنى الله عليه قائلاً : ( وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) (1) .
  والناس بعدة يتفاوتون في القرب والبعد فينبغي أن يقتدي به ، وقد أشار سبحانه وتعالى إلى هذه الأخلاق في أوصاف المؤمنين : ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ) (2) .
  فالايمان بالله ورسوله من غير ارتياب هو قوة اليقين ، وهو ثمرة العقل ، ومنتهى الحكمة.
  والمجاهدة بالمال هو السخاء الذي يرجع إلى ضبط قوة الشهوة ، والمجاهدة بالنفس هي الشجاعة التي ترجع إلى استعمال قوة الغضب على شرط العقل وحد الاعتدال ، وقد وصف الله عزّ وجلّ به قوماً فقال : ( أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ) (3) .
  وهذه إشارة إلى أن للشدة موضعاً وللرحمة موضعاً ، وليس الكمال بالشدة في كل حال ، ولا في الرحمة بكل حال.
  وما نراه اليوم يتمثل عملياً على ارض لبنان في الجنوب الحبيب والبقاع الغربي الحبيب على يد أبطال المقاومة المسلمة الذين استعملوا الشدة في موضعها فجاهدوا بأنفسهم بكل شجاعة محكمين غضبهم على شرط العقل ، ومقاومين عناقيد الغضب بدمائهم الزكية الطاهرة فإيمانهم في غير ارتياب لقوة يقينهم وهم بالنتيجة الصادقون الصابرون.

---------------------------
(1) سورة القلم ، الآية 4.
(2) سورة الحجرات ، الآية 15.
(3) سورة الفتح ، الآية 29.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 115 _

فماذا إذن عن الصبر ؟
الصبر وفضله

  من الصفات الحميدة التي يتحلى بها المؤمنون ، الصبر ، فهو المحك لقوة إيمان الإنسان وصلابة إرادته تجاه النوائب والمصائب التي تحل به.
  قال تعالى : ( وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) (1) .
  وقال تعالى أيضاً : ( وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا ) (2) .
  وقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بما معناه : (من أقل ما أوتيتم اليقين وعزيمة الصبر ، ومن أعطي حظه منهما لم يبال ما فاته من قيام الليل وصيام النهار).
  وسئل (صلّى الله عليه وآله) عن الإيمان ؟ فقال : الصبر والسماحة.
  وقال الإمام الباقر (عليه السلام) : (الجنة محفوفة بالمكاره والصبر ، فمن صبر على المكاره في الدنيا دخل الجنة ، وجهنم محفوفة بالملذات والشهوات فمن أعطى نفسه لذتها وشهوتها دخل النار).
  وقال الإمام الصادق (عليه السلام) : (من ابتلي من المؤمنين ببلاء فصبر عليه كان له مثل أجر ألف شهيد).
  وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) : (بني الإيمان على أربع دعائم : اليقين ، والصبر ، والجهاد ، والعدل).
  والإمام الكاظم (عليه السلام) سار على نهج أبيه وجده فأوصى أصحابه بالتمسك بالصبر إن نزلت بهم كارثة أو حل بهم خطب ، فإن الجزع يذهب بالأجر الذي أعده الله للصابرين فقال (عليه السلام) بما مضمونه : (المصيبة لا تكون مصيبة يستوجب صاحبها أجرها إلا بالصبر والاسترجاع عند الصدمة).
  وقال (عليه السلام) عقب البلاء الذي أصابه من الحكام العباسيين : (إن الصبر على البلاء أفضل من العافية عند الرخاء).
  ولكن أين الرخاء ؟ في سجون هارون الرشيد والهادي !!
  وقال (عليه السلام) : (المصيبة للصابر واحدة وللجازع اثنتان).
  أما الذين صبروا على البلاء مثل الإمام الكاظم وأبيه وأجداده فقال الله سبحانه وتعالى عنهم : ( أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا ) (3) .

---------------------------
(1) سورة النحل ، الآية 96.
(2) سورة السجدة ، الآية 24.
(3) سورة القصص ، الآية 54.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 116 _

في حقيقة الصبر
  من المعلوم أن الحرب قائمة على قدم وساق بين باعث الدين وباعث الهوى ومكان المعركة بينهما قلب المؤمن ، ولكن مدد باعث الدين من الملائكة الناصرين لحزب الله ، ومدد باعث الهوى من الشياطين الناصرين لأعداء الله ، فالصبر عند ذلك عبارة عن ثبات باعث الدين في مقابلة باعث الهوى والشهوة.
  والصبر ضربان : بدني ونفسي.
  ـ بدني كتحمل المشاق في السفر أو الأعمال الشاقة من العبادات ، أو المرض الشديد أو الجراحات والتعذيب.
  ـ ونفسي : وهو الصبر على مشتهيات الطبع ، ومقتضيات الهوى ، فإن كان على احتمال مكروه اثر مصيبة اقتصر على اسم الصبر.
  وإن كان عن شهوة البطن والفرج سمّي عفة ، وإن كان في الحرب سمّي شجاعة ، وإن كان في نائبة من نوائب الزمان الصعبة سمّي سعة الصدر ، وإن كان في إخفاء كلام سمّي كتماناً وإن كان في فضول العيش سُمِّيَ زهداً ، وإن كان في كظم الغيظ والغضب سمّي حلماً ، والإمام الكاظم هو من أفضل الحالمين لكثرة صبره وكظم غيظه ، ولهذا سمي بالكاظم.
  والعبد في جميع الأحوال لا يستغني عن الصبر في حياته الخاصة والعامة ، لأن ما يلقاه في الدنيا إما أن يوافق هواه ، وإما يكرهه ، وحاله غير خارج عن هذين الضربين وهو لا محالة محتاج إلى الصبر في كل منهما.
  وهناك صبر لا يقع تحت الاختيار كالمصائب مثل الموت لبعض الأحباب وهلاك الأموال وزوال الصحة بالمرض وسائر أنواع البلاء.
  وهذا النوع من الصبر مستند إلى اليقين ، قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بما مضمونه : (أسألك من اليقين ما يهون به علي مصائب الدنيا) ، وقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : الصبر ثلاثة : صبر على المصيبة ، وصبر على الطاعة ، وصبر عن المعصية ، فمن صبر على المصيبة حتى يردّها بحسن عزائها ، كتب له ثلاثمائة درجة ، ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين السماء إلى الأرض ، ومن صبر على الطاعة ، كتب الله له ستمائة درجة ، ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين تخوم الأرض إلى العرش ، ومن صبر على المعصية كتب الله له تسعمائة درجة ، ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين تخوم الأرض إلى منتهى العرش (1)

---------------------------
(1) أصول الكافي ، ص 353.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 117 _

  والإنسان قد يخرج عن مقام الصابرين بالجزع الزائد والمبالغة في الشكوى ، وهذه بلا ريب داخلة تحت الاختبار ، فينبغي أن يتجنب جميعها ويظهر الرضا بالقضاء.
  ويروى أنه لمّا مات إبراهيم ولد النبي (صلّى الله عليه وآله) فاضت عيناه بالدموع فقيل له : أما نهيتنا عن هذا ؟ قال (صلّى الله عليه وآله) بما مضمونه : (إن هذا رحمة وإنما يرحم الله من عباده الرحماء) ، وقال (صلّى الله عليه وآله) : (تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول ما يسخط الرب).
  وسئل الإمام الباقر (عليه السلام) عن الصبر الجميل ؟ فقال : ذاك صبر ليس فيه شكوى وأما الشكاية إلى الله تعالى فلا بأس بها كما قال يعقوب : ( إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ ) (1) .
  ولكن لكل داء دواء فهل للصبر من دواء أو علاج ؟؟
  نعتقد أن الذي أنزل الداء أنزل الدواء ، ووعد بالشفاء ، فالصبر وإن كان شاقاً يمكن تحصيله بتقوية باعث الدين وتضعيف باعث الهوى بالمجاهدة والرياضة الروحية.
  فمن يكثر فكره فيما ورد في فضل الصبر يعلم أن ثوابه على المصيبة أكثر ممّا فات وإنه بسبب ذلك مغبوط بالمصيبة إذ فاته ما لا يبقى معه إلا مدة الحياة الدنيا وحصل له ما يبقى بعد موته أبد الدهر.
  وهذا ما يحصل كل يوم مع أهالي المجاهدين الأبطال في المقاومة حيث نجد العديد من الآباء والأمهات الذين فقدوا أبناءهم في هذه الدنيا فصبروا صبراً جميلاً مقوين باعث الدين ومضعّفغين باعث الهوى بالمجاهدة والرياضة ، عاملين بقول الرسول الأكرم الذي قال (صلّى الله عليه وآله) : (أسألك من اليقين ما يهون به علي مصائب الدنيا).

محاسبة النفس : الإمام الكاظم عالم نفسي
  قال الله تعالى : ( كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً ) (2) .
  وقال تعالى : ( وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً ) (3) .

---------------------------
(1) سورة يوسف ، الآية 86.
(2) سورة الإسراء ، الآية 14.
(3) سورة الكهف ، الآية 49.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 118 _

  فعلم أصحاب البصائر أن العليم بالسرائر والمطلع على الضمائر سيحاسبهم على كل صغير أو كبير أو جليل أو حقير ، وعلى مثاقيل الذر من الخطرات واللحظات والغفلات ، ولا ينجيهم من هذه الأخطار العظيمة والأهوال الجسيمة إلا محاسبة أنفسهم في الدنيا قبل أن يحاسبوا يوم القيامة.
  قال الإمام الصادق (عليه السلام) : إذا أراد أحدكم أن لا يسأل ربه شيئاً إلا أعطاه فلييأس من الناس كلهم ، ولا يكون له رجاء إلا من عند الله ، فإذا علم الله ذلك من قلبه لم يسأله شيئاً إلا أعطاه ، فحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا عليها ، فإن للقيامة خمسين موقفاً كل موقف مقام ألف سنة ، ثم تلا (عليه السلام) : ( فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ) (1) .
  ومعنى المحاسبة هو أن يحاسب الإنسان نفسه أولاً بالفرائض التي هي بمنزلة راس ماله ، فإن أدّاها على وجهها شكر الله على هذه النعمة ، وإن فوّتها من أصلها طالبها بالقضاء ، وكما أن التاجر يفتش في حساب الدنيا عن القيراط والحبة ليحفظ مداخل الزيادة والنقصان ، فينبغي عليه أن يتقي غائلة النفس ومكرها لأنها خداعة ، فليطالبها أولاً بتصحيح الجواب عن جميع ما يتكلم به طوال نهاره وليتكفل بنفسه من الحساب ما يستولي غيره في صعيد القيامة.
  وهكذا عن نظره وسمعه ولسانه ، بل عن خواطره وأفكاره وجميع جوارحه حتى عن سكونه وسكوته وأكله وشربه ، فإذا عرف مجموع واجبات نفسه وصح عنده قدر ما أدى من الحق ، كان ذلك القدر محسوباً له ، فيثبته عليها ويكتبه على صحيفة قلبه.
  قال الإمام الباقر (عليه السلام) : لا يغرنك الناس من نفسك ، فإن الأمر يصل إليك دونهم ، ولا تقطع نهارك بكذا وكذا فإن معك من يحفظ عليك عملك فأحسن فإني لم أر شيئاً أحسن دركاً ولا أسرع طلباً من حسنة محدثة لذنب قديم.
  وقال الإمام الصادق (عليه السلام) : إن رجلاً أتى النبي (صلّى الله عليه وآله) فقال له : يا رسول الله أوصني ، فقال له رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : فهل أنت مستوص إذا أنا أوصيتك ؟ حتى قال له ذلك ثلاثاً ، في كلها يقول له الرجل : نعم يا رسول الله ، فقال له رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : (فإني أوصيك إذا أنت هممت بأمر فتدبر عاقبته ، فإن يك رشداً فامضه ، وإن يك غيّاً فانته عنه.
  والإمام الكاظم (عليه السلام) حثّ أصحابه على محاسبة أنفسهم والنظر في أعمالهم فإن كانت حسنة استزادوا منها ، وإن كانت سيئة طلبوا من الله المغفرة والرضوان ، قال (عليه السلام) : (ليس منا من لم يحاسب نفسه في كل يوم ، فإن عمل حسناً استزاد منه ، وإن عمل سيئة استغفر الله منها وتاب إليه) (2) .

---------------------------
(1) سورة المعارج ، الآية 4.
(2) راجع الأخلاق لشبر ، ص 285 ـ 286 وحياة الإمام موسى بن جعفر للقرشي ، ج 1 ، ص 248.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 119 _

مراقبة النفس
  ينبغي على العبد أن يراقب نفسه في جميع أعماله ، ويلاحظها بالعين الخالصة لأنها إن تركت بلا مراقبة فسدت وأفسدت.
  ثم عليه أن يراقب الله في كل حركة وسكون ، وذلك بأن يعلم بان الله مطلع عليه وعلى ضميره ، خبير بسرائره ، رقيب على أعماله ، قائم على كل نفس بما كسبت ، وأن سر القلب عنده مكشوف كما أن ظاهر البشرة للخلق مكشوف ، بل أشد من ذلك قال الله تعالى : ( إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ) (1) .
  وقال تعالى أيضاً : ( أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرَى ) (2) .
  وقال النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله) : (الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنّه يراك).
  ويروى أن زليخا لما خلت بيوسف قامت فغطّت وجه صنمها ، فقال يوسف : ما لك تستحين من مراقبة جماد ولا استحي من مراقبة الملك الجبار ؟!).
  ولا ريب أن المراقبة تحصل من معرفة الله ، والعلم بأنّه تعالى مطلع على الضمائر ، عالم بما في السرائر ، بمرأى منه وبمسمع ، هؤلاء هم من الورعين أصحاب اليقين غلب اطلاع الله على ظواهرهم وبواطنهم ، ولم يدهشهم ملاحظة الجمال والجلال ، بل بقيت قلوبهم على حد الاعتدال ، متسعة للتلفت إلى الأحوال والأعمال والمراقبة فيها ، وغلب عليهم الحياة من الله فلا يقدمون ولا يحجمون إلا بعد التثبيت ، ويمتنعون عن كل ما يفتضحون به في يوم القيامة ، فإنّهم يرون الله عليهم ، فلا يحتاجون إلى انتظار القيامة.
  قال الفقهاء : إن العبد لا يخلو إما أن يكون في طاعة أو معصية أو مباح.
  فمراقبته في الطاعة بالإخلاص والإكمال ومراعاة الأدب وحراستها من الآفات.
  ومراقبته في المعصية بالتوبة والندم والإقلاع والحياء والاشتغال بالتفكير ومراقبته في المباح بمراعاة الأدب ، بأن يقعد مستقبل القبلة وينام على اليد اليمنى مستقبلاً إلى غير ذلك ، فكل ذلك داخل في المراقبة ، وبشهود المنعم في النعمة وبالشكر عليها ، وبالصبر على البلاء فإن لكل واحد منها حدوداً لابدّ من مراعاتها بدوام المراقبة.
  قال تعالى : ( وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ) (3) .
  وقال (صلّى الله عليه وآله) : (رحم الله امرئً عرف حدّه فوقف عنده).

---------------------------
(1) سورة النساء ، الآية 1.
(2) سورة العلق ، الآية 14.
(3) سورة الطلاق ، الآية 1.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 120 _

كيف تقاس الأعمال ؟
  الإسلام قد نظر إلى الدوافع الذاتية التي تدفع الإنسان إلى عمل الخير نظرة موضوعية أصيلة ، وبنى الأعمال على أساس (النية) وقال : (الأعمال بالنيات).
  لكل عمل يقوم به الإنسان جانبان ، لكل منهما حساب مستقل على حدة فمن الممكن أن يكون عمله خيراً من جهة ولا قيمة له من جهة أخرى.
  فهنا يجب أن ينظر إلى ما حمل فاعله عليه من الدوافع النفسية والروحية وحكمنا في مثل هذه الأعمال يستند إلى القيم الخاصة الاجتماعية والخارجية للعمل ، ولا موضوعية لنية الفاعل من هذا المنظار.
  المهم النتيجة الإيجابية فلا يفرق لدينا أن يكون هدف المحسن من إحسانه الرياء والمنافع المادية ، أو يكون له في علمه دافع قيم ، وأن تكون هناك نية صافية نزيهة في هدف عمله ، فالعمل الصالح في النظام الاجتماعي هو ما يكون نافعاً للمجتمع ، ولا علاقة له بما فيه للفرد من تكامل معنوي ، وأنه بادر إلى ذلك العمل بتأثر من أي دافع أو عامل ؟
  في شريعة الله لا ينظر إلى كمية العمل ، بل إلى كيفية العمل وأثره النفسي والذاتي في شخص الفاعل ، فهذا الذي يتقبله الله تعالى.
  في هذا المجال الحساب يتبع ما بين الفعل والفاعل من الرابطة ، وبأي نية أو هدف أقدم على ذلك العمل ، فلو كان قد بادر إلى ذلك العمل الصالح بدافع الرياء فإن نفسه لم تتقرب بذلك إلى الله تعالى بل ابتعد وخاب ظنه ، ولا يكفي لتلقي العمل الصالح لديه أن يكون مفيداً للمجتمع فحسب بل العمل الاجتماعي المفيد إنما يكون نافعاً بالنظر إلى التكامل المعنوي فيما إذا كانت الروح خارجة عن حصار الرياء والأهواء الشخصية إلى الصفاء في النيّة والخلوص إلى الله تعالى.
  قال الله تعالى في كتابه العزيز : ( وَمَا أُمِرُوا إِلاَ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ ) (1) .

---------------------------
(1) سورة البينة ، الآية 5.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 121 _

  وعن الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله) : (إنما الأعمال بالنيات).
  فثبوت الإيمان بالله هي النية المعنوية ، وعندئذٍ يتصف العمل بالقيمة الخالصة وسيكون صاحب هذا العمل مورد لطف الله وعنايته وحمايته.
  فالإنسان الذي لم تسطع أشعة الله على روحه هو خال من الإيمان والإخلاص ، إنما يدفعه إلى القيام بالأعمال الميول النفسانية والشهرة الدنيوية الفانية ، إنه بدأ عمله خلواً من روح الحقيقة وأنهاه ليظهر فضائله الإنسانية على الملأ بغية احترامه وتقديره.
  هذا الهدف غير القيم يكون السبب الأساسي في رد عمله ، ويصبح عمله لا قيمة له عند الله تعالى ، ولا تعود منه عائدة سوى ذلك الهدف المحدود الذي كان يهدف إليه ليفيده في حياته الحاضرة.
  وهذا ما نلاحظه اليوم عند اكثر المرشحين للنيابة في الانتخابات حيث يبدأ نشاطهم في إعمار المساجد ولم يدخلوها إلا وقت التدشين ، وينفقون الأموال الطائلة على الموائد الشهية ، والمظاهر الفارغة ، والتبرعات الخاصة لذوي الحاجات.
  كل ذلك لإظهار كرمهم الزائف وافتخارهم أمام الناس لكسب رضاهم.
  هؤلاء عطاؤهم مردود عند الله ، لأنهم لم يكونوا مخلصين في نواياهم ، ولم يعملوا لكسب رضا الله ، بل همهم رضا الناس من أجل مصالحهم الخاصة.
  لكنهم لو عقلوا أكثر لأخلصوا في نواياهم وكسبوا رضا العباد ، ورضى رب العباد ، قال تعالى : ( وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ... ) (1) .
  أما الذين يتمتعون بالثقة بأنفسهم ويعتمدون على أعمالهم فلا يشعرون بحاجة إلى الرياء لأنهم لا يعانون من أي مرض نفسي.
  وقد وصفهم أمير المؤمنين علي بن أي طالب (عليه السلام) فقال : (لسان المرائي جميل ، وفي قلبه داء دخيل) (2) .
  وفيه عنه (عليه السلام) قال : (الافتخار من صغير الأقدار) ، يقول عالم نفسي كبير : (من الوسائل التي نتوسل بها لجلب انتباه الآخرين عند الفشل وخيبة الأمل وعدم التوفيق ، هو الإطراء في الثناء على أنفسنا ، نتصور الأعمال التي نحب لو كنا نعملها لو كنا نحصل عليها ، وكأنها كانت وحصلت فننسبها إلى أنفسنا ، أو نقنع من أنفسنا أن نتحدث دائماً عن الأفعال التي عملناها وأن نعظمها مهما كانت صغيرة وحقيرة بدلاً من الأعمال التي لم نعملها والموفقيات التي لم نحصل عليها).

---------------------------
(1) سورة النساء ، الآية 38.
(2) رسالة الأخلاق عن غرر الحكم ، ص 106.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 122 _

  هذه الفئة من الناس ينخدع أفرادها بجزافاتهم ويرضون عن أنفسهم مخدوعين بحيث تفوتهم أية فرصة للسعي والتوفيق.
  ولو كان الثناء على النفس يريح صاحبه من خيبة عدم التوفيق في الأعمال وعدم اجتذاب الناس إلى نفسه ، فيخدع بذلك المستمعين بصورة مؤقتة ، فإن ذلك لن يعالج المرض الأصيل.
  أما الذي يعمل أعمالاً صالحة ويحصل من جراء ذلك على موقع محترم في قلوب الآخرين فلا حاجة له إلى الثناء على نفسه ، فهو بدل ذلك يسعى ويعمل ، ويحصل كل يوم على اصدقاء مخلصين وتقدير خاص في مجتمعه.
  ويقول عالم نفسي آخر : إن الثناء على النفس يولد الانزعاج لدى الآخرين ، فهو من جانب قد يشتمل على شيء من الكذب والتزوير ، ومن جانب آخر هو ينشأ من الجهل والحماقة ، إن من يتحدث عن صفة خاصة في نفسه وبصورة مستمرة قد يكون فاقداً لها ، (وفاقد الشيء لا يعطيه) ، واعلموا أن الذين يتحدثون عن نجاحاتهم ومظاهر نشاطاتهم ، وحسن تدبيرهم يفقدون بلا ريب مثل هذه المزايا.
  ولا ينبغي أن ننسى أن الكذب حبله قصير ، ولا يدوم كثيراً حتى ترتفع الحجب والستائر عن وجه الحقيقة ، وحينئذ يفقد المرء كل مكانته ووجاهته بين أفراد مجتمعه مهما حاول التستر ، وفي ذلك قال أحد الشعراء :
ومهما يكن عند امرئ من iiخليقة      وإن خالها تخفى عن الناس تعلم
  هؤلاء أظهروا الحقيقة بوجه مخادع يخالف الحق وذلك بغية تحقيق أهداف خاصة ومصالح شخصية.
  والنفاق هو أعلى درجات الكذب وأحقرها حيث يظهر المنافق غير ما يبطن فيلهج بلسان ذلق مخادع وقلبه يضمر العكس تماماً وهو ما سمي بذي الوجهين ، من هنا سمي الرجل الذي يظهر الإيمان ويبطن الكفر منافقاً (1) فهو كذب عملي فعلي.
  ومن هذا النوع الذين يظهرون صداقتهم ويبطنون عداوتهم ، وكل من يظهر بمظهر ينافي حقيقته هو منافق حقير مذموم ، قلبه مريض ، قال تعالى : ( إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلاَءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) (2) .

---------------------------
(1) وقد اشتقته العرب من النافقاء وهو إحدى حجرة اليربوع يخفيه ويظهر غيرها ليلجأ إليها عند الحاجة.
(2) سورة الأنفال ، الآية 49.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 123 _

القياس بالنفس
  كل إنسان يقيس الآخرين على شاكلته ، فإن كان سلوكه فاسداً فيقيس الآخرين على أساس مقاصده الفاسدة ونياته الملوثة وغير النزيهة.
  قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عالم العلماء ، وسيد البلغاء ، وسيد الأدباء : (الرجل السوء لا يظن بأحد خيراً ، لأنه لا يراه إلا بطبع نفسه) (1) .
  وهذا ما نلاحظه في مجتمعنا اليوم وما يمكن أن يحصل في كل يوم لأن الحقائق العلمية موضوعية ومستمرة في كل العصور.
  يقول علماء النفس : (حينما تمتلئ الدنيا بعواطفنا وميولنا وأفكارنا ، فمن المقطوع به أننا ننظر إلى كل شيء منها بنظرتنا الشخصية ، وكأن أحاسيسنا تظل على رؤوس الكائنات.
  ونلاحظ ذلك في الطبيعة : فالعواصف تصيب باليأس والقنوط ، والنسيم الغض الطري يكسبنا الرضا والسكون.
  وهكذا نحن البشر نرى الطبيعة الجغرافية والبشرية من خلال نوافذ عواطفنا وأحاسيسنا.
  فحسب أحاسيسنا من الممكن أن نرى الهر حيواناً محبوباً لطيفاً أو حيواناً مؤذياً معادياً.
  كما يمكن أن نرى الأسد حيواناً مأنوساً أو نراه حيواناً مفترساً ضاراً مرهوباً ، ذلك أن العواطف والأحاسيس تغير الدنيا التي نعيش فيها بصورة كلية ، ومن هنا كان التفاؤل والتشاؤم من الموضوع نفسه عند بعض الناس.
  وإذا ما سألنا بعض القضاة والحقوقيين يقولون : قلما يتفق أن يشهد الشهود لحادثة بسيطة ساذجة شاهدوها من قريب ، بشهادة واحدة تماماً ، فقد تختلف العبارات والصورة من شخص لآخر.
  كما نلاحظ ذلك في الأمور التي لا تثير فينا العاطفة نشاهد جيداً كيف تختلف أفكارنا ونظراتنا ، فكيف بالأحرى بالحوادث العاطفية.

---------------------------
(1) عن غرر الحكم ، ص 104.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 124 _

  ولا ريب أن ذلك يعود إلى العقل الذي منه الإتزان والصحة والرأي السليم.
  قال الإمام الكاظم (عليه السلام) في وصيته لهشام : (يا هشام إن العاقل الذي لا يشغل الحلال شكره ، ولا يغلب الحرام صبره ، يا هشام من سلط ثلاثاً على ثلاث فكأنما أعان على هدم عقله : من أظلم نور تفكره بطور أمله ، ومحا طرائف حكمته بفضول كلامه ، وأطفأ نور عبرته بشهوات نفسه ، فكأنما أعان هواه على هدم عقله ، ومن هدم عقله أفسد عليه دينه ودنياه.
  هذا النمط من الناس ينقصهم ضعف في النفس وعدم الثقة بأنفهسم ، والسبب في ذلك يعود إلى عدم الاتكال على الله ، رب العالمين الذي تستمد منه وحده فهو صاحب القدرة الإلهية الأزلية.
  إن المؤمن مع تمتعه بثقته بنفسه ، ومع إفادته من كل الإمكانيات التي تحت تصرفه بصورة دقيقة وتامة ، لا يحضر روحه بين العلل والعوامل المادية ، ولا تتوقف إنسانيته على المادة ، بل يرى طريق التعالي والتسامي إلى القمة مفتوحاً عليه ، كما يرى عمله أبعد من حدود المادة ، فهو يربط بين نشاطاته وفعالياته وأهداف الحياة العالية إن من يطمئن قلبه بالإيمان يكون اعتماده وثقته بالله تعالى الذي بيده سبحانه تدبير كل الأمور وحده لا شريك له ، قال تعالى : ( مَا يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) (1) .
  إن اللجوء إلى غير الله لا ينتج عنه سوى الذلة والحقارة ، وأنى لمخلوق عاجز لا ملجأ له إلا الله بل هو فقير في كل شيء إليه ولا يملك من أمره شيئاً ، فكيف له أن يمتلك أمر غيره ؟
  وهل بعد هذا أفضل وألطف من أن يعيش الإنسان في كنف لطف الله وحمايته ؟ فهو مالك كل شيء وبيده تدبير جميع الأمور.
  إن الخضوع إمام الله في السراء والضراء ، والاعتقاد الحازم والراسخ بسيادة القدرة المطلقة الإلهية فوق جميع القدرات والعوامل المادية يترك في نفس المؤمن آثاراً عجيبة من الطمأنينة بحيث لا يفتقد قيمته أمام أي حادث ، ولا يضطرب ولا يقلق لأي شيء كبيراً كان أم صغيراً ، إن الاتكال على الله عزّ وجلّ لن يؤدي إلى الضعف والوهن ، بل هو ثقة واعتماد يوثق قوة الإرادة ، ويقطع جذور أي وسوسة أو تردد من القلوب ، وهل يزكو عمل الإنسان وهو شاغل قلبه عن أمر ربه ؟

---------------------------
(1) سورة فاطر ، الآية 2.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 125 _

  قال الإمام الكاظم (عليه السلام) مخاطباً هشام : (يا هشام كيف يزكو عند الله عملك وأنت قد شغلت قلبك عن أمر ربك ، وأطعت هواك على غلبة عقلك ، وقال لقمان (عليه السلام) : (إن الدنيا بحر عميق قد غرق فيها عالم كثير ، فلتكن سفينتك فيها تقوى الله ، وحشوها الإيمان ، وشراعها التوكل ...).
  إن الكفاح الدائم والمستمر للمؤمنين الإلهيين ضد عوامل التخريب والانحراف في المجتمع ، والأفكار المنحطة فيه ، كانوا يستعينون بالمدد اللامرئي لتنفيذ برامجهم الإصلاحية وإرشاد العباد إلى نهج الرشاد ، وحيث كانت لأرواحهم ارتباط غير منقطع بقدرة الله الأزلية ، فإنهم كانوا يتابعون أهدافهم حتى المرحلة النهائية بكل صراحة وموضوعية.
  لكن الثقة بالنفس بدون الاتكال على الله لا يمكن أن تنفذ روح الإنسان في الأحوال الحرجة والمنهكة لقوى القلق والاضطراب ، لأن الشدائد والعوامل المعاكسة في الحياة تهزم روح الخالي من الاعتماد على الله ، والذي لا تتجاوز بصيرته عن حدود الماديات؛ وهو بهذه الحالة لا يتمكن من أن يخطو أية خطوة في مدارج الكمال حتى لو كانت سهلة واضحة وربما يعيقه ألم بسيط عن تحقيق هدف كبير ، إن كيفية روحية المسلمين الأوائل في صدر الإسلام وبصورة خاصة الأئمة المعصومين (عليهم السلام) تثبت لنا صحة ما نرمي إليه ، إذ كانوا أفضل وأكمل نموذج للاعتماد على الله والتوكل عليه.
  فالذين تربّوا في مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) الإسلامية الأولى النشطة المعطاء ، لم تسيطر عليهم حالة عدم الثقة أبداً ، وذلك بسب إرادتهم القوية وإيمانهم الأصيل ، وهذه الإرادة الثابتة المطمئنة هي التي فتحت لهم طريق النجاح والتقدم والانتصار على الباطل لقد سلكوا طريق الحق وقالوا كلمة الحق ونشروا رسالة الحق ولم تأخذهم في الله لومة لائم حتى أحدثوا ذلك المجتمع الإسلامي الوحيد الذي لم نر نظيراً له في التاريخ.
  قال الإمام الكاظم (عليه السلام) بعد أن أمر أصحابه بقول الحق وإظهاره ، والتجنب عن الباطل : (إتق الله ، وقل الحق وإن كان فيه هلاكك فإن فيه نجاتك ، أي فلان اتق الله ودع الباطل وإن كان فيه نجاتك فإن فيه هلاكك).
  على كل أحد أن يقيّم موقعه في الحياة ، ويعرف أن ما اختاره من طريق هل هو إلى خير وسعادة أم إلى شقاء وتعاسة ؟ وبالتعرف على الحاجات النفسية يستطيع أن يكافح ضد العوامل التي توجب اضطراب التوازن الروحي ، وأن لا يدع تلك العوامل تجتمع وتتكاتف على ضرر الإنسان ، فيقول الخير من أي موقع كان ، قال الإمام الكاظم (عليه السلام) للفضل بن يونس : (أبلغ خيراً وقل خيراً ، ولا تكن إمّعة) (1) .

---------------------------
(1) الإمَّعة : قيل أصله إني معك ليس له رأي مستقل.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 126 _

  المسؤولية الفردية : إن المسؤولية الفردية في الإسلام تشكل أساس التعاليم الإنسانية والتوصل إلى السعادة المعنوية في النظام الإسلامي يتوقف على عمل الشخص نفسه والتكاليف التي وضعها على عاتق الإنسان في جميع الشؤون الدينية والدنيوية يجب أن تؤدي بالعمل المباشر ، وعلى هذا الأساس يترتب مبدأ الثواب والعقاب ، والقرآن الكريم ينبه إلى : ( وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلاَ مَا سَعَى ) (1) و ( كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ) (2) .
  وقال تعالى أيضاً : ( مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) (3) .
  وفي هذه الدنيا يستوفي الإنسان نتائج أعماله ، جاء عن الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله) قال : (من عمل سوءاً يُجْزَ بِهِ في الدنيا) (4) .
  وقال (صلّى الله عليه وآله) : (من يرزع خيراً يحصد رغبة ، ومن يزرع شراً يحصد ندامة) (5) .
  وكتب الفيلسوف الأمريكي (امرسون) يقول : (إن العالم بمثابة جدول ضرب أو معادلة رياضية كيفما يعادلونها تعتدل وتتوازن ويكون جوابها واحداً دائماً ، إننا أي طريقة نختارها لحل مسألة رياضية فإن إعداد النتائج ستكون واحدة لا محالة والطبيعة بسكوتها تفشي كل سر بطريقة متقنة ، وتجازي كل جريمة ، وتثبت على كل فضيلة ، وكل عمل يستكمل نفسه من طريقين :
  الأول : التفاعل في الطبيعة الواقعية لنفس الفعل والعمل.
  والثاني : الطريقة العلنية الظاهرة ، والكيفية العلنية هي التي تسمى الجزاء والعقاب ، العقاب الذاتي يرى بالعين المجردة في الشيء نفسه ، والعقاب الكيفي يرى ببصيرة الفهم.
  هذه العقوبة الخاصة من الممكن أن تبدو بعد أعوام عديدة من وقوع الحادثة ، ولكنها تستتبعها وتلازمها حتماً ، إن الجريمة والجزاء أغصان شجرة واحدة ، والجزاء ثمرة تنضح وتظهر فجأة من باطن زهرة اللذة التي سترتها وغطتها) (6) .

---------------------------
(1) سورة النجم ، الآية 39.
(2) سورة المدثر ، الآية 37.
(3) سورة النحل ، الآية 97.
(4) عن نهج الفصاحة ، ص 592.
(5) نفسه ، ص 622.
(6) رسالة الأخلاق ، ص 347.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 127 _

  لذلك وجدنا الإمام الكاظم (عليه السلام) يوصي عموم أصحابه بتنظيم أوقاتهم ، والعمل على تهذيب نفوسهم وتحمل مسؤولياتهم فقال (عليه السلام) : اجتهدوا في أن يكون زمانكم أربع ساعات : ساعة لمناجاة الله ، وساعة لأمر المعاش وساعة لمعاشرة الإخوان والثقات الذين يعرّفونكم عيوبكم ، ويخلصون لكم في الباطن ، وساعة تخلون فيها للذاتكم في غير محرم ، وبهذه الساعة تقدرون على الثلاث ساعات ، ولا تحدثوا أنفسكم بفقر ولا بطول عمر ، فإنه من حدّث نفسه بالفقر بخل ومن حدثها بطول العمر حرص.
  اجعلوا لأنفسكم حظاً من الدنيا باعطائها ما تشتهي من الحلال وما لا يثلم المروءة ، وما لا سرف فيه ، واستعينوا بذلك على أمور الدين ، فإنّه روي : (ليس منا من ترك دنياه لدينه ، أو ترك دينه لدنياه) (1) .
  وقال (عليه السلام) في استغلال الوقت لصالح الفرد وحثه على تحمل المسؤولية في هذه الحياة الدنيا : (من استوى يوماه فهو مغبون ، ومن كان آخر يوميه أشرهما فهو ملعون ، ومن لم يعرف الزيادة على نفسه فهو في النقصان ، ومن كان إلى النقصان أكثر فالموت خير له من الحياة) (2) .

---------------------------
(1) تحف العقول ، ص 409.
(2) الإتحاف بحب الأشراف ، ص 55.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 128 _

عيوب النفس
  إن لمختلف أنماط السلوك أثراً في الأشخاص لا يوصف إيجابياً أو سلبياً.
  ومن عيوب النفس الغرور : إن الغرور وحب التغلّب والارتفاع غالباً ما يمنع الإنسان من أن يدرك حدود نقائصه ، ومن أن يقف على حدود قدراته وطاقاته.
  قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : (رضا العبد عن نفسه برهان سخافة عقله) (1) .
  وإن الأمر الذي يمنع من نمو استقلالية شخصيته ، ويسبب في توقف نموه النفسي ، وجموده ، هو عدم اطلاعه على ما في وجوده من نقائص ممّا يجعل الإنسان لا يهتم أبداً بسد تلك النقائص وترميمها.
  قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : (الراخي عن نفسه مستور عنه عيبه ، ولو عرف فضل غيره كفاه ما به من النقص والخسران) (2) .
  عن علي بن سويد ، قال : سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن العجب الذي يفسد العمل ، فقال : العجب درجات : منها أن يُزيّن للعبد سوء عمله فيراه حسناً فيعجبه ويحسب أنه يحسن صنعاً ، ومنها أن يؤمن العبد بربه فيمُنَّ على الله عزّ وجلّ ولله المنّة عليه (3) .
  وفي ذلك قال الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) : (العجب يفسد العقل) (4) .
  ونجد كثيراً من أولئك الذين يتلفون طاقاتهم الروحية من دون أن يفيدوا منها في تحسين وضعهم الشخصي والاجتماعي ، ومن دون أن يكون لهم أدنى اطلاع عن القوى المخبوءة والطاقات العجيبة في نفوسهم ، اللّهم إلا أن تتفق أرضية مساعدة لهم على إبراز استعداداتهم المثمرة ، وكم من قدرات مفيدة تذهب هدراً على أثر عدم اطلاع أصحابها عن كيفية ومستوى اقتدارها وحسن استثمارها.

---------------------------
(1) غرر الحكم ، ص 424.
(2) غرر الحكم ، ص 95.
(3) الكافي ج 2 ، ص 313.
(4) غرر الحكم ، ص 26.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 129 _

  جاء في غرر الحكم عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال : (من طلب عيباً وجده).
  وقال الإمام الكاظم (عليه السلام) : (يا هشام إن العاقل اللبيب من ترك ما لا طاقة له به ، وأكثر الصواب في خلاف الهوى ، ومن طال أمله ساء عمله).
  وقال الإمام الكاظم (عليه السلام) أيضاً : (من تعظم في نفسه لعنته ملائكة السماء وملائكة الأرض ، ومن تكبّر على إخوانه واستطال عليهم فقد ضاد الله ومن ادعى ما ليس له فهو أغنى لغير رشده).
  أما الذين يصابون بالعقد والآلام النفسية ، أو يعانون كابوس اليأس والقنوط ، هم في الواقع أناس غير مطلعين على استعداداتهم وإمكاناتهم وطاقاتهم الكامنة فيهم ، كي يسدوا عوزهم بالإفادة ممّا فيهم من قوى وطاقات ، ويستبدلوا ما فيهم من نقص بالكمال ، ولذا فمن الضروري لهؤلاء السعي الحثيث لاكتشاف أنفسهم ، وقد أكّد العلماء على معرفة النفس ضمن الأمور التي ترتبط منها بالإنسان كذلك في العهد الحاضر يعد تعلم أصول معرفة النفس من أهم المواضيع في علم النفس الطبي ، هذا والعصر الحاضر عصر الدراسات العميقة بشأن الطبيعة الإنسانية وعصر علم النفسي بالمعنى الفني والاختصاصي العام.

معرفة النفس
  إن مشكلة معرفة النفس والجهل بحاجاتها الروحية حقيقة لا يمكن إنكارها ، في حين أن الجهال منا يظنون أنهم يعرفونها أفضل من الجميع ، وأنهم مطلعون على علل دوافعها وأفكارها وسلوكها ، وبالتالي هم مطلعون على باطنهم تماماً.
  ومشكلة معرفة النفس هي العلة لكثير من الأخطاء وسوء الفهم وإصدار الأحكام الظالمة ، ممّا يستدل رؤية الإنسان لأساس هذه المشاكل في الجهل وذلك بالإمكانات وكميتها وكيفيتها ، التي أودعتها يد الخلقة في وجود إنسان ، ولا ننسى الدور الذي تؤديه الوراثة والتربية والمحيط الاجتماعي والبيئة في نظام الحياة النفسية ، إضافة إلى سيطرة الأهواء والنقائص على الإنسان ولنا في الحكام العباسيين دليل واضح على ذلك وفي العصور القديمة كان الفلاسفة يؤكدون على معرفة النفس ضمن الأمور التي ترتبط بالإنسان ، كما نلاحظ في وقتنا الحاضر أن تعلم أصول معرفة النفس يعد من أهم المواضيع في علم الطب النفسي ، في هذا العصر ظهرت سلسلة من البحوث القيمة بشأن علم النفس بالمعنى الاختصاصي العام.
  ولهذا فإن الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله) ينبه الناس إلى أن يجتنبوا اتباع الهوى فيقول : (إياكم والهوى ، فإن الهوى يعمي ويصم) (1) .

---------------------------
(1) عن نهج الفصاحة ، ص 201.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 130 _

  وعن الإمام أبي جفعر (عليه السلام) قال : (لا يغرنك الناس من نفسك فإن الأمر يصل إليك دونهم ، ولا تقطع نهارك بكذا وكذا فإن معك من يحفظ عليك عملك ، وأحسن فإني لم أر شيئاً أحسن دركاً ولا أسرع طلباً من حسنة محدثة لذنب قديم) (1) .
  وروى الكليني أيضاً عن أبي الحسن موسى الكاظم (عليه السلام) قال : (لا تستكثروا كثير الخير ولا تستقلوا قليل الذنوب فإن قليل الذنوب يجتمع حتى يصير كثيراً ، وخافوا الله في السر حتى تعطوا من أنفسكم النصف وسارعوا إلى طاعة الله وأصدقوا الحديث وأدوا الأمانة فإنما ذلك لكم ولا تدخلوا فيما لا يحل لكم ، فإنما ذلك عليكم) (2) .
  وقال (عليه السلام) أيضاً : (ليس منا من لم يحاسب نفسه في كل يوم فإن عمل حسناً استزاد الله ، وإن عمل سيئاً استغفر الله منه وتاب إليه) (3) .

الحب الخالص والود الخالد
  وهل أروع وأعظم من هذا الرباط الوثيق الذي يجعل المسلمين كالبنيان المرصوص ! قال تعالى في كتابه العزيز : ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ أخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) (4) وقد عرض سبحانه لدفع البشر إلى هذه المحبة الصافية النزيهة بواعث وأشواقاً ، ولذلك أوجد في ضمير الإنسان حباً للذات متوازناً ومتناغماً ، ويبلغ في تعاليمه إلى قاعدة ينطلق في ظلها من قيود الغرور وعبادة الذات بحيث لا يظهر فيه اتجاه مفرط في حبه لذاته.
  وهذا على عكس ما وجدنا عند هارون والمنصور والهادي ... إن الكبرياء يختص بذات الله وحده لا شريك له ، الله الذي لا يتطرق إليه الفقر والحاجة ، بل تحتاج إليه جميع الموجودات من جميع الجهات : قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ) (5) .

---------------------------
(1) الكافي ص 453 ـ 454.
(2) الكافي ، ص 453 ـ 454.
(3) الكافي ، ص 453 ـ 454.
(4) سورة الحجرات ، الآية 10.
(5) سورة فاطر ، الآية 15.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 131 _

  والإصابة بالغرور وحب الظهور والتعالي على الناس هو انحراف أكيد عن البرامج الإلهية ، والقرآن الكريم يلفت نظر المغرور إلى عجزه واحتقاره وبذلك يهبط بروح القوة عنده من قمة الخيالات الواهبة إلى حضيض الهاوية فيقول تعالى : ( وَلاَ تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً ) (1) إن من لا ينصرف عن النظر إلى المبدأ الأعلى للوجود لا تسيطر عليه في مواقف الرفاهية والنعمة حالة الغرور بل يبقى على ما هو عليه ، إذ أن الإسلام يدعو إلى التواضع والاعتدال ، ولا يجب الكبر والاستعلاء لذلك دعا الله جل وعلا رسوله الكريم ليتواضع ويلين جانبه مع الناس قال تعالى : ( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ) (2) .
  وقال (صلّى الله عليه وآله) : (إن العفو لا يزيد العبد إلا عزاً ، فاعفوا يعزكم الله وإن المتواضع لا يزيد العبد إلا رفعة ، فتواضعوا يرفعكم الله ، وإن الصدقة لا تزيد المال إلا إنماءً ، فتصدقوا يزدكم الله).
  وقال الإمام الكاظم (عليه السلام) : (إياك والكبر فإنه لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من كبر ، الكبر رداء الله فمن نازعه رداءه أكبه الله في النار على وجهه).
  وسبب وجود الغرور والقيم الكاذبة المسيطرة على الروح والمدركات هو عدم وجود القيم الإلهية في القلوب المؤمنة ، ذلك أن المؤمن يتجنب كل خضوع مذل تنزل به شخصيته في مجتمعه ، لأنه أمام ذات الكبرياء المقدسة التي تعطيه الدفع الكبير والقوة الهائلة في سائر حالاته ، والله تعالى يوصي أهل الإيمان بهذه المزية الإيمانية الخاصة في جميع المواقع وكل المراحل ، قال تعالى : ( وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) (3) .
  والإمام الكاظم (عليه السلام) قال : (إن قلوب المؤمنين مطوية).
  روى الكليني عن علي بن جعفر عن أبي الحسن موسى (عليه السلام) قال : (إن الله خلق قلوب المؤمنين مطوية مبهمة على الإيمان فإذا أراد استنارة ما فيها نضحها بالحكمة ، وزرعها بالعلم ، وزارعها والقيم عليها رب العالمين) (4) .
  وهكذا قال قلب الإمام الكاظم (عليه السلام) مزروعاً بالحكمة والعلم والقيم من رب العالمين .

---------------------------
(1) سورة الإسراء ، الآية 37.
(2) سورة آل عمران ، الآية 159.
(3) سورة آل عمران ، الآية 139.
(4) الكافي ، ج 2 ، ص 421.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 132 _

في سبيل الشريعة الإسلامية
مناظرات الإمام الكاظم

  للإمام الكاظم (عليه السلام) مناظرات واحتجاجات هامة وبليغة مع خصومه المناوئين له ، كما جرت له مناظرات أخرى مع علماء النصارى واليهود ، وقد برع فيها جميعها وأفلج الجميع بما أقامه من الأدلة الدامغة على صحة ما يقول : وبطلان ما ذهبوا إليه ، وقد اعترفوا كلهم بالعجز والفشل معجبين بغزارة علم الإمام وتفوقه عليهم.
  1 ـ مع هارون الرشيد
  دخل إليه وقد عمد على القبض عليه ، لأشياء كذبت عليه عنده ، فأعطاه طوماراً طويلاً فيه مذاهب وشنعة نسبها إلى شيعته فقرأه (عليه السلام) ثم قال له : يا أمير المؤمنين نحن أهل بيت منينا بالتقول علينا ، وربنا غفور ستور ، أبي أن يكشف أسرار عباده إلا في وقت محاسبته : ( يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ * إِلاَ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) (1) .
  ثم قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن علي ، عن النبي صلوات الله عليهم : الرحم إذا مست اضطربت ثم سكنت ، فإن رأى أمير المؤمنين أن تمس رحمي رحمه ويصافحني فعل.
  فتحول عند ذلك عن سريره ومد يمينه إلى موسى (عليه السلام) فأخذ بيمينه ثم ضمه إلى صدره ، فاعتنقه وأقعده عن يمينه وقال : أشهد أنك صادق وجدك صادق ورسول الله (صلّى الله عليه وآله) صادق ولقد دخلت وأنا أشد الناس حنقاً (2) وغيظاً لما رقي إليّ فيك فلما تكلمت بما تكلمت وصافحتني سرّي عني وتحول غضبي عليك رضى.
  وسكت ساعة ثم قال له : أريد أن أسألك عن العباس وعلي بما صار عليّ أولى بميراث رسول الله (صلّى الله عليه وآله) من العباس ، والعباس عم رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وصنو أبيه ؟
  فقال له الإمام (عليه السلام) : أعفني ، قال : والله لا أعفيتك ، فأجبني.

---------------------------
(1) سورة الشعراء ، الآية 88 ـ 89.
(2) حنقاً : الحنق شدة الاغتياظ والغضب.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 133 _

  قال : فإن لم تعفني فآمني ، قال : آمنتك ، قال موسى بن جعفر (عليه السلام) : إن النبي (صلّى الله عليه وآله) لم يورث من قدر على الهجرة فلم يهاجر ، إن أباك العباس آمن ولم يهاجر ، وإن علياً آمن وهاجر ، وقال الله : ( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلاَيَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا ) (1) فتغيّر لون هارون.
  ثم تابع الرشيد فقال : ما لكم لا تنسبون إلى عليّ وهو أبوكم وتنسبون إلى رسول الله وهو جدكم ؟ فقال الكاظم (عليه السلام) : إن الله نسب المسيح عيسى بن مريم (عليه السلام) إلى خليله إبراهيم (عليه السلام) بأمه مريم البكر البتول التي لم يمسها بشر في قوله تعالى : ( وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) (2) ( وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ ) (3) .
  فنسبه لأمه وحدها إلى خليله إبراهيم (عليه السلام) ، كما نسب داود وسليمان وأيوب وموسى وهارون (عليه السلام) بآبائهم وأمهاتهم ، فضيلة لعيسى (عليه السلام) ومنزلة رفيعة بأمه وحدها ، وذلك قوله في قصة مريم (عليها السلام) : ( إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ ) (4) .
  بالمسيح من غير بشر ، وكذلك اصطفى ربنا فاطمة (عليها السلام) وطهرها وفضلها على نساء العالمين بالحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنة فقال له هارون ـ وقد اضطرب وساءه ما سمع ـ : من أين قلتم الإنسان يدخل الفساد من قبل النساء ومن قبل الآباء لحال الخمس الذي لم يدفع إلى أهله ، فقال الإمام الكاظم (عليه السلام) : هذه مسألة ما سئل عنها أحد من السلاطين غيرك ، ولا تيم ولا عدي ولا بنو أمية ولا سئل عنها أحد من آبائي فلا تكشفني عنها ، قال الرشيد : فإن بلغني عنك كشف هذا رجعت عما آمنتك ، فقال موسى (عليه السلام) : لك ذلك ، قال (عليه السلام) : فإن الزندقة قد كثرت في الإسلام وهؤلاء الزنادقة الذين يرفعون إلينا في الأخبار ، هم المنسوبون إليكم.
  فقال هارون : فما الزنديق عندكم أهل البيت ؟ فقال (عليه السلام) : الزنديق هو الراد على الله وعلى رسوله وهم الذين يحادّون الله ورسوله ، قال تعالى : ( لاَ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ) (5) .

---------------------------
(1) سورة الأنفال ، الآية 73.
(2) سورة الأنعام ، الآية 84.
(3) سورة الأنعام ، الآية 85.
(4) سورة آل عمران ، الآية 42.
(5) سورة المجادلة ، الآية 22.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 134 _

  وهم الملحدون ، عدلوا عن التوحيد إلى الإلحاد.
  فقال هارون : أخبرني عن أول من ألحد وتزندق ؟ فقال (عليه السلام) : أول من ألحد وتزندق في السماء إبليس اللعين ، فاستكبر وافتخر على صفي الله ونجيبه آدم (عليه السلام) فقال اللعين : ( أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ) (1) .
  فعتا عن أمر ربه وألحد فتوارث الإلحاد ذريته إلى أن تقوم الساعة فقال هارون: ولإبليس ذرية ؟ فقال (عليه السلام) : نعم ألم تسمع إلى قول الله عزّ وجلّ : ( إِلاَ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً * مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً ) فهل عرف الرشيد من أي فريق هو ؟!
  ثم قال له الرشيد : بحق آبائك لما اختصرت كلمات جامعة لما تجاريناه فقال (عليه السلام) : نعم ، وأوتي بدواة وقرطاس فكتب : بسم الله الرحمن الرحيم ، جميع أمور الأديان أربعة :
  ـ أمر لا اختلاف فيه وهو إجماع الأمة على الضرورة التي يضطرون إليها ، الأخبار المجمع عليها وهي الغاية المعروض عليها كل شبهة والمستنبط منها كل حادثة وهو إجماع الأمة.
  ـ وأمر يحتمل الشك والإنكار ، فسبيله استيضاح أهله لمنتحليه بحجة من كتاب الله مجمع على تأويلها ، وسنّة مجمع عليها لا اختلاف فيها أو قياس تعرف العقول عدله ولا يسع خاصة الأمة وعامتها الشك فيه والإنكار له ، وهذان الأمران من أمر التوحيد فما دونه وأرش الخدش فما فوقه ، فهذا المعروض الذي يعرض عليه أمر الدين فما ثبت لك برهانه اصطفيته ، وما غمض عليك صوابه نفيته ، فمن أورد واحدة من هذه الثلاث فهي الحجة البالغة التي بيّنها الله في قوله لنبيه (صلّى الله عليه وآله) : ( قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ) (2) .

---------------------------
(1) سورة الأعراف ، الآية 12 وسورة ص ، الآية 76.
(2) سورة الأنعام ، الآية 149.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 135 _

  يبلغ الحجّة البالغة الجاهل فيعلمها بجهله كما يعلمها العالم بعلمه ، لأن الله عدل لا يجور ، يحتج على خلقه بما يعملون ، ويدعوهم إلى ما يعرفون لا إلى ما يجهلون وينكرون.
  فأجازه الرشيد وأحسن لقاءه ، وانصرف الإمام (عليه السلام) وقد دلّ خصمه ـ المسمى بأمير المؤمنين وخليفة المسلمين ـ على أمور الدين كما أوضح له منزلة أهل البيت (عليهم السلام) وصحة أقوالهم ودعم ما ذهب إليه بأوثق الأدلة والبراهين ولا غرو فهذا الغصن الطيّب هو من تلك الشجرة الطيّبة التي غرسها الرسول (صلّى الله عليه وآله) وتعهّد سقايتها ورعايتها.
  2 ـ مع الفضل بن الربيع
  زار هارون الرشيد قبر النبي (صلّى الله عليه وآله) فاجتمع به الإمام (عليه السلام) وبعد انتهاء المقابلة ، خرج (عليه السلام) فاجتاز على الأمين ابن الرشيد ، فالتفت الأمين إلى الفضل بن الربيع قائلاً له : عاتب هذا ، فقام الفضل إلى الإمام فقال له : كيف لقيت أمير المؤمنين على هذه الدابة التي إن طُلبت عليها لم تسبق وإن طَلبت عليها تلحق ؟
  ـ قال الإمام (عليه السلام) : لست أحتاج أن أطلب ، ولا أن أُطلب ، ولكنها دابة تنحط عن خيلاء الخيل ، وترتفع عن ذلة البعير ، وخير الأمور أوسطها) (1) فتركه الإمام (عليه السلام) وانصرف وبدا على الفضل الارتباك والعجز.
  3 ـ مع أبي يوسف
  أمر هارون الرشيد أبا يوسف (2) أن يسأل الإمام (عليه السلام) بحضرته لعله أين يبدي عليه العجز فيتخذ من ذلك وسيلة للحطّ من كرامته ، ولما اجتمع (عليه السلام) بهم وجه إليه أبو يوسف السؤال التالي :
  ـ ما تقول في التظليل للمحرم ؟ قال الإمام : لا يصح.
  ـ فيضرب الخباء في الأرض ويدخل البيت ؟ قال الإمام : نعم.

---------------------------
(1) زهر الآداب، ج 1 ، ص 132.
(2) أبو يوسف هو يعقوب بن إبراهيم الأنصاري ، ولد سنة 113 هـ ، وتوفي في بغداد سنة 182 هـ وكان من أصحاب الحديث ثم غلب عليه الرأي وأخذ الفقه عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ثم عن أبي حنيفة وولي القضاء لهارون الرشيد حتى لقب بقاضي القضاة ، وكان يقضي ببغداد سنة 166 هـ في أيام خروج الهادي ، تحف العقول ، ص 300 ، وطبقات الفقهاء ، ص 113 ، والإرشاد ، ص 318.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 136 _

  ـ فما الفرق بين الموضعين ؟
  ـ ما تقول في الطامث أتقضي الصلاة ؟ قال أبو يوسف : لا.
  ـ أتقضي الصوم ؟ نعم ، ولمَ ؟ هكذا جاء هذا.
   فسكت أبو يوسف ولم يطق جواباً وبدا عليه الخجل والعجز فقال هارون :
  ـ ما أراك صنعت شيئاً.
  ـ رماني بحجر دامغ (1) .
  وتركهما الإمام (عليه السلام) وانصرف بعد أن خيّم عليهما الحزن والشقاء.
  ولا عجب فالإمام (عليه السلام) هو ابن الإمام جعفر الصادق الذي أسس الجامعة الإسلامية ووضع مناهجها العلمية الأصيلة ، وهو سرّ أبيه (عليه السلام).
  4 ـ مع أبي حنيفة
  دخل أبو حنيفة على الإمام الصادق (عليه السلام) فقال له : رأيت ابنك موسى يصلي والناس يمرون بين يديه ، فلم ينههم عن ذلك ؟ ‍
  فأمر أبو عبد الله (عليه السلام) بإحضار ولده فلما مثل بين يديه قال له : (يا بني ، إن أبا حنيفة يذكر إنك كنت تصلي والناس يمرون بين يديك ؟) فقال (عليه السلام) : (نعم ، يا أبتِ وإن الذي كنت أصلي له أقرب إليّ منهم ، يقول الله عزّ وجلّ : ( وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ) (2) .
  عندها فرح الإمام الصادق (عليه السلام) وسرّ سروراً بالغاً لما أدلى به ولده من المنطق الرائع ، فقام إليه وضمه إلى صدره وقال مبتهجاً : (بأبي أنت وأمي يا مودع الأسرار) (3) .

---------------------------
(1) المناقب ، ج 3 ، ص 429.
(2) سورة ق ، الآية 16.
(3) البحار ، ج 12 ، ص 283.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 137 _

  5 ـ مع علماء اليهود
  قصد وفد من علماء اليهود الإمام الصادق (عليه السلام) ليحاججوه في الإسلام فلمّا مثلوا بين يديه انبروا إليه يطلبون منه الحجة والدليل على نبوة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قائلين :
  ـ أي معجز يدل على نبوة محمد (صلّى الله عليه وآله) ؟ أجابهم (عليه السلام) : كتابه المهمين ، الباهر لعقول الناظرين ، مع ما أعطي من الحلال والحرام وغيرهما ممّا لو ذكرناه لطال شرحه.
  ـ كيف لنا أن نعلم هذا كما وصفت ؟
  فانطلق الإمام الكاظم (عليه السلام) وكان آنذاك صبياً قائلاً لهم :
  ـ وكيف لنا بأن نعلم ما تذكرون من آيات الله لموسى على ما تصفون ؟
  ـ علمنا ذلك بنقل الصادقين.
  ـ فاعلموا صدق ما أنبأتكم به بخبر طفل لقنه الله تعالى من غير تعليم ولا معرفة عن الناقلين.
  فبهروا وآمنوا بقول الإمام الكاظم الصبي (عليه السلام) ، الذي هو المعجز بحق ، وهتفوا معلنين إسلامهم قائلين : نشهد أن لا اله إلا الله وإن محمداً رسول الله ، وإنكم الأئمة الهادون والحجج من عند الله على خلقه ، ولما أدلى الإمام (عليه السلام) بهذه الحجة وأسلم القوم على يده ، وثب إليه والده أبو عبد الله فقبّل ما بين عينيه.
  وقال له : أنت القائم من بعدي ثم أمره بكسوة لهم وأوصلهم فانصرفوا وهم شاكرون (1) .
  6 ـ مع علماء النصارى
  جاء قطب من أقطاب النصارى ومن علمائها النابهين يدعى (بريهة) كان يطلب الحق ويبغي الهداية ، اتصل بجميع الفرق الإسلامية وأخذ يحاججهم فلم يقتنع ولم يصل إلى الهدف الذي يريده ، حتى وصفت له الشيعة ووصف له هشام بن الحكم ، فقصده ومعه نخبة كبيرة من علماء النصارى ، فلما استقر به المجلس سأل بريهة هشام بن الحكم عن أهم المسائل الكلامية والعقائدية فأجابه عنها هشام ثم ارتحلوا جميعاً إلى التشرف بمقابلة الإمام الصادق (عليه السلام) وقبل الالتقاء به اجتمعوا بالإمام الكاظم فقصّ عليه هشام مناظراته وحديثه مع العالم النصراني (بريهة) ، فالتفت (عليه السلام) إلى بريهة قائلاً له :
  ـ يا بريهة كيف علمك بكتابك ؟ قال : أنا به عالم.
  ـ كيف ثقتك بتأويله ؟ قال : ما أوثقني بعلمي به !!

---------------------------
(1) البحار ، ج 4 ، ص 148.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 138 _

  فأخذ (عليه السلام) يقرأ عليه الإنجيل ويرتّل عليه فصوله فلما سمع ذلك بريهة آمن بأن دين الإسلام حق وإن الإمام من شجرة النبوة فانبرى إليه قائلاً : إيّاك كنت أطلب منذ خمسين سنة ، أو مثلك !!
  ثم إنه أسلم وأسلمت معه زوجته وقصدوا جميعاً والده الإمام الصادق (عليه السلام) فحكى له هشام الحديث وإسلام بريهة على يد ولده الكاظم فسرّ (عليه السلام) بذلك والتفت قائلاً له : ( ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (1) .
  وانبرى بريهة إلى الإمام الصادق (عليه السلام) قائلاً :
  ـ جعلت فداك ، أنى لكم التوراة والإنجيل وكتب الأنبياء ؟!!
  ـ قال : هي عندنا وراثة من عندهم نقرؤها كما قرأوها ، ونقولها كما قالوها : إن الله لا يجعل حجة في أرضه يسأل عن شيء فيقول : لا أدري.
  وبعدها لزم بريهة الإمام الصادق (عليه السلام) وصار من أخلص أصحابه ، ولما انتقل الإمام إلى دار الخلود اتصل بالإمام الكاظم (عليه السلام) حتى توفي في عهده (2) ولا عجب فالإمام المعصوم هو الحجة.
  قال أبو الحسن (عليه السلام) : (إن الأرض لا تخلو من حجة وأنا والله ذلك الحجة) (3) .
  7 ـ مع راهب نصراني
  كان في الشام راهب معروف تقدسه النصارى وتعظمه ، وتسمع منه ، وكان يخرج لهم في كل يوم يوماً يعظهم ، التقى به الإمام في ذلك اليوم الذي يعظ به وقد طافت به الرهبان وعلية القوم ، فلما استقر المجلس بالإمام التفت إليه الراهب قائلاً :
  ـ يا هذا ، أنت غريب ؟ قال (عليه السلام) : نعم.
  ـ منّا أو علينا ؟ قال (عليه السلام) : لست منكم.
  ـ أنت من الأمة المرحومة ؟ قال (عليه السلام) : نعم.

---------------------------
(1) سورة آل عمران ، الآية 34.
(2) البحار ، ج 4 ، ص 147.
(3) الكافي ، ج 1 ، ص 179.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 139 _

  ـ أمن علمائها أمن جهالها ؟ قال (عليه السلام) : لست من جهالها.
  فاضطرب الراهب ، وتقدم إلى الإمام يسأله عن أعقد المسائل عنده قائلاً : كيف طوبى أصلها في دار عيسى عندنا ، وعندكم في دار محمد (صلّى الله عليه وآله) وأغصانها في كل دار ؟
  قال (عليه السلام) : إنها كالشمس يصل ضوؤها إلى كل مكان وموضع وهي في السماء.
  ـ قال الراهب : إن الجنة كيف لا ينفذ طعامها وإن أكلوا منه ، وكيف لا ينقص شيء منه ؟
  ـ قال الإمام (عليه السلام) أنه كالسراج في الدنيا ولا ينقص منه شيء.
  ـ قال الراهب : إن في الجنة ظلاً ممدوداً ، ما هو ؟
  ـ قال الإمام (عليه السلام) : الوقت الذي قبل طلوع الشمس ، هو الظل الممدود ، ثم تلا قوله تعالى : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً ) (1) .
  ـ قال الراهب : إن أهل الجنة يأكلون ويشربون كيف لا يكون لهم غائط ولا بول ؟
  ـ قال الإمام (عليه السلام) : إنهم كالجنين في بطن أمه.
  ـ قال الراهب : إن لأهل الجنة خدماً يأتونهم بما أرادوا بلا أمر ؟
  ـ قال الإمام (عليه السلام) : إن الإنسان إذا احتاج إلى شيء عرفت أعضاؤه ذلك فتعرفه الخدم فيحققون مراده من غير أمر.
  ـ قال الراهب : مفاتيح الجنة من ذهب أو فضة ؟
  ـ قال الإمام (عليه السلام) : مفاتيح الجنة قول العبد : لا اله إلا الله.
  ـ قال الراهب : صدقت ، ثم أسلم هو وقومه (2) .

---------------------------
(1) سورة الفرقان ، الآية 46.
(2) المناقب ، ج 3 ، ص 427.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 140 _

  8 ـ مع نفيع (وهو رجل من الأنصار)
  قدم مع الرشيد رجل من الأنصار يقال له (نفيع) وكان عارفاً ، فحضر يوماً باب الرشيد وتبعه عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز ، وحضر موسى بن جعفر (عليه السلام) على حمار له ، فتلقاه الحاجب بالإكرام ، وأعظمه من كان هناك ، وعجل له الإذن.
  فقال نفيع لعبد العزيز : من هذا الشيخ ؟
  فقال له : أو ما تعرفه ؟ هذا شيخ آل أبي طالب ، هذا موسى بن جعفر (عليهما السلام).
  فقال نفيع : ما رأيت أعجب من هؤلاء القوم يفعلون هذا برجل لو يقدر على زوالهم عن السرير لفعل ، أما إن خرج لأسوءنّه.
  فقال له عبد العزيز : لا تفعل ، فإن هؤلاء أهل بيت قلما تعرض لهم أحد بخطاب إلا وسموه في الجواب وسمة يبقى عارها أبد الدهر.
  وخرج الإمام الكاظم (عليه السلام) فقال إليه نفيع وأخذ بلجام حماره ثم قال له : من أنت ؟ قال (عليه السلام) : يا هذا إن كنت تريد النسب فأنا ابن محمد حبيب الله بن إسماعيل ذبيح الله ، ابن إبراهيم خليل الله.
  وإن كنت تريد البلد ، فهو الذي فرض الله عزّ وجلّ عليك وعلى المسلمين إن كنت منهم ، الحج إليه ، وإن كنت تريد المفاخرة ، فوالله ما رضي مشركو قومي مسلمي قومك أكفا لهم حتى قالوا : يا محمد اخرج لنا أكفاءنا من قريش ، خل عن الحمار.
  فخلى عنه ويده ترجف وانصرف بخزي ، فقال له عبد العزيز : ألم أقل لك ؟ (1)
  9 ـ مع المهدي في الحج
  حج المهدي ، ولما صار في (فتق العبادي) ضجّ الناس من العطش ، فأمر أن يحفر بئراً ، ولما بلغوا قريباً من القرار ، هبّت عليهم ريح من البئر فوقعت الدلاء ومنعت العمل ، فخرجت الفعلة خوفاً على أنفسهم ، فأعطى علي بن يقطين لرجلين عطاءاً كثيراً ليحفرا ، فنزلا فأبطئا ، ثم خرجا مرعوبين قد ذهبت ألوانهما فسألهما عن الخبر.
  فقالا : إنا رأينا آثاراً وأثاثاً ، ورأينا رجالاً ونساءً ، فكلما أومأنا إلى شيء منهم صار هباء ، فصار المهدي يسأل عن ذلك ولا يعلمون.
  فقال الإمام الكاظم (عليه السلام) : هؤلاء أصحاب الأحقاف ، غضب الله عليهم فساخت بهم ديارهم (2) .

---------------------------
(1) بحار الأنوار ، ج 17 ، ص 206.
(2) المناقب ، ج 2 ، ص 373.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 141 _

  10 ـ المهدي العبّاسي
  قال علي بن يقطين : سأل المهدي أبا الحسن (عليه السلام) عن الخمر ، هل هي محرمة في كتاب الله عزّ وجلّ ، فإن الناس إنما يعرفون النهي عنها ولا يعرفون التحريم ؟ فقال له أبو الحسن : بل هي محرمة في كتاب الله عزّ وجلّ يا أمير المؤمنين ، قال المهدي : في أي موضع هي محرمة في كتاب الله عزّ وجلّ يا أبا الحسن ؟
  فقال (عليه السلام) : قول الله عزّ وجلّ : ( إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ) (1) .
  فأما قوله ( مَا ظَهَرَ مِنْهَا ) يعني الزنا المعلن ، ونصب الرايات التي كانت ترفعها الفواحش في الجاهلية.
  وأما قوله عزّ وجلّ : ( وَمَا بَطَنَ ) يعني ما نكح الآباء ، لأن الناس كانوا قبل أن يبعث النبي (صلّى الله عليه وآله) إذا كان للرجل زوجة ومات عنها تزوجها ابنه الأكبر من بعده إذا لم تكن أمه ، فحرّم الله عزّ وجلّ ذلك.
  وأما (الإثم) فإنها الخمرة بعينها ، وقد قال الله تعالى في موضع آخر : ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ ) (2) .
  فأما الإثم في كتاب الله فهو الخمر والميسر ، فإثمهما كبير كما قال عزّ وجل.
  فقال المهدي : يا علي بن يقطين هذه والله فتوى هاشمية.
  قال : فقلت له : صدقت والله يا أمير المؤمنين ، الحمد لله الذي لم يخرج هذا العلم منكم أهل البيت.
  قال : فوالله ما صبر المهدي أن قال لي : صدقت يا رافضي (3)

---------------------------
(1) سورة الأعراف ، الآية 33.
(2) سورة البقرة ، الآية 219.
(3) بحار الأنوار ، ج 11 ، ص 277.