ولم يكن آل الزبير بأقل مما عمده الأمويون من الإساءة إلى أهل البيت ( عليهم السلام ) ، فقد كان لآل الزبير طموح سياسي جامح ، ارتكبوا من خلاله أبشع المجازر من أجل الوصول إلى مناصب مؤقتة ، وإمارات محدودة ، كلفت الأمة فتنا ودماء وأموالا ، ثم هي لم تدم طويلا حتى قطع الله شأفتهم ، وأسكت عقيرة النفاق ، وأذهب عادية الشقاق ، وأطفأ الله نائرتهم من الجمل وما سفكوه من الدماء ، إلى مكة وما سببوه من هدم الكعبة وهتك حرمة البيت الحرام ، إلى الكوفة وما أباحوا فيها من حرم الآخذين بثأر الحسين ، والمنتقمين من أعداء الله ، وهم يجدون أن أهل البيت ( عليهم السلام ) يعدون المنافسين الأقوياء لوجودهم ، وأن أية محاولة من آل الزبير لم تعد تلقى قبولا مع وجود الشرعية المتمثلة بأئمة آل البيت ( عليهم السلام ) ، إضافة إلى ما لحقت آل الزبير سمعة الأحاديث السيئة لسكينة بنت خالد بن مصعب بن الزبير ، التي كانت تجتمع مع عمر بن أبي ربيعة في محافل الغناء ، ومجالس الشعراء ، وهم بذلك سيفقدون من سمعتهم الشيء الكثير ، فاولوا إحالة هذه التهمة إلى عقيلة بيت الوحي سكينة بنت الحسين ( عليهما السلام ) وسيأتي مزيد تفصيل ذلك .
اسم ابنة الحسين عليه السلام آمنة وليس سكينة على أن المتتبع لكتب الأنساب والسير ليجد شيئا أغفلته كتابات السير التي ترجمت للسيدة آمنة بنت الحسين ونسبتها إلى سكينة ، وهي غفلة متعمدة أكدتها مشاريع الزبيريين ، ومن ورائهم مشاريع الأمويين ، حتى صار ذلك أحد المرتكزات لدى العوام ، واستشرى ذلك إلى كتابات الآخرين ، فجعلوها من المسلمات غفلة منهم ، وقلة تحقيق لديهم في هذا المضمار .
إن الاسم الحقيقي للسيدة سكينة والتي اشتهرت على الألسن ، هو آمنة بنت الحسين ، وإنما سكينة لقب لقبته به أمها الرباب ، وذلك لسكينتها وهدوء في طبعها غلب عليها ، حتى كانت السكينة صفة لها .
عقيلة قريش آمنة بنت الحسين ( عليها السلام ) _ 26 _
اختلف المؤرخون في اسماها بين آمنة وأميمة ، واتفقوا على أن « سكينة » صفة لها ، وممن ذهب إلى ذلك :
1 ـ ابن عساكر في « تاريخ مدينة دمشق » :
قال : أخبرنا الحسين بن الفراء وأبو غالب وأبو عبدالله ابنا البناء قالوا : انا أبو جعفر ، انا أبو طاهر ، انا أحمد بن سليمان ، انا الزبير [ ابن أخ مصعب بن الزبير ] قال في تسمية ولد الحسين :
وسكينة ، واسمها آمنة ، وإنما سكينة لقب لقبتها أمها الرباب بنت امرئ القيس .
وتزوج سكينة بنة الحسين عبد الله بن حسن بن علي ، أمه بنت الشليل بن عبد الله البجلي . . . فقتل مع عمه الحسين بالطف قبل أن يبني بها . . .
(1) .
2 ـ ابن تغري بردي في « النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة » : قال : واسمها آمنة وأمها الرباب
(2) .
3 ـ ابن الجوزي في « المنتظم في تاريخ الملوك والأمم » ، قال : سكينة بنت الحسين واسمها آمنة ، وقيل : أميمة ، وسكينة لقب عرفت به
(3) .
4 ـ سبط ابن الجوزي في « تذكرة الخواص » :
اسمها آمنة ، وقيل : أميمة
(4) .
5 ـ النديم في « الفهرست » :
كما نقله عن محمد بن السائب الكلبي النسابة ، قال محمد بن السائب الكلبي : سألني عبد الله بن حسن [ بن حسن ] عن اسم سكينة بنة الحسين عليه السلام فقلت : أميمة
(5) ، فقال : أصبت .
قال النديم في ترجمة محمد بن السائب الكلبي : من علماء الكوفة بالتفسير والأخبار وأيام الناس ، ويتقدم الناس بالعلم بالأنساب
(6) .
---------------------------
(1) تاريخ دمشق ، قسم تراجم النساء : 156 ، طبع دمشق ، تحقيق سكينة الشهابي .
(2) النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة 1 : 276 .
(3) المنتظم 7 : 175 حوادث سنة 117 هـ .
(4) تذكرة الخواص : 249 .
(5) لا نستبعد التصحيف في أميمة هنا ، وكونه في الأصل آمنة ، وذلك لما سيأتي بعد هذا من سؤال رجل لعبدالله ابن الحسن بن الحسن عن اسم سكينة ، وتخطئة عبدالله لابن الكلبي الذي كان يقول بأميمة ، كما في الشق الثاني من الرواية ، إذ كيف يصوب له أميمة هنا ، ولا يقبل منه أميمة هناك على قول نقل السائل ؟
على أننا لا نستبعد أيضا التصحيف في صدر الرواية بقوله : أمينة ، والأظهر في الأصل آمنة ، واستظهارنا هذا تؤيده الرواية الأخرى الأتية في التسلسل (11) عند نقل ما أورده صاحب الأعيان عن الأغاني من رواية ابن الكلبي ، عن أبيه ، وهي صريحة واضحة في هذا المعنى .
ثم أخيرا رواية المدائني ، عن أبي إسحاق المالكي التالية في الأغاني ، وتصحيح أبو الفرج الإصفهاني لاسم آمنة بعد الرواية مباشرة بقوله : وهذا هو الصحيح .
كل ذلك يدل صراحة أن أمية هنا مصحف عن آمنة ،
وقوله : أصبت ، لآمنة لا أميمة ، وإلا لزم التناقض في كلامه .
(6) الفهرست : 107 في أخبار محمد بن السائب .
عقيلة قريش آمنة بنت الحسين ( عليها السلام ) _ 27 _
6 ـ أبو الفرج الإصفهاني في « الأغاني » :
قال : اسم سكينة أميمة ، وقيل : أمينة ، وقيل : آمنة ، وسكينة لقب لقبت به
(1) .
وقال أيضاً : وروي أن رجلا سأل عبد الله بن الحسن [ بن الحسن ] عن اسم سكينة ، فقال : أمينة ، فقال له : إن ابن الكلبي يقول : أميمة .
فقال : سل ابن الكلبي عن أمه ، وسلني عن أمي ، ونقل عن المدائني قوله : حدثني أبو إسحاق المالكي قال : سكينة لقب ، واسمها : آمنة ، ثم أردف الإصفهاني قوله : وهذا هو الصحيح
(2) ، وقال في مقاتل الطالبين : واسم سكينة أمينة ، وقيل : أميمة ، وإنما غلب عليها سكينة وليس اسمها
(3) .
7 ـ ابن العماد الحنبلي في « شذرات الذهب » :
قال : اسمها أميمة ، وقيل : أمينة ، وسكينة لقب
(4) .
8 ـ اليافعي في « مرآة الجنان » :
قال : قيل : اسمها أمينة ، وقيل : أميمة ، وهو الراجح ، وسكينة لقب لها
(5) .
---------------------------
(1) الأغاني 16 : 146 .
(2) المصدر السابق : 147 .
(3) مقاتل الطالبيين : 94 .
(4) شذرات الذهب 2 : 82 وفيات سنة 117 .
(5) مرآة الجنان 1 : 251 .
عقيلة قريش آمنة بنت الحسين ( عليها السلام ) _ 28 _
9 ـ ابن خلكان في « وفيات الأعيان » :
قال : اسمها آمنة ، وقيل : أمينة ، وقيل : أميمة ، وسكينة لقب لقبتها به أمها الرباب . . . وأورد سوال عبد الله بن الحسن لمحمد بن السائب الكلبي المذكور آنفا
(1) .
10 ـ عمر رضا كحالة في « أعلام النساء » :
قال : واسمها آمنة أو أميمة ، وسكينة لقبها
(2) .
11 ـ السيد محسن الأمين العاملي في « أعيان الشيعة » : عنونها هكذا : أميمة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب المعروفة بسكينة .
ثم نقل بعض الأقوال المتقدمة وقال : روى في الأغاني بسنده ، عن ابن الكلبي
(3) ، عن أبيه ، قال : قال لي عبد الله بن الحسن [ بن الحسن ] : ما اسم سكينة بنت الحسين ؟ فقلت له : سكينة ، فقال : لا ، اسمها آمنة
(4) (5) .
والظاهر تعدد الحادثتين ، أحدها هذه ، ولعلها هي الأسبق زمانا ، والأخرى ما أوردناه عن النديم من أن محمد بن السائب الكلبي كان قد سأله عبد الله بن الحسن هذا عن اسم سكينة ، فقال : هي أميمة ، واستظهرنا هناك في التسلسل (5) في تعليقتنا على أميمة ، من أنها تصحيف آمنة .
---------------------------
(1) وفيات الأعيان 1 : 378 في ترجمة سكينة .
(2) أعلام النساء 2 : 202 .
(3) ابن الكلبي ينصرف إلى هشام بن محمد بن السائب الكلبي ، وروايته عن أبيه أي عن محمد بن السائب الكلبي ، مما يدل أن الراوي واحد مع تعداد الحادثتين ، وهو الموافق لاستظهارنا .
(4) الأغاني لأبي الفرج الإصفهاني 16 : 147 .
(5) أعيان الشيعة 3 : 491 .
عقيلة قريش آمنة بنت الحسين ( عليها السلام ) _ 29 _
واستظهارنا بتعدد الحادثتين ، كون رواية الأغاني هنا في صدد تصحيح ما علق بذهن محمد بن الكلبي ، وما اشتهر من لقبها بين الناس من أنها سكينة ، فصحح عبدالله اسمها بأنها آمنة .
ورواية النديم في الفهرست
(1) أن عبد الله بن الحسن سأل محمد بن الكلبي عن اسم سكينة ، فلما ذكر أن اسمها آمنة صوب له ذلك وأقره عليه حينما قال : أصبت ، وكأنه في صدد تذكيره على ما صححه من قبل والتأكيد عليه بأن اسمها آمنة وليس سكينة .
وتأكيد عبد الله بن الحسن على محمد بن الكلبي له خصوصيته ، فأن ابن الكلبي كونه نسابة ، وعبد الله بن الحسن حريص على تصحيح الاسم بواسطة محمد بن الكلبي لرجوع الناس إليه .
12 ـ السيد عبد الرزاق الموسوي المقرم في « سكينة بنت الحسين ( عليهما السلام ) » :
قال : وأما سكينة فقد ذكر المؤرخون أنه لقب من أمها الرباب ، وكأنه لسكونها وهدوئها ، وعليه فالمناسب فتح السين المهملة وكسر الكاف ، وهذا الرأي نسبه الصبان إلى المشهور .
وأما اسمها ، فالذي اختاره ابن تغري بردي أنه آمنة
(2) .
13 ـ الشيخ محمد حسين الأعلمي في « تراجم أعلام النساء » : قال : سكينة لقبها ، واسمها آمنة أو أمينة أو أميمة
(3) .
---------------------------
(1) راجع صفحة ( 39 ) لتقف على الرواية وتقارنها برواية الأغاني .
(2) سكينة بنت الحسين : 140 .
(3) تراجم أعلام النساء 2 : 200 .
عقيلة قريش آمنة بنت الحسين ( عليها السلام ) _ 30 _
14 ـ المحدث الشيخ عباس القمي في « منتهى الآمال » :
قال : وكان اسم سكينة آمنة أو أميمة ، فلقبتها أمها رباب بسكينة ، فهي عقيلة قريش ، وذات عقل ورأي صائب
(1) .
هذا اتفاق أهل الأخبار والمحققين من الفريقين ، أن سكينة هو لقب آمنة أو أميمة بنت الحسين .
على أنا نرجح ما رجحه أهل التحقيق بأن اسمها آمنة بنت الحسين وميلهم إلى ذلك ، بل هو الأقرب على ما في رواية أبي إسحاق المالكي ، كما نقله أبو الفرج الإصفهاني في الأغاني عن المدائني ، قال : حدثني أبو إسحاق المالكي قال : سكينة لقب ، واسمها آمنة ، ثم تصحيح الإصفهاني عقيب الرواية بقوله : وهذا هو الصحيح ، وقد أشرنا إليه آنفا .
كما أن أبا الفرج نقل في موضع من الأغاني
(2) : قال مصعب فيما أخبرني به الطوسي ، عن زبير ، عنه : اسمها آمنة ،
وهناك رواية أخرى للمدائني ، عن أبي إسحاق المالكي ، قال : قيل لسكينة ـ واسمها آمنة ، وسكينة لقب ـ : أختك فاطمة ناسكة ، وأنت تمزحين كثيرا ؟ . . . ثم جواب السيدة آمنة بأنكم : « سميتموني باسم جدتي التي لم تدرك الإسلام » ، تعني آمنة بنت وهب ، أم رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم )
(3) .
ومع مؤاخذاتنا على هذه الرواية ، إلا أن الذي يعنينا منها الآن هو ترجيح اسم آمنة على غيره من الأسماء ، وهذا ما حدى بالسيد محس الأمين العاملي في أعيان الشيعة
(4) إلى القول بعد إيراده لهذه الرواية في أخبارها : هذا يدل على أن اسمها آمنة ، رغم أنه عنونها باسم أميمة ، ولعل اختياره كان مسايرة لما عليه الأكثر ليس إلا .
---------------------------
(1) منتهى الآمال 1 : 818 .
(2) الأغاني 16 : 146 .
(3) المصدر السابق : 149 .
(4) إعيان الشيعة 3 : 492 .
عقيلة قريش آمنة بنت الحسين ( عليها السلام ) _ 31 _
من هنا يتأكد لنا الاسم الحقيقي للقب سكينة وهو آمنة بنت الحسين ( عليهما السلام ) ، لذا فالأمانة العلمية تدعونا إلى إثبات اسمها الصحيح ، والتعامل معه تعاملاً جدياً ، وذلك لغلق الطريق على الأكاذيب التي عهد إليها البعض للإساءة إلى بيت النبي الأطهر ، وتمحلات الآخرين الذين حسبوها أنها مرتكزات تاريخية ، دون أن يتكلفوا أدنى مطالب التحقيق في شأن هذه الحادثة الخطيرة ، لذا فإننا نأمل من ذوي التحقيق وأهل الإنصاف ، أن يرتكز في أذهانهم اسم آمنة بنت الحسين ، والتعامل معه تعاملاً حقيقاً ، والإعراض عن لقبها الذي استغله بعض أهل الأهواء ، والسذج من بسطاء العوام ، الذين لا خلاق لهم بتحقيق الوقائع ، ومعرفة الأحداث ، ومالهم بذلك إلا المطامع ، أو النعيق مع كل ناعق .
مصالح أموية ومطامع زبيرية :
لم تزل الروايات التاريخية تحت مطرقة الأهواء والأغراض السياسية ، بل انجر ذلك حتى إلى رواية الحديث النبوي ، وقد أشرنا إلى ذلك بشيء من التفصيل في كتابنا « تاريخ الحديث النبوي بين سلطة النص ونص السلطة » ، ولا يزال تاريخنا مخبوءا خلف ظروف روائية أسهم في إيجادها رواة وظفتهم السياسة ؛ لإيجاد حبكات قصصيةٍ وروايات توهم الآخرين بأنها ضمن تراثنا التاريخي الإسلامي ، في حين لم تكد مدونات التاريخ تستعرض واقعة تاريخية ، أو تسبر سيرة شخصية ، إلا وتجد مشكلة الوضع تخترق الحدث ، وتحيله إلى قراءة لتوجهات سياسية ، تتحكم فيها أغراض الراوي الذي ينتسب إلى تلك الجهة المعنية ، أو تلك الرؤية المحسوبة ، وهكذا تتدخل هذه التوجهات لتأسيس تاريخ مشوه ، أو روايات موضوعة ، أو حدث مفتعل تجيد صياغته تارة أو تضطرب أخرى ، فتبدو القضية متناقضة غير حقيقية ، بأدنى تأمل ودقة نظر .
عقيلة قريش آمنة بنت الحسين ( عليها السلام ) _ 32 _
من هنا يمكننا أن نستعرض لهذه الظاهرة نموذجين من الوضع والتزوير ، تتدخل فيها عدة توجهات سياسية معينة :
أحدها : المصالح الأموية التي ما برحت تكيد لآل علي ( عليهم السلام ) منذ عهد معاوية بن أبي سفيان .
وثانياً : المطامع الزبيرية التي ما فتئت تلاحق المجد العلوي منذ حرب الجمل ، حتى ما ارتكبه آل الزبير من تأسيس مجدهم الزائل على جماجم شيعة علي ( عليه السلام ) وأصحابه ، ولاننسى ما بذله عبد الله بن الزبير وآله من محاربة العلويين وملاحقتهم ، كنفي محمد بن الحنيفة ، أو إخراج عبد الله بن عباس ، ومثلهم من بني هاشم عن مكة ، وإعلان العداء لهم منذ قيام دولتهم يومذاك .
بمعنى أن الزبيريين عرفوا بمنافستهم الشديدة لآل علي عليه السلام ، وكانوا يحسدون ما يحرزه العلويون من تقدم في كل المجالات ، والأمة تتعامل مع العلويين بأنهم يمثلون الشرعية التي لا يمكن لأحد إغفالها أو تجاوزها ، وإذا لم تدم الجهود الزبيرية في تأسيس دولتهم يومذاك ، فلا بد أن يبحثوا عن مجد يحيلهم إلى أسياد الشرعية ، وقادة الأمة .
حينئذ كيف يتم ذلك وملاحم العبث تملأ الأخبار ؟ وقصص عمر بن أبي ربيعة وسكينة بنت خالد بن مصعب يتداولها الناس ، ويتغنى بها أهل المجون والغناء ، وهذه مشكلة يستشعر منها الزبيريون إحدى المعضلات التي تعرقل دعاواهم في شرعيتهم المدعاة ، إلى جانب ذلك ترى الأمة قداسة آل علي عليهم السلام ، وطهارة بيتهم النبوي الذي لم تدنسه محاولات الأعداء ، فبقي مشعا بعطائه ، شاهدة الأمة لهم بالقداسة والإيمان ، وهذا يعني أن جهود منافسيهم سوف تعرقلها هذه النظرة المقدسة الزكية لآل علي ( عليهم السلام ) .
عقيلة قريش آمنة بنت الحسين ( عليها السلام ) _ 33 _
فالأمويون عرفوا بعبث خلفائهم ، حتى صار ذلك من تشريفات البلاط الأموي ، وآل الزبير يقرأون ويشاهدون أمامهم ملاحم بطلة الغرام سكينة بنت خالد الزبيرية ، فيحالون إلى بيت عبث وغناء ، لا كما يدعون من أنهم أهل خلافة وإمرة وقيادة ، وفي مثل هذا الحال سيتاح لآل علي عليهم السلام المنافس الأقوى لآل أمية وآل الزبير من التحرك بشكل طبيعي ؛ من أجل تمثيل شرعيتهم الإلهية المتمثلة بأئمة آل البيت ( عليهم السلام ) .
إذن فعلى الأمويين والزبيريين أن يختلقوا قضية يرمون بها منافسيهم الأقوياء ، وقلنا من قبل : إن شخصية الإمام زين العابدين عليه السلام لا يمكن أن تنالها دعايات الأعداء ، وقداسة بنات علي ( عليهم السلام ) لا تدنسها محاولات الأقلام الجائرة والأهواء العابثة ، فلم يجدوا إذن إلا شخصية « آمنة » سكينة بنت الحسين ( عليهما السلام ) ، التي لم تساهم ـ كما ذكرنا ـ في الإعلام العلوي يوم كان آل البيت يتولون مهمة التبليغ وبيان الحقائق ، وكان لصغر سنها أثر في تحجيم دورها يومذاك ، هذا من جهة .
ومن جهة أخرى وجدت الدعايات الزبيرية ، والإعلام الأموي ، أن لتشابه اسمي سكينة بنت خالد بن مصعب صاحبة ملاحم عمر بن أبي ربيعة واسم سكينة بنت الحسين ( عليهما السلام ) ، محاولة ناجحة في الخلط والتدليس ، واختراع القصص الماجنة ، ورمي شخص « آمنة » سكينة بنت الحسين ( عليهما السلام ) ، ووجدت هذه المحاولة نجاحها على أيدي رواة متخصصين في صياغة الحدث ، ووضع القضية موضعاً يستسيغ تناقله العامة ، ويلهج به البسطاء ، ويتعامل معه السذج تعامل المسلمات .
عقيلة قريش آمنة بنت الحسين ( عليها السلام ) _ 34 _
وبهذا احتلت روايات «آمنة» سكينة بنت الحسين ( عليهما السلام ) مساحة واسعة من كتب الحكايات ، وملاحم الغزل ، ووسائل القصاصين ؛ ليحيلوا قداسة البيت العلوي إلى دناسة أموية وعبث زبيري ، ويأبى الله إلا ظهور الحقائق والإطاحة بمحاولات الشرذمة من أهل الأهواء السياسية فيحيلها ، إلى ملاحم تحكي حقيقة هؤلاء الوضاعين من الأمويين والزبيريين .
الأكـذوبتان :
الأكذوبة الأولى : سكينة ومجالسة الشعراء واستماع الغناء :
النموذج الأول :
قال أبو الفرج : أخبرني علي بن صالح قال : حدثنا أبو هفان ، عن إسحاق ، عن أبي عبد الله الزبيري قال : اجتمع نسوة من أهل المدينة من أهل الشرف ، فتذاكرن عمر بن أبي ربيعة وشعره وظرفه وحسن حديثه ، فتشوقن إليه وتمنينه ، فقالت سكينة بنت الحسين : أنا لكن به ، فأرسلت إليه رسولا وواعدته الصورين ، وسمت له الليلة والوقت ، وواعدت صواحباتها .
فوافاهن عمر على راحلته ، فحدثهن حتى أضاء الفجر وحان انصرافهن ، فقال لهن : والله إني لمحتاج إلى زيارة قبر رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) والصلاة في مسجده ، ولكني لا أخلط بزيارتكن شيئا ، ثم انصرف إلى مكة من مكانه ، وقال في ذلك :
قـالـت سكينة والدموع iiذوارف لـيـت المغيـري الذي لم iiأجزه كـانـت تـرد لنا المنـى iiأيامنا |
| مـنـها على الخـدين iiوالجلباب فـيـمـا أطال تصيدي iiوطلابي إذ لا تُلام على هوى وتصابي (1) |
---------------------------
(1) الأغاني 171 : 1 .
عقيلة قريش آمنة بنت الحسين ( عليها السلام ) _ 35 _
رجال الخبر :
علي بن صالح : قال الذهبي : قال ابن الجوزي ضعفوه .
قلت [ أي الذهبي ] : لا أدري من هو
(1) .
أبو هفان : قال الذهبي : أبو هفان الشاعر حدث عن الأصمعي بخبر منكر .
قال ابن الجوزي : لا يعول عليه
(2) .
إذن فالخبر ساقط عن الاعتبار لضعف رواته ومجهوليتهم .
يعد هذا الخبر في صدارة أخبار سكينة المنسوب لها في مجالسة الشعراء خصوصا عمر بن أبي ربيعة ، والخبر مع غض النظر عن سقوط سنده عن الاعتبار ، فأن محاولة الوضع بادية عليه ؛ إذ افتتح الخبر بأن « نسوة من أهل المدينة من أهل الشرف اجتمعن » ، ولم يتعرض الخبر إلى ذكر واحدة منهن ، واختص بذكر سكينة بنت الحسين ، وذلك دليل على أن صياغة الخبر بهذه الطريقة قصد منها التعرض للسيدة « آمنة » سكينة بنت الحسين ، ورتبت أحداثه لهذا الغرض ، والخبر في صدد ذكر ظرافة عمر بن أبي ربيعة ومحاولاته العبثية ، وهو ليس في صدد التعرض لسيرة أحد ، هكذا يعطي الخبر مسحة « البراءة » على ما يفتعله الوضاعون ، محاولين من خلاله الترسل لذكر وقائع أدبية صرفة ، وليس الغرض التعرض لسيرة أحد أو الإساءة للبيت العلوي الطاهر .
---------------------------
(1) ميزان الاعتدال 130 : 3 .
(2) المصدر السابق 540 : 4 .
عقيلة قريش آمنة بنت الحسين ( عليها السلام ) _ 36 _
وبهذا يحاول الوضاعون بعد أن أعيتهم الحيل في النيل من الشرف العلوي ، إلى ارتكاب هذه المجازفات الروائية ، التي وقع الكثير من المغفلين في التصديق بكل ما تدسه مشاريع الوضع ، واختلاق روايات من هذا القبيل ، تستهدف خصومهم وتوهم البسطاء بذلك .
على أن اجتماع هذه النسوة من الليل حتى طلوع الفجر يتنافى والحالة الاجتماعية التي تعيشها المدينة ، فالالتزامات التي تعيشها المرأة المدنية فضلاً عن تعففها عما يشين سمعتها لدى الآخرين ، تختلف كثيرا عن غيرها من الأنحاء الإسلامية ، فالمدينة تجد من نفسها مصدر إشعاع إسلامي للسيرة النبوية ، التي يمثلها أهلها القاطنون وقتذاك ، وهم لايزالون يعتزون بانتمائهم الإسلامي والتزامهم الديني ، كما أنها لا تزال تحتفظ بقداستها النبوية ، فضلا عما عرفته المدينة من أن القاطنين فيها بين مهاجر أو أنصاري ، والخبر لا يعد إساءة لخصوص البيت العلوي بقدر ما هو إساءة لأهل الهجرة من المهاجرين ، وأهل النصرة من الأنصار ، مما يعني أن الخبر قد سطرته أيد يهودية ، تتربص بالدين الإسلامي الذي يعيش تحت مطرقة نظام أموي مهزوز ؛ ليظهر بذلك انحلال المجتمع الإسلامي وهو قريب عهد بالنبوة ، فكيف بمجتمع ابتعد عن العهد النبوي وتطاولت عليه الدهور ، مما يعني أن لهذا المجتمع الإسلامي الذي يدعي الالتزام حياته العبثية الخاصة ، وتوجهات ترفه كذلك ، خلاف ما يدعيه المسلمون ليتقدموا بذلك على المجتمعات الأخر ، وبذلك استهدف الخبر قداسة الالتزام الإسلامي وطهارة مجتمعه .
عقيلة قريش آمنة بنت الحسين ( عليها السلام ) _ 37 _
واختيار عمر بن أبي ربيعة ليكون بطل هذه القصة له مغزاه ؛ إذ أن عمر ابن أبي ربيعة معروف بمجونه وخلعه ، حتى نقل ابن عبد ربه في العقد الفريد قولهم : ما عصي الله بشعر ما عصي بشعر عمر بن أبي ربيعة
(1) .
ويصف ابن جريج خطورة مجونه وعبثه حتى قال : ما دخل العواتق في حجالهن شيء أضر من شعر ابن أبي ربيعة
(2) .
ويصف هشام بن عروة عواقب أشعار ابن أبي ربيعة وفحشها بقوله : لاترووا فتيانكم شعر عمر بن أبي ربيعة لئلا يتورطوا في الزنا تورطا
(3) .
فكيف يستقيم هذا مع ما عرف من عفة البيت العلوي وطهارته وترفعه عن أدناس الجاهلية ؟ ! فتخصيص عمر بن أبي ربيعة إذن في هذه القصة يستهدف قداسة البيت العلوي وكرامته وليس غير ذلك .
تهافت الوضاع :
على أنا لو أردنا الإعراض عن مناقشة سند ودلالة هذه القصة ، فإننا نقطع بكونها موضوعة من قبل القصاصين ، الذين يستملحون كل شاذ ، ويروون كل غريب .
فالتهافت في نقل القصة إذا استقصينا مواردها ، وجدنا أنها في مصدر واحد يتهافت الكاتب في نقولاته ، مما يدل على أن القصة موضوعة ، فضلاً عن كونها مكذوبة في نسبتها للسيدة سكينة بنت الحسين ( عليهما السلام ) ، وإليك تعدد القصة في كتاب « الأغاني » :
أولاً : نقل أبو الفرج الإصفهاني حديث اجتماع عمر بن أبي ربيعة بالنسوة ، وكانت سكينة بنت الحسين هي التي واعدته ، فقصدهن واجتمع بهن ، كما ذكرنا ذلك فيما سبق .
---------------------------
(1) العقد الفريد 6 : 199 .
(2) تاريخ آداب اللغة العربية لجرجي زيدان 1 : 281 .
(3) المصدر السابق.
عقيلة قريش آمنة بنت الحسين ( عليها السلام ) _ 38 _
ثانياً : نقل أبو الفرج الإصفهاني القصة في مورد آخر قبيل القصة الأولى بـ ( 58 ) صفحة بعنوان سكينة ، وليس سكينة بنت الحسين ، فأي سكينة قصدها الراوي في قصته ! وكيف جزم أبو الفرج أن المقصود من سكينة في القصة الأولى ، هي سكينة بنت الحسين ؟ ! وقد أورد الخبر هكذا :
اجتمع نسوة فذكرن عمر بن أبي ربيعة وشعره وظرفه وحسن مجلسه وحديثه ، وتشوقن إليه وتمنينه ، فقالت سكينة : أنا لكن به . . . إلى آخر الخبر
(1) .
ثم أكد أبو الفرج القصة باسم « سكينة » دون نسبتها إلى الحسين ( عليه السلام ) في موضع ثالث من كتابه
(2) .
وهذا التعدد في تكرار الرواية يزيدنا اطمئنانا أن « سكينة » دون أن ينسبها الراوي ، هي بطلة القصة التي رواها مصعب الزبيري ، ونسبها أبو هفان الشاعر إلى سكينة بنت الحسين ، وقد ذكرنا أبو هفان وترجمة الذهبي له برواية الحديث المنكر
(3) .
ثالثاً : ذكر أبو الفرج الإصفهاني في مورد آخر الأبيات هكذا :
يـا أم طـلحة أن البيـن قد iiأفدا أمسى العراقي لا يدري إذا برزت |
| قـل الثواء لئن كان الرحيل iiغدا مـن ذا تطوف بالأركان أو سجدا |
---------------------------
(1) الأغاني 1 : 113.
(2) الأغاني 2 : 369 .
(3) راجع صفحة : 50 من كتابنا هذا.